00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النساء من ( آية 20 ـ 39) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثالث)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

الآية: 20 - 29

قوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا(20))

آية.

المعنى: أخذ مال المرأة، وإن كان محرما على كل حال من غير أمرها، فانما خص الله تعالى الاستبدال بالنهي، لان مع الاستبدال قد يتوهم جواز الاسترجاع، من حيث أن الثانية تقوم مقام الاولى، فيكون لها ما أعطيته الاولى، فبين الله تعالى أن ذلك لايجوز.

والمعنى: إن أردتم تخلية المرأة سواء استبدل مكانها أولم يستبدل.

وقوله: (وآتيتم إحداهن قنطارا) معناه: ليس ما آتيتموهن موقوفا على التمسك بهن، دون تخليتهن، فيكون إذا أردتم الاستبدال جاز لكم أخذه، بل هو تمليك صحيح، لايجوز الرجوع فيه. والمراد بذلك ما أعطى المرأة مهرا لها، ويكون دخل بها، فأما إذا لم يدخل بها، وطلقها، جاز له أن يسترجع نصف ما أعطاها، فأما ما أعطاها على وجه الهبة، فظاهر الآية يقتضي أنه لايجوز له الرجوع في شئ منه. لكن علمنا بالسنة أن ذلك سائغ له، وإن كان مكروها.

[152]

اللغة: والقنطار المال الكثير، واختلفوا في مقداره، فقال بعضهم هو مل‌ء جلد ثور ذهبا، وقال آخرون: هودية الانسان، وغير ذلك من الاقوال التي قدمنا ذكرها فيما مضى. وأصل ذلك مأخوذ من القنطرة، ومنه القنطر الداهية، لانها كالقنطرة في عظم الصورة، وإحكام البنية.

ويقال: قنطر في الامر يقنطر إذا عظمه، بتكثير الكلام فيه، من غير حاجة إليه.

وقوله: " أتأخذونه بهتانا " قيل في معناه قولان: أحدهما - يعني بهتانا ظلما كالظلم بالبهتان، وقيل بطلانا كبطلان البهتان. الثاني - بهتانا أي بأن تبهتوا أنكم ملكتموه فتسترجعوه(1) وأصل البهتان الكذب الذي يواجه به صاحبه على وجه المكابرة، وأصله التحير، ومنه قوله: " فبهت الذي كفر "(2) أي تحير عند انقطاع حجته، فالبهتان كذب يحير صاحبه. ونصب بهتانا على أنه حال في موضع المصدر، والمعنى أتأخذونه مباهتين وآثمين.

وقوله " مبينا " أي ظاهرا لاشك فيه.

قوله تعالى: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا(21))

آية بلاخلاف.

المعنى: قيل في نسخ هذه الآية، والتي قبلها، ثلاثة أقوال: أحدها - أنها محكمة ليست منسوخة، لكن للزوج ان يأخذ الفدية من المختلعة، لان النشوز منها، فالزوج في حكم المكره لاالمختار للاستبدال، ولا

___________________________________

(1) في المطبوعة (لتستوجبوه).

(2) سورة البقرة: آية 258.

[153]

يتنافى حكم الآيتين، فلا يحتاج إلى نسخ احداهما بالاخرى.

الثاني - قال بكربن عبدالله المري: هي محكمة، وليس للزوج لاجل ظاهرها أن يأخذ من المختلعة شيئا، ولا من غيرها.

الثالث - قال ابن زيد، والسدي: هي منسوخة بقوله: (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فان خفتم ألا يقيماحدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به)(1) وقيل في معنى الافضاء قولان: أحدهما - قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: هو كناية عن الجماع. الثاني - انه الخلوة، وإن لم يجامع، فليس له أن يسترجع نصف المهر، وإنما يجوز ذلك فيمن لم يدخل بها بالخلوة معها. وكلاهما قد رواه أصحابنا، واختلفوا فيه، والاول هو الاقوى.

اللغة والمعنى: والافضاء إلى الشئ هوالوصول إليه بالملابسة له، قال الشاعر:

بلى وثاي أفضى إلى كل كئبة *** بدا سيرها من ظاهر بعد باطن(2)

أي وصل البلى والفساد إلى الحزز، والفضاء السعة، فضا يفضو فضوا وفضاء إذا تسع، ومنه: تمر فضا، مقصور أي مختلط، وقوله: (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) قيل في معناه أربعة أقوال: أحدهما - قال الحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة، والسدي، والفراء، وهو المروي عن أبي جعفر (ع) أنه قوله: (إمساك بمعروف أو تسريح باحسان)(3) وقال مجاهد، وابن زيد، هو كلمة نكاح، التي يستحل بها الفرج.

الثالث - قول النبي صلى الله عليه وآله: (أخذ تموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله).

الرابع - قال قتادة.

___________________________________

(1) سورة البقرة: آية 229.

(2) لم يعرف قائله. وقو في تفسير الطبري، 8 - 124 مشوه محرف ولم نجده في مصادرنا.

(3) سورة البقرة: آية 229.

[154]

كان يقال للناكح في الاسلام الله عليك لتمكن بمعروف أو لتسرحن باحسان، وهذاالكلام وإن كان ظاهره للاستفهام، فالمراد به التوبيخ، والتهديد، كما يقول القائل لغيره: كيف تفعل هذا وأنا غير راض به، على وجه التهددله.

قوله تعالى: (ولاتنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ماقد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا(22))

آية.

المعنى: قيل في معنى الآية قولان: أحدهما - قال ابن عباس، وقتادة، وعطاء، وعكرمة: إنه حرم عليهم ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من نكاح امرأة الاب.

والثاني - أن يكون " ما نكح " بمنزلة المصدر، والتقدير: ولاتنكحوا نكاح آبائكم، أي مثل نكاح آبائكم، فعلى هذا يدخل فيه النهي عن حلائل الاباء، وكل نكاح كان لهم فاسدا، وهو اختيار الطبري وقال: إن هذا الوجه أجود، لانه لو أراد حلائل الآباء لقال: لاتنكحوا من نكح آباؤكم، وهذا ليس بطعن، لانه ذهب به مذهب الجنس، كما يقول القائل: لاتأخذ ماأخذ أبوك من الاماء، فيذهب به مذهب الجنس ثم يفسره. ب‍ (من).

وقوله: (إلا ماقد سلف) معنى إلا لكن، وكذلك كل استثناء منقطع، كقول القائل: لاتبع من متاعي إلا مابعت، أي لكن ما بعت فلا جناح عليك فيه، وقيل في معنى الآية قولان: أحدهما - " إلا ماقد سلف " فانكم لاتؤخذون به. الثاني - حكاه بعضهم: " إلا ماقدسلف " فدعوه، فهو جائزلكم، قال

[155]

البلخي: وهذا لايجوز بالاجماع.

والهاء في قوله: " إنه كان فاحشة " يحتمل أن تكون عائدة إلى النكاح بعد النهي، ويحتمل أن تكون عائدة على النكاح الذي كان عليه أهل الجاهلية قبل، ولايكون ذلك إلا وقد قامت عليهم الحجة بتحريمه، من جهة الرسل، فالاول اختاره الجبائي، وهوالاقوى، وتكون " إلا ماقد سلف " فالسلامة منه الاقلاع عنه بالتوبة والانابة، قال البلخي: وليس كل نكاح حرمه الله زنا، لان الزنا هو فعل مخصوص، لايجري على طريقة لازمة، وسنة جارية، ولذلك لايقال للمشركين في الجاهلية: أولاد زنا، ولالاولاد أهل الذمة والمعاهدين: أولاد زنا، إذا كان ذلك عقدا بينهم يتعارفونه.

اللغة، والاعراب، والمعنى: والمقت، هو بغض عن أمر قبيح ركبه صاحبه، وهومقيت، وقد مقت إلى الناس مقاتة، ومقته الناس مقتا، فهو ممقوت. وقيل إن ولد الرجل من امرأة أبيه كان يسمي المقتي، قال المبرد: كان زائدة، والتقدير: إنه فاحشة.

وقال الزجاج: هذا ليس بصحيح، لانها لو كانت زائدة مل تعمل، كما قال الشاعر:

فكيف إذاحللت ديار قوم *** وجيران لناكانوا كرام

لما كانت زائدة لم تعمل في الخبر.

قال الرماني: هي كقوله " وكان الله غفورا رحيما " فدخلت كان لتدل على أنه قبل تلك الحال كذا، وقال الجبائي: معناه أنه كان فيما مضى أيضا فاحشة ومقتا، وكان قد قامت الحجة عليهم بذلك. وكل من عقد عليها الاب من النساء تحرم على الابن، دخل بها الاب، أولم يدخل، بلاخلاف، فان دخل بها الاب على وجه السفاح فهل تحرم على الابن ففيه خلاف، وعموم الآية يقضي بأنها تحرم عليه، لان النكاح يعبر به عن الوطي، كما يعبر به عن العقد، فيجب أن يحمل عليهما، وأمرأة الاب وإن علا تحرم على الابن وإن نزل، بلاخلاف.

وقوله: " وساء سبيلا " أي قبح ذلك السبيل الذى سلكوه سبيلا، وهونصب على التمييز.

[156]

قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نساء‌كم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الاختين إلا ماقد سلف إن الله غفورا رحيما(23))

آية بلاخلاف.

المعنى: في الناس من اعتقد أن هذه الآية ومايجري مجراها، كقوله: " حرمت عليكم الميتة "(1) مجملة لايمكن التعلق بظاهرها في تحريم شئ، وإنما يحتاج إلى بيان قالوا: لان الاعيان لاتحرم ولاتحل، وإنما يحرم التصرف فيها، والتصرف يختلف، فيحتاج إلى بيان التصرف المحرم، دون التصرف المباح، والاقوى أنها ليست مجملة، لان المجل هو مالا يفهم المراد بعينه بظاهره، وليست هذه الآية كذلك لان المفهوم من ظاهرها تحريم العقد عليهن، والوطي، دون غيرهما من أنواع الفعل، فلا يحتاج إلى البيان مع ذلك، وكذلك قوله: " حرمت عليكم الميتة " المفهوم الاكل، والبيع، دون النظر إليها، أورميها، وما جرى مجراهما كيف وقد تقدم هذه الآية مايكشف عن أن المراد ما بيناه من قوله: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " فلما قال.

بعده: " حرمت عليكم أمهاتكم " كان المفهوم

___________________________________

(1) سورة المائدة: آية 4.

[157]

أيضا تحريم نكاحهن، وقد استوفينا ذلك في العدة في أصول الفقه، فلا نطول بذكره ههنا.

قال ابن عباس: حرم الله في هذه الآية سبعا بالنسب، وسبعا بالسبب، فالمحرمات من النسب الامهات، ويدخل في ذلك أمهات الامهات وإن علون، وأمهات الآباء مثل ذلك، والبنات، ويدخل في ذلك بنات الاولاد وأولاد البنين وأولاد البنات وإن نزلن، والاخوات، سواء كن لاب وأم أو لاب أو لام، وبنات الاخ، وبنات الاخت وإن نزلن.

والمحرمات بالسبب الامهات من الرضاعة، والاخوات أيضا من الرضاعة، وكل من يحرم بالسبب يحرم مثله بالرضاع، لقوله صلى الله عليه وآله: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وأمهات النساء يحرمن بنفس العقد، وإن لم يدخل بالبنت، على قول أكثر الفقهاء، وبه قال ابن عباس، والحسن، وعطاء، وقالوا: هي مبهمة، وخصوا التقييد بقوله: " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ورووا عن علي (ع)، وزيد بن ثابت، أنه يجوز العقد على الام مالم يدخل بالبنت، وجعلوا قوله: " من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " راجعا إلى جميع من تقدم من أمهات النساء، والربائب.

اللغة: والربائب: جمع ربيبة، وهي بنت الزوجة من غيره، ويدخل فيه أولادها وإن نزلن، وسميت بذلك لتربيته إياها، ومعناها مربوبة، نحو قتيلة في موضع: مقتولة، ويجوز أن تسمى ربيبة سواء تولى تربيتها وكانت في حجره، أولم تكن، لانه إذا تزوج بأمها سمي هو رابها، وهي ربيبته، والعرب تسمي الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم، ويوقعونه، يقولون: هذا مقتول، وهذا ذبيح، وإن لم يقتل بعد ولم يذبح، إذا كان يراد قتله أو ذبحه، وكذلك يقولون: هذه

[158]

أضحية لما أعد للتضحية، وكذلك: هذه قتوبة، وحلوبة، أي مما يقتب، ويحلب فمن قال: إنه لاتحرم بنت الزوجة إلا إذا تربت في حجره فقد أخطأعلى ماقلناه ويقال لزوج المرأة: ربيب ابن امرأته، يعنى به، رابه، نحو: شهيد، بمعنى شاهد، وخبير، بمعنى خابر، وعليم، بمعنى عالم.

الاعراب: وقوله: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) قال المبرد: " اللاتي دخلتم بهن " نعت للنساء اللواتي من أمهات الربائب لاغير قال: لاجماع الناس على أن الربيبة تحل إذا لم يدخل بامها، وإن من أجاز أن يكون قوله: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) هو لامهات نسائكم فيكون معناه: أمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لامهات الربائب، قال الزجاج: لان الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا، لايجيز النحويون: مررت بنسائك، وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن يكون (الظريفات) نعتا لهؤلاء النساء، وهؤلاء النساء.

وقال: من اعتبر الدخول بالنساء، لتحريم أمهاتهن يحتاج أن يقدر: أعني، فيكون التقدير: وأمهات نسائكم أعني اللاتي خلتم بهن، وليس بناإلى ذلك حاجة.

المعنى: والدخول المذكور في الآية قيل فيه قولان: أحدهما - قال ابن عباس: هو الجماع، واختاره الطبري. الثاني - قال عطاء: وما جرى مجراه من المسيس، وهو مذهبنا، وفيه خلاف بين الفقهاء.

وقوله: " وحلائل أبناء‌كم الذين من أصلابكم " يعني نساء البنين للصلب، دخل بهن البنون أولم يدخلوا، ويدخل في ذلك أولاد الاولاد من البنين والبنات، وإنما قال " من أصلابكم " لئلا يظن أن امرأة من يتبنى به تحرم عليه.

وقال عطاء: نزلت الآية حين نكح النبي صلى الله عليه وآله إمرأة زيد بن حارثة، فقال

[159]

المشركون في ذلك، فنزلت: " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " وقال: " وما جعل أدعيائكم أبنائكم "(1) وقال: " ماكان محمد أبا أحد من رجالكم "(2) فأما حلائل الابناء من الرضاعة فمحرمات بقوله صلى الله عليه وآله: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".

وإنما سميت المرأة حليلة لامرين: أحدهما - لانها تحل معه في فراش. الثاني - لانه يحل له وطؤها.

وقوله: " وأن تجمعوا بين الاختين " فيه تحريم الجمع بينهما في عقد واحد، وتحريم الجمع بينهما في الوطي بملك المين، فاذا وطأ إحداهما لم تحل له الاخرى حتى يخرج تلك من ملكه، وهو قول الحسن، وأكثر المفسرين والفقهاء.

وروي عن ابن عباس أنه أجاز الجمع بينهما بملك اليمين، وتوقف فيهما علي وعثمان، وباقي الصحابة حرموا الجمع بينهما.

وروي عن علي (ع) أنه قال: حرمتهما آية، وأحلتهما أخرى، وأنا أنهى عنهما نفسي، وولدي، فغلب التحريم.

ومن أجاز الجمع بينهما في الوطي بملك اليمين - على مايذهب إليه داود وقوم من أهل الظاهر - فقد أخطأ في الاختين، وكذلك في الربيبة وأم الزوجة، لان قوله: " وأمهات نسائكم " يدخل فيه المملوكة، والمعقود عليها، وكذلك قوله: " من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " يتناول الجميع، وكذلك قوله: " وأن تجمعوا بين الاختين " عام في الجميع على كل حال، في العقد والوطي، وإنما أخرجنا جواز ملكهما بدلالة الاجماع، ولا يعارض ذلك قوله: " أوما ملكت أيمانكم " لان الغرض بهذه الآية مدح من حفظ فرجه إلا عن الازواج، أو ملك الايمان، فاما كيفية ذلك فليس فيه، ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: " أو ماملكت أيمانكم " إلا على وجه الجمع بين الام والبنت، أوالاختين والسابعة قوله: (ولاتنكحوا ما نكح آباؤكم) وهي امرأة الاب، سواء

___________________________________

(1) سورة الاحزاب: آية 4.

(2) سورة الاحزاب: آية 40.

[160]

دخل بها أو لم يدخل، ويدخل في ذلك نساء الاجداد وإن علوا، من قبل الاب والام بلاخلاف.

وقوله: " إلا ما قد سلف " استثناء منقطع، وتقديره: لكن ما سلف لايؤاخذكم الله به، وليس المراد أن ما سلف حال النهي تجوز استدامته، بلاخلاف. وقيل إن إلا بمعنى سوى.

وقوله: " وأن تجمعوا " (أن) في موضع الرفع، والتقدير: حرمت عليكم هذه الاشياء، والجمع بين الاختين، وكل من حرمه الله في هذه الآية فانما هو على وجه التأييد، مجتمعات ومنفردات، إلا الاختين فانهما تحرمان على وجه الجمع دون الانفراد. ويمكن أن يستدل بهذه الآية على أنه لا يصح أن يملك واحدة من ذوات الانساب المحرمات، لان التحريم عام، وبقوله صلى الله عليه وآله " يحرم من الرضاع مايحرم من النسب " على أنه لايصح ملكهن من جهة الرضاع، وإن كان فيه خلاف.

وأما المرأة التي وطؤها بلاتزويج، ولاملك، فليس في الآية مايدل على أنه يحرم وطي أمها وبنتها، ولان قوله: " وأمهات نسائكم "

وقوله: " من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " يتضمن إضافة الملك، إما بالعقد أو بملك المين، فلا يدخل فيه من وطأ من لايملك وطأها، غير أن قوما من أصحابنا ألحقوا ذلك بالموطوء‌ة بالعقد والملك بالسنة والاخبار المروية في ذلك، وفيه خلاف بين الفقهاء. وأما الرضاع فلا يحرم عندنا إلا ما كان خمس عشرة رضعة متواليات، لايفصل بينهن برضاع امرأة اخرى، أو رضاع يوم وليلة، أو ما أنبت اللحم وشد العظم.

وفي أصحابنا من حرم بعشر رضعات. ومتى دخل بين الرضاع رضاع امرأة أخرى، بطل حكم ما تقدم.

وحرم الشافعي بخمس رضعات، ولم يعتبر التوالي.

وحرم أبوحنيفة بقليله وكثيره، وهو اختيار البلخي. وفي أصحابنا من ذهب إليه.

واللبن عندنا للفحل، ومعناه إذا أرضعت امرأة بلبن فحل لها صبيانا كثيرين، من أمهات شتى، فانهم جميعهم يصيرون أولاد الفحل، ويحرمون على جميع أولاده الذين ينتسبون إليه ولادة ورضاعا، ويحرمون على أولاد المرضعة الذين ولدتهم، فأما

[161]

من أرضعته بلبن غيرهذا الفحل، فانهم لايحرمون عليهم، وكذلك إن كان للرجل امرأتان، فارضعتا صبيين لاجنبيين، حرم التناكح بين الصبيين، وخالف في هذه ابن علية.

ولايحرم من الرضاع عندنا إلا ماوصل إلى الجوف من الثدي من المجرى المعتاد الذي هوالفم، فاما مايوجر به، أو يسعط، أو ينشق، أو يحقن به، أو يحلب في عينه، فلا يحرم بحال.

ولبن الميتة لاحرمة له في التحريم، وفي جميع ذلك خلاف.

ولا يحرم من الرضاع إلا ما كان في مدة الحولين، فاماماكان بعده فلا يحرم بحال.

فاما الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها فحرم بالسنة، ويجوز عندنا نكاح العمة والخالة على المرأة، ونكاح المرأة على العمة والخالة لايجوز إلا برضاء العمة والخالة، وخالف فيه جميع الفقهاء.

والمحرمات بالنسب ومن يحرم بالسبب على وجه التأييد يسمون مبهمات، لانه يحرم من جميع الجهات، ماخوذ من البهيم الذي لايخالط معظم لونه لون آخر، يقال: فرس بهيم لاشية فيه، وبقرة بهيم، والجمع بهم.

وقوله: (إن الله كان غفورا رحيما) اخبار أنه كان غفورا حيث لم يؤآخذهم بما فعلوه من نكاح المحرمات، وأنه عفى لهم عما سلف، ولايدل على أنه ليس بغفور فيما بعد، لان ذلك معلوم بدلالة أخرى، وفي الناس من قال: كان زائدة، وقد بينا أن هذا ضعيف، لانها تكون عبثا ولغوا، وذلك لايجوز.

[162]

قوله تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ماوراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما(24))

آية بلاخلاف.

القراء‌ة: قرأ الكسائي: " المحصنات " (ومحصنات)، بكسرالصاد حيث وقع، إلا قوله: " والمحصنات من النساء " ههنا فانه فتح الصاد.

وقرأ أهل الكوفة إلا أبوبكر، وأبوجعفر: " وأحل لكم " - بضم الهمزة، وكسر الحاء - الباقون: بفتحها.

وقرأ أهل الكوفة إلاحفصا: " أحصن " بفتح الهمزة والصاد، الباقون بضم الهمزة وكسر الصاد.

المعنى: قيل في معنى قوله: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ثلاثة أقوال: أحدها - وهو الاقوى - ماقاله علي (ع)، وابن مسعود، وابن عباس، وأبوقلابة، وابن زيد، عن أبيه، ومكحول، والزهري، والجبائي: أن المراد به ذوات الازواج إلاما ملكت أيمانكم، من سبي من كان لهازوج.

وقال بعضهم، مستدلا على ذلك بخبر أبي سعيد الخدري، أن الآية نزلت في سبي أوطاس، ومن خالفهم ضعف هذا الخبر بأن سبي أوطاس كانوا عبدة الاوثان، دخلوا في الاسلام.

الثاني - قال أبي بن كعب، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، وابن مسعود - في رواية أخرى عنه - وسعيد بن المسيب، والحسن، وابراهيم: إن المراد به ذوات الازواج إلا ماملكت أيمانكم ممن قد كان لها زوج، لان بيعها طلاقها.

وقال ابن عباس: طلاق الامة ست: سبيها طلاقها، وبيعها، وعتقها، وهبتها، وميراثها، وطلاقها. وحكي عن علي (ع)، وعمر، وعبدالرحمن بن عوف: أن السبي خاصة طلاقها، قالوا لان النبي صلى الله عليه وآله خير بريرة بعد أن أعتقتها عائشة،

[163]

ولو بانت بالعتق لماصح. وزعم هؤلاء أن طلاقها كطلاق الحرة.

الثالث - قال أبوالعالية. وعبيدة، وسعيد بن جبير، وعطاء، واختاره الطبري: ان المحصنات العفائف، إلاما ملكت أيمانكم بالنكاح، أو بالثمن ملك استمتاع بالمهر والبينة، أو ملك استخدام بثمن الامة.

اللغة والاعراب: وأصل الاحصان المنع. وسمي الحصن حصنا لمنعه من أراده من أعدائه، والدرع الحصينة أي المنيعة، والحصان الفحل من الافراس لمنعه صاحبه من الهلاك، والحصان العفيفة من النساء، لمنعها فرجها من الفساد.

ومنه قوله: " التي أحصنت فرجها "(1) وكذلك أحصنها الزوج، وبناء حصين ممتنع، وحصنت المرأة تحصن حصانة، والحاصن: العفيفة، قال العجاج:

وحاصن من حاصنات ملس *** من الاذى ومن قراف الوقس(2)

وقال أبوعلي الفارسي، قال سيبويه: حصنت المرأة حصنا وهي حصان، مثل: جبنت جبنا فهي جبان، وقالوا حصنا، كما قالوا: علما قال الازهري: يقال للرجل إذا تزوج: أحصن فهو محصن، كقولهم: ألفج فهو ملفج إذا أعدم وافتقر، وأسهب فهو مسهب، إذا أكثر الكلام. وكلام العرب كله على أفعل فهو مفعل، بكسر العين، مثل أسمع فهو مسمع، وأعرب فهو معرب، وأفصح فهو مفصح، إلا ما ذكرناه والاحصان على أربعة أقسام: أحدها - يكون بالزوجة، كقوله: " والمحصنات من النساء ".

والثاني - بالاسلام، كقوله: " فاذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ماعلى المحصنات "(3).

___________________________________

(1) سورة التحريم: آية / 12.

(2) ديوانه 78، واللسان (قنس)، (وقس)، (حصن) ومجاز القرآن 1: 122 ورواية اللسان (عن) بدل (من) في العجز في الموضعين.

(3) سورة النساء: آية 25.

[164]

والثالث - بالعفة كقوله: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء "(1).

الرابع - يكون بالحرية، كقوله: " والمصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "(2)

وقوله: " كتاب الله عليكم " يحتمل نصبه وجهين: أحدهما - أن يكون مصدرا جرى على غير فعله وفيه معناه، كأنه قال: حرم الله ذلك كتابا من الله، أو كتب كتابا، كماقال: " صنع الله الذي أتقن كل شئ "(3) فنصبه بقوله: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب "(4) فكان ذلك دلالة على أنه قد صنعها فنصب على أنه مصدر، وقال الشاعر: ورضت فذلت صعبة أي اذلال (ه) لان معنى رضت أذللت، قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الامر، ويكون " عليكم " مفسرا، والمعنى: الزموا كتاب الله.

الثاني - على الاغراء، والعامل محذوف، لان عليكم لايعمل فيما قبله: وأنشد:

ياأيها المائح دلوى دونكا *** إني رأيت الناس يحمدونكا(6)

والمعنى هذا دلوي دونكا، وهو معنى قول الزجاج.

المعنى: وقوله: (وأحل لكم ماوراء ذلكم أن تبتغوا باموالكم) قيل في معناه أربعة أقوال:

___________________________________

(1) سورة النور: آية 4.

(2) سورة المائدة: آية 6.

(3، 4) سورة النمل: آية 88.

(5) قائله امرؤ القيس. ديوانه: 161. وصدره: وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا.

(6) البيت لجاهلي من بني أسيد بن عمر بن تميم.

معاني القرآن 1: 260، وخزانة الادب 3: 17.

[165]

أحدها - قال عبيدة السلماني، والسدي: أحل لكم مادون الخمس، أن تبتغوا باموالكم على وجه النكاح.

الثاني - قال عطاء أحل لكم ماوراء ذوات المحارم من أقاربكم.

الثالث - قال قتادة: (ماوراء ذلكم) مما ملكت أيمانكم.

الرابع - ماوراء ذوات المحارم إلى الاربع، أن تبتغوا باموالكم نكاحا، أو بملك يمين، وهذا الوجه أولى، لانه حمل الآية على عمومها في جميع ماذكر الله، ولاتنافي بين هذه الاقوال.

ومن فتح الهمزة حمله على أقرب المذكورين في قوله: (كتاب الله علكيم) ومن ضم حمله على (حرمت) وموضع (أن تبتغوا) نصب، ويحتمل نصبه على وجهين: أحدهما - على البدل من ما. والثاني - على حذف اللام من " لان تبتغوا "، ومن قرأ بالضم جاز عنده الرفع والنصب، وقوله: " محصنين " أي عاقدين التزويج، غير مسافحين: عافين للفروج، فال مجاهد، والسدي: معناه غير زانين وأصله: صب الماء، تقول: سفح الدمع إذا صبه، وسفح الجبل أسفله، لانه مصب الماء منه، وسافح إذا زنا نصبه الماء باطلا.

وقال الزجاج: المسافح والمسافحة الزانيان غير ممتنعين من أحد، فاذا كانت تزني بواحد فهي ذات خدن، فحرم الله الزنا على كل حال، على السفاح واتخاذ الصديق.

وقوله: (فما استمتعتم به منهن) قال الحسن، ومجاهد، وابن زيد: هوالنكاح، وقال ابن عباس، والسدي: هو المتعة إلى أجل مسمى، وهو مذهبنا، لان لفظ الاستمتاع إذا أطلق لايستفاد به في الشرع إلا العقد المؤجل، ألا ترى أنهم يقولون: فلان يقول بالمتعة، وفلان لايقول بها، ولا يريدون إلا العقد المخصوص، ولاينافي ذلك قوله: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أوماملكت أيمانهم "(1) لانا نقول: إن هذه زوجة، ولايلزم أن يلحقها

___________________________________

(1) سورة المؤمنون: آية 5 - 6 وسورة المعارج آية 29 - 3.

[166]

جميع أحكام الزوجات، من الميراث، والطلاق، والايلاء، والظهار، واللعان، لان احكام الزوجات تختلف، ألا ترى أن المرتدة تبين بغير طلاق، وكذلك المرتد عندنا، والكتابية لاترث، وأما العدة فانها تلحقها عندنا، ويلحق بها أيضا الولد، فلا شناعة بذلك، ولولم تكن زوجة لجاز أن يضم ماذكر في هذه السورة إلى مافي تلك الآية، لانه لا تنافي بينهما، ويكون التقدير: إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانهم أو ما استمتعتم به منهن وقد استقام الكلام.

وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب وسعيد بن جبير: أنهم قرأوا " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى " وذلك صريح بما قلناه، على أنه لو كان المراد به عقد النكاح الدائم لوجب لها جميع المهر بنفس العقد، لانه قال: (فآتوهن أجورهن) يعني مهورهن، عندأكثر المفسرين، وذلك غير واجب بلاخلاف، وإنما يجب الاجر بكماله في عقد المتعة.

وفي أصحابنا من قال: قوله: (أجورهن) يدل على أنه أراد المتعة، لان المهر لايسمى أجرا، بل سماه الله صدقة ونحلة، وهذا ضعيف، لان الله سمى المهر أجرا في قوله (فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن)(1) وقال: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن)(2) ومن حمل ذلك كله على المتعة كان مرتكبا لما يعلم خلافه، ومن حمل لفظ الاستمتاع على الانتفاع فقدأبعد، لانه لو كان كذلك لوجب أن لايلزم من لاينتفع بها شئ من المهر، وقد علمنا أنه لو طلقهاقبل الدخول لزمه نصف المهر، وإن خلا بها خلوة تامة لزمه جميع المهر عند كثير من الفقهاء، وإن لم يلتذ ولم ينتفع.

وأما الخبر الذى يروونه أن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن المتعة، فهو خبر واحد لايترك له ظاهر القرآن، ومع ذلك يختلف لفظه وروايته فتارة يروون أنه نهى عنها في عام خيبر، وتارة يروون أنه نهى عنها في عام الفتح، وقد طعن أيضا في طريقه بما هو معروف، وأدل دليل على ضعفه قول عمر: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) فاخبر أن هذه المتعة كانت على

___________________________________

(1) سورة النساء: آية 25.

(2) سورة المائدة: آية 6.

[167]

عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه الذي نهى عنهما، لضرب من الرأي.

فان قالوا. إنما نهى لان النبي صلى الله عليه وآله كان نهى عنهما، قلنا: لو كان كذلك لكان يقول: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فنهى عنهما، وأنا أنهى عنهما أيضا، فكان يكون آكد في باب المنع، فلما لم يقل ذلك دل على أن التحريم لم يكن صدر عن النبي صلى الله عليه وآله، وصح ماقلناه.

وقال الحكم بن عتيبة، قال علي (ع) لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنا إلا شقي. وذكر البلخي، عن وكيع، عن اسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عبدالله بن مسعود: قال كنا مع النبي صلى الله عليه وآله ونحن شباب، فقلنا يارسول الله ألا نستخصي، قال: لا، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، إلى أجل.

وقوله: (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) قال الحسن، وابن زيد: أي تراضيتم به من حط بعض الصداق أو تأخيره، أو هبة جميعه.

وقال السدي وقوم من أصحابنا: معناه: لاجناح عليكم فيما تراضيتم به من استئناف عقد آخر بعد انقضاء المدة التي تراضيتم عليها، فتزيدها في الاجر وتزيدك في المدة. وفي الآية دلالة على جواز نكاح المرأة على عمتها وخالتها، لان قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) عام في جميعهن، ومن ادعى نسخه فعليه الدلالة، وما يروى من قوله صلى الله عليه وآله: (لاتنكح المرأة على عمتها ولا خالتها) خبر واحد لاينسخ به القرآن، ولو كان معلوما لما جاز أن ينسخ به القرآن عند أكثر الفقهاء، لان نسخ القرآن لايجوز عندهم بالسنة، وادعاؤهم الاجماع على الخبر غير مسلم، لانا نخالف فيه.

وقوله: (إن الله كان عليما حكيما) معناه عليما بما يصلح أمر الخلق، حكيما فيما فرض لهم من عقد النكاح الذى به حفظت الاموال، والانساب.

قال البلخي: والآية دالة على أن نكاح المشركين ليس بزنا. لان قوله: (والمحصنات من النساء) المراد به ذوات الازواج من أهل الحرب، بدلالة قوله: (إلا ماملكت أيمانكم) بسبيهن ولاخلاف أنه لايجوز وطي المسبية إلا بعد استبرائها بحيضة.

[168]

قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ماملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بايمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان فاذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم(25))

آية بلاخلاف.

القراء‌ة، واللغة: قرأأهل الكوفة إلا حفصا (فاذا أحصن) - بضم الهمزة وكسر الصاد - الباقون بفتحهما، وقرأ " المحصنات " - بكسر الصاد - الكسائي وحده، قوله: (ومن لم يستطع منكم طولا) معناه: من لم يجد منكم طولا وقيل في معنى الطول قولان: أحدهما - قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد: هوالغنى، وهوالمروي عن أبي جعفر (ع). والثاني - قال ربيعة، وجابر، وعطاء، وابراهيم: أنه الهوى، قال: إذا هوي الامة فله أن يتزوجها وإن كان ذا يسار.

وقال الحسن، والشعبي: لايجوز ذلك، والقول الاول هوالصحيح، وعليه أكثر الفقهاء. والطول الغنى، وهو ماخوذ من الطول خلاف القصر، فشبه الغنى به، لانه ينال به معالي الامور، وقولهم ليس فيه طائل.

[169]

أي: لاينال به شئ من الفوائد، والتطول الافضال بالمال، والتطاول على الناس الترفع عليهم، وكذلك الاستطالة، وتقول: طلا فلان طولا، أي كأنه فضل عليه في القدرة، وقد طالت طولك وطيلك أي طالت مدتك، قال الشاعر:

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل *** وإن بليت وإن طالت بك الطيل(1)

والطول الحبل.

المعنى: وفي الآية دلالة على أنه لايجوز نكاح الامة الكتابية، لانه قيد جواز العقد على الاماء إذاكن مؤمنات، وهو قول مالك بن أنس، ومجاهد، وسعيد بن عبدالعزيز، وأبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم، والحسن، والطبري، وقال أبو ميسرة، وأبوحنيفة، وأصحابه: يجوز ذلك، لان التقييد هوعلى جهة الندب دون التحريم، والاول أقوى، لانه الظاهر، وما قالوه عدول عنه.

ومنهم من قال: لان التأويل: من فتياتكم المؤمنات دون المشركات من عبدة الاوثان، بدلالة الآية التي في المائدة، وهي قوله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "(2) وهذا ليس بشئ، لان الكتابية لاتسمى مؤمنة.

ومن أجاز العقد على الكتابية له أن يقول: آية المائدة مخصوصة بالحرائر منهن دون الاماء، وظاهر الآية يقتضي أن من وجد الطول من مهر الحرة ونفقتها، ولايخاف من العنت. وهو مذهب الشافعي، غير أن أكثر أصحابنا قالوا: ذلك على وجه الافضل، لا أنه لو عقد عليها وهو غني كان العقد باطلا، وبه قال أبوحنيفة، وقووا ذلك بقوله: " ولامة مؤمنة خير من مشركة "(3) إلاأن من شرط صحة العقد على الامة عند أكثر الفقهاء، أن لاتكون عنده حرة، وهكذا عندنا، إلا أن ترضى الحرة

___________________________________

(1) قائله القطامي ديوانه: 32 وجمهرة الاشعار: 313 والطيل جمع طيلة وهي الدهر.

(2) سورة المائدة: آية 6.

(3) سورة البقرة: آية 221.

[170]

بأن يتزوج عليها أمة، فان أذنت كان العقد صحيحا عندنا، ومتى عقد عليها بغير إذن الحرة كان العقد على الامة باطلا.

وروى أصحابنا أن الحرة تكون بالخيار بين أن تفسخ عقد الامة، أو تفسخ عقد نفسها، والاول أظهر، لانه إذا كان العقد باطلا لايحتاج إلى فسخه، فاما تزويج الحرة على الامة، فجائز، وبه قال الجبائي.

وفي الفقهاء من منع منه، غير أن عندنا لايجوز ذلك إلا باذن الحرة، فان لم تعلم الحرة بذلك كان لها أن تفسخ نكاحها، أو نكاح الامة، وفي الناس من قال: في عقده على الحرة طلاق الامة.

وقوله: " من فتياتكم المؤمنات " فالفتى الشاب، والفتاة الشابة، والفتاة الامة، وإن كانت عجوزا لانها كالصغيرة في أنها لاتوقر توقير الكبيرة، والفتوة حال الحداثة، ومنه الفتيا، تقول: أفتى الفقيه. يفتي لانه يسأله مسألة في حادثة.

وقوله: " والله أعلم بايمانكم بعضكم من بعض " قيل في معناه قولان: أحدهما - كلكم ولد آدم. والثاني - كلكم على الايمان. ويجوز أن تكون الامة أفضل من الحرة، وأكثر ثوابا عندالله، وفي ذلك تسلية لمن يعقد على الامة، إذا جوز أن تكون أكثر ثوابا عندالله، مع اشتراكهم بأنهم ولد آدم، وفي ذلك صرف عن التغاير بالانساب.

ومن كره نكاح الامة قال: لان الولد عندنا يلحق بالحرية في كلا الطرفين.

وقوله: " فانكحوهن باذن أهلهن " أي اعقدوا عليهن باذن أهلهن، وفيه دلالة واضحة على أنه لايجوز نكاح الامة بغير اذن وليها الذي هو مالكها.

وقوله: " وآتوهن أجورهن " معناه: اعطوا مالكهن مهورهن، لان مهر الامة لسيدها، " بالمعروف " وهوما وقع عليه العقد وتراضي.

وقوله: " محصنات غير مسافحات " يعني بالعقد عليهن، دون السفاح معهن، " ولامتخذات أخذان " وقد بينا الفرق بين الخدن والسفاح فيما مضى، والخدن هو الصديق يكون للمرأة، بزني بها سرا، كذا كان في الجاهلية، والسفاح ماظهر منه، وكان فيهم من يحرم ما ظهر من الزنا، ولايحرم ماخفي منه، ذكر ذلك ابن عباس، وغيره من المفسرين. وخدن الرجل وخدينه صديقه.

[171]

وقوله: (فاذا أحصن) من قرأ بالضم، قال: معناه تزوجن، ذكر ذلك ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة.

ومن فتح الهمزة قال: معناه أسلمن، روي ذلك عن عمر، وابن مسعود، والشعبي، وابراهيم، والسدي.

وقال الحسن: يحصنها الزوج، ويحصنها الاسلام، وهو الاولى، لانه لاخلاف أنه يجب عليها نصف الحد إذا زنت، وإن لم تكن ذات زوج، كما أن عليها ذلك وان كان لها زوج، لانه وإن كان لها زوج لايجب عليها الرجم، لانه لايتبعض، فكان عليها نصف الحد خمسين جلدة.

على أن قوله: " فعليهن نصف ماعلى المحصنات " يعني نصف ما على الحرائر، وليس المراد به ذوات الازواج، فالاحصان المذكور للامة التزويج، والمذكور للمحصنات الحرية، وبينا أنه يعبر به عن الامرين.

وقال بعضهم: إذا زنت الامة قبل أن تتزوج، فلا حد عليها، وإنما عليها نصف الحد إذا تزوجت بظاهر الآية.

وقوله: (ذلك لمن خشي العنت منكم)، فالعنت معناه ههنا الزنا في قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطية العوفي، والضحاك، وابن زيد.

وقال قوم: هو الضرر الشديد في الدين أوالدنيا، مأخوذ من قوله: " ودوا ما عنتم "(1) والاول أقوى، وقوله: " وإن تصبروا خير لكم " يعني: عن نكاح الاماء، في قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وعطية.

وأكمة عنوت صعبة المرتقى.

ومتى اجتمع عند الرجل حرة وأمة كان للحرة يومان وللامة يوم، وعندنا أن بيع الامة طلاقها، إلا أن يشاء المشتري إمضاء العقد، وكذلك الهبة، وكل ماينتقل به الملك من الميراث، والسبي، وغيره.

فاما عتقها فانه يثبت به لها الخيار، كما ثبت لبريره، ومتى كانت تحت الزوج الحر أو عبد لغيره، لم يكن للمولى التفرقة بينهما، فان كانا جميعا له كان التفرقة إلى المولى.

___________________________________

(1) سورة آل عمران: 118.

[172]

واستدلت الخوارج على بطلان الرجم بهذه الآية، قالوا: لماقال الله تعالى: (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)، وكان الرجم لا يمكن تبعيضه، دل على أنه لاأصل له، وعلى ما بيناه من أن المراد فعليهن نصف ما على الحرائر، دون ذوات الازواج، يسقط هذا السؤآل.

ويدل على أن الاحصان يعبر به عن الحرية زائدا على ما تقدم، قوله في أول الآية: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم) ولا شك أنه أراد الحرة أو العفائف، لان التي لها زوج لايمكن العقد عليها، وجد طولها أولم يجد، وقوله: (والذين يرمون المحصنات) يدل عليه أيضا، لان المراد به المسلمة الحرة، سواء كانت ذات زوج أولم تكن، بلاخلاف.

والرجم معلوم من دين المسلمين بالتواتر فانهم لايختلفون أنه صلى الله عليه وآله رجم ماعز بن مالك الاسلمي، ورجم يهوديا ويهودية، وعليه جيمع الفقهاء من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، فخلاف الخوارج لايلتفت إليه.

وفي الناس من قال: إن قوله: " أن ينكح المحصنات " المراد به الحرائر دون أن نكون مختصا يالعفائف، لانه لوكان مختصا بالعفائف لما جاز العقد على من ليس كذلك، لان قوله: " الزاني لاينكح إلا زانية أو مشركة " إلى قوله: " وحرم ذلك على المؤمنين "(1) منسوخ بالاجماع، وبقوله: " فانكحوا ما طاب "(2) وبقوله: " وانكحوا الايامى "(3) ويمكن أن يخص بالعفائف على الافضل دون الوجوب، وقوله: " فعليهن " معناه لازم لهن نصف ما يلزم المحصنات، دون أن يكون ذلك واجبا عليهن، وقوله: " وان تصبروا " في موضع رفع، والتقدير والصبر عن نكاح الامة خير لكم.

وفي الآية تقديم وتأخير، لان التقدير: " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم " أي فلينكح مما ملكت أيمانكم (من فتياتكم المؤمنات بعضكم من بعض والله أعلم بايمانكم) ذكره الطبري وهو جيد مليح.

___________________________________

(1) سورة النور: آية 3.

(2) سورة النساء: آية 3.

(3) سورة النور: آية 3.

[173]

قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم(26))

آية بلاخلاف.

الاعراب: اللام في قوله: (ليبين لكم) للنحويين فيه ثلاثة أقوال: أولها - قال الكسائي، والفراء، والكوفيون: إن معناها (أن)، وإنما لايجوز ذلك في أردت وأمرت لانها تطلب الاستقبال، لايجوز أردت أن قمت، ولا أمرت أن قمت فلما كانت (أن) في سائر الافعال تطلب الاستقبال، استوثقوا له باللام، وربما جمعوابين اللام وكي لتأكيد الاستقبال، قال الشاعر:

أردت لكيما لاترى لي عثرة *** ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل(1)

وقال الفراء: ربما جاء مع غير الارادة والامر، أنشدني بن الجراح:

أحاول إعنا اتي بما قال أم رجا *** ليضحك مني أو ليضحك صاحبه(2)

ومعناه: رجا أن يضحك، ومثله: (وأمرا لنسلم)(3) وفي موضع آخر.

(أمرت أن أكون أول من أسلم)(4) وربما جمعوا بين اللام وكي وأن، قال الشاعر:

أردت لكيما أن تطير بقربتي *** فتتركها شنا ببيداء بلقع(5)

___________________________________

(1) معاني القرآن 1: 262 أنشده أبوتروان.

وفي شواهد الهمع 2: 5 روايته (تراني عشيرتي) بدل (ترى لي عثرة).

(2) معاني القرآن 1: 262 قائله أبوالجراح الانفي من بني انف الناقة.

وكان في المخطوطة والمطبوعة هكذا

أحاول اعدائي بما قال أم رجا *** فيضحك مني أو ليضحك صاحبه

(3) سورة الانعام: آية 71.

(4) سورة الانعام: آية 14.

(5) لم يعرف قائله.

معاني القرآن 1: 262 والانصاف: 242 والخزانة 3: 585.

والعيني (هامش الخزانة) 4: 405، وحاشية الصبان 3: 280.

قوله (أن تطير) كناية عن الهرب، والشن: الخلق البالي، والبيداء: المغازة المهلكة، والبلقع: الارض القفراء.

[174]

ولايجوز في الظن أن تقع اللام بمعنى أن، لان الظن يصلح معه الماضي والمستقبل، نحو: ظننت أن قمت، وظننت أن تقوم، ولايجوز: ظننت لتقوم بمعنى: ظننت أن تقوم.

الثاني - قال الزجاج لايجوز أن تقع اللام بمعنى أن، واستشهد بقول الشاعر:

أردت لكيما يعلم الناس إنها *** سراويل سعد والوفود شهود

فلو كانت بمعنى أن لم تدخل على كي، كما لا تدخل أن على كي، قال: الرماني: ولقائل أن يقول: إن هذه لام الاضافة مردودة إلى أصلها، فلا يجب وقوع أن موقعها، ومذهب سيبويه وأصحابه أن اللام دخلت في هذا على تقدير المصدر، أي: ارادة للبيان لكم، نحو قوله: (إن كنتم للرؤيا تعبرون)(1) (وردف لكم بعض الذي تستعجلون)(2) ومعناه: إن كنتم تعبرون الرؤيا، قال كثير:

أريد لانسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل أي: إرادتي لهذا.

الثالث - ضعف هذين الوجهين بعض النحويين، بأن جعل اللام بمعنى (أن) لم تقم به حجة قاطعة، وحمله على المصدر يقتضي جواز ضربت لزيد بمعنى ضربت زيدا، وهذا لايجوز، ولكن يجوز في التقديم، نحو لزيد ضربت وللرؤيا تعبرون، لان عمل الفعل في التقديم يضعف، كعمل المصدر في التأخير، ولذلك لم يجز إلا في المتصرف، فاما " ردف لكم " فعلى تأويل: ردف ما ردف لكم، وعلى ذلك يريد ما يريد لكم، وكذلك قوله: " وأمرنا لنسلم "(3) أي أمرنا بما أمرنا لنسلم، فهي تجري بهذا على أصولها، وقياس بابها.

وقال قوم معناه: يريدالله هذا من أجل أن يبين لكم، كما قال: " وأمرت لاعدل بينكم "(4) معناه: وأمرت بهذا من أجل ذلك، وإنما لم يجز أن يراد الماضي لامرين: أحدهما - أن الارادة لاستدعاء الفعل، ومحال أن يستدعي ماقد فعل، كما أنه محال أن يؤمر بما قد وقع، لانه لايحسن أن يقول: إفعل أمس، أو أريد أمس.

___________________________________

(1) سورة يوسف: آية 43.

(2) سورة النمل: آية 72.

(3) سورة الانعام: آية 71.

(4) سورة الشورى: 15.

[175]

والثاني - أن بالارادة يقع الفعل على وجه دون وجه، من حسن أو قبح، أوطاعة أو معصية، وذلك محال فيما مضى.

المعنى: وقوله: " ويهديكم سنن الذين من قبلكم " قيل فيه قولان: أحدهما - " يهديكم سنن الذين من قبلكم " من أهل الحق، لتكونوا على الاقتداء بهم في اتباعه لما لكم فيه من المصلحة.

الثاني - (سنن الذين من قبلكم) من أهل الحق، لتكونوا على بصيرة فيما تفعلون أو تجتنبون من طرائقهم، وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لان الله تعالى بين أنه يريد أن يتوب على العباد، وهم يزعمون أنه يريد منهم الاصرار على المعاصي.

وقال أبوعلي الجبائي: في الآية دلالة على أن ماذكر في الآيتين من تحريم النكاح أو تحليله، قد كان على من قبلنا من الامم، لقوله تعالى: " ويهديكم سنن الذين من قبلكم " أي في الحلال والحرام.

قال الرماني: لايدل ذلك على اتفاق الشريعة، وإن كنا على طريقتهم في الحلال والحرام، كما لايدل عليه وإن كنا على طريقتهم في الاسلام، وهذا هو الاقوى.

قوله تعالى: (والله يريدأن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما(27))

آية.

المعنى: معنى الآية الاخبار من الله تعالى أنه يريد من المواجهين بها، أن يتوب

[176]

عليهم، بمعنى أن يقبل توبتهم، عما سلف من آثامهم، ويتجاوز عما كان منهم في الجاهلية، من استحلالهم ما هو حرام عليهم من حلائل الآباء والابناء، وغير ذلك مما كانوا يستحلونه، وهو حرام عليهم.

إن قيل: لم كرر قوله: " والله يريد أن يتوب عليكم "؟ مع ما تقدم من قوله: " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم " قلنا عنه جوابان: أحدهما - أنه لما في الاول، وتقديره: يريد الله ليتوب عليكم أنى في الثاني ب‍ (أن) ليزول الايهام أنه يريد ليتوب، ولايريد(3) أن يتوب علينا. والآخر - أن يبين أن ارادته منا خلاف إرادة أصحاب الاهواء لنا، لنكون على بصيرة من أمرنا، وجاء الثاني على التقابل، بان الله يريد شيئا ويريدون خلافه.

والمعني: بقوله: " ويريد الذين يتبعون الشهوات " قيل فيه أربعة أقوال: الاول - قال ابن زيد: كل مبطل، لانه يتبع شهوة نفسه في باطله.

الثاني - قال مجاهد: يعني به: الزناة.

الثالث - قال السدي: هم اليهود والنصارى.

الرابع - اليهود خاصة، لانهم يحلون نكاح الاخت من الاب، والاول أقوى، لانه أعم فائدة، وأوفق لظاهر اللفظ.

وقوله: " أن تميلوا ميلا عظيما " معناه أن تعدلوا عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية، وذلك أن الاستقامة هي المؤدية إلى الثواب، والفوز بالسلامة من العقاب، وأما الميل عن الاستقامة فيؤدي إلى الهلاك واستحقاق العقاب.

فان قيل: ما معنى إرادتهم الميل بهم؟ قيل قد يكون ذلك لعداوتهم، وقد يكون لتمام الانس بهم في المعصية، فبين الله أن إرادته لهم خلاف ارادتهم منهم، وليس في الآية مايدل على أنه لايجوز اتباع داعي الشهوة في شئ البته، لانه لاخلاف أن اتباع الشهوة فيما أباحه الله تعالى جائز، وإنما المحظور من

___________________________________

(1) في المخطوطة (ولانه يريد) بدل (ولا يريد).

[177]

ذلك ما يدعوإلى ما حرمه، لكن لا يطلق [ على ](1) صاحبه بانه متبع للشهوة، لان إطلاقه يفيد اتباع الشهوة فيما حرم عليه.

قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا(28))

آية بلاخلاف.

المعنى واللغة: معنى قوله: " يريد الله أن يخفف عنكم " ههنا أي في نكاح الاماء، لان الانسان خلق ضعيفا في أمر النساء، هذا قول مجاهد، وطاووس، وزيد. وأصل التخفيف خفة الوزن، والتخفيف على النفس بالتيسير، كخفة الحمل بخفة الوزن، ومنه الخفافة النعامة السريعة، لانها تسرع أسراع الخفيف الحركة، والخفوف السرعة، ومنه الخف الملبوس لانه يخف به التصرف، ومنه خف البعير.

والمراد بالتخفيف ههنا تسهل التكليف، بخلاف التصعب فيه، فتحليل نكاح الاماء تيسير بدلا من تصعيب، وكذلك جميع ما يسره الله لنا إحسانا منه إلينا، ولطفا بنا.

فان قيل: هل يجوز التثقيل في التكليف، مع خلق الانسان ضعيفا عن القيام به بدلا من التخفيف؟ قيل: نعم إذا أمكنه القيام به، وإن كان فيه مشقة، كما ثقل التكليف على بني اسرائيل في قتل أنفسهم، غير أن الله لطف بنا فكلمنا ما يقع به صلاحنا، بدلا من فسادنا.

وفي الآية دلالة على فساد قول المجبرة: ان الله يكلف عباده ما لايطيقون، لان ذلك مناف لارادة التخفيف عنهم في التكليف، من حيث أنه غاية التثقيل.

وقوله: " وخلق الانسان ضعيفا " أي يستميله هواه.

___________________________________

(1) في المخطوطة والمطبوعة (لصاحبه) يدل (على صاحبه).

[178]

قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما(29))

آية واحدة بلاخلاف.

القراء‌ة، والاعراب: قرأأهل الكوفة: " تجارة " نصبا، الباقون: بالرفع، فمن رفع ذهب إلى أن معناه: إلا أن تقع تجارة، ومن نصب فمعناه: إلا أن تكون الاموال تجارة، أو أموال تجارة، وحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ويكون الاستثناء منقطعا، ويجوز أن يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، كما قال الشاعر: إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا(1) وتقديره: إذا كان اليوم يوما ذا كواكب، ذكره أبوعلي النحوي.

وقال الرماني التقدير: إلا أن تكون الاموال تجارة، ولم يبين.

والقول ما قال أبوعلي، لان الاموال ليست تجارة.

ومن شأن خبر كان أن يكون هو إسمها في المعنى.

وقيل: الرفع إقوى، لانه أدل في الاستثناء على الانقطاع، فان التحريم لاكل المال بالباطل على الاطلاق.

وفي الناس من زعم أن نصبه على قول الشاعر: إذا كان طعنا بينهم وعناقا(2) أي إذا كان الطعن طعنا.

قال الرماني: وهذا ليس بقوي، لان الاضمار قبل الذكر ليس يكثر في مثل هذا، وإن كان جائزا، فالرفع يغني عن الاضمار فيه.

المعنى: وفي معنى قوله: " لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " قولان: أحدهما - قال السدي: بالربا، والقمار، والبخس، والظلم، وهو المروي عن أبي جعفر (ع).

___________________________________

(1) لم يعرف قائله معاني القرآن للفراء 1: 186 وسيبويه 1: 22 وصدره: ولله قومي أي قوم لحرة.

(2) لم يعرف قائله معاني القرآن 1: 186 وصدره: أعيني هلا تبكيان عفاقا. وعفاق: اسم رجل.

[179]

الثاني - قال الحسن: بغير استحقاق من طريق الاعواض.

وكان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، إلى أن نسخ ذلك بقوله في سورة النور: " ولاعلى أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم.. " إلى قوله: " جميعا أو أشتاتا "(1) والاول أقوى، لان ما أكل على وجه مكارم الاخلاق فليس هو أكل بالباطل.

وقيل: معناه التخاون، ولذلك قال: " بينكم ".

وقوله: " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " فيه دلالة على بطلان قول من حرم المكاسب، لانه تعالى حرم أكل الاموال بالباطل، وأحله بالتجارة على طريق المكاسب.

ومثل قوله: " وأحل الله البيع وحرم الربا "(2) وقيل في معنى التراضي بالتجارة قولان: أحدهما - إمضاء البيع بالتفرق، أو بالتخاير بعد العقد في قول شريح، وابن سيرين، والشعبي، لقوله صلى الله عليه وآله: البيعان بالخيار مالم يتفرقا أو يكون بيع خيار.

وربما قالوا: أويقول أحدهما للآخر اختر، وهو مذهبنا.

الثاني - إمضاء البيع بالعقد - على قول مالك بن أنس، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، - ومحمد - بعلة رده إلى عقد النكاح، ولاخلاف أنه لاخيار فيه بعد الافتراق، وقيل: معناه إذا تغابنوا فيه مع التراضي فانه جائز.

وقوله: " ولا تقتلوا أنفسكم " قيل فيه: ثلاثة أقوال: أحدها - قال عطاء، والسدي، وأبوعلي الجبائي، والزجاج: لايقتل بعضهم بعضا من حيث كانوا أهل دين واحد، فهم كالنفس الواحدة، كما يقول القائل: قتلنا ورب الكعبة، ومعناه قتل بعضنا، لانه صار كالقتل لهم، ومثله قوله: " فاذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم "(3).

الثاني - قال البلخي: فيه نهي عن قتل نفسه في حال غضب، أو زجر،

___________________________________

(1) سورة النور: آية 61.

(2) سورة البقرة: آية 275.

(3) سورة النور: آية 61.

[180]

والاول أقوى، لانه أكثر وأغلب، وأيضا فانه إذا حرم عليه قتل غيره من أهل دينه، لانه بمنزلة قتل نفسه، فقد حرم عليه قتل نفسه.

الثالث - قال قوم: معناه: لاتقتلوا أنفسكم، بان تهلكوها بارتكاب الآثام، والعدوان في أكل المال بالباطل، وغيره من ارتكاب المعاصي، التي تستحقون بها العقاب.

وروي عن أبي عبدالله (ع): أن معناه لاتخاطروا بنفوسكم في القتال، فتقاتلون من لاتطيقونه.

وقوله: " إن الله كان بكم رحيما " قال ابن عباس: كان صلة، والمعنى إن الله غفور رحيم، ويحتمل أن يكون المراد: " إن الله كان بكم رحيما " حيث كلفكم الامتناع من أكل المال بالباطل الذي يؤدي إلى العقاب، وحرم عليكم قتل نفوسكم التي حرمها عليكم، ويعلم انه رحيم فيما بعد بدليل آخر.

الآية: 30 - 39

قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا(30))

آية بلاخلاف.

المعنى: قيل في تعليق الوعيد والاشارة بقوله: " ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما... " الآية، أربعة أقوال:

أولها - وهو أقواها - انه على أكل الاموال بالباطل، وقتل النفس بغير حق، والوعيد بكل واحدة من الخصلتين، لان الوعيد ذكر عقيب ذكر النهي عن الامرين، وهو اختيار الطبري.

الثاني - قال عطاء: هو على قتل النفس المحرمة خاصة.

الثالث - على فعل كلما نهى الله عنه، من أول السورة.

[181]

الرابع - أنه راجع إلى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لايحل لكم أن ترثوا النساء كرها "(1) لان ما قبله مقرون بالوعيد.

وقوله: (وكان ذلك على الله يسيرا) معناه: أنه قادر على إنجاز الوعيد، لايمكن صاحبه الامتناع منه، ولا الهرب منه، فيتعذر الايقاع به، فيجب أن تنزلوا الوعيد منزلته، وتكونوا على بصيرة فيه، غير مغترين بامر يصرف عنه، وإنما قيد قوله: " ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما " لان من وقع منه قتل النفس على وجه السهو والخطأ في خلاف المراد، لم يتناوله الوعيد، وكذلك إذا أكل من أموال الناس على وجه مباح، لم يتوجه إليه الوعيد.

والعدوان تجاوز ما أمر الله به، والظلم أن يأخذه على غير وجه الاستحقاق، وأصله وضع الشئ في غير موضعه، وفي المرجئة من قال: إنما قيد بذلك لان المراد من استحل أكل المال بالباطل، واستحل أيضا قتل النفوس، وذلك لايكون إلا كافرا، فلذلك هدده بالوعيد المخصوص، فأما إذا فعل ذلك محرما له، فانه يجوز أن يعفو الله عفو، فلا يتناوله الوعيد قطعا على كال حال، ولو لم تحمل الآية على المستحلين، لامكننا أن نخص الآية بمن لايعفو الله عنه، كما أنهم لابد لهم أن يخصوها بمن لم يتب من ذلك ولاتكون معصية صغيرة، فليس في الآية ما يمنع من القول بجواز العفو.

وإنما قال: (وكان ذلك على الله يسيرا) وإن كان يسيرا عليه الآن وفي مستقبل الاوقات، ليعلم أن الاوقات متساوية في ذلك على كل حال، ولايجوز أن يقال قياسا على ذلك وكان الله قديما، لان قولنا قديم أغنى عن كان، إذ لم يختص بالحال بل أفاد الوجود في الازل، فلا معنى لادخال كان فيه.

واليسير السهل، يقال: يسر الشئ إذا سهل فهو يسير، وعسر فهو عسير، إذا لم يتسهل.

قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما(31))

آية.

___________________________________

(1) سورة النساء: آية 19.

[182]

القراء‌ة، والحجة: قرأ نافع، وأبوبكر، عن عاصم: مدخلا - بفتح الميم - الباقون بضمها، وهو الاقوى، لانه من ادخلوا والآخر جائز، لان فيه معنى: فيدخلون، وليس كقول الشاعر:

الحمدلله ممسانا ومصبحنا *** بالخير صبحنا ربي ومسانا(1)

ويروى بفتح الميم فيهما، أنشده البلخي في البيت، لانه ليس فيه فعل، ولكن قد حكي بالفتح على التشبيه بالاول، ويحتمل أن يكون من قرأ بفتح الميم أراد: مكانا كريما، كما قال: " ومقام كريم "(2) وقرأ المفضل، عن عاصم " يكفر " " ويدخلكم " بالياء فيهما، الباقون بالنون، وهوالاجود، لانه وعد على وجه الاستئناف، فالاحسن ألا يعلق بالاول من جهة ضمير الغائب، واختاره الاخفش، ومن قرأ بالياء رده إلى ذكر الله في قوله: " إن الله كان بكم رحيما ".

المعنى: والمعاصي وإن كانت كلها عندنا كبائر، من حيث كانت معصية لله تعالى، فانا نقول: إن بعضها أكبر من بعض، ففيها إذا كبير بالاضافة إلى ماهو أصغر منه.

وقال ابن عباس: كلما نهى الله عنه فهو كبير.

وقال سعيد بن جبير: كلما أوعدالله عليه النار فهو كبير، ومثله قال أبوالعالية، ومجاهد، والضحاك.

وعند المعتزلة أن كل معصية توعدالله تعالى عليها بالعقاب، أو ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله أو كان بمنزلة ذلك، أو أكبر منه، فهو كبير، وما ليس ذلك حكمه فانه يجوز أن يكون صغيرا، ويجوز أن يكون كبيرا، ولايجوز أن يعين الله الصغائر، لان في تعيينها الاغراء بفعلها، فمن المعاصي المقطوع على كونها كبائر: قذف المحصنات:

___________________________________

(1) قائله أمية بن أبي الصلت. ديوانه: 62 ومعاني القرآن للقراء 1: 264 والخزانة 1: 120، واللسان (إمسى).

(2) سورة الشعراء: آية 59. وسورة الدخان: آية 26

[183]

وقتل النفس التي حرم الله، والزنا، والربا، والفرار من الزحف في قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، ومثله عن أبي عبدالله (ع)، وزاد: وعقوق الوالدين، والشرك، وإنكار الولاية.

وقال ابن مسعود: كلما نهى الله عنه، من أول السورة إلى رأس الثلاثين، فهو كبير.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: عقوق الوالدين، وشهادة الزور، كبير.

فعلى مذهب المعتزلة: من اجتنب الكبائر، وواقع الصغائر، فان الله يكفر الصغائر عنه، ولايحسن مع اجتناب الكبائر عندهم المؤآخذة بالصغائر، ومتى آخذه بها كان ظالما.

وعندنا أنه يحسن من الله تعالى ان يؤآخذ العاصي بأي معصية فعلها، ولايجب عليه إسقاط عقاب معصية لمكان اجتناب ماهو أكبر منها، غير أنا نقول: إنه تعالى وعد تفضلا منه أن من اجتنب الكبائر فانه يكفر عنه ماسواها، بان يسقط عقابها عنه تفضلا، ولو أخذه بها لم يكن ظالما، ولم يعين الكبائر التي إذا اجتنبها كفر ما عداها، لانه لو فعل ذلك لكان فيه إغراء بما عداها، وذلك لايجوز في حكمته تعالى.

وقوله: " إن تجتنبوا كبائر " معناه من تركها جانبا والمدخل الكريم: هو الطيب الحسن المكرم بنفي الآفات والعاهات عنه.

وقوله تعالى: (ولاتتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما(32))

آية بلاخلاف.

القراء‌ة: قرأ ابن كثير، والكسائي " وسلوا " بغير همزة، وكذلك كلما كان أمر للمواجه في جميع القرآن، الباقون بالهمزة، ولم يختلفوا في: " وليسألوا ما انفقوا "(1) لانه أمر لغائب.

___________________________________

(1) سورة الممتحنة: آية 10.

[184]

قال أبوعلي الفارسي.

كلاهما جيد، إن ترك الهمزة واثباتها.

النزول: وقيل في سبب نزول هذه الآية أن أم سلمة قالت: (يارسول الله لانغزو مع الرجال، ولنانصف الميراث، ياليت كنا رجالا، فكنا نقاتل معهم) فنزلت هذه الآية، في قول مجاهد.

وقال الزجاج: قال الرجال: ليتنا كنا فضلنا في الآخرة على النساء، كما فضلنا عليهن في الدنيا، وبه قال السدي.

اللغة: والتمني هو قول القائل: ليت كان كذالما لم يكن، وليت لم يكن كذا لما كان.

وفي الناس من قال: هو معنى في القلب.

وقال الرماني: هوما يجب على جهة الاستمتاع به، ومن قال: هومعنى في القلب قال: ليس هو من قبيل الشهوة، ولا من قبيل الارادة، لان الارادة لاتتعلق إلابمايصح حدوثه، والتمني قد يتعلق بما مضى، والشهوة أيضا كالارادة في أنها لاتتعلق بما مضى.

المعنى: وظاهر الخطاب يقتضي تحريم تمني ما فضل الله به بعضنا على بعض وقال الفراء: هو على جهة الندب والاستحباب، والاول هو حقيقة التمني، والذي قلناه هو قول أكثر المفسرين، ووجه تحريم ذلك أنه يدعو إلى الحسد، وأيضا فهو من دنايا الاخلاق، وأيضا فان تمني الانسان لحال غيره قد يؤدي إلى تسخط ما قسم الله له، ولايجوز لاحد أن يقول ليت مال فلان لي، وإنما يحسن أن يقول: ليت مثله لي.

وقال البلخي: لايجوز للرجل أن يتمنى أن كان امرأة، ولاللمرأة أن تتمنى لو كانت رجلا، بخلاف ما فعل الله، لان الله لايفعل من الاشياء إلا ما هو أصلح، فيكون قد تمنى ما ليس بأصلح، أوما يكون مفسدة.

ويمكن أن يقال: إن ذلك يحسن بشرط أن لايكون مفسدة، كما يقول في حسن السؤال سواء.

[185]

وقوله: (وللرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) قيل في معناه أقوال: أحدها - أن لكل واحد حظا من الثواب على حسب ما كلفه الله من الطاعات بحسن تدبيره، فمتى فعل ذلك استحق به علو المنزلة، فلاتتمنوا خلاف هذا التدبير، لما فيه من حرمان الحظ الجزيل.

الثاني - أن كل أحد إنما له جزاء ما اكتسب، فلا يضيعه بتمني ما لغيره، ممايؤدي إلى إبطال عمله، فكأنه قيل: لاتضيع ما هو لك، بتمني ما لغيرك.

والثالث - أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب من نعيم الدنيا، بالتجارات والزراعات وغير ذلك من أنواع المكاسب، فينبغي أن يقنع ويرضى بما قسم له.

وروي عن ابن عباس أنه قال: ذلك في الميراث، للرجال نصيب منه، وللنساء نصيب منه.

والاجوبة الاولى أقرب، لان الميراث ليس مما يكتسبه الرجال والنساء، وإنما هو شئ يورثهم الله تعالى، والآية تضمنت أن لهم نصيبا مما اكتسبوا، وذلك لايليق إلابما تقدم.

وقوله: (واسألوا الله من فضله) معناه: إن احتجتم إلى ما لغيركم، فاسألوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله، بشرط أن لايكون فيه مفسدة لكم ولا لغيركم، لان المسألة لاتحسن إلا كذلك، وقال سعيد بن جبير: واسألوا الله العبادة، وبه قال السدي،، ومجاهد.

وقوله: (إن الله كان بكل شئ عليما) معناه: إنه قسم الارزاق على ماعلمه من الصلاح للعباد، بدلا من الفساد، فينبغي أن ترضوا بما قسمه، وتسألوه من فضله، غير منافسين لغيركم في عطيته.

[186]

قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مماترك الوالدان والا قربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا(33))

 آية بلاخلاف.

القراء‌ة، والاعراب، والحجة قرأأهل الكوفة " عقدت " بغير ألف، الباقون بألف، فمن قرأ باثبات الالف، قال: لان المعاقدة تدل على عقد الحلف باليمين من الفريقين، وقال بعضهم إنه يعني عن ذلك جميع الايمان، قال الرماني: هذا خطأ، لانها قد تجمع لردها على أحد الفريقين الحالف بها، قال أبوعلي الفارسي: الذكر الذي يعود من الصلة إلى الموصول ينبغي أن يكون منصوبا، فالتقدير: والذين عاقدتم أيمانكم، فجعل الايمان في اللفظ هي المعاقدة، والمعنى على الحالفين الذين هم أصحاب الايمان، فالمعنى: والذين عاقدت حلفهم أيمانكم، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، فعاقدت أشبه بهذا المعنى، لان لكل نفس من المعاقدين يمينا على المحالفة.

ومن قال: " عقدت أيمانكم " كل المعنى: عقدت حلفهم أيمانكم، فحذف الحلف، وأقام المضاف إليه مقامه، والاولون حملوا الكلام على المعنى، حيث كان من كل واحد من الفريقين يمين، ومن قال: " عقدت " حمل على اللفظ، لفظ الايمان، لان الفعل لم يسند إلى أصحاب الايمان في اللفظ، وإنما أسند إلى الايمان.

المعنى واللغة: ومعنى الآية جعلنا الميراث لكل من هومولى الميت، والموالي المذكورون في الآية، قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: هم العصبة، وقال السدي: هم الورثة: وهو أقواها، والتقدير ولكلكم جعلنا ورثة مماترك الوالدان والاقربون، ثم استانف: والذين. وأصل الموالي من ولي الشئ يليه ولاية، وهوالاتصال للشئ بالشئ، من غير فاصل، والمولى على وجوه: فالمولى المعتق، والمولى المعتق، والمولى العصبة،

[187]

والمولى إبن العم، والمولى الحليف، والمولى الولي، والمولى الاولى بالشئ والاحق. فالمعتق مولي النعمة بالعتق، والمعتق لانه مولى النعمة، والمولى الورثة، لانهم أولى بالميراث، والمولى الحليف، لانه يلي المحالف أمره بعقد اليمين، والمولى إبن العم، لانه يلي النصرة لتلك القرابة، والمولى الولي، لانه يلي بالنصرة.

وفي التنزيل: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لامولى لهم)(1) أي لاناصرلهم، وهو ناصر المؤمنين، والمولى السيد. لانه أولى بمن يسوده.

قال الاخطل:

فاصبحت مولاها من الناس كلهم *** وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

والمولى الاولى والاحق، ومنه قوله (ع): (أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل) أي بغير إذن من هو أولى بهاوأحق.

وقال الفضل ابن العباس في المولى بمعنى ابن العم:

مهلا بني عمنا مهلا موالينا *** لاتظهرون لنا ما كان مدفونا(2)

والمراد بقوله: (والذين عاقدت أيمانكم) قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - قال سعيد بن جبير، وقتادة، وعامر، والضحاك: إنهم الحلفاء.

الثاني - قال الحسن، وسعيد بن المسيب: هم رجال كانوا يتبنون، على عادة الجاهلية. ليجعل لهم نصيب من الوصية، ثم هلكوا، فذهب نصيبهم بهلاكهم.

الثالث - في رواية أخرى عن ابن عباس، وابن زيد انهم قوم آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله. والاول أقوى وأظهر في أقوال المفسرين.

وقال أبومسلم: أراد بذلك عقد المصاهرة والمناكحة.

وقال أبوعلي: الحليف لم يؤمر له بشئ أصلا، لانه عطف على قوله " ترك الوالدان والاقربون " أي: وترك الذين عاقدت أيمانكم، فآتوا كلا نصيبه من الميراث. وهذا ضعيف لانه

___________________________________

(1) سورة محمد: آية 11.

(2) مجاز القرآن لابي عبيدة 1: 125 والكامل للمبرد 2: 279 والحماسة للبحتري 1: 121 واللسان (ولي) وقد روي: لاتنبشوا بيننا ما كان مدفونا

[188]

يفيد التكرار، لان قوله: " الوالدان والاقربون " عام في كل أحد.

وعلى ما قال المفسرون، يكون قوله: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان) إذا كانوا مناسبين له، ثم استأنف حكم الحلفاء، فقال: " فآتوهم نصيبهم ".

فان قيل: بم يتصل قوله: " مما ترك الوالدان " وما العامل فيه؟ قيل فيه قولان: أحدهما - يتصل ب‍ (موالي) على جهة الصفة، والعامل الاستقرار، كأنه قال: موالي مما خلف الوالدان والاقربون، والذين عاقدت أيمانكم من الورثة. الثاني - يتصل بمحذوف، والتقدير: موالي يعطون مماترك الوالدان والاقربون، والذين عاقدت أيمانكم من الميراث.

وقال أبوعلي الجبائي تقديره: ولكل شئ مما ترك الوالدان والاقربون وارث من الميراث.

قال الرماني: وهذا لايجوز، لانه فصل بين الصفة والموصوف بما عمل في الموصوف، نحو: لكل رجل - جعلت درهما - فقير.

والنصيب الذي أمر به للحليف قيل فيه قولان: أحدهما - قال ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعامر، والضحاك: انه نصيب على ما كانوا يتوارثون بالحلف في الجاهلية، ثم نسخ ذلك بقوله: " وألوا الارحام بعضهم أولى ببعض ". الثاني - في رواية أخرى عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، والسدي: انه النصيب من النصرة والنصيحة دون الموارثة، فعلى هذا الآية غير منسوخة.

وروي عنه أنه قال: لاحلف في الاسلام، فأما ما كان في الجاهلية فلم يزده الاسلام إلا شدة.

وقوله: (إن الله كان على كل شئ شهيدا) أي: شاهدا، وذلك دال على أنه عالم به، لانه لايشهد إلا بماعلم.

[189]

قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا(34))

آية بلاخلاف.

القراء‌ة والنزول: قرأ أبوجعفر المدني: " بما حفظ الله " - بالنصب - ومعناه: بالذي حفظ الله، ويحتمل أن يكون معناه: بحفظ الله وهو ضعيف، لانه يكون حذف الفاعل وهو ضعيف. وسبب نزول هذه الآية ما قاله الحسن، وقتادة، وابن جريج، والسدي: أن رجلا لطم امرأته فجاء‌ت إلى االنبي صلى الله عليه وآله تلتمس القصاص، فنزلت الآية: " الرجال قوامون على النساء ".

المعنى واللغة: والمعنى: (الرجال قوامون على النساء) بالتأديب والتدبير لما " فضل الله " الرجال على النساء في العقل والرأي.

وكان الزهري يقول: ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس.

ويقال: رجل قيم، وقوام، وقيام.

ومعناه: إنهم يقومون بأمر المرأة بالطاعة لله ولهم.

وقوله: (فالصالحات قانتات) قال قتادة: وسفيان: معنى (قانتات) مطيعات لله ولازواجهن. وأصل القنوت دوام الطاعة، ومنه القنوت في الوتر لطول القيام.

وقوله: " حافظات للغيب بما حفظ الله " معناه، قال قتادة، وعطاء، وسفيان: حافظات لما غاب عنه أزواجهن من ماله، وما يجب من رعايته وحاله، وما يلزم من صيانتها نفسها له، " وبما حفظ الله " قال عطاء، والزجاج: أي بما حفظهن الله في مهورهن، وألزم الزوج النفقة عليهن.

وقال بعضهم: معناه، والله أعلم: بالشئ الذي يحفظ أمرالله، ودين الله.

وقوله: " واللاتي تخافون " قيل فيه قولان: أحدهما - تعلمون، لان خوف النشز للعلم بموقعه، فلذلك جاز أن توضع

[190]

مكان تعلم، كما قال الشاعر:

ولاتدفنني بالفلاة فانني *** أخاف إذامامت ألا أذوقها(1)

وقال آخر:

أتاني كلام عن نصيب يقوله *** وماخفت ياسلام انك عائبي(2)

وقال الفراء: معناه: ماظنت، ومنه قوله صلى الله عليه وآله: أمرت بالسواك حتى خفت أن أدرد.

الثاني - الخوف الذي هو خلاف الامن، كأنه قال: تخافون نشوزهن لعلمكم بالاحوال المؤذنة به، ذكره محمد بن كعب.

ومعنى النشوز ههنا: قال ابن عباس، والسدي، وعطاء، وابن زيد: انه معصية الزوج، وأصله الترفع على الزوج بخلافه، مأخوذا من قولهم: هو على نشز من الارض، أي ارتفاع، يقال: نشزت المرأة تنشز وتنشز، قرئ بهما: " وإذا قيل انشزوا فانشزوا "(3) فالنشوز يكون من قبل المرأة خاصة، والشقاق منهما.

وقوله: " فهظوهن " أي خوفوهن بالله، فان رجعن وإلا فاهجروهن في المضاجع. وقيل في معناه ثلاثة أقوال:

أحدها - قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، والسدي: هجر الكلام. وقال سعيد بن جبير: هوهجر الجماع. وقال مجاهد، والشعبي، وابراهيم: هو هجر المضاجعة، وهوقول أبي جعفر (ع). وقال: يحول ظهره إليها.

وقال بعضهم: " اهجروهن " اربطوهن بالهجار، من قولهم: هجر الرجل البعير إذا ربطه بالهجار، وقال امرؤ القيس:

رأت هلكا بنجاف الغبيط *** فكادت تجد لذاك الهجارا(4)

___________________________________

(1) انظر 2: تعليقة 2.

(2) انظر 2: 189، 244.

(3) سورة المجادلة: آية 11.

(4) ديوانه: 111 واللسان (هلك). الهلك الفراغ.

نجاف الغبيط: مدرعة البرذعة.

الهجار: حبل يسوى له عروتان في طرفيه ثم تشد احداهما في رسغ رجل الفرس وتزر وكذلك الاخرى.

[191]

وهذا تعسف في التأويل، ويضعفه قوله: " في المضاجع " ولايكون الرباط في المضجع. وأما الضرب فانه غير مبرح بلاخلاف قال أبوجعفر (ع): هو بالسواك. والمضاجع جمع مضجع، وأصله الاستلقاء، يقال: ضجع ضجوعا واضطجع اضطجاعا إذا استلقى للنوم، وأضجعته إذا وضعت جنبه بالارض، فكل شئ أملته فقد أضجعته.

وقوله: (فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن) أي لاتطلبوا، تقول: بغيت الضالة إذا طلبتها، قال الشاعر يصف الموت:

بغاك وما تبغيه حتى وجدته *** كأنك قد واعدته أمس موعدا(1)

وأصل الهجر الترك عن قلى، تقول: هجرت فلانا أي تركت كلامه عن قلى، والهجر القبيح من الكلام، لانه مهجور، والهجار حبل يشد به البعير، لانه يهجر به التصرف، والهاجرة نصف النهار، لانه وقت يهجر فيه العمل.

وقوله: " إن الله كان عليا كبيرا " أي متعاليا عن أن يكلف إلا بالحق، ومقدار الطاقة، وقد قيل: معناه إنه قادر عليه، قاهر له، وليس المراد به علو المكان، لان ذلك يستحيل عليه تعالى.

والكبير السيد، يقال: لسيد القوم كبيرهم، والمعنى: فان استقمن لكم فلاتطلبوا العلل في ضربهن، وسوء معاشرتهن، فان الله تعالى قادر على الانتصاف لهن.

قوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا(35))

آية بلاخلاف.

المعنى واللغة قوله: (وإن خفتم) في معناه قولان: أحدهما - إن علمتم. الثاني - الخوف الذي هو خلاف الامن، وهوالاصح، لانه لوعلم الشقاق يقينا لم يحتج إلى الحكمين، فان أريد به الظن كان قريبا مما قلناه.

___________________________________

(1) قائله سحيم بن الحسحاس ديوانه: 41 وروايته (الا وجدته) بدل (حتى وجدته).

[192]

والشقاق الخلاف، والعداوة، واشتقاقه من الشق، وهوالجزء الباين، ومنه إسم المتشاقين، لان كل واحد منهما في شق أي في ناحية، ومنه المشقة في الامر، لانه يشق على النفس، فأمر الله متى خيف ذلك بين الزوجين أن يبعثوا حكما من أهله وحكمامن أهلها، والحكم القيم بما يسندإليه.

والمأمور ببعث الحكمين قيل فيه قولان: أحدهما - قال سعيد بن جبير، والضحاك، وأكثر الفقهاء، وهو الظاهر في اخبارنا: انه السلطان الذي يترافعان إليه. والثاني - قال السدي: انه الرجل والمرأة، وقيل: أيهما كان ناب عن الآخر، وهو اختيار الطبري.

واختلف الفقهاء في الحكمين هل هما وكيلان، أو هما حكمان، فعندنا أنهما حكمان، وقال قوم: هما وكيلان، واختلفوا هل للحكمين أن يفرقا بالطلاق إن رأياه أم لا؟ فعندنا ليس لهما ذلك إلابعد أن يستأمراهما، أوكان اذن لهما في الاصل في ذلك، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد، عن أبيه.

ومن قال: هما وكيلان، قال: لهماذلك، ذهب إليه سعيدبن جبير، والشعبي، والسدي، وابراهيم، وشريح، ورووه عن علي (ع).

وقوله: (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) معناه يوفق الله بينهما، والضمير في بينهما عائد على الحكمين، والمعنى: إن أرادا إصلاحا في أمر الزوجين يوفق الله بينهما.

وبه قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي. وأصل التوفيق الموافقة، وهي المساواة في أمر من الامور.

والتوفيق هواللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة، والتوفيق بين نفسين هوالاصلاح بينهما، والاتفاق في الجنس والمذهب المساواة بينهما، والاتفاق في الوقوع كرمية من غير رام لمساواتهما نادرا.

[193]

وقوله: (إن الله كان عليما خبيرا) يعني بما يريد الحكمان من الاصلاح. أو الافساد.

وقيل معناه أنه عالم بما تعبدكم به، لعلمه بما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم.

" وشقاق بينهما " إنما أضافه إلى البين لان البين قد يكون اسما كما قال: " لقد تقطع بينكم "(1) ممن قرأ بالرفع.

قوله تعالى: (واعبدو الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لايحب من كان مختالا فخورا(36))

آية.

المعنى: هذا خطاب لجميع المكلفين، أمرهم الله بأن يعبدوه وحده، ولايشركوا بعبادته شيئا سواه " وبالوالدين إحسانا " نصب على المصدر، وتقديره: وأحسنوا إلى الوالدين إحسانا، ويحتمل أن يكون نصبا على تقدير: واستوصوا بالوالدين إحسانا، لان قوله: " اعبدوا الله " بمنزلة استوصوا بعبادة الله، وأن تحسنوا إلى ذي قرباكم، وإلى اليتامى الذين لاأب لهم، والمساكين وهم الفقراء، والجار ذي القربي، يعني الجار القريب.

اللغة: وأصل الجار العدول، جاوره مجاورة وجوارا، فهو مجاور له وجارله، لعدوله إلى ناحيته في مسكنه، والجور الظلم، لانه عدول عن الحق، ومنه جار السهم إذا عدل عن قصده، وجار عن الطريق إذا عدل عنه، واستجار بالله، لانه

___________________________________

(1) سورة الانعام: آية 94.

[194]

يسأله العدول به عن النار، وجواز الذمة، لانه عدول بها إلى ناحية صاحبها.

" والجار الجنب " أصل الجنب التنحية، جنبت فلانا عن كذا فتجنب أي نحيته، ومنه قوله: " واجنبني وبني أن نعبد الاصنام "(1) والجانبان الناحيتان، لتنحي كل واحدة عن الاخرى، ومنه جنب الانسان وكل حيوان، والاجتناب الترك للشئ، والجار الجنب معناه الغريب الاجنبي، لتنحيه عن القرابة، قال علقمة بن عبدة:

فلاتحرمني نائلا عن جنابة *** فاني امرؤ وسط القباب غريب(2)

أي عن غربة.

وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد: الجار ذي القربى القريب في النسب، والجار الجنب: الغريب، أي عن غربة.

وروي عن النبي (ص) أنه قال: الجيران ثلاثة، جارله ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الاسلام.

وجار له حقان: حق الجوار، وحق الاسلام. وجار له حق الجوار، المشرك من أهل الكتاب.

المعنى واللغة: " والصاحب بالجنب " قيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والضحاك: هوالرفيق.

الثاني - قال عبدالله بن مسعود، وعلي (ع) وابراهيم، وابن أبي ليلى: الزوجة.

الثالث - قال ابن زيد، وابن عباس،، في رواية أخرى عنه: إنه المنقطع اليك رجاء رفدك.

وقيل إنه جميع هؤلاء، وهو أعم فائدة.

وقال الزجاج. الجار ذي القربى الذي يقاربك ويعرفك وتعرفه، والجار الجنب البعيد.

___________________________________

(1) سورة ابراهيم: آية 35.

(2) ديوانه: 107 والمفضليات 789 والكامل للمبرد 437، واللسان (جنب).

[195]

وروي أن حد الجوار إلى أربعين دارا. وروي إلى أربعين ذراعا.

(وابن السبيل) معناه صاحب الطريق، وقيل في المراد به ههنا قولان: أحدهما - قال مجاهد، والربيع: إنه المسافر. الثاني - قال قتادة، والضحاك: انه الضيف، وقال إصحابنا: يدخل فيه الفريقان.

" وماملكت أيمانكم " يعني المماليك من العبيد والاماء، أمرالله بالاحسان إلى هؤلاء أجمع.

وقوله: " إن الله لايحب من كان مختالا " فالمختال الصلف التياه، والاختيال هو التطاول، وإنما ذكره الله ههنا وذمه، لانه أراد بذلك من يختال فيأنف من قراباته وجيرانه إذا كانوا فقراء، لكبره وتطاوله، فأما الاختيال في الحرب فممدوح، لان في ذلك تطاولا على العدو واستخفافا به.

وأصل المختال من التخيل، وهو التصور، فالمختال لانه يتخيل بحاله مرح البطر، ومنه الخيل، لانها تختال في مشيها، إي تتبختر، والخيال، لانه يتخيل به صاحبه، والاخيل الشقراق، لانه يتخيل في لونه الخضرة من غير خلوصها، والخول الحشم، وخلته راكبا خيلانا أي تخيلته، والخال المختال، والخال أخ الام، " والفخور " هوالذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا، وأما الذي يعددها اعترافا بالنعم فيها فهو شكور غير فخور.

وروي عن المفضل عن عاصم أنه قرأ: " والجار الجنب " - بفتح الجيم - قال أبوالحسن: هولغة في الجنب، قال الراجز: الناس جنب والامير جنب يعني ناحية: قال أبوعلي الفارسي: يحتمل أمرين: أحدهما - أن يريد الناحية، والتقدير: ذي الجنب، فحذف المضاف، لان المعنى مفهوم، لان الناحية لاتكون هي الجار.

والثاني - أن يكون وصفا، مثل: ضرب وندب وفسل، فهذا وصف جرى على موصوف.

[196]

قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا(37))

آية.

القراء‌ة: قرأ حمزة، والكسائي ههنا وفي الحديد: " بالبخل " بفتح الباء والخاء. الباقون بضم الباء وتسكين الخاء.

فمن نصب قال: لانه مصدر بخل يبخل بخلا، الباب كله هكذا، ومن اختار الضم وتسكين الخاء فلانه نقيض الجود فحمل على وزنه، فهما لغتان.

وحكي لغة ثالثة " بالبخل " - بفتح الباء وسكون الخاء.

الاعراب: وقوله: " الذين " يحتمل أن يكون موضعه نصبا من وجهين، ورفعا من وجهين، فأحد وجهي النصب أن يكون بدلا من " من " في قوله: " لايحب من كان ". والثاني - على الذم.

وأحد وجهي الرفع - على الاستئناف بالذم، ويكون خبره " إن الله لايظلم "(1) والآية الثانية عطفا عليها.

والوجه الثاني على البدل من الضمير في " فخور ". والبخل أصله مشقة الاعطاء.

المعنى واللغة: وقالوا في معناه ههنا قولان: أحدهما - أنه منع الواجب، لانه إسم ذم لايطلق إلا على مرتكب كبيرة. والثاني - هومنع مالاينفع منعه، ولايضر بذله، ومثله الشح، وضده الجود، والاول أليق بالآية، لانه تعالى نفى محبته عمن كان بهذه الصفة، وذلك لايليق إلابمنع الواجب.

قال الرماني: معناه منع الاحسان لمشقة الطباع، ونقيضه الجود وهو بذل الاحسان لانتفاء مشقة الطباع، وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد: إن الآية نزلت في اليهود، إذ بخلوا باظهار ما علموه وكتموه من صفة محمد (ص).

___________________________________

(1) سورة النساء: آية 4.

[197]

وقال الجبائي، والبلخي: الآية في كل من كان بهذه الصفة، وإنما ذكروا بالكفر لكتمانهم نعمة الله عليهم. والآمر بالبخل يتناوله الوعيد، كما أن من فعل البخل يتناوله الوعيد.

وقيل: معنى " يكتمون ما آتاهم الله من فضله " يجحدون اليسار والثروة اعتذارا في البخل، وقوله: " وأعتدنا " قدفسرناه فيما مضى وهو أن معناه أعددناه، وجعلناه ثابتا لهم " وللكافرين " يعني الجاحدين ما أنعم الله عليهم " عذابا مهينا " أي يهينهم ويذلهم.

قوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا(38))

آية بلاخلاف.

الاعراب: قوله: " والذين " عطف على " الذين " في الآية الاولى. واعرابه يحتمل ما قلناه في الآية الاولى سواء.

وقال الزجاج وغيره: المعني بهذه الآية المنافقون.

وقال مجاهد: المعني بها اليهود، والاول أقوى وأظهر، لان الرياء ضرب من النفاق وواو العطف يقوي ذلك، لانه لو أراد الموصوفين في الآية الاولى لقال: " الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس "، مع أنه قد ورد عطف الصفات بالواو لموصوف واحد على ما بيناه فيما مضى، غير أن الاجود ما قلناه.

المعنى واللغة: فذم الله تعالى بهذه الآية من ينفق ماله رئاء الناس دون أن ينفقه لوجهه وطلب رضاه، ولايؤمن بالله أي لايصدق به، " ولاباليوم الآخر " الذي فيه الثواب والعقاب.

ثم قال: " ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا " معناه من قبل من الشيطان، وأطاعه فيما يدعوه إليه فبئس القرين قرينه. والقرين أصله

[198]

الاقتران، ومنه قرن الثور لاقتران بعض ببعض، والقرن أهل العصر من الناس، وقرنة الشئ حرفه، والقرن المقاوم في الحرب، " وما كنا له مقرنين "(1) أي مطيقين، والقرين الصاحب المألوف.

قال عدي بن زيد:

عن المرء لاتسأل وأبصر قرينه *** فان القرين بالمقارن يقتدي(2)

ويمكن الانسان الانفكاك من مقارنة الشيطان بالمخالفة له، فلا يعتد بالمقارنة.

وقال أبوعلي: لايمكن ذلك، لانه يقرن به الشيطان في النار فلايمكنه الانفكاك منه، وقوله: " فساء قرينا " نصب على التفسير، كقوله: " ساء مثلا " وتقديره: ساء مثلا مثل الذين، وتقول: نعم رجلا، وتقديره نعم الرجل رجلا.

قوله تعالى: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وانفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما(39))

آية واحدة بلاخلاف.

المعنى والاعراب: معنى قوله: " وماذا عليهم.

" الآية الاحتجاج على المتخلفين عن الايمان بالله واليوم الآخر بماعليهم فيه ولهم، وذلك أنه يجب على الانسان أن يحاسب نفسه فيما عليه وله، فاذا ظهر له ما عليه في فعل المعصية من استحقاق العقاب اجتنبها، وماله في تركها من استحقاق الثواب عمل في ذلك من الاختيار له، أو الانصراف عنه.

وفي ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة في أن الكافر لايقدر على الايمان، لان الآية نزلت على أنه لاعذر للكفار في ترك الايمان، ولو كانوا غير قادرين لكان فيه أوضح العذر لهم، ولما جاز أن يقال: " وماذا عليهم لو آمنوا بالله " لانهم لايقدرون عليه، كمالايجوز أن يقال لاهل النار: ماذا عليهم لو خرجوا منها

___________________________________

(1) سورة الزخرف: آية 13.

(2) ديوانه في شعراء الجاهلية: 466، وقد شاعت روايته على ألسن الناس:

عن المرء لاتسأل وسل عن قرينه *** فكل قرين بالمقارن يقتدي

[199]

إلى الجنة، من حيث لايقدرون عليه، ولايجدون السبيل إليه، ولذلك لايجوز أن يقال للعاجز: ماذا عليه لوكان صحيحا، ولا للفقير: ماذا عليه لوكان غنيا.

وموضع " ذا " يحتمل من الاعراب وجهين: أحدهما - أن يكون رفعا، لانه في موضع الذي، وتقديره: ما الذي عليهم لوآمنوا. الثاني - لاموضع له، لانه مع (ما) بمنزلة إسم واحد، وتقديره: وأي شئ عليهم لو آمنوا بالله، ففي الآية تقريع على ترك الايمان بالله واليوم الآخر، وتوبيخ على الانفاق مما رزقهم الله في غير أبواب البر وسبيل الخير على وجه الاخلاص، دون الرياء.

وقوله: (وكان الله بهم عليما) معناه ههنا ان الله بهم عليم، يجازيهم بما يسرون من قليل أو كثير، فلا ينفعهم ما ينفقونه على جهة الرياء.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337819

  • التاريخ : 29/03/2024 - 06:18

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net