00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المائدة من ( آية 34 ـ 55) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثالث)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

[508]

قوله تعالى: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم(34))

آية بلاخلاف.

قال الزجاج يحتمل الذين ان يكون في موضع الرفع بالابتداء وخبره فاعلموا ان الله غفور رحيم والمعنى غفور رحيم لهم والمعنى لكن التائبون من قبل القدرة عليهم فالله غفوررحيم.

ويجوز أن يكون في موضع نصب بالاستثناء من قوله (فاعلموا أن الله غفور رحيم). لمابين الله حكم المحارب - على ما فصلناه - استثنا من جملتهم من يتوب مما ارتكبه قبل أن يؤخذ، ويقدر عليه لان توبته بعدحصوله في قبضة الامام، وقيام البينة عليه بذلك لاينفعه، ووجب اقامة الحد عليه.

واختلفوا فيمن تدرأ عنه التوبة الحدود: هل هو المشرك أو من كان مسلما من أهل الصلوة؟ فقال الحسن، وقتادة، ومجاهد والضحاك: هو المشرك دون من كان مسلما. فأما من أسلم، فانه لم يؤاخذ بما جناه إلا أن يكون معه عين مال قائمة فانه يجب عليه ردها وماعداه يسقط.

وأماعلي (ع) فانه حكم بذلك فيمن كان مسلما وهو حارثة بن بدر، لانه كان قد خرج محاربا ثم تاب فقبل علي (ع) توبته. وجعل له أمانا على يد سعيدبن قيس. وحكم به أبوموسى الاشعري في فلان المرادي جاء تائبا بعدكونه محاربا فقبل توبته.

وأبوهريرة في علي الاسدي وبه قال السدي ومالك بن أنس إلا أن مالكا قال يؤخذ بالدم اذا طالب به وليه.

وقال الليث بن سعيد لايؤاخذ به وقال الشافعي تضع توبته عنه حد الله الذي وجب لمحاربته، ولايسقط عنه

[509]

حقوق بني آدم وهو مذهبنا، فعلى هذا إن أسقط الآدمي حق نفسه ويكون ظهرت منه التوبة قبل ذلك لايقاص عليه الحد، وإن لم يكن ظهرت منه التوبة أقيم الحد، لانه محارب فيتحتم عليه الحد. وهوقول أبي علي. ولاخلاف أنه إذا اصيب المال بعينه في يده أنه يرد إلى أهله.

فاما المشرك المحارب فمتى أسلم وتاب سقطت عنه الحدود، سواء كان ذلك منه قبل القدرة عليه أو بعدها بلاخلاف.

فاما السارق إذا قدر عليه بعد التوبة وتكون التوبة منه بعد قيام البينة فانه لايسقط عنه الحد. وإن كان قبل قيام البينة اسقطت عنه.

وقال قوم: لاتسقط التوبة الحد عن السارق - ولم يفصل. وادعي في ذلك الاجماع. قالوا لان الله جعل هذا الحكم للمحارب بالاستثناء بقوله: " فاعلموا أن الله غفوررحيم " ولم يكن غير المحارب في معناه فيقاص عليه، لان ظاهر هذا التفرد وليس كذلك هو في المحارب الممتنع بفئة وفي الآية حجة على من قال لاتصح التوبة مع الاقامة على معصية أخرى يعلم صاحبها أنها معصية، لانه تعالى علق بالتوبة حكما لايحل به الاقامة على معصية هي السكر أو شرب نبيذ التمر على غير التأويل باجماع المسلمين.

قوله تعالى: ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون(35))

آية بلاخلاف.

خاطب الله في هذه الآية المؤمنين وأمرهم أن يتقوه ومعناه أن يتقوا معاصيه ويجتنبوها ويبتغوا اليه معناه يطلبون إليه الوسيلة وهي القربة في

[510]

قول الحسن ومجاهد وقتادة وعطا والسدي وابن زيد وعبدالله بن كثير وأبي وابل.

وهي على وزن (فعيلة) من قولهم توسلت اليك أي تقربت قال عنترة ابن شداد:

إن الرجال لهم اليك وسيلة *** أن يأخذوك فلجلجي وتخضبي

وقال الآخر:

اذا غفل الواشون عدنا لوصلنا *** وعاد التصافي بيننا والوسائل

يقال منه سلت أسال أي طلبت وهما يتساولان أي يطلب كل واحد منهما من صاحبه. والاصل الطلب والوسيلة التي ينبغي أن يطلب مثلها.

فان قيل كيف قال تعالى " اتقوا الله " وهو غاية التحذير مع أنه تعالى رغب في الدعاء اليه وهما كالمتنافرين؟ قيل إنماقال ذلك لئلا يكون المكلف على غرور من أمره بكثرة نعم الله عليه فيظن أنها موجبة للرضاء عنه فحقيقة. الدعاء اليه باتقائه من جهة اجتناب معاصيه والعمل بطاعته.

فان قيل هل يجوز أن يتقى المعاقب من أجل عقابه كما يحمد المحسن من أجل إحسانه.

قلنا: لا لان أصل الاتقاء الحجز بين الشيئين لئلا يصل أحدهما إلى الاخر من قولهم اتقاه بالترس. ومنه اتقاه بحقه، فالطاعة له تعالى حاجزة بين العقاب وبين العبد أن يصل إليه. وأما حمد الانسان، فمجاز لان المحمود في الحقيقة يستحق الولاية والكرامة.

وقوله: " وجاهدوا في سبيله " أمر منه تعالى بالجهاد في دين الله، لانه وصلة وطريق إلى ثوابه.

ويقال لكل شئ وسيلة إلى غيره هو طريق إليه فمن ذلك طاعة الله فهي طريق إلى ثوابه. والدليل على الشئ طريق إلى العلم به والتعرض للشئ طريق إلى الوقوع فيه واللطف طريق إلى طاعة الله والجهاد في سبيل الله قديكون باللسان واليد والقلب والسيف والقول والكتاب.

[511]

وقوله: (لعلكم تفلحون) يحتمل أمرين : أحدهما - اعملوا لتفلحوا ومعناه ويكون غرضكم الصلاح فهذا يصح مع اليقين. الثاني - اعملوه على رجاء الصلاح به فهذا مع الشك في خلوصه مما يحبطه وهذا الوجه لايصح إلا على مذهب من قال بالاحباط. فاما من لا يقول به فلا يصح ذلك فيه غير أنه يمكن أن يقال الشك فيه يجوز أن يكون في هل أوقعه على الوجه المأمور به أم لا؟ لانه لاحال إلا وهو يجوز أن يكون فرط فيما أمربه " والمفلحون " هم الفائزون بمافيه غاية صلاح أحوالهم.

قوله تعالى: إن الذين كفروا لو أن لهم مافي الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ماتقبل منهم ولهم عذاب اليم(36) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم(37))

آيتان بلاخلاف.

أخبر الله تعالى في هذه الآية " ان الذين كفروالو أن لهم مافي الارض جميعا ومثله معه " وافتدوا بجميع ذلك من العذاب الذي يستحقونه على كفرهم " ماتقبل منهم ". والذين في موضع نصب بان وخبر (ان) الجملة في (لو) وجوابها.

[512]

وقوله: " ولهم عذاب اليم " يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون في موضع الحال. والثاني - أن يكون عطفا على الخبر، ولايجوز أن يكون خبرا من " يريدون " أن يخرجوا من النار، وماهم بخارجين منها ".

و (لو) في موضع الحال كما تقول مررت بزيد لو رآه عدوه لرحمه، لانه في موضع معتمد الفائدة مع أن الثاني في استئناف (إنه) ولايحكم بقطع الخبر، وإنما اجيبت (لو) ب‍ (ما) ولم يجز أن يجاب (أن) ب‍ (ما) لان (ما) لها صدر الكلام وجواب (لو) لايخرجها من هذا المعنى كما لايخرجها جواب القسم، لانه غير عامل.

و (أن) عاملة فلذلك صلح أن يجاب ب‍ (لا) ولم يصلح ب‍ (ما) كقولك إن تأتي لايلحقك سوء، ولايجوز (ما) لان (لا) تنفي عمابعدها ماوجب لما قبلها في أصل موضوعها كقولك قام زيد لاعمرو و (ما) تنفي عمابعدها مالم يجب لغيرها، فلذلك كان لها صدر الكلام. وإنما نفى الله أن يقبل منهم فدية من غير تقييد بالتوبة، لامرين: أحدهما لانهم لايستحقون هذه الصفة لو وقعت منهم التوبة مع البيان عن أن الآخرة لاتقبل فيها توبة.

الثاني ان ذلك مقيد بدليل العقل والسمع الذي دل على وجوب اسقاط العقاب عندالتوبة كقوله " غافر الذنب وقابل التوب "(1) وعندنا أنه لم يقيده بالتوبة لان التوبة لايجب اسقاط العقاب عندها عندنا. وإنما يتفضل الله بذلك عندالتوبة فأراد الله أن يبين أن الخلاص من عقابه الذي استحق على الكفر به ومعاصيه لايستحق على وجه. وإنمايكون ذلك تفضلا على كل حال.

___________________________________

(1) سورة غافر آية 3.

[513]

واللام في قوله: " ولهم عذاب اليم " لام الملك لان حقيقتها الاضافة على معنى الاختصاص غير أنها إذا اضيفت تصح أن يكون فعلا إلى مايصح أن يكون فاعلا فالاضافة بمعنى اضافة الفعل إلى الفاعل نحو " إن قام زيد " ويجوز أن يكون على معنى المفعول بقرينة ككلام زيد ونحوه.

وقوله: " لو أن لهم مافي الارض جميعا " يدل على أنه ليس لهم مافي الارض جميعا، لانه لوكان لهم لكان الابلغ أن يقال يسلبون النعمة به من غير فدية تسقط عنهم شيئا من العقوبة.

وقوله: " يريدون أن يخرجوا من النار " في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - قال أبوعلي معناه يتمنون أن يخرجوا منها فجعل الارادة ههنا تمنيا.

وقال الحسن معناه الارادة على الحقيقة، لانه قال كلما رفعتهم النار بلهبها رجوا أن يخرجوا منها، وهوقوله: " كلما أرادوا أن يخرجوا منها اعيدوا فيها "(1).

وقال بعضهم معناه يكادون أن يخرجوا منها، إذا رفعتهم بلهبها كما قال - عزوجل - " جدارا يريد أن ينقض "(2) أي يكاد ويقارب. فان قيل كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بأنهم لايخرجون؟ قلنا: لان العلم بأن الشئ لايكون لايصرف عن إرادته. كماأن العلم بأنه يكون لايصرف عن إرادته وإنما يدعو إلى الارادة حسنها أو الحاجة اليها كما أن المراد بهذه المنزلة.

فان قيل: هل يجوز أن يطمعوا في الخروج من النار كماقال الحسن قلنا الخروج منها إلى غير عذاب يجري مجرى عذابها فلايجوز لعلمهم بأن العذاب دائم لايفتر عنهم فان كان معه العلم بأنهم لايخرجون منها لم يجز أن يطمعوا في الخروج، لان العلم ينافي

___________________________________

(1) سورة الم السجدة آية 20.

(2) سورة الكهف آية 78.

[514]

الطمع ولاينافي الارادة كمالايطمع العاقل في أن يعود في الدنيا شاباكما كان.

وقال أبوعلي: إنما يتمنون الخلاص منهاقبل دخولها، لمافي التمني من التروح، وليس ذلك من صفة أهلها. ولايجوز أن يقال في الكلام يريدون أن يستخرجون من النار كما جاز (علم أن سيكون منكم مرضى)(1) لان أن المخففة من الشديدة لتحقيق كائن في الحال أوالماضي أو المستقبل. وليس في الارادة تحقيق وقوع المراد لامحالة، كماليس في الامر تحقيق وقوع المأمور به، فلذلك لم يجز أمرته أن سيقوم، وجاز أمرته أن يقوم.

قوله " وما هم بخارجين منها " يعني من جهنم " ولهم عذاب مقيم " أي دائم ثابت لايزول ولايحول، كماقال الشاعر:

فان لكم بيوم الشعب مني *** عذابا دائما لكم مقيما

وروي أن نافع بن الازرق قال لابن عباس ياأعمى القلب ياأعمى البصر تزعم ان قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى: " وماهم بخارجين منها " ! فقال ابن عباس ويحك أو مافقهت هذه للكفار؟ !.

قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بماكسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم(38))

آية بلاخلاف.

وقوله " والسارق والسارقة " قال سيبويه الاجود فيه النصب ومثله " الزانية والزاني ". وبالنصب قرأ عيسى بن عمر وهوبخلاف ماعليه القراء لايجوز أن يقرأ به والوجه الرفع. ومثله " اللذان يأتيانها منكم فآذوهما ".

___________________________________

(1) سورة المزمل آية 20.

[515]

ويحتمل رفعهما شيئين: أحدهما - قال سيبويه إنه على تفسير فرض فيما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة. ومنه " واللذان يأتيانها منكم "(1).

الثاني - قال المبرد والفراء لان معناه الجزاء وتقديره من سرق فاقطعوه، وله صدر الكلام.

وقال الفراء ولو أردت سارقا بعينه لكان النصب الوجه ويفارق ذلك قولهم زيدا فاضربه، لانه ليس فيه معنى الجزاء.

وظاهر قوله " والسارق والسارقة " يقتضي عموم وجوب القطع على كل من يكون سارقا أوسارقة، لان الالف واللام إذا دخلا على الاسماء المشتقة أفادا الاستغراق إذالم يكونا للعهد دون تعريف الجنس - على ما ذهب اليه قوم -. وقد دللنا على ذلك في أصول الفقه.

فأما من قال القطع لايجب إلا على من كان سارقا مخصوصا من مكان مخصوص مقدارا مخصوصا وظاهر الآية لاينبئ عن تلك الشروط، فيجب أن تكون الآية مجملة مفتقرة إلى بيان، فقوله فاسد لان ظاهرالآية يقتضي وجوب القطع على كل من يسمى سارقا وإنما يحتاج إلى معرفة الشروط ليخرج من جملتهم. من لايجب قطعه فأما من يجب فانا نقطعه بالظاهر، فالآية مجملة فيمن لايجب قطعه دون من يجب قطعه فسقط ماقالوه.

وقوله " فاقطعوا أيديهما " أمر من الله بقطع أيدي السارق والسارقة.

والمعنى ايمانهما. وإنما جمعت أيدي لان كل شئ من شيئين، فتثنيته بلفظ الجمع كما قال - عزوجل -: " فقد صغت بكما "(2) وقال الفراء كلما

___________________________________

(1) سورة النساء آية 15.

(2) سورة التحريم آية 4.

[516]

كان في البدن منه واحد فتثنيته بلفظ الجمع لان أكثر أعضائه فيه منه اثنان، فحمل ماكان فيه الواحد على مثل ذلك، فقيل قلوبهما وظهورهما. كماقيل عيونهما وأيديهما.

وقال الفراء إنما فعلوا ذلك للفصل بين مافي البدن منه واحد وبين مافي البدن منه اثنان، فجعل مافي البدن منه واحد تثنيته وجمعه بلفظ واحدولم يثن أصلا، لان الاضافة تدل عليه، ولان التثنية جمع، لانه ضم شئ إلى شئ.

وإن ثني جاز قال الشاعر: ظهراهما مثل ظهور الترسين. فجمع بين الامرين.

وإنما اعتبرنا قطع الايمان، لاجماع المفسرين على ذلك.

كالحسن والسدي والشعبي وغيرهم.

وفي قراء‌ة ابن مسعود " والسارقون والسارقات فاقطعوا ايمانهما " والنصاب الذي يتعلق القطع به قيل فيه ستة أقوال: أولها - على مذهبنا، وهوربع دينار. وبه قال الاوزاعي والشافعي، لماروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال القطع في ربع دينار.

الثاني - ثلاثة دراهم وهوقيمة المجن. ذهب اليه مالك بن أنس.

الثالث - خمسة دراهم روي ذلك عن علي (ع) وعن عمر، وانهما قالا: لايقطع الخمس إلا في خمسة دراهم وهو اختيار أبي علي، قال: لانه بمنزلة من منع خمسة دراهم من الزكوة في أنه فاسق.

الرابع - قال الحسن: يقطع في درهم، لان مادونه تافه.

الخامس - عشرة دراهم ذهب اليه أبوحنيفة وأصحابه لما رووا أنه كان قيمة المجن عشرة دراهم.

السادس - قال أصحاب الظاهر وابن الزبير يقطع في القليل والكثير.

[517]

ولايقطع إلا من سرق من حرز. والحرز يختلف، فلكل شئ حرز يعتبر فيه حرز مثله في العادة.

وحده أصحابنا بأنه كل موضع لم يكن لغيره الدخول اليه والتصرف فيه إلا باذنه فهو حرز.

وقال أبوعلي الجبائي الحرز أن يكون في بيت أودار مغلق عليه وله من يراعيه ويحفظه. ومن سرق من غير حرز لايجب عليه القطع.

قال الرماني، لانه لايسمى سارقا حقيقة وإنما يقال ذلك مجازا كمايقال سرق كلمة أو معنى في شعر لانه لايطلق على هذا اسم سارق على كل حال.

وقال داود: يقطع اذا سرق من غير حرز. وكيفية القطع عندنا يجب من أصول الاصابع الاربعة ويترك الابهام والكف - وهو المشهور عن علي (ع): وقال اكثر الفقهاء: إنه يقطع من الرسغ. وهوالمفصل بين الكف والساعد. وقالت الخوارج يقطع من الكتف. وأما الرجل فعندنا تقطع الاصابع الاربعة من مشط القدم ويترك الابهام والعقب. دليلنا أن ماقلناه مجمع على وجوب قطعه. وماقالوه ليس عليه دليل.

ولفظ اليد يطلق على جميع اليد إلى الكتف ولايجب قطعه - بلاخلاف إلا ماحكيناه عمن لايعتدبه.

وقد استدل قوم من أصحابنا على صحة ماقلناه بقوله " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم "(1) وإنما يكتبونه بالاصابع. - والمعتمد ماقلناه - وعليه اجماع الفرقة المحقة. ومتى تاب السارق قبل أن يرفع إلى الامام. وظهر ذلك منه ثم قامت عليه البينة، فانه لايقطع. غير أنه يطالب بالسرقة وإن تاب بعدقيام البينة عليه وجب قطعه على كل حال.

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 79.

[518]

وقال الفقهاء يجب قطعه على كل حال. فان كان تاب كان قطعه امتحانا، وان لم يكن تاب كان عقوبة وجزاء. ومتى قطع فانه لايسقط عنه رد السرقة سواء‌كانت باقية أوهالكة، فان كانت باقية ردها - بلاخلاف - وإن كانت هالكة رد عندنا قيمتها.

وقال أبوحنيفة وأصحابه: لايجمع عليه القطع والغرامة معا، فان قطع سقطت الغرامة وان غرم سقط القطع. وقد دللنا على صحة ماقلناه - في مسائل الخلاف - ومتى سرق بعد قطع اليد دفعة ثانية قطعت رجله اليسرى حتى يكون من خلاف. فان سرق ثالثة حبس عندنا.

وبه قال الحسن.

وقال أبوعلي تقطع اليد الاخرى، فان سرق في الحبس قتل عندنا. ولا يعتبر ذلك أحد من الفقهاء وظاهر الآية يقتضي وجوب قطع العبد والامة إذا سرقا لتناول اسم السارق والسارقة لهما وقوله: " جزاء بما كسبا " معناه استحقاقا على فعلهما " نكالا من الله " أي عقوبة على ما فعلاه.

قال زهير:

ولولا أن ينال أبا طريف *** عذاب من خزيمة أو نكال

أي عقوبة.

ونصبه يحتمل أمرين: أحدهما - مفعول له وتقديره لجزاء فعلهما الثاني - نصب على المصدر الذي دل عليه فاقطعوا لان معنى فاقطعوا: جازوهم ونكلوا بهم.

وقال الازهري معناه لينكل غيره نكالا عن مثل فعله يقال نكل ينكل إذا جبن، فهو ناكل " والله عزيز حكيم " أي مقتدر لا يغالب " حكيم " فيما يأمر به من قطع السارق والسارقة، وفي غيره من الافعال.

[519]

قوله تعالى: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم(39))

آية بلا خلاف

أخبر الله تعالى أن من تاب وأقلع وندم على ماكان منه من فعل الظلم بالسرقة وغيرهما وفعل الفعل الجميل الصالح " فان الله يتوب عليه " ومعناه يقبل توبته باسقاط العقاب بها عن المعصية التي تاب منها. ووصف الله تعالى بانه يتوب على التائب فيه فائدة عظيمة، لان في ذلك ترغيبا للعاصي في فعل التوبة، ولذلك قال تعالى واصفا نفسه بأنه تواب رحيم.

ووصف العبد بأنه تواب معناه أواب وهي صفة مدح من أجل المدح على التوبة التي يسقط العقاب عندها. ولا خلاف في سقوطه عندها وهي الندم على ما مضى من القبيح أو الاخلال بالواجب والعزم على ترك الرجوع إلى مثله في القبح. وفي الناس من قال يكفي الندم مع العزم على ترك المعاودة. والذي ذكرناه أولى، لان سقوط العذاب عنده مجمع عليه. وان اختلفوا هل هو واجب أو تفضل؟ وما قالوه فيه خلاف. ويمكن التوبة من الحسن إلا أن حسنه لا يدعو إلى التوبة منه كما يدعو قبح القبيح إلى التوبة منه لكن قد يتوب الانسان منه لقبحه فيما يتوهمه أو لمضرة تلحقه به. ولا يجوز التوبة من الحسن كيف تصرفت الحال لانه تحريم لما ليس بحرام، وقبيح لما ليس بقبيح. ويمكن أن تكون التوبة من القبيح معصية لله كالذي يتوب من الالحاد ويدخل في النصرانية وقال مجاهد: ان الحد كفارة. وهذا غير صحيح، لان الله تعالى دل

[520]

على معنى الامر بالتوبة. وإنما يتوب المذنب من ذنبه. والحد من فعل غيره. وأيضا فمتى كان مصرا كان اقامة الحد عليه عقوبة. والعقوبة لاتكفر الخطيئة. كمالا يستحق بها الثواب.

وقوله " إن الله غفور رحيم " يدل على ما نذهب اليه من أن قبول التوبة واسقاط العقاب عندنا تفضل من الله، فلذلك صح وصفه بأنه غفور رحيم. ولو كان الغفران واجبا عند التوبة لم يلق به غفور رحيم.

الآية: 40 - 49

قوله تعالى: ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ قدير(40))

قيل فيمن يتوجه هذا الخطاب اليه قولان: أحدهما - انه متوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله والمراد به امته كما قال " يا ايها النبي إذا طلقتم النساء " والثاني - أنه متوجه إلى كل مكلف من الناس وتقديره: ألم تعلم يا انسان. واتصال هذا الخطاب بما قبله اتصال الحجاج والبيان عن صحة ما تقدم من الوعد والوعيد.

وما ذكره من الاحكام والمعنى ألم تعلم يا انسان " ان الله له ملك السموات والارض " يعني له التصرف فيهما من غير دافع ولا منازع " يعذب من يشاء " إذا كان مستحقا العقاب " ويغفر لمن يشاء " إذا عصاه ولم يتب، لانه إذا تاب، فقد وعد بأنه لا يؤاخذ به بعد التوبة. وعند المخالفة يقبح مؤاخذته بعدها. فعلى الوجهين معا لا يعلق ذلك بالمشيئة. وفي ذلك دلالة على أنه قادر على

[521]

أن يعاقب على وجه الجزاء، لانه لو لم يكن قادرا عليه لما كان فيه وجه مدح والله على كل شئ قدير " معناه ههنا أن من ملك السموات والارض وقدر على هذه الاجسام والاعراض التي يتصرف فيها ويديرها، فهو لا يعجزه شئ لقدرته على كل جنس من أجناس المعاني.

وقوله " على كل شئ قدير " عام في كل ما يصح أن يكون مقدرا له تعالى. ولا يحتاج إلى أن يقيد بذكر ما تصح القدرة عليه لامرين: أحدهما - ظهور الدلالة عليه، فجاز ألا يذكر في اللفظ والآخر - أن ذلك خارج فخرج المبالغة كما يقول القائل أتاني أهل الدنيا. ولعله لم يجئه الاخسسة فاستكثرهم.

قوله تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا أمنا بأفواهم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن او تيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الاخرة عذاب عظيم(41))

[522]

هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله نهاه الله أنه يحزنه الذين يسارعون في الكفر أي يبادرون فيه. و (يحزنك) - بفتح الياء وضمها - لغتان. وقد قرئ بهما. وقد قدمنا ذكره مستوفى من المنافقين " الذين قالوا آمنا " يعني صدقنا " بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " يعني لم تصدق قلوبهم " ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " وقف ههنا.

و " سماعون " فيه مبالغة من سامع مثل جابر وجبار. وقيل في رفع " سماعون " قولان: أحدهما - قال سيبويه رفع على الابتداء والخبر " من الذين هادوا كما تقول من قومك عقلاء الثاني - قال الزجاج: على أنه خبر الابتداء. وتقديره: المنافقون هم، واليهود سماعون للكذب.

وقيل في معنى ذلك قولان: أحدهما - " سماعون " كلامك للكذب عليك سماعون كلامك " لقوم آخرين لم يأتوك " ليكذبوا عليك اذا رجعوا اليهم أي هم عيون عليك وقيل انهم كانوا رسل أهل خيبر لم يحضروا. فلهذا جالسوك، هذا قول الحسن والزجاج وأبو علي.

الثاني - قال أهل التفسير " سماعون للكذب " قابلون له كما يقال لاتسمع من فلان أي لا تقبل منه، ومنه سمع الله لمن حسده " سماعون لقوم آخرين " ارسلوا بهم في قضية زان محصن. فقالوا لهم: إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وآله بالجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه، لانهم قد كانوا حرفوا حكم الجلد الذي في التوارة إلى جلد أربعين، وتسويد الوجه والاشهار على حمار. هذا قول ابن عباس، وجابر، وسعيد بن المسيب والسدي، وابن زيد.

[523]

وقال قتادة: إنما كان ذلك في قتيل منهم قالوا: إن أفتاكم بالدية فاقبلوه وإن أفتاكم بالقود فاحذروه.

وقال أبوجعفر (ع) نزلت الآية في أمر بني النضير وبني قريظة.

وقوله: " يحرفون الكلم " قيل في معنى (تحريفهم) قولان: أحدهما - تحريف كلام النبي صلى الله عليه وآله بعد سماعه، للكذب " يقولون إن أو تيتم هذا " أي دين اليهود فاقبلوه " وإن لم تؤتوه فاحذروا " أن تقبلوا خلافه - في قول الحسن وابي علي الثاني - جعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرا لحكم الله - في قول المفسرين.

وقوله: " من بعد مواضعه لان المعنى من بعد استقراره في مواضعه، ومضي الايام عليه.

وقال الزجاج من بعد أن فرض فروضه، وأحل حلاله، وحرم حرامه.

ولو قال مكان " بعد مواضعه " عن مواضعه لجاز، لان معناهما متقارب، هذا كما يقول القائل: أتيتك عن فراغي من الشغل، وبعد فراغي منه، ولا يجوز كما قياسا على ذلك أن تقول بدل قولك: رميت عن القوس، رميت بعد القوس، ولافي قولك: جاء زيد بعدعمرو، أن تقول: عن عمرو، لان المعنى يختلف. وذلك أن (عن) لما عدا الشئ الذي هو كالسبب له و (بعد) إنما هي لما تأخر عن كون الشئ، فما صح معنى السبب ومعنى التأخر جاز فيه الامران، وما لم يصح إلا أحد المعنيين لم يجز إلا احد الحرفين.

وقوله: " ومن يرد الله فتنته " في الفتنة ثلاثة أقوال: أحدها - قال الزجاج معناه من يرد فضيحته باظهار ما ينطوي عليه. الثاني - قال السدي من يردالله هلاكه.

[524]

الثالث - قال الحسن وأبوعلي والبلخي من يرد الله عذابه من قوله " يوم هم على النار يفتنون " أي يعذبون.

وقوله " ذوقوا فتنتكم " أي عذابكم.

وقوله " ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات " يعني الذين عذبوا. وأصل الفتنة التخليص من قولهم: فتنت الذهب في النار أي خلصته من الغش والفتنة الاختبار تسمى بذلك لما فيها من تخليص الحال لمن أراد الاضلال. وإنما أراد الحكم عليه بذلك بايراد الحجج. ففيه تمييز وتخليص لحالهم من حال غيرهم من المؤمنين. ومن فسره على العذاب فلانهم يحرقون كما يحرق خبث الذهب فهم خبث كلهم. ومن فسره على الفضيحة فلما فيها من الدلالة عليهم التي يتميزون بهامن غيرهم.

وقوله " اولئك لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " قيل فيه قولان: أحدهما - قال أبوعلي وغيره لم يرد الله أن يطهرها من الحرج والضيق الدال على دنس الكفر عقوبة لهم. الثاني - قال البلخي وغيره: لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم بأنها بريئة منه مندوحة بضده كما يطهر قلوب المؤمنين بذلك. ولايجوز أن يكون المراد بذلك الذين لم يرد الله منهم الايمان، لانه لو لم يكن مريدا منهم الايمان، لم يكن مكلفا لهم، لان التكليف هو إرادة ما فيه المشقة والكلفة، ولان الله أمرهم بالايمان - بلاخلاف - والامر لايكون أمرا إلا بارادة المأمور به على ما بين في غير موضع.

وقوله: " لهم في الدنيا خزي " يعني لهؤلاء الكفار والمنافقين الذين ذكرهم في الآية، فبين أن لهم خزيا عن عذاب الله في الدنيا وهو ما كان يفعله بهم من الذل والهوان، والبغض والزام الجزية على وجه الصغار " ولهم

[525]

في الآخرة عذاب عظيم " مضافا إلى عذاب الدنيا وخزيها.

وقال أبوجعفر (ع) وجماعة من المفسرين ذكرنا أسماء‌هم: إن امرأة من خيبر - في شرف منهم - زنت وهي محصنة فكرهوا رجمها، فأرسلوا إلى يهود المدينة يسألون النبي (ع) طمعا أن يكون أتى برخصة، فسألوه، فقال: هل ترضون بقضائي؟ قالوا: نعم، فانزل الله عليه الرجم، فأبوه.

فقال جبرائيل: سلهم عن إبن صوريا، ثم اجعله بينك وبينهم، فقال: تعرفون شابا أبيضا أعورا أمردا يسكن فدكا يقال له ابن صوريا؟ قالوا: نعم هو أعلم يهودي على ظهر الارض بما أنزل الله على موسى. قال: فارسلوا اليه فأسلوا فأتى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أنت عبدالله بن صوريا. قال: نعم. قال: أنت أعلم اليهود قال: كذلك يقولون.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فاني أنا شدك الله الذي لاإله إلا هو القوي إله بني اسرائيل الذي أخرجكم من أرض مصر، وفلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون، وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه، هل تجدون في كتابكم الذي جاء به موسى الرجم على من أحصن؟ قال عبدالله بن صوريا: نعم، والذي ذكرتني لولا مخافتي من رب التوراة أن يهلكني إن كتمت ما اعترفت لك به، فانزل الله فيه " يا أهل الكتاب قد جاء‌كم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير "(1) فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لناالكثير أمرت أن تعفو عنه، فأعرض النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك، ثم سأله ابن صوريا عن نومه وعن شبه الولد بأبيه وامه وما حظ الاب من

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 16.

[526]

أعضاء المولود؟ وما حظ الام؟ فقال: تنام عيناي ولاينام قلبي، والشبه يغلبه أي المائين علا، وللاب العظم والعصب والعروق، وللام اللحم والدم والشعر. فقال: أشهد أن أمرك أمر نبي، وأسلم، فشتسه اليهود.

فقال المنافقون لليهود: إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوه وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا.

وهوقوله: " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " يعني الجلد " وان لم تؤتوه فاحذروا " وسلاه عن ذلك بقوله: " لايحزنك الذين يسارعون في الكفر " فلما أرادوا الانصراف تعلقت قريظة بالنضير، فقالوا ياأبا القاسم - وكانوا يكرهون أن يقولوا يامحمد لئلا يوافق ذلك ما في كتابهم من ذكره - هؤلاء اخواننا بنوا النضير اذا قتلوا منا قتيلا لايعطونا القود وأعطونا القود وأعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قلنا منهم قتيلا أخذوا القود ومعه سبعون وسقا من تمر، وإن أخذوا الدية أخذوا منا مئة وأربعين وسقا. وكذلك جراحاتنا على أنصاف جراحاتهم، فانزل الله تعالى " وان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط "(1) فحكم بينهم بالسواء، فقالوا: لانرضى بقضائك، فانزل الله " أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون "(2). ثم قال " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيهاحكم الله " شاهدا لك بما يخالفونك. ثم فسرما فيها من حكم الله فقال " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " الآية " فان تولوا " يعني بني النضير، لما قالوا لاتقبل حكمك " يصيبهم ببعض ذنوبهم " وهو أجلاؤهم من ديارهم.

___________________________________

(1) سورة 5 المائدة آية 53.

(2) سورة 5 المائدة آية 46.

[527]

واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية.

وقال السيدي نزلت في ابي لبابة الانصاري لقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وآله: إنما هو الذبح فلا تنزلوا على حكم سعد.

وقال عكرمة وعامر الشعبي: نزلت في رجل من اليهود قتل رجلا من أهل دينه فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين سلوا لي محمدا صلى الله عليه وآله فان بعث بالدية اختصمنا اليه وان كان يأمرنا بالقتل لم نأته.

وقال أبوهريرة: نزلت في عبدالله بن صوريا، وذلك أنه ارتد بعد إسلامه على ما وصفناه عن أبي جعفر (ع) وقال ابن جريج ومجاهد: نزلت في المنافقين وهم السماعون لقوم آخرين والاصح من هذه الاقوال أنها نزلت في ابن صوريا على ما قدمناه عن أبي جعفر (ع) وهواختيار الطبري لانه رواه أبوهريرة والبراء بن عازب وهما صحابيان.

قوله تعالى: سماعون للكذب أكالون للسحت فان جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين(42))

آية

قرأ السحت - بضم السين والحاء - ابن كثير وأهل البصرة والكسائي وأبوجعفر (ع) الباقون باسكان الحاء.

وقوله: " سماعون للكذب " وصف لهؤلاء اليهود الذين تقدم وصفهم. ورفعه كما رفع سماعون الاول سواء، لانه صفة بعد صفة. وقد يجوز

[528]

النصب في الموضعين على القطع لكن لم يقرأبه، وقد فسرنا معنى الكذب.

وقوله: " أكالون للسحت " معناه أنه يكثر أكلهم للسحت، وهو الحرام.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (السحت الرشوة في الحكم) وفي السحت لغتان ضم الحاء وإسكانها. وقد قري بهماعلى ما بيناه، فالسحت اسم للشئ المسحوت وليس بمصدر، المصدر بفتح السين.

وقال الحسن سمعوا كذبه وأكلوا رشوته.

وقال ابن مسعود وقتادة وابراهيم ومجاهد والضحاك والسدي: السحت الرشى وروي عن علي (ع) أنه قال: (السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل، وكسب الحجام، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان الكاهن والاستعجال في المعصية).

وروي عن ابي هريرة مثله.

وقال مسروق سألت عبدالله عن الجور في الحكم قال: ذلك الكفر، وعن السحت فقال الرجل يقضي لغيره الحاجة فيهدي له الهدية. وأصل السحت الاستئصال اسحت الرجل إسحاتا وهو أن يستأصل كل شئ يقال: سحته وأسحته اذا استأصله. وأذهبه.

قال الفرزدق:

وعض زمان يابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحتا أو مجلف(1)

ويقال للحالق: اسحت أي استأصل.

ومنه قوله: " فيسحتكم بعذاب "(2) أي يستأصلكم به وفلان مسحوت المعدة اذاكان أكولا شرها.

___________________________________

(1) اللسان (جلف). عض زمان: ساء زمان. المسحت الشئ المهلك والمجلف - بضم الميم وتشديد اللام - الشئ الذي بقي منه بقية قليلة لايعتنى بها.

(2) سورة طه آية 61.

[529]

وقد اسحت ماله إذا أفسده وأذهبه. ففي اشتقاق السحت أربعة أقوال: قال الزجاج لانه يعقب عذاب الاستئصال والبوار.

وقال أبوعلي هو حرام لابركة فيه لاهله، لانه يهلك هلاك الاستئصال، وقال الخليل هوالقبيح الذي فيه العارنحو ثمن الكلب والخمر فعلى هذا يسحت مروة الانسان.

وقال بعضهم حرام يحمل عليه الشره، فهو كشره المسحوت المعدة.

وقوله: " فان جاؤك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم " قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن شهاب: خيره الله تعالى في الحكم بين اليهود في زناء المحصن، وفي رواية اخرى عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد أنه خيره في الحكم بينهم في قتيل قتل من اليهود. وكلا القولين قد رواه أصحابنا على ما قدمناه.

وروي أن عليا (ع) دخل في بيت المال فأفرط فيه ثم قال لا أمسي وفيك درهم ثم أمر رجلا فقسمه بين الناس، فقيل له لو عوضته شيئا، فقال إن شاء لكنه سحت وفي اختيار الحكام، والائمة الحكم بين أهل الذمة إذا احتكموا اليهم قولان: أحدهما - قال ابراهيم الشعبي وقتادة وعطاء والزجاج، والطبري، وهوالمروي عن علي (ع) والظاهر في رواياتنا أنه حكم ثابت والتخيير حاصل.

وقال الحسن وعكرمة، ومجاهد، والسدي، والحكم، وجعفر بن مبشر، واختاره الجبائي: أنه منسوخ بقوله " وان احكم بينهم بما أنزل الله "(1) فنسخ الاختيار وأوجب الحكم بينهم بالقسط، وهوالعدل يقال أقسط إقساطا إذا عدل " إن الله يحب المقسطين " يعني العادلين، وقسط يقسط قسوطا اذا جار.

ومنه قوله: " وأما القاسطون فكانوا لجهنم

___________________________________

(1) سورة المائدة آية 52.

[530]

حطبا "(1) أي الجائرون وقوله: " وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا " أي لايقدرون لك على ضرفي دين، ولادنيا، فدع النظر ان شئت وإن حكمت فاحكم بما أنزل الله.

قوله تعالى: وكيف يحكمونك وعندهم التورية فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(43))

آية بلاخلاف

المعنى: كيف يحكمك هؤلاء اليهود يا محمد بينهم، فيرضوا بك حكما، وعندهم التوراة فيها حكم الله التي أنزلها على موسى التي يقرون بها أنها كتابي وجه التعجب للنبي صلى الله عليه وآله وفيه تقريع لليهود الذين نزلت فيهم فكأنه قال الذي أنزلته على نبيي وإنه الحق وإن ما فيه حكم من حكمي لا يتناكرونه ويعلمونه، وهم مع ذلك يتولون: أي يتركون الحكم به جرأة علي كيف تقرون أيها اليهود بحكم نبيي محمد مع جحدكم نبوته، وتكذيبكم إياه وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه واجب وأنه حق من عند الله.

وقوله: " فيها حكم الله " قال أبوعلي فيه دليل على أنه لم ينسخ لانه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله كما لايطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت.

وقال الحسن " فيها حكم الله " بالرجم.

وقال قتادة وعصيانا لي.

___________________________________

(1) سورة الجن آية 15.

[531]

" فيها حكم الله " بالقود. فان قيل كيف يقولون " فيها حكم الله " وعندكم أنها محرفة مغيرة؟:. قلنا: على ما قال الحسن وقتادة لايتوجه، لانها وإن كانت مغيرة محرفة لايمتنع أن يكون فيها هذان الحكمان غير مبدلين، وهو رجم المحصن ووجوب القود. ويحتمل أن يكون المراد بذلك فيها حكم الله عندهم، لانهم لايقرون بأنها مغيرة بل يدعون أنهاهي التي أنزلت على موسى (ع) بعينها. والحكم هوفصل الامر على وجه الحكمة فيما يفصل به، وقد يفصل بالبيان أنه الحق وقد يفصل بالزام الحق والاخذ به كما يفصل الحكام بين الخصوم بمايقطع الخصومة وتثبت القضية.

وقوله: " ثم يتولون " فالتولي هو الانصراف عن الشئ والتولي عن الحق. الترك له. وهوخلاف التولي اليه، لان الاقبال عليه والتولي له فالله صرف النصرة والمعونة اليه ومنه تولي الله للمؤمنين.

وقوله: " من بعد ذلك " قال عبدالله بن كثير: إشارة إلى حكم الله في التوراة.

وقال قوم هو إشارة إلى تحكيمك، لانهم ليسوا منه على ثقة، وإنما طلبوا به الرخصة.

وقوله: " وما اولئك بالمؤمنين " قيل في معناه قولان: أحدهما - وما هم بالمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم نبوتك والعدول عما يعتقدونه حكما لله فيه لاعلى من يقرون بنبوته، فبين أن حالهم ينافي حال المؤمن به. والثاني - قال أبوعلي أن من طلب غيرحكم الله من حيث لم يرض به فهو كافر بالله وهكذا هؤلاء اليهود.

[532]

قوله تعالى: إنا انزلنا التورية فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولاتشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون(44))

آية

عند الجميع قرأ " اخشوني " بياء في الوصل أهل البصرة وأبوجعفر، واسماعيل، ويقف يعقوب بالياء. أخبر الله تعالى أنه الذي أنزل التوراة فيها هدى أي بيان أن أمر النبي حق وأن ما سألوك عنه في حكم الزانيين حق، والقود حق " ونور " يعني فيها جلاء ما أظلم عليهم وضياء ما التبس عيلهم " يحكم بها النبيون الذين اسلموا " يعني يحكم بالتوراة النبيون الذين أذعنوا بحكم الله وأقروا به.

وقال الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي: إن النبي صلى الله عليه وآله داخل في ذلك، بل قال أكثرهم: هوالمعني بذلك لما حكم في رجم المحصن، ولايدل ذلك على أنه كان متعبدا بشرع موسى (ع) لان الله تعالى هو الذي أوجب عليه بوحي أنزل عليه لابالرجوع إلى التوراة فصار ذلك شرعاله وإن وافق ما في التوراة وإنمانبه اليهود بذلك على صحة نبوته من حيث علم ماهو من غامض علم التوراة ومما قد التبس على كثير منهم وهو قد عرف ذلك من غير قراء‌ة كتبهم، والرجوع إلى علمائهم، فلم يكن ذلك إلا باعلام الله له ذلك وذلك من دلائل صدقه (صلى الله عليه وآله).

[533]

وقوله: " للذين هادوا " العامل في (الذين) أحد شيئين: أحدهما (يحكم) في قول الزجاج وابي علي وجماعة من أهل التأويل. والثاني - قال قوم العامل (أنزلنا) كأنه قال أنزلناها للذين هادوا. والربانيون. قد فسرناه فيما مضى(1) وهو جمع رباني وهم العلماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم، قال السدي: عنابه ابن صوريا.

وقال الباقون - وهو الاولى - إنه على الجمع، والاحبار جمع حبر، وهو العالم مشتق من التحبير وهو التحسين فالعالم يحسن الحسن ويقبح القبيح، وقال الفراء، أكثر ما سمعت فيه حبر بالكسر.

وقوله " بما استحفظوا " معناه بما استودعوا. والعامل في الباء أحد سببين: أحدهما - " الاحبار " كأنه قال العلماء بما استحفظوا. والثاني - (يحكم) بما استحفظوا.

وقوله: " وكانوا عليه شهداء " قيل في معناه قولان: أحدهما - قال ابن عباس شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وآله في التوراة. الثاني - شهداء على ذلك الحكم أنه الحق من عند الله.

وقوله: " فلا تخشوا الناس واخشوني " قيل في معناه قولان: أحدهما - لاتخشوهم ياعلماء اليهود في كتمان ما أنزلت ذهب اليه السدي. الثاني - لاتخشوهم في الحكم بغير ما انزلت بل اخشوني فان النفع والضر بيدي " ولاتشتروا بآياتي ثمنا قليلا " معناه لاتأخذوا بترك الحكم الذي أنزلته على موسى (ع) أيها الاحبار خسيسا. وهوالثمن القليل. وإنما

___________________________________

(1) في تفسير آية 79 من سورة آل عمران المجلد الثاني ص 110 - 111.

[534]

نهاهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله وتغييرهم حكمه، وهوقول ابن زيد والسدي.

وقوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون " معناه من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكما بين عباده، فأخفاه وحكم بغيره: من رجم المحصن والقود " فاولئك هم الكافرون ". واختلفوا هل الآية على عمومها أم لا؟ فقال ابن مسعود والحسن وابراهيم هي على عمومها.

وقال ابن عباس: هي في الجاحد لحكم الله. وقيل في اليهود خاصة في قول الجبائي، لانه قال لاحجة للخوارج فيهامن حيث هي خاصة في اليهود.

وقال البلخي يجوز أن تكون (من) بمعنى (الذي) وتكون للعهد، وهومن تقدم ذكره من اليهود. ويحتمل أن يكون خرج مخرج الشتم لاعلى وجه المجازاة كما يقول القائل: من فعل كذا فهو الذي لاحسب له ولاأصل، ولايريد أنه استحق الدناء‌ة بالفعل الذي ذكروا أنه إنما كان غير حسيب من أجل فعله وإنما يريدون الشتم وإن كان قد يفعل ذلك لعارض الحسيب العظيم الهمة.

واختار الرماني قول ابن مسعود غير أنه قال الحكم هو فصل الامر على وجه الحكمة عند الحاكم بخلاف ما أنزل الله، لانه بمنزلة من قال الحكمة خلاف ما أنزل الله. والاولى أن تقول هي عامة فيمن حكم بغير ما أنزل الله مستحلا لذلك، فانه يكون كافرا بذلك - بلاخلاف - ومتى لم يكن كذلك فالآية خاصة على ما قاله ابن عباس في الجاحدين أو ما قاله أبوعلي في اليهود.

وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله أن هذه الآيات الثلاث: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون. ومن لم يحكم بما أنزل الله

[535]

فاولئك هم الظالمون. ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون " في الكفار خاصة، وبه قال ابن مسعود وأبوصالح. وقال ليس في أهل الاسلام منها شئ وبه قال الضحاك وأبومجلز وعكرمة وقتادة.

وقال الشعبي: نزلت " الكافرون " في المسلمين " والظالمون " في اليهود " والفاسقون " في النصارى وقال عطا وطاووس أراد به كفرا دون كفر، وظلما دون ظلم، وفسقا دون فسق. ورووه عن ابن.

وقال ابراهيم هي عامة في بني اسرائيل وغيرهم من المسلمين، وبه قال الحسن: وقد بينا الاقوى من هذه الاقاويل.

قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون(45))

آية بلاخلاف

قرأ الكسائي " والعين بالعين والانف والاذن بالاذن والسن بالسن " بالرفع فيهن.

وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وأنه كان يقرأ به.

وقرأ نافع " الاذن " بسكون الذال حيث وقع.

وقرأ نافع وعاصم وحمزة وخلف ويعقوب " والجروح قصاص " بالنصب.

قوله " وكتبنا " أي فرضنا عليهم يعني اليهود الذين تقدم ذكرهم " فيها " يعني في التوراة " أن النفس بالنفس " ومعناه إذاقتلت نفس نفسا أخرى متعمدا أنه يستحق عليها القود إذا كان القاتل عاقلا مميزا، وكان

[536]

المقتول مكافيا للقاتل، أما بأن يكونا مسلمين حرين أو كافرين أو مملوكين، فأما أن يكون القاتل حرا مسلما والمقتول كافراأو مملوكا فان عندنا لايقتل. وفيه خلاف بين الفقهاء. وإن كان القاتل مملوكاأو كافراأو المقتول مثله أو فوقه فانه يقتل به - بلاخلاف -.

وقوله: " والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص " من نصب جميع ذلك عطفه على المنصوب بواو الاشتراك ثم استأنف، فقال والجروح قصاص. ومن نصب الجروح عطفها على ما قبلها من المنصوبات. ومن لم ينصب غير النفس فعلى أن ذلك هو المكتوب عليهم. ثم ابتدأ ما بعده بيانا مبتدأ. ويحتمل أن يكون الواو عاطفة جملة على جملة ولايكون الاشتراك فيمن نصب.

ويحتمل أن يكون حمل على المعنى، لان التقدير قلنا لهم " ان النفس بالنفس " فحمل " العين بالعين " على المعنى دون اللفظ. ويحتمل أن يكون عطف على الذكر المرفوع في الظرف الذي هو الخبر، وإن لم يؤكد المعطوف عليه بضمير منفصل، كما قال " لوشاء الله ما أشركنا ولاآباؤنا "(1) فلم يؤكد كما أكد في قوله: " يراكم هو وقبيله "(2) ذكر الوجوه الثلاثة الزجاج، وأبوعلي الفارسي ومن نصب الجميع جعل الكل فيما كتب عليهم. هذا وإن كان إخبار من الله أنه ما كتب عليهم في التوراة فانه لاخلاف أن ذلك ثابت في هذا الشرع ويراعى في قصاص الاعضاء ما يراعى في قصاص النفس من التكافؤ. ومتى لم يكونا متكافئين، فلاقصاص على الترتيب

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 148.

(2) سورة 7 الاعراف آية 26.

[537]

الذي رتبناه في النفس سواء. وفيه أيضا خلاف، ويراعى في الاعضاء التساوي أيضا، فلاتقلع العين اليمنى باليسرى، ولاتقطع اليمين باليسار. وتقطع الناقصة بالكاملة. فمن قطع يمين غيره وكانت يمين القاطع شللا.

قال أبو علي: يقال له إن شئت قطعت يمينه الشلاء أو تأخذ دية يدك. وقد ورد في أخبارنا أن يساره تقطع إذالم يكن للقاطع يمين، فأما عين الاعور، فانها تقلع بالعين التي قلعها سواء كانت المقلوعة عوراء أو لم تكن. وان قلعت العين العوراء كان فيهاكمال الدية إذا كانت خلقة أو ذهبت بآفة من الله أو يقلع احدى عيني القالع ويلزمه مع ذلك نصف الدية. وفي ذلك خلاف ذكرناه في الخلاف.

وأما الجروح، فانه يقتص منها إذا كان الجارح مكافيا للمجروح على ما بيناه في النفس، وتقتص بمثل جراحته الموضحة بالموضحة والهاشمة بالهاشمة والمنقلة بالمنقلة(1) ولاقصاص في المأمومة وهي التي ام الرأس ولاالجايفة، وهي التي تبلغ الجوف، لان في القصاص منها تعزيرا بالنفس. ولاينبغي أن يقتص من الجراح إلابعد أن تندمل من المجروح، فاذا اندمل اقتص حينئذ

___________________________________

(1) الموضحة هي الجراح التي بلغة العظم فأوضحت عنه.

(الهاشمة) قيل: شجة تهشم العظم.

وقيل: هي التي هشمت العظم ولم يتباين فراشه.

وقيل هي التي هشمت العظم فنقش واخرج، فتباين فراشه.

و (المنقلة) - بكسر القاف وتشديده - هي التي تنقل العظم أي تكسره حتى يخرج منها فراش العظم وهي قشور تكون على العظم دون اللحم.

وفيها أقوال أخر وروايات في الشرع من شاء فليراجع كتب الفقه الاستدلالية.

[538]

من الجارح. وإن سرت إلى النفس كان فيها القود. وكسر العظم لاقصاص فيه، وإنما فيه الدية. وكل جارحة كانت ناقصة فاذا قطعت كان فيها حكومة. ولايقتص لها الجارحة الكاملة كيد شلاء وعين لاتبصروسن سوداء متأكلة(1)، فان جميع ذلك حكومة لاتبلغ دية تلك الجارحة. وقد روي أن في هذه الاشياء مقدرا وهو ثلث دية العضو الصحيح. وتفصيل أحكام الجنايات والديات استوفيناه في النهاية والمبسوط في الفقه لانطول بذكره ههنا.

وقوله: " فمن تصدق‌به فهو كفارة له " الهاء في " كفارة له " يحتمل عودها إلى أحد أمرين: أحدهما - وهوالاقوى - ماقاله عبدالله بن عمر والحسن وقتادة وابن زيد وابراهيم - على خلاف عنه - والشعبي بخلاف عنه: إنها عائدة على المتصدق من المجروح أوولي المقتول، لانه إذا تصدق بذلك على الجارح لوجه الله كفر الله عنه بذلك عقوبة ما مضى من معاصيه. الثاني - على المتصدق عليه لانه يقوم مقام أخذ الحق عنه ذهب اليه ابن عباس ومجاهد، وإنما رجحنا الاول، لان العائد يجب أن يرجع إلى مذكور، وهو من تصدق، والمتصدق عليه لم يجر له ذكر، ومعنى " من تصدق " به عفا عن الحق واسقط.

فان قيل: هل يكفر الذنب إلا التوبة أو اجتناب الكبيرة؟ قلنا: على مذهبنا يجوز أن يكفر الذنب شئ من أفعال الخير، ويجوز أن يتفضل الله باسقاط عقابها.

___________________________________

(1) (المتأكلة) هي السن المحتكة اما من الكبر أو من عاهة فيها وهي أيضا السن التي قد ذهب منها شئ وبقي منها بقية.

[539]

وقال قوم: يجوز أن يكفر بالطاعة الصغيرة حتى يسقط بها.

وقوله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون " قد بينا أن في الناس من قال ذلك يختص باليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله في التوراة من القود والرجم. ويمكن أن يحمل على عمومه في كل من لم يحكم بما أنزل الله وحكم بخلافه بأنه يكون ظالما لنفسه بارتكاب المعصية الموجبة للعقاب. وهذا الوجه يوجب أن ما تقدم ذكره من الاحكام يجب العلم به في هذا الشرع وإن كان مكتوبا في التوراة.

قوله تعالى: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين(46))

آية عند الجميع

قوله: (وقفينا) معناه أتبعنا يقال: قفاه يقفوه وقفوا ومنه قافية الشعر لانها تتبع الوزن ومنه القفا، ويثنى قفوان، واستقفاه إذا قفاأثره ليسلبه. والقفي الضيف، لانه يقفى بالبر واللطف.

وقوله " على آثارهم " فالآثار جمع أثر وهوالعسل الذي يظهر للحس، وآثار القوم ما أبقوا من أعمالهم، ومنه المأثرة، وهي المكرمة التي يأثرها الخلف عن السلف، لانها عمل يظهر نصا المنفس، والاثير الكريم على القوم لانهم يؤثرونه بالبر، ومنه الايثار بالاختيار، لانه اظهار أحد العملين على الآخر واستأثر فلان بالشئ إذا اختاره لنفسه.

[540]

والهاء والميم في قوله: " آثارهم " قيل فيمن يرجع اليه قولان: أحدهما - اختاره البلخي والرماني: انهما يرجعان إلى النبيين الذين أسلموا، وقدتقدم ذكرهم.

وقال أبوعلي يعودان على الذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره، لانه أقرب.

والاول أحسن في المعنى. وهذا أجود في العربية.

وقوله: " بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة " نصب مصدقا على الحال.

والمعنى أنه يصدق على مامضى من التوراة الذي أنزلها الله على موسى ويؤمن بها. وإنما قال لما مضى قبله بين يديه لانه إذا كان ما يأتي بعده خلفه، فالذي مضى قبله قدامه وبين يديه.

وقوله (وآتيناه الانجيل) يعني عيسى أنزلنا عليه الانجيل " فيه " يعني في الانجيل " هدى " يعني بيان، وحجة " ونور " سماه نورا لما فيه من الاهتداء به كما يهتدى بالنور و " هدى " رفع بالابتداء " وفيه " خبره قدم عليه.

و " نور " عطف عليه و " مصدقا لما بين يديه من التوراة " نصب على الحال وليس ذلك بتكرير لان الاول حال لعيسى (ع) وأنه يدعوا إلى التصديق بالتوراة.

والثاني - أن في الانجيل ذكر التصديق بالتوراة وهما مختلفان و " هدى " في موضع نصب بالعطف على " مصدقا ". و (موعظة) عطف على " هدى للمتقين ". وإنما اضافه إلى المتقين، لانهم المنتفعون بها. وقد مضى مثل ذلك فيما مضى.

والمتقون هم الذين يتقون معاصي الله وترك واجباته خوفا من عقابه والوعظ والموعظة هو الزجر عما كرهه الله إلى ما يحبه الله والتنبيه عليه.

[541]

قوله تعالى: وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون(47))

آية

قرأ حمزة (وليحكم) بكسر اللام، ونصب الميم.

الباقون بجزم الميم وسكون اللام على الامر.

حجة حمزة أنه جعل اللام متعلقة بقوله " وآتيناه الانجيل " لان إيتاء‌ه الانجيل انزال ذلك عليه، فصار كقوله " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس "(1) وحجة من جزم الميم انه جعله أمرا بدلالة قوله: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " فكما أمرالنبي صلى الله عليه وآله بالحكم بما أنزل عليه كذلك أمر عيسى (ع) بالحكم بما أنزل الله في الانجيل.

وفي معنى الامر قولان: أحدهما - وقلنا: " ليحكم أهل الانجيل " فيكون على حكاية ما فرض عليهم وحذف القول لدلالة ما قبله في قوله وقفينا، وآتيناكما قال: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم "(2) أي يقولون سلام عليكم. الثاني - أنه استأنف الامر لاهل الانجيل على غير حكاية، لان أحكامه كانت حينئذ موافقة لاحكام القرآن. ولم تنسخ بعد - هذا قول ابي علي - والاول أقوى - وهو اختيار الرماني.

وقوله: " بما أنزل الله فيه " يعني الانجيل، وهويذكر ويؤنث،

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 104.

(2) سورة 13 الرعد آية 25.

[542]

والانجيل إفعيل من النجل وهوالاصل، والنجل النزمن الماء.

والنجل الولد. والنجل القطع. ومنه سمي المنجل.

وقرأ الحسن (أنجيل) بفتح الهمزة وهوشاذ وهو ضعيف. لانه ليس في كلام العرب شئ على وزن (أفعيل) وإنما جزمت لام الامر ونصبت لام كي، لان لام الامر توجب معنى لايكون للاسم فأوجبت إعرابا لايكون للاسم ولام كي يقدر بعدها (أن) بمعنى الاسم.

وقوله: " ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الفاسقون " قيل فيه قولان: أحدهما - قال أبوعلي ان (من) بمعنى الذي وهوخبر عن قوم معرفين، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم. والثاني - قال غيره ان ذلك خرج مخرج المجاراة والمعنى أن من لم يحكم بما أنزل الله من المكلفين فهو فاسق، لان اطلاق الصفة يدل على أنه ذهب إلى ان الحكمة في خلاف ما أمر الله به، فلهذا كان كافرا.

وقال ابن زيد: الفاسقون - ههنا - وفي أكثر القرآن بمعنى الكاذبين كقوله " إن جاء‌كم فاسق "(1) يعني كاذب.

___________________________________

(1) سورة 49 الحجرات آية 6.

[543]

قوله تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواء‌هم عما جاء‌ك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون(48))

آية بلاخلاف

هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله بأنه تعالى أنزل إليه الكتاب يعني القرآن " بالحق مصدقا " نصب على الحال يصدق ما بين يديه من الكتاب يعني التوراة والانجيل وما فيهما من توحيد الله وعد له والدلالة على نبوته (ع) والحكم بالرجم والقود على ما تقدم ذكره. وفيه دلالة على أن ما حكاالله أنه كتبه عليهم في التوراة حكم بأنه يلزمنا العمل به، لانه جعل القرآن مصدقا لذلك ومهيمنا عليه.

وقيل في معنى (المهيمن) خمسة أقوال: أحدهما - قال ابن عباس والحسن وقتادة، ومجاهد: معناه أمين عليه وشاهد. وقال قوم: مؤتمن. وقال آخرون: شاهد. وقال آخرون حفيظ. وقال بعضهم: رقيب.

والاصل فيه (مؤيمن) فقبلت الهزة هاء، كما قيل في أرقت الماء: هرقت.

هذا قول ابي العباس والزجاج وقد صرف، فقيل (هيمن) الرجل إذا ارتقب، وحفظ وشهد، يهيمن هيمنة فهو مهيمن. وقال بعضهم مهيمنا - بفتح الميم الثانية - وهوشاذ.

وفي معنى المهيمن ههنا قولان: قال ابن عباس، والحسن، وأكثر المفسرين: إنه صفة للكتاب.

الثاني - قال مجاهد هو صفة النبي صلى الله عليه وآله والاول أقوى، لاجل حرف العطف، لانه قال: " فأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب " ثم قال: " ومهيمنا " ولايجوز أن يعطف على حال لغير الاول. لاتقول ضربت هند زيدا قاعدا وقائمة، ولو قلت قائمة بلاواو لكان جائزا.

[544]

ويجوز أن يكون عطفا على مصدقا ويكون مصدقا حالا للنبي صلى الله عليه وآله والاول أظهر.

وقوله " فاحكم بينهم بما أنزل الله " قال ابن عباس، والحسن، ومسروق: يدل على أن أهل الكتاب إذا ترافعوا إلى الحكام يجب أن يحكموا بينهم بحكم القرآن وشريعة الاسلام، لانه أمر من الله تعالى بالحكم بينهم والامر يقتضي الايجاب.

وقال أبوعلي ذلك نسخ بالتخيير في الحكم بين أهل الكتاب والاعراض عنهم والترك.

وقوله: " ولاتتبع أهواء هم " نهي له صلى الله عليه وآله عن اتباع أهوائهم في الحكم، لايدل ذلك على أنه كان اتبع أهواء‌هم، لانه مثل قوله " لئن اشركت ليحبطن عملك "(1) ولايدل ذلك على أن الشرك كان وقع منه.

وقوله " عما جاء‌ك من الحق " أي لاتتبع أهواء‌هم عادلا عما جاء‌ك من الحق.

وقوله " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " فالشرعة والشريعة واحد وهي الطريقة الظاهرة. والشريعة هي الطريق الذي يوصل منه إلى الماء الذي فيه الحياة فقيل الشريعة في الدين أي الطريق الذي يوصل منه إلى الحياة في النعيم، وهي الامور التي تعبد الله - عزوجل - بها من جهة السمع قال الشاعر:

اتنسونني يوم الشريعة والقنا *** بصفين في لباتكم قد تكسرا

يريد شريعة الفرات والاصل فيه الظهور اشرعت القنا اذا أظهرته. وشرعت في الامر شروعا إذا دخلت فيه دخولا ظاهرا، والقوم في الامر شرع سواء أي متساوون.

والمنهاج الطريق المستمر يقال: طريق نهج ومنهج أي بين قال الراجز:

___________________________________

(1) سورة 39 الزمر آية 65.

[545]

من يك ذاشك فهذا فلج *** ماء رواء وطريق نهج(1)

وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر قال: وهذه الالفاظ إذا تكررت فلزيادة فائدة منه.

ومنه قول الحطيئة:

ألا حبذا هند وأرض هند *** وهند أتى من دونها النأي والبعد(2)

قال فالنأي لما قل بعده والبعد لما كثر بعده فالنأي للمفارقة، وقد جاء بمعنى واحد.

قال الشاعر:

حييت من طلل تقادم عهده *** أقوى واقفر بعد أم الهيثم

واقفر وأقوى معناهما خلا وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك " شرعة ومنهاجا " أي سنة وسبيلا والشرعة التي جعلت " لكل " قيل فيه قولان: احدهما - قال مجاهد شريعة القرآن لجميع الناس لو آمنوا به. الثاني - قال قتادة وغيره واختاره الجبائي أنه شريعة التوراة وشريعة الانجيل وشريعة القرآن.

وقوله " منكم " قيل في المعنى به قولان: أحدهما أمة نبينا وأمم الانبياء قبله على تغليب المخاطب على الغائب. الثاني - أنه أراد امة نبينا وحده، وهو قول مجاهد.

والاول أقوى لانه تعالى بين أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا غير شرعة صاحبه ويقوي ذلك قوله " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " ولوكان الامر على ماقال مجاهد لما كان لذلك معنى، لانه تعالى قد جعلهم أمة واحدة بأن أمرهم بالدخول فيها والانقياد لها.

___________________________________

(1) مجاز القرآن لابي عبيدة 1: 168 واللسان (روى). وقد رواه الطبري (من يك في شك).

(2) اللسان " نأى ".

[546]

وقوله " ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة " قيل في معناه أقوال: أحدها قال الحسن والجبائي انه اخبار عن القدرة كما قال " ولوشئنا لآتينا كل نفس هداها "(1).

الثاني قال البلخي معناه لو شاء الله لفعل ما يختارون عنده الكفر، لكنه لايفعله، لانه مناف للحكمة ولايلزم على ذلك أن يكون في مقدوره ما يؤمنون عنده فلا يفعله، لان ذلك لو كان مقدورا لوجب أن يفعله مالم يناف التكليف.

الثالث قال قوم: لو شاء الله لجمعهم على ملة واحدة في دعوة جميع الانبياء والاول أصح لان دعوة الانبياء تابعة للمصالح، فلايمكن جمع الناس على شريعة واحدة مع اختلاف المصالح.

الرابع قال الحسين بن علي المغربي: معناه لو شاء الله ألا يبعث اليهم نبيا، فيكونون متعبدين بما في العقل ويكونون أمة واحدة.

وأقوى الوجوه أولها.

وقوله " ولكن ليبلوكم فيما أتاكم " معناه ليختبركم بما كلفكم من العبادات وهو عالم بما يؤل اليه أمركم، لانه عالم لنفسه وقد فسرنا معنى البلوى فيما مضى.

" فاستبقوا الخيرات " قيل في معناه قولان: أحدهما - بادروا فوت الحظ بالتقدم في الخير. الثاني - بادروا الفوت بالموت ذكره الجبائي.

___________________________________

(1) سورة 32 حم السجدة آية 13.

[547]

وقوله " إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " أي إلى الله مرجعكم يعني إلى الموضع الذي لايملك أحد فيه لكم ضرا ولانفعا غيره فجعل رجوعهم إلى هذا الحد بالموت رجوعا اليه تعالى وبين أنه يعلمهم ما كانوا يختلفون فيه في الدنيا من أمر دينهم وأنه يحكم في ذلك بينهم بالحق.

قوله تعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواء‌هم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله ان يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون(49))

آية بلا خلاف

موضع " أن احكم " نصب والعامل فيها وانزلنا والتقدير وأنزلنا اليك أن احكم بينهم بما انزل الله. ويجوز أن يكون موضعها رفعا وتقديره ومن الواجب أن احكم بينهم بما أنزل الله. ووصلت أن بالامر ولايجوز صلة الذي بالامر لان (الذي) اسم ناقص مفتقر إلى صلة في البيان عنه فتجري مجرى صفة النكرة ولذلك لابد لها من عائد يعود اليها وليس كذلك " ان " لانهاحرف، وهي مع ما بعدها بمنزلة شئ واحد فلما كان في فعل الامر معنى المصدر جاز وصل الحرف به على معنى مصدره. وانما كرر الامر بالحكم بينهم، لامرين: أحدهما - أنهما حكمان أمر بهما جميعا لانهم احتكموا اليه في زناء المحصن ثم احتكموا اليه في قتيل كان منهم ذكره أبوعلي وهوالمروي عن ابي جعفر (ع).

[548]

الثاني - ان الامر الاول مطلق والثاني دل على أنه منزل.

وقوله " ولاتتبع أهواء‌هم " نهي له صلى الله عليه وآله أن يتبع أهواء‌هم فيحكم بما يهوونه.

وقوله " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك " في؟؟ قولان: أحدهما - قال ابن عباس احذرهم ان يضلوك عن ذلك إلى ما يهوون من الاحكام اطماعا منهم في الاستجابة إلى الاسلام. الثاني - قال ابن زيد احذرهم ان يضلوك بالكذب عن التوراة بما ليس فيها فاني قد بينت لك حكمها.

وقال الشعبي الآية وان خرجت مخرج الكلام على اليهود فان المجوس داخلون فيها.

وقوله " فان تولوا " معناه فان أعرضوا عن حكمك بما أنزل الله " فاعلم انما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " قيل في معناه أربعة أقوال: أحدها - قال الجبائي انه وان ذكر لفظ الخصوص فان المراد به العموم كما قد يذكر العموم ويراد به الخصوص.

الثاني - انه على تغليط العقاب أي يكفي أن يؤخذوا ببغض ذنوبهم في اهلاكهم والتدمير عليهم.

الثالث - ان يعجل بعض العقاب بما كان من التمرد في الاجرام لان ذلك من حكم الله في العباد.

الرابع - قال الحسين: ان المراد به اجلاء بني النضير بنقض العهد وقتل بني قريظة وقوله " وان كثيرامن الناس لفاسقون " معناه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله عن اتباع هؤلاء القوم إلى اجابته والاقرار بنبوته بأن قليلا من الناس الذين يؤمنون، وان الاكثرهم الفاسقون، فلا ينبغي ان يعظم ذلك عليك.

الآية: 50 - 59

[549]

قوله تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون(50))

آية بلا خلاف

قرأ (تبغون) بالتاء ابن عامر وحده الباقون بالياء. من قرأ بالتاء فعلى معنى قل لهم، ومن قرأ بالياء، فلان ما قبله على لفظ الغيبة وهو قوله " وان كثيرا من الناس لفاسقون " فحملوا عليه.

والكناية في قوله " افحكم الجاهلية تبغون " قيل فيها قولان: أحدهما - إنها كناية عن اليهود في قول مجاهد، وأبوعلي قال أبوعلي لانهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه. واذا وجب على أقويائهم بالغنى والشرف في الدنيا لم يأخذوهم به، فقيل لهم " أفحكم الجاهلية " يعني عبدة الاوثان " تبغون " وأنتم أهل كتاب.

الثاني - انها كناية عن كل من طلب غير حكم الله أي انما خرج منه إلى حكم الجاهلية. وكفى بذلك خزيا أن يحكم بما يوجبه الجهل دون ما يوجبه العلم.

ونصب " أفحكم الجاهلية يبغون " وهومفعول به ومعنى تبغون تطلبون يقال بغى يبغي بغيا اذا طلبه والبغاة هم الذين يطلبون التآمر على الناس والترأس بغيرحق والبغي الفاجرة لانها تطلب الفاحشة، ومنه قوله " ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله "(1) أي من طلب عليه الاستعلاء بالظلم.

___________________________________

(1) سورة الحج آية 60.

[550]

وقوله " ومن أحسن من الله حكما " نصب على التمييز أي فصلا بين الحق والباطل من غير محاباة، ولامقاربة لانه لايجوز للحاكم أن يحابي في الحكم بأن يعمل على ما يهواه بدلا مما يوجبه العدل وقد يكون حكم أحسن من حكم بأن يكون أولى منه وأفضل منه وكذلك لو حكم بحق يوافق هواه كان ما يخالف هواه أحسن مما يوافقه وقوله " لقوم يوقنون " معناه عند قوم يوقنون بالله وبحكمه فاقيمت اللام مقام (عند) هذا قول ابي علي، وهذا جائز إذا تقاربت المعاني ولم يقع اللبس لان حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض.

قوله تعالى: ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين(51))

آية

قوله " بعضهم أولياء بعض " إخبارمنه تعالى ان الكفار يوالي بعضهم بعضا وقوله " ومن يتولهم منكم " يعني من استنصرهم واتخذهم أنصارا فانه منهم أي محكوم له بحكمهم في وجوب لعنه والبراء‌ة منه ويحكم بأنه من أهل النار.

وقوله " ان الله لايهدي القوم الظالمين " معناه لايهديهم إلى طريق الجنة لكفرهم، واستحقاقهم العذاب الدائم بل يضلهم عنها إلى طريق النار، هذا قول ابي علي.

وقال غيره: معناه لايحكم لهم بحكم المؤمنين في المدح والثناء والنصرة على الاعداء.

[551]

قوله تعالى: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ماأسروا في أنفسهم نادمين(52))

آية بلاخلاف

هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله أعلمه الله أنه يرى الذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق " يقولون " في موضع الحال، وتقديره قائلين نخشى أن تصيبنا دائرة. الذين يخشون أن تصيبهم دائرة قيل فيه قولان: أحدهما - قال مجاهد وقتادة والسدي وأبوعلي الجبائي: إنهم قوم من المنافقين.

وقال عطية بن سعد وعبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت: إنه عبدالله ابن ابي بن سلول.

و " الدائرة " الدولة التي تحول إلى من كانت له عمن هي في يديه، قال الشاعر:

ترد عنك القدر المقدروا *** ودائرة الدهر أن تدورا(1)

يعني دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم.

وقوله " فعسى الله أن يأتي بالفتح " عسى موضوعة في اللغة للشك وهي من الله تعالى تفيد الوجوب، لان الكريم اذا أطمع في خير يفعله، فهو بمنزلة

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1: 169 وتفسير الطبري 10: 404.

[552]

الوعد به في تعلق النفس به وإرجائها له، ولذلك حق لايضيع ومنزلة لاتخيب.

والفتح القضاء والفصل - وهوقول قتادة - ومنه قوله " افتح بيننا وبين قومنا بالحق "(1) وقال أبوعلي هوفتح بلاد المشركين على المسلمين وقال السدي: هوفتح مكة.

ويقال للحاكم الفتاح، لانه يفتح الحكم ويفصل به الامر.

وقوله " أو أمر من عنده " قيل فيه ثلاثة أقوال: قال السدي: هو تجديد أمر فيه إذلال المشركين وعز للمؤمنين، وقيل هوالجزية.

وقيل: هواظهار نفاق المنافقين مع الامر بقتلهم في قول الحسن والزجاج.

وقال أبوعلي: هو أمر دون الفتح الاعظم أو موت هذا المنافق، لانه إذا أتى الله المؤمنين ذلك ندم المنافقون والكفار على تقويتهم بأنفسهم ذلك، وكذلك إذا ماتوا أو تحققوا ما يصيرون اليه من العقاب ندموا على مافعلوه في الدنيامن الكفر والنفاق.

قوله تعالى: ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين(53))

آية

 قرأ ابن كثير، وعامر، ونافع " يقول " بلاواو.

الباقون بالواو، وكلهم قرأ بضم اللام إلا أباعمرو، فانه فتحها.

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 88.

[553]

من نصب اللام فالمعنى عسى أن يقول، ومن رفعه فعلى الاستئناف.

فان قيل كيف يجوز النصب ولايجوزأن يقول الذين آمنوا؟ قيل: قال أبوعلي الفارسي يحتمل ذلك أمرين غير هذا: أحدهما - أن يحمل على المعنى، لانه إذا قال عسى الله أن يأتي بالفتح وكأنه قال عسى أن يأتي الله بالفتح، " ويقول الذين آمنوا " كما قال " فاصدق وأكن " كأنه قال: أصدق وأكن، وقد جاء مثله نحو قوله " عسى أن تكرهوا شيئا وهوخير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهوشر لكم(1) وقال " عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا "(2).

ووجه آخر وهو: أن يبدل (أن يأتي) من اسم الله اسم كما أبدلت (أن) من الضمير الذي في قوله " وما أنسانية إلا الشيطان أن أذكره "(3) فاذا أبدلته فكأنك قلت عسى أن يأتي الله بالفتح، ويقول الذين آمنوا. وأما من رفع فلانه عطف جملة على جملة، ولم يجعلها عاطفة على مفرد. ويقوى الرفع قراء‌ة من قرأ بلاواو وأما إسقاط الواو وإثباتها فجميعا حسنان: أما الحذف فلان في الجملة المعطوفة ذكرا في المعطوف عليها وذلك أن من وصف بقوله " يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصينا دائرة " إلى قوله " نادمين " هم الذين قال فيهم " أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم انهم لمعكم حبطت أعمالهم " فلما صار في كل واحدة من الجملتين ذكرفيما تقدم من الاخرى حسن عطفها بالواو وبغير الواو، كما أن قوله " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 216.

(2) سورة 4 النساء آية 83.

(3) سورة 18 الكهف آية 64.

[554]

خمسة سادسهم كلبهم "(1) لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكرما تقدم اكتفى بذلك عن الواو. ويدل على حسن اثبات الواو قوله " ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ".

قوله " ويقول الذين آمنوا " أي الذين صدقوا بالله ورسوله ظاهرا وباطنا تعاجبا من نفاق المنافقين " أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم " في معاونتكم على أعدائكم ونصرتكم " حبطت أعمالهم " أي ضاعت أعمالهم التي عملوها، لانهم اوقعوها على خلاف الوجه المأمور به، لان ما فعلوه فعلوه على وجه النفاق دون التقرب به إلى الله.

وقوله " فأسبحوا خاسرين " ليس المراد به معنى الصباح، وإنما معناه صاروا خاسرين، ومثل ذلك قولهم: ظل فلان يفعل كذا، وبات يفعل كذا، وليس بمراد وقت بعينه، وإنما وصفهم بالخسران، لانهم فوتوا نفوسهم الثواب واستحقوا عوضا منه العقاب فأي خسران أعظم من ذلك.

قوله تعالى: ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله واسع عليم(54))

آية

 قرأ نافع وأهل المدينة " يرتدد " بدالين، وبه قرأ ابن عامر، وكذلك هو في مصاحفهم.

___________________________________

(1) سورة الكهف آية 22.

[555]

الباقون بدال واحدة مشددة، وكذلك هو في مصاحفهم.

من أظهر ولم يدغم قال: لان الحرف المدغم لايكون إلا ساكنا ولايمكن الادغام في الحرف الذي يدغم حتى يسكن، لان اللسان يرتفع عن المدغم والمدغم فيه ارتفاعة واحدة، فاذا لم يسكن لم يرتفع اللسان ارتفاعة واحدة، واذا لم يرتفع كذلك لم يمكن الادغام، فاذاكان كذلك لم يسغ الادغام في الساكن لان المدغم إذا كان ساكنا والمدغم فيه كذلك التقى ساكنان، والتقاء الساكنين في الوصل في هذا النحو ليس من كلامهم فأظهر الحرف الاول في حركة وأسكن الثاني من المثلين، وهذه لغة أهل الحجاز، فلم يلتق الساكنان.

وحجة من أدغم أنه لما اسكن الحرف الاول من المثلين للادغام لم يمكنه أن يدغمه في الثاني والثاني ساكن فحرك المدغم فيه لالتقاء الساكنين وهذه لغة بني تميم. وفي القرآن نظيره قال الله تعالى: " ومن يشاقق الرسول "(1) وقال: " ومن يشاقق الله ورسوله "(2).

واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقول: فقال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج إنها نزلت في ابي بكر.

الثاني - قال السدي: نزلت في الانصار.

الثالث - قال مجاهد: نزلت في أهل اليمن، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله واختاره الطبري لمكان الرواية. وروي أنهم قوم أبي موسى الاشعري. وكانت وفودهم قد أتت أيام عمر، وكان لهم في نصرة الاسلام أثر.

وقال أبوجعفر وأبوعبدالله (ع) وروي ذلك عن عمار وحذيفة، وابن عباس: أنها نزلت في أهل البصرة ومن قاتل عليا (ع) فروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال:

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 114.

(2) سورة 8 الانفال آية 13.

[556]

يوم البصرة " والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم " وتلاهذه الآية. ومثل ذلك روى حذيفة، وعمار وغيرهما.

والذي يقوي هذا التأويل أن الله تعالى وصف من عناده بالآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين (ع) مستكملا لها بالاجماع، لانه قال: " ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين " وقد شهد النبي صلى الله عليه وآله لامير المؤمنين (ع) بما يوافق لفظ الآية في قوله وقد ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فرعنها واحدا بعد واحد (لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لايرجع حتى يفتح الله على يديه) فدفعها إلى أمير المؤمنين، فكان من ظفره ما وافق خبر الرسول صلى الله عليه وآله.

ثم قال " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " فوصف من عناه بالتواضع للمؤمنين والرفق بهم، والعزة على الكافرين. والعزيز على الكافرين هوالممتنع من أن ينالوه مع شدة نكايته فيهم ووطأته عليهم، وهذه أوصاف أمير المؤمنين (ع) التي لايدانى فيها ولايقارب.

ثم قال " يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم " فوصف - جل اسمه من عنا بهذا الجهاد وبما يقتضي الغلية فيه، وقد علمناأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله بين رجلين: رجلا لا عناء له في الحرب ولاجهاد. والآخر له جهاد وعناء، ونحن نعلم قصوركل مجاهد عن منزلة أمير المؤمنين (ع) في الجهاد، فانهم مع علو منزلتهم في الشجاعة وصدق البأس لايلحقون منزلته ولايقاربون رتبته لانه عليه السلام المعروف بتفريج الغمم، وكشف الكرب عن وجه الرسول صلى الله عليه وآله وهوالذي لم يحم قط عن قرن، ولانكص عن هول، ولا ولى الدبر، وهذه حالة لم تسلم لاحد قبله ولابعده فكان (ع) بالاختصاص بالآية أولى لمطابقة أوصافه لمعناها.

[557]

فامامن قال أنها نزلت في أبي بكر فقوله بعيد من الصواب، لانه تعالى إذاكان وصف من أراده بالآية بالعزة على الكافرين وبالجهاد في سبيله مع اطراح خوف اللوم كيف يجوز أن يظن عاقل توجه الآية إلى من لم يكن له حظ في ذلك الموقف لان المعلوم أن أبا بكر لم يكن له نكاية في المشركين، ولاقتيل في الاسلام، ولا وقف في شئ من حروب النبي صلى الله عليه وآله موقف أهل البأس والفناء، بل كان الفرار شيمته، والهرب ديدنه، وقد انهزم عن النبي صلى الله عليه وآله في مقام بعد مقام، فانهزم يوم أحد ويوم حنين، وغير ذلك، فكيف يوصف بالجهاد في سبيل الله - على مايوصف في الآية - من لاجهاد له جملة. وهل العدول بالآية عن أمير المؤمنين (ع) مع العلم الحاصل بموافقة أوصافه لها إلى غيره إلا عصبية ظاهرة. ولم يذكر هذا طعنا على أبي بكر (رضى الله عنه) ولاقدحا فيه، لان اعتقادنا فيه أجمل شئ، بل قلنا أليس في الآية دلالة على ما قال.

ومعنى " أذلة على المؤمنين " أي أهل لين ورقة " أعزة على الكافرين " أي أهل جفاة وغلظة. والذل بكسر الذال غير الذال بضمها، لان الاول اللين والانقياد والثاني الهوان والاستخفاف.

وروي عن علي (ع) وابن عباس (رحمة الله عليه) أن معنى " أذلة " أهل رحمة ورقة. ومعنى " أعزة أهل غلظة وشدة.

وقال الاعمش " أذلة " يعني ضعفاء. ومحبة الله تعالى لخلقه إرادة ثوابهم وإكرامهم وإجلالهم. ومحبتهم له إرادتهم لشكره وطاعته وتعظيمه.

والارتداد - عندنا - على ضربين: مرتد عن فطرة الاسلام، فانه يجب قتله ولايستتاب، ويقسم ماله. بين ورثته وتعتد منه زوجته عدة الوفاة من يوم إرتداده. والآخر من أسلم عن كفر

[558]

ثم ارتد فهذا يستتاب، فان تاب وإلا وجب عليه القتل، فان لحق بدار الحرب. اعتدت منه زوجته عدة الطلاق، فان رجع إلى الاسلام في زمان العدة كان أملك بها، وإن لم يرجع وانقضت العدة فقد ملكت نفسها، ولاسبيل له عليها وإن رجع فيما بعد.

وأما المرأة فانها تستتاب على كل حال، فان تابت وإلا حبست حتى تموت. وفي ذلك خلاف قد بيناه في مسائل الخلاف، فأما من يعتقد الجبر والتشبيه وأزلية صفات قديمة معه تعالى فهو كافر بلاخلاف بين أهل العدل. واختلفوا فمنهم من قال حكمه حكم المرتد يستتاب فان تاب وإلا قتل. ومنهم من قال يستتاب ولايقتل لانه لم يخرج عن الملة لاقراره بالشهادتين.

وقوله " يجاهدون في سبيل الله " صفة للقوم الذين وعد الله أن يأتي بهم إن ارتدوا.

وقوله " ولايخافون لومة لائم " أي لايخشون لوم أحد وعذله ولايصدهم ذلك عن العمل بما أمرهم الله به وذلك اشارة إلى هذا النعت الذي نعتهم به " ذلك فضل الله " أي ذلك فضل من الله وتيسر منه ولطف منه، ومنة من جهته " والله واسع عليم " يعني جواد على من يجود به عليه لايخاف نفاد ماعنده " عليم " بموضع جوده وعطائه ولايبذله الا لمن تقتضي الحكمة إعطاؤه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21401274

  • التاريخ : 19/04/2024 - 06:09

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net