00989338131045
 
 
 
 
 
 

  سورة ص 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الثامن )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

38 - سورة ص

هي مكية في قول مجاهد وقتادة والحسن ليس فيها ناسخ ولا منسوخ وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي وخمس وثمانون في البصري وست في المدني.

الآية: 1 - 40

بسم الله الرحمن الرحيم

(ص والقرآن ذي الذكر(1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق(2) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص(3) وعجبوا أن جاء‌هم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب(4) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب(5))

خمس آيات.

قرأ الحسن (صاد) بكسر الدال. وقال عيسى بن عمر بفتحها. الباقون بالوقف، وهو الصحيح، لان حروف الهجاء يوقف عليها. ومن كسر فلاجتماع الساكنين.

[541]

وقيل: إنه جعل من المصاداة وهي المعارضة.

ومن فتح فلان الفتحة أخف من الكسرة، ولم يعدوا (صاد) آية، لانه يشبه الاسم المفرد في انه على ثلاثة احرف في هجاء حروف المعجم، نحو (باب، وذات، وناب) وإنما يعد آية ما يشبه الجملة وشاكل آخره رؤس الآي التي بعده بالردف ومخرج الحروف. وليس - ههنا - شئ من ذلك. واختلفوا في معنى (صاد) فقال قوم: هو اسم السورة على ما أخبرناه في ما مضى.

وقال ابن عباس: هو اسم من اسماء الله أقسم به.

وقال السدي: هو من حروف المعجم.

وقال الضحاك: معناه صدق، وقال قتادة: هو اسم من اسماء القرآن اقسم الله تعالى به.

وقال الحسن: هو من المصاداة وهو (صاد) بالكسر أمر للنبي صلى الله عليه واله أي عارض القرآن بعملك (والقرآن) قسم.

فلذلك جر " ذي الذكر " قال ابن عباس: ذي الشرف، وقال الضحاك وقتادة: ذي التذكر.

وقيل: معناه ذى الذكر للبيان والبرهان، المؤدي إلى الحق الهادي إلى الرشد الرادع عن الغي، وفيه ذكر الادلة التي من تمسك بها سعد. ومن عدل عنها شقي. ومن عمل بها نجا. ومن ترك العمل بها هلك.

واختلفوا في جواب القسم، فقال قوم: هو محذوف وتقديره لجاء الحق وظهر، لان حذف الجواب في مثل هذا أبلغ، لان الذكر يقصر المعنى على وجه. والحذف يصرف إلى كل وجه فيعم.

وقال قوم: جوابه ما دل عليه قوله " بل الذين كفروا " كأنه قال: والقرآن ذي الذكر ما الامر على ما قالوا - ذكر ذلك قتادة - وقال الفراء والزجاج: الجواب (كم) وتقديره لكم أهلكناه، فلما طال الكلام حذفت اللام وصارت (كم) جوابا للقسم واليمين.

[542]

ومثله قوله " ونفس وما سواها فألهما "(1) فصارت " قد افلح " تابعة لقوله " فألهمها " وكفى عن جواب القسم، وكأنه قال: والشمس وضحاها.

لقد افلح، وقال قوم: الجواب قوله " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " إلا انه قد بعد عن أول الكلام.

وقوله " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " اخبار منه تعالى أن هؤلاء الكفار قد مكنهم واعطاهم القوة ليقووا بها على الطاعات، فتقووا - بسوء اختيارهم - بها على المعاصي وعلى دفع الحق الذي اتاهم وصاروا في شق غير شق رسولهم الذي من قبل ربهم.

ثم اخبر تعالى انه اهلك أمما كثيرة قبل هؤلاء الكفار حين عصاه الذين كفروا، فلما نزل بهم العذاب نادوا واستغاثوا " ولات حين مناص " معناه لات حين فرار من العذاب.

وقيل: المناص المنجاة يقال: ناص ينوص نوصا إذا تأخر وباص يبوص بوصا إذا تقدم قال امرؤ القيس:

أمن ذكر ليلى ان ناتك تنوص * فتقصر عنها خطوة وتبوص(2)

ونصب (لات حين) لانها مشبة ب‍ (ليس) من جهة أنها نفي ولا تعمل إلا في (الحين) خاصة لضعف الشبه عن منزلة (ما) إذ كانت (ما) تشبه (ليس) من جهة النفي والحال قال الشاعر:

تذكر حب ليلى لات حينا * واضحى الشيب قد قطع القرينا(3)

والوقف على (لات) بالتاء على قياس نظيرها من (ثمت، وربت) لان ما قبلها ساكن - وهو قول الفراء - والكسائي يقف بالهاء (لاه) يجعل الالف

___________________________________

(1) سورة 91 الشمس آية 7.

(2) تفسير القرطبي 15 / 146.

(3) تفسير القرطبى 15 / 147

[543]

في نية الحركة. ومن زعم انه (لا تحين) موصوله، فقد غلط، لانها في المصحف وتأويل العلماء مفصولة.

وقيل: ان (مناص) جر ب‍ (لات) وانشدوا لابي زيد.

طلبوا صلحنا ولات اوان * فاجبنا أن ليس حين بقاء(1)

وقال الزجاج: انشده ابوالعباس بالرفع، وقد روي بالكسر.

وقال الزجاج: من كسر رأى ان يجعله مبنيا بمنزلة نداء ذلك الاقوام وبناه، فحذف المضاف اليه وكسر دون ان يضم، لانه نونه، فأجراه على نظائره من المنون المبني وأراد ولات أوانا. ثم اخبر تعالى ان الكفار عجبوا " حين جاء‌هم منذر " أي مخوف من جهة الله يحذرهم معاصيه ويدعوهم إلى طاعته، وقالوا: هذا شئ عجاب، وعجيب وعجاب وعجاب بمعنى واحد، مثل كريم وكرام، فعجب هؤلاء الكفار من أن الله بعث نبيهم وهو منهم، وقالوا: كيف خص بذلك، وليس باشرفنا ولا اغنانا.

وقيل: إن أبا جهل وجماعة من أشراف قريش مشوا إلى أبي طالب وشكوا اليه النبي صلى الله عليه واله وقالوا له: قد سفه احلامنا وشتم الالهة، فدعاه ابوطالب وقال له: ما لاهلك يشكونك، فقال النبي صلى الله عليه واله أدعوهم إلى كلمتين حقيقتين يسودون على العرب بها، ويؤدى الخراج اليهم بها العجم، فقال ابوجهل وغيره: ما هما فقال صلى الله عليه واله: تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله: فقال ابوجهل: أتجعل الالهة إلها واحدا؟ ! فانزل الله الآية.

___________________________________

(1) تفسير القرطبى 15 / 147

[544]

قوله تعالى: (وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد(6) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق(7) أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب(8) أم عندهم خرائن رحمة ربك العزيز الوهاب(9) أم لهم ملك السموات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسباب(10))

خمس آيات في الكوفي واربع في الباقي.

اخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين ذكرهم انهم انطلقوا اي ذهبوا فالانطلاق ذهاب بسهولة، ومنه طلاقة الوجه وهي سهولة وبشر خلاف العبوس وقوله " أن امشوا " قال الزجاج: أى بهذا القول، وتقديره بأن امشوا وقال قوم: معنى (أن) أي التي للتفسير لانه صار انطلاقهم لدلالته على هذا المعنى بمنزلة الناطق به، كما يقولون: قام يصلي أي أنا رجل صالح.

وقال بعضهم: معناه الدعاء لهم بأن يكثر ماشيتكم، وهذا باطل لفظا ومعنى فاللفظ لانه لو كان كما قالوه لكانت الهمزة من (أن امشوا) إذا أمر منها مفتوحة، لانه من امشى يمشي إذا كثرت ماشيته والامر منه امشوا بقطع الهمزة، والقراء‌ة بكسرها، قال الشاعر:

[545]

وكل فتى وإن أثرى وامشى * ستسلخه من الدنيا المنون(1)

واما المعنى، فلانه لا يشاكل ما قبله ولا ما بعده.

وقوله " واصبروا على آلهتكم " أمر منهم بعضهم لبعض أن يصبروا على عبادة آلهتهم وتحمل المشاق لاجلها.

وقال مجاهد: القائل لذلك عقبة بن أبي معيط فالصبر محمود إذا كان في حبس النفس عن المحارم، فهؤلاء الجهال اعتقدوا أن الحق في الصبر على آلهتهم، ولم يعلموا ان ذلك كفر. وفي ذلك دلالة على فساد قول من يقول: إن المعارف ضرورة، قال الحسن: إن هذا يكون في آخر الزمان.

وقوله " إن هذا لشئ يراد " معناه هذا الذي يدعيه محمد ويدعوهم اليه لشئ يراد به أمر ما من الاستعلاء علينا والرياسة فينا والقهر لنا. ثم حكى ما قالوه فانهم قالوا " ما سمعنا بهذا " يعنون ما يدعوهم اليه النبي صلى الله عليه واله من التوحيد وخلع الانداد من دون الله " في الملة الآخرة " قال ابن عباس يعنون في النصرانية، لانها آخر الملل.

وقال مجاهد: يعنون في مكة وقريش.

ثم قالوا " إن هذا إلا اختلاق " قال ابن عباس ومجاهد: معناه ليس هذا إلا تخرص وكذب.

ثم تعجبوا فقالوا " أأنزل عليه الذكر من بيننا " يعنون كيف خص محمد بانزال القرآن دوننا؟ ! فقال الله تعالى " بل هم في شك من ذكري " معناه ليس يحملهم على هذا القول إلا الشك في الذكر الذي أنزلت على رسولي " بل لما يذوقوا عذاب " ثم قال " أم عندهم خزائن رحمة ربك "؟ قال الفراء: الاستفهام إذا توسط الكلام

___________________________________

(1) قائله النابغة الذبيانى. اللسان (مشى)

[546]

ابتدئ بألف وب‍ (أم)، وإذا لم يسبق كلام لم يكن إلا بألف او ب‍ (هل). ووجه اتصال هذا القول بما تقدم هو إتصال الانكار لما قالوا فيه، أي ذلك ليس اليهم، وإنما هو إلى من يملك هذه الامور. و (خزائن رحمة ربك) معناه مقدوراته التي يقدر بها على أن ينعم بها عليهم.

وقوله " العزيز " يعني القادر الذي لا يغالب ولا يقهر " الوهاب " لضروب النعم " أم لهم ملك السموات والارض وما بينهما " فان كان لهم ذلك " فليرتقوا في الاسباب " وهي جمع سبب وكل ما يتوصل به إلى المطلوب - من حبل أو سلم او وسيلة او رحم او قرابة او طريق او جهة - فهو سبب، ومنه قيل: تسببت بكذا إلى كذا أي توصلت به اليه.

قوله تعالى: (جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب(11) كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد(12) وثمود وقوم لوط وأصحاب الايكة أولئك الاحزاب(13) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب(14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق(15))

خمس آيات.

قرأ حمزة والكسائي " فواق " بضم الفاء. الباقون بفتحها. فالفواق بفتح الفاء معناه مالها من راحة، وإذا ضممت الفاء، فالمعنى مالها من فواق ناقة وهو قدر ما بين الحبلتين. وقيل: هو ما بين الرضعتين. وقيل: هما لغتان

[547]

مثل قصاص الشعر وقصاصه، وحمام الماء وحمامه، وهو الآفة، وهو الابانة بعد الفترة و (ما) في قوله " جند ما " صلة، وتقديره: جند هنالك، و (هنالك) للمكان البعيد و (هناك) للمتوسط بين القرب والبعد و (هنا) للقريب ونظيره (ذا) و (ذاك) و (ذلك) ومثل (ما) في كونها صلة قولهم: لامر ما جدع قصير أنفه.

وعندى طعام ما، قال الاعشى:

فاذهبي ما اليك أدركني الح‍ * لم عداني عن ذكركم اشغالي(1)

وقيل: إنها تقوية للنكرة المبتدأة في (ما) والجند جمع معد للحرب جمعه اجناد وجنود، وجند الاجناد أي جيش الجيوش.

ومنه قوله صلى الله عليه واله (الارواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)، وقوله " مهزوم " يعني مغلوب عن أن يصعدوا إلى السماء، والمهزوم من وقعت بهم الهزيمة، وهي الفرار من الحرب، ولو فر انسان من ضرب لم يكن ذلك هزيمة، وكذلك من فر من الحبس.

وقوله " من الاحزاب " معناه من حزب إبليس وإتباعه. ثم اخبر تعالى انه كذب مثل هؤلاء الكفار، فأنث لانه أراد العشيرة " قوم نوح " فأغرقهم الله، وقوم " عاد " فاهلكهم الله " وفرعون " وقوم فرعون " ذا الاوتاد " وقيل: في معناه أقوال: منها - انه كانت له ملاعب من اوتاد يلعب له عليها، وهو قول ابن عباس وقتادة.

وقال السدى والربيع بن أنس: انه كانت له أوتاد يعذب الناس بها.

وقال الضحاك: معناه ذو البنيان، والبنيان اوتاد، ثم قال " وثمود وقوم لوط وأصحاب الايكة " أيضا هم الاحزاب يعني

___________________________________

(1) ديوانه 164

[548]

احزاب إبليس: و (الايكة) الغيضة.

وقال ابوعمرو بن العلا: هي الملتفت من النبع والسدر.

وقال السدي: هي الحرجة، قال الشاعر:

افمن بكاء حمامة في أيكة * يرفض دمعك فوق ظهر المحمل

يعني محمل السيف.

وقوله " إن كل الاكذب الرسل " معناه ليس كلهم إلا كذبوا أنبياء الله وجحدوا نبوتهم فاستحقوا عقابي.

ثم قال " وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة " أي ليس ينظر هؤلاء إلا صيحة عذاب لا يكون لتلك الصيحة " من فواق " أي مالها من افاقة بالرجوع إلى الدنيا وهو قول قتادة، والسدي وقال ابن زيد " مالها من فواق " أي من فتور كما يفيق المريض.

قوله تعالى: (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب(16) إصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب(17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق(18) والطير محشورة كل له أواب(19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب(20))

خمس آيات.

يقول الله مخبرا عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأنهم يقولون على وجه الاستهزاء بعذاب الله يا " ربنا عجل لنا قطنا " أي قدم لنا نصيبنا من العذاب، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة:، طلبوا حظهم من العذاب تهزء‌ا

[549]

بخبر الله وشكا فيه.

وقال السدي: إنما سألوا أن يريهم حظهم من النعيم في الجنة حتى يؤمنوا.

وقيل: إنما سألوا أن يعجل كتبهم التي يقرؤنها في الآخرة استهزاء منهم بهذا الوعيد.

والقط الكتاب قال الاعشى:

ولا الملك النعمان يوم لقيته * بأمته يعطي القطوط ويأفق(1)

أي كتب الجوائز، لانها قطع نصيب لكل واحد بما كتب. والتعجيل فعل الشئ قبل وقته الذي ينبغي أن يفعل فيه. والقط النصيب وأصله القطع من قولك قطه يقطه قطا مثل قده يقده قدا، ومنه قولهم: ما رأيته قط أي قطع الدهر الذي مضى " قبل يوم الحساب " أي قبل اليوم الذي يحاسب فيه الخلق ويجازون فيه على أعمالهم على ما يقولونه فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله " اصبر على ما يقولون " أي احبس نفسك على اذاهم وصبرها على أقوالهم " واذكر عبدنا داود ذا الايد " ترغيبا له في الصبر المأمور به وإن لك يا محمد فيه من إحسان الله اليك على نحو إحسانه إلى داود قبلك، وأنه لو شاء لاعطاك في الدنيا مثل ما أعطى داود ولكنه دبر لك ما هو أعودلك.

وقوله " ذا الايد " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: معناه ذا القوة، ومنه قوله " والسماء بنيناها بأيد "(2) أي بقوة، وقوله " إنه اواب " قال ابن زيد: معناه تواب وبه قال مجاهد، وهو من آب يؤب أي رجع إلى الله فلذلك مدحه. ثم اخبر تعالى عن نعمه التي أنعم بها على داود، فقال " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق " ومعناه إنها كانت تسير بأمر الله معه حيث سار بالغداة والعشي فسمى الله ذلك تسبيحا لما في ذلك من

___________________________________

(1) ديوانه 117 * (دار بيروت) *.

(2) سورة 51 الذاريات آية 47

[550]

دلالته على قدرته وغناء من خلقه وصفاته التي لا يشاركه فيها غيره، والاشراق وقت طلوع الشمس يقال: شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا اضاء‌ت " والطير محشورة " وتقديره وسخرنا الطير محشورة أي مجموعة من كل ناحية اليه يعني الطير والجبال " له أواب " أي رجاع إلى ما يريد.

وقيل: مسخرة - ذكره قتادة - وقال الجبائي لا يمتنع أن يكون الله خلق في الطيور من المعارف ما تفهم به مراده وأمره من نهيه فتطيعه في ما يريده منها. وإن لم تكن كاملة العقل، ولا مكلفة.

ثم قال " وشددنا ملكه " يعني قوينا ملكه بالجنود والهيبة " وآتيناه الحكمة " أي علمناه الحكمة " وفصل الخطاب " ومثله قول البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه أى إصابة الحكم بالحق.

وقال البلخي: يجوز أن يكون المراد بتسبيح الجبال معه هو ما أعطى الله تعالى داود من حسن الصوت بقراء‌ة الزبور، فكان إذا قرأ الزبور أو ذكر ما هو تسبيح لله ورفع صوته بين الجبال رد الجبال عليه مثله كما يرد الصدى، فسمى الله ذلك تسبيحا لما تضمنه من الدلالة والاول أحسن.

[551]

قوله تعالى: (وهل أتيك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب(21) إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط(22) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب(23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب(24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب(25))

خمس آيات.

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه وصورته صورة الاستفهام والمراد اخباره بما كان من قصة داود من الحكم بين الخصمين وتنبيهه على موضع إخلاله ببعض ما كان ينبغي أن يفعله فقال " وهل أتاك نبؤ الخصم " يعني خبره فالنبأ الخبر بما يعظم حاله " إذ تسوروا المحراب " يعني حين صعدوا اليه. والخصم هو المدعي على غيره حقا من الحقوق المنازع له فيه، ويعبر به عن الواحد والاثنين والجماعة بلفظ واحد، لان أصله المصدر، فتقول: رجل خصم، ورجلان خصم، ورجال خصم، ولذلك قال " إذ تسوروا المحراب " لانه أراد المدعي والمدعى عليه ومن أتبعهما، فلا يمكن أن يتعلق به في أن أقل الجمع اثنان، لما قال " خصمان بغى بعضنا على بعض " لانه أراد بذلك الفريقين، والخصم من خصمته اخصمه خصما.

والتسور الاتيان من جهة السور، يقال تسور فلان الدار إذا أتاها من قبل سورها، وكانوا أتوه من اعلى المحراب، فلذلك فزع منهم، والمحراب مجلس الاشراف الذى يحارب دونه لشرف صاحبه، ومنه سمى المصلي محرابا وموضع القبلة ايضا محراب وقوله " إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض " معناه إن هؤلاء حين دخلوا على داود من غير الجهة التي اعتاد

[552]

الدخول عليه منها فزع منهم، لانه ظنهم أعداء يريدون به سوء فقالوا له (خصمان) ولم يقولا: نحن خصمان يعني فريقان لانهما كانا ملكين ولم يكونا خصمين ولا بغى احدهما على الآخر، وإنما هو على المثل " فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط " معناه ولا تجاوز الحق ولا تجر ولا تسرف في حكمك بالميل مع أحدهما - على الآخر، يقال أشط في حكمه إذا جار يشط فهو مشط وشططت علي في السوم تشط شططا قال الشاعر:

ألا يا لقومي قد اشطت عواذلي * ويزعمن أن اودى بحقي باطلي(1)

وقال آخر:

يشط غدا دار جيراننا * وللدار بعد غد بعد

وقوله " وأهدنا إلى سواء الصراط " معناه أرشدنا إلى قصد الطريق الذي هو طريق الحق ووسطه، كما قال " فاطلع فرآه في سوء الجحيم "(2) ثم حكى تعالى ما مكان أحد الخصمين لصاحبه، فقال " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " قال وهب بن منية: يعني أخي في ديني وقال اكثر المفسرين انه كنى بالنعاج عن تسع وتسعين إمرأة كانت له وان الآخر له نعجة واحدة يعني امرأة واحدة.

وقال الحسن: لم يكن له تسع وتسعون امرأة وإنما هو على وجه المثل.

وقال أبومسلم محمد بن بحر الاصفهاني: أراد النعاج باعيانها، وهو الظاهر غير انه خالف أقوال المفسرين.

وقال هما من ولد آدم، ولم يكونا ملكين وإنما فزع منهما لانهما دخلا عليه في غير الوقت المعتاد، وهو الظاهر غير انه خلاف أقوال المفسرين على ما قلناه.

وقوله " فقال اكفلنيها " معناه اجعلني كفيلا بها أي ضامنا لامرها.

___________________________________

(1) مر في 7 / 15.

(2) سورة 37 الصافات آية 55

[553]

ومنه قوله " وكفلها زكريا "(1) وقال ابوعبيدة معناه ضمها اليها، وقال ابن عباس وابن مسعود معنى اكفلنيها انزل لي عنها " وعزني في الخطاب " أي غلبني في المخاطبة من قولهم: من عز بز أي من غلب سلب.

وقال ابن زيد: معناه قهرني.

وقال ابوعبيدة: معناه صار أعز مني، فقال له داود " لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض " ومعناه إن كان الامر على ما تدعيه لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فاضاف السؤال إلى المفعول به وهي النعجة وإن أضيف اليها. ثم اخبر ان كثيرا من الشركاء والخلطاء ليبغي بعضهم على بعض فيظلمه.

وقال أصحابنا: كان موضع الخطيئة أنه قال للخصم لقد ظلمك من غير ان يسأل خصمه عن دعواه وفي آداب القضاء ألا يحكم بشئ ولا يقول حتى يسأل خصمه عن دعوى خصمه، فما أجاب به حكم به. وهذا ترك الندب في ذلك، وفي ذلك قول آخر، وهو إن في الناس من قال: إن ذلك كان صغيرة منه وقعت مكفرة، والشرط الذي ذكرناه لابد فيه، لانه لا يجوز ان يخبر النبي ان الخصم ظلم صاحبه قبل العلم بذلك على وجه القطع، وإنما يجوز مع تقرير الشرط الذي ذكرناه. ثم استثنى من جملة الخلطاء الذين بعضهم يبغي على بعض الذين آمنوا بالله وعملوا بما يوجب عليهم، فانهم لا يفعلون ذلك.

ثم قال وقليل الذين كذلك، فروي أن الملكين غابا من بين يديه فظن عند ذلك أن الله اختبره بهذه الحكومة وابتلاه. وقرئ (فتناه) بالتخفيف بمعنى أن الملكين فتناه بها.

وقال قوم الظن العلم كأنه قال: وعلم داود ذلك

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 37

[554]

وقال آخرون: إنما ظن ظنا قويا وهو الظاهر.

وقوله " فاستغفر ربه " معناه سأل الله المغفرة والستر عليه " وخر راكعا وأناب اليه " أي رجع اليه بالتوبة. ثم اخبر تعالى انه أجاب دعوته وغفر له ذلك، وأخبر ان له مع المغفرة عند الله لزلفى، والزلفى القربة من رحمة الله، وثوابه في جنته " وحسن مآب " فالمآب والمرجع والمصير والمآل واحد. ومن قال ان ذلك كان صغيرة وقعت مكفرة يقول: معنى قوله " فغفرنا له " بعد الانابة، وإن كانت الخطيئة غفرت في الدنيا.

وقيل: انه خطب امرأة كان اوريا ابن حيان قد خطبها فدخل في سومه، فاختاروه عليه فعاتبه الله على ذلك، لان الانبياء يتنزهون عن ذلك، وإن كان مباحا لانه مما ينفر على بعض الوجوه.

وقيل: بل انفذ به إلى غزوة، وكان يحب ان يستشهد ليتزوج امرأته لانهما كانا تحاكما اليه فوقعت امرأته في قلبه واشتهاها شهوة الطباع من غير أن يحدث أمرا قبيحا. وأولى الوجوه ما قدمناه انه ترك الندب في ما يتعلق بأدب القضاء. لان باقي الوجوه ينبغي ان ينزه الانبياء عنها لانها تنفر في العادة عن قبول أقوالهم، فأما ما يقول بعض الجهال من القصاص أن داود عشق امرأة أوريا، وأنه امره بأن يخرج إلى الغزو، وأن يتقدم امام التابوت وكان من يتقدم التابوت من شرطه ألا يرجع إلى أن يغلب او يقتل، فخبر باطل موضوع، وهو مع ذلك خبر واحد لا أصل له ولا يجوز أن تقبل اخبار الآحاد في ما يتضمن في الانبياء ما لا يجوز على ادون الناس، فان الله نزههم عن هذه المنزلة واعلى قدرهم عنها.

[555]

وقد قال الله تعالى " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس "(1) وقال " ولقد اخترناهم على علم على العالمين "(2) فكيف يختار تعالى من يتعشق نساء اصحابه ويعرضهم للقتل من غير استحقاق ولا يجوز مثل هذا على الانبياء إلا من لا يعرف مقدارهم ولا يعتقد منزلتهم التي خصهم الله فيها نعوذ بالله من سوء التوفيق. وقد روي عن علي عليه السلام انه قال: لا أوتى برجل يقول إن داود ارتكب فاحشة إلا ضربته حدين احدهما للقذف والآخر لاجل النبوة.

وقرأ ابن مسعود " تسع وتسعون نعجة " انثى، قال النحويون: هذا تأكيد، كما قال النبي: ابن لبون ذكر، وكما قال " طائر يطير بجناحية " وقال ابن جرير: معناه تسع وتسعون نعجة انثى أي حسناء، قال ابن خالويه هذا حسن جدا.

قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب(26) وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار(27) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار(28) كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الالباب(29))

أربع آيات.

___________________________________

(1) سورة 22 الحج آية 75.

(2) سورة 44 الدخان آية 32

[556]

قرأ يحيى عن ابي بكر " لتدبروا " بالتاء وتقديره لتتدبروا من التدبر فحذف تاء الفعل وبقي تاء المضارعة، وتقديره: لتتدبر انت يا محمد والمسلمون ومن قرأ بالياء، فعلى ليتدبر المسلمون فيتقرر عندهم صحتها وتسكن أنفسهم إلى العلم بها.

لما اخبر الله تعالى عن داود انه رجع اليه وتاب واستغفر ربه عن التقصير الذي وقع منه في الحكم، وانه تعالى غفر له ذلك وأجاب دعوته، ووعده بالزلفى عنده والقربة من ثوابه ناداه ايضا فقال له " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض " والخليفة هو المدبر للامور من قبل غيره بدلا من تدبيره، فداود لما جعل الله اليه تدبير الخلق فكان بذلك خليفة، ولذلك يقال: فلان خليفة الله في أرضه إذا جعل اليه تدبير عباده بأمره.

وقيل: معناه جعلناك خليفة لمن كان قبلك من رسلنا.

ثم أمره فقال " فاحكم بين الناس " ومعناه افصل بين المختلفين من الناس والمتنازعين " بالحق " بوضع الاشياء مواضعها على ما أمرك الله " ولا تتبع الهوى " أي ما يميل طبعك اليه ويدعوك هواك اليه إذا كان مخالفا للحق، فلا تمل اليه " فيضلك عن سبيل الله " ومعناه انك متى اتبعت الهوى في ذلك عدل بك الهوى عن سبيل الله الذي هو سبيل الحق.

ثم اخبر تعالى " ان الذين يضلون عن سبيل الله " يعنى يعدلون عن العمل بما أمرهم الله به " لهم عذاب شديد " يعني شديد ألمه " بما نسوا يوم الحساب "

[557]

وقيل في معناه قولان: احدهما - لهم عذاب شديد يوم الحساب بما تركوا طاعاته في الدنيا، فعلى هذا يكون يوم الحساب متعلقا ب‍ (عذاب شديد) وهو قول عكرمة والسدي: الثاني - قال الحسن " لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " أي بما اعرضوا عنه، صاروا بمنزلة الناسي، فيكون على هذا العامل في (يوم) قوله " نسوا ".

ثم اخبر تعالى انه لم يخلق السماء والارض وما بينهما باطلا، بل خلقهما وما بينهما بالحق لغرض حكمي، وهو ما في ذلك من إظهار الحكمة وتعريض انواع الحيوان للمنافع الجليلة وتعويض العقلاء لمنافع الثواب، وذلك يفسد قول المجبرة الذين قالوا: إن كل باطل وضلال من فعل الله.

وقوله " ذلك ظن الذين كفروا " معناه إن خلق السماء والارض وما بينهما باطلا ظن من يكفر بالله ويجحد وحدانيته وحكمته، ثم توعد من هذه صفته فقال " فويل للذين كفروا من النار " ثم قال على وجه التوبيخ والتقريع للكفار بلفظ الاستفهام " أم نجعل الذين آمنوا... " معناه هل نجعل الذين صدقوا بالله وأقروا برسله وعملوا الصالحات مثل الذين أفسدوا في الارض وعملوا بالمعاصي؟ ! ام هل نجعل الذين اتقوا معاصي الله خوفا من عقابه كالفجار الذين عملوا بمعاصيه وتركوا طاعته؟ ! فهذا لا يكون ابدا. وكيف يكون كذلك وهؤلاء يستحقون الثواب بطاعتهم وأولئك يستحقون العقاب بمعاصيهم.

وقال ابو عبيدة: ليس لها جواب استفهام فخرجت مخرج الوعيد.

وقال الزجاج: تقديره، أنجعل الذين آمنوا وعموا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار، فهو استفهام بمعنى التقرير.

[558]

ثم خاطب نبيه صلى الله عليه واله فقال " كتاب انزلناه اليك مبارك " أي هذا كتاب انزلناه، يعني القرآن الذي أنزله الله عليه، ووصفه بأنه مبارك، لان به يستديم الناس ما أنعم الله عليهم به، وبين أن غرضه تعالى بانزال هذا القرآن " ليدبروا آياته " بأن يتفكروا في أدلته " وليتذكر أولو الالباب " يعني أولو العقول.

وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة في خلق القبائح من حيث بين الله انه يعاقبهم جزاء بما نسوا طاعاته في الدنيا.

وقوله " ذلك ظن الذين كفروا " يدل على فساد قول من يقول: ان المعارف ضرورة، لانهم لو كانوا عارفين ضرورة لما كانوا ظانين.

قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمن نعم العبد إنه أواب(30) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد(31) فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب(32) ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق(33) ولقد فتنا سليمن وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب(34) قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب(35) فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب(36) والشياطين كل بناء وغواص(37) وآخرين مقرنين في الاصفاد(38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب(39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب(40))

احدى عشرة آية.

[559]

قرأ ابن كثير وحده " بالسؤق " مهموزة.

وقال ابن مجاهد: الرواية الصحيحة عنه " بالسوق " على فعول، ولما ضمنت الواو همزها، مثل وفيت وأفيت، فهذه رواية قنبل.

وقرأ البزي " بالسوق " مثل أبي عمرو، جمع ساق مثل باح وبوح. والباحة والصرح والعرصة والفناء واحد. ومثله قارة وقور للخيل الصغير.

ومن همز سوق فعلى لغة من قال: (أحب المؤفدين إلى موسى)، فهمز انشده ابوالحسن لابي حبة النميري، ولانه لما لم يكن بينها وبين الضمة حاجز صار كأن الضمة عليه فهمز.

اخبر الله تعالى انه وهب لداود سليمان.

فقال " نعم العبد " كان سليمان " انه اواب " أي رجاع إلى طاعة الله وطلب ثوابه.

وقوله " إذ غرض " يجوز أن يتعلق بقوله " نعم العبد " أي نعم العبد حين عرض عليه، ويجوز ان يكون العامل فيه واذكر يا محمد إذ عرض على سليمان " بالعشي " يعني آخر النهار * (الصافنات الجياد) * والصافنات جمع صافنة، قال ابن زيد: صفن الخيل قيامها على ثلاث مع رفع رجل واحدة.

يكون طرف الحافر على الارض وقال مجاهد: صفون الفرس رفع احدى يديه حتى يكون على طرف الحافر صفنت الخيل تصفن صفونا إذا وقفت كذلك قال الشاعر:

الف الصفون فما يزال كأنه * مما يقوم على الثلاث كسيرا(1)

___________________________________

(1) مر في 7 / 319

[560]

وقال الزجاج والفراء وغيرهما: كل قائم على ثلاث صافن.

والجياد السراع من الخيل فرس جواد كأنه يجود بالركض، كأنه جمع جود كما يقال: مطر جود إذا كان مدرارا ونظيره سوط وسياط. والعرض إظهار الشئ بحيث يرى ليميز من غيره، ومنه قوله * (وعرضوا على ربك صفا) * واصله الاظهار قال عمرو بن كلثوم:

واعرضت اليمامة واشمخرت * كأسياف بأيدى مصلتينا(1)

أي ظهرت وأعرض عني معناه أظهر جفوة بتوليه عني، وعرض الشئ إذا صار عريضا.

وقوله تعالى * (إني أحببت حب الخير) * قال قتادة والسدي المراد بالخير - ههنا - الخيل والعرب تسمي الخيل الخير، وبذلك سمي (زيد الخيل) أي زيد الخير، وقيل في ذلك وجهان: احدهما - انه أراد احببت الخير، ثم اضاف الحب إلى الخير. والثاني - انه أراد احببت اتخاذ الخير، لان ذوات الخير لا تراد ولا تحب فلابد من شئ يتعلق بها، والمعنى آثرت حب الخيل على ذكر ربي ويوضع الاستحباب موضع الايثار.

كما قال تعالى * (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) *(2) أي يؤثرون، وقوله * (عن ذكر ربي) * معناه إن هذا الخيل شغلني عن صلاة العصر حتى فات وقتها، وهو قول علي عليه السلام وقتادة والسدي، وروي أصحابنا انه فاته الوقت الاول، وقال الجبائي: انه لم يفته الفرض، وإنما فاته نفل كان يفعله آخر النهار ففاته لاشتغاله بالخيل.

وقوله * (حتى توارت بالحجاب) * معناه توارت الشمس بالحجاب يعنى بالغيبوبة

___________________________________

(1) مر في 7 / 96.

(2) سورة 14 ابراهيم آية 3

[561]

وجاز الاضمار قبل الذكر، لانه معلوم قال لبيد:

حتى إذا القت يدا في كافر * وأجن عورات الثغور ظلامها(1)

وقال ابومسلم محمد بن بحر وغيره: وذكر الرماني أن الكناية عن الخيل وتقديره حتى توارت الخيل بالحجاب بمعنى أنها شغلت فكره إلى تلك الحال.

ثم قال لاصحابه * (ردوها علي) * يعني الخيل فلما ردت عليه * (طفق مسحا بالسوق والاعناق) * وقيل: ان الخيل هذه حربها من غنيمة جيش فتشاغل باعتراضها حتى غابت الشمس وفاتته العصر، قال الحسن: كشف عراقيبها وضرب اعناقها، وقال لا تشغلني عن عبادة ربي مرة اخرى.

وقيل: انه إنما فعل ذلك على وجه القربة إلى الله تعالى بأن ذبحها ليتصدق بلحومها لا لعقوبتها بذلك. وإنما فعل ذلك لانها كانت أعز ماله فاراد بذلك ما قال الله تعالى * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *(2) وقال ابوعبيدة: يقولون: مسح علاوته أي ضربها.

وقال ابن عباس: جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها.

وقال ابومسلم محمد بن بحر: غسل اعرافها وعراقيبها إكراما لها، قال: لان المسح يعبر به عن الغسل من قولهم: تمسحت للصلاة.

ثم قال تعالى على وجه القسم * (ولقد فتنا سليمان) * ومعناه اختبرناه وابتليناه وشددنا المحنة عليه * (والقينا على كرسيه جسدا) * قال ابن عباس: القي شيطانا اسمه صخر على كرسيه.

وقال مجاهد: كان اسمه أصف.

وقال السدي: كان اسمه خنفيق وكان ملكه في خاتمه يخدمه الجن والشياطين مادام في يده، فلما أذنب سليمان نزع الله منه الخاتم، وجعل مع الجني فاجتمعت

___________________________________

(1) اللسان (كفر).

(2) سورة 3 آل عمران آية 92

[562]

عليه الجن والشياطين.

وقيل: انه كان ذنبه انه وطئ في ليلة عدة كثيرة من جواريه حرصا على كثرة الولد.

وقيل: كان ذنبه انه وطئ امرأته في الحيض.

وقوله * (ثم اناب) * يعني تاب إلى الله من خطيئته، فرد الله عليه الملك لان الجني لما اخذ خاتمه رمى به في البحر فرده عليه من بطن سمكة - ذكر ما قلناه المفسرون - والذي قاله المفسرون من أهل الحق ومن نزه الانبياء عن القبائح ونزه الله تعالى عن مثل ذلك هو انه لا يجوز أن يمكن الله تعالى جنيا ليتمثل في صورة نبي لما في ذلك من الاستبعاد. وإن النبوة لا تكون في الخاتم وانه تعالى لا يسلب النبي نبوته، وليس في الآية شئ من ذلك، وإنما قال فيها انه ألقى على كرسيه جسدا.

وقيل في معنى ذلك الجسد اقوال: منها - إن سليمان قال يوما في مجلسه وفيه جمع كثير لاطوفن الليلة على مئة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله، وكان له في ما يروى عدد كثير من السراري، فاخرج الكلام على سبيل المحبة لهذا الحال، فنزهه الله عما ظاهره الحرص على الدنيا، لئلا يقتدى به في ذلك، فلم يحمل من نسائه إلا امرأة واحدة ولدا ميتا، فحمل حتى وضع على كرسيه جسدا بلا روح، تنبيها له على انه ما كان يجب ان يظهر منه ما ظهر، فاستغفر الله وفزع إلى الصلاة والدعاء على وجه الانقطاع، لا على أن ذلك كان صغيرة، ومن قال من حيث انه لم يستثن مشيئة الله في ذلك، فقوله فاسد، لانه وإن لم يذكر مشيئة الله لفظا فلابد من تقديرها في المعنى وإلا لم يأمن أن يكون خبره كذبا، وذلك لا يجوز على الانبياء عند من جوز الصغائر عليهم.

قال الحسن وغيره لا يجوز على الانبياء.

[563]

ومنها - انه روي ان الجن لما ولد لسليمان ولد قالوا: لنلقين منه ما لقينا من سليمان، فلما ولد له ولد اشفق منهم، فاسترضعه في المزن، فلم يشعر إلا وقد وضع على كرسيه ميتا تنبيها على ان الحذر لا ينفع مع القدر.

ومنها - انه ذكر انه ولد لسليمان ولد ابتلاه بصبره في إماتة ولده على كرسيه.

وقيل: انه أماته في حجره، وهو على كرسيه، فوضعه من حجره.

ومنها - ما ذكره ابومسلم فأنه قال: يجوز ان يكون الجسد جسد سليمان وأن يكون ذلك لمرض امتحنه الله به، وتقديره والقينا منه على كرسيه جسدا لشدة المرض، كما يقولون: فلان لحم على وضم إذا كان ضعيفا، وجسد بلا روح تغليظا للعلة، وقوة الضعف.

ثم حكى ما قاله سليمان حين أناب إلى الله، فانه سأل الله تعالى وقال * (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي) * أي لا تسلبنه كما سلبته في الدفعة الاولى، وقال ابوعبيدة معنى (لا ينبغي) لا يكون، وانشد لابن احمر:

ما ام غفر على دعجاء ذي علق * تنفي القراميد عنها الاعصم الوقل

في رأس خلقاء من عنقاء مشرفة * لا ينبغي دونها سهل ولا جبل(1)

وقال ابوعبيدة: أي لا يكون فوقها سهل ولا جبل احصن منها.

فان قيل: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي الشح والضن لانه لم يرض بأن سأل الملك، حتى اضاف إلى ذلك ألا يكون لاحد بعده مثله؟ ! قلنا قد ثبت أن الانبياء لا يجوز أن يسألوا بحضرة قومهم ما لم يأذن الله لهم في ذلك، فعلى هذا لم لا يجوز ان يكون الله تعالى أعلم سليمان أنه إن سأل ملكا لا يكون

___________________________________

(1) مر في 7 / 153

[564]

لغيره كان لطفا له في الدين، وأعلمه أن غيره لو سأل ذلك لم يجب اليه، لانه يكون مفسدة لغيره ولا صلاح له فيه، ولو أن احدنا صرح بمسألة بهذا الشرط بأن يقول: اللهم اجعلني ايسر اهل زماني وارزقني مالا يساويني فيه احد إذا كانت المصلحة لي في ذلك لكان هذا جائزا حسنا، ولم يكن منسوبا إلى بخل، فلا يمتنع أن يسأل النبي ايضا مثل ذلك.

وقيل: انه لا يمتنع أن يسأل النبي مثل هذه المسألة من غير إذن إذا لم يكن بمحضر من قومه بعد ان يكون الشرط فيه مقدرا.

وقيل فيه وجه أخر، وهو انه عليه السلام إنما سأل ان يكون ملكه معجزة لنبوته يبين بها من غيره ممن ليس بنبي.

وقوله * (لا ينبغي لاحد من بعدي) * معناه لا ينبغي لاحد غيري ممن أنا مبعوث اليه، ولم يرد من بعدي إلى يوم القيامة من النبيين.

وقيل: انه لا يمتنع ان يكون المراد انه سأل ملك الآخرة وثواب الجنة الذي لا يناله المستحق إلا بعد أنقطاع التكليف.

ومعنى * (لا ينبغي لاحد من بعدي) * لا يستحقه بعد وصولي اليه أحد من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به الثواب لانقطاع التكليف.

ثم بين بعد ذلك انه اعطاه ما سأله فقال * (فسخرنا له الريح) * أي ذللناها له، والتسخير التذليل * (تجري بأمره) * يعني الريح تتوجه إلى حيث شاء * (رخاء) * قال قتادة معناه طيبة سريعة، وقال ابن زيد: لينة.

وقال ابن عباس: مطيعة، وبه قال الضحاك والسدي والرخاء الريح: اللينة وهو رخاوة المرور سهولته ووصفت باللين، لانها إذا عصفت لم يتمكن منها، وإذا لانت أمكنت.

[565]

وقوله * (حيث أصاب) * قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي: معناه حيث أرار، يقول القائل: اصاب الله بك الرشاد أي اراد الله، والمعنى انها تنطاع له كيف أراد، وقال الحسن: كان يغدو من أبله، ويقيل بغزوين ويبيت بكابل. والاصابة لحاق البغية، يقال اصاب الهدف بالسهم يصيبه إصابة. ومنه الصواب إدراك الحق بالميل اليه، وقوله * (والشياطين) * نصبه بالعطف على مفعول * (فسخرنا) * وتقديره وسخرنا له الشياطين كل بناء وغواص ونصب (كل) على البدل من الشياطين وهو بعضه فالغواص هو الذي يغوص في الماء أي ينزل فيه تقول: غاص يغوص غوصا فهو غائص وغوصه تغويصا وكل الشياطين يغوصون له في البحار وغيرها من الانهار بحسب ما يريد منهم ويبنون له الابنية العجيبة التي يعجز الناس عن مثلها.

وقال قتادة: كانوا يغوصون في البحار يستخرجون له الحلي منها، وغير ذلك * (وآخرين مقرنين في الاصفاد) * الاصفاد واحدها صفاد، وهو الغل وجمعه اغلال.

وقال السدي: السلاسل تجمع اليدين إلى العنق والصفد الغل.

والصفد العطاء، وبعضهم يقول: اصفدني قال الاعشى:

[ تضيفته يوما فقرب مقعدي ] * واصفدني على الزمانة قائدا(1)

وذلك انه ارتبط من شكره بمثل الغل، و * (مقرنين) * هم الذين قرن بعضهم إلى بعض بالسلاسل.

ثم قال تعالى * (هذا عطاؤنا فامنن او امسك بغير حساب) * قال الحسن: معناه هذا الملك الذي اعطيناك، فاعط ما شئت وامنع ما شئت.

وقال قتادة والضحاك: معناه لا تحاسب على ما تعطي وتمنع منه يوم القيامة ليكون اهنأ لك ومعناه ليس عليك تبعة.

___________________________________

(1) ديوانه 44 وقد مر في 6 / 310

[566]

وقيل: معناه بغير مقدار يجب عليك إخراجه من يدك، ويكون بغير حساب، فامنن او أمسك وقال الزجاج: المعنى سخرنا لك الشياطين عطاء لك منا فاطلق منهم من شئت واحبس من شئت فلا حساب عليك منه.

ثم قال تعالى * (وإن له) * يعني سليمان * (عندنا لزلفى) * أي لقربى زيادة على ما أعطيناه في الدنيا * (وحسن مآب) * أي وحسن مآل في العاقبة.

الآية: 41 - 88

قوله تعالى: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب(41) أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب(42) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الالباب(43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب(44))

أربع آيات.

قرأ ابوجعفر * (بنصب) * بضم النون والصاد. وقراء‌ة يعقوب بفتحهما. الباقون بضم النون وإسكان الصاد، وهي لغات أربع. وقراء‌ة هبيرة بفتح النون وإسكان الصاد.

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه واله * (واذكر) * يا محمد * (عبدنا أيوب إذ نادى ربه) * فقال يا رب، لان النداء هو الدعاء بطريقة يا فلان ومتى قال اللهم افعل بي وارزقني وعافنى كان داعيا ولا يكون مناديا * (اني مسني

[567]

الشيطان) * (اني) في موضع نصب لان تقديره، انه نادى بهذا القول، وتقديره بأني مسني فلما حذف الياء نصب (أني) و * (مسني الشيطان) * أي وسوسني وذكرني ما كنت فبه من نعم الله في الاهل والولد والمال، وكيف زال ذلك كله وما حصل فيه من البلية طمعا فيه ليزله بذلك ويجد طريقا إلى اضلاله وتضجره وتبرمه، فوجده صابرا عند ذلك مسلما لامر الله تعالى.

وقيل: انه كان وسوس إلى قومه أن يستقذروه ويخرجوه من بيتهم ولا يتركوا امرأته التي تخدمه أن تدخل عليهم، لان فيه برصا وجذاما ربما عدا اليهم وكان أيوب ينادى بذلك ويألم به. والنصب والوصب والتعب نظائر، وفيه لغات اربع على ما حكيناه نصب ونصب مثل حزن وحزن ورشد ورشد ورشد، وعدم وعدم، ثم تسكن الصاد مع فتح النون تخفيفا وتضم النون والصاد اتباعا لما قبله. ونقيض النصب الراحة وأصله ألا نصاب يقال انصبني أي عذبني، وبرح بي، ومنهم من يقول: نصبني قال بشر بن أبي حازم: تعناك نصب من أميمة منصب وقال النابغة:

كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسية بطئ الكواكب(1)

و * (عذاب) * اراد به ماكا يدخل عليه من ألم الوسوسة، فاجاب الله تعالى دعاه وقال * (اركض برجلك) * أي ادفع برجلك الارض، فالركض الدفع بالرجل على جهة الاسراع، ومنه ركض الفرس لاسراعه ذا دفعه برجله.

يقال: ركضت الدابة وركضتها أنا مثل جبر العظم وجبرته أنا، وحزن وحزنته انا، وفي الكلام حذف وتقديره فركض برجله وظهر عين ماء، فقال الله

___________________________________

(1) مر في 5 / 368 و 6 / 95، 329

[568]

له * (هذا مغتسل) * أي ماء مغتسل * (بارد وشراب) * وقال الحسن وقتادة: نبعت له عينان، فاغتسل من احداهما وشرب من الاخرى، فالمغتسل موضع الاغتسال.

وقيل: كل ماء يغتسل فيه فهو مغتسل وغسول - ذكره ابوعبيدة - وفي الكلام حذف، وتقديره إن أيوب اغتسل من تلك العين، فأزال الله تعالى عنه جميع ما كان فيه من الامراض. ثم اخبر بما من عليه زيادة على صلاح جسمه، وزوال ألمه فقال * (ووهبنا له أهله) * لانه لما رد عليه أهله كان ذلك هبة منه مجددة * (ومثلهم معهم) * وتقديره ووهبنا له مثل أهله دفعة اخرى.

وقد ذكرنا اختلاف المفسرين في ذلك - في سورة الانبياء - ون فيهم من قال اعطاه بكل امرأة امرأتين وبكل ولد ولدين في دار الدنيا. ومنهم من قال ذلك اخبار عما يهبه الله له في الآخرة.

وقيل: إن الله تعالى أمطر عليه جرادا من ذهب وقوله * (رحمة منا) * معناه فعلنا ذلك لرحمتنا إياه، فهو نصب على انه مفعول له، ويجوز أن يكون نصبا على المصدر * (وذكرى لاولى الالباب) * أي وليتذكر به ويعتبر ذووا العقول فيصبروا كما صبر.

ثم حكى ما قال له فانه قال له * (خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) * فالضغث مل‌ء الكف من الحشيش او الشماريخ وما أشبه ذلك قال عوف بن الجزع:

وأسفل مني فهدة قدر بطنها * والقيت ضغثا من حلا متطيب

أي تطيبت لها.

وقيل إنه كان حلف على امرأته لامر أنكره من قولها لئن عوفي ليضربنها مئة، فقيل له * (خذ ضغثا) * بعدد ما حلفت، فاضرب به دفعة واحدة، فانك إذا فعلت ذلك، فقد بررت قسمك، ولم تحنث، وهو قول قتادة والضحاك.

[569]

وقوله * (ولا تحنث) نهي له عن الحنث.

ثم اخبر تعالى عن حال ايوب وعظم منزلته، فقال * (انا وجدناه صابرا) * لبلائنا مسلما لامرنا. ثم أثنى عليه فقال * (نعم العبد انه أواب) * أي رجاع إلى الله منقطع اليه، وعندنا ان من حلف ان يضرب غيره مئة فضربه بشمراخ فيه مئة طاقة، فقد بر في يمينه، وفيه خلاف بين الفقهاء.

قوله تعالى: (واذكر عبادنا إبرهيم وإسحق ويعقوب أولي الايدي والابصار(45) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار(46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار(47) واذكر إسمعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار(48) هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب(49) جنات عدن مفتحة لهم الابواب(50) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب(51) وعندهم قاصرات الطرف أتراب(52) هذا ما توعدون ليوم الحساب(53) إن هذا لرزقنا ماله من نفاد(54))

عشر آيات.

قرأ ابن كثير * (واذكر عبدنا ابراهيم) * على التوحيد. والباقون على الجمع.

وقرأ نافع * (بخالصة ذكرى الدار) * مضافا. الباقون بالتنوين.

[570]

من نون جعل * (ذكرى) * بدلا من (خالصة) وموضعه جر، ويجوز أن يكون نصبا باضمار (اعني) او يكون معمول خالصة - في قول ابي عبيدة - ويجوز أن يكون رفعا باضمار هي ذكرى، كما قال * (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار) *(1) اي هي النار، قال ابوعلي: (الدار) يحتمل ان يكون الدنيا ويحتمل أن يكون الآخرة اي باخلاصهم ذكرى في الدنيا، فاذا حملت على دار الاخرة، فعلى تقدير إخلاصهم ذكرى الدار. ويكون ذكرهم لها وجل قلوبهم منها ومن حسابها، كما قال * (وهم من الساعة مشفقون) *(2) فالدار عندهم على هذا مفعول به، وليست كالوجه المتقدم.

فأما من اضاف فانه يكون قد اضاف إلى المفعول، كأنهم باخلاصهم ذكرى الدار والخوف منها اخلصوا ذكرها والخوف منها لله تعالى، ويكون على اضافة المصدر إلى الفاعل وتقديره بأن خلصت لهم ذكرى الدار.

وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما * (والليسع) * بلامين. الباقون بلام واحدة من قرأ بلامين ادخل على اللام الالف واللام، ثم ادغم احداهما في الاخرى كما قال الشاعر:

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأعباء الخلافة كاهله(3)

لانه قدره تقدير النكرة، وقرأ * (هذا ما يوعدون) * بالياء ابن كثير وابوعمرو، وفي سورة ق ابن كثير وحده. الباقون بالتاء.

من قرأ بالياء فللغيبة، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب، ومن قرأ (عبدنا) على التوحيد يجوز ان يكون خص به ابراهيم بكونه عبدا له كما خصه بالخلة، ويجوز أن يكون

___________________________________

(1) سورة 23 الحج آية 72.

(2) سورة 21 الانبياء آية 49.

(3) مر في 4 / 208 و 7 / 35

[571]

لان لفظه يدل على القليل والكثير. ومن جمع فلانه ذكر جماعة.

يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه * (واذكر) * يا محمد * (عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب) * فمن قرأ بالجمع فلانه ذكر جماعة. ومن قرأ بالتوحيد فلان لفظة (عبد) لفظ جنس يقع على القليل والكثير، ثم وصفهم فقال * (اولي الايدي) * يعني اولي القوة على العبادة * (والابصار) * الفقه في الدين - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقيل: * (اولي الايدي) * معناه اولي الاعمال الصالحة، وقيل معناه اولي النعم في الدين، قال الشاعر:

فاعمل لما يعلو فمالك بال‍ * ذي لا تستطيع من الامور تدان

ثم اخبر تعالى عن حال هؤلاء الذين وصفهم، فقال * (انا أخلصناهم) * فالاخلاص إخراج كل شائب من الشئ ليس من شكله، فهؤلاء الابرار قد اخلصهم الله لنعيم الجنان بلطفه في ما لازموه من الاحسان.

وقوله * (بخالصة ذكرى الدار) * معناه إنا اخلصنا ابراهيم وإسحاق ويعقوب بخلة خلصت لهم.

ثم قال * (ذكرى الدار) * بدلا من * (خالصة) * اي يذكرون بدار الآخرة ويزهدون في الدنيا، ويجوز ان يكون المعنى إنهم يكثرون ذكر الآخرة والرجوع إلى الله، ومعنى * (أخلصناهم) * اصفيناهم، قال الطبري: معناه اخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، هذا على قول من اضاف، وهو قول ابن زيد. ومن نون فالمعنى الخالصة التي اخلصناهم بها هي ذكرى الدار للعمل لها فناهيك بها من خالصة ادت اليها وهي الجنة.

ثم قال * (وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار) * والاصطفاء إخراج الصفوة من كل شئ فهم صفوة وغيرهم كدر، فالله تعالى اصطفى هؤلاء الانبياء بأن اختارهم لنبوته بحسب ما سبق في علمه انه يكون منهم من القيام باعباء

[572]

النبوة والمسارعة إلى الخير والتبرز في الفضل. والذكر الذي يحتاج اليه على وجهين: ذكر ما يجب بالرغبة فيه والدعاء اليه وذكر ما يتقى بالرهبة منه والتحذير منه. وفي ذلك تمام الداعي والصارف اللذين تقتضيهما الحكمة.

و * (الاخيار) * جمع خير على وزن (أموات) جمع (ميت) وهو من يفعل الافعال الكثيرة الحسنة. وقيل هو جمع (خير) ومثله (الابرار) جمع (بر) وصفوا بالمصدر.

وقال مجاهد وقتادة: * (ذكرى الدار) * دار الآخرة وقال ابن زيد: هي دار الجنة.

كما قال تعالى * (ولنعم دار المتقين) *(1) قيل: إنهم كانوا يذكرونها للعمل لها ودعاء الناس اليها.

وقيل: ذكرى الدار بالثناء الذي ليس لغيرهم من اجل قيامهم بالنبوة.

وقيل: الاصطفاء الاختصاص بمدحهم بأنهم هم الصفوة.

وقيل: إنما خاطب الله النبي صلى الله عليه واله أن يذكرهم بصبرهم وفضلهم ليسلك طريقهم ثم قال له صلى الله عليه واله * (واذكر) * أيضا * (اسماعيل واليسع وذا الكفل) * بمثل ذلك.

ثم اخبر عنهم بأنهم كلهم من الاخيار. وقيل ذو الكفل ذو الضعف من الثواب. وقيل كان اسمه ذلك. وقيل: سمي بذلك لانه تكفل بأمر انبياء خلصهم الله من القتل به. وقيل تكفل بعمل صالح فسمي به.

ثم قال تعالى * (هذا ذكر) * ومعناه إن ما اخبرنا عنهم ذكر أي شرف لهم وذكر جميل وثناء حسن يذكرون به في الدنيا * (وإن للمتقين لحسن مآب) * يعني حسن المرجع في الآخرة، لانهم يرجعون إلى الجنة. ثم بين ذلك المآب، فقال * (جنات عدن) * وهو في موضع جر على البدل من (مآب) والجنات جمع جنة وهي البستان التي يجنها الشجر * (عدن) * يعني موضع إقامة وخلود * (مفتحة لهم الابواب) * قيل تنفتح من غير كلفة، قال الحسن تكلم: انفتحي

___________________________________

(1) سورة 16 النحل آية 30

[573]

انغلقي، ورفعت (الابواب) لان تقديره مفتحة لهم ابوابها، فدخلت الالف واللام بدلا من الاضافة، كما يقولون: مررت برجل حسنة عينه قبيح أنفه يريدون قبيح الانف - ذكره الفراء - وقال الزجاج: تقديره مفتحة لهم الابواب منها، ولو نصب (الابواب) لجاز، كقول الشاعر:

فما قومي بتغلبة بن سعد * ولا بفزارة الشعث الرقابا

هذا على شبه المفعول.

ثم وصف تعالى الذين يحصلون في الجنة فقال * (متكئين فيها على الارائك) * فالاتكاء الاستناد إلى المساند، ومنه الوكاء لانه يستمسك به ما في الوعاء * (يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب) * أي يستدعون الفواكه للاكل والشراب للشرب * (وعندهم قاصرات الطرف اتراب) * يعني قصرن على ازواجهن فمالهن في غيرهم بغية، فالقاصر نقيض الماد، يقال هو قاصر طرفه عن فلان وماد عينه إلى فلان قال امرؤ القيس:

من القاصرات الطرف لودب محول * من الذر فوق الاتب منها لاثرا(2)

والاتراب الاقران على سن واحد ليس فيهن هرمة ولا عجوز.

قال الفراء: لا يقال الاتراب إلا في الاناث، ولا يقال في الذكران قال ابن أبي ربيعة:

ابرزوها مثل المهاة تهادى * بين عشر كواعب اتراب(1)

والترب اللذة وهو مأخوذ من اللعب بالتراب.

وقيل: اتراب على مقدار سن الازواج من غير زيادة ولا نقصان.

ثم قال تعالى * (هذا ما توعدون) * فمن قرأ بالتاء فعلى انه يقال لهم ويخاطبون بهذا القول.

ومن قرأ بالياء فعلى الخبر عن حالهم * (ليوم الحساب) * يعني يوم الجزاء. ثم قال تعالى * (إن

___________________________________

(1) ديوانه 91 * (شرح السندوسي) *.

(2) ديوانه 59 * (دار بيروت) *

[574]

هذا) * يعني الذي وصفته من الجنة وما فيها من نواع اللذات * (لرزقنا ماله من نفاد) * يعني من انقطاع لانه على سبيل الدوام، وهو قول قتادة.

قوله تعالى: (هذا وإن للطاغين لشر ماب(55) جهنم يصلونها فبئس المهاد(56) هذا فليذوقوه حميم وغساق(57) وآخر من شكله أزواج(58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار(59) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار(60))

ست آيات بلا خلاف.

لما وصف الله تعالى اهل الجنة وما أعده لهم من انواع النعيم فيها وصف ما أعده لاهل النار والعصاة من انواع العقاب، فقال * (هذا) * يعني هذا ما ذكرنا لاهل الجنة.

ثم ابتدأ فقال * (وإن للطاغين) * وهم الذين طغوا في معاصي الله * (لشر مآب) * يعني شر مرجع. ثم بين ذلك المرجع فقال * (جهنم يصلونها فبئس المهاد) * وإنما وصف جهنم بأنها مهاد لما كانت عوضا لهم عن المهاد، فسميت باسمه، كما قال * (فبشرهم بعذاب اليم) *(1) وقال قوم: هو على تقدير بئس موضع المهاد، والمهاد الفراش الموطأة تقول: مهدت له تمهيدا كقولك وطأت له توطئة، ومه مهد الصبي، لانه يوطأ له.

ثم قال * (هذا فليذوقوه حميم وغساق) * وتقديره هذا عذاب جهنم

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية 21

[575]

فليذوقوه حميم وغساق. ويجوز أن تجعله مستأنفا كانك قلت هذا فليذوقوه. ثم قلت منه حميم وغساق. أمرهم الله بذواق الحميم، لان الذواق ابتداء إدراك الطعم على طلبه بالفم، ولذلك يقال: ذقته فلم اجد له طعما لما فيه من طلب ادراك الطعم بالفم. ومن طلب إدراك الشئ كان أشد احساسا به. والحميم الحار الشديد الحرارة، ومنه الحمى لشدة حرارتها وحم الشئ إذا دنا وأحمه لهذا أي ادناه قال الشاعر:

احم الله ذلك من لقاء * احاد احاد في الشهر الحلال(1)

والغساق ما يسيل من صديد أهل النار.

وقال ابن عمر: هو القيح الذي يسيل منهم يجمع فيسقونه، وقال كعب الاحبار: الغساق عين في جهنم يسيل اليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية.

وقيل: هو قيح شديد التن، يقال: غسقت القرحة تغسق غسوقا. والتشديد والتخفيف لغتان.

وقيل: الغساق الزمهرير - في قول ابن مسعود - فلبرده يحرق كما تحرق النار.

ثم قال * (وآخر من شكله أزواج) * معناه انواع أخر من شكل العذاب أزواج اي امثال.

وقال الحسن: ذكر السلاسل والاغلال ونحوه، ثم قال * (وآخر من شكله) * مما لم ير في الدنيا. والشكل - بفتح الشين - الضرب المشابه. والشكل - بكسر الشين - النظير في الحسن، ومن قرأ * (وآخر) * أراد الواحد.

ومن قرأ * (وأخر) * اراد الجمع * (ازواج) * معناه اشكال.

ثم قال * (هذا فوج مقتحم معكم) * قال الحسن يعني به بني إبليس، والآخر بنو آدم يقتحمون معكم النار وعذابها * (لا مرحبا بهم) * أي لا اتسعت لهم أماكنهم * (إنهم صالوا النار) * أي لازموها. قال الفراء:

___________________________________

(1) اللسان * (حمم) *

[576]

هي الامة بعد الامة تدخل النار.

وقوله * (لا مرحبا بهم) * من قول أهل النار، كما قال * (كلما دخلت أمة لعنت اختها) *(1) وقيل هم اتباع الرؤساء في الضلالة قيل لهم لا مرحبا بهم، وهو نصب على المصدر * (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم انتم قدمتموه لنا فبئس القرار) * حكاية ما يردون عليهم من الجواب فانهم يقولون: بل انتم لا اتسعت عليكم أماكنكم قدمتموه لنا فبئس القرار الذي استقررنا عليه، وهو مثل قوله " ربنا إنا اطعنا سادتنا وكبراء‌نا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا "(2) وقرأ حمزة والكسائي وخلف (غساق) - بالتشديد - الباقون بالتخفيف وهما لغتان.

وقرأ ابوعمرو وابن كثير * (واخر) * مضمومة الالف على الجمع. الباقون * (وآخر) * بفتح الالف ممدودة على التوحيد. ومن قرأ على الجمع، فلقوله * (ازواج) * وهما لا ينصرفان، لان (آخر) وزنه افعل واما أخر فلانه معدول عن الالف والام، لانه لا يستعمل في الجارية الكبرى والمرأة الاخرى إلا بالالف واللام، فلما عدلوه وعرفوه تركوا صرفه مثل (سحر) إذا أردت سحر يوم بعينه تركت صرفه لانه معدول عن الالف واللام في السحر.

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 37(2) سورة 33 الاحزاب آية 68

[577]

قوله تعالى: (قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار(61) وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار(62) أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الابصار(63) إن ذلك لحق تخاصم أهل النار(64) قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار(65))

خمس آيات.

قرأ ابوعمرو وحمزة والكسائي اتخذناهم موصولة على وجه الاخبار. الباقون بقطع الهمزة على الاستفهام.

وقرأ نافع وحمزة والكسائي * (سخريا) * بضم السين. الباقون بكسرها.

حكى الله تعالى عن الكفار الذين اتبعوا غيرهم في الضلال وانقادوا لرؤسائهم فيه انهم يقولون يوم القيامة إذا حصلوا في عذاب جهنم يا * (ربنا من قدم لنا هذا) * أي من سبب لنا هذا العذاب ودعانا إلى ما قد استوجبنا به ذلك " فزده عذابا ضعفا " أي مثلا مضاعفا إلى مثل ما يستحقه " في النار " احد الضعفين لكفرهم بالله تعالى والضعف الآخر لدعائهم إيانا إلى الكفر، ثم حكى عنهم ايضا انهم يقولون " مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار " قال مجاهد نزلت في أبي جهل والوليد بن المغيرة وذويهما انهم يقولون مع قرنائهم: ما لنا لا نرى عمارا وخبابا وصهيبا وبلالا الذين كنا نعدهم في الدنيا من جملة الاشرار الذين يفعلون الشر والقبيح ولا يفعلون الخير.

وفي تفسير اهل البيت إن هذا حكاية عما يقوله اعداء أهل الحق، فانهم لا يرون أهل الحق يوم القيامة لكونهم في الجنة وكون اعدائهم في النار وكانوا يعدونهم في الدنيا من الاشرار. ثم حكى انهم يقولون ايضا " اتخذناهم سخريا " فمن قطع الهمزة أراد

[578]

الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ، ومن وصل أراد الاخبار، يعنون الذين كنا نعدهم من الاشرار " أتخذناهم سخريا " فمن كسر السين جعله من الهزء أي كنا نسخر منهم في الدنيا، ومن ضم السين جعله من السخرة أي كنا نسخرهم ونستذلهم " أم زاغت عنهم الابصار " ومن قطع الهمزة جعل (أم) معادلة ومن وصلها جعل (أم) بمعنى بل، قال مجاهد والضحاك " أم زاغت عنهم الابصار " أي ابصارنا، فلا ندري اين هم.

وقال الحسن: كل ذلك قد مثلوا بهم اتخذوها سخريا وزاغت عنهم ابصارهم محقرة لهم.

ثم اقسم تعالى ان الذي حكاه من تخاصم اهل النار ومجادلة بعضهم لبعض " لحق " أي كائن لامحالة. ثم أمر نبيه صلى الله عليه واله فقال " قل " يا محمد " إنما أنا منذر " أي مخوف من معاصي الله ومحذر من عقابه " وما من إله " أي وليس من يحق له العبادة " إلا الله الواحد " الفرد " القهار " لجميع خلقه المستعلي عليهم بسعة مقدوره لا يقدر احد على الخلاص من عقوبته إذا اراد عقابه، ومن اختار وصل الهمزة في قوله " اتخذناهم " قال لانهم علموا انهم اتخذوهم سخريا في دار الدنيا وإنما اعترفوا بذلك يوم القيامة، يقولون اتخذناهم سخريا بل زاغت عنهم ابصارنا محقرة لهم.

ومن قطع الهمزة قال: هذا على وجه التوبيخ لنفوسهم والتبكيت لها.

ثم قال ذلك أي ثم يقولون بل زاغت عنهم ابصارنا فلا نراهم.

[579]

قوله تعالى: (رب السموات والارض وما بينهما العزيز الغفار(66) قل هو نبؤ عظيم(67) أنتم عنه معرضون(68) ما كان لي من علم بالملاء الاعلى إذ يختصمون(69) إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين(70))

أربع آيات.

قرأ ابوجعفر " إنما انا نذير مبين " بكسر الهمزة. الباقون بفتحها. لما وصف الله تعالى نفسه بأنه الواحد القهار وصفها ايضا بأنه " رب السموات والارض " أي مالكهما ومدبرهما ومدبر ما بينهما " العزيز " الذي لا يغالب لسعة مقدوراته " الغفار " لذنوب عباده إذا تابوا.

ثم قال قل لهم يا محمد " هو نبأ عظيم " قال مجاهد والسدي يعني القرآن " هو نبأ عظيم " أي الخبر العظيم وقال الحسن: هو يوم القيامة. ثم خاطب الكفار فقال " انتم " معاشر الكفار " عنه معرضون " عن هذا النبأ العظيم لا تعلمون بما يوجب مثله من اجتناب المعاصي وفعل الطاعات. ثم أمر نبيه صلى الله عليه واله ان يقول أيضا " ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون " يعني بالملا الاعلى الملائكة اختصموا في آدم حين قيل: لهم " إني جاعل في الارض خليفة " في قول ابن عباس وقتادة والسدي، فما علمت ما كانوا فيه إلا بوحي من الله تعالى.

وقيل: كان اختصام الملائكة في ما كان طريقه الاجتهاد.

وقيل: بل طريقه إستخراج الفائدة، ولا يجوز ان يختصموا في دفع الحق.

وقوله " إن يوحى إلي إلا أنما انا نذير مبين " قيل في معناه قولان: احدهما - ليس يوحى إلى إلا لاني انا نذير مبين أي مخوف من المعاصي مظهر للحق. الثاني - ليس يوحى الي إلا الانذار البين الواضح.

[580]

قوله تعالى: (إذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرا من طين(71) فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين(72) فسجد الملئكة كلهم أجمعون(73) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين(74) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين(75))

خمس آيات.

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه واله قل يا محمد " ما كان لي من علم بالملا الاعلى " من الملائكة " إذ يختصمون.... إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين " يعني آدم عليه السلام، لان الله تعالى خلقه من طين، فالخلق فعل الشئ على تقدير وترتيب وكان جعل آدم على مقدار ما تقتضيه الحكمة واصل الخلق التقدير. والبشر مأخوذ من البشرة، وهي الجلدة الظاهرة، والانسان مأخوذ من الانس، لانه يأنس بمثله في ما يؤنس به، فجرى عليه الاسم، لان هذا من شأنه " فاذا سويته " أي سويت خلق هذا البشر وتممت أعضاه وصورته " فقعوا له ساجدين " أي اسجدوا له.

وقد بينا في ما مضى أن السجود كان لله تعالى وعبادة له وفيه تفضيلا لآدم على الملائكة وقوله " ونفخت فيه من روحي " فالروح جسم رقيق هوائي بها يتم كون الحي حيا لتخرقه في مخارق الانسان وهو مشتق من الريح، ومنه الراحة والاستراحة من الكد للخفة على النفس كالريح، ومنه الاريحة، والراحة كف

[581]

الانسان لما يتراوح الناس اليها في العمل، ومنه الرواح إلى المنزل للاستراحة ومعنى " ونفخت فيه من روحي " أي توليت خلقها من غير سبب كالولادة التي تؤدي اليها، لان الله تعالى شرف آدم بهذه الحال وكرمه. وفي الكلام حذف وتقديره إن الله خلق آدم الذي وعدهم بخلقه ثم إن الملائكة سجدت بأجمعها له إلا إبليس الذي أمتنع، وقد بينا اختلاف الناس في أن إبليس هل كان من جملة الملائكة، ومن قبلهم او كان في جملتهم يتناول الامر له بالسجود فلا نطول باعادته فمن قال لم يكن منهم، قال (إلا) بمعنى (لكن) وتقديره: لكن إبليس استكبر وتجبر وامتنع من السجود له، وكان بذلك الاباء والمخالفة من جملة الكافرين.

ثم حكى ما خاطب الله تعالى إبليس به حين امتنع من السجود لآدم " ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي " على وجه التقريع له والتهجين لفعله، وإنما قال " بيدى " على وجه تحقيق الاضافة لخلقة الله تعالى، لا انه أمر به او كان على سبب أدى اليه تعالى، والتثنية أشد مبالغة، كما قال الشاعر:

دعوت لما نابني مسورا * فلبي فلبي يدي مسور(1)

لتحقيق اضافة المبالغة إلى مسور، ومثله قولهم: هذا ما كسبت يداك أى ما كسبته أنت قال الشاعر:

ايها المبتغي فناء قريش * بيد الله عمرها والفناء

فوحد لتحقيق الاضافة.

ثم قال له بلفظ الاستفهام والمراد به الانكار " استكبرت " يا إبليس أى طلبت التكبر بامتناعك من السجود له " أم كنت من العالين " الذين يعلون على الخلق تجبرا وتكبرا. وقرئ في الشواذ " بيدي

___________________________________

(1) اللسان (سور، لبب)

[582]

أستكبرت " على وصل الهمزة.

وروي ذلك عن مجاهد عن شبل ابن كثير اجتزاء ب‍ (أم) عن الف الاستفهام. ويحتمل أن يكون على اليمين، كأنه اقسم فقال بنعمتي الدينية والدنياوية تكبرت بل كنت من العالين بهذا الفعل فتكون على هذا (أم) منقطعة وعلى الاول وهو المعروف تكون معادلة لهمزة الاستفهام.

قوله تعالى: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين(76) قال فاخرج منها فانك رجيم(77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين(78) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون(79) قال فانك من المنظرين(80) إلى يوم الوقت المعلوم(81) فبعزتك لاغوينهم أجمعين(82) إلا عبادك منهم المخلصين(83) قال فالحق والحق أقول(84) لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين(85) قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين(87) ولتعلمن نبأه بعد حين(88))

ثلاث عشرة آية في الكوفي واثنتا عشرة اية في ما عداه عد الكوفي " فالحق أقول " ولم يعده الباقون.

[583]

قرأ عاصم إلا هيبرة وخلف وحمزة " قال فالحق " بالرفع " والحق " بالنصب. الباقون بالنصب فيهما، من رفع تقديره فأنا الحق، ويجوز على تقدير فالحق لاملان كما تقول: عزيمة صادقة لآتينك، ويجوز على تقدير حذف الخبر، وتقديره: فالحق مني لاملان.

ومن نصب فعلى فالحق لاملان على القسم، كما تقول: والله لافعلن، ويجوز في مثله حقا لاملان، ويكون (والحق أقول) اعتراضا بين الكلامين، ويجوز أن يكون النصب على تقدير اتبعوا الحق، او أقول الحق.

وقال ابوعلي: من نصب (الحق) الاول فعلى اضمار (فعل) نحو ما ظهر في قوله " ليحق الحق "(1) وفي قوله " ويحق الله الحق "(2). لما حكى تعالى ما قال لابليس على وجه الانكار عليه " استكبرت أم كنت من العالين " حكى ما أجاب به إبليس، فانه قال " انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " وقيل إن الله تعالى خلق الملائكة من الريح فسموا بذلك روحانيبن، وخلق آدم من الطين وخلق إبليس من النار، فظن إبليس إن النار أشرف من الطين لما فيها من النور، ولما يكون بها من الانضاح لاكثر ما يحتاج اليه ومن الاحراق الذي يقع به الزجر من العقاب فدخلت عليه الشبهة بهذا، وظن أنه افضل منه من حيث كان أصله افضل من اصل آدم، وكيف يجوز أن يفضل آدم عليه السلام عليه.

وهذا يدل على ان السجود لآدم كان على وجه التفضيل له على جميع من أمر بالسجود له، وإلا لم يكن يمتنع من ذلك، ولم يعلم إبليس أن الله تعالى إنما امرهم بالسجود لآدم عبادة له، وإن كان تفضيلا لآدم وإن لهم في ذلك لطفا في تكليفهم فلذلك أمرهم الله بالسجود له، ولو أنعم النظر في ذلك لزالت شبهته.

___________________________________

(1) سورة 8 الانفال آية 8.

(2) سورة 10 يونس آية 82

[584]

فقال الله تعالى له " فاخرج منها " قال الحسن: يعني من السماء.

وقال غيره: من الجنة " فانك رجيم " أي مرجوم إن رجعت اليها بمثل الشهب التي ترجم به الشياطين. وأصل الرجيم المرجوم، وهو المرمي بالحجر " وإن عليك لعنتي " يا إبليس ابعادي لك من رحمتي " إلى يوم الدين " يعني يوم القيامة الذي هو يوم الجزاء.

فقال إبليس عند ذلك يا " رب فانظرني " أي اخرني " إلى يوم يبعثون " أي يوم يحشرون للحساب، وهو يوم القيامة فقال الله تعالى له " فانك من المنظرين " أي من المؤخرين " إلى يوم الوقت المعلوم " أي اليوم الذي قدر الله فيه اماتتك، فعلى هذا لا يلزم أن يكون إبليس مغرى بالقبائح لعلمه بأنه يبقى، لانه لا وقت إلا وهو يجوز أن يخترم فيه، ولا يقدر على التوبة فالزجر حاصل له.

ومن قال إنه اجابه إلى يوم القيامة يقول: كما أعلمه انه يبقيه إلى يوم يبعثون، اعلمه ايضا انه من أهل النار لا محالة، وانه لا يتوب وصح مع ذلك تكليفه، لانه يلزمه بحكم العقل أن لا يفعل القبيح من حيث انه متى فعله زاد عقابه، ويضاعف على ما يستحق له وتخفيف العقاب عن النفس واجب بحكم العقل، كما يجب اسقاط العقاب جملة.

ثم حكى تعالى ما قال إبليس فانه اقسم وقال " فبعزتك " يا الهي " لاغوينهم أجمعين " فالعزة القدرة التي يقهر بها غيره من القادرين، و (الاغواء) التخيب، وإبليس يغوي الخلق بأن يزين لهم القبيح ويرغبهم فيه. والغي خلاف الرشد، وهو الخيبة، يقال: أغواه يغويه إغواء، فهو مغوي إذا دعاه إلى ما فيه الخيبة. ثم استثنى من جملة من يغويهم " عباد الله المخلصين " مع حرصه على اغواء الجميع من حيث أنه يئس منهم من حيث علم انهم لا يقبلون منه ولا

[585]

ينقادون لاغوائه، وانه ليس له عليهم سلطان إلا بالاغواء، فاذا علم أن منهم من لا يقبل منه عرف ذلك عنه ليأسه منه.

ومن فتح اللام من " المخلصين " أراد إن الله تعالى اخلصهم بما فعل لهم من اللطف الذي امتنعوا عنده من القبائح، ومن كسر اللام أراد انهم اخلصوا عبادتهم لله، لم يشركوا معه غيره.

ثم حكى تعالى ما أجاب به - عزوجل - لابليس، فانه قال له " فالحق والحق اقول لاملان " فمن رفع الاول اراد، فأنا الحق او فالحق لاملان واقول الحق.

ومن نصب فعلى تقدير. فالحق لاملان، كما تقول حقا لاملان، ويكون " والحق اقول " اعتراض بين الكلامين ويكون العامل في (الحق) الثاني قوله " اقول " لاملان جهنم منك " يا إبليس " وممن تبعك منهم اجمعين " أي من تابعك على دعائك إلى المعاصي.

ثم خاطب النبي صلى الله عليه واله فقال " قل " يا محمد " ما أسألكم عليه من اجر " أي ليس اسألكم أجرا على دعائكم إلى الله " وما أنا من المتكلفين " أي ولست ممن يتعسف في طلب الامر الذي لا يقتضيه العقل، وصفة (متكلف) صفة تجري مجرى الذم، فلذلك قال " وما انا من المتكلفين "، لانه لا يدعو إلا إلى الامر الجميل الذي يقتضيه الحق. ثم قال " إن هو الا ذكر للعالمين " أي ليس هذا القرآن إلا شرف للعالمين " ولتعلمن نبأه بعد حين " قال الفراء: معناه ولتعلمن خبر القرآن وانه حق او خبر محمد أنه صادق بعد حين، قال الحسن: عند الموت يأتيك الخبر القين.

[586]

وقال ابن زيد: يوم القيامة، والحين الوقت، وقال عكرمة: هو كقوله " تؤتي أكلها كل حين باذن ربها "(1) وذلك حين تصرم النخلة إلى حين تطلع ستة أشهر وهو مثل ما رواه أصحابنا سواء.

___________________________________

(1) سورة 14 ابراهيم 25 آية

تم المجلد الثامن من التبيان ويليه المجلد التاسع وأوله اول سورة الزمر طبع في مطابع النعمان في النجف الاشرف في شعبان سنة 1382 ه‍ وفي كانون الثاني سنة 1963 م

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21394244

  • التاريخ : 16/04/2024 - 10:20

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net