00989338131045
 
 
 
 
 
 

 التحريم 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الامثال في القرآن   ||   تأليف : العلامة المحقق جعفر سبحاني

( 269 )

التحريم
55

التمثيل الخامس والخمسون



(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلين ) . (1)
تفسير الآية
إنّ إحدى الاَساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الاَخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوىَ الاَخلاق، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الاَنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء الله .
ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) اللّتين اشتركتا في إفشاء سره، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح و لوط، فواجهتا العذاب الاَليم.
يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول: (وَإِذْ أَسَـرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّـا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ
____________
1 ـ التحريم:10.

===============

( 270 )

عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبير ). (1)
وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب:
1. انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً، كما يقول سبحانه: (وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً )، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه و غيره.
2. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته، فحدّثت به زوجة أُخرى، كما يقول سبحانه: (فلمّا نبّأت به )، و المفسرون اتفقوا على أنّ الاَُولى منهما هي حفصة و الثانية هي عائشة.
وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر .
3. انّه سبحانه أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) به، كما يقول سبحانه: (وأظهره الله عليه) أي أطلعه الله عليه.
4. انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت، و كان (صلى الله عليه وآله وسلم ) قد علم جميع ذلك و لكنّه أخذ بمكارم الاَخلاق، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها، والتغافل من خلق الكرام، و قد ورد في المثل: "مااستقصى كريم قط".
5. لما أخبر رسول الله حفصة بما أظهره الله عليه سألت، وقالت: من أخبرك بهذا؟ فأجاب الرسول: نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه: (فلمّا
____________
1 ـ التحريم:3.

===============

( 271 )

نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ).
وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة، لاَجل ما كسبت قلوبهما من الآثام، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاعلما انّ الله يتولّـى حفظه ونصرته، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه، وصالح الموَمنين وخيارهم يوَيدونه، وبعدهم ملائكة الله من أعوانه. كما يقول سبحانه: (ان تتوبا فقد صغت قلوبكما ) أي مالت إلى الاِثم، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي، فانّ الله مولاه وجبرئيل و صالح الموَمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.
هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية، حيث إنّ حفظ الاَمانة من واجب الزوجة حيال زوجها، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند الله سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق: إمّا التوبة لاَجل الاِثم، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه، لاَنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح الموَمنين.
وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما.إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد: ما بغت امرأة نبي قط، و إنّما كانت خيانتهما في الدين.
قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس: إنّه مجنون، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.
وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الاَربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.
وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب الله ، ولم يقفن

===============

( 272 )

على أنّ مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح، قال سبحانه: (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ ) (1) وقال سبحانه مخاطباً بني آدم: (يا بَنِى آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) . (2)
ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع مالم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة، وأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أمام الله سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.

____________
1 ـ الموَمنون:101.
2 ـ الاَعراف:35.

===============

( 273 )

التحريم
56

التمثيل السادس والخمسون


(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا امرأتَ فِرْعَون إِذْ قالَتْ رَبّ ابنِ لى عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنّةِ وَنَجّني مِنْ فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجّني مِنَ الْقَومِ الظّالِمين* وَمَرْيم ابْنَتَ عِمْرانَ الّتي أحصَنَت فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقت بِكَلِماتِ رَبّها وَكُتُبهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتين ) . (1)
تفسير الآيات
"الحصن" :جمعه حصون وهي القلاع، ويطلق على المرأة العفيفة، لاَنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أُخرى.
القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع، قوله: (كُلّ لَهُ قانِتُون ) أي خاضعون.
لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أُخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والاِيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، فقد بلغت من الاِيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من الله سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة، فقد آمنت بموسى
____________
1 ـ التحريم:11ـ12.

===============

( 274 )

لمّا رأت معاجزه الباهرة ودلائله الساطعة، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون و قد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس.
هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا و زخارفها أيّة أهمية، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها: (ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين ) .
فقولها: "عندك"، يهدف إلى القرب من رحمة الله ، وقولها: "في الجنة" يبين مكان القرب.
فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائمة.
ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلاً آخر للموَمنات مريم ابنة عمران، ويصفها بقوله : (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ) .
ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية:
1. (أحصنت فرجها ) فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها، كما يعرب عنه قوله سبحانه: (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً)(1) وفي سورة الاَنبياء قوله: (وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا).(2)

____________
1 ـ النساء:156.
2 ـ الاَنبياء:91.

===============

( 275 )

2. (فنفخنا فيه من روحنا ) : أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء الله العظام.
وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الاَنبياء، قال سبحانه: (وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِين ) .
وهناك اختلاف بين الآيتين، فقد جاء الضمير في سورة الاَنبياء موَنثاً فقال: (فنَفخنا فيها من روحنا ) و في الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً (فنفخنا فيه من روحنا ) .
وقد ذكر هنا وجه وهو:
إنّ الضمير في سورة الاَنبياء يرجع إلى مريم، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه "فيها" أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس موَنثة.
أقول: هذا لا يلائم ظاهر الآية، لاَنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لاَجل صيانة فرجها، فيجب أن يعود الجزاء إليها، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم.
3. (صدَّقت بكلمات ربّها وكتبه ) : ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة، والكتب: الكتب النازلة، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.
4. (وكانت من القانتين ) : أي كانت مطيعة لله سبحانه، ومن القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه، وقد جيء بصيغة المذكر تغليباً، يقول

===============

( 276 )

سبحانه: (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعين ) . (1)
ونختم البحث بذكر ثلاث روايات:
1. روى الطبري، عن أبي موسى، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد " (صلى الله عليه وآله وسلم) . (2)
2. أخرج الحاكم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : "أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن (قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة"). (3)
3. أخرج الطبراني، عن سعد بن جنادة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : "إنّ الله زوجني في الجنة: مريم بنت عمران، وامرأة فرعون، وأُخت موسى".

____________
1 ـ آل عمران: 43.
2 ـ مجمع البيان: 5|320.
3 ـ و 4. الدر المنثور :8|229.

===============




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21741226

  • التاريخ : 27/07/2024 - 05:01

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net