00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من (أول الكتاب ـ ص 97 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الخامس)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

الميزان في تفسير القرآن

السيد الطباطبائي

 ج 5

[ 3 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 4 ]

الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد الخامس منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة بسم الله الرحمن الرحيم

[ 5 ]

ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لو لا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) - اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) - ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79) - من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80))

بيان

 الآيات متصلة بما قبلها وهى جميعا ذات سياق واحد وهذه الآيات تشتمل على الاستشهاد بأمر طائفة أخرى من المؤمنين ضعفاء الايمان وفيها عظة وتذكير بفناء الدنيا وبقاء نعم الاخرة وبيان لحقيقة قرآنية في خصوص الحسنات والسيئات.

[ 6 ]

قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم إلى قوله أو أشد خشية) كف الايدى كناية عن الامساك عن القتال لكون القتل الذى يقع فيه من عمل الايدى وهذا الكلام يدل على أن المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشق عليهم ما يشاهدونه من تعدى الكفار وبغيهم عليهم فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك ولا يقابلوه بسل السيوف فأمرهم الله بالكف عن ذلك وإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة ليشتد عظم الدين ويقوم صلبه فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه ولولا ذلك لانفسخ هيكل الدين، وانهدمت أركانه وتلاشت أجزاؤه. ففى الآيات لومهم على أنهم هم الذين كانوا يستعجلون في قتال الكفار ولا يصبرون على الامساك وتحمل الاذى حين لم يكن لهم من العدة والقوة ما يكفيهم للقاء عدوهم فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدو وهم ناس مثلهم كخشية الله أو أشد خشية. قوله تعالى: (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) ظاهره أنه عطف على قوله (إذا فريق منهم) وخاصة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع (يخشون الناس) إلى الماضي (قالوا) فالقائل بهذا القول هم الذين كانوا يتوقون للقتال، ويستصعبون الصبر فامرو بكف أيديهم. ومن الجائز أن يكون قولهم ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب محكيا عن لسان حالهم كما من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فان القرآن يستعمل من هذه العنايات كل نوع. وتوصيف الاجل الذى هو أجل الموت حتف الانف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا التخلص عن القتل والعيش زمانا يسيرا بل ذلك تلويح منهم بأنهم لو عاشوا من غير قتل حتى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلا عيشا يسيرا وأجلا قريبا فما لله - سبحانه - لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتى يبتليهم بالقتل، ويعجل لهم الموت ؟ وهذا الكلام صادر منهم لتعلق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا التى هي في تعليم القرآن متاع قليل يتمتع به ثم ينقضى سريعا ويعفى أثره، ودونه الحياة الآخرة التى هي الحياة الباقية الحقيقية فهى خير، ولذلك أجيب عنهم بقوله (قل) (الخ).

[ 7 ]

قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل) (الخ) أمر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب هؤلاء الضعفاء بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيوي اليسير على كرامة الجهاد والقتل في سبيل الله تعالى ومحصله أنهم ينبغى أن يكونوا متقين في إيمانهم والحياة الدنيا هي متاع يتمتع به قليل إذا قيس إلى الآخرة والآخرة خير لمن اتقى فينبغي لهم أن يختاروا الآخرة التى هي خير على متاع الدنيا القليل لانهم مؤمنون وعلى صراط التقوى ولا يبقى لهم إلا أن يخافو أن يحيف الله عليهم ويظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على ما يوعدون من الخير وليس لهم ذلك فإن الله لا يظلمهم فتيلا. وقد ظهر بهذا البيان أن قوله (لمن اتقى) من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للدلالة على سبب الحكم ودعوى انطباقه على المورد والتقدير - والله أعلم - والاخرة خير لكم لانكم ينبغى أن تكونوا لايمانكم أهل تقوى والتقوى سبب للفوز بخير الاخرة فقوله (لمن اتقى) كالكناية التى فيها تعريض. قوله تعالى: (أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) البروج جمع برج وهو البناء المعمول على الحصون، ويستحكم بنيانه ما قدر عليه لدفع العدو به وعنه وأصل معناه الظهور ومنه التبرج بالزينة ونحوها والتشييد الرفع وأصله من الشيد وهو الجص لانه يحكم البناء ويرفعه ويزينه فالبروج المشيدة الابنية المحكمة المرتفعة التى على الحصون يأوى إليها الانسان من كل عدو قادم. والكلام موضوع على التمثيل بذكر بعض ما يتقى به المكروه وجعله مثلا لكل ركن شديد تتقى به المكاره ومحصل المعنى: أن الموت أمر لا يفوتكم إدراكه ولو لجأتم منه إلى أي ملجأ محكم متين فلا ينبغى لكم أن تتوهموا أنكم لو لم تشهدوا القتال ولم يكتب لكم كنتم في مأمن من الموت وفاته إدراككم فإن أجل الله لات. قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) (إلى آخر الاية) جملتان أخريان من هفواتهم حكاهما الله تعالى عنهم وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم عنهما ببيان حقيقة الامر فيما يصيب الانسان من حسنة وسيئة. واتصال السياق يقضى بكون الضعفاء المتقدم ذكرهم من المؤمنين هم القائلين ذلك قالوا ذلك بلسان حالهم أو مقالهم ولا بدع في ذلك فإن موسى أيضا جبه بمثل هذا المقال

[ 8 ]

كما حكى الله سبحانه ذلك بقوله (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الاعراف: 131) وهو مأثور عن سائر الامم في خصوص أنبيائهم وهذه الامة في معاملتهم نبيهم لا يقصرون عن سائر الامم وقد قال تعالى: (تشابهت قلوبهم) (البقرة: 118) وهم مع ذلك أشبه الامم ببنى إسرائيل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنهم لا يدخلون جحر ضب إلا دخلتموه) وقد تقدم نقل الروايات في ذلك من طرق الفريقين. وقد تمحل في الايات أكثر المفسرين بجعلها نازلة في خصوص اليهود أو المنافقين أو الجميع من اليهود والمنافقين وأنت ترى أن السياق يدفعه. وكيف كان فالاية تشهد بسياقها على أن المراد بالحسنة والسيئة ما يمكن أن يسند إلى الله سبحانه وقد أسندوا قسما منه إلى الله تعالى وهو الحسنة وقسما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو السيئة فهذه الحسنات والسيئات هي الحوادث التى كانت تستقبلهم بعد ما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ في ترفيع مباني الدين ونشر دعوته وصيته بالجهاد فهى الفتح والظفر والغنيمة فيما غلبوا فيه من الحروب والمغازى والقتل والجرح والبلوى في غير ذلك وإسنادهم السيئات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معنى التطير به أو نسبة ضعف الرأى ورداءة التدبير إليه. فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيبهم بقوله (قل كل من عند الله فانها حوادث ونوازل ينظمها ناظم النظام الكونى وهو الله وحده لا شريك له إذ الاشياء إنما تنقاد في وجودها وبقائها وجميع ما يستقبلها من الحوادث له تعالى لا غير. على ما يعطيه تعليم القرآن. ثم استفهم استفهام متعجب من جمود فهمهم وخمود فطنتهم من فقه هذه الحقيقة وفهمها فقال: (فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديثا). قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك لما ذكر أنهم لا يكادون يفقهون حديثا ثم أراد بيان حقيقة الامر صرف الخطاب عنهم لسقوط فهمهم ووجه وجه الكلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين حقيقة ما يصيبه من حسنة أو سيئة لذاك الشأن وليس للنبى صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه خصوصية في هذه الحقيقة التى هي من الاحكام الوجودية الدائرة بين جميع الموجودات ولا أقل بين جميع الافراد من الانسان

[ 9 ]

من مؤمن أو كافر أو صالح أو طالح ونبى أو من دونه. فالحسنات وهى الامور التى يستحسنها الانسان بالطبع كالعافية والنعمة والامن والرفاهية كل ذلك من الله سبحانه والسيئات وهى الامور التى تسوء الانسان كالمرض والذلة والمسكنة والفتنة كل ذلك يعود إلى الانسان لا إليه سبحانه فالاية قريبة مضمونا من قوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) الانفال: 53) ولا ينافى ذلك رجوع جميع الحسنات والسيئات بنظر كلى آخر إليه تعالى كما سيجئ بيانه. قوله تعالى: (وأرسلناك للناس رسولا) أي لا سمة لك من عندنا إلا أنك رسول وظيفتك البلاغ وشأنك الرسالة لا شأن لك سواها وليس لك من الامر شئ حتى تؤثر في ميمنة أو مشأمذ أو تجر إلى الناس السيئات وتدفع عنهم الحسنات وفيه رد تعريضي لقول أولئك المتطيرين في السيئات (هذه من عندك تشأما به صلى الله عليه وآله وسلم ثم أيد ذلك بقوله (وكفى بالله شهيدا.) قوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله) استئناف فيه تأكيد وتثبيت لقوله في الاية السابقة وأرسلناك للناس رسولا) وبمنزلة التعليل لحكمه أي ما أنت إلا رسولا منا من يطعك بما إنت رسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا. ومن هنا يظهر أن قوله من يطع الرسول من قبيل وضع الصفه موضع الموصوف للاشعار بعلة الحكم نظير ما تقدم في قوله والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا وعلى هذا فالسياق جار على استقامته من غير التفات من الخطاب في قوله وأرسلناك إلى الغيبة في قوله (من يطع الرسول) ثم إلى الخطاب في قوله فما أرسلناك).

 (كلام في استناد الحسنات والسيئات إليه تعالى)

 يشبه أن يكون الانسان أول ما تنبه على معنى الحسن تنبه عليه من مشاهدة الجمال في ابناء نوعه الذى هو اعتدال الخلقة وتناسب نسب الاعضاء وخاصة في الوجه ثم

[ 10 ]

في سائر الامور المحسوسة من الطبيعيات ويرجع بالاخرة إلى موافقة الشئ لما يقصد من نوعه طبعا. فحسن وجه الانسان كون كل من العين والحاجب والاذن والانف والفم وغيرها على حال أو صفة ينبغى أن يركب في نفسه عليها وكذا نسبة بعضها إلى بعض، وحينئذ تنجذب النفس ويميل الطبع إليه، ويسمى كون الشئ على خلاف هذا الوصف بالسوء والمساءة والقبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة فالمساءة معنى عدمي كما أن الحسن معنى وجودي. ثم عمم ذلك إلى الافعال والمعاني الاعتبارية والعناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع وهو سعادة الحياة الانسانية أو التمتع من الحياة، وعدم ملاءمتها فالعدل حسن، والاحسان إلى مستحقه حسن، والتعليم والتربية والنصح وما أشبه ذلك في مواردها حسنات والظلم والعدوان وما أشبه ذلك سيئات قبيحة لملاءمة القبيل الاول لسعادة الانسان أو لتمتعه التام في ظرف اجتماعه وعدم ملاءمة القبيل الثاني لذلك وهذا القسم من الحسن وما يقابله تابع للفعل الذى يتصف به من حيث ملاءمته لغرض الاجتماع فمن الافعال ما حسنه دائمي ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع وغرضه كذلك كالعدل، ومنها ما قبحه كذلك كالظلم. ومن الافعال ما يختلف حاله بحسب الاحوال والاوقات والامكنة أو المجتمعات فالضحك والدعابة حسن عند الخلان لا عند الاعاظم وفي محافل السرور دون المآتم، ودون المساجد والمعابد والزنا وشرب الخمر حسن عند الغربيين دون المسلمين. ولا تصغ إلى قول من يقول: أن الحسن والقبح مختلفان متغيران مطلقا من غير ثبات ولا دوام ولا كلية ويستدل على ذلك في مثل العدل والظلم بأن ما هو عدل عند أمة بإجراء أمور من مقررات اجتماعية غير ما هو عدل عند أمة أخرى بإنفاذ مقررات أخرى اجتماعية فلا يستقر معنى العدل على شئ معين فالجلد للزاني عدل في الاسلام وليس كذلك عند الغربيين، وهكذا. وذلك أن هؤلاء قد اختلط عليهم الامر، واشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، ولا كلام لنا مع من هذامبلغ فهمه.

[ 11 ]

والانسان على حسب تحول العوامل المؤثرة في الاجتماعات يرضى بتغيير جميع أحكامه الاجتماعية دفعة أو تدريجا ولا يرضى قط بأن يسلب عنه وصف العدل ويسمى ظالما، ولا بأن يجد ظلما لظالم إلا مع الاعتذار عنه وللكلام ذيل طويل يخرجنا الاشتغال به عن ما هو أهم منه. ثم عمم معنى الحسن و القبح لسائر الحوادث الخارجية التى تستقبل الانسان مدى حياته على حسب تأثير مختلف العوامل وهى الحوادث الفردية أو الاجتماعية التى منها ما يوافق آمال الانسان ويلائم سعادته في حياته الفردية أو الاجتماعية من عافية أو صحة أو رخاء وتسمى حسنات ومنها ما ينافى ذلك كالبلايا والمحن من فقر أو مرض أو ذلة أو أسارة ونحو ذلك وتسمى سيئات. فقد ظهر مما تقدم أن الحسنة والسيئة يتصف بهما الامور أو الافعال من جهة إضافتها إلى كمال نوع أو سعادة فرد أو غير ذلك فالحسن والقبح وصفان إضافيان وإن كانت الاضافة في بعض الموارد ثابتة لازمة وفى بعضها متغيرة كبذل المال الذى هو حسن بالنسبة إلى مستحقه وسيئ بالنسبة إلى غير المستحق. وأن الحسن أمر ثبوتى دائما والمساءة والقبح معنى عدمي وهو فقدان الامر صفة الملاءمة والموافقة المذكورة وإلا فمتن الشئ أو الفعل مع قطع النظر عن الموافقة وعدم الموافقة المذكورين واحد من غير تفاوت فيه أصلا. فالزلزلة والسيل الهادم إذا حلا ساحة قوم كانا نعمتين حسنتين لاعدائهم وهما نازلتان سيئتان عليهم أنفسهم وكل بلاء عام في نظر الدين سراء إذا نزل بالكفار المفسدين في الارض أو الفجار العتاة وهو بعينه ضراء إذا نزل بالامة المؤمنة الصالحة. وأكل الطعام حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلا وهو بعينه سيئة محرمة إذا كان من مال الغير من غير رضى منه لفقدانه امتثال النهى الوارد عن أكل مال الغير بغير رضاه أو امتثال الامر الوارد بالاقتصار على ما أحل الله والمباشرة بين الرجل والمرأة حسنة مباحة إذا كان عن ازدواج مثلا وسيئة محرمة إذا كان سفاحا من غير نكاح لفقدانه موافقة التكليف الالهى فالحسنات عناوين وجودية في الامور والافعال والسيئات عناوين عدمية فيهما ومتن الشئ المتصف بالحسن والسوء واحد.

[ 12 ]

والذى يراه القرآن الشريف أن كل ما يقع عليه اسم الشئ ما خلا الله - عز اسمه مخلوق لله قال تعالى: (الله خالق كل شئ) (الزمر: 62) وقال تعالى: (وخلق كل شئ فقدره تقديرا) (الفرقان - 2). والآيتان تثبتان الخلقة في كل شئ ثم قال تعالى: الذى أحسن كل شئ خلقة) (السجدة: 7) فأثبت الحسن لكل مخلوق وهو حسن لازم للخلقة غير منفك عنها يدور مدارها. فكل شئ له حظ من الحسن على قدر حظه من الخلقة والوجود والتأمل في معنى الحسن (على ما تقدم) يوضح ذلك مزيد إيضاح فإن الحسن موافقة الشئ وملاءمته للغرض المطلوب والغاية المقصودة منه و أجزاء الوجود وأبعاض هذا النظام الكونى متلائمة متوافقة وحاشا رب العالمين أن يخلق ما تتنافى أجزاؤه ويبطل بعضه بعضا فيخل بالغرض المطلوب أو يعجزه تعالى أو يبطل ما أراده من هذا النظام العجيب الذى يبهت العقل ويحير الفكرة وقد قال تعالى: (هو الله الواحد القهار) (الزمر: 4) وقال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) (الانعام: 18) وقال تعالى: (وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الارض إنه كان عليما قديرا) (فاطر: 44) فهو تعالى لا يقهره شئ ولا يعجزه شئ في ما يريده من خلقه ويشاؤه في عباده. فكل نعمة حسنة في الوجود منسوبة إليه تعالى وكذلك كل نازلة سيئة إلا أنها في نفسها أي بحسب أصل النسبة الدائرة بين موجودات المخلوقة منسوبة إليه تعالى وإن كانت بحسب نسبة أخرى سيئة وهذا هو الذى يفيده قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) (النساء: 78) وقوله (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الاعراف: 131) إلى غيرذلك من الآيات. وأما جهة السيئة فالقرآن الكريم يسندها في الانسان إلى نفس الانسان بقوله تعالى في هذه السورة ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك: الآية (النساء: 79) وقوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى: 30) وقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)

[ 13 ]

الرعد: 11) وقوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الانفال: 53) وغيرها من الآيات. وتوضيح ذلك أن الآيات السابقة كما عرفت تجعل هذه النوازل السيئة كالحسنات امورا حسنة في خلقتها فلا يبقى لكونها سيئة إلا أنها لا تلائم طباع بعض الاشياء التى تتضرر بها فيرجع الامر بالاخرة إلى أن الله لم يجد لهذه الاشياء المبتلاة المتضررة بما تطلبه وتشتاق إليه بحسب طباعها فإمساك الجود هذا هو الذى يعد بلية سيئة بالنسبة إلى هذه الاشياء المتضررة كما يوضحه كل الايضاح قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) (فاطر: 2). ثم بين تعالى أن إمساك الجود عما أمسك عنه أو الزيادة والنقيصة في إفاضة رحمته إنما يتبع أو يوافق مقدار ما يسعه ظرفه وما يمكنه إن يستوفيه من ذلك قال تعالى فيما ضربه من المثل: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) (الرعد: 17) وقال: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21) فهو تعالى إنما يعطى على قدر ما يستحقه الشئ وعلى ما يعلم من حاله قال: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك: 14). ومن المعلوم أن النعمة والنقمة والبلاء والرخاء بالنسبة إلى كل شئ ما يناسب خصوص حاله كما يبينه قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة: 148) فإنما يولى كل شئ ويطلب وجهته الخاصة به وغايته التى تناسب حاله. ومن هنا يمكنك أن تحدس أن السراء والضراء والنعمة والبلاء بالنسبة إلى هذا الانسان الذى يعيش في ظرف الاختيار في تعليم القرآن أمور مرتبطة باختياره فإنه واقع في صراط ينتهى به بحسن السلوك وعدمه إلى سعادته و شقائه كل ذلك من سنخ ما لاختياره فيه مدخل. والقرآن الكريم يصدق هذا الحدس قال تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الانفال: 53) فلما في أنفسهم من النيات الطاهرة والاعمال الصالحة دخل في النعمة التى خصوا بها فإذا غيروا غير الله بإمساك رحمته وقال: (وما إصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) (الشورى: 30) فلاعمالهم تأثير في ما ينزل بهم من النوازل ويصيبهم من المصائب والله يعفو عن كثير منها.

[ 14 ]

وقال تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (الآية النساء: 79). وإياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم نسى الحقيقة الباهرة التى أبانها بقوله: (الله خالق كل شئ) (الزمر - 62) و قوله: الذى أحسن كل شئ خلقه) (السجدة: 7) فعد كل شئ مخلوقا لنفسه حسنا في نفسه وقد قال: وما كان ربك نسيا) (مريم: 64) وقال: لا يضل ربى ولا ينسى) (طه: 52) فمعنى قوله (ما أصابك من حسنة) (الآية) أن ما أصابك من حسنة - وكل ما أصابك حسنة - فمن الله وما أصابك من سيئة فهى سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده وتشتهيه وإن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيارها السيئ واستدعتها كذلك من الله فالله أجل من أن يبدأك بشر أو ضر. والآية كما تقدم وإن كانت خصت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب لكن المعنى عام للجميع وبعبارة أخرى هذه (الآية) كالآيتين الاخريين ذلك بأن الله لم يك مغيرا) الآية وما أصابكم من مصيبة (الآية) متكفلة للخطاب الاجتماعي كتكفلها للخطاب الفردى فإن للمجتمع الانساني كينونة إنسانية وإرادة واختيارا غير ما للفرد من ذلك. فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون والغابرون من أفراده ويؤاخذ متأخروهم بسيئآت المتقدمين والاموات بسيئات الاحياء والفرد غير المقدم بذنب المقترفين للذنوب وهكذا وليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا وقد تقدم شطر من هذا الكلام في بحث أحكام الاعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اصيب في غزوة أحد في وجهه وثناياه وأصيب المسلمون بما أصيبوا وهو صلى الله عليه وآله وسلم نبى معصوم إن أسند ما أصيب به الى مجتمعه وقد خالفوا أمر الله ورسوله كان ذلك مصيبة سيئة أصابته بما كسبت أيدى مجتمعة وهو فيهم وإن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله وفي طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة فإنما هي نعمة رافعة للدرجات. وكذا كل ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن ولا يرى إلا الحق وأما ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.

[ 15 ]

نعم هاهنا آيات أخر ربما نسبت إليهم الحسنات بعض النسبة كقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء) (الاعراف: 96) وقوله وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة: 24) وقوله وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) (الانبياء - 86) و الآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. إلا أن الله سبحانه يذكر في كلامه أن شيئا من خلقه لا يقدر على شئ مما يقصده من الغاية ولا يهتدى إلى خير إلا بإقدار الله وهدايته قال تعالى: (الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (طه - 50) وقال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) (النور - 21) ويتبين بهاتين الايتين وما تقدم معنى آخر لكون الحسنات لله عز اسمه وهو أن الانسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله وإيصال منه فالحسنات كلها لله والسيئات للانسان وبه يظهر معنى قوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (الاية). فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له والخلق والحسن لا ينفكان، وله الحسنات بما أنها خيرات وبيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه ولا ينسب إليه شئ من السيئآت فإن السيئة من حيث إنها سيئة غير مخلوقة وشأنه الخلق وإنما السيئة فقدان الانسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمته أيدى الناس وأما الحسنة والسيئة بمعنى الطاعة والمعصية فقد تقدم الكلام في نسبتهما إلى الله سبحانه في الكلام على قوله تعالى (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا) (البقرة - 26) في الجزء الاول من هذا الكتاب. وأنت لو راجعت التفاسير في هذا المقام وجدت من شتات القول ومختلف الآراء والاهواء وأقسام الاشكالات ما يبهتك وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاى ة للمتدبر في كلامه تعالى وعليك في هذا البحث بتفكيك جهات البحث بعضها عن بعض وتفهم ما يتعارفه القرآن من معنى الحسنة والسيئة والنعمة والنقمة والفرق بين شخصية المجتمع والفرد حتى يتضح لك مغزى الكلام.

[ 16 ]

(بحث روائي)

 في الدر المنثور في قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا) (الآية) أخرج النسائي وابن جرير وابن أبى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبى الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إنى أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفوا فأنزل الله: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) (الآية) وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: كان أناس من أصحاب النبي (ص) وهم يومئذ بمكة قبل الهجرة يسارعون إلى القتال فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين وذكر لنا أن عبد الرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك فنهاهم نبى الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: لم أمر بذلك فلما كانت الهجرة وأمروا بالقتل كره القوم ذلك، وصنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) وفي تفسير العياشي عن صفوان بن يحيى عن أبى الحسن عليه السلام قال: قال الله تعالى: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذى تشاء وتقول، وبقوتي أديت إلى فريضتي وبنعمتي قويت على معصيتى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك أنى أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك منى، وذاك أنى لا أسأل عما أفعل، وهم يسألون. أقول: وقد تقدم نقل الرواية بلفظ آخر في الجزء الاول من هذا الكتاب في ذيل قوله تعالى (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا) (البقرة - 26) وتقدم البحث عنها هناك. وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذكر عند أبى عبد الله عليه السلام البلاء وما يخص الله به المؤمن فقال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أشد الناس بلاء في الدنيا ؟ فقال: النبيون ثم الامثل فالامثل، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله: فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه

[ 17 ]

أقول: ومن الروايات المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وفيه أيضا بعدة طرق عنهما عليهما السلام: إن الله عز وجل إذا أحب عبدا غثه بالبلاء غثا (1) وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام: إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه. وفيه أيضا عن الباقر عليه السلام قال: إن الله عز وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، ويحميه الدنيا كما يحمى الطبيب المريض وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب. وفي العلل عن على بن الحسين عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ولو كان المؤمن على جبل لقيض الله عزوجل له من يؤذيه ليأجره على ذلك. وفي كتاب التمحيص عن الصادق عليه السلام قال: لا تزال الهموم والغموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنبا. وعنه عليه السلام قال: لا يمضى على المؤمن أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه يذكر ربه. وفي النهج قال عليه السلام: لو أحبنى جبل لتهافت. وقال عليه السلام: من أحبنا أهل البيت فليستعد للبلاء جلبابا. أقول: قال ابن أبى الحديد في شرحه: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق) وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور) هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنه لو أحبه جبل لتهافت (انتهى). واعلم أن الاخبار في هذه المعاني كثيرة، وهى تؤيد ما قدمناه من البيان. وفي الدر المنثور: أخرج ابن المنذر والخطيب عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من اصحابه فقال: يا هؤلاء ألستم تعلمون أنى رسول الله إليكم ؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه أنه من أطاعنى فقد أطاع الله ؟ قالوا: بلى

______________________________

(1) الغث هو الغمس (*)

[ 18 ]

نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله، وأن من طاعته طاعتك، قال: فإن من طاعة الله أن تطيعوني، وإن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم وإن صلوا قعودا فصلوا قعدوا أجمعين. أقول: قوله: صلى الله عليه وآله وسلم: وإن صلوا (إلخ) كناية عن وجوب كمال الاتباع.

* * *

ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا - 81. افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا - 82. وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا - 83. فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا - 84.

(بيان)

 الآيات لا تأبى عن الاتصال بما قبلها فكأنها من تتمة القول في ملامة الضعفاء من المسلمين، وفائدتها وعظهم بما يتبصرون به لو تدبروا واستبصروا. قوله تعالى. (ويقولون طاعة) (إلخ) (طاعة) مرفوع على الخبرية على ما قيل والتقدير: أمرنا طاعة أي نطيعك طاعة والبروز الظهور والخروج والتبييت من البيتوتة، ومعناه إحكام الامر وتدبيره ليلا، والضمير في (تقول) راجع إلى (طائفة) أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى - والله أعلم -: ويقول هؤلاء مجيبين لك فيما تدعوهم إليه من الجهاد: أمرنا طاعة فإذا أخرجوا من عندك دبروا ليلا أمرا غير ما أجابوك به وقالوا لك، أو غير ما

[ 19 ]

قلته أنت لهم، وهو كناية عن عقدهم النية على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أمر الله رسوله بالاعراض عنهم والتوكل في الامر والعزيمة فقال: (فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) ولا دليل في الآية يدل على كون المحكى عنهم هم المنافقين كما ذكره بعضهم بل الامر بالنظر إلى اتصال السياق على خلاف ذلك. قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) الآية تحضيض في صورة الاستفهام. التدبر هو أخذ الشئ بعد الشئ وهو في مورد الآية التأمل في الآية عقيب الآية أو التأمل بعد التأمل في الآية لكن لما كان الغرض بيان أن القرآن لا اختلاف فيه، وذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الاول أعنى التأمل في الآية عقيب الآية هو العمدة وإن كان ذلك لا ينفى المعنى الثاني أيضا. فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية، ويراجعوا في كل حكم نازل أو حكمة مبينة أو قصة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيتها ومدينتها، ومحكمها ومتشابهها، ويضموا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها، فالآيات يصدق قديمها حديثها، ويشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها أي اختلاف مفروض: لا اختلاف التناقض بأن ينفى بعضها بعضا أو يتدافعا، ولا اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني والمقاصد بكون البعض أحكم بيانا وأشد ركنا من بعض كتابا متشابها مثانى تقشعر منه الجلود. فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله وليس من عند غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف، وذلك أن غيره تعالى من هذه الموجودات الكونية - ولا سيما الانسان الذى يرتاب أهل الريب أنه من كلامه - كلها موضوعة بحسب الكينونة الوجودية وطبيعة الكون على التحرك والتغير والتكامل فما من واحد منها إلا أن امتداد زمان وجوده مختلف الاطراف، متفاوت الحالات. ما من إنسان إلا وهو يرى كل يوم أنه أعقل من أمس وأن ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبره من راى أو نظر أو نحوهما أخيرا أحكم وأمتن مما أتى به أولا حتى العمل الواحد الذى فيه شئ من الامتداد الوجودى كالكتاب يكتبه الكاتب، والشعر يقوله الشاعر، والخطبة يخطبها الخطيب، وهكذا يوجد عند الامعان آخره خيرا من أوله، وبعضه أفضل من بعض.

[ 20 ]

فالواحد من الانسان لا يسلم في نفسه وما يأتي به من العمل من الاختلاف، وليس هو بالواحد والاثنين من التفاوت والتناقض بل الاختلاف الكثير، وهذا ناموس كلى جار في الانسان وما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحول والتكامل العامين لا ترى واحدا من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف ذاته وأحواله. ومن هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله: (اختلافا كثيرا) فالوصف وصف توضيحي لا احترازي، والمعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا، وكان ذلك الاختلاف كثيرا على حد الاختلاف الكثير الذى في كل ما هو من عند غير الله، وليس المعنى أن المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير. وبالجملة لا يلبث المتدبرون أن يشاهد أن القرآن كتاب يداخل جميع الشؤون المرتبطة بالانسانية من معارف المبدأ والمعاد والخلق والايجاد، ثم الفضائل العامة الانسانية، ثم القوانين الاجتماعية والفردية الحاكمة في النوع حكومة لا يشذ منها دقيق ولا جليل، ثم القصص والعبر والمواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، وبآيات نازلة نجوما في مدة تعدل ثلاثا وعشرين سنة على اختلاف الاحوال من ليل ونهار، ومن حضر وسفر، ومن حرب وسلم، ومن ضراء وسراء، ومن شدة ورخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة، ولا في معارفة العالية وحكمه السامية، ولا في قوانينه الاجتماعية والفردية، بل ينعطف آخره إلى ما قر عليه أوله، وترجع تفاصيله وفروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه وأصوله، يعود تفاصيل شرائعه وحكمه بالتحليل إلى حاق التوحيد الخالص، وينقلب توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن. والانسان المتدبر فيه هذا التدبر يقضى بشعوره الحى، وقضائه الجبلى أن المتكلم بهذا الكلام ليس، ممن يحكم فيه مرور الايام والتحول والتكامل العاملان في الاكوان بل هو الله الواحد القهار. وقد تبين من الآية (أولا): أن القرآن مما يناله الفهم العادى. و (ثانيا): أن الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضا. و (ثالثا): أن القرآن كتاب لا يقبل نسخا ولا إبطالا ولا تكميلا ولا تهذيبا، ولا أي حاكم يحكم عليه أبدا، وذلك أن ما يقبل شيئا منها لا مناص من كونه يقبل نوعا من التحول والتغير بالضرورة، وإذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف

[ 21 ]

فليس يقبل التحول والتغير فليس يقبل نسخا ولا إبطالا ولا غير ذلك، ولازم ذلك أن الشريعة الاسلامية مستمرة إلى يوم القيامة. قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) الاذاعة هي النشر والاشاعة، وفي الآية نوع ذم وتعيير لهم في شأن هذه الاذاعة، وفي قوله في ذيل الآية (ولو لا فضل الله) (إلخ) دلالة على أن المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الاذاعة، وليس إلا خطر مخالفة الرسول فإن الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك ويؤيد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال ولو بقى وحده بلا ناصر. ويظهر به أن الامر الذى جاءهم من الامن أو الخوف كان بعض الاراجيف التى كانت تأتى بها أيدى الكفار ورسلهم المبعوثون لايجاد النفاق والخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبر وتبصر فيوجب ذلك وهنا في عزيمة المؤمنين، غير أن الله سبحانه وقاهم من اتباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الاخبار لاخزاء المؤمنين. فتنطبق الآية على قصة بدر الصغرى، وقد تقدم الكلام فيها في سورة آل عمران، والآيات ههنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبر فيها، قال تعالى في سورة آل عمران: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل - إلى قوله - إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) (آل عمران - 175). الآيات كما ترى تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح - وهو محنة أحد - إلى الخروج إلى الكفار، وأن أناسا كانوا يخزلون الناس ويخذلونهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخوفونهم جمع المشركين. ثم تذكر أن ذلك كله تخويفات من الشيطان يتكلم بها من أفواه أوليائه، وتعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم ويخافوا الله إن كانوا مؤمنين. والمتدبر فيها وفي الآيات المبحوث عنها أعنى قوله (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) (الآية) لا يرتاب في أن الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصة بدر - الصغرى ويعدها في جملة ما يعد من الخلال التى يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله (فلما كتب عليهم القتال) (الآية) وقوله (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) (الآية) وقوله (وإن تصبهم حسنة

[ 22 ]

(الآية) وقوله (ويقولون طاعة) (الآية) ثم يجرى على هذا المجرى قوله (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) (الآية). قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) لم يذكر ههنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (الآية) (النساء: 59) لان الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع فيه، ولا صنع فيه لغير الله ورسوله. وأما الرد المذكور هيهنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، ولا معنى لرده إلى الله وكتابه، بل الصنع فيه للرسول ولاولى الامر منهم لو رد إليهم أمكنهم أن يستنبطوه ويذكروا للرادين صحته أو سقمه، وصدقه أو كذبه. فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب على حد قوله تعالى (ليعلم الله من يخافه بالغيب) (المائدة: 94) وقوله (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) (العنكبوت: 11.) والاستنباط استخراج القول من حال الابهام إلى مرحلة التمييز والمعرفة وأصله من النبط (محركة) وهو أول ما يخرج من ماء البئر، وعلى هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفا للرسول وأولى الامر بمعنى أنهم يحققون الامر فيحصلون على الحق والصدق وأن يكون وصفا لهؤلاء الرادين لو ردوا فإنهم يعملون حق الامر وصدقه بإنباء الرسول وأولى الامر لهم. فيعود معنى الآية إن كان المراد بالذين يستنبطونه منهم الرسول وأولى الامر كما هو الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول وأولى الامر أي إذا استصوبه المسؤولون ورأوه موافقا للصلاح، وإن كان المراد بهم الرادين: لعلمه الذين يستفسرونه ويبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادين. وأما أولوا الامر في قوله: واولو الامر منهم (فالمراد بهم هو المراد بأولى الامر في قوله (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) (النساء: 59) على ما تقدم من اختلاف المفسرين في تفسيره وقد تقدم أن أصول الاقوال في ذلك ترجع إلى خمسة، غير أن الذى استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية. أما القول بأن أولى الامر هم أمراء السرايا فإن هؤلاء لم يكن لهم شأن إلا الامارة على

[ 23 ]

سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم ودائرة عملهم، وأما أمثال ما هو مورد الآية وهو الاخلال في الامن وايجاد الخوف والوحشة العامة التى كان يتوسل إليها المشركون ببعث العيون وإرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الاخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لامراء السرايا في ذلك حتى يمكنهم أن يبينوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الاخبار. واما القول بأن اولى الامر هم العلماء فعدم مناسبته للآية اظهر، إذ العلماء - وهم يومئذ المحدثون والفقهاء والقراء والمتكلمون في اصول الدين - انما خبرتهم في الفقه والحديث ونحو ذلك، ومورد قوله (وإذا جاءهم امر من الامن أو الخوف) هي الاخبار التى لها اعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى ربما افضى قبولها أو ردها اوالاهمال فيها من المفاسد الحيوية والمضار الاجتماعية إلى ما يمكن ان لا يستصلح بأى مصلح آخر، أو يبطل مساعي امة في طريق سعادتها، أو يذهب بسوددهم ويضرب بالذل والمسكنة والقتل والاسر عليهم، واى خبرة للعلماء من حيث انهم محدثون أو فقهاء أو قراء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردها إليهم ؟ واى رجاء في حل امثال هذه المشكلات بأيديهم ؟ وأما القول بأن أولى الامر هم الخلفاء الراشدون أعنى أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنة قطعية، يرد عليه أن حكم الآية إما مختص بزمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عام يشمله وما بعده وعلى الاول كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنهم هؤلاء الاربعة من بين الناس ومن بين الصحابة خاصة، والحديث والتاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأنا من هذا القبيل، وعلى الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية بانقطاع زمان حياتهم، وكان لازمه أن تتصدى الاية لبيان ذلك كما في جميع الاحكام الخاصة بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالاحكام الخاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أثر في الاية من ذلك. وأما القول بأن المراد بأولى الامر أهل الحل والعقد، وهذا القائل لما رأى أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة مشخصة هم أهل الحل والعقد على حد ما يوجد بين الامم المتمدنة ذوات المجتمعات المتشكلة كهيئة الوزراء، وجمعية المبعوثين إلى المنتدى وغير ذلك فإن الامة لم يكن يجرى فيها إلا حكم الله ورسوله، اضطر إلى تفسيره بأهل الشورى من الصحابة وخاصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم. وكيف كان، يرد عليه ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجمع في مشاورته المؤمنين والمنافقين كعبد الله

[ 24 ]

ابن أبى وأصحابه وحديث مشاورته يوم أحد معروف وكيف يمكن أن يأمر الله سبحانه بالرد إلى أمثاله. على أن ممن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده عبد الرحمن بن عوف وهذه الايات المسرودة في ذم ضعفاء المؤمنين وتعييرهم على ما وقع منهم إنما ابتدأت به وباصحابه أعنى قوله (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا) (الايات) فقد ورد في الصحيح أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وأصحاب له رواه النسائي في صحيحه ورواه الحاكم في مستدركه وصححه ورواه الطبري وغيره في تفاسيرهم وقد مرت الرواية في البحث الروائي السابق. وإذا كان الامر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الاية بارجاع الامر ورده إلى مثل هؤلاء. فالمتعين هو الذى رجحناه في قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) (الاية). قوله تعالى: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) قد تقدم أن الاظهر كون الايات مشيرة إلى قصة بدر الصغرى وبعث أبى سفيان نعيم بن مسعود الاشجعى إلى المدينة لبسط الخوف والوحشة بين الناس واخزائهم في الخروج إلى بدر فالمراد باتباع الشيطان التصديق بما جاء به من النبأ واتباعه في التخلف عن الخروج إلى بدر. وبذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلف أو تمحل فإن نعيما كان يخبرهم أن أبا سفيان جمع الجموع وجهز الجيوش فاخشوهم ولا تلقوا بأنفسكم إلى حياض القتل الذريع وقد أثر ذلك في قلوب الناس فتعللوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر، ولم يسلم من ذلك إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض خاصته وهو المراد بقوله تعالى (إلا قليلا) فقد كان الناس تزلزلوا إلا القليل منهم ثم لحقوا بذلك القليل وساروا. وهذا الذى استظهرناه من معنى الاستثناء هو الذى يؤيده ما مر ذكره من القرائن، على ما فيه من الاستقامة. وللمفسرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتى لا يخلو شئ منها من فساد أو تكلف، فقد قيل: ان المراد بالفضل والرحمة ما هداهم الله إليه من ايجاب طاعته وطاعة رسوله وأولى الامر منهم، والمراد بالمستثنى هم المؤمنون أولوا الفطرة السليمة والقلوب الطاهرة ومعنى الاية: ولو لا هذا الذى هداكم الله إليه من وجوب الطاعة، وإرجاع الامر إلى

[ 25 ]

الرسول وإلى أولى الامر لاتبعتم الشيطان جميعا بالوقوع في الضلال إلا قليلا منكم من أهل الفطرة السليمة فإنهم لا يزيغون عن الحق والصلاح. وفيه أنه تخصيص الفضل والرحمة بحكم خاص من غير دليل يدل عليه، وهو بعيد من البيان القرآني، مع أن ظاهر الاية أنه امتنان في أمر ماض منقض. وقيل: ان الاية على ظاهرها والمؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل ورحمة زائدين وان كان المخلصون أيضا لا يستغنون عن العناية الالهية وفيه أن الذى يوهمه الظاهر حينئذ مما يجب في بلاغة القرآن دفعه ولم يدفع في الاية. وقد قال تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) (النور - 21) وقال مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو خير الناس: (ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) (الاسراء - 75) وقيل: إن المراد بالفضل والرحمة القرآن والنبى صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: المراد بهما الفتح والظفر، فيستقيم الاستثناء لان الاكثرين إنما يثبتون على الحق بما يستطاب به قلوبهم من فتح وظفر وما أشبههما من العنايات الظاهرية الالهية ولا يصبر على مر الحق إلا القليل من المؤمنين الذين هم على بصيرة من أمرهم. وقيل الاستثناء إنما هو من قوله: (أذاعوا به) وقيل: الاستثناء من قوله (الذين يستنبطونه) وقيل: إن الاستثناء إنما هو في اللفظ وهو دليل على الجمع والاحاطة فمعنى الاية:: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا، وهذا نظير قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) (الاعلى - 7) فاستثناء المشية يفيد عموم الحكم بنفى النسيان، وجميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلف ظاهر. قوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) التكليف من الكلفة بمعنى المشقه لما فيه من تحميل المشقة على المكلف والتنكيل من النكال، وهو على ما في المجمع: ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلف لئلا يعود إلى مثله ولعيتبر به غيره من المكلفين. والفاء في قوله (فقاتل في سبيل الله،) للتفريع والامر بالقتال متفرع على المتحصل من مضامين الايات السابقة. وهو تثاقل القوم في الخروج إلى العدو وتبطئتهم في ذلك ويدل عليه ما يتلوه من الجمل أعنى قوله (لا تكلف إلا نفسك) (الخ) فإن المعنى: فإذا

[ 26 ]

كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد ويكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك ولا يشق عليك تثاقلهم ومخالفتهم لامر الله سبحانه فإن تكليف غيرك لا يتوجه إليك وإنما يتوجه اليك تكليف نفسك لا تكليفهم وإنما عليك في غيرك أن تحرضهم فقاتل وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. وقوله (لا تكلف ألا نفسك) أي لا تكلف أنت شيئا إلا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف. وقوله (عسى الله أن يكف) (الخ) قد تقدم أن (عسى) تدل على الرجاء أعم من أن يكون ذلك الرجاء قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه من أن (عسى) من الله حتم. وفي الاية دلالة على زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدى تثاقلهم إلى أن أمر الله نبيه بالقيام بالقتال بنفسه، وأن يعرض عن المتثاقلين ولا يلح عليهم بالاجابة ويخليهم وشأنهم ولا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلا تكليف نفسه وتحريض المؤمنين أطاع من أطاع، وعصى من عصى.

(بحث روائي)

 في الكافي بأسناده عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ان الله عير اقواما بالاذاعة في قوله عز وجل: وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) فأياكم والاذاعة. وفيه بإسناده عن عبد الحميد بن أبى الديلم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال الله عز وجل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) وقال (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فرد أمر الناس إلى أولى الامر منهم الذين أمر بطاعتهم والرد إليهم. أقول: والرواية تؤيد ما قدمناه من أن المراد باولى الامر في الاية الثانية هم المذكورون في الاية الاولى. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبى جعفر عليه السلام في قوله (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم) قال: هم الائمة.

[ 27 ]

أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن عبد الله بن جندب عن الرضا عليه السلام في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفية، وروى هذا المعنى أيضا المفيد في الاختصاص عن إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام في حديث طويل. وفي تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن أبى الحسن عليه السلام: في قوله (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته) قال الفضل رسول الله، ورحمته أمير المؤمنين. وفيه عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام، وحمران عن أبى عبد الله عليه السلام قال: لو لا فضل الله عليكم ورحمته) قال: فضل الله رسوله ورحمته ولاية الائمه. وفيه عن محمد بن الفضيل عن العبد الصالح عليه السلام قال: الرحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفضل على بن أبى طالب عليه السلام. أقول: والروايات من باب الجرى، والمراد النبوة والولاية فإنهما السببان المتصلان اللذان أنقذنا الله بهما من مهبط الضلال ومصيدة الشيطان إحداهما: سبب مبلغ والاخرى: سبب مجر والرواية الاخيرة أقرب من الاعتبار فإن الله سمى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه بالرحمة حيث قال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الاية) (الانبياء - 107) وفي الكافي بإسناده عن على بن حديد عن مرازم قال قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله كلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكلف به أحدا من خلقه، ثم كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه وإن لم يجد فئة تقاتل معه، ولم يكلف هذا أحدا من خلقه لا قبله ولا بعده، ثم تلا هذه الآية: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك). ثم قال: وجعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه فقال عز وجل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وجعل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشر حسنات. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال: قلت لابي عبد الله على السلام قول الناس لعلى عليه السلام: إن كان له حق فما منعه أن يقوم به ؟ قال: فقال إن الله لا يكلف هذا لانسان واحد إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض الؤمنين) فليس هذا إلا للرسول، وقال لغيره: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره. وفيه عن زيد الشحام عن جعفر بن محمد على السلام قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا

[ 28 ]

قط فقال: (لا، إن كان عنده أعطه، وإن لم يكن عنده قال: يكون إن شاء الله، ولا كافى بالسيئة قط، وما لقى سرية مذ نزلت عليه (فقال في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) إلا ولى بنفسه. أقول: وفى هذه المعاني روايات أخر.

* * *

من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ حسيبا (86) - الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87) - فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا اتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88) - ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89) - إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90) - ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة

[ 29 ]

اركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم واولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91))

بيان

 الايات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا (85 - 91) لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين وهم المنافقون منهم ويظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الايمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم وشاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في قتالهم واختلفت أنظار المسلمين في أمرهم فمن قائل يرى قتالهم وآخر يمنع منه ويشفع لهم لتظاهرهم بالايمان والله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال ويحذر المؤمنين الشفاعة في حقهم. ويلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال ويستهل لما في الايات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية وببيان حال التحية لمناسبتها إلقاء السلم في آية اخرى. قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) النصيب والكفل بمعنى واحد ولما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية ونحو ذلك كانت لها نوع سببية لاصلاح شأن فلها شئ من التبعة والمثوبة المتعلقتين بما لاجله الشفاعة، وهو مقصد الشفيع والمشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة وهو قوله تعالى (من يشفع شفاع) (الخ). وفي ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين وتنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له ويجتنبوها إن كان المشفوع لاجله مما فيه شر وفساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا فإن في ترك الفساد القليل على حاله وإمهاله في أن ينمو ويعظم فسادا معقبا لا يقوم له شئ ويهلك به الحرث والنسل فالاية في معنى النهى عن الشفاعة السيئة وهى شفاعة أهل الظلم والطغيان والنفاق والشرك المفسدين في الارض. قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية) أمر بالتحية قبال

[ 30 ]

التحية بما يزيد عليها أو يماثلها، وهو حكم عام لكل تحية حيى بها، غير أن مورد الايات هو تحية السلم والصلح التى تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الايات التالية قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم) (الخ) معنى الاية ظاهر، وهى بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الايتان السابقتان من المضمون كأنه قيل: خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة الحسنة والسيئة، ولا تبطلوا تحية من يحييكم بالاعراض والرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله فيه ويجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه ورده. قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم) (الاية) الفئة الطائفة والاركاس الرد. والاية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة والتمهيد أعنى قوله (من يشفع شفاعة) (الاية)، والمعنى: فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطى لصاحبها كفلا من مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين وتحزبتهم حزبين: فئة ترى قتالهم، وفئة تشفع لهم وتحرض على ترك قتالهم، والاغماض عن شجرة الفساد التى تنمو بنمائهم، وتثمر برشدهم، والله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من سيئات الاعمال، أتريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله ؟ ومن يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى. وفي قوله (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق التفهم، ولو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به وألقى إلى من هو بين واضح عنده وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) (الخ) هو بمنزلة البيان لقوله (والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله) والمعنى: أنهم كفروا وزادوا عليه أنهم ودوا وأحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا. ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم وقتلهم حيث وجدتموهم، والاجتناب عن ولايتهم ونصرتهم، وفي قوله (فإن تولوا). دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، وإن تولوا فيقتلوهم.

[ 31 ]

قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم) استثنى الله سبحانه من قوله (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم) طائفتين: (إحداهما) الذين يصلون (الخ) أي بينهم وبين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف ونحوه، و (الثانية) الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين ومقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين ويلقون إليهم السلم لا للمؤمنين ولا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور، وقوله (حصرت صدورهم) أي ضاقت. قوله تعالى: (ستجدون آخرين) إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم، ولذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعنى قوله (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) بالشرط المنفى أعنى قوله (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم) (الخ) وهذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم، ومعنى الاية ظاهر.

(كلام في معنى التحية)

 الامم والاقوام على اختلافها في الحضارة والتوحش والتقدم والتأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقات البعض البعض على أقسامها وأنواعها من الاشارة بالرأس واليد ورفع القلانس وغير ذلك، وهى مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم. وأنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الامم على اختلافها وعلى اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع والهوان والتذلل يبديه الدانى للعالي، والوضيع للشريف، والمطيع لمطاعه، والعبد لمولاه، وبالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذى لم يزل رائجا بين الامم في أعصار الهمجية فما دونها، وإن اختلفت ألوانه، ولذلك ما نرى ان هذه التحية تبدء من المطيع وتنتهى إلى المطاع، وتشرع من الدانى الوضيع وتختتم في العالي الشريف، فهى من ثمرات الوثنية التى ترتضع من ثدى الاستعباد. والاسلام - كما تعلم - أكبر همه إمحاء الوثنية وكل رسم من الرسوم ينتهى إليها،

[ 32 ]

ويتولد منها، ولذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية وسنة مقابلة لسنة الوثنية ورسم الاستعباد، وهو إلقاء السلام الذى هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه، ودحض حريته الفطرية الانسانية الموهوبة له فان أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الافراد هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه وعرضه وماله، وكل أمر يؤل إلى أحد هذه الثلاثة. وهذا هو السلام الذى سن الله تعالى إلقائه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) (النور - 61) وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غيربيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) (النور - 27) وقد أدب الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالتسليم للمؤمنين وهو سيدهم فقال: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) (الانعام - 54) وأمره بالتسليم لغيرهم في قوله: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) (الزخرف - 89). والتحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر ونحوه وفي لسان العرب: وكانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحا، وأبيت اللعن، ويقولون سلام عليكم فكأنه علامة المسالمة، وأنه لا حرب هنالك. ثم جاء الله بالاسلام فقصروا على السلام، وأمروا بإفشائه. (انتهى). إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه عليه السلام كثيرا: ولا يخلو ذلك من شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج ونحوه قال تعالى: حكاية عنه فيما يحاور أباه: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربى) (مريم - 47) وقال تعالى (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام) (هود - 69) والقصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم. ولقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه، واستعمله في موارد من كلامه، قال تعالى: (سلام على نوح في العالمين) (الصافات - 79) وقال: (سلام على إبراهيم) (الصافات: 109) وقال: (سلام على موسى وهارون) (الصافات - 120) وقال (سلام على آل ياسين) (الصافات - 130) وقال: (وسلام على المرسلين) (الصافات - 181.

[ 33 ]

وذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم) (النحل - 32) وقال: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) (الرعد - 24) وذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال: وتحيتهم فيها سلام) (يونس - 10)، وقال تعالى: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) (الواقعة - 26).

(بحث روائي)

 في المجمع في قوله تعالى (وإذا حييتم (الاية) قال: ذكر على بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين: أن المراد بالتحية في الاية السلام وغيره من البر. وفي الكافي بإسناده عن السكوني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السلام تطوع والرد فريضة. وفيه بإسناده عن جراح المدائني عن أبى عبد الله عليه السلام قال: يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير. وفيه عليه السلام بإسناده عن عيينة (1) عن مصعب عن أبى عبد الله عليه السلام قال: القليل يبدئون الكثير بالسلام، والراكب يبدء الماشي، وأصحاب البغال يبدئون أصحاب الحمير، وأصحاب الخيل يبدئون أصحاب البغال. وفيه بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، وإذا لقيت جماعة سلم الاقل على الاكثر، وإذا لقى واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة. أقول: وروى ما يقرب منه في الدر المنثور عن البيهقى عن زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه بالاسناد عنه عليه السلام قال: إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم،

______________________________

(1) عنبسة (خ ل) (*)

[ 34 ]

وإذا سلم على القوم وهم جماعة أجزأهم أن يرد واحد منهم وفي التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبى جعفر عليه السلام وهو في الصلاة فقلت: السلام عليك. فقال: السلام، عليك فقلت: كيف أصبحت ؟ فسكت فلما انصرف قلت: أيرد السلام وهو في الصلاة ؟ قال: نعم، مثل ما قيل له. وفيه بإسناده عن منصور بن حازم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إذا سلم عليك الرجل وانت تصلى قال: ترد عليه خفيا كما قال. وفي الفقيه بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: لا تسلموا على اليهود، لا على النصارى، ولا على المجوس، ولا على عبدة الاوثان، ولا على موائد شراب الخمر، ولا على صاحب الشطرنج والنرد، ولا على المخنث، ولا على الشاعر الذى يقذف المحصنات، ولا على المصلى لان المصلى لا يستطيع أن يرد السلام لان التسليم من المسلم تطوع والرد فريضة، ولا على آكل الربا، ولا على رجل جالس على غائط، ولا على الذى في الحمام، ولا على الفاسق المعلن بفسقه. اقول: والروايات في معنى ما تقدم كثيرة، والاحاطة بما تقدم من البيان توضح معنى الروايات فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم، ونشر الامن بين المتلاقين على أساس المساواة والتعادل من استعلاء وادحاض، وما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير، والقليل للكثير، والواحد للجمع لا ينافى مسألة المساواة وانما هو مبنى على وجوب رعاية الحقوق فإن الاسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، واهمال أمر الفضائل والمزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعى فضل ذى الفضل، وحق صاحب الحق، وانما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله، ويتكبر على غيره فيبغى على الناس بغير حق فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الانساني. وأما النهى الوارد عن التسليم على بعض الافراد فإنما هو متفرع على النهى عن توليهم والركون إليهم كما قال تعالى: " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) (المائدة: 51) وقال: (لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء) (الممتحنة - 1) وقال: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) (هود - 113) إلى غير ذلك من الايات. نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق

[ 35 ]

التسليم عليهم ليحصل به تمام الانس وتمتزج النفوس كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك في قوله (فاصفح عنهم وقل سلام) (الزخرف - 89) وكما في قوله يصف المؤمنين (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) (الفرقان - 63). وفي تفسير الصافى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن رجلا قال له: السلام عليك، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك، فقال الرجل: نقصتنى فأين ما قال الله (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية) - فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لم تترك فضلا ورددت عليك مثله. اقول: وروى مثله في الدر المنثور عن احمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسى. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: مر أمير المؤمنين عليه السلام: بقوم فسلم عليهم فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لابينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت. اقول: وفيه إشارة إلى ان السنة في التسليم التام، وهو قول المسلم (السلام عليك ورحمة الله وبركاته) مأخوذة من حنيفية إبراهيم عليه السلام، وتأييد لما تقدم ان التحية بالسلام من الدين الحنيف. وفيه عن الصادق عليه السلام: ان من تمام التحية للمقيم المصافحة، وتمام التسليم على المسافر المعانقة. وفي الخصال عن امير المؤمنين عليه السلام: إذا عطس احدكم قولوا يرحمكم الله، وهو يقول: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية). وفي المناقب: جاءت جارية للحسن عليه السلام بطاق ريحان، فقال لها: أنت حرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: أدبنا الله تعالى فقال: (إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية) وكان أحسن منها إعتاقها.

[ 36 ]

اقول: والروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الاية. وفي المجمع في قوله تعالى (فما لكم في المنافقين فئتين) الاية) قال اختلفوا في من نزلت هذه الاية، فيه، فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الاسلام ثم رجعوا إلى مكة لانهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا: فقال بعضهم لا نفعل فانهم مؤمنون، وقال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهم الاية. قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام. وفي تفسير القمى في قوله تعالى (ودوا لو تكفرون كما كفروا) (الاية) أنها نزلت في أشجع وبنى ضمرة، وهما قبيلتان، وكان من خبرهم أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزاة الحديبية مر قريبا من بلادهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هادن بنى ضمرة، وواعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريبا منا، ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشا فلو بدأنا بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلا، إنهم أبر العرب بالوالدين، وأوصلهم للرحم، وأوفاهم بالعهد. وكان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بنى ضمرة، وهم بطن من كنانة، وكانت أشجع بينهم و بين بنى ضمرة حلف بالمراعاة والامان فأجدبت بلاد أشجع وأخصبت بلاد بنى ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بنى ضمرة فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسيرهم إلى بنى ضمرة تهيا للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التى كانت بينه وبين بنى ضمرة فأنزل الله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا). ثم استثنى بأشجع فقال: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا). وكانت أشجع محالها البيضاء والحل والمستباح، وقد كانوا قربوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهابوا لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع، ورئيسها مسعود بن رجيله، وهم سبعمأة فنزلوا شعب سلع، وذلك في شهر ربيع الاول

[ 37 ]

سنة ست من الهجرة فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسيد بن حصين وقال له: اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع. فخرج أسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم ؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة وهو رئيس أشجع فسلم على أسيد وعلى أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمدا، فرجع اسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بينى وبينهم. ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه، ثم قال: نعم الشئ الهدية أمام الحاجة، ثم أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم ؟ قالوا: قربت دارنا منك، وليس في قومنا أقل عددا منا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك، وضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم، وفيهم نزلت هذه الاية ((إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق - إلى قوله - فما جعل الله لكم عليهم سبيلا). وفي الكافي بإسناده عن الفضل أبى العباس عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) قال: نزلت في بنى مدلج لانهم جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنك لرسول الله فلسنا معكم ولا مع قومنا عليك، قال قلت: كيف صنع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا، وإلا قاتلهم. وفي تفسير العياشي عن سيف بن عميرة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام (أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) قال: كان أبى يقول: نزلت في بنى مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي صلى االله عليه وآله وسلم ولم يكونوا مع قومهم قلت: فما صنع بهم ؟ قال: لم يقاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى فرغ من عدوه، ثم نبذ إليهم على سواء. قال: (وحصرت صدورهم) هو الضيق. وفي المجمع: المروى عن أبى جعفر عليه السلام أنه قال: المراد بقوله تعالى (قوم بينكم وبينهم ميثاق) هو هلال بن عويمر السلمى واثق عن قومه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال في موادعته: على أن لا نخيف يا محمد من أتانا ولا تخيف من أتاك، فنهى الله أن يتعرض لاحد عهد إليهم.

[ 38 ]

اقول: وقد روى هذه المعاني وما يقرب منها في الدر المنثور بطرق مختلفة عن ابن عباس وغيره وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبى حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله (إلا الذين يصلون إلى قوم) (الاية) قال: نسختها براءة: (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).

* * *

وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما - 92. ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما - 93. يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا - 94.

(بيان)

 قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) الخطأ بفتحتين من غير مد، ومع المد على فعال: خلاف الصواب، والمراد به هنا ما يقابل التعمد لمقابلته بما في الاية

[ 39 ]

التالية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا). والمراد بالنفى في قوله (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا)، نفى الاقتضاء أي ليس ولا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الايمان وحماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أي قتل كان إلا قتل الخطأ، والاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن، ونظير هذه الجملة في سوقها لنفى الاقتضاء قوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله) (الشورى - 51) وقوله (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) (النمل - 60) وقوله (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) (يونس: 74) إلى غير ذلك. والاية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي بمعنى أن الله تعالى لم يبح قط، ولا يبيح أبدا أن يقتل مؤمن مؤمنا وحرم ذلك إلا في قتل الخطأ فإنه لما لم يقصد هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلا أو قصد ولكن بزعم ان المقتول كافر جائز القتل مثلا فلا حرمة مجعولة هناك. وقد ذكر جمع من المفسرين: ان الاستثناء في قوله (إلا خطأ) منقطع، قالوا: وإنما لم يحمل قوله (إلا خطأ) على حقيقة الاستثناء لان ذلك يؤدى إلى الامر بقتل الخطأ أو إباحته (انتهى) وقد عرفت أن ذلك لا يؤدى إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطأ، أو عدم وضع الحرمة فيه، ولا محذور فيه قطعا. فالحق أن الاستثناء متصل. قوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ - إلى قوله - يصدقوا) التحرير جعل المملوك حرا، والرقبة هي العنق شاع إستعمالها في النفس المملوكة مجازا والدية ما يعطى من المال عوضا عن النفس أو العضو أو غيرهما، والمعنى: ومن قتل مؤمنا بقتل الخطأ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة، وإعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول إلا أن يتصدق أولياء القتيل الدية على معطيها ويعفوا عنها فلا تجب الدية. قوله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم) الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول، والقوم العدو هم الكفار المحاربون، والمعنى: إن كان المقتول خطأ مؤمنا وأهله كفار محاربون لا يرثون وجب التحرير ولا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئا. قوله تعالى: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق)، الضمير في (كان) يعود إلى

[ 40 ]

المؤمن المقتول أيضا على ما يفيده السياق، والميثاق مطلق العهد أعم من الذمة وكل عهد، والمعنى: وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم عهد وجبت الدية وتحرير الرقبة، وقد قدم ذكر الدية تأكيدا في مراعاة جانب الميثاق. قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام)، أي من لم يستطع التحرير - لانه هو الاقرب بحسب اللفظ - وجب عليه صيام شهرين متتابعين. قوله تعالى: (توبة من الله) (الخ) أي هذا الحكم وهو إيجاب الصيام توبة وعطف رحمة من الله لفاقد الرقبة، وينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حق غير المستطيع، ويمكن أن يكون قوله (توبة) قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الاية من الكفارة أعنى قوله (فتحرير رقبة) (الخ) والمعنى: أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة وعناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا. وليتحفظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) (البقرة: 179). وكذا هو توبة من الله للمجتمع وعناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحدا، ويرمم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالى بالدية المسلمة. ومن هنا يظهر أن الاسلام يرى الحرية حياة والاسترقاق نوعا من القتل، ويرى المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة. وسنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من المباحث. وأما تشخيص معنى الخطأ والعمد والتحرير والدية وأهل القتيل والميثاق وغيره المذكورات في الاية فعلى السنة. من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه. قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) التعمد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الذى له، وحيث ان الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان وكان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن ان يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا من أخرى فالرامي إلى شبح وهو يزعم انه من الصيد وهو في الواقع انسان إذا قتله كان متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الانسان، وكذا إذا ضرب إنسانا بالعصى قاصدا تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطأ، وعلى هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذى يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل وان المقتول مؤمن.

[ 41 ]

وقد أغلظ الله سبحانه وتعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى (إن الله لا يغفر ان يشرك به) (النساء - 48) ان تلك الاية، وكذا قوله تعالى (إن الله يغفر الذنوب جميعا) (الزمر - 53) تصلحان لتقييد هذه الاية فهذه الاية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) الضرب هو السير في الارض والمسافرة وتقييده بسبيل الله يدل على أن المراد به هو الخروج للجهاد والتبين هو التمييز والمراد به التمييز بين المؤمن والكافر بقرينة قوله (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) والمراد بإلقاء السلام إلقاء التحية تحية أهل الايمان، وقرئ: (لمن ألقى اليكم السلم) بفتح اللام وهو الاستسلام. والمراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال والغنيمة، وقوله (فعند الله مغانم كثيرة) جمع مغنم وهو الغنيمة أي ما عند الله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الذى يريدونه لكثرتها وبقائها فهى التى يجب عليكم أن تؤثروها. قوله تعالى: (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا) (الخ) أي على هذا الوصف. وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا - كنتم من قبل ان تؤمنوا فمن الله عليكم بالايمان الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عند الله من المغانم الكثيرة فإذا كان كذلك فيجب عليكم ان تتبينوا، وفي تكرار الامر بالتبين تأكيد في الحكم. والاية مع اشتمالها على العظة ونوع من التوبيخ لا تصرح بكون هذا القتل الذى ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمدا، فالظاهر انه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض من ألقى السلم من المشركين لعدم وثوق القاتل بكونه مؤمنا حقيقة بزعم أنه انما يظهر الايمان خوفا على نفسه، والاية توبخه بأن الاسلام انما يعتبر بالظاهر، ويحل أمر القلوب إلى اللطيف الخبير. وعلى هذا فقوله (تبتغون عرض الحياة الدنيا) موضوع في الكلام على اقتضاء الحال، أي حالكم في قتل من يظهر لكم الايمان من غير اعتناء بأمره وتبين في شأنه حال من يريد المال والغنيمة فيقتل المؤمن المتظاهر بالايمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من

[ 42 ]

موجه العذر، وهذا هو الحال الذى كان عليه المؤمنون قبل ايمانهم لا يبتغون الا الدنيا فإذا أنعم الله عليهم بالايمان، ومن عليهم بالاسلام كان الواجب عليهم ان يتبينوا فيما يصنعون ولا ينقادوا لاخلاق الجاهلية وما بقى فيهم من اثارتها.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور في قوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) (الاية) أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بنى عامر بن لوى يعذب عياش بن أبى ربيعة مع أبى جهل ثم خرج مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) (الاية) فقرأها عليه، ثم قال له: قم فحرر. أقول: وروى هذا المعنى بغيره من الطرق، وفي بعضها أنه قتله بمكة يوم الفتح حين خرج عياش وكان في وثاق المشركين إلى ذلك اليوم وهم يعذبونه ولقى حارثا وقد أسلم وعياش لا يعلم بإسلامه فقتله عياش إذ ذاك. وما اثبتناه من رواية عكرمة أوفق بالاعتبار وأنسب لتاريخ نزول سورة النساء. وروى الطبري في تفسيره عن ابن زيد أن الذى نزلت فيه الاية هو أبو الدرداء كان في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة، له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الاية. وروى في الدر المنثور أيضا عن الرويانى وابن منده وأبى نعيم عن بكر بن حارثة الجهنى أنه هو الذى نزلت فيه الاية لقصة نظيرة قصة أبى الدرداء، والروايات على أي حال لا تزيد على التطبيق. وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل العتق يجوز له المولود إلا في كفارة القتل فإن الله تعالى يقول: (فتحرير رقبة مؤمنة) يعنى بذلك مقرة قد بلغت الحنث (الحديث).

[ 43 ]

وفي تفسير العياشي عن موسى بن جعفر عليه السلام: سئل كيف تعرف المؤمنة ؟ قال: على الفطرة. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام: في رجل مسلم في أرض الشرك فقتله المسلمون ثم علم به الامام بعد فقال عليه السلام: يعتق مكانه رقبة مؤمنة وذلك قول الله عز وجل: (فإن كان من قوم عدو لكم). اقول: وروى مثله العياشي. وفي قوله (يعتق مكانه) إشعار بأن حقيقة العتق إضافة واحد إلى أحرار المسلمين حيث نقص واحد من عددهم كما تقدمت الاشارة إليه. وربما استفيد من ذلك أن مصلحة مطلق العتق في الكفارات هو إضافة حر غير عاص إلى عددهم حيث نقص واحد منهم بالمعصية. فافهم ذلك. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو مرض في الشهر الاول فإن عليه أن يعيد الصيام وإن صام الشهر الاول وصام من الشهر الثاني شيئا ثم عرض له ما له فيه عذر فعليه أن يقضى. اقول: أي يقضى ما بقى عليه كما قيل وقد استفيد من التتابع. وفي الكافي وتفسير العياشي عنه عليه السلام: أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمدا له توبة ؟ فقال: إن كان قتله لايمانه فلا توبة له وإن كان قتله لغضب أو لسبب شئ من أشياء الدنيا فإن توبته أن يقاد منه - وإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل صاحبهم فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية وأعتق نسمة وصام شهرين متتابعين وأطعم ستين مسكينا توبة إلى الله عز وجل. وفي التهذيب بإسناده عن أبى السفاتج عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله عز وجل (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) قال: جزاؤه جهنم إن جازاه. اقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن الطبراني وغيره عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والروايات كما ترى تشتمل على ما قدمناه من نكات الايات وفي باب القتل والقود روايات كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث. وفي المجمع في قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) (الاية) قال:

[ 44 ]

نزلت في مقيس بن ضبابة الكنانى وجد أخاه هشاما قتيلا في بنى النجار فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل معه قيس بن هلال الفهرى وقال له: قل لبنى النجار: إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلغ الفهرى الرسالة فأعطوه الدية فلما انصرف ومعه الفهرى وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئا أخذت دية أخيك فتكون سبة عليك. اقتل الذى معك لتكون نفس بنفس والدية فضل فرماه بصخرة فقتله وركب بعيرا ورجع إلى مكة كافرا وأنشد يقول.

قتلت به فهرا وحملت عقله * سراة بنى النجار أرباب فارع

فأدركت ثارى وأضطجعت موسدا * وكنت إلى الاوثان أول راجع

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا اؤمنه في حل ولا حرم. رواه الضحاك وجماعة من المفسرين (انتهى). اقول: وروى ما يقرب منه عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما. وفي تفسير القمى في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) (الاية) أنها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزاة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الاسلام كان رجل يقال له مرداس بن نهيك الفدكى في بعض القرى فلما أحس بخيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع أهله وماله في ناحية الجبل فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمر به أسامة بن زيد فطعنه فقتله فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلا كشفت الغطاء عن قلبه ولا ما قال بلسانه قبلت ولا ما كان في نفسه علمت. فحلف أسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فتخلف عن أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه فأنزل في ذلك (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) (الاية). اقول: وروى هذا المعنى الطبري في تفسيره عن السدى وروى في الدر المنثور روايات كثيرة في سبب نزول الاية في بعضها: أن القصة لمقداد بن الاسود وفي بعضها لابي الدرداء وفي بعضها لمحلم بن جثامة وفي بعضها لم يذكر اسم للقاتل ولا المقتول

[ 45 ]

وابهمت القصة إبهاما هذا ولكن حلف أسامة بن زيد واعتذاره إلى على عليه السلام في تخلفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ والله أعلم. لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير اولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما - 95. درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما - 96. إن الذين توفيهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأويهم جهنم وساءت مصيرا - 97. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا - 98. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا - 99. ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما - 100.

(بيان)

 قوله تعالى: (لا يستوى القاعدون - إلى قوله - وأنفسهم) الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد والقتال كالعمى والعرج والمرض والمراد بالجهاد بالاموال

[ 46 ]

إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين وبالانفس القتال. وقوله (وكلا وعد الله الحسنى) يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حد الكفاية فالكلام مسوق لترغيب الناس وتحريضهم على القيام بأمر الجهاد والتسابق فيه والمسارعة إليه. ومن الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أولى الضرر ثم حكم بعدم الاستواء مع أن أولى الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله وإن قلنا: إن الله سبحانه يتدارك ضررهم بنياتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد والشهادة أو الغلبة على عدو الله من الفضائل التى فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم وبالجملة ففى الكلام تحضيض للمؤمنين وتهييج لهم وإيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير والفضيلة. قوله تعالى: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) الجملة في مقام التعليل لقوله (لا يستوى) ولذا لم توصل بعطف ونحوه والدرجة هي المنزلة والدرجات المنزلة بعد المنزلة وقوله (وكلا وعد الله الحسنى) أي وعد الله كلا من القاعدين والمجاهدين أو كلا من القاعدين غير أولى الضرر والقاعدين أولى الضرر والمجاهدين الحسنى والحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك والجملة مسوقة لدفع الدخل فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله (لا يستوى - إلى قوله - درجة) أنه صفر الكف لا فائدة تعود إليه من ايمانه وسائر أعماله فدفع ذلك بقوله (وكلا وعد الله الحسنى). قوله تعالى: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة) هذا التفضيل بمنزلة البيان والشرح لاجمال التفضيل المذكور أولا ويفيد مع ذلك فائدة أخرى وهى الاشارة إلى أنه لا ينبغى للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذى يتضمنه قوله (وكلا وعد الله الحسنى) فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله والواجب من السعي في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة والرحمة. وأمر الاية في سباقها عجيب أما أولا فلانها قيدت المجاهدين (أولا) بقوله (في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) و (ثانيا) بقوله (بأموالهم وأنفسهم) و (ثالثا) أوردته من

[ 47 ]

غير تقييد. وأما ثانيا: فلانها ذكرت في التفضيل (أولا) أنها درجة و (ثانيا) انها درجات منه. أما الاول فلان الكلام في الاية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود والفضل إنما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس وبالسماحة والجود بأعز الاشياء عند الانسان وهو المال وبما هو أعز منه وهو النفس ولذلك قيل أولا: (والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) ليتبين بذلك الامر كل التبين ويرتفع به اللبس ثم لما قيل: (وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لان اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان غير أن الجملة لما قارنت قوله (وكلا وعد الله الحسنى) مست حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل وهو إنفاق المال وبذل النفس على حبهما فلذا اكتفى بذكرهما قيدا للمجاهدين فقيل: (المجاهدين بأموالهم وأنفسهم) وأما قوله ثالثا (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلا لا جميعها ولا بعضها ولذلك تركت كلا. وأما الثاني فقوله (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) (درجة) منصوب على التمييز، وهو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة والمنزلة من غير أن يتعرض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر وقوله (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه) كأن لفظة (فضل) فيه مضمنة معنى الاعطاء أو ما يشابهه وقوله (درجات منه) بدل أو عطف بيان لقوله (أجرا عظيما) والمعنى: وأعطى الله المجاهدين أجرا عظيما مفضلا إياهم على القاعدين معطيا أو مثيبا لهم أجرا عظيما وهو الدرجات من الله فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة ويبين بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل ودرجات كثيرة وهى الاجر العظيم الذى يثاب به المجاهدون. ولعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولا (درجة) وثانيا (درجات منه) وقد ذكر المفسرون للتخلص من الاشكال وجوها لا يخلو جلها أو كلها من تكلف.

[ 48 ]

منها: أن المراد بالتفضيل في صدر الاية تفضيل المجاهدين على القاعدين اولى الضرر بدرجة وفي ذيل الاية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير اولى الضرر بدرجات. ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الاية المنزلة الدنيوية كالغنيمة وحسن الذكر ونحوهما وبالدرجات في آخر الاية المنازل الاخروية وهى أكثر بالنسبة إلى الدنيا قال تعالى: (وللاخرة أكبر درجات) (أسرى 21). ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الاية المنزلة عند الله وهى أمر معنوى وبالدرجات في ذيل الاية منازل الجنة ودرجاتها الرفيعة وهى حسية، وأنت خيبر بأن هذه الاقوال لا دليل عليها من جهة اللفظ. والضمير في قوله (منه لعله راجع إلى الله سبحانه، ويؤيده قوله (ومغفرة ورحمة) بناء على كونه بيانا للدرجات، و المغفرة والرحمة من الله، ويمكن رجوع الضمير إلى الاجر المذكور قبلا. وقوله (ومغفرة ورحمة) ظاهره كونه بيانا للدرجات فإن الدرجات وهى المنازل من الله سبحانه أياما كانت فهى مصداق المغفرة والرحمة، وقد علمت في بعض المباحث السابقة أن الرحمة - وهى الافاضة الالهية للنعمة - تتوقف على إزاله الحاجب ورفع المانع من التلبس بها، وهى المغفرة، ولازمه أن كل مرتبة من مراتب النعم وكل درجة ومنزلة رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة التى بعدها، والدرجة التى فوقها، فصح بذلك أن الدرجات الاخروية كائنة ما كانت مغفرة ورحمة من الله سبحانه، وغالب ما تذكر الرحمة وما يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله (مغفرة وأجر عظيم) (المائدة: 9) وقوله (ومغفرة ورزق كريم) (الانفال - 4) وقوله (مغفرة وأجر كبير) (هود: 11) وقوله (ومغفرة من الله ورضوان) (الحديد - 20) وقوله (واغفر لنا وارحمنا) (البقرة - 286) إلى غير ذلك من الايات. ثم ختم الاية بقوله: (وكان الله غفورا رحيما) ومناسبة الاسمين مع مضمون الاية ظاهرة لا سيما بعد قوله في ذيلها (ومغفرة ورحمة.) قوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) لفظ (توفاهم) صيغة ماض أو صيغة مستقبل - والاصل تتوفاهم حذفت إحدى التائين من اللفظ تخفيفا - نظير قوله

[ 49 ]

تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء) (النحل - 28). والمراد بالظلم كما تؤيده الاية النظيرة هو ظلمهم لانفسهم بالاعراض عن دين الله وترك إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك والتوسط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسل بها إلى تعلم معارف الدين، والقيام بما تندب إليه من وظائف العبودية، وهذا هو الذى يدل عليه السياق في قوله (قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض) إلى آخر الايات الثلاث. وقد فسر الله سبحانه الظالمين (إذا أطلق) في قوله (لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) (الاعراف - 45)، هود: 19) ومحصل الايتين تفسير الظلم بالاعراض عن دين الله وطلبه عوجا ومحرفا، وينطبق على ما يظهر من الاية التى نحن فيها. قوله تعالى: (قالوا فيم كنتم) أي فيما ذا كنتم من الدين، وكلمة (م) هي ما الاستفهامية حذفت عنها الالف تخفيفا. وفي الاية دلالة في الجملة على ما تسميه الاخبار بسؤال القبر، وهو سؤال الملائكة عن دين الميت بعد حلول الموت كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين وقيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا (الايات) (النحل: 30). قوله تعالى: (قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) كان سؤال الملائكة (فيم كنتم) سؤالا عن الحال الذى كانوا يعيشون فيه من الدين، ولم يكن هؤلاء المسؤولون على حال يعتد به من جهة الدين فأجابوا بوضع السبب موضع المسبب وهو أنهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكنون فيها من التلبس بالدين لكون أهل الارض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم وبين الاخذ بشرائع الدين والعمل بها.

[ 50 ]

ولما كان هذا الذى ذكروه من الاستضعاف - لو كانوا صادقين فيه - إنما حل بهم من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك، وكان استضعافهم من جهة تسلط المشركين على الارض التى ذكروها، ولم تكن لهم سلطة على غيرها من الارض فلم يكونوا مستضعفين على أي حال بل في حال لهم أن يغيروه بالخروج والمهاجرة كذبتهم الملائكة في دعوى الاستضعاف بأن الارض أرض الله كانت أوسع مما وقعوا فيه ولزموه، وكان يمكنهم أن يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم على الخروج من قيد الاستضعاف، وإنما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم. فقوله (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله (فيم كنتم) ويمكن أن يكون أول الاستفهامين للتقرير كما هو ظاهر ما مر نقله من آيات سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين والمتقين جميعا، وثاني الاستفهامين للتوبيخ على أي حال. وقد أضافت الملائكة الارض إلى الله، ولا يخلو من أيماء إلى أن الله سبحانه هيأ في أرضه سعة أولا ثم دعاهم إلى الايمان والعمل كما يشعر به أيضا قوله بعد آيتين (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة) (الاية. ووصف الارض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله (فتهاجروا فيها) أي تهاجروا من بعضها إلى بعضها، ولو لا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها. ثم حكم الله في حقهم بعد إيراد المسألة بقوله (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا). قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان)، الاستثناء منقطع، وفي إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذى فسره به دلالة على أن الظالمين المذكورين لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم وإنما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الاية، وفي تفصيل بيانهم بالرجال والنساء والولدان إيضاح للحكم الالهى ورفع للبس. وقوله (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) الحيلة كأنها بناء نوع من الحيلولة ثم استعملت استعمال الالة فهى ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شئ وشئ أو حال للحصول على شئ أو حال آخر، وغلب استعماله في ما يكون على خفية، وفي الامور المذمومة، وفي مادتها على أي حال معنى التغير على ما ذكره الراغب في مفرداته. والمعنى لا يستطيعون ولا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف

[ 51 ]

المشركين عن أنفسهم، ولا يهتدون سبيلا يتخلصون بها عنهم فالمراد من السبيل على ما يفيده السياق أعم من السبيل الحسى كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمى مكة، والسبيل المعنوي وهو كل ما يخلصهم من أيدى المشركين، واستضعافهم لهم بالعذاب والفتنة.

(كلام في المستضعف)

 يتبين بالاية أن الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للانسان الجاهل كان عذرا عند الله سبحانه. توضيحه: أن الله سبحانه يعد الجهل بالدين وكل ممنوعية عن إقامة شعائر الدين ظلما لا يناله العفو الالهى، ثم يستثنى من ذلك المستضعفين ويقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف ثم يعرفهم بما يعمهم وغيرهم من الوصف، وهو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم، وهذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقى معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الاسلام والالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالى ونحو ذلك كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفى عنه الحق لشئ من العوامل المختلفة الموجبة لذلك. فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدى سبيلا لا لانه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل. هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الاية الذى هو في معنى عموم العلة، وهو الذي يدل عليه غيرها من الايات كقوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (البقرة: 286) فالامر المغفول عنه ليس في وسع الانسان كما أن الممنوع من الامر بما يمتنع معه ليس في وسع الانسان.

[ 52 ]

وهذه الاية أعنى آية البقرة كما ترفع التكليف بإرتفاع الوسع كذلك تعطى ضابطا كليا في تشخيص مورد العذر وتمييزه من غيره، وهو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الانسان، ولا يكون له في امتناع الامر الذى امتنع عليه صنع، فالجاهل بالدين جملة أو بشئ من معارفه الحقة إذا استند جهله إلى ما قصر فيه وأساء الاختيار استند إليه الترك وكان معصية، واذ كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شئ من مقدماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى اختياره، ولم يعد فاعلا للمعصية، متعمدا في المخالفة مستكبرا عن الحق جاحدا له فله ما كسب وعليه ما اكتسب، وإذا لم يكسب فلا له ولا عليه. ومن هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شئ له ولا عليه لعدم كسبه أمرا بل أمره إلى ربه كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين (فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) وقوله تعالى (وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) (براءة - 106) ورحمته سبقت غضبه. قوله تعالى: (فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم)، هؤلاء وان لم يكسبوا سيئة لمعذوريتهم في جهلهم لكنا بينا سابقا أن أمر الانسان يدور بين السعادة والشقاوة وكفى في شقائه أن لا يجوز لنفسه سعادة، فالانسان لا غنى له في نفسه عن العفو الالهى الذى يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحا أو طالحا أو لم يكن، ولذلك ذكر الله سبحانه رجاء عفوهم. وإنما اختير ذكر رجاء عفوهم ثم عقب ذلك بقوله (وكان الله عفوا غفورا) اللائح منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الذين أو عدوا بأن مأواهم جهنم وساءت مصيرا. قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة) قال الراغب: الرغام (بفتح الراء) التراب الرقيق، ورغم أنف فلان رغما وقع في الرغام، وأرغمه غيره، ويعبر بذلك عن السخط كقول الشاعر:

إذا رغمت تلك الانوف لم أرضها * ولم أطلب العتبى ولكن أزيدها

 فمقابلته بالارضاء مما ينبه على دلالته على الاسخاط، وعلى هذا قيل: أرغم الله

[ 53 ]

أنفه، وأرغمه أسخطه وراغمه ساخطه، وتجاهدا على ان يرغم أحدهما الاخر ثم يستعار المراغمة للمنازعة قال الله تعالى: (يجد في الارض مراغما كثيرا) أي مذهبا يذهب إليه إذا رأى منكرا يلزمه ان يغضب منه كقولك: غضبت إلى فلان من كذا ورغمت إليه (انتهى) فالمعنى: ومن يهاجر في سبيل الله، أي طلبا لمرضاته في التلبس بالدين علما وعملا يجد في الارض مواضع كثيرة كلما منعه مانع في بعضها من اقامة دين الله استراح إلى بعض آخر بالهجرة إليه لارغام المانع واسخاطه أو لمنازعته المانع ومساخطته، ويجد سعة في الارض. وقد قال تعالى في سابق الايات: (ألم تكن أرض الله واسعة) ولازم التفريع عليه أن يقال: ومن يهاجر يجد في الارض سعة الا أنه لما زيد قوله (مراغما كثيرا) وهو من لوازم سعة الارض لمن يريد سلوك سبيل الله قيدت المهاجرة أيضا بكونها في سبيل الله لينطبق على الغرض من الكلام، وهو موعظة المؤمنين القاطنين في دار الشرك وتهييجهم وتشجيعهم على المهاجرة وتطييب نفوسهم. قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) (الخ) المهاجرة إلى الله ورسوله كناية عن المهاجرة إلى أرض الاسلام التى يتمكن فيها من العلم بكتاب الله وسنة رسوله، والعمل به. وادراك الموت استعارة بالكناية عن وقوعه أو مفاجأته فان الادراك هو سعى اللاحق بالسير إلى السابق ثم وصوله إليه، وكذا وقوع الاجر على الله استعارة بالكناية عن لزوم الاجر والثواب له تعالى واخذه ذلك في عهدته، فهناك اجر جميل وثواب جزيل سيوافى به العبد لا محالة، والله سبحانه يوافيه بألوهيته التى لا يعزها شئ ولا يعجزها شئ ولا يمتنع عليها ما أرادته، ولا تخلف الميعاد. وختم الكلام بقوله (وكان الله غفورا رحيما) تأكيدا للوعد الجميل بلزوم توفية الاجر والثواب. وقد قسم الله سبحانه في هذه الايات المؤمنين أعنى المدعين للايمان من جهة الاقامة في دار الايمان ودار الشرك إلى أقسام، وبين جزاء كل طائفة من هذه الطوائف بما يلائم حالها ليكون عظة وتنبيها ثم ترغيبا في الهجرة إلى دار الايمان، والاجتماع هناك، وتقوية

[ 54 ]

المجتمع الاسلامي، والاتحاد والتعاون على البر والتقوى واعلاء كلمة الحق ورفع راية التوحيد وأعلام الدين. فطائفة أقامت في دار الاسلام من مجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وقاعدين غير اولى الضرر، وقاعدين اولى الضرر وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة. وطائفة أقامت في دار الشرك، وهى ظالمة لا تهاجر في سبيل الله ومأواهم جهنم وساءت مصيرا، وطائفة منهم مستضعفة غير ظالمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وطائفة منهم غير مستضعفة خرجت من بيتها مهاجرة إلى الله ورسوله ثم ادركها الموت فقد وقع اجرها على الله. والايات تجرى بمضامينها على المسلمين في جميع الاوقات والازمنة وإن كان سبب نزولها حال المسلمين في جزيرة العرب في عهد النبي (ص) بين هجرته إلى المدينة وفتح مكة وكانت الارض منقسمة يومئذ إلى أرض الاسلام وهى المدينة وما والاها فيها جماعة المسلمين أحرار في دينهم وجماعة من المشركين وغيرهم لا يزاحمون في أمرهم لعهد ونحوه، وإلى أرض الشرك وهى مكة وما والاها هي تحت سلطة المشركين مقيمين على وثنيتهم، ويزاحمون المسلمين في أمر دينهم يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم لردهم عن دينهم. لكن الايات تحكم على المسلمين بملاكها دائما فعلى المسلم أن يقيم حيث يتمكن فيه من تعلم معالم الدين، ويستطيع إقامة شعائره والعمل بأحكامه، وأن يهجر الارض التى لا علم فيها بمعارف الدين، ولا سبيل إلى العمل بأحكامه من غير فرق بين أن تسمى اليوم دار الاسلام أو دار شرك فإن الاسماء تغيرت اليوم وهجرت مسمياتها وصار الدين جنسية، والاسلام مجرد تسم من غير أن يراعى في تسميته الاعتقاد بمعارفه أو العمل بأحكامه. والقرآن الكريم إنما يرتب الاثر على حقيقة الاسلام دون اسمه ويكلف الناس من العمل ما فيه شئ من روحه لا ما هو صورته، قال تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) (النساء: 124) وقال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله

[ 55 ]

واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقره: 62).

(بحث روائي)

 في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالاسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فاصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت هذه الاية: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) إلى آخر الاية. قال: فكتب إلى من بقى بمكة من المسلمين بهذه الاية، وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فأنزلت فيهم هذه الاية (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) إلى آخر الاية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير فنزلت فيهم (ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) فكتبوا إليهم بذلك ان الله قد جعل لكم مخرجا فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل. وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الضحاك في الاية قال هم أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فاصيبوا يوم بدر فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الاية. وفيه أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الاية قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضهر ونبع الايمان نبع النفاق معه فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجال فقالوا: يا رسول الله لو لا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبونا ويفعلون ويفعلون لاسلمنا، ولكن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فكانوا يقولون ذلك له فلما كان يوم بدر قام المشركون فقالوا لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره، واستبحنا ماله، فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبى صلى الله عليه وآله وسلم معهم فقتلت طائفة منهم، وأسرت طائفة.

[ 56 ]

قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) (الاية) كلها (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها - وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم - أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا). ثم عذر الله أهل الصدق فقال: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا - يتوجهون له، لو خرجوا لهلكوا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم) إقامتهم بين ظهرى المشركين. وقال الذين أسروا: يا رسول الله إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وإن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا فقال الله: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم صنيعكم الذى صنعتم خروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل - خرجوا مع المشركين - فأمكن منهم). وفيه أخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم وابن جرير عن عكرمة في قوله (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم - إلى قوله - وساءت مصيرا) قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الاسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبى العاص بن منبه بن الحجاج، وعلى بن امية بن خلف. قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبى سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا، واجتمعوا ببدر على غير موعد فقتلوا ببدر كفارا، ورجعوا عن الاسلام وهم هؤلاء الذين سميناهم. اقول: والروايات في ما يقرب من هذه المعاني من طرق القوم كثيرة، وهى وإن كان ظاهرها أشبه بالتطبيق لكنه تطبيق حسن. ومن أهم ما يستفاد منها، وكذا من الايات بعد التدبر وجود منافقين بمكة قبل الهجرة وبعدها. فإن لذلك تأثيرا في البحث عن حال المنافقين على ما سيأتي في سورة البراءة إن شاء الله العزيز. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: كان بمكة

[ 57 ]

رجل يقال له ضمرة من بنى بكر، وكان مريضا فقال لاهله. أخرجوني من مكة فإنى أجد الحر فقالوا: أين نخرجك ؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة، فخرجوا به فمات على ميلين من مكة فنزلت هذه الاية (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت). اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة إلا أن فيها اختلافا شديدا في تسمية هذا الذى أدركه الموت، ففى بعضها ضمرة بن جندب، وفي بعضها أكثم بن صيفي، وفي بعضها أبو ضمرة بن العيص الزرقى، وفي بعضها ضمرة بن العيص من بنى ليث، وفي بعضها جندع بن ضمرة الجندعى، وفي بعضها أنها نزلت في خالد بن حزام خرج مهاجرا إلى حبشة فنهشته حية في الطريق فمات. وفي بعض الروايات عن ابن عباس: أنه أكثم بن صيفي. قال الراوى: قلت: فأين الليثى ؟ قال: هذا قبل الليثى بزمان وهى خاصة عامة. اقول: يعنى أنها نزلت في أكثم خاصة ثم جرت في غيره عامة، والمتحصل من الروايات أن ثلاثة من المسلمين أدركهم الموت في سبيل الهجرة: أكثم بن صيفي، وليثى، وخالد بن حزام وأما نزول الاية في أي منهم فكأنه تطبيق من الراوى. وفي الكافي عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن المستضعف، فقال: هو الذى لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر، ولا يهتدى سبيلا إلى الايمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر فمنهم الصبيان ومن الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم. اقول: والحديث مستفيض عن زرارة، رواه الكليني والصدوق والعياشي بعدة طرق عنه. وفيه بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذى لا يسع العباد جهله. قال: الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم. قلت: جعلت فداك فأحدثك بدينى الذى أنا عليه ؟ فقال: نعم. فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والاقرار بما جاء به من عند الله تعالى، وأتولاكم، وأبرء من أعدائكم ومن ركب رقابكم، وتأمر عليكم، وظلمكم حقكم. فقال: والله ما

[ 58 ]

جهلت شيئا، هو والله الذى نحن عليه. فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الامر ؟ فقال: الا المستضعفين. قلت: من هم ؟ قال نساؤكم وأولادكم. ثم قال: أرأيت ام ايمن ؟ فإنى اشهد انها من اهل الجنة، وما كانت تعرف ما انتم عليه. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن ابى جعفر عليه السلام قال: سألته عن المستضعفين. فقال: البلهاء في خدرها والخادم تقول لها: صلى فتصلى لا تدرى الا ما قلت لها، والجليب الذى لا يدرى الا ما قلت له، والكبير الفاني، والصبى، والصغير، هؤلاء المستضعفون فأما رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشراء والبيع لا تستطيع أن تعينه في شئ تقول: هذا المستضعف ؟ لا، ولا كرامة. وفي المعاني عن سليمان عن الصادق عليه السلام في الاية قال: يا سليمان، في هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون ويصلون، تعف بطونهم وفروجهم، ولا يرون أن الحق في غيرنا آخذين بأغصان الشجرة فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم إذا كانوا آخذين بالاغصان، وأن يعرفوا اولئك فإن عفا الله عنهم فبرحمته وان عذبهم فبضلالتهم. اقول: قوله (لا يرون أن الحق في غيرنا) يريد صورة النصب أو التقصير المؤدى إليه كما يدل عليه الروايات الاتية. وفيه عن الصادق عليه السلام: أنه ذكر أن المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا، ومن لم يكن من أهل القبلة ناصبا فهو مستضعف. وفيه وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في الاية قال: لا يستطيعون حيلة إلى النصب فينصبون، ولا يهتدون سبيلا إلى الحق فيدخلون فيه هؤلاء يدخلون الجنة بأعمال حسنة، وباجتناب المحارم التى نهى الله عنها، ولا ينالون منازل الابرار وفي تفسير القمى عن ضريس الكناسى عن أبى جعفر عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك ما حال الموحدين المقرين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم ؟ فقال: أما هؤلاء فإنهم في حفرهم لا يخرجون منها - فمن كان له عمل صالح، ولم يظهر منه عداوة فإنه يخدله خد إلى الجنة التى خلقها الله بالمغرب فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتى يلقى الله فيحاسبه

[ 59 ]

بحسناته وسيئاته فإما إلى الجنة، واما إلى النار فهؤلاء الموقوفون لامر الله. قال وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله والاطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم. فأما النصاب من أهل القبلة فإنه يخدلهم خد إلى النار التى خلقها الله بالمشرق فيدخل عليه اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ثم مصيرهم إلى الجحيم. وفي الخصال عن الصادق عن أبيه عن جده عن على عليه السلام قال: ان للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا - إلى ان قال - وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا اله الا الله، ولم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت عليهم السلام. وفي المعاني وتفسير العياشي عن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله (الا المستضعفين) قال: هم أهل الولاية. قلت: أي ولاية ؟ قال: أما انها ليست بولاية في الدين، ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار، وهم المرجون لامر الله عز وجل. اقول: وهو اشارة إلى قوله تعالى (وآخرون مرجون لامر الله اما يعذبهم واما يتوب عليهم) الاية (التوبة - 106) وسيأتى ما يتعلق به من الكلام ان شاء الله. وفي النهج قال عليه السلام: ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها اذنه، ووعاها قلبه. وفي الكافي عن الكاظم عليه السلام: أنه سئل عن الضعفاء فكتب عليه السلام: الضعيف من لم ترفع له حجة. ولم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. وفيه عن الصادق عليه السلام: أنه سئل: ما تقول في المستضعفين ؟ فقال شبيها بالفزع فتركتم أحدا يكون مستضعفا ؟ وأين المستضعفون ؟ فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق إلى العواتق في خدورهن، وتحدثت به السقاءات في طريق المدينة. وفي المعاني عن عمر بن اسحاق قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام ما حد المستضعف الذى ذكره الله عز وجل ؟ قال: من لا يحسن سورة من سور القرآن وقد خلقه الله عز وجل خلقة ما ينبغى لاحد أن لا يحسن.

[ 60 ]

اقول: وهاهنا روايات اخر غير ما أوردناه لكن ما مر منها حاو لمجامع ما فيها من المقاصد، والروايات وان كانت بحسب بادئ النظر مختلفة لكنها مع قطع النظر عن خصوصيات بياناتها بحسب خصوصيات مراتب الاستضعاف تتفق في مدلول واحد هو مقتضى اطلاق الاية على ما قدمناه، وهو أن الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحق من غير تقصير. وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا - 101 وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة اخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا - 102. فإذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة إن الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا 103. ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما - 104.

[ 61 ]

(بيان)

الايات تشرع صلاة الخوف والقصر في السفر وتنتهى إلى ترغيب المؤمنين في تعقيب المشركين وابتغائهم، وهى مرتبطة بالآيات السابقة المتعرضة للجهاد وما لها من مختلف الشؤون. قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) الجناح الاثم والحرج والعدول، والقصر النقص من الصلاة قال في المجمع: في قصر الصلاة ثلاث لغات: قصرت الصلاة أقصرها وهى لغة القرآن، وقصرتها تقصيرا، أقصرتها اقصارا. والمعنى: إذا سافرتم فلا مانع من حرج واثم ان تنقصوا شيئا من الصلاة، ونفى الجناح الظاهر وحده في الجواز لا ينافى وروده في السياق للوجوب كما في قوله تعالى (أن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (البقرة - 158) مع كون الطواف واجبا، وذلك ان المقام مقام التشريع ويكفى فيه مجرد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلى استيفاء جميع جهات الحكم وخصوصياته، ونظير الاية بوجه قوله تعالى (وان تصوموا خير لكم) (الاية) (البقرة - 184) قوله تعالى: (ان خفتم ان يفتنكم الذين كفروا) الفتنة وان كانت ذات معان كثيرة مختلفة لكن المعهود من اطلاقها في القرآن في خصوص الكفار والمشركين التعذيب من قتل أو ضرب ونحوهما، وقرائن الكلام أيضا تؤيد ذلك فالمعنى: ان خفتم ان يعذبوكم بالحملة والقتل. والجملة قيد لقوله (فلا جناح عليكم) وتفيد ان بدء تشريع القصر في الصلاة انما كان عند خوف الفتنة ولا ينافى ذلك ان يعم التشريع ثانيا جميع صور السفر الشرعي وان لم يجامع الخوف فإنما الكتاب بين قسما منه، والسنة بينت شموله لجميع الصور كما سيأتي في الروايات. قوله تعالى: (وإذا كنتم فيهم - إلى قوله - وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم)

[ 62 ]

الاية، تذكر كيفية صلاة الخوف، وتوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفرضه اماما في صلاة الخوف، وهذا من قبيل البيان بإيراد المثال ليكون أوضح في عين أنه اوجز واجمل. فالمراد بقوله (اقمت لهم الصلاة) هو الصلاة جماعة، والمراد بقوله (فلتقم طائفة منهم معك) قيامهم في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحو الايتمام، وهم المأمورون بأخذ الاسلحة، والمراد بقوله (فإذا سجدوا (الخ) إذا سجدوا واتموا الصلاة ليكون هؤلاء، بعد اتمام سجدتهم من وراء القوم، وكذا المراد بقوله (وليأخذوا حذرهم واسلحتهم) ان تأخذ الطائفة الثانية المصلية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذرهم واسلحتهم. والمعنى - والله اعلم -: وإذا كنت انت يا رسول الله فيهم والحال حال الخوف فأقمت لهم الصلاة أي صليتهم جماعة فأممتهم فيها، فلا يدخلوا في الصلاة جميعا بل لتقم طائفة منهم معك بالاقتداء بك وليأخذوا معهم اسلحتهم، ومن المعلوم ان الطائفة الاخرى يحرسونهم وامتعتهم فإذا سجد المصلون معك وفرغوا من الصلاة فليكونوا وراءكم يحرسونكم والامتعة ولتأت طائفة اخرى لم يصلوا فليصلوا معك، وليأخذ هؤلاء المصلون ايضا كالطائفة الاولى المصلية حذرهم واسلحتهم. وتوصيف الطائفة بالاخرى، وارجاع ضمير الجمع المذكر إليها رعاية تارة لجانب اللفظ واخرى لجانب المعنى، كما قيل. وفي قوله تعالى (وليأخذوا حذرهم واسلحتهم) نوع من الاستعارة لطيف، وهو جعل الحذر آلة للدفاع نظير السلاح حيث نسب إليه الاخذ الذى نسب إلى الاسلحة، كما قيل. قوله تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون - إلى قوله - واحدة) في مقام التعليل للحكم المشرع، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (ولا جناح عليكم) إلى آخر الاية. تخفيف آخر وهو انهم ان كانوا يتأذون من مطر ينزل عليهم أو كان بعضهم مرضى فلا مانع من ان يضعوا اسلحتهم لكن يجب عليهم مع ذلك ان يأخذوا حذرهم، ولا يغفلوا عن الذين كفروا فهم مهتمون بهم. قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) القيام والقعود جمعان أو مصدران، وهما حالان وكذا قوله (وعلى جنوبكم) وهو كناية

[ 63 ]

عن الذكر المستمر المستوعب لجميع الاحوال. قوله تعالى: (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) (الخ) المراد بالاطمينان الاستقرار، وحيث قوبل به قوله (وإذا ضربتم في الارض) على ما يؤيده السياق كان الظاهر أن المراد به الرجوع إلى الاوطان، وعلى هذا فالمراد بإقامة الصلاة إتمامها فإن التعبير عن صلاة الخوف بالقصر من الصلاة يلوح إلى ذلك. قوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) الكتابة كناية عن الفرض والايجاب كقوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم (البقره - 183) والموقوت من وقت كذا أي جعلت له وقتا فظاهر اللفظ ان الصلاة فريضة موقتة منجمة تؤدى في أوقاتها ونجومها. والظاهر ان الوقت في الصلاة كناية عن الثبات وعدم التغير باطلاق الملزوم على لازمه فالمراد بكونها كتابا موقوتا أنها مفروضة ثابتة غير متغيرة أصلا فالصلاة لا تسقط بحال، وذلك ان إبقاء لفظ الموقوت على بادى ظهوره لا يلائم ما سبقه من المضمون إذ لا حاجة تمس إلى التعرض لكون الصلاة عبادة ذات أوقات معينة مع أن قوله (ان الصلاة) في مقام التعليل لقوله (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) فالظاهر أن المراد بكونها موقوتة كونها ثابتة لا تسقط بحال، ولا تتغير ولا تتبدل إلى شئ آخر كالصوم إلى الفدية مثلا. قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم)، الوهن الضعف، والابتغاء الطلب، والالم مقابل اللذة، وقوله (وترجون من الله ما لا يرجون) حال من ضمير الجمع الغائب، والمعنى: أن حال الفريقين في ان كلا منهما يألم واحد، فلستم اسوء حالا من اعدائكم بل انتم أرفه منهم وأسعد حيث ان لكم رجاء الفتح والظفر والمغفرة من ربكم الذى هو وليكم، واما اعدائكم فلا مولى لهم ولا رجاء لهم من جانب يطيب نفوسهم، وينشطهم في عملهم. ويسوقهم إلى مبتغاهم، وكان الله عليما بالمصالح، حكيما متقنا في امره ونهيه.

[ 64 ]

(بحث ورائي)

 في تفسير القمى: نزلت - يعنى آية صلاة الخوف - لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية يريد مكة فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس ليستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يعارض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجبال فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر أذن بلال، وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس، فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لاصبناهم فانهم لا يقطعون صلاتهم، ولكن يجئ لهم الان صلاة اخرى هي احب إليهم من ضياء ابصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة اغرنا عليهم فنزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصلاة الخوف في قوله (وإذا كنت فيهم). وفي المجمع في قوله (ولا جناح عليكم ان كان بكم اذى من مطر) (الاية) انها نزلت والنبى بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهم المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: ان لهم صلاة اخرى احب إليهم من هذه - يعنون صلاة العصر - فأنزل الله عليه هذه الاية فصلى بهم العصر صلاة الخوف، وكان ذلك سبب اسلام خالد بن الوليد (القصة). وفيه: ذكر أبو حمزة - يعنى الثمالى - في تفسيره: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزى محاربا ببنى انمار فهزمهم الله، واحرزوا الذرارى والمال، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ولا يرون من العدو واحدا فوضعوا اسلحتهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقضى حاجته، وقد وضع سلاحه فجعل بينه وبين اصحابه الوادي، فإلى ان يفرغ من حاجته، وقد درأ الوادي، والسماء ترش فحال الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين اصحابه وجلس في ظل شجرة فبصر به الغورث بن الحارث المحاربي فقال له اصحابه: يا غورث هذا محمد قد انقلع من اصحابه. فقال: قتلني الله ان لم اقتله، وانحدر من الجبل ومعه السيف، ولم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الا وهو قائم على راسه ومعه السيف قد سله من غمده، وقال: يا محمد من يعصمك منى الان فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الله. فانكب عدو الله لوجهه فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ سيفه، وقال: يا غورث من يمنعك منى الان ؟ قال. لا احد. قال: اتشهد ان لا اله الا الله، وانى عبد الله ورسوله ؟ قال: لا ولكني اعهد ان لا اقاتلك ابدا، ولا اعين عليك عدوا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه، فقال

[ 65 ]

له غورث: والله لانت خير منى. قال صلى الله عليه وآله وسلم: انى احق بذلك. وخرج غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه ؟ قال: الله، أهويت له بالسيف لاضربه فما أدرى من زلجنى بين كتفي ؟ فخررت لوجهي، وخر سيفى، وسبقني إليه محمد وأخذه، ولم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، وقرء عليهم (إن كان بكم أذى من مطر) الاية كلها. وفي الفقيه بإسناده عن عبد الرحمان بن أبى عبد الله عن الصادق عليه السلام أنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه في غزاة ذات الرقاع، ففرق أصحابه فرقتين، فأقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه، فكبر وكبروا فقرء وأنصتوا، فركع وركعوا، فسجد وسجدوا، ثم استمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فصلوا لانفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو. وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكبر وكبروا، وقرء فأنصتوا، وركع فركعوا، وسجد وسجدوا، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتشهد ثم سلم عليهم فقاموا فقضوا لانفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، وقد قال تعالى لنبيه (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) - إلى قوله - كتابا موقوتا) فهذه صلاة الخوف التى أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وقال: من صلى المغرب في خوف بالقوم صلى بالطائفة الاولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعتين (الحديث). وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران جميعا ؟ قال: نعم، وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر ليس فيه خوف. وفي الفقيه بإسناده عن زرارة ومحمد بن مسلم. انهما قالا: قلنا لابي جعفر عليه السلام: ما تقول في صلاة السفر ؟ كيف هي ؟ وكم هي ؟ فقال: ان الله عز وجل يقول: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) فصار التقصير في السفر

[ 66 ]

واجبا كوجوب التام في الحضر. قالا: قلنا: انما قال الله عز وجل: (فليس عليكم جناح) ولم يقل: افعلوا، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ؟ فقال عليه السلام: أو ليس قد قال الله (ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ألا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض ؟ لان الله عز وجل ذكره في كتابه، وصنعه نبيه، وكذلك التقصير في السفر شئ صنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره الله تعالى في كتابه. قالا: فقلنا له: فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا ؟ قال: ان كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وان لم تكن قرئت عليه ولم يكن يعلمها فلا اعادة عليه. والصلوات كلها في السفر الفريضة ركعتان كل صلاة الا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر والحضر ثلاث ركعات (الحديث). وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وأحمد ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الجارود وابن خزيمة والطحارى وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والنحاس في ناسخة وابن حبان عن يعلى بن امية قال: سألت عمر بن الخطاب، قلت: (ليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة ان خفتم ان يفتنكم الذين كفروا) وقد امن الناس ؟ فقال لى عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. وفيه: اخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي في سننه عن امية بن خالد بن اسد: انه سأل ابن عمر: ارأيت قصر الصلاة في السفر ؟ انالا نجدها في كتاب الله، انما نجد ذكر صلاة الخوف. فقال ابن عمر: يا ابن اخى ان الله ارسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ولا نعلم شيئا، فانما نفعل كما رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: اخرج ابن ابى شيبة والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين. وفيه اخرج ابن ابى شيبة واحمد والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي

[ 67 ]

عن حارثة بن وهب الخزاعى قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر بمنى اكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين. وفي الكافي بإسناده عن داود بن فرقد قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام قوله تعالى (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) قال: كتابا ثابتا، وليس أن عجلت قليلا أو أخرت قليلا بالذى يضرك ما لم تضع تلك الاضاعة فإن الله عز وجل يقول. (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا. اقول: إشارة إلى أن الفرائض موسعة من جهد الوقت كما يدل عليه روايات أخر. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليه السلام: قال في صلاة المغرب في السفر: لا تترك إن تأخرت ساعة، ثم تصليها إن أحببت أن تصلى العشاء الاخرة، وإن شئت مشيت ساعة إلى أن يغيب الشفق، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الهاجرة والعصر جميعا، والمغرب والعشاء الاخرة جميعا، وكان يؤخر ويقدم إن الله تعالى قال: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) إنما عنى وجوبها على المؤمنين، لم يعن غيره، إنه لو كان كما يقولون لم يصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا، وكان أعلم وأخبر وكان كما يقولون، ولو كان خيرا لامر به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد فات الناس مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم صفين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء الاخرة، وأمرهم على أمير المؤمنين عليه السلام فكبروا وهللوا وسبحوا رجالا وركبانا لقول الله (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) فأمر على عليه السلام فصنعوا ذلك. اقول: والروايات كما ترى توافق ما قدمناه في البيان السابق والروايات في المعاني السابقة وخاصة من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيرة، جد، وإنما أوردنا انموذجا مما ورد منها. واعلم أن هناك من طرق أهل السنة روايات اخرى تعارض ما تقدم، وهى مع ذلك تتدافع في أنفسها، والنظر فيها وفي سائر الروايات الحاكية لكيفية صلاة الخوف خاصة وصلاة القصر في السفر عامة مما هو راجع إلى الفقه. وفي تفسير القمى في قوله (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) (الاية) إنه معطوف على قوله

[ 68 ]

في سورة آل عمران (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله). وقد ذكرنا هناك سبب نزول الاية. إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أريك الله ولا تكن للخائنين خصيما - 105. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما - 106. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما - 107. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا - 108. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحيوة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا - 109. ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما - 110. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما - 111. ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا - 112. ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم ان يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما - 113. لا خير في كثير من نجويهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما - 114. ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين

[ 69 ]

نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا - 115. إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا - 116. إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا - 117. لعنه الله وقال لا تخذن من عبادك نصيبا مفروضا - 118. ولاضلنهم ولامنينهم ولامرنهم فليبتكن آذان الانعام ولامرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا - 119 يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا - 120. اولئك مأويهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا - 121. والذين آمنوا وعلموا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا - 122. ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصير - 123. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو انثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا - 124. ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا - 125. ولله ما في السموات وما في الارض وكان الله بكل شئ محيطا - 126.

(بيان)

 الذى يفيده التدبر في الايات أنها ذات سياق واحد تتعرض للتوصية بالعدل في

[ 70 ]

القضاء، والنهى عن أن يميل القاضى في قضائه، والحاكم في حكمه إلى المبطلين، ويجور على المحقين كائنين من كانوا. وذلك بالاشارة إلى بعض الحوادث الواقعة عند نزول الايات، ثم البحث فيما يتعلق بذلك من الحقائق الدينية والامر بلزومها ورعايتها، وتنبيه المؤمنين أن الدين إنما هو حقيقة لا اسم، وإنما ينفع التلبس به دون التسمى. والظاهر أن هذه القصة هي التى يشير إليها قوله تعالى (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) حيث يدل على أنه كان هناك شئ من المعاصي التى تقبل الرمى كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار ونحوها، وأنه كان من المتوقع أن يهتموا بإضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكمه، والله عاصمه. والظاهر أن هذه القصة أيضا هي التى تشير إليها الايات الاول كما في قوله تعالى (ولا تكن للخائنين خصيما) (الاية) وقوله (يستخفون من الناس) (الاية) وقوله (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم) (الخ) فإن الخيانة وإن كان ظاهرها ما يكون في الودائع والامانات لكن سياق قوله (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس) كما سيجئ بيانه يعطى أن المراد بها ما يتحقق في سرقة ونحوها بعناية أن المؤمنين كنفس واحدة، وما لبعضهم من المال مسؤول عنه البعض الاخر من حيث رعاية احترامه، والاهتمام بحفظه وحمايته، فتعدى بعضهم إلى مال البعض خيانة منهم لانفسهم. فالتدبر يقرب أن القصذ كأنها سرقذ وقعت من بعضهم ثم رفع الامر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرمى بها السارق غيره ممن هو برئ منها، ثم ألح قوم السارق عليه صلى الله عليه وآله وسلم ان يقضى لهم، وبالغوا في أن يغيروه صلى الله عليه وآله وسلم على المتهم البرئ فانزلت الايات وبرأه الله مما قالوا. فالايات أشد انطباقا على ما روى في سبب النزول من قصة سرقة أبى طعمة بن الابيرق، وإن كانت أسباب النزول - كما سمعت مرارا - في أغلب ما رويت من قبيل تطبيق القصص المأثورة على ما يناسبها من الايات القرآنية. ويستفاد من الايات حجية قضائه صلى الله عليه وآله وسلم، وعصمته وحقائق اخر سيأتي بيانها

[ 71 ]

إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) ظاهر الحكم بين الناس هو القضاء بينهم في مخاصماتهم ومنازعاتهم مما يرجع إلى الامور القضائية ورفع الاختلافات بالحكم، وقد جعل الله تعالى الحكم بين الناس غاية لانزال الكتاب فينطبق مضمون الاية على ما يتضمنه قوله تعالى (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (الاية) (البقرة - 213) وقد مر تفصيل القول فيه. فهذه الاية (إنا أنزلنا اليك الكتاب) (الخ) في خصوص موردها نظيرة تلك الاية (كان الناس أمة واحدة) في عمومها، وتزيد عليها في أنها تدل على جعل حق الحكم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحجية لرأيه ونظره فإن الحكم وهو القطع في القضاء وفصل الخصومة لا ينفك عن اعمال نظر من القاضى الحاكم واظهار عقيدة منه مضافا إلى ما عنده من العلم بالاحكام العامة والقوانين الكلية في موارد الخصومة فإن العلم بكليات الاحكام وحقوق الناس أمر، والقطع والحكم بانطباق مورد النزاع على بعضها دون بعض أمر آخر. فالمراد بالاراءة في قوله (لتحكم بين الناس بما أراك الله) إيجاد الرأى وتعريف الحكم لا تعليم الاحكام والشرائع كما احتمله بعضهم. ومضمون الاية على ما يعطيه السياق أن الله أنزل إليك الكتاب وعلمك أحكامه وشرائعه وحكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأى وعرفك من الحكم فتحكم بين الناس، وترفع بذلك اختلافاتهم. قوله تعالى: (ولا تكن للخائنين خصيما) عطف على ما تقدمه من الجملة الخبرية لكونها في معنى الانشاء كأنه قيل: فحكم بينهم ولا تكن للخائنين خصيما. والخصيم هو الذى يدافع عن الدعوى وما في حكمها، وفيه نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون خصيما للخائنين على من يطالبهم بحقوقه فيدافع عن الخائنين ويبطل حقوق المحقين من أهل الدعوى. وربما أمكن أن يستفاد من عطف قوله (ولا تكن للخائنين) على ما تقدمه

[ 72 ]

وهو أمره صلى الله عليه وآله وسلم أمرا مطلقا بالحكم أن المراد بالخيانة مطلق التعدي على حقوق الغير ممن لا ينبغى منه ذلك لا خصوص الخيانة للودائع وإن كان ربما عطف الخاص على العام لعناية ما بشأنه لكن المورد كالخالي عن العناية، وسيجئ لهذا الكلام تتمه. قوله تعالى: (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) الظاهر أن الاستغفار هاهنا هو أن يطلب من الله سبحانه الستر على ما في طبع الانسان من إمكان هضم الحقوق والميل إلى الهوى ومغفرة ذلك، وقد مر مرارا أن العفو والمغفرة يستعملان في كلامه تعالى في شؤون مختلفة يجمعها جامع الذنب، وهو التباعد من الحق بوجه. فالمعنى - والله أعلم -: ولا تكن للخائنين خصيما ولا تمل إليهم واطلب من الله سبحانه أن يوفقك لذلك ويستر على نفسك أن تميل إلى الدفاع عن خيانتهم ويتسلط عليك هوى النفس. والدليل على إرادة ذلك ما في ذيل الايات الكريمة (ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ) فإن الاية تنص على أنهم لا يضرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن بذلوا غاية جهدهم في تحريك عواطفه إلى إيثار الباطل وإظهاره على الحق فالنبى صلى الله عليه وآله وسلم في أمن إلهى من الضرر، والله يعصمه فهو لا يجور في حكمه ولا يميل إلى الجور، ولا يتبع الهوى، ومن الجور والميل إلى الهوى المذموم أن يفرق في حكمه بين قوى وضعيف، أو صديق وعدو، أو مؤمن وكافر ذمى، أو قريب وبعيد، فأمره بأن يستغفر ليس لصدور ذنب ذى وبال وتبعه منه، ولا لاشرافه على ما لا يحمد منه بل ليسأل من الله أن يظهره على هوى النفس، ولا ريب في حاجته في ذلك إلى ربه وعدم استغنائه عنه وإن كان على عصمة فإن لله سبحانه أن يفعل ما يشاء. وهذه العصمة مدار عملها ما يعد طاعة ومعصية، وما يحمد أو يذم عليه من الاعمال لا ما هو الواقع الخارجي، وبعبارة اخرى الايات تدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم في أمن من اتباع الهوى، والميل إلى الباطل، وأما أن الذى يحكم ويقضى به بما شرعه من القواعد وقوانين القضاء الظاهرية كقوله (البينة على المدعى واليمين على من أنكر) ونحو ذلك يصادف دائما ما هو الحق في الواقع فينتج دائما غلبة المحق، ومغلوبية المبطل في دعواه، فالايات لا تدل على ذلك أصلا، ولا أن القوانين الظاهرية في استطاعتها أن تهدى إلى ذلك قطعا فإنها امارات مميزة بين الحق والباطل غالبا لا دائما، ولا معنى لاستلزام

[ 73 ]

الغالب الدائم وهو ظاهر. ومما تقدم يظهر ما في كلام بعض المفسرين حيث ذكر في قوله تعالى (واستغفر الله) أنه أمر بالاستغفار عما هم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدفاع والذب عن هذا الخائن المذكور في الاية، وقد سأله قومه أن يدفع عنه ويكون خصيما له على يهودى. وذلك أن هذا القدر أيضا تأثير منهم بأثر مذموم، وقد نفى الله سبحانه عنه صلى الله عليه وآله وسلم كل ضرر. (قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم)، قيل: إن نسبة الخيانة إلى النفس لكون وبالها راجعا إليها، أو بعد كل معصية خيانة للنفس كماعد ظلما لها، وقد قال تعالى. (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) (البقرة - 187). ويمكن أن يستفاد من الاية بمعونة ما يدل عليه القرآن من أن المؤمنين كنفس واحدة، وأن مال الواحد منهم مال لجميعهم يجب على الجميع حفظه وصونه عن الضيعة والتلف، كون تعدى بعضهم على بعض بسرقة ونحوها اختيانا لانفسهم. وفي قوله تعالى (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) دلالة على استمرار هؤلاء الخائنين في خيانتهم، ويؤكده قوله (أثيما) فإن الاثيم آكد في المعنى من الاثم وهو صفة مشبهة تدل على الثبوت. على أن قوله (يختانون أنفسهم) لا تخلو عن دلالة على الاستمرار، وكذا قوله (للخائنين) حيث عبر بالوصف ولم يعبر بمثل قولنا: للذين خانوا، كما عبر بذلك في قوله (فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) (الانفال: 71). فمن هذه القرائن وأمثالها يظهر أن معنى الاية - بالنظر إلى مورد النزول -: ولا تكن خصيما لهؤلاء، ولا تجادل عنهم فإنهم مصرون على الخيانة مبالغون فيها ثابتون على الاثم، والله لا يحب من كان خوانا أثيما. وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول من نزول الايات في أبى طعمة بن الابيرق. كما سيجئ. ومعنى الاية - مع قطع النظر عن المورد -: ولا تدافع في قضائك عن المصرين على الخيانة المستمرين عليها، فإن الله لا يحب الخوان الاثيم، وكما انه تعالى لا يحب كثير الخيانة لا يحب قليلها، ولو أمكن أن يحب قليلها أمكن أن يحب كثيرها، وإذا كان كذلك فالله ينهى أن يدافع عن قليل الخيانة كما ينهى عن أن يدافع عن كثيرها، وأما

[ 74 ]

من خان في أمر ثم نازع في أمر آخر وهو محق في نزاعه، فالدفاع عنه دفاع غير محظور ولا ممنوع منه، ولا ينهى عنه قوله (ولا تكن للخائنين خصيما) (الاية.) قوله تعالى: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) وهذا ايضا من الشواهد على ما قدمناه من ان الايات (105 - 126) جميعا ذات سياق واحد، نازلة في قصة واحدة، وهى التى يشير إليها قوله (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) (الاية)، وذلك ان الاستخفاء انما يناسب الاعمال التى يمكن ان يرمى بها الغير كالسرقة وامثال ذلك فيتأيد به ان الذى تشير إليه هذه الاية وما تقدمها من الايات هو الذى يشير إليه قوله (ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به) (الاية). والاستخفاء من الله أمر غير مقدور إذ لا يخفى على الله شئ في الارض ولا في السماء فطرفه المقابل له أعنى عدم الاستخفاء أيضا أمر اضطرارى غير مقدور، وإذا كان غير مقدور لم يتعلق به لوم ولا تعيير كما هو ظاهر الاية. لكن الظاهر أن الاستخفاء كناية عن الاستحياء ولذلك قيد قوله (ولا يستخفون من الله) (أولا) بقوله (وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) فدل على أنهم كانوا يدبرون الحيلة ليلا للتبرى من هذه الخيانة المذمومة، ويبيتون في ذلك قولا لا يرضى به الله سبحانه، ثم قيده (ثانيا) بقوله (وكان الله بما يعملون محيطا) ودل على إحاطته تعالى بهم في جميع الاحوال ومنها حال الجرم الذى أجرموه، والتقييد بهذين القيدين أعنى قوله (وهو معهم) وقوله (وكان الله) تقييد بالعام بعد الخاص، وهو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من الله بعلة خاصة ثم باخرى عامة. قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) (الاية) بيان لعدم الجدوى في الجدال عنهم، وأنهم لا ينتفعون بذلك في صورة الاستفهام والمراد أن الجدال عنهم لو نفعهم فإنما ينفعهم في الحياة الدنيا، ولا قدر لها عند الله، وأما الحياة الاخروية التى لها عظيم القدر عند الله أو ظرف الدفاع فيها يوم القيامة فلا مدافع هناك عن الخائنين ولا مجادل عنهم بل لا وكيل لهم يومئذ يتكفل تدبير امورهم وإصلاح شؤونهم قوله تعالى. (ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه) (الاية) فيه ترغيب وحث لاولئك الخائنين أن يرجعوا إلى ربهم بالاستغفار، والظاهر أن الترديد بين السوء وظلم النفس

[ 75 ]

والتدرج من السوء إلى الظلم لكون المراد بالسوء التعدي على الغير، وبالظلم التعدي على النفس، أو أن السوء أهون من الظلم كالمعصية الصغيرة بالنسبة إلى الكبيرة، والله أعلم. وهذه الاية والايتان بعدها جميعا كلام مسوق لغرض واحد، وهو بيان أمر الاثم الذى يكسبه الانسان بعمله، يتكفل كل واحدة من الايات الثلاث بيان جهة من جهاته، فالاية الاولى تبين أن المعصية التى يقترفها الانسان فيتأثر بتبعتها نفسه، وتكتب في كتاب أعماله، للعبد أن يتوب إلى الله منها ويستغفره فلو فعل ذلك وجد الله غفورا رحيما. والاية الثانية تذكر الانسان أن الاثم الذى يكسبه إنما يكسبه على نفسه وليس بالذى يمكن أن يتخطاه ويلحق غيره برمى أو افتراء ونحو ذلك. والاية الثالثة توضح أن الخطيئة أو الاثم الذى يكسبه الانسان لو رمى به بريئا غيره كان الرمى به إثما آخر وراء أصل الخطيئة أو الاثم. قوله تعالى: (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) قد تقدم أن الاية مرتبطة مضمونا بالاية التالية المتعرضة للرمي بالخطيئة والاثم فهذه كالمقدمة لتلك، وعلى هذا فقوله (فإنما يكسبه على نفسه) مسوق لقصر التعيين، وفي الاية عظة لمن يكسب الاثم ثم يرمى به بريئا غيره. والمعنى - والله أعلم -: أنه يجب على من يكسب إثما أن يتذكر أن ما يكسبه من الاثم فإنما يكسبه على نفسه لا على غيره، وأنه هو الذى فعله لا غيره وإن رماه به أو تعهد له هو أن يحمل إثمه وكان الله عليما يعلم أنه فعل هذا الكاسب، وأنه الذى فعله لا غيره المرمى به، حكيما لا يؤاخذ بالاثم إلا آثمة وبالوزر غير وازرتها كما قال تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (البقرة - 286)، وقال ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الانعام - 164)، وقال: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون) (العنكبوت. 12). قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) قال الراغب في المفردات: إن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ

[ 76 ]

وإن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ. ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب، وأخطا الخطأ. وهذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتاملها. قال: والخطيئة والسيئة تتقاربان لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصودا إليه في نفسه بل يكون القصد سببا لتولد ذلك الفعل منه كمن يرمى صيدا فأصاب إنسانا، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره، والسبب سببان: سبب محظور فعله كشرب المسكر وما يتولد عنه من الخطأ غير متجاف عنه، وسبب غير محظور كرمى الصيد، قال تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما) فالخطيئة هاهنا هي التي لا تكون عن قصد إلى فعلها (انتهى). وأظن أن الخطيئة من الاوصاف التى استغنى عن موصوفاتها بكثرة الاستعمال كالمصيبة والرزية السليقة ونحوها، ووزن فعيل يدل على اختزان الحدث واستقراره، فالخطيئة هي العمل الذى اختزن واستقر فيه الخطأ، والخطأ الفعل الواقع الذى لا يقصده الانسان كقتل الخطأ، هذا في الاصل، ثم وسع إلى ما لا ينبغى للانسان أن يقصده لو كانت نفسه على سلامتها الفطرية، فكل معصية وأثر معصية من مصاديق الخطأ على هذا التوسع، والخطيئة هي العمل أو أثر العمل الذي لم يقصده الانسان (ولا يعد حينئذ معصية) أو لم يكن ينبغى أن يقصده (ويعد حينئذ معصية أو وبال معصية). لكن الله سبحانه لما نسبها في قوله (ومن يكسب خطيئة) إلى الكسب كان المراد بها الخطيئة التى هي المعصية، فالمراد بالخطيئة في الاية هي التى تكون عن قصد إلى فعلها وإن كان من شأنها أن لا يقصد إليها. وقد مر في قوله تعالى (قل فيهما إثم) (البقرة - 219) أن الاثم هو العمل الذى يوجب بوباله حرمان الانسان عن خيرات كثيرة كشرب الخمر والقمار والسرقة مما يصد الانسان عن حيازة الخيرات الحيوية، ويوجب انحطاطا اجتماعيا يسقط الانسان

[ 77 ]

عن وزنه الاجتماعي ويسلب عنه الاعتماد والثقة العامة. وعلى هذا فاجتماع الخطيئة والاثم على نحو الترديد ونسبتهما جميعا إلى الكسب في قوله (ومن يكسب خطيئة أو إثما) (الاية) يوجب اختصاص كل منهما بما يختص به من المعنى والمعنى، - والله أعلم -: أن من يكسب معصية لا تتجاوز موردها وبالا كترك بعض الواجبات كالصوم أو فعل بعض المحرمات كأكل الدم أو يكسب معصية يستمر وبالها كقتل النفس من غير حق والسرقة ثم يرم بها بريئا بنسبتها إليه فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا. وفي تسمية نسبة العمل السئ إلى الغير رميا - والرمى يستعمل في مورد السهم - وكذا في إطلاق الاحتمال على قبول وزر البهتان استعارة لطيفة كان المفترى يفتك بالمتهم البرئ برميه بالسهم فيوجب له فتكه أن يتحمل حملا يشغله عن كل خير مدى حياته من غير أن يفارقه. ومما تقدم يظهر وجه اختلاف التعبير عن المعصية في الايات الكريمة تارة بالاثم واخرى بالخطيئة والسوء والظلم والخيانة والضلال، فكل واحد من هذه الالفاظ هو المناسب بمعناه لمحله الذى حل فيه. قوله تعالى: (ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت) (إلى آخر الاية) السياق يدل على أن المراد بهمهم بإضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو همهم أن يرضوه بالدفاع عن الذين سماهم الله تعالى في صدر الايات بالخائنين والجدال عنهم وعلى هذا فالمراد بهذه الطائفة أيضا هم الذين عدل الله سبحانه إلى خطابهم بقوله (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) (الاية) وينطبق على قوم أبى طعمة على ما سيجئ. وأما قوله وما يضلون إلا أنفسهم فالمراد به بقرينة قوله بعده (وما يضرونك من شئ) أن إضلال هؤلاء لا يتعدى أنفسهم ولا يتجاوزهم إليك، فهم الضالون بما هموا به لانه معصية وكل معصية ضلال. ولهذا الكلام معنى آخر تقدمت الاشارة إليه في الكلام على قوله (وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) (آل عمران: 69) في الجزء الثالث من هذا الكتاب، لكنه لا يناسب هذا المقام.

[ 78 ]

وأما قوله (وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك) ففيه نفى إضرارهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفيا مطلقا غير أن ظاهر السياق أنه مقيد بقوله (وأنزل الله عليك الكتاب) على ان يكون جملة حالية عن الضمير في قوله (يضرونك) وإن كان الاغلب مقارنة الجملة الفعلية المصدرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة وعلى هذا فالكلام مسوق لنفى إضرار الناس مطلقا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في علم أو عمل. قوله تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم)، ظاهر الكلام كما أشرنا إليه انه في مقام التعليل لقوله (وما يضرونك من شئ) أو لمجموع قوله (وما يضلون إلا انفسهم وما يضرونك من شئ) وكيف كان فهذا الانزال والتعليم هو المانع من تأثيرهم في إضلاله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الملاك في عصمته.

(كلام في معنى العصمة)

 ظاهر الاية ان الامر الذى تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ وبعبارة اخرى علم مانع عن الضلال، كما ان سائر الاخلاق كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير. والعلم النافع والحكمة البالغة وإن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، والتلوث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم والحكمة والفضلاء من أهل التقوى والدين، غير ان ذلك سبب غالبى كسائر الاسباب الموجودة في هذا العالم المادى الطبيعي فلا تكاد تجد متلبسا بكمال يحجزه كماله من النواقص ويصونه عن الخطأ صونا دائميا من غير تخلف سنة جارية في جميع الاسباب التى نراها ونشاهدها. والوجه في ذلك ان القوى الشعورية المختلفة في الانسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الاخر أو ضعف التفاته إليه كما ان صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتباع الشهوة غير المرضية ويجرى على مقتضى تقواه، غير أن اشتعال نار الشهوة وانجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوى أو ضعف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه التقوى،

[ 79 ]

ويختار سفساف الشره، وعلى هذا السبيل سائر الاسباب الشعورية في الانسان وإلا فالانسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الاسباب ما دام السبب قائما على ساق، ولا مانع يمنع من تأثيره، فجميع هذه التخلفات تستند إلى مغالبة التقوى والاسباب، وتغلب بعضها على بعض. ومن هنا يظهر أن هذه القوة المسماة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والادراك لتسرب إليها التخلف، وخبطت في أثرها أحيانا، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والادراكات المتعارفة التى تقبل الاكتساب والتعلم. وقد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذى خص به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور غير أن الذى يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) (البقرة - 97) وقوله (نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء - 195) أن الانزال المذكور من سنخ العلم، ويظهر من جهة اخرى أن ذلك من قبيل الوحى والتكليم كما يظهر من قوله (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الاية) (الشورى - 13) وقوله (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) (النساء - 163) وقوله (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) (الانعام - 50)، وقوله (إنما أتبع ما يوحى إلى) (الاعراف - 203). ويستفاد من الايات على اختلافها أن المراد بالانزال هو الوحى وحى الكتاب والحكمة وهو نوع تعليم إلهى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم غير أن الذى يشير إليه بقوله (وعلمك ما لم تكن تعلم) ليس هو الذى علمه بوحى الكتاب والحكمة فقط فإن مورد الاية قضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحوادث الواقعة والدعاوى التى ترفع إليه برأيه الخاص، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشئ وإن كان متوقفا عليهما بل رأيه ونظره الخاص به. ومن هنا يظهر أن المراد بالانزال والتعليم في قوله (وأنزل الله عليك الكتاب

[ 80 ]

والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) نوعان اثنان من العلم، أحدهما التعليم بالوحى ونزول الروح الامين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاخر: التعليم بنوع من الالقاء في القلب والالهام الخفى الالهى من غير إنزال الملك وهذا هو الذى تؤيده الروايات الواردة في علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى هذا فالمراد بقوله (وعلمك ما لم تكن تعلم) آتاك نوعا من العلم لو لم يؤتك إياه من لدنه لم يكفك في إيتائه الاسباب العادية التى تعلم الانسان ما يكتسبه من العلوم. فقد بان من جميع ما قدمناه أن هذه الموهبة الالهية التى نسميها قوة العصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر انواع العلوم في أنه غير مغلوب لشئ من القوى الشعورية البتة بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها، ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقا، وقد ورد في الروايات أن للنبى والامام روحا تسمى روح القدس تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة وهى التى يشير إليها قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) (الشورى - 52) بتنزيل الاية على ظاهرها من إلقاء كلمة الروح المعلمة الهادية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظيره قوله تعالى (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (الانبياء - 73) بناء على ما سيجئ من بيان معنى الاية إن شاء الله العزيز أن المراد به تسديد روح القدس الامام بفعل الخيرات وعبادة الله سبحانه. وبان مما مر أيضا أن المراد بالكتاب في قوله (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) هو الوحى النازل لرفع اختلافات الناس على حد قوله تعالى كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (الاية) (البقرة - 213) وقد تقدم بيانه في الجزء الثاني من هذا الكتاب. والمراد بالحكمة سائر المعارف الالهية النازلة بالوحى، النافعة للدنيا والاخرة، والمراد بقوله (وعلمك ما لم تكن تعلم) غير المعارف الكلية العامة من الكتاب والحكمة. وبذلك يظهر ما في كلمات بعض المفسرين في تفسير الاية. فقد فسر بعضهم الكتاب بالقرآن، والحكمة بما فيه من الاحكام، و (ما لم تكن تعلم) بالاحكام والغيب،

[ 81 ]

وفسر بعضهم الكتاب والحكمة بالقرآن والسنة، و (ما لم تكن تعلم) بالشرائع وأنباء الرسل الاولين وغير ذلك من العلوم إلى غير ذلك مما ذكروه، وقد تبين وجه ضعفها بما مر فلا نعيد. قوله تعالى: (وكان فضل الله عليك عظيما) امتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) قال الراغب: وناجيته أي ساررته وأصله أن تخلو به في نجوة من الارض (انتهى) فالنجوى المسارة في الحديث، وربما أطلق على نفس المتناجين قال تعالى: (وإذ هم نجوى) (الاسراء - 47) أي متناجون. وفي الكلام أعنى قوله (لا خير في كثير من نجواهم) عود إلى ما تقدم من قوله تعالى (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) (الاية) بناء على اتصال الايات وقد عمم البيان لمطلق المسارة في القول سواء كان ذلك بطريق التبييت أو بغيره لان الحكم المذكور وهو انتفاء الخير فيه إنما هو لمطلق المسارة وإن لم تكن على نحو التبييت، ونظيره قوله (ومن يشاقق) دون أن يقول: (ومن يناج للمشاقة، لان الحكم المذكور لمطلق المشاقة أعم من أن يكون نجوى أولا. وظاهر الاستثناء أنه منقطع، والمعنى: لكن من أمر بكذا وكذا فيه ففيما أمر به شئ من الخير، وقد سمى دعوة النجوى إلى الخير أمرا وذلك من قبيل الاستعارة، وقد عد تعالى هذا الخير الذى يأمر به النجوى ثلاثة: الصدقة، والمعروف، والاصلاح بين الناس. ولعل إفراد الصدقة عن المعروف مع كونها من أفراده لكونها الفرد الكامل في الاحتياج إلى النجوى بالطبع، وهو كذلك غالبا. قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله)، تفصيل لحال النجوى ببيان آخر من حيث التبعة من المثوبة والعقوبة ليتبين به وجه الخير فيما هو خير من النجوى، وعدم الخير فيما ليس بخير منه. ومحصلة أن فاعل النجوى على قسمين: (أحدهما) من يفعل ذلك ابتغاء مراضاة الله، ولا محالة ينطبق على ما يدعو إلى معروف أو إصلاح بين الناس تقربا إلى الله،

[ 82 ]

وسوف يثيبه الله سبحانه بعظيم الاجر، و (ثانيهما) أن يفعل ذلك لمشاقة الرسول واتخاذ طريق غير طريق المؤمنين وسبيلهم، وجزاؤه الاملاء والاستدراج الالهى ثم إصلاء جهنم وساءت مصيرا. قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين، المشاقة من الشق وهو القطعة المبانة من الشئ فالمشاقة والشقاق كونك في شق غير شق صاحبك، وهو كناية عن المخالفة، فالمراد بمشاقة الرسول بعد تبين الهدى مخالفته وعدم إطاعته، وعلى هذا فقوله (ويتبع غير سبيل المؤمنين) بيان آخر لمشاقة الرسول، والمراد بسبيل المؤمنين إطاعة الرسول فإن طاعته طاعة الله، قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء - 80). فسبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الايمان هو الاجتماع على طاعة الله ورسوله - وإن شئت فقل على طاعة رسوله - فإن ذلك هو الحافظ لوحدة سبيلهم كما قال تعالى: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (آل عمران - 103) وقد تقدم الكلام في الاية في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون) (الانعام - 153) وإذا كان سبيله سبيل التقوى، والمؤمنون هم المدعوون إليه فسبيلهم مجتمعين سبيل التعاون على التقوى كما قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) (المائدة - 2) والاية - كما ترى - تنهى عن معصية الله وشق عصا الاجتماع الاسلامي، وهو ما ذكرناه من معنى سبيل المؤمنين. فمعنى الاية أعنى قوله (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين)، يعود إلى معنى قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى) (الاية) (المجادلة - 9). وقوله (نوله ما تولى)، أي نجره على ما جرى عليه، ونساعده على ما تلبس به من اتباع غير سبيل المؤمنين كما قال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما

[ 83 ]

كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء - 20). وقوله (ونصله جهنم وساءت مصيرا) عطفه بالواو يدل على أن الجميع أي توليته ما تولى وإصلاءه جهنم أمر واحد إلهى بعض أجزائه دنيوى وهو توليته ما تولى، وبعضها أخروى وهو إصلاؤه جهنم وساءت مصيرا. قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (إلى آخر الاية) ظاهر الاية أنها في مقام التعليل لقوله في الاية السابقة (نوله ما تولى ونصله جهنم)، بناء على اتصال الايات فالاية تدل على أن مشاقة الرسول شرك بالله العظيم، وإن الله لا يغفر أن يشرك به، وربما استفيد ذلك من قوله تعالى (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) (محمد - 34) فإن ظاهر الاية الثالثة أنها تعليل لما في الاية الثانية من الامر بطاعة الله وطاعة رسوله فيكون الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله كفرا لا يغفر أبدا، وهو الشرك. والمقام يعطى أن إلحاق قوله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) بقوله (إن الله لا يغفر أن يشرك به) إنما هو لتتميم البيان وإفادة عظمة هذه المعصية المشؤومة أعنى مشاقة الرسول، وقد تقدم بعض الكلام في الاية في آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب. قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثا) الاناث جمع أنثى يقال: أنث الحديد أنثا أي انفعل ولان، وأنث المكان أسرع في الانبات وجاد، ففيه معنى الانفعال والتأثر وبذلك سميت الانثى من الحيوان أنثى وقد سميت الاصنام وكل معبود من دون الله إناثا لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئا مما يتوقعه عبادها منها - كما قيل - قال تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز) (الحج - 74) وقال: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) (الفرقان - 3). فالظاهر أن المراد بالانوثة الانفعال المحض الذى هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق

[ 84 ]

عز اسمه، وهذا الوجه أولى مما قيل: إن المراد هو اللات والعزى ومنات الثالثة ونحوها، وقد كان لكل حي صنم يسمونه أنثى بنى فلان إما لتأنيث أسمائها أو لانها كانت جمادات والجمادات تؤنث في اللفظ. ووجه الاولوية أن ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله (إن يدعون من دونه إلا إناثا) كثير ملاءمة وبين من يدعى من دون الله من هو ذكر غير أنثى كعيسى المسيح وبرهما وبوذا. قوله تعالى: (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) المريد هو العارى من كل خير أو مطلق العارى، قال البيضاوى: المارد والمريد الذى لا يعلق بخير، وأصل التركيب للملامسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، وشجرة مرداء للتى تناثر ورقها (انتهى). والظاهر أن الجملة بيان للجملة السابقة فإن الدعوة كناية عن العبادة لكون العبادة إنما نشأت بين الناس للدعوة على الحاجة، وقد سمى الله تعالى الطاعة عبادة قال تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني) (يس - 61) فيؤول معنى الجملة إلى أن عبادتهم لكل معبود من دون الله عبادة ودعوة منهم للشيطان المريد لكونها طاعة له. قوله تعالى: (لعنة الله) اللعن هو الابعاد عن الرحمة، وهو وصف ثان للشيطان وبمنزلة التعليل للوصف الاول. قوله تعالى: (وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) كأنه إشارة إلى ما حكاه الله تعالى عنه من قوله (فبعزتك لاغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين) (ص - 83) وفي قوله (من عبادك) تقرير أنهم مع ذلك عباده لا ينسلخون عن هذا الشأن، وهو ربهم يحكم فيهم بما شاء. قوله تعالى: (ولاضلنهم ولامنينهم) (إلى آخر الاية) التبتيل هو الشق وينطبق على ما نقل: أن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها. وهذه الامور المعدودة جميعها ضلال فذكر الاضلال معها من قبيل ذكر العام ثم ذكر بعض أفراده لعناية خاصة، به يقول: لاضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله واقتراف المعاصي، ولاغرنهم بالاشتغال بالامال والاماني التى تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم

[ 85 ]

وما يهمهم من أمرهم، ولامرنهم بشق آذان الانعام وتحريم ما أحل الله سبحانه، ولامرنهم بتغيير خلق الله وينطبق على مثل الاخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحق. وليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف، قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (الروم - 30). ثم عد تعالى دعوة الشيطان وهى طاعته فيما يأمر به اتخاذا له وليا فقال: (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) ولم يقل: ومن يكن الشيطان له وليا اشعارا بما تشعر به الايات السابقة أن الولى هو الله، ولا ولاية لغيره على شئ وان اتخذ وليا. قوله تعالى: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا) ظاهر السياق أنه تعليل لقوله في الاية السابقة (فقد خسر خسرانا مبينا) وأى خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقة وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والاماني الموهومة، قال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) (النور - 39). أما المواعيد فهى الوساوس الشيطانية بلا واسطة، وأما الامانى فهى المتفرعة على وساوسه مما يستلذه الوهم من المتخيلات، ولذلك قال: وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) فعد الوعد غرورا دون التمنية على ما لا يخفى. ثم بين عاقبة حالهم بقوله (اولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) أي معدلا ومفرا من (حاص) إذا عدل. ثم ذكر ما يقابل حالهم وهو حال المؤمنين تتميما للبيان فقال تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات) (إلى آخر الاية) وفي الايات التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة، والوجه العام فيه الايماء إلى جلالة المقام وعظمته بوضع لفظ الجلالة موضع ضمير المتكلم مع الغير فيما يحتاج إلى هذا الاشعار حتى إذا استوفى الغرض رجع إلى سابق السياق الذى كان هو الاصل، وذلك في قوله (سندخلهم جنات، وفي ذلك نكتة أخرى، وهى الايماء إلى قرب الحضور وعدم احتجابه تعالى عن عباده المؤمنين وهو وليهم.

[ 86 ]

قوله تعالى: (وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) فيه مقابلة لما ذكر في وعد الشيطان أنه ليس إلا غرورا فكان وعد الله حقا، وقوله صدقا. قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب) عود إلى بدء الكلام وبمنزلة النتيجة المحصلة الملخصة من تفصيل الكلام، وذلك أنه يتحصل من المحكى من أعمال بعض المؤمنين وأقوالهم وإلحاحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يراعى جانبهم، ويعاضدهم ويساعدهم على غيرهم فيما يقع بينهم من النزاع والمشاجرة أنهم يرون أن لهم بإيمانهم كرامة على الله سبحانه وحقا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب به على الله ورسوله مراعاة جانبهم، وتغليب جهتهم على غيرهم على الحق كانوا أو على الباطل، عدلا كان الحكم أو ظلما على حد ما يراه أتباع أئمة الضلال وحواشي رؤساء الجور وبطائنهم وأذنابهم، فالواحد منهم يمتن على متبوعه ورئيسه في عين أنه يخضع له ويطيعه، ويرى أن له عليه كرامة تلتزمه على مراعاة جانبه وتقديمه على غيره تحكما. وكذا كان يراه أهل الكتاب على ما حكاه الله تعالى في كتابه عنهم قال تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) (المائدة - 18)، وقال تعالى: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) (البقرة - 135)، وقال تعالى: (قالوا ليس علينا في الاميين سبيل) (آل عمران - 75). فرد الله على هذه الطائفة من المؤمنين في مزعمتهم، وأتبعهم بأهل الكتاب وسمى هذه المزاعم بالآماني استعارة لانها كالامانى ليست إلا صورا خيالية ملذة لا أثر لها في الاعيان فقال: ليس بأمانيكم معاشر المسلمين أو معشر طائفة من المسلمين ولا بأمانى أهل الكتاب بل الامر يدور مدار العمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقدم ذكر السيئة على الحسنة لان عمدة خطأهم كانت فيها. قوله تعالى: (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) جئ في الكلام بالفصل من غير وصل لانه في موضع الجواب عن سؤال مقدر، تقديره: إذا لم يكن الدخول في حمى الاسلام والايمان يجر للانسان كل خير، ويحفظ منافعه في الحياة، وكذا اليهودية والنصرانية فما هو السبيل ؟ وإلى ما ذا ينجر حال الانسان ؟ فقيل: (من يعمل سوءا يجز به ولا يجدله من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات) (الخ).

[ 87 ]

وقوله (من يعمل سوء يجز به) مطلق يشمل الجزاء الدنيوي الذى تقرره الشريعة الاسلامية كالقصاص للجاني، والقطع للسارق، والجلد أو الرجم للزاني إلى غير ذلك من أحكام السياسات وغيرها ويشمل الجزاء الاخروي الذى أوعده الله تعالى في كتابه، وبلسان نبيه. وهذا التعميم هو المناسب لمورد الايات الكريمة والمنطبق عليه، وقد ورد في سبب النزول أن الايات نزلت في سرقة ارتكبها بعض، ورمى بها يهوديا أو مسلما ثم ألحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقضى على المتهم. وقوله (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) يشمل الولى والنصير في صرف الجزاء السئ عنه في الدنيا كالنبى صلى الله عليه وآله وسلم أو ولى الامر وكالتقرب منهما وكرامة الاسلام والدين، فالجزاء المشرع من عند الله لا يصرفه عن عامل السوء صارف، ويشمل الولى والنصير الصارف عنه سوء الجزاء في الاخرة إلا ما تشمله الاية التالية. قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) هذا هو الشق الثاني المتضمن لجزاء عامل العمل الصالح وهو الجنة، غير أن الله سبحانه شرط فيه شرطا يوجب تضييقا في فعلية الجزاء وعمم فيه من جهة أخرى توجب السعة. فشرط في المجازاة بالجنة أن يكون الاتى بالعمل الصالح مؤمنا إذ الجزاء الحسن إنما هو بإزاء العمل الصالح ولا عمل للكافر، قال تعالى: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) (الانعام - 88)، وقال تعالى: (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) (الكهف - 105). قال تعالى: (ومن يعمل من الصالحات) فأتى بمن التبعيضية، وهو توسعة في الوعد بالجنة، ولو قيل: ومن يعمل الصالحات - والمقام مقام الدقة في الجزاء - أفاد أن الجنة لمن آمن وعمل كل عمل صالح، لكن الفضل الالهى عمم الجزاء الحسن لمن آمن وأتى ببعض الصالحات فهو يتداركه فيما بقى من الصالحات أو أقترف من المعاصي بتوبة أو شفاعة كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء - 116) وقد تقدم تفصيل الكلام في التوبة وفي قوله تعالى: (إنما التوبة على الله) (النساء - 17

[ 88 ]

في الجزء الرابع، وفي الشفاعة في قوله تعالى (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا) (البقرة - 48) في الجزء الاول من هذا الكتاب. وقال تعالى: (من ذكر أو أنثى فعمم الحكم للذكر والانثى من غير فرق أصلا خلافا لما كانت تزعمه القدماء من أهل الملل والنحل كالهند ومصر وسائر الوثنيين أن النساء لا عمل لهن ولا ثواب لحسناتهن، وما كان يظهر من اليهودية والنصرانية أن الكرامة والعزة للرجال، وأن النساء أذلاء عند الله نواقص في الخلقة خاسرات في الاجر والمثوبة والعرب لا تعدو فيهن هذه العقائد فسوى الله تعالى بين القبيلين بقوله (من ذكر أو أنثى). ولعل هذا هو السر في تعقيب قوله (فاولئك يدخلون الجنة) بقوله (ولا يظلمون نقيرا) لتدل الجملة الاولى على أن النساء ذوات نصيب في المثوبة كالرجال، والجملة الثانية على أن لا فرق بينهما فيها من حيث الزيادة والنقيصة كما قال تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (آل عمران - 195). قوله تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) إلى آخر الاية) كأنه دفع لدخل مقدر، تقديره: أنه إذا لم يكن لاسلام المسلم أو لايمان أهل الكتاب تأثير في جلب الخير إليه وحفظ منافعه وبالجملة إذا كان الايمان بالله وآياته لا يعدل شيئا ويستوى وجوده وعدمه فما هو كرامة الاسلام ؟ وما هي مزية الايمان ؟. فاجيب بأن كرامة الدين أمر لا يشوبه ريب، ولا يداخله شك ولا يخفى حسنه على ذى لب وهو قوله (ومن أحسن دينا)، حيث قرر بالاستفهام على طريق إرسال المسلم فإن الانسان لا مناص له عن الدين، وأحسن الدين إسلام الوجه لله الذى له ما في السماوات وما في الارض، والخضوع له خضوع العبودية، والعمل بما يقتضيه ملة إبراهيم حنيفا وهو الملة الفطرية، وقد اتخذ الله سبحانه إبراهيم الذى هو أول من أسلم وجهه لله محسنا، واتبع الملة الحنيفية خليلا. لكن لا ينبغى أن يتوهم أن الخلة الالهية كالخلة الدائرة بين الناس الحاكمة بينهم على كل حق وباطل التى يفتح لهم باب المجازفة والتحكم فالله سبحانه مالك غير مملوك ومحيط غير محاط بخلاف الموالى والرؤساء والملوك من الناس فإنهم لا يملكون من عبيدهم ورعاياهم شيئا إلا ويملكونهم من أنفسهم شيئا بإزائه، ويقهرون البعض بالبعض،

[ 89 ]

ويحكمون على طائفة بالاعضاد من طائفة أخرى ولذلك لا يثبتون في مقامهم إذا خالفت إرادتهم إرادة الكل بل سقطوا عن مقامهم وبان ضعفهم. ومن هنا يظهر الوجه في تعقيب قوله (ومن أحسن قولا) (الخ) بقوله (ولله ما في السماوات وما في الارض وكان الله بكل شئ محيطا).

(بحث روائي)

 في تفسير القمى: إن سبب نزولها (يعنى قوله تعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب) الايات) أن قوما من الانصار من بنى أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين: بشير، وبشر، ومبشر. فنقبوا على عم قتادة بن النعمان - وكان قتادة بدريا - وأخرجوا طعاما كان أعده لعياله وسيفا ودرعا. فشكا قتادة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن قوما نقبوا على عمى، وأخذوا طعاما كان أعده لعياله وسيفا ودرعا، وهم أهل بيت سوء، وكان معهم في الرأى رجل مؤمن يقال له: (لبيد بن سهل) فقالوا بنو أبيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه وخرج عليهم فقال: يا بنى أبيرق أترمونني بالسرقة ؟ وأنتم أولى به منى، وأنتم المنافقون تهجون رسول الله، وتنسبون إلى قريش، لتبينن ذلك أو لاملان سيفى منكم، فداروه وقالوا له: ارجع يرحمك الله فإنك برئ من ذلك. فمشوا بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له: (أسيد بن عروة) وكان منطقيا بليغا فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرق واتهمهم بما ليس فيهم فاغتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، وجاءه قتادة فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: عمدت إلى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة، وعاتبه عتابا شديدا فاغتم قتادة من ذلك، ورجع إلى عمه وقال له: يا ليتنى مت ولم أكلم رسول الله فقد كلمني بما كرهته. فقال عمه: الله المستعان. فأنزل الله في ذلك على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق - إلى أن قال - إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) (قال القمى) يعنى الفعل فوقع القول مقام الفعل

[ 90 ]

ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا - إلى أن قال - ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) (قال القمى) لبيد بن سهل (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا). وفي تفسير القمى: في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام: إن إنسانا من رهط بشير الادنين قالوا: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: نكلمه في صاحبنا أو نعذره أن صاحبنا برئ فلما أنزل الله (يستخفون من الله - إلى قوله - وكيلا) أقبلت رهط بشر فقالوا: يا بشر استغفر الله وتب إليه من الذنوب. فقال: والذى أحلف به ما سرقها إلا لبيد فنزلت (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا. ثم إن بشرا كفر ولحق بمكة، وانزل الله في النفر الذين أعذروا بشرا وأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعذروه قوله (ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك - إلى قوله - وكان فضل الله عليك عظيما). وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم (بنو أبيرق) بشر، وبشير، ومبشر. وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله بعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا، وإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال:

أو كلما قال الرجال قصيدة * أضموا فقالوا ابن الابيرق قالها

 قال: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والاسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة (1) من الشام من الدرمك (2) ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمى رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في

______________________________

(1) الضافطة: الابل الحمولة.

(2) الدرمك: الدقيق الحوارى أي الابيض الناعم. (*)

[ 91 ]

مشربة له (1) وفي المشربة سلاح له: درعان، وسيفاهما، وما يصلحهما. فعدا عدى من تحت الليل فنقب المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتانى عمى رفاعة فقال: يا ابن أخى تعلم أنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا ؟ قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بنى أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى -: إلا على بعض طعامكم، قال وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار -: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل - رجلا منا له صلاح وإسلام - فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بنو أبيرق وقال: أنا أسرق ؟ فو الله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل فو الله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لى عمى: يا ابن أخى لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ! قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمى رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأنظر في ذلك. فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له (أسير بن عروة) فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمانهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت ؟ قال قتادة: فرجعت ولوددت أنى خرجت من بعض مالى، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمى رفاعة فقال: يا ابن أخى ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما - بنى أبيرق - واستغفر الله - أي مما قلت لقتادة

______________________________

(1) المشربة: الغرفة التي يشرب فيها. (*)

[ 92 ]

إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم - إلى قوله - ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما - أي إنهم لو استغفروا الله لغفر لهم - ومن يكسب خطيئة أو إثما إلى قوله - فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا - قولهم للبيد - ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك - يعنى أسير بن عروة وأصحابه إلى قوله - فسنؤتيه أجرا عظيما) فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمى بالسلاح، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخى هو سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشر بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى - إلى قوله - ضلالا بعيدا، فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الابطح ثم قالت: أهديت لى شعر حسان ؟ ما كنت تأتيني بخير. أقول: وهذا المعنى مروى بطرق أخر. وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الاية قال: كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم طرحه على يهودى فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت على وكان الرجل الذى سرق جيران يبرؤنه ويطرحونه على اليهودي، ويقولون: يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول. فعاتبه الله في ذلك فقال: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله - مما قلت لهذا اليهودي - إن الله كان غفورا رحيما) ثم أقبل على جيرانه فقال: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم - إلى قوله - وكيلا) ثم عرض التوبة فقال: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا - وإن كان

[ 93 ]

مشركا - فقد احتمل بهتانا - إلى قوله - ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) قال: أبى أن يقبل التوبة التى عرض الله له، وخرج إلى المشركين بمكة فنقب بيتا يسرقه فهدمه الله عليه فقتله. اقول: وهذا المعنى أيضا مروى بطرق كثيرة مع اختلاف يسير فيها. وفي تفسير العياشي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد أذنب ذنبا فقام وتوضا واستغفر الله من ذنبه إلا كان حقيقا على الله أن يغفر له لانه يقول: (من يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما). وقال: إن الله ليبتلى العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه، وقال: ما كان الله ليفتح باب الدعاء ويغلق باب الاجابة لانه يقول: (ادعوني أستجب لكم) وما كان ليفتح باب التوبة ويغلق باب المغفرة وهو يقول: من يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما). فيه عن عبد الله بن حماد الانصاري عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عليه، فأما إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول الله (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا). وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم) (الاية) قال: حدثنى أبى عن ابن أبى عمير عن حماد عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إن الله فرض التمحل في القرآن. قلت: وما التمحل جعلت فداك ؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحل له، وهو قول الله (لا خير في كثير من نجواهم). وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبى الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: اذاحدثتكم بشئ فاسألوني عنه من كتاب الله. ثم قال في بعض حديثه: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال. فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله ؟ قال: ان الله عز وجل يقول: (لا خير في كثير من نجواهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس) وقال: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما) وقال: (لا تسألوا عن أشياء ان تبدلكم تسؤكم).

[ 94 ]

وفي تفسير العياشي عن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض المعتمدين عن أبى عبد الله عليه السلام: في قوله (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) يعنى بالمعروف القرض. أقول: ورواه القمى أيضا في تفسيره بهذا الاسناد، وهذا المعنى مروى من طرق أهل السنة أيضا، وعلى أي حال فهو من قبيل الجرى وذكر بعض المصاديق. وفي الدر المنثور: أخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن سفيان ابن عبد الله الثقفى قال: قلت يا رسول الله مرنى بأمر أعتصم به في الاسلام قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف على ؟ قال: هذا، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطرف لسان نفسه. اقول: والاخبار في ذم كثرة الكلام ومدح الصمت والسكوت وما يتعلق بذلك كثيرة جدا مروية في جوامع الشيعة وأهل السنة. وفيه: أخرج أبو نصر السجزى في (الابانة) عن أنس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه ووسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل على في القرآن يا أعرابي (لا خير في كثير من نجواهم - إلى قوله - فسوف نؤتيه أجرا عظيما) يا أعرابي الاجر العظيم الجنة. قال الاعرابي: الحمد لله الذى هدانا للاسلام. وفيه في قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول) (الاية): أخرج الترمذي والبيهقي في الاسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجمع الله هذه الامة على الضلالة أبدا، ويد الله على الجماعة فمن شذ شذ في النار. وفيه: أخرج الترمذي والبيهقي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجمع الله أمتى - أو قال: هذه الامة - على الضلالة أبدا، ويد الله على الجماعة. اقول: الرواية من المشهورات وقد رواها الهادى عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته إلى أهل الاهواز على ما في ثالث البحار، وقد تقدم الكلام في معنى الرواية في البيان السابق. وفي تفسير العياشي عن حريز عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام قال: لما

[ 95 ]

كان أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفه أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان. فقال: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه. فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، وارمضاناه، فأتاه الحارث الاعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضج الناس وكرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون ليصلى بهم من شاء وائتم، قال: (فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). وفي الدر المنثور: في قوله تعالى (ومن أصدق من الله قيلا) (الاية) أخرج البيهقى في الدلائل عن عقبة بن عامر - في حديث خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك، وفيه - فأصبح بتبوك فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخيرالملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الامور عوازمها، وشر الامور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الانبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جثا جهنم، والكنز كى من النار، والشعر من مزامير إبليس، والخمر جماع الاثم، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، ولسعيد من وعظ بغيره، والشقى من شقى في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، والامر بآخره، وملاك العمل خواتمة، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لى ولامتى - قالها ثلاثا -

[ 96 ]

أستغفر الله لي ولكم. وفي تفسير العياشي عن محمد بن يونس عن بعض أصحابه عن أبى عبد الله عليه السلام وعن جابر عن أبى جعفر عليه السلام: في قول الله " ولامرنهم فليغيرن خلق الله " قال: أمر الله بما أمر به. وفيه عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام: في قول الله: " ولامرنهم فليغيرن خلق الله " قال: دين الله. اقول: ومآل الروايتين واحد، وهو ما تقدم في البيان السابق أنه دين الفطرة وفي المجمع في قوله " وليبتكن آذان الانعام " قال: ليقطعوا الاذان من أصلها. قال: وهو المروى عن أبى عبد الله عليه السلام. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى " ليس بأمانيكم " (الاية) عن محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما نزلت هذه الاية " من يعمل سوء يجز به " قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أشدها من آية، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما تبتلون في أموالكم وأنفسكم وذراريكم ؟ قالوا بلى، قال: مما يكتب الله لكم به الحسنات ويمحو به السيئات. اقول: وهذا المعنى مروى بطرق كثيرة في جوامع أهل السنة عن الصحابة. وفي الدر المنثور: أخرج احمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا اذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله من خطاياه. اقول: وهذا المعنى مستفيض عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام وفي العيون بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعت أبى يحدث عن أبيه عليه السلام أنه قال: إنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لانه لم يرد أحدا، ولم يسأل أحدا قط غير الله عز وجل. اقول: وهذا أصح الروايات في تسميته عليه السلام بالخيل لموافقته لمعنى اللفظ، وهو الحاجة فخليلك من رفع إليك حوائجه، وهناك وجوه أخر مروية.

[ 97 ]

ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما - 127. وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الانفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا - 128. ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما - 129. وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما - 130. ولله ما في السموات وما في الارض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الارض وكان الله غنيا حميدا - 131. ولله ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا - 132. إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا - 133. من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا - 134.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21400599

  • التاريخ : 19/04/2024 - 00:00

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net