00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية 44 ـ 62 ( من ص 192 ـ 258 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الأول)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

 

الآية

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَـبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(44) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَو ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـشِعِينَ(45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُّلَـقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُـمْ إِلَـيْـهِ رَ جِعُونَ(46)

التّفسير

(أَتَاْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)؟!

هذا السّؤال الإِستنكاري ـ وإن كان موجهاً إلى بني إسرائيل كما يتبين من سياق الآيات السابقة والتالية ـ له حتماً مفهوم واسع يشمل الآخرين أيضاً.

قال «الطّبرسي(رحمه الله)» في «مجمع البيان»: هذه الآية خطاب لعلماء اليهود. وبّخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر النّاس بالإِيمان بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وترك أنفسهم في ذلك.

وقال أيضاً: كان علماء اليهود يقولون لأقربائهم من المسلمين اثبتوا على ما أنتم عليه ولا يؤمنون هم.

لذلك كانت الآية الاُولى من الآيات التي يدور حولها بحثنا تحمل توبيخاً لهذا العمل: (أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلاَ

(192)

تَعْقِلُونَ)؟!

منهج الدعاة إلى الله يقول على أساس العمل أوّلا ثم القول. فالدّاعية إلى الله يبلّغ بعمله قبل قوله، كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «كُونُوا دُعَاةَ النَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ وَلاَ تَكُونُوا دُعَاةً بِأَلْسِنَتِكُمْ»(1).

التأثير العميق للدعوة العملية يأتي من قدرة مثل هذه الدعوة على فتح منافذ قلب السامع، فالسامع يثق بما يقوله الداعية العامل، ويرى أن هذا الداعية مؤمن بما يقول وأن ما يقوله صادر عن القلب. والكلام الصادر عن القلب ينفذ إلى القلب. وأفضل دليل على إيمان القائل بما يقوله، هو العمل بقوله قبل غيره، كما يقول علي(عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللهِ مَا أَحُثُّكُمْ على طَاعَة إِلاَّ وأَسْبِقُكُمْ إلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَة إِلاَّ وَأَتَنَاهَىْ قَبْلَكُمْ عَنْهَا»(2).

وفي حديث عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلا وَعَمِلَ بِغَيْرِهِ»(3).

علماء اليهود كانوا يخشون من انهيار مراكز قدرتهم وتفرّق عامة النّاس عنهم، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك حرّفوا ما ورد بشأن صفات نبي الإِسلام في التوراة.

والقرآن يحث على الاستعانة بالصبر والصّلاة للتغلب على الأهواء الشخصية والميول النفسية، فيقول في الآية التالية: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)ثم يؤكد أن هذِهِ الاستعانة ثقيلة لا ينهض بعبئها إلا الخاشعون: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرةٌ إِلاَّ على الْخَاشِعِينَ).

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة وصف للخاشعين: (اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

___________________________

1 ـ سفينة البحار، مادة «عمل».

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 175.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 64.

(193)

كلمة «يَظُنُّونَ» من مادة «ظنّ» وقد تأتي بمعنى اليقين(1). وفي هذا الموضع تعني الإِيمان واليقين القطعي. لأن الإِيمان بلقاء الله والرجوع إليه، يحيي في قلب الإِنسان حالة الخشوع والخشية والإِحساس بالمسؤولية، وهذا أحد آثار تربية الإِنسان على الإِيمان بالمعاد، حيث تجعل هذه التربية الفرد مائلا دوماً أمام مشهد المحكمة الكبرى، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى الحق والعدل.

ويحتمل أن يكون استعمال «الظن» في الآية للتأكيد، أي أن الإِنسان لو ظنّ بالآخرة فقط فظنه كاف لأن يصده عن ارتكاب أي ذنب. وهو تقريع لعلماء اليهود وتأكيد على أنهم لا يمتلكون إيماناً باليوم الآخر حتى على مستوى الظن، فلو ظنوا بالآخرة لأَحسّوا بالمسؤولية، وكفّوا عن هذه التحريفات!(2)

* * *

بحثان

1 ـ ما هو لقاء الله؟

عبارة «لقاء الله» وردت مراراً في القرآن الكريم، وتعني بأجمعها الحضور على مسرح القيامة. من البديهي أن المقصود بلقاء الله ليس هو اللقاء الحسّي، كلقاء أفراد البشر مع بعضهم، لأن الله ليس بجسم، ولا يحده مكان، ولا يرى بالعين. بل المقصود مشاهدة آثار قدرة الله وجزائه وعقابه ونعمه وعذابه على ساحة القيامة، كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين.

أو إن المقصود الشهود الباطني والقلبي، لأن الإِنسان يصل درجة كأنه يرى

___________________________

1 ـ يقول الراغب في المفردات: الظن اسم لما يحصل عن أمارة متى قويت أدّت إلى العلم، ومتى ضعفت جداً لم يتجاوز حدّ التوهم.

2 ـ المنار، ج 1، ص 302، والميزان، ج 1، ص 154. وتفسير روح المعاني، ج 1، ص 228. وفي آيات اُخرى إشارة إلى هذا المعنى كقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ صَالِحاً) (الكهف، 10).

(194)

الله ببصيرته أمامه، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد.

هذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس في هذه الدنيا. وفي «نهج البلاغة» نقرأ: أن «ذعلب اليماني» وهو من فضلاء أصحاب الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، سأل علياً هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟

أجابه علي: أَفَأَعْبُدُ مَا لاَ أَرى؟!

وحين طلب ذعلب مزيداً من التوضيح قال الإِمام:

«لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعَيَانِ، وَلَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاِْيِمَانِ»(1).

هذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة، ولا يبقى أحد إلاّ وقد آمن إيماناً قاطعاً، لوضوح آثار عظمة الله وقدرته في ذلك اليوم.

2 ـ سبيل التغلب على الصعاب

ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل، أحدهما داخلي، والآخر خارجي.

أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة «الصبر» و«الصلاة». فالصبر هو حالة الصمود والإِستقامة والثبات في مواجهة المشاكل، والصلاة هي وسيلة الإِرتباط بالله حيث السندُ القويّ المكين.

كلمة «الصبر» فسرت في روايات كثيرة بالصوم، لكنها لا تنحصر حتماً. بل الصوم أحد المصاديق الواضحة البارزة للصبر. لأن الإِنسان يحصل في ظل هذه العبادة الكبرى على الإِرادة القوية والإِيمان الراسخ والقدرة على التحكم في الميول والرغبات.

روى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا أحزنه أمر

___________________________

1 ـ نهج البلاغه، الكلام 179.

(195)

استعان بالصلاة والصوم(1).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) أنه قال: «مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ غَمٌّ مِنْ غُمُوم الدُّنْيَا أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ رَكْعَتَينِ يَدْعُو اللهَ فِيهِمَا، أَمَا سَمِعْتَ اللهَ تَعَالى يَقُولُ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ»(2).

التوجه إلى الصلاة والتضرّع إلى الله سبحانه يمنح الإِنسان طاقة جديدة تجعله قادراً على مواجهة المشاكل.

وفي كتاب «الكافي» عن الصادق(عليه السلام): «كَانَ عَلِيٌّ(عليه السلام) إِذَا هَالَهُ أمْرٌ فَزَعَ إِلىَ الصّلاَةِ ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الاْيَةَ: وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ».

نعم، الصلاة تربط الإِنسان بالقدرة اللامتناهية التي لا يقهرها شيء. وهذا الإِحساس يبعث في الإِنسان قوّة وشهامة على تحدّي المشاكل والصعاب.

* * *

___________________________

1 ـ الطبرسي، مجمع البيان، ذيل الآية المذكورة.

2 ـ نفس المصدر.

(196)

الآيتان

يَـبَنِى إِسْرَ ءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـلَمِينَ(47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(48)

التّفسير

أوهام اليهود

في هذه الآيات خطاب آخر إلى بني إسرائيل فيه تذكير بنعم الله: (يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اْلَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ).

هذه النعم سابغة واسعة النطاق، ابتداءً من الهداية والإيمان، وانتهاءً بالنجاة من فرعون ونيل العظمة والاستقلال.

ثم تشير الآية من بين كل هذه النعم إلى نعمة التفضيل على بقية البشر، وهي نعمة مركبة من نعم مختلفة، وتقول: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمينَ).

لعل البعض تصور أن هذا التفضيل صفة أبدية مستمرة على مرّ العصور. لكن دراسة سائر آيات القرآن تبين أن هذا التفضيل هو تفضيل بني إسرائيل على غيرهم من أفراد عصرهم ومنطقتهم، لا تفضيلا مطلقاً. فالقرآن الكريم يخاطب

(197)

المسلمين في آية اُخرى ويقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...)(1).

كما يتحدث القرآن عن وراثة بني إسرائيل للأرض فيقول: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا)(2).

وواضح أن هذه الوراثة لم تكن تشمل آنذاك جميع العالم، والمقصود من الآية مشارق المنطقة التي كانوا يعيشون فيها ومغاربها، من هنا فالتفضيل على العالمين هو تفضيلهم على أفراد منطقتهم.

* * *

الآية التالية ترفض أوهام اليهود، التي كانوا يتصورون بموجبها أن الأنبياء من أسلافها سوف يشفعون لهم، أو أنّهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم، كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا.

القرآن يخاطبهم ويقول: (وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً. وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ. وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُم يُنْصَرُونَ).

الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإِلهية، لا يقبل سوى العمل الصالح، كما تقول الآية الكريمة: (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم)(3).

إنّ الآية المذكورة من سورة البقرة، تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في هذه الحياة الدنيا لانقاذ المذنب من العقاب.

ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من العقاب، أما في الآخرة فإنّه: (لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس).

وربّما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه ممّا ينتظره من الجزاء، ويوم القيامة (... لا يقبل منها شفاعة).

وإذا لم تُوجد الشفاعة، يتقدم الإِنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهوبدل

___________________________

1 ـ آل عمران، 110.

2 ـ الأعراف، 137.

3 ـ الشعراء، 88 و 89.

(198)

الشيء من جنسه، أما في الآخرة فــ (لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ).

وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه من الجزاء، وفي الآخرة لا يقوم بنجاتهم أحد (وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ).

القرآن الكريم يؤكد أن الاُصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة تختلف كليّاً عمّا هو السائد في هذه الحياة، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة، هو الإِيمان والتقوى والاستعانة بلطف الباري تعالى.

تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب، مليء بأفكار خرافية تدور حول محور التوسل وبمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من العقاب الاُخروي. صاحب المنار يذكر مثلا، أن النّاس في بعض مناطق مصر ـ كانوا يدفعون مبلغاً من المال إلى الذي يتعهد غسل الميت، ويسمون هذا المبلغ أُجرة الإِنتقال إلى الجنّة(1).

وفي تاريخ اليهود نقرأ أنهم كانوا يقدمون القرابين للتكفير عن ذنوبهم، وإن لم يجدوا قرباناً كبيراً يكتفون بتقديم زوج من الحمام.(2)

وفي التاريخ القديم كانت بعض الاقوام تدفن مع الميت حليّه وأسلحته، ليستفيد منها في الحياة الاُخرى(3).

القرآن ومسألة الشّفاعة

العقاب الإِلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا ينزل بساحة الإِنسان دون شك من أجل الانتقام. بل إن العقوبات الإِلهية تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإِنسان وتكامله. من هنا يجب الاحتراز عن أي شيء يضعف من قوّة عنصرالضمان هذا،كي لاتنتشربين النّاس الجرأة

___________________________

1 ـ المنار، ج 1، ص 306.

2 ـ المنار، ج 1، ص 306.

3 ـ الميزان، ج 1، ص 156.

(199)

على ارتكاب المعاصي والذنوب.

من جهة اُخرى، لا يجوز غلق باب العودة والإِصلاح بشكل كامل في وجه المذنبين، بل يجب فسح المجال لإِصلاح أنفسهم وللعودة إلى الله وإلى الطهر والتقوى.

«الشفاعة» بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل. إنها وسيلة لعودة المذنبين والملوثين بالخطايا، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.

أولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطيء لمسألة الشفاعة، أنكروا هذه المسألة بشكل كامل، واعتبروها شبيهة بالوساطات التي تقدم إلى السلاطين والحكام الظالمين.

وثمة مجموعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة: (لاَ يُقْبَلُ مُنْهَا شَفَاعَةٌ)فأنكروا الشفاعة تماماً، دون الإِلتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.

اعتراضات المنكرين لمسألة الشفاعة يمكن تلخيصها بما يلي:

1 ـ الاعتقاد بالشفاعة، يضعف روح السعي والمثابرة في نفس الإِنسان.

2 ـ الاعتقاد بالشفاعة، انعكاس عن ظروف المجتمعات المتأخرة والإِقطاعية.

3 ـ الاعتقاد بالشفاعة، يؤدي إلى التشجيع على ارتكاب الذنوب وترك المسؤوليات.

4 ـ الاعتقاد بالشفاعة، نوع من الشرك بالله، وهو معارض للقرآن!

5 ـ الاعتقاد بالشفاعة، يعني تغيير أحكام الله وتغيير إرادته وأوامره!

ولكن كل هذه الاعتراضات ناتجة ـ كما سنرى ـ عن الخلط بين الشفاعة بمفهومها القرآني، والشفاعة بمعناها المنحرف الرائج بين الجهلة من النّاس.

ولما كانت هذه المسألة في جانبها الإِيجابي والسلبي ذات أهمية بالغة، فعلينا أن ندرسها بالتفصيل من حيث مفهومها وفلسفتها، وإرتباطهابعالم التكوين،

(200)

وموقعها في القرآن والحديث، وصلته بالتوحيد والشرك، كي يزول كل إبهام يرتبط بالآية المذكورة وسائر الآيات في حقل الشفاعة.

1 ـ المفهوم الحقيقي للشّفاعة:

كلمة «الشفاعة» من «الشفع» بمعنى «الزوج» و«ضم الشيء إلى مثله»، يقابلها «الوتر» بمعنى «الفرد». ثم أُطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف، ولها في العرف والشرع معنيان متباينان كل التباين:

أ: إن الشفاعة لدى السواد تعني أن الشفيع يستفيد من مكانته وشخصيته ونفوذه، لتغيير رأي صاحب قدرة بشأن معاقبة من هم تحت سيطرته.

والشفيع قد يرعب صاحب القدرة هذا، أو قد يستعطفه، أو قد يغير أفكاره بشأن ذنب المجرم واستحقاقه للعقاب ... وأمثال هذه الأساليب.

الشفاعة بهذا المعنى هي ـ بعبارة موجزة ـ لا تعني حدوث أي تغيير في المحتوى النفسي والفكري للمجرم أو المتهم. بل إن كل التغييرات والتحولات تتوجه نحو الشخص الذي تقدم إليه الشفاعة (تأمل بدقة).

هذا اللون من الشفاعة ليست له مكانة في المفهوم الديني على الإِطلاق. لأن الله سبحانه وتعالى لا يخطأ حتى يتوسط الشفيع في تغيير رأيه، ولا يحمل تلك العواطف الموجودة في نفس الإِنسان كي يمكن إثارة عواطفه، ولا يهاب نفوذ شخص كي ينصاع الأوامره، ولا يدور ثوابه وعقابه حول محور غير محور العدالة.

ب: المفهوم الآخر للشفاعة يقوم على أساس تغيير موقف «المشفوع له». أي أن الشخص المشفوع له يوفّر في نفسه الظروف والشروط التي تؤهّله للخروج من وضعه السيّء الموجب للعقاب، وينتقل ـ عن طريق الشفيع إلى وضع مطلوب حَسَن يستحق معه العفو والسماح. والإِيمان بهذا النوع من الشفاعة ـ كما

(201)

سنرى ـ يربّي الإنسان، ويصلح الأفراد المذنبين، ويبعث فيهم الصحوة واليقظة. والشفاعة في الإِسلام لها هذا المفهوم السامي.

وسنرى أن كل الإِعتراضات والإِنتقادات والحملات التي توجه إلى مسألة الشفاعة، إنما تنطلق من فهم الشفاعة بالمعنى الأوّلي المنحرف، ولا تلتفت إلى المعنى الثاني المنطقي المعقول البنّاء.

هذا تفسير مقتضب للونين من ألوان الشفاعة: أحدهما «تخديري»، والآخر «بنّاء».

* * *

2 ـ الشّفاعة في عالم التكوين

التّفسير الصحيح والمنطقي للشفاعة ـ بالمفهوم الذي مرّ بنا ـ له مصاديق كثيرة في عالم التكوين والخلقة، (إضافة إلى عالم التشريع). الطاقات الأقوى في هذا العالم تنضم إلى الأضعف منها لتسيّرها نحو أهداف بنّاءة.

الشمس تشرق والأمطار تتساقط، لتفجّر القوّة الكامنة في البذرة لتحركها نحو الإنبات، ونحو شقّ جسم التربة والخروج إلى الفضاء الذي استمدت البذرة منه طاقات النموّ والتكامل.

هذه الظواهر هي في الحقيقة شفاعة تكوينية على صعيد قيامة الحياة الدنيا. ولو انطلقنا من هذه النماذج الكونية في الشفاعة لفهم الشفاعة على صعيد التشريع، لابتعدنا عن الإِنحراف، وسنو ضح ذلك قريباً.

* * *

3 ـ مستندات الشفاعة:

القرآن الكريم تحدث في ثلاثين موضعاً عن مسألة «الشفاعة» (بهذا اللفظ)، وهناك إشارات اُخرى إلى هذه المسألة دون ذكر لفظها.

(202)

يمكن تقسيم آيات الشفاعة في القرآن إلى المجموعات التالية.

المجموعة الاُولى: آيات ترفض الشفاعة بشكل مطلق كقوله تعالى: (انْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ)(1)، وكقوله تعالى: (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)(2).

هذه الآيات رفضت كل الطرق المتصورة لانقاذ المجرمين غير الإيمان والعمل الصالح، سواء كان طريق دفع العوض المادي، أو طريق الصداقة والخلة، أو طريق الشفاعة.

ويقول تعالى بشأن بعض المجرمين: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)(3).

المجموعة الثانية: آيات تحصر الشفاعة بالله تعالى، كقوله سبحانه: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيع)(4) و (قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)(5).

المجموعة الثالثة: آيات تجعل الشفاعة متوقفة على إذن الله تعالى كقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)(6)، وقوله (وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عَنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ)(7)

المجموعة الرابعة: آيات تبين شروطاً خاصة للمشفوع له. هذه الشروط تتمثل أحياناً في رضا لله سبحانه: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنَ ارْتَضى)(8).

وإستناداً إلى هذه الآية، شفاعة الشفعاء تشمل فقط أُولئك الذين بلغوا مرتبة «الإِرتضاء» أي القبول لدى الله سبحانه وتعالى.

ويتمثل الشرط أحياناً بالعهد عند الله: (لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ

___________________________

1 ـ البقرة، 254.

2 ـ البقرة، 48.

3 ـ المدثر، 48.

4 ـ السجدة، 4.

5 ـ الزمر، 44.

6 ـ البقرة، 255.

7 ـ سبأ، 23.

8 ـ الأنبياء، 28.

(203)

الرَّحْمنِ عَهْداً)(1)، والمقصود من هذا العهد الإيمان بالله ورسوله.

ويتحدث القرآن عن سلب صلاحية الإِستشفاع عن بعض الأفراد مثل المجرمين، كقوله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيم وَلاَ شَفِيع يُطَاعُ)(2).

ممّا تقدم يتضح أن اتخاذ العهد الإِلهي، والوصول إلى منزلة نيل رضا الله، واجتناب بعض الذنوب مثل الظلم، شروط حتمية للشفاعة.

* * *

4 ـ الشّروط المختلفة للشفاعة:

آيات الشفاعة تصرح أن مسألة الشفاعة في مفهوم الإِسلام مقيدة بشروط، هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها، وتحدّد تارة اُخرى الشخص المشفوع له، كما تقيد من جهة اُخرى الشفيع، وهذه الشروط بمجموعها تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.

ثمة ذنوب كالظلم مثلا خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن (ما لِلظَّالِمَينَ مِنْ حَمِيم وَلا شَفِيع يُطَاعُ) كما مرّ، ولو فهمنا «الظلم» بمعناه الواسع ـ كما سنرى من خلال الأحاديث ـ فان الشفاعة تقتصر حينئذ على المجرمين النادمين السائرين على طريق إصلاح أنفسهم، والشفاعة في هذه الحالة ستكون دعامة للتوبة وللندم (سنجيب أولئك الذين يتصورون أن التائب النادم لا يحتاج إلى الشفاعة).

كما أن الشفاعة ـ وطبقاً للآية 28 من سورة الانبياء ـ لا تشمل إلاّ أولئك المرتقين إلى درجة «الإرِتضاء» وإلى درجة الإِلتزام بالعهد الإِلهي كما مرّ أيضاً في الآية 87 من سورة مريم.

___________________________

1 ـ مريم، 87.

2 ـ غافر، 18.

(204)

الإِرتضاء، واتخاذ العهد، يعنيان على المستوى اللغوي وكذلك ما ورد من الروايات في تفسير هذه الآيات الإِيمان بالله والحساب والميزان والثواب والعقاب، والاعتراف بالحسنات والسيئات، وبما أنزل الله، إيماناً عميقاً في الفكر، ظاهراً في العمل ... إيماناً يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية قيمة إنسانية، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.

يقول تعالى: (وَلَو أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيِماً)(1)، هذه الآية تجعل الاستغفار مقدمة لشفاعة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

ويقول: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ: سَوْفَ اسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)(2)، آثار الندم واضحة على إخوة يوسف في طلبهم من أبيهم.

ويقول سبحانه: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْمَاً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوُا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)(3) فاستغفار الملائكة وشفاعتهم تقتصر على الأفراد المؤمنين السالكين سبيل الله.

وهنا يطرح أيضاً سؤال بشأن جدوى الشفاعة للأفراد المؤمنين السالكين سبيل الله، وسنجيب على ذلك في دراسة حقيقة الشفاعة.

وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطاً في قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ)(4). من هنا فالمشفوع له أيضاً ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل، كي يكون له إرتباط بالشفيع، وهذا الإِرتباط الضروري بين الشفيع والمشفوع له يعتبر بدوره عاملا بنّاءاً في تعبئة الطاقات على طريق الحق.

* * *

___________________________

1 ـ النساء، 64.

2 ـ يوسف، 97 و 98.

3 ـ المؤمن، 7.

4 ـ الزخرف، 86.

(205)

5 ـ الشّفاعة في الحديث:

في الروايات الإِسلامية تعابير كثيرة تكمل محتوى الآيات المذكورة وتوضّح ما خفي منها، من ذلك:

1 ـ في تفسير «البرهان» عن الإِمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام) عن على بن أبي طالب(عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: «شَفَاعَتِي لاَِهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ...» راوي الحديث ابن أبي عمير يقول: فقُلْتُ لَهُ: يَا بْنَ رَسُولِ الله كَيْفَ تَكُونُ الشَّفَاعَةُ لاَِهْلِ الْكَبَائِر وَاللهُ يَقُولُ (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) وَمَنْ يَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ لاَ يَكُونُ مُرْتَضى بِهِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا أَحْمَدَ مَا مِنْ مُؤْمِن يَرْتَكِبُ ذَنْباً إِلاَّ سَاءَهُ ذَلِكَ وَنَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيٌّ(صلى الله عليه وآله وسلم)كَفَى بالنَدَم تَوْبَة ... وَمَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلىْ ذَنْب يَرْتَكِبُهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِن وَلَمْ تَجِبْ لَهُ الشَّفَاعَةُ وَكَانَ ظَالِماً والله تَعَالى ذِكْرُهُ يَقُولُ(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَميم وَلاَ شَفيِع يُطَاعُ)(1)

صدر الحديث يتضمن أن الشفاعة تشمل مرتكبي الكبائر. لكن ذيل الحديث يوضح أن الشرط الأساسي في قبول الشفاعة هو الإِيمان الذي يدفع المجرم إلى مرحلة الندم وجبران ما فات، ويبعده عن الظلم والطغيان والعصيان. (تأمل بدقة).

2 ـ في كتاب «الكافي» عن الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق(عليه السلام) في رسالة كتبها إلى أصحابه قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ عِنْدَ اللهِ فَلْيَطْلُبْ إِلَى اللهِ أَنْ يَرْضى عَنْهُ»(2)

يتبين من سياق الرواية، أن كلام الإِمام يستهدف إصلاح الخطأ الذي وقع فيه بعض أصحاب الإِمام في فهم مسألة الشفاعة: ويرفض بصراحة مفهوم الشفاعة الخاطىء المشجع على إرتكاب الذنوب.

3 ـ وعن الصادق(عليه السلام) أيضاً: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بَعَثَ اللهُ الْعَالِمَ وَالْعَابِدَ، فَإِذَا وَقَفَا

___________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج 3، ص 57.

2 ـ عن بحار الأنوار، ج 3، ص 304 الطبعة القديمة.

(206)

بَيْنَ يَدَيِ الله عَزَّ وَجَلَّ قِيلَ لِلْعَابِدِ: إِنْطَلِقْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقيلَ لِلْعَالِمِ: قِفْ تَشْفَعُ لِلنَّاسِ بِحُسْنِ تَأْدِيبِكَ لَهُمْ»(1).

في هذا الحديث نجد إرتباطاً بين «تأديب العالم» و«شفاعته لمن أدّبهم» وهذا الإِرتباط يوضّح كثيراً من المسائل المبهمة في بحثنا هذا.

أضف إلى ما سبق أن في اختصاص الشفاعة بالعالم وسلبها من العابد، دلالة اُخرى على أن الشفاعة في المفهوم الإِسلامي ليست معاملةً وعقداً وتلاعباً بالموازين، بل مدرسة للتربية، وتجسيد لما مرّ به الفرد من مراحل تربوية في هذا العالم.

* * *

6 ـ التّأثير المعنوي للشّفاعة:

ما ذكرناه من روايات بشأن الشفاعة هو غيض من فيض، فالروايات في هذا المجال كثيرة تبلغ حدّ التواتر، وإنما اخترنا منها ما يتناسب مع بحثنا.

النووي الشافعي(2) في شرحه لصحيح مسلم، نقل عن القاضي عياض ـ وهو من كبار علماء أهل السنة، ـ أنّ أحاديث الشفاعة متواترة(3).

ابن تيمية (المتوفّى 728 هـ.) ومحمّد بن عبد الوهّاب (المتوفّى 1206 هـ.)، مع ما لهما من تعصّب ولجاج في مثل هذه الأُمور، يقرّان بتواتر هذه الروايات.

ثمة كتاب دراسي معروف و متداول بين «الوهّابية» هو «فتح المجيد» للشيخ عبد الرحمن بن حسن، ينقل عن «ابن القيم» مايلي:

«الرابع: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم.

___________________________

1 ـ الإِختصاص، للمفيد، نقلا عن البحار، ج 3، ص 305.

2 ـ هو يحيى بن شرف، من علماء القرن السابع الهجري، والنووي نسبة إلى مدينة «النوى» قرب دمشق.

3 ـ البحار، ج 3، ص 307.

(207)

والأحاديث بها متواترة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال »(1).

وقبل أن ندرس الآثار الإِجتماعية والنفسية لمسألة الشفاعة والاشكاليات الاربع حول فلسفة الشفاعة، نلقي نظرة على الآثار المعنوية لهذه المسألة في إطار آراء الموحّدين المؤمنين بالشفاعة، فمثل هذه النظرة تمهّد السبيل لدراستنا القادمة في حقل الشفاعة ومعطياتها الاجتماعية والنفسية.(2)

اختلف علماء العقائد المسلمون في كيفية التأثير المعنوي للشفاعة. فقال جمع يسمون «الوعيدية»، وهم المؤمنون بخلود مرتكبي الكبائر في جنهم: إن الشفاعة ليس لها أثر على إزالة آثار الذنوب، بل تأثيرها يقتصر على زيادة الثواب وعلى التكامل المعنوي.

و«التفضيلية» وهم من يعتقد بعدم خلود مرتكبي الكبائر في جهنم، فيذهبون إلى أن الشفاعة تشمل المذنبين، وتؤثر في إسقاط العقاب عنهم.

أما «الخواجة نصير الدين الطوسي(رحمه الله)» فيؤيد كلا الأمرين في كتابه «تجريد الاعتقاد» ويرى وجود كلا الأثرين للشفاعة.

«العلاّمة الحلي(رحمه الله)» شرح عبارة الطوسي في كتابه «كشف المراد» ولم يردّ عليها بل أورد شواهد عليها.

لو أخذنا بنظر الاعتبار ما مرّ بنا بشأن معنى الشفاعة لغوياً ومقارنتها بالشفاعة التكوينيّة، لما ترددنا في صحة ما ذهب إليه المحقق الطوسي.

فمن جهة، ثمة رواية معروفة عن الإِمام الصادق(عليه السلام) هي: «مَا مِنْ أَحَد مِنَ الأَوّلَيِنَ وَالاْخِرِينَ إِلاَّ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى شَفَاعَةِ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(3).

___________________________

1 ـ فتح المجيد، ص 211.

2 ـ ينبغي الإِلتفات إلى أننا نعالج هذه المسألة من خلال المنطق الخاص لعلماء العقائد.

3 ـ نقلا عن البحار وكتب اُخرى.

(208)

وإستناداً إلى هذه الرواية، يحتاج إلى الشفاعة كل النّاس، حتى التائبون المغفور لهم، وفي مثل هذه الحالة لابدّ أن تكون الشفاعة ذات تأثيرين، في الحطّ من الذنوب، وفي علوّ المنزلة.

أما الروايات التي تذهب إلى عدم حاجة الصالحين للشفاعة فهي تنفي ذلك النوع من الشفاعة الخاص بالمجرمين والمذنبين.

ومن جهة اُخرى ذكرنا أن الشفاعة تعني انضمام الفرد الأشرف والأقوى إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف، وهذه المساعدة قد تكون لزيادة نقاط القوّة، وقد تكون لإزالة نقاط الضعف.

في الشفاعة التكوينية نشهد هذين اللونين من الشاعة في مسيرة حركة التكامل والنمو، فإنّ الكائنات الأضعف تحتاج إلى عوامل أقوى لإزالة عوامل التخريب تارة (كحاجة النباتات إلى نور الشمس لإبادة الآفات)، وتارة اُخرى لزيادة نقاط القوّة وسرعة التطور (كحاجة النباتات إلى نور الشمس من أجل النموّ)، وهكذا الطالب يحتاج إلى الاُستاذ لإصلاح أخطائه من جهة، ولزيادة معلوماته من جهة اُخرى.

كل ذلك يدلّ على أن للشفاعة أثرين، ولا تقتصر على دائرة إزالة آثار الذنب والإثم (تأمل بدقّة).

ممّا تقدم نفهم أن التائبين بحاجة أيضاً إلى الشفاعة مع علمنا بأن التوبة وحدها كافية لغفران الذنوب، وذلك لسببين:

1 ـ التائبون بحاجة إلى الشفاعة لزيادة مكانتهم المعنوية، ولتقدمهم في مضمار التكامل والإِرتقاء، وان كان الغفران يتحقق بالتوبة.

2 ـ ثمة خطأ وقع فيه كثيرون في فهم التوبة، إذ تصوروا أنّ التوبة من الذنب قادرة على إرجاع الإِنسان إلى حالة ما قبل ارتكاب الذنب، بينماالتوبة ليستـكما ذكرنا في موضعه ـ سوى مرحلة أُولى، إنها كالدواء الذي

(209)

يقطع عوارض المرض، وانقطاع العوارض لا يعني عودة الإنسان إلى حالته الطبيعية، بل يعني انتقالة إلى حالة نقاهة يحتاج خلالها إلى تقوية بنيته الجسمية، ليعود بعد مدة إلى مرحلة ما قبل المرض.

بعبارة اُخرى: للتوبة مراحل، والندم على الذنب والعزم على التطهر في المستقبل هو المرحلة الاُولى للتوبة. والمرحلة النهائية تتحق حين يعود التائب إلى حالة ما قبل الذنب من كل النواحي. وفي هذه المرحلة تكون شفاعة الشافعين ذات أثر وعطاء.

أفضل شاهد على هذا ما ورد في القرآن وذكرناه من قبل بشأن استغفار الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) للتائبين، وتوبة إخوة يوسف واستغفار يعقوب لهم، وأوضح من كل ذلك استغفار الملائكة للصالحين والمصلحين الوارد في الآيات المذكورة آنفاً. (تأمل بدقّة)!.

7 ـ فلسفة الشّفاعة

مرّ بنا فيما سبق «مفهوم» الشّفاعة و«أسانيدها»، ونستطيع من ذلك أن نفهم بسهولة فلسفة الشفاعة على الصعيد الإِجتماعي والنفسي.

وبشكل عام وإنطلاقاً من مفهوم الشفاعة نستطيع أن نتلمس الآثار التالية في المؤمنين بالشفاعة.

«مكافحة روح اليأس» من أهم آثار الشفاعة في نفس المعتقدين بها. مرتكبو الجرائم الكبيرة يعانون من وخز الضمير، كما يشعرون بيأس من عفو الله، ولذلك لا يفكّرون بالعودة ولا بإعادة النظر في طريقة حياتهم الآثمة. وقد يدفعهم المستقبل المظلم إلى التعنت والطغيان، وإلى التحلل من كل قيد تماماً، كالمريض اليائس من الشفاء الذي يتحلل من أي نظام غذائي، لإِعتقاده بعدم جدوى التقيد بنظام.

(210)

قلق الضمير الناتج عن هذه الجرائم قد يؤدي إلى اختلالات نفسية، وإلى تحفيز الشعور بالإِنتقام من المجتمع الباعث على تلوّثه. وبذلك يتبدل المذنب إلى عنصر خطر، وإلى مصدر قلق اجتماعي.

الإِيمان بالشفاعة يفتح أمام الإِنسان نافذة نحو النور، ويبعث فيه الأمل بالعفو والصفح، وهذا الامل يجعله يسيطر على نفسه، يعيد النظر في مسيرة حياته، بل ويشجعه على تلافي سيئات الماضي.

والإِيمان بالشفاعة يحافظ على التعادل النفسي والروحي للمذنب، ويفسح الطريق أمامه إلى أن يتبدل إلى عنصر سالم صالح.

من هنا يمكن القول أن الإِهتمام بالشفاعة بمعناها الصحيح عامل رادع بنّاء، قادر أن يجعل من الفرد المجرم المذنب فرداً صالحاً. وانطلاقاً من هذا الفهم نجد أن مختلف قوانين العالم وضعت فسحة أمل أمام المحكومين بالسجن المؤبّد باحتمال العفو بعد مدة إن أصلحوا أنفسهم، كي لا يتسرب اليأس إلى نفوسهم بذلك ويتبدّلوا إلى عناصر خطرة داخل السجن أو يصابون باختلالات نفسية.

* * *

8 ـ شروط «توفّر الشّفاعة»

الشفاعة بمعناها الصّحيح لها قيود وشروط متعددة الجوانب، كما ذكرنا. من هنا فالمؤمنون بهذا المبدأ لابدّ أن يسعوا لتوفير شروط الشّفاعة كي يشملهم عطاؤها، وأن يجتنبوا الذنوب التي تقضي على كل أمل في الشفاعة كالظلم، وأن يستأنفوا حياة جديدة قائمة على أساس تغيير عميق في أنفسهم وأن يتوبوا من الذنب أو يهمّوا بالتوبة على الأقل من أجل بلوغ درجة «الارتضاء» واتخاذ «العهد الإِلهي» (بالتّفسير المذكور).

عليهم أن يكفوا عن مخالفة الأحكام والقوانين الإِلهية، أو يقللوا من هذه

(211)

المخالفة ما أمكنهم، ويعمقوا في أنفسهم الإِيمان بالله واليوم الآخر.

من جهة اُخرى لابدّ لنيل شفاعة «الشفيع»، أن يسعى الفرد لإِيجاد نوع من التشابه والسنخية وإن كان ضعيفاً بينه وبين الشفيع.

وكما أن «الشّفاعة التّكوينية» لا تتمّ إلاّ بوجود نوع من السّنخية والتسليم والاستعداد في الموجود الأضعف، كذلك الشفاعة التشريعية لا تتحقق إلاّ بتوفر مثل هذه القابليّات، (تأمل بدقّة).

وبهذا يتضح بجلاء أن الشفاعة بمعناها الصحيح لها دور فعّال في تغيير وضع المجرمين وإصلاحهم.

* * *

9 ـ شبهات حول مسألة الشفاعة

ذكرنا أن بين «الشفاعة» في مفهومها المنحرف و«الشفاعة» في مفهومها الإِسلامي الصحيح بوناً شاسعاً. المفهوم الأوّل يقوم على أساس تغيير وجهة نظر «المستشفَع»، والآخر يدور حول محور التغييرات المختلفة في وضع المستشفع له.

واضح أن الشفاعة بمفهومها الأول مرفوضة لأنها تقتل روح السعي والمثابرة في النفوس ... وتشجع على ارتكاب الذنوب ... وتعتبر انعكاساً عن المجتمعات المتخلفة والإِقطاعية ... وتتضمن أكثر من ذلك نوعاً من الشرك والإنحراف عن خط التوحيد.

لا شك أن الإِنسان المسلم يبتعد عن خط التوحيد لو اعتقد بإمكان تقديم «وساطة» إلى اللّه كما تقدم «الوساطات»، إلى أصحاب النفوذ في هذه الدنيا. لأن مثل هذا الفرد قد اعتقد بشكل غير مباشر بإمكان تغيير علم الله! وبإمكان خفاء أمر من أمور «المستشفِع» على الله! أو بوجود مصدر يمكن أن يطفىء الإِنسان به غضب الله أو يكسب به ودّه ورضاه!، أو بحاجة الله إلى مكانة بعض عباده وبسبب

(212)

احتياجه اليهم يقبل شفاعتهم. أو أنه تعالى يقبل شفاعتهم بسبب خوفه من نفوذهم!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

كل هذه المعاني تبعدنا من أصل التوحيد وتؤدي بنا إلى السقوط في وادي الشرك ... إنها المفهوم السلبي للشفاعة والسائد لدى العرف العام.

أما الشفاعة بمعناها الصحيح الذي ذكرناه، فلا تنطوي على هذه العيوب، بل إنها أكثر من ذلك تصلح العيوب، وتعمّق النقاط الإِيجابية في الكائن البشري.

هذا النوع من الشفاعة لا يشجع على إرتكاب الذنب، بل يدفع إلى ترك الذنوب.

لا يدعو إلى التقاعس والتماهل، بل يبعث في الإِنسان روح الأمل التي يستتبعها عادة تصعيد الإِرادة لتلافي أخطاء الماضي.

هذه الشفاعة لا ترتبط بالمجتمعات المتخلّفة، بل هي وسيلة تربوية فعّالة لإصلاح المجرمين والمذنبين والمعتدين.

ليست هذه الشفاعة بشرك، بل هي عين التوحيد والتأكيد على التوجه إلى الله والإِستمداد من صفاته وإذنه وأمره.

ولمزيد من التوضيح نتحدث أكثر عن مسألة الشفاعة والتوحيد.

10 ـ الشّفاعة والتّوحيد

الفهم الخاطيء لمسألة الشّفاعة آثار اعتراض فئتين على ما بينهما من تضاد.

الفئة الاُولى: اعترضت على الشفاعة من منطلق مادي واعتبرتها عاملاً للتخدير ولإماتة روح السّعي والمثابرة، وقد أجبنا على اعتراضات هذه الفئة فيما سبق.

الفئة الاُخرى: اعترضت على الشفاعة من منطلق السلفية، واعتبرتها شركاً وانحرافاً عن خط التوحيد، ويمثل هذه الفئة «الوهابيون» ومن لفّ لفّهم.

(213)

والإِجابة على اعتراضات الوهابيين وإن كانت تحتاج إلى إطالة وخروج عن طريقة التّفسير إلاّ أنها ضرورية لأسباب عديدة.

لابد من الإِلتفات أولا إلى أن الحركة الوهّابيّة، التي ظهرت خلال القرنين الإخيرين في الجزيرة العربية على يد «محمّد بن عبد الوهّاب» لم تتجه في أفكارها المتطرفة الجافة إلى معارضة مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) فقط، بل اصطدمت بمعظم المسلمين من أهل السنة أيضاً.

محمّد بن عبد الوهاب (المتوفّي 1206 هـ ) استقى أفكاره من «ابن تيمية» (أحمد بن عبد الحليم الدمشقي المتوفى سنة 728 هـ.)، أي قبل أربعة قرون تقريباً من ظهور الوهّابية، ويعتبر المنظّر لهذه الحركة.

استطاع عبد الوهّاب خلال الأعوام (1160 ـ 1206 هـ ) بالتعاون مع الحكام المحليين أن ينشر دعوته بين القبائل البدوية المتنقّلة في الجزيرة العربية ويبثّ فيهم تعصباً أعمى باسم الدفاع عن التوحيد ومكافحة الشرك، وعبّد البدو والمتعصبين من أتباعه على طريق قمع معارضيه، واستطاع بذلك أن يكتسب قدرة سياسية ويسيطر بشكل مباشر وغير مباشر على الحكم، وأراق من أجل ذلك دماة كثيرة من المسلمين في أرض الجزيرة العربية وخارجها.

في سنة 1216 هـ (عشر سنوات بعد وفاة مؤسس الحركة الوهّابية) هاجمت جماعة من الوهّابيين مدينة كربلاء قادمة من صحراء الجزيرة العربية، واستغلوا فرصة سفر أهالي المدينة إلى النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير، فدخلوا المدينة وقاموم بتخريب وهدم مرقد سيد الشهداء الحسين بن علي(عليه السلام) وسائر المراقد الشريفة في هذه المدينة، ونهبوا ما فيها من أبواب ذهبية ونفائس، وقتلوا ما يقرب من خمسين شخصاً عند ضريح الحسين، وخمسمائة شخص في صحن الروضة المشرفة، كما قتلوا أعداداً كبيرة في سائر أنحاء المدينة، حتى بلغ عدد المقتولين في ذلك الهجوم الوهابي خمسة آلاف إنسان، ولم يسلم منهم حتى الشيوخ والعجائز والأطفال، كما نهبوا كثيراً من البيوت.

(214)

في عام 1344 أفتى فقهاء المدينة الخاضعون لجهاز الحكم الوهابي بهدم قبور أئمّة الإِسلام وأولياء الله الصالحين، ونفذت هذه الفتوى في اليوم الثامن من شوّال من السنة المذكورة، وهمّ المنفذون أن يهدموا قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، لولا تراجعهم أمام صيحات اعتراض المسلمين.

أتباع محمّد بن عبد الوهاب يتميزون على العموم بالخشونة والتصلّب والسطحية واللجاج والبعد عن المنطق والتعقّل وقد حصروا الإِسلام ـ عمداً أو غفلة ـ في إطار مكافحة عدد من الظواهر كالشفاعة وزيارة القبور والتوسل، وبذلك أبعدوا أتباعهم ومن خضع لسيطرتهم عن المسائل الإِسلامية الحياتية، وخاصة فيما يرتبط بالعدالة الإِجتماعية، ومكافحة السيطرة الإِستعمارية، والتصدي للثقافة الماديّة وللمدارس الإِلحادية.

لذلك لا تجد في أوساط الوهابيين حديثاً عن هذه المسائل، بل تسود أجواءهم حالة فظيعة من الغفلة والركود.

نعود إلى رأي هذه الفئة بشأن الشفاعة، هؤلاء يقولون: لا يحق لأحد أن يستشفع برسول الله، وأن يقول: «يا محمّد اشفع لي عند الله» لأن الله سبحانه يقول: (وأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)(1).

وفي رسالة «كشف الشبهات» لمحمّد بن عبد الوهاب نقرأ مايلي:

«فإن قال أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى الشفاعة وأطلبه ممّا أعطاه الله. فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا وقال: (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وأيضاً فإن الشفاعة أعطاها غير النّبي، فصح أن الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون ... أتقول أن الله أعطاهم الشفاعة فاطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين»(2).

___________________________

1 ـ الجن، 18.

2 ـ كشف الشبهات لمحمّد بن عبد الوهاب، نقلا عن رسالة البراهين الجلية، ص 17.

(215)

ويقول محمّد بن عبد الوهاب في رسالة أربع قواعد ما حاصله: إن الخلاص من الشرك يكون بمعرفة أربع قواعد.

الاُولى: انّ الكفار الذين قاتلهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مقرّون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر ... لقوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ ...)(1).

الثّانية: إنّهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة ...(وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)(2).

الثّالثة: إنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ظهر على قوم متفرقين في عبادتهم، فبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم الأنبياء الصالحين، وبعضهم الأشجار والأحجار، وبعضهم الشمس والقمر، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.

الرّابعة: إن مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين، لأن أُولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، هؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصينَ ...)(3)(4).

ومن العجيب أن الوهابيين تبلغ بهم الجرأة في تكفير المسلمين بحيث يبيحون نهب أموال المسلم وسفك دمه بسهولة، وقد فعلوا ذلك في تاريخهم مراراً.

يقول الشيخ «سليمان بن لحمان» في كتابه «الهدية السنية»:

«إن الكتاب والسنّة دلاّ على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو ... وسائط بينهم وبين الله ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم إلى الله ـ كما يفعل عند الملوك ـ إنه كافر مشرك حلال الدم والمال! وان قال أشهد أن لا إله

___________________________

1 ـ يونس، 31.

2 ـ يونس، 18.

3 ـ العنكبوت، 65.

4 ـ رسالة أربع قواعد، ص 24 ـ 27 طبع المنار بمصر (نقلا عن كتاب كشف الإرتياب، ص 163).

(216)

إلاّ الله وأشهد أن محمّداً رسول الله وصلّى وصام»!!(1).

ومع هذا الإِفتاء يتضح حال المسلمين في جميع أقطار العالم الإِسلامي الذين يستشفعون بهم، اقتداء بكتاب الله وسنّة نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم).

روح البطش والسفك واللجاجة في هؤلاء لا تخفى على أحد، وهكذا جهلهم بالمسائل الإِسلامية والقرآنية.

* * *

نظرة على منطق الوهابيين في حقل الشفاعة

وهكذا يظهر ممّا نقلنا عن مؤسس الحركة الوهابية «محمّد بن عبد الوهاب» أن اتهام الوهابيين بالشرك للمؤمنين بالشفاعة يستند إلى مسألتين:

1 ـ التشابه بين المؤمنين بشفاعة الأنبياء والصالحين، وبين المشركين في عصر الجاهلية.

2 ـ نهي القرآن عن عبادة غير الله وعن دعوة فرد مع الله: (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)(2)، والإِستشفاع نوع من العبادة.

بالنسبة للمسألة الاُولى ، ارتكب الوهابية خطأ فظيعاً، وذلك للأسباب التالية:

أوّلا: القرآن أقرّ منزلة الشفاعة بصراحة لجمع من الأنبياء والصالحين والملائكة كما مرّ، لكنه قيّدها بإذن الله. وليس من المعقول إطلاقاً أن يكون الله قد نهى عن الإِستشفاع المشروط بإذن الله بمن قد منحهم هو سبحانه هذه المنزلة.

وصرّح القرآن بطلب إخوة يوسف من أبيهم أن يستغفر لهم، وهكذا صرّح بطلب الصحابة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستغفر لهم أيضاً.

___________________________

1 ـ الهدية السنية، ص 66 (نقلا عن البراهين الجليّة، ص 83).

2 ـ الجن، 18.

(217)

أليست هذه من المصاديق الواضحة لطلب الشفاعة؟! إن الإِستشفاع برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعبارة: «اشفع لنا عند الله» هي نفسها عبارة اخوة يوسف إذ قالوا لأبيهم: (يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا)(1) كيف يجرأ هؤلاء على إلقاء تهمة الشرك على من يؤمن بما يصرّح به القرآن، بل ويستبيحون دمه وماله؟!

لو كان هذا العمل شركاً، فلم لم ينه يعقوب بنيه عن ذلك.

ثانياً: لا يوجد أدنى شبه بين «عبدة الأصنام» و«الموحّدين المؤمنين بالشفاعة بإذن الله»، لأن الوثنيين كانوا يعبدون الأصنام ويتخذونها شفعاء، بينما المسلمون المؤمنون بالشفاعة لا تخطر في ذهنهم عبادة الشفعاء، بل يستشفعون بهم إلى الله، وطلب الشفاعة لا إرتباط له بمسألة العبادة كما سنبيّن.

عَبَدة الأصنام كانوا يتعجبون من عبادة الإِله الواحد الأحد: (أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)(2).

الوثنيون كانوا يجعلون الوثن في منزلة الله: (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلال مُبِين إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(3).

الوثنيون كانوا يعتقدون بتأثير الأوثان على حياتهم ومصيرهم ووجودهم، كما تذكر كتب التاريخ، والمسلمون المؤمنون بالشفاعة يعتقدون بانفراد الله في التأثير، ولا يرون لموجود آخر غير الله استقلالا في التأثير.

والمقارنة بين الرؤيتين مقارنة جاهلة مجافية للمنطق.

أما بشأن المسألة الثانية، علينا أوّلا أن نفهم معنى «العبادة» لو فسّرنا العبادة بأنها كل لون من ألوان الخضوع والاحترام، لكان ذلك يعني حرمة الاحترام والخضوع لأحد غير الله، وهذا ما لا يقرّه مسلم. ولو فسّرنا العبادة أنها كل ألوان الطلب، فهذا يعني أن التقدم بالطلب من أية جهة هو شرك، وهذا يخالف

___________________________

1 ـ يوسف، 97.

2 ـ ص، 5.

3 ـ الشعراء، 97 و 98.

(218)

ضروريات العقل والدين. كما أن العبادة لا يمكن فهمها على أنها كل لون من ألوان اتباع فرد لفرد آخر، فاتباع الأفراد لمسؤوليهم ورؤسائهم في المؤسسات والتنظيمات الإِجتماعية من أُولى ضروريات الحياة البشرية، كما أن اتّباع الأنبياء وأئمّة الدين من الواجبات الحتمية للمتدينين.

من هنا فالعبادة لا تعني كل ذلك، بل هي الحدّ الأعلى للخضوع والتواضع المعبّرين عن الإِرتباط المطلق والتسليم بلا منازع للمعبود، وإيكال كل عواقب الأُمور إليه.

وهل في طلب الشفاعة من الشفعاء أثر من الآثار المذكورة للعبادة.

أمّا بشأن النهي عن دعوة أحد سوى الله فلا يعني النهي عن نداء الأفراد، كأن نقول: يا عليّ ويا حسن ويا أحمد، ولا يعني النهي عن الاستعانة بالأفراد، لأن التعاون أحد الأركان الأساسية للحياة الإِجتماعية وقد عمل به الأنبياء والأولياء كافة، ولم يرفضه الوهّابيون أنفسهم.

أمّا الأمر الذي يمكن الاعتراض عليه فهو ما أوضحه «ابن تيمية» في رسالة «زيارة القبور» إذ قال ما حاصله: «مطلوب العبد إن كان ممّا لا يقدر عليه إلاّ الله فسائله من المخلوق مشرك من جنس عباد الملائكة والتماثيل ومن اتّخذ المسيح وأُمّه إلهين، مثل أن يقول لمخلوق حي أو ميت: اغفر ذنبي أو انصرني على عدوي أو اشف مريضي أو عافني أو عاف أهلي أو دابتي، أو يطلب منه وفاء دينه من غير جهة معينة أو غير ذلك.

وإن كان ممّا يقدر عليه العبد فيجوز طلبه منه في حال دون حال، فإنّ مسألة المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهياً عنها قال الله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبّكَ فَارْغَبْ) وأوصى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ابن عباس: إذا سألت فاسئل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. وأوصى طائفة من أصحابه أن لا يسألوا النّاس شيئاً، فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه. وقال: فهذه المنهي

(219)

عنها، والجائزة طلب دعاء المؤمن لأخيه»(1).

نحن أيضاً نقول: من الشرك أن يطلب الإِنسان من أحد شيئاً يختص به الخالق، ومن الشرك أن يتجه الإِنسان في ذلك الطلب إلى فرد يعتبره قادراً بشكل مستقل عن تلبية ذلك الطلب. أما إذا طلب الإِنسان من أحد شفاعة منحها له الله، فما ذلك بشرك، بل هو عين الإِيمان والتوحيد، ويشهد على ذلك كلمة «مع» في قوله تعالى: (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) التي تفيد أن المنهي عنه هو دعوة شخص نعتبره في منزلة الله، ونعتبره مصدراً مستقلا في التأثير. (تأمل بدقّة).

هدفنا من التأكيد على هذا الموضوع، هو أن ما اعتراه من مسخ وتحريف وفّر الفرصة لأعداء الدين كي يطعنوا في المقدسات الدينية، كما أدّى إلى ظهور تفسيرات واستنتاجات خاطئة لدى بعض المجموعات الإِسلامية، ممّا جرّ بدوره إلى تفرقة صفوف المسلمين.

والفهم الصحيح للشفاعة يؤدي كما رأينا إلى سموّ أخلاق المجتمع وتكاملها. وإلى إصلاح الأفراد الفاسدين، كما يؤدي إليه قطع دابر الطعانين، وإلى إحلال الوحدة بين المسلمين.

نأمل من العلماء والمفكرين الإِسلاميين أن يتعمّقوا في تحليل هذه المسألة قرآنياً ومنطقياً، كي يسدّوا الطريق أمام طعن أعداء الإِسلام ويساهموا في رصّ الصفوف.

* * *

___________________________

1 ـ زيارة أهل القبور، ص 152، نقلا عن كشف الإِرتياب، ص 268.

(220)

الآية

وَإِذْ نَجَّيْنَـكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَ لِكُمْ بَلاَ ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ(49)

التّفسير

نعمة الحرية

في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة اُخرى، منَّ بها الله سبحانه على بني إسرائيل، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يَذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

القرآن يعبّر عن العذاب الذي أنزله فرعون ببني إسرائيل بفعل (يَسُومُونَكُمْ)من «سام» التي تعني في الأصل الذهاب في ابتغاء الشيء، واستعمال هذا الفعل بصيغة المضارع يشير إلى استمرار العذاب، وإلى أن بني إسرائيل كانوا دوماً تحت التعذيب من قبل الفراعنة.

والقرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل في قتل الذكور واستخدام الإِناث لخدمة آل فرعون، واستثمار طاقات

(221)

بني إسرائيل لخدمة الاقباط وإشباع رغبات ونزوات المستكبرين.

والبلاء يعني الامتحان، فالحوادث والمصائب التي نزلت ببني إسرائيل كانت بمثابة الامتحان لهم. كما قد يأتي البلاء بمعنى العقاب، لأن بني إسرائيل سبق لهم أن كفروا بنعمة ربّهم،فكان ما أصابهم من آل عمران عقاباً على كفرانهم.

وذكر بعض المفسرين معنى ثالثاً للبلاء، وهو النعمة، وبذلك يكون البلاء العظيم يعني النعمة العظيمة، والمقصود منها نعمة النجاة من آل فرعون(1).

على كل حال، يوم نجاة بني إسرائيل من آل فرعون يوم تاريخي مهم، ركّز عليه القرآن في مواضع عديدة ولنا وقفات اُخرى عند هذا الحدث الكبير.

من الملفت للنظر أن القرآن يسمّي ذبح الأبناء واستحياء النساء عذاباً. ولو عرفنا أن استحياء النساء يعني استبقاءهنّ، وتركهنّ أحياء، لإتّضح لنا أن القرآن يشير إلى أن مثل هذا الاستبقاء المذل هو عذاب أيضاً مثل عذاب القتل. وهذا المعنى يشير إليه الإِمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) اذ يقول: «فَالْمَوتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورينَ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرينَ»(2).

عملية الإِماتة كانت شاملة للذكور والإِناث مع اختلاف في ممارسة هذه العملية. وفي عالمنا المعاصر يمارس طواغيت الأرض عملية الإِماتة أيضاً بأساليب اُخرى، وذلك عن طريق قتل روح الرجولة في الذكور، ودفع الإِناث إلى مستنقع إشباع الشهوات.

من المفسرين من ذهب إلى أن سبب قتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، يعود إلى رؤيا عرضت لفرعون في منامه. ولكن السبب ليس الرؤيا

___________________________

1 ـ يقال بلي الثوب اي خلق، وبلوته: اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختياري له، وسميّ الغمّ بلاء من حيث إنه يُبلى الجسم، وسمّي التكليف بلاء لأن التكاليف مشاقّ على الأبدان ولأنها اختبارات، ولأن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسارّ ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المنحة والمحنة جميعاً بلاءً. (المفردات، مادة: بلى).

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 51.

(222)

وحدها ـ كما سنبيّن ذلك في تفسير الآية الرابعة من سورة القصص ـ بل أيضاً خوف الفرعونيين من اشتداد قوة بني إسرائيل وتشكيلهم خطراً على سلطة آل فرعون.

* * *

(223)

الآية

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَـكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(50)

التّفسير

النّجاة من آل فرعون:

الآية السابقة أشارت إلى نجاة بني إسرائيل من براثن الفرعونيين، وهذه الآية توضح طريقة النجاة، (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ، فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

قضية غرق آل فرعون في البحر ونجاة بني إسرائيل وردت في سور عديدة مثل سورة الأعراف الآية (126). وسورة الأنفال، الآية (54). وسورة الإِسراء الآية (103). والشعراء الآية (63 و 66). والزخرف، (55). والدخان، الآية (17) وما بعدها.

في هذه السور ذكرت كل تفاصيل الحادث، أمّا هذه الآية فاكتفت بالإِشارة إلى هذه النعمة الإِلهية في معرض دعوة بني إسرائيل إلى قبور الرسالة الخاتمة(1).

حادثة الانقاذ باختصار حدثت بعد عدم استجابة فرعون وقومه لدعوة

___________________________

1 ـ راجع التفاصيل في المجلد العاشر تفسير، الآية (77) وما بعدها من سورة طه.

(224)

موسى(عليه السلام) مع كل ما شاهدوه منه من معجزات. إذ ذاك اُمر أن يخرج مع بني إسرائيل في منتصف الليل من مصر، وعند وصولهم النيل، علموا أن فرعون وجيشه يلاحقونهم، فاعترى، بني إسرائيل خوف واضطراب شديد. فالبحر أمامهم والعدوّ وراءهم. وفي هذه اللحظات الحساسة، اُمر موسى أن يضرب البحر بعصاه، فانشقت فيه طرق متعدّدة عبر منها بنو إسرائيل، بينما التحم الماء حينما كان آل فرعون في وسطه، فغرقوا جميعاً ونجا بنو إسرائيل، وهم ينظرون إلى هلاك أعدائهم.

الهدف من تذكير بني إسرائيل بهذا الحدث الذي بدأ بخوف شديد وانتهى بانتصار ساحق، هو دفعهم للشكر وللسير على طريق الرسالة الإِلهية المتملثة في دين النّبي الخاتم.

كما أنه تذكير للبشرية بالامداد الإِلهي الذي يشمل كل أُمّة سائرة بجد وإخلاص على طريق الله.

* * *

(225)

الآيات

وَإِذْ وَ عَدْنَا مُوسَى  أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَـلِمُونَ(51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّنْ بَعْدِ ذَ لِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَـقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَ لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(54)

التّفسير

أكبر إنحرافات بني إسرائيل

في هذه الآيات الأربع، تأكيد على مقطع آخر من تاريخ بني إسرائيل، وعلى أكبر إنحراف اُصيبوا به في تاريخهم الطويل، وهو الإنحراف عن مبدأ التوحيد، والإتجاه إلى عبادة العجل. وهذا التأكيد تذكير لهم بما لحقهم من زيغ نتيجة إغواء الغاوين، وتحذير لهم من تكرر هذه التجربة في مواجهة الدين الخاتم: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)وهي ليالي افتراق موسى عن قومه، (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ).

شرح هذا المقطع من تاريخ بني إسرائيل سيأتي في سورة الأعراف الآية

(226)

 (142) وما بعدها، وفي سورة طه الآية (36) وما بعدها.

وخلاصته، إن موسى(عليه السلام) بعد نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة اُمر بالذهاب إلى جبل الطور مدة ثلاثين ليلة لتسلم ألواح التوراة، ثم مُدّت هذه الليالي إلى أربعين ليلة من أجل اختبار قومه. واستغل السامريّ الدّجال هذه الفرصة، فجمع ما كان لدى بني إسرائيل من ذهب الفراعنة ومجوهراتهم، وصنع منها عجلا له صوت خاص، ودعا بني إسرائيل لعبادته. فأتبعه أكثر بني إسرائيل، وبقي هارون ـ أخو موسى وخليفته ـ مع أقلية من القوم على دين التوحيد، وحاول هؤلاء الموحّدون الوقوف بوجه هذا الإِنحراف فلم يفلحوا، وأوشك المنحرفون أن يقضوا على حياة هارون أيضاً.

بعد أن عاد موسى من جبل الطور تألم كثيراً لما رآه من قومه، ووبّخهم بشدّة فثاب بنو إسرائيل إلى رشدهم، وأدركوا خطأهم وطلبوا التوبة، فجاءهم أمر السماء بتوبة ليس لها نظير، سنذكرها فيما يلي.

في الآية التالية يقول سبحانه: (ثُمَّ عَفَونَا عَنْكُم مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُم تَشْكُرُونَ)

وبعد إشارة إلى ما جاء بني إسرائيل من هداية تشريعية: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

كلمتا «الكتاب» و«الفرقان» قد تشيران كلاهما إلى التوراة، وقد يكون المقصود من «الكتاب» التوراة و«الفرقان» ما قدمه موسى من معاجز بإذن الله، لأنّ الفرقان يعني في الأصل ما يفرّق بين الحق والباطل.

ثم يشير القرآن إلى طريقة التوبة المطروحة على بني إسرائيل: (وَإِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ، فَتُوبُوا إِلى بَارِئِكُمْ قَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ

(227)

الرَّحيمُ).

و«البارئ» هو الخالق، وفي الكلمة إشارة إلى أن هذا الأمر الإِلهي بالتوبة الشديدة صادر عمّن خلقكم، وعمّن هو أعرف بما يضرّكم وينفعكم.

ذنب عظيم وتوبة فريدة

لا شك أن عبادة عجل السامري لم تكن مسألة هينة، لأن بني إسرائيل شاهدوا ما شاهدوا من آيات الله ومعجزات نبيّهم موسى(عليه السلام)، ثم نسوا ذلك دفعة، وخلال فترة قصيرة من غياب النّبي إنحرفوا تماماً عن مبدأ التوحيد وعن الدين الإِلهي.

كان لابدّ من اقتلاع جذور هذه الظاهرة الخطرة، كي لا تعود إلى الظهور ثانية خاصة بعد وفاة صاحب الرسالة.

ومن هنا كانت الأوامر الإِلهية بالتوبة شديدة لم يسبق لها نظير في تاريخ الأنبياء، وتقضي هذه الأوامر أن تقترن التوبة بإعدام جماعي لعدد كبير من المذنبين، على أيديهم أنفسهم.

طريقة تنفيذ هذا الإعدام لا تقل شدة عن الإِعدام نفسه، فقد صدرت الأوامر الإِلهية أن يقتل المذنبون بعضهم بعضاً، وفي ذلك عذابان للمذنب: عذاب قتل الأصدقاء والمعارف على يديه، وما ينزل به ـ هو نفسه ـ من عذاب القتل.

وجاء في الأخبار أن موسى أمر في ليلة ظلماء كل الجانحين إلى عبادة العجل، أن يغتسلوا ويرتدوا الأكفان ويعملوا السيف بعضهم في البعض الآخر.

ولعلك تسأل عن السبب في قساوة هذه التوبة ولماذا لم يقبل الله تعالى منهم التوبة دون إراقة للدماء؟

الجواب: إن السبب في شدّة هذا الحكم ـ كما ذكرنا ـ يعود إلى عظمة الذنب الذي إرتكبوه بعد كل ما شاهدوه من آيات ومعاجز، وإلى أن هذا الذنب يهدّد

(228)

وجود الدعوة ومستقبلها لإن اُصول ومبادئ جميع الأديان السماوية يمكن إختزالها في التوحيد، فلو تزلزل هذا الأصل فإن ذلك يعني إنهيار جميع اللبنات الفوقية والمباني الحضارية للدين، فلو تساهل موسى(عليه السلام) مع ظاهرة عبادة العجل، لأمكن أن تبقى سُنّة في الأجيال القادمة، خاصة وأن بني إسرائيل كانوا على مرّ التاريخ قوماً متعنتين لجوجين.

ولابدّ إذن من عقاب صارم يبقى رادعاً للأجيال التالية عن السقوط في هاوية الشرك.

ولعل في عبارة قوله تعالى: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) إشارة إلى هذا المعنى.

* * *

(229)

الآيتان

وَإِذْ قُلْتُمْ يَـمُوسَى لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّـعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(55) ثُمَّ بَعَثْنَـكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56)

التّفسير

طلب عجيب!

هاتان الآيتان تذكّران بني إسرائيل بنعمة إلهية اُخرى، كما توضحان في الوقت نفسه روح اللجاج والعناد في هؤلاء القوم، وتبيان ما نزل بهم من عقاب إلهي، وما شملهم الله به من رحمة بعد ذلك العقاب.

تقول الآية الاُولى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

هذا الطلب قد ينم عن جهل بني إسرائيل، لأن إدراك الإِنسان الجاهل لا يتعدّى حواسه. ولذلك يرمي إلى أن يرى الله بعينه.

أو قد يحكي هذا الطلب عن ظاهرة لجاج القوم وعنادهم التي يتميزون بها دوماً.

على أي حال، طلب بنو إسرائيل من نبيهم بصراحة أن يروا الله جهرة، وجعلوا ذلك شرطاً لإيمانهم.

عندئذ شاء الله سبحانه أن يرى هؤلاء ظاهرة من خلقه لا يطيقون رؤيتها، ليفهموا أن عينهم الظاهرة هذه لا تطيق رؤية كثير من مخلوقات الله، فما بالك برؤية الله سبحانة نزلت الصاعقة على الجبل وصحبها برق شديد ورعد مهيب

(230)

وزلزال مروع، فتركهم، على الأرض صرعى من شدة الخوف (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

اغتم موسى لما حدث بشدّة، لأن هلاك سبعين نفراً من كبار بني إسرائيل، قد يوفّر الفرصة للمغامرين من أبناء القوم أن يثيروا ضجّة بوجه نبيهم. لذلك تضرّع موسى إلى الله أن يعيدهم إلى الحياة، فقبل طلبه وعادوا إلى الحياة: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

هذا باختصار شرح الواقعة، وسيأتي تفصيلها في سورة الأعراف، الآية 155، وسورة النساء الآية 153(1).

هذه القصة تبين من جانب آخر ما عاناه الأنبياء من مشاكل كبرى على طريق دعوتهم. كان قومهم يطلبون منهم معاجز خاصة، وكان العناد يبلغ ببعض الأقوام حداً يطلبون فيه أن يروا الله جهرة، شرطاً لإِيمانهم. وحينما يواجه هذا الطلب غير المنطقي بجواب إلهي مناسب حاسم تحدث للنبي مشكلة اُخرى. ولولا لطف الله وتثبيته لما كان بالإِمكان المقاومة تجاه كل هذا العناد.

هذه الآية تشير ضمناً إلى إمكان «الرجعة»، أي الرجوع إلى هذه الحياة الدنيا بعد الموت. لأن وقوعها في مورد يدل على إمكان الوقوع في موارد اُخرى.

ولكن عدد من مفسري أهل السنة أوّلوا «الموت» في هذه الآية إلى غير المعنى الظاهر لعدم رغبتهم في قبول «الرجعة»(2)

* * *

___________________________

1 ـ راجع المجلدين الثالث والخامس من هذا التّفسير.

2 ـ ذهب صاحب المنار، إلى أن المقصود بالبعث بعد الموت، منح الذرية الكثيرة لبني إسرائيل كي لا ينقطع نسلهم، وقال الآلوسي في «روح المعاني» إن الموت هنا يعني الغيبوبة، والبعث يعني صحوة بني إسرائيل من غيبوبتهم، وراح بعض يفسّر الموت بالجهل، والبعث بالتعليم.

ولكن هذه المعاني كلها بعيدة عن هذه الآية والآيات المشابهة لها في سورة الأعراف، ولا تليق بمفسر ينشد فهم الحقيقة.

(231)

الآيتان

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَـتِ مَا رَزَقْنَـكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(57)

التّفسير

النّعم المتنوعة

بعد أن نجا بنو إسرائيل من الفرعونييّن، تذكر الآيات 23 ـ 29 من سورة المائدة، أن بني إسرائيل أُمروا لأن يتجهوا إلى أرض فلسطين المقدسة، لكن هؤلاء عصوا هذا الامر، وأصروا على عدم الذهاب مادام فيها قوم جبارون (العمالقة)، وأكثر من ذلك تركوا أمر مواجهة هؤلاء الظالمين لموسى وحده قائلين له: (فَاذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ)(1).

تألم موسى لهذا الموقف ودعا ربه (قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(2) فكتب عليهم التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء.

___________________________

1 ـ المائده، 24.

2 ـ المائدة، 25.

(232)

مجموعة من التائهين ندمت على ما فعلته أشد الندم، وتضرعت إلى الله، فشمل الله سبحانه بني إسرائيل ثانية برحمته، وأنزل عليهم نعمه التي تشير الآية إلى بعضها: (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ).

والظّل له أهمية الكبرى لمن يطوي الصحراء طيلة النهار وتحت حرارة الشمس اللاّفحة، خاصة أن مثل هذا الظّل لا يضيّق الفضاء على الإِنسان ولا يمنع عنه هبوب النسيم.

يبدو أن الغمام الذي تشير إليه الآية الكريمة، ليس من النوع العابر الذي يظهر عادة في سماء الصحراء، ولا يلبث أن يتفرق ويزول، بل هو من نوع خاص تفضل به الله على بني إسرائيل ليستظلوا به بالقدر الكافي.

وإضافة إلى الظل فانّ الله سبحانه وفّر لبني إسرائيل بعد تيههم الطعام الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه خلال أربعين عاماً خلت من ضياعهم: (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ).

لكن هؤلاء عادوا إلى الكفران: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). وسنشرح «المن» و«السلوى» في البحوث الآتية.

* * *

1 ـ الحياة الجديدة بعد التحرر:

الاُمّة التي تتحرر بعد عصر من الذّل والاستضعاف والاستعباد، لا تستطيع أن تتخلى تماماً عن حالتها النفسية والثقافية الموروثة عن عصر الطاغوت، ولابدّ من فترة برزخية تمر بها كي تكون قادرة على إقامة حكم الله في الأرض، وفق معايير إلهية بعيدة عن مؤثرات عصر الطاغوت.

وسواء امتدت هذه الفترة البرزخية أربعين عاماً كما حدث لبني إسرائيل، أو

(233)

أقل أو أكثر، فهي فترة عقاب إلهي هدفها التزكية والإِصلاح والبناء لأنّ مجازاة الله ليست لها جنبة انتقامية.

ولابدّ أن يبقى بنو اسرائيل فترة أربعين عاماً من «التيه» في الصحراء ليتربّى جيل جديد حامل لصفات توحيدية ثورية، ومؤهل لإقامة الحكم الإِلهي في الأرض المقدسة.

* * *

2 ـ المنّ والسّلوى:

تعددت أقوال المفسرين في معنى هاتين الكلمتين، ولا حاجة إلى استعراضها جميعاً، بل نكتفي بذكر معناهما اللغوي، ثم نذكر تفسيراً واحداً لهما هو في اعتقادنا أوضح التفاسير وأقربها إلى الفهم القرآني.

«المنّ» شيء كالطلّ فيه حلاوة يسقط على الشجر(1) أو بعبارة اُخرى هو عصارة شجر ذات طعم حلو، وقيل طعم حلو ممزوج بالحموضة.

و«السّلوى» يعني التسلّي، وقال بعض اللغويين وجمع من المفسرين إنه «طائر».

وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الكماة من المنّ».

وذهب البعض إلى أن «المنّ» هو جميع ما أنعم الله تعالى على بني إسرائيل ومنّ عليهم. و«السّلوى» هي جميع المواهب والملكات النفسانية التي توجب لهم التسلية والهدوء النفسي.

وهو مع مخالفته لرأي معظم المفسرين، يخالف ظاهر الآية حيث تقول: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وفي هذا التعبير دلالة واضحة على أن المنّ

___________________________

1 ـ المفردات، للراغب الأصفهاني.

(234)

والسلوى نوعان من الطعام. وهذه العبارة وردت كذلك في الآية 160 من سورة الأعراف.

وتذكر التوراة أن «المنَّ» حبٌّ يشبه بذر الكزبرة يتساقط على الأرض ليلا، وكان بنو إسرائيل يجمعونه ويصنعون منه خبزاً ذا طعم خاص.

وثمة احتمال آخر هو أن الأمطار الغزيرة النافعة التي هطلت بفضل الله على تلك الصحراء أثرت على أشجار تلك المنطقة فأفرزت عصارة حلوة استفاد منها بنو إسرائيل.

واحتمل بعضهم أن يكون «المنّ» نوعاً من العسل الطبيعي حصل عليه بنو إسرائيل في الجبال والمرتفعات المحيطة بصحراء التيه. وهذا التّفسير يؤيد ما ورد من شروح على العهدين (التوراة والإِنجيل) حيث جاء: «الأراضي المقدسة معروفة بكثرة أنواع الأوراد والأزهار، ومن هنا فإن مجاميع النحل تبني خلاياها في أخاديد الصخور وعلى أغصان الأشجار وثنايا بيوت النّاس، بحيث يستطيع أفقر النّاس أن يتناول العسل»(1).

بشأن «السلوى» قال بعض المفسرين إنه العسل، وأجمع الباقون على أنه نوع من الطير، كان يأتي على شكل أسراب كبيرة إلى تلك الأرض، وكان بنو إسرائيل يتغذون من لحومها.

في النصوص المسيحية تأييد لهذا الرأي حيث ورد في تفسير على العهدين ما يلي: «إعلم أن السلوى تتحرك بمجموعات كبيرة من افريقيا، فتتجه إلى الشمال، وفي جزيرة كابري وحدها يصطاد من هذا الطائر 16 ألفاً في الفصل الواحد... هذا الطائر يجتاز طريق بحر القلزم، وخليج العقبة والسويس، ويدخل شبه جزيرة سيْناء. وبعد دخوله لا يستطيع أن يطير في إرتفاعات شاهقة لشدّة ما

___________________________

1 ـ قاموس الكتاب المقدس، ص 612.

(235)

لاقاه من تعب وعناء في الطريق، فيطير على إرتفاع منخفض ولذلك يمكن اصطياده بسهولة ... وورد ذكر ذلك في سفر الخروج وسفر الأعداء من التوراة»(1).

يستفاد من هذا النص أن المقصود بالسلوى طير خاص سمين يشبه الحمام معروف في تلك الأرض.

شاء الله بفضله ومنّه أن يكثر هذا الطير في صحراء سيناء آنئذ لسدّ حاجة بني إسرائيل من اللحوم، ولم تكن هذه الكثرة من الطير طبيعية في تلك المنطقة.

* * *

3 ـ لماذا قالت الآية «أَنْزَلْنَا»؟

عبرت الآية الكريمة عن نعمة تقديم المن والسلوى بالإِنزال، وليس الإِنزال دائماً إرسال الشيء من مكان عال، كقوله تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانَيِةَ أَزْوَاج)(2).

واضح أن الأنعام لم تهبط من السماء، من هنا فالإِنزال في مثل هذه المواضع:

إمّا أن يكون «نزولا مقامياً» أي نزولا من مقام أسمى إلى مقام أدنى.

أو أن يكون من «الإِنزال» بمعنى الضيافة، يقال أنزلت فلاناً: أي أضفته، والنزل (على وزن رُسُل) ما يُعدّ للنازل من الزاد، ومنه قوله تعالى: (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيم)(3) و قوله سبحانه: (خَالِدينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ الله)(4).

وتعبير «الإِنزال» للمنّ والسلوى، قد يشير إلى أن بني إسرائيل كانوا ضيوف الله في الأرض، فاستضافهم بالمن والسلوى.

ويحتمل أن يكون الإِنزال بمعنى الهبوط من الأعلى لأن النعم المذكورة وخاصة (السلوى) تهبط إلى الأرض من الأعلى.

___________________________

1 ـ قاموس الكتاب المقدس، ص 483.

2 ـ الزمر، 6.

3 ـ الواقعة، 93.

4 ـ آل عمران، 198.

(236)

* * *

4 ـ ما هو الغمام؟

قيل: الغمام والسحاب بمعنى واحد، وقيل الغمام هو السحاب الأبيض، وذكروا في وصفه أنه أبرد وأرق من السحاب، والغمام في الأصل من الغمّ وهو تغطية الشيء، وسمّي الغمام بهذا الاسم لأنه يغطي صفحة السماء، وسمّي الهمُّ غماً بهذا الاسم لأنه يحجب القلب(1).

على أي حال، قد يشير تعبير «الغمام» إلى أن بني إسرائيل، كانوا يستفيدون من ظل الغمام إضافة إلى تمتعهم بالنور الكافي لبياض هذه السّحبة.

* * *

___________________________

1 ـ تفسير «روح المعاني» في تفسير الآية المذكورة، والمفردات مادة «غمّ».

(237)

الآيتان

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـيَـكُمْ وَسَنَزِيدُ الُْمحْسِنِينَ(58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ(59)

التّفسير

عناد بني إسرائيل

وهنا نصل إلى مقطع جديد من حياة بني إسرائيل، يرتبط بورودهم الأرض المقدسة. تقول الآية الاُولى: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) والقرية كل مكان يعيش فيه جمع من النّاس، ويشمل ذلك المدن الكبيرة والصغيرة، خلافاً لمعناها الرائج المعاصر. والمقصود بالقرية هنا بيت المقدس.

ثم تقول الآية: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)أي حطّ عنا خطايانا، (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الُْمحْسِنِينَ).

كلمة «حطّة» في اللغة، تأتي بمعنى التناثر والمراد منها في هذه الآية الشريفة، الهنا نطلب منك أن تحطّ ذنوبنا واوزارنا.

(238)

أمرهم الله سبحانه أن يردّدوا من أعماق قلوبهم عبارة الإِستغفار المذكورة، ويدخلوا الباب، ويبدو أنه من أبواب بيت المقدس(1)، وقد يكون هذا سبب تسمية أحد أبواب بيت المقدس «باب الحطة».

والآية تنتهي بعبارة (وَسَنَزِيدُ الُْمحْسِنِينَ) أي أن المحسنين سينالون المزيد من الأجر آضافة إلى غفران الخطايا.

والقرآن يحدثنا عن عناد مجموعة من بني إسرائيل حتى في ترتيل عبارة الإِستغفار، فهؤلاء لم يرددوا العبارة بل بدلوها بعبارة اُخرى فيها معنى السخرية والإِستهزاء، والقرآن يقول عن هؤلاء المعاندين: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) وكانت نتيجة هذا العناد ما يحدثنا عنه كتاب الله حيث يقول: (فَأنَزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).

و«الرجز» أصله الإِضطراب ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ ومنه قيل رجز البعير إذا اضطرب مشيه لضعفه.

ويقول «الطبرسي» في «مجمع البيان»: إنّ الرجز يعني العذاب عند أهل الحجاز، ويروي عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله بشأن مرض الطاعون: «إِنَّهُ رِجْزٌ عُذّبَ بِهِ بَعضُ الاُْمَمِ قَبْلَكُمْ»(2).

ومن هنا يتضح سبب تفسير «الرجز» في بعض الروايات أنه نوع من الطاعون فشا بسرعة بين بني إسرائيل وأهلك جمعاً منهم.

قد يقال إن الطاعون لا ينزل من السماء، لكن هذا التعبير قد يشير إلى حقيقة انتشار هذا المرض عن طريق الهواء الملوّث بميكروب الطاعون الذي هبّ بأمر الله آنذاك في بيئة بني إسرائيل.

يلفت النظر أن من عوارض الطاعون اضطراباً في المشي والكلام، وهذا

___________________________

1 ـ على رواية أبي حيان الأندلسي، نقلا عن تفسير «الكاشف».

2 ـ راجع حول معنى «الجز» الجزء الخامس من هذا التّفسير.

(239)

يتناسب مع أصل معنى «الرجز» تماماً.

ومن الملفت للنظر أيضاً أن القرآن يؤكد أن هذا العذاب نزل (عَلَى الَّذِينَ ظَلموا) فقط، ولم يشمل جميع بني إسرائيل.

ثم تذكر الآية تأكيداً آخر على سبب نزول العذاب على هذه المجموعة من بني إسرائيل بعبارة: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).

والآية الكريمة بعد ذلك تبين بشكل غير مباشر سنة من سنن الله تعالى، هي أن الذنب حينما يتعمق في المجتمع ويصبح عادة اجتماعية، عند ذاك يقترب احتمال نزول العذاب الإِلهي.

* * *

(240)

الآية

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَاً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللهِ وَلاَ تَعْثَواْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ(60)

التّفسير

انفجار العيون في الصّحراء

تذكير آخر بنعمة اُخرى من نعم الله على بني إسرائيل: وهذا التذكير تشير إليه كلمة «إذ» المقصود منها (وَاذكُرُوا إِذ)، وهذه النعمة أغدقها الله عليهم، حين كان بنو إسرائيل في أمسّ الحاجة إلى الماء وهم في وسط صحراء قاحلة، فطلب موسى(عليه السلام) من الله عزّ وجلّ الماء: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسى لِقَوْمِهِ)، فتقبل الله طلبه، وأمر نبيّه أن يضرب الحجر بعصاه: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) بعدد قبائل بني إسرائيل.

وكل عين جرت نحو قبيلة بحيث أن كل قبيلة كانت تعرف العين التي تخصّها (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَشْرَبَهُمْ).

كثرت الأقوال في طبيعة الحجر الذي انفجرت منه العيون، وكيفية ضربه

(241)

بالعصا، والقرآن لا يزيد على ذكر ما سبق.

قال بعض المفسرين: إن هذا الحجر كان في ثنايا الجبال المطلة على الصحراء وتدل جملة «انبجست» الواردة في الآية 160 من سورة الاعراف على أن المياه جرت قليلة أولا، ثم كثرت حتى ارتوى منها كل قبائل بني إسرائيل مع مواشيهم ودوابهم.

ظاهرة انفجار المياه من الصخور طبيعية، لكن الحادثة هنا مقرونة بالإِعجاز كما هو واضح.

ثمة أقوال تذكر أن ذلك الحجر كان من نوع خاص حمله بنو إسرائيل معهم، ومتى احتاجوا إلى الماء ضربه موسى بعصاه فيجري من الماء. وليس في القرآن ما يثبت ذلك، وإن أشارت إليه بعض الروايات.

في الفصل السابع عشر من «سفر الخروج» تذكر التوراة:

فقال الرب لموسى سر قدام الشعب وخذ معك من شيوخ إسرائيل وعصاك التي ضربت بها النهر خذها في يدك واذهب ـ ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب فتضرب الصخر فيخرج منها ماء ليشرب الشعب ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل»(1).

لقد مَنّ الله على بني إسرائيل بإنزال المنّ والسلوى، وفي هذه المرّة يمنّ عليهم بالماء الذي يعزّ في تلك الصحراء القاحلة، ثم يقول سبحانه لهم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلاَ تَعْثَوا فِي الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ).

وفي هذه العبارة حث لهم على ترك العناد وإيذاء الأنبياء، وأن يكون هذا أقل شكرهم لله على هذه النعم.

* * *

___________________________

1 ـ الفصل السابع عشر، العدد 6 و 5.

(242)

1 ـ الفرق بين العثّي والإِفساد

نهى الله سبحانه بني إسرائيل عن الفساد بفعل (لاَ تَعْثَوا)، من العثّي وهو شدة الفساد، وتشبه في معناها «العيث»، إلاّ أنّ العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حساً، والعثيّ فيما يدرك حُكماً(1). وبهذا يكون معنى (لاَ تَعْثَوا) هو معنى «المفسدين» ولكنه مع تأكيد أشد.

وقد تشير عبارة النهي بأجمعها إلى حقيقة بدء الفساد من نقطة صغيرة، واتساعها واشتدادها بعد ذلك. أي تبدأ بالفساد وتنتهي بالعثيّ الأرض، وهو شدة الفساد واتساعه.

2 ـ المعاجز في حياة بني إسرائيل

قد تثير مسألة انفجار الماء من الحجر وما شابهها من المعاجز في حياة الأنبياء تساؤلات في ذهن أولئك الذين لم يستوعبوا منطق الإِعجاز. ولا نريد هنا أن نتعرض إلى مسألة الإِعجاز، لأنها تحتاج إلى بحث مستقل. ونكتفي بالقول: إن المعجزة ليست أمراً محالا، وليست استثناءً في قانون العليّة. بل إنها خرق لما ألفناه واعتدنا عليه، أو بعبارة اُخرى، خرق لما ألفناه في حياتنا اليوميّة من ارتباط بين العلة والمعلول.

وطبيعي أن تغيير مسير العلل والمعلولات ليس بعسير على الله سبحانه، ولو خلق الله هذه العلل والمعلولات منذ البدء بشكل آخر غير ما هي عليه اليوم، لكان هذا الذي نألفه اليوم خارقاً للعادة.

باختصار، خالق عالم الوجود و نظام العليّة حاكم على ما خلق لا محكوم

___________________________

1 ـ المفردات، مادة عثى.

(243)

له. وفي حياتنا اليومية صور كثيرة للإِستثناءات في النظام القائم للعلل والمعلولات. ومسألة الإِعجاز لا تشكل أية مشكلة عقلية أو علمية.

3 ـ الفرق بين الإِنفجار والإِنبجاس

في الآية المذكورة ورد الفعل «انفجر» ليعبّر عن تدفق الماء من الحجر، بينما ورد الفعل «انبجس» في الآية 160 من سورة الأعراف ليشير إلى نفس الحقيقة مع فارق هو أن الأول يفصح عن شدة تدفّق الماء، والثاني عن سيلانه بشكل هادىء.

لعل آية سورة الأعراف تتحدث عن المرحلة الاُولى من ظهور الماء، وجريانه بشكل هادىء لا يثير فزع القوم، ولا يمنعهم من السيطرة عليه، بينما تشير الآية التي نحن في صددها إلى المرحلة النهائية حيث اشتد جريان الماء.

والراغب في مفرداته يفسر الإِنبجاس والإِنفجار بشكل يتناسب مع ما أشرنا إليه إذ يقول: بجس الماء وانبجس: انفجر، لكن الإِنبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق. والإِنفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع.

* * *

(244)

الآية

وَإِذْ قُلْتُمْ يَـمُوسَى لَنْ نَّصْبِرَ عَلَى طَعَام وَحِد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الاَْرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّـآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْـتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَب مِّنَ اللهِ ذَ لِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بَـَـايَـتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَ لِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(61)

التّفسير

المطالبة بالأطعمة المتنوعة

بعد أن شرحت الآيات السابقة نِعَم الله على بني إسرائيل، ذكرت هذه الآية صورة من عنادهم وكفرانهم بهذه النعم الكبرى.

تتحدث الآية أولا عن مطالبة بني إسرائيل نبيّهم بأطمعة متنوعة بدل اطعام الواحد (المَنّ وَالسَّلْوى): (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الاَْرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا).

فخاطبهم موسى (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ إِهْبِطُوا

(245)

مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُم).

ويضيف القرآن: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوَ بِغَضَب مِنَ اللهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).

* * *

1 ـ آراء المفسرين في كلمة «مصر»

من المفسرين من قال إن المقصود من كلمة «مصر» في الآية الكريمة هو المفهوم العام للمدينة. وقوله سبحانه: (إِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ)، أي إنكم الآن تعيشون في هذه الصحراء ضمن إطار منهج للإِختبار وبناء الذات، وليس هذا مكان الأطعمة المتنوعة، إذهبوا إلى المدن حيث التنوع في المأكولات، ولكن لا يوجد فيها المنهج المذكور.

ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن بني إسرائيل لم يطلبوا العودة إلى «مصر» موطنهم السابق ولم يعودوا إليه إطلاقاً(1).

ومنهم من اختار هذا التّفسير لمصر، وأضاف إليه أن المقصود من قوله تعالى: (إِهْبِطُوا ...) هو أن بقاءكم في الصحراء واقتصاركم على الطعام الواحد يعودان إلى ضعفكم، فكونوا أقوياء، وحاربوا الأعداء، وحرروا من سيطرتهم مدن الشام والأرض المقدسة، ليتوفر لكم ما شئتم(2).

وهناك رأي ثالث للمفسرين هو أن المقصود من «مصر» البلد المعروف. ويكون المعنى عندئذ: إنكم في هذه الصحراء الخالية من الأطعمة المتنوعة

___________________________

1 ـ التنوين في كلمة (مصر) دليل على تنكيرها، وعلى عدم اختصاصها بالأرض المعروفة.

2 ـ تفسير المنار، ذيل الآية المذكورة.

(246)

تملكون الإِيمان والحرية والإِستقلال، وإن أبيتم إلاّ أن تكون لكم أطعمة متنوعة، فارجعوا إلى مصر حيث الذل والإِستعباد، لتأكلوا من فتات موائد الفراعنة. إن مشتهيات بطونكم أنستكم ما كنتم تعانون منه من ذل واستعباد، وما حصلتم اليوم عليه من حرية ورفعة وافتخار، وما تتحملونه من حرمان يسير إنما هو ثمن لحريتكم(1).

ويبدو أن التّفسير الأول أنسب من التاليين.

* * *

2 ـ التنوع وطبيعة الإِنسان

التنوع هو ـ دون شك ـ من متطلبات البشر، وحبّ التنويع خصلة طبيعية في البشر. والإِنسان ـ إن استمرّ على تناول طعام معين لمدّة طويلة ـ يمل ذلك الطعام. فلم إذن توجه اللوم والتقريع إلى بني إسرائيل حين طلبوا الخضروات و الخيار والثوم والعدس والبصل ليتخلصوا من الطعام الواحد؟!

الجواب يتضح لو علمنا أنّ الحياة الإِنسانية تقوم على أساس حقائق هامّة لا يمكن التخلّي عنها، هي الإِيمان والطهر والتقوى والتحرّر. وقد تمرّ الجماعة البشرية بمرحلة يتعارض فيها هذا الأساس الهام مع متطلبات الإِنسان من الطعام والشراب واللذائذ الاُخرى. وهنا تصبح الجماعة أمام خيارين، إمّا أن تنغمس في اللذات وتترك قيمها وشرفها، أو تضحي بلذّاتها من أجل إنسانيتها وكرامتها.

بنو إسرائيل كانو يعيشون أمام هذين الخيارين.

ولابدّ من الإِشارة إلى أن حقيقة حبّ التنويع استغلها الطامعون والمستعمرون دوماً، ليدفعوا الشعوب إلى هاوية حياة استهلاكية شهوانية هابطة،

___________________________

1 ـ في ظلال القرآن.

(247)

يعيش الأفراد فيها بين المعلف والمضجع، ناسين شخصيتهم الإِنسانية، وغافلين عن النير الذي يطوق أعناقهم.

* * *

3 ـ هل «المنّ» و«السلوى» خير الأطعمة؟

حين طلب بنو إسرائيل أطعمة متنوعة جاءهم التقريع بالقول: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)؟! أي أتختارون الأدنى وتتركون الأفضل؟! ويبدو أن المقصود بالأفضل هنا هو ما لديهم من طعام متمثل بالمن والسلوى. غير أن التفضيل الذي يطرحه القرآن هنا يعود إلى الحياة بكل أبعادها، والتقريع يتجه إلى بني إسرائيل لرغبتهم في التنويع مع ما قد يكشف هذا التنويع من ذلّ وهوان.

وعلى صعيد القيمة الغذائية، فإن الأطعمة النباتية التي طلبها بنو إسرائيل لها قيمتها الغذائية طبعاً، غير أن مقدار الموارد الغذائية النافعة الموجودة في «المن» ـ وهو العسل أو مادة سكرية مقوّية ـ وكذلك في لحوم السلوى يفوق ما في الأطعمة النباتية المذكورة، كما أن المن والسلوى أسهل هضماً من الحبوب المذكورة(1).

ولا بأس من الإِشارة إلى أن «الفوم» الذي طلبه بنو إسرائيل فُسِّر بالحنطة مرة وبالثوم مرة اُخرى، ولكلّ من المادتين قيمتها الغذائية، ويرى بعض أن تفسير الفوم بالقمح أصحّ لاستبعاد أن يطلب القوم طعاماً خالياً من القمح(2).

___________________________

1 ـ راجع: «قرآن بر فراز قرون واعصار»، (فارسي)، ص 112.

2 ـ نفسير القرطبي.

(248)

* * *

4 ـ ذلة بني إسرائيل ومسكنتهم

تفيد الآية الكريمة أن بني إسرائيل (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوَ بِغَضَب مِنَ اللهِ) لعاملين:

الاُوّل ـ لكفرهم بآيات الله، وانحرافهم عن خط التوحيد.

الثاني ـ لقتلهم الأنبياء بغير حق.

ظاهرة الإِنحراف عن خط التوحيد وظاهرة القسوة والفظاظة، لا زالتا مشهودتين حتى اليوم عند جمع من هؤلاء القوم، ولا زالتا سبباً لشقاوتهم وطيشهم وتعاستهم(1).

في تفسير الآية 112 من سورة آل عمران تحدثنا بالتفصيل عن مصير اليهود وحياتهم التعيسة، (المجلد الثاني من هذا التّفسير).

* * *

___________________________

1 ـ نحن إذ نكتب هذه السطور، تصلنا أنباء عما ارتكبه هؤلاء القوم في لبنان، من أعمال قاسية وحشية ذهب ضحيتها الآلاف من المدنيّين العزل، خلال مجازر وحشية. قلّ أن شهد لها التاريخ نظيراً. وسيدفع هؤلاء المجرمون الثمن غالياً لفعلتهم الشنعاء هذه، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ).

(249)

الآية

إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَـرَى وَالصَّـبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَعَمِلَ صَـلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(62)

التّفسير

القانون العام للنّجاة

بعد عرض لمقاطع من تاريخ بني إسرائيل، تطرح هذه الآية الكريمة مبدأ عاماً في التقييم وفق المعايير الإلهية. وهذا المبدأ ينص على أن الإِيمان والعمل الصالح هما أساس تقييم الأفراد، وليس للتظاهر والتصنّع قيمة في ميزان الله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصارى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).

هذه الآية تكررت مع اختلاف يسير في سورة المائدة، الآية 72 وفي سورة الحج الآية 17.

سياق الآية في سورة المائدة يشير إلى أن اليهود والنصارى فخِروا بدنيهم، واعتبروا أنفسهم أفضل من الآخرين، وادّعوا بأن الجنّة خاصة بهم دون غيرهم.

ولعل مثل هذا التفاخر صدر عن بعض المسلمين أيضاً، ولذلك نزلت هذه

(250)

الآية الكريمة لتؤكد أن الإِيمان الظاهري لاقيمة له في الميزان الإلهي، سواء في ذلك المسلمون واليهود والنصارى وأتباع الأديان الاُخرى. ولتقول الآية أيضاً: إن الأجر عند الله يقوم على أساس الإِيمان الحقيقي بالله واليوم الآخر إضافة إلى العمل الصالح. وهذا الأساس هو الباعث الوحيد للسعادة الحقيقة والإِبتعاد عن كل خوف وحزن.

تساؤل هام!

بعض المضللين اتخذوا من الآية الكريمة التي نحن بصددها وسيلة لبثّ شبهة مفادها أن العمل بأي دين من الإديان الإِلهية له أجر عند الله، وليس من اللازم أن يعتنق اليهودي أو النصراني الإِسلام، بل يكفي أن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً.

الجواب: نعلم أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً، والكتاب العزيز يقول: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاِْسْلاَمِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)(1).

كما أن القرآن مليء بالآيات التي تدعو أهل الكتاب إلى اعتناق الدين الجديد، وتلك الشبهة تتعارض مع هذه الآيات. من هنا يلزمنا أن نفهم المعنى الحقيقي للآية الكريمة.

ونذكر تفسيرين لها من أوضح وأنسب ما ذكره المفسرون:

1 ـ لو عمل اليهود والنصارى وغيرهم من أتباع الأديان السماوية بما جاء في كتبهم، لآمنوا حتماً بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن بشارات الظهور وعلائم النّبي وصفاته مذكورة في هذه الكتب السماوية، وسيأتي شرح ذلك في تفسير الآية 146 من سورة البقرة.

___________________________

1 ـ آل عمران، 85.

(251)

2 ـ هذه الآية تجيب على سؤال عَرَضَ لكثير من المسلمين في بداية ظهور الإِسلام، يدور حول مصير آبائهم وأجدادهم الذين لم يدركوا عصر الإِسلام، تُرى، هل سيؤاخذون على عدم إسلامهم وإيمانهم؟!

الآية المذكورة نزلت لتقول إن كل أُمّة عملت في عصرها بما جاء به نبيّها من تعاليم السماء وعملت صالحاً; فإنها ناجية، ولا خوف على أفراد تلك الاُمّة ولا هم يحزنون.

فاليهود المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور المسيح، والمسيحيون المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور نبي الإِسلام.

وهذا المعنى مستفاد من سبب نزول هذه الآية كما سيأتي.

* * *

1 ـ قصّة سلمان الفارسي(رحمه الله)

إكمالا للبحث، لا بأس أن نذكر هنا سبب نزول هذه الآية كما جاء في جامع البيان للطبري:

«كان سلمان من جنديسابور، وكان من أشرافهم، وكان ابن الملك صديقاً له مؤاخياً، لا يقضي واحد منهم أمراً دون صاحبه. وكانا يركبان إلى الصيد معاً. فبينما هما في الصيد، إذ بدا لهما بيت من خباء، فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف، يقرأ فيه، وهو يبكي.

سألاه: ما هذا؟

قال: إن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا، حتى أُعلّمكما. فنزلا إليه.

فقال لهما: هذا كتاب من عند الله، أمر فيه بطاعته، ونهى عن معصيته، فيه ان لا تزني ولا تسرق ولا تأخذ أموال النّاس بالباطل، فقص عليهما ما فيه، و هو

(252)

الإِنجيل الذي أنزله الله على عيسى.

فوقع في قلوبهما، وتابعاه، فأسلما.

وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام. فلم يزالا معه كذلك يتعلّمان منه.

ثم اتفق أن كان للملك عيد، فجعل طعاماً، ودعى إليه الأشراف، فأبى ابن الملك أن يحضر الوليمة، فدعاه أبوه فقال له: ما أمرك هذا؟

قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم، إنكم كفار لا تحل ذبائحكم.

قال له الملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمر بذلك.

فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابني؟

قال: صدق ابنك.

قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك، ولكن اخرج من أرضنا. فأجّله أجلا.

قال سلمان: فقمنا نبكي عليه، فقال لهما: إن كنتما صادقين فأنا في بيعة في الموصل، مع ستين رجلا نعبد الله فيها، فأتونا فيها، فخرج الراهب، وبقي سلمان وابن الملك، فجعل يقول لابن الملك: إنطلق بنا، وابن الملك يقول: نعم.

وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان، خرج سلمان حتى أتاهم، فنزل على صاحبه، وهو ربّ البيعة، وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان. فكان سلمان معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه.

قال له الشيخ يوماً: إنك غلام حدث، تتكلف من العبادة ما لا تطيق، وأنا خائف أن تفتر وتعجز، فارفق بنفسك، وخفف عليها.

قال له سلمان: أرأيت الذي تأمرني به أهو أفضل أو الذي أصنع؟

قال: بل الذي تصنع.

قال: فخلّ عني، ثم إن صاحب البيعة دعاه، فقال: إني رجل أضعف عن عبادة هؤلاء، وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة اُخرى هم أهون عبادة من هؤلاء، فإن شئت أن تقيمها هنا فأقم، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق.

(253)

قال له سلمان: أي البيعتين أفضل حالا؟

قال: هذه.

قال سلمان: فأنا أكون في هذه، وأوصى صاحبُ البيعة عالم البيعة بسلمان، فكان سلمان يتعبد معهم.

ثم إن الشيخ العالم عزم أن يأتي بيت المقدس، فقال لسلمان: إن أردت أن تنطلق معي فانطلق، وإن شئت أن تقيم فأقم.

فقال له سلمان: أيّهما أفضل أنطلق معك أم أقيم؟

قال: بل تنطلق معي، وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس.

فقال الشيخ لسلمان: أُخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم، فرجع يوماً حزيناً. فقال له الشيخ: ما لك يا سلمان؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم. فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن فإنه بقي نبي ليس من نبي بأفضل منه، وهذا زمانه الذي يخرج فيه، ولا أراني أدركه، وأما أنت فشاب لعلك تدركه، وهو يخرج في أرض العرب، فإن أدركته فآمن به واتبعه، فقال له سلمان: فأخبرني عن علامته بشيء، قال: نعم، هو مختوم في ظهره بخاتم النّبوة. وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.

ثم اتفق أن افترق سلمان عن الراهب لدى عودتهما من بيت المقدس، ففقده في الطريق، وبينما هو يبحث عنه إذ رآه رجلان عربيان من بني كلب، فأسراه، وأخذاه معهما إلى المدينة، قال سلمان: فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط، فاشترته امرأة من جهينة، فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوماً وهذا يوماً. فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فبينا هو يرعى يوماً إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه فقال: أعلمت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟! فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك. فذهب سلمان إلى

(254)

المدينة، فنظر إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ودار حوله، فلما رآه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عرف ما يريد. فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه. فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى طعاماً وجاء به، فقال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذا؟ قال سلمان: هذه صدقة. قال: لا حاجة لي بها فأخرجها فليأكل المسلمون. ثُمّ انطلق فاشترى طعاماً، فأتى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما هذا؟ قال: هدية. قال: فاقعد، فقعد فأكلا جميعاً منها. فبينا هو يحدثه، إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيّاً. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا سلمان هم من أهل النار. فاشتدّ ذلك على سلمان، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

* * *

2 ـ من هم الصّابئون؟

يقول الرّاغب الأصفهاني: الصّابئون قوم كانوا على دين نوح(1) وذكرهم إلى جانب المؤمنين واليهود والنصارى يدل على أنهم كانوا يدينون بدين سماوي ويؤمنون بالله واليوم الآخر.

واعتبر البعض أنهم مشركون، وقيل عنهم أنهم مجوس، وليسوا كذلك، لأن القرآن ذكرهم إلى جانب المشركين والمجوس إذا قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابئينَ وَالنَّصَارى وَالَْمجُوسَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا...)(2).

واختلف المفسّرون وأصحاب الملل والنحل في تشخيص هوية الصابئين، ووجه تسميتهم.

«الشّهرستاني» في «الملل والنحل» يقول: الصابئة من صبأ أي انحرف عن طريق الأنبياء، وهؤلاء قوم انحرفوا عن طريق الحق ودين الأنبياء فهم «صابئة».

ويقول «الفيومي» في «المصباح المنير»: إن «صبأ» تعني الخروج من الدين

___________________________

1 ـ المفردات، مادة صبا.

2 ـ الحج، 17.

(255)

إلى دين آخر.

وفي معجم (دهخدا) الفارسي: الصابئون جمع صابىء وهي كلمة مشتقة من (ص ـ ب ـ ع) العبرية التي تعني الغوص في الماء (أو التعميد)، وسقطت العين في التعريب، وتسمى هذه الطائفة التي تسكن خوزستان باسم (المغتسلة) لذلك.

دائرة المعارف الفرنسية، في المجلد الرابع، ص 22، ذكرت أن هذه الكلمة عربية وتعني الإِنغماس في الماء أو التعميد.

(جسينوس) الألماني يذهب إلى أن هذه الكلمة عبرية، ولا يستبعد أن تكون مشتقة من كلمة تعني «النّجم».

صاحب كتاب «كشاف اصطلاح الفنون» يقول: «الصابئون فرقة تعبد الملائكة ويقرأون (الزبور) ويتجهون نحو القبلة».

وجاء في كتاب «التنبيه والإِشراف» نقلا عن «الأمثال والحكم» ص 1666: «قبل أن يطرح (زراتشت) دعوة المجوسية على (جشتاسب)، وكان أهل هذه الديار على مذهب (الحنفاء)، وهم الصابئون، وهو دين جاء به (بوذاسب) على عهد (طهمورس)».

سبب اختلاف الآراء حول هذه الطائفة يعود إلى قلة أفرادها وإصرارهم على إخفاء تعاليمهم، وامتناعهم عن الدعوة إلى دينهم، واعتقادهم أن دينهم خاص بهم لا عام لكل النّاس، وأن نبيهم مبعوث إليهم لا لغيرهم. ولذلك أُحيطوا بكثير من الغموض واكتنفتهم الأسرار، وهم يتجهون نحو الإِنقراض.

الإِلتزام بتعاليمهم على غاية الصعوبة، ففيها أنواع الأغسال والتعميدات في الشتاء والصيف، ويميلون إلى الإِنزواء والإِبتعاد عن غير أبناء دينهم ويحرمون تزوّج النساء من غير الصابئين، وكثير منهم اعتنق الإِسلام نتيجة اختلاطهم بالمسلمين.

* * *

(256)

3 ـ معتقدات الصّابئين

يعتقد الصابئة أن أول كتاب مقدّس سماوي نزل على آدم، وبعده على نوح، ثم على سام، ثم على «رام»، ثم على إبراهيم الخليل، ثم على موسى، وأخيراً على يحيى بن زكريا.

كتبهم المقدسة:

1 ـ «كيزاربا» ويسمى أيضاً «سدره» أو «صحف» آدم، وفيه آراء حول كيفية بدء الخلق.

2 ـ كتاب «أدر أفشادهي» أو «سدرادهي» ويتحدث عن يحيى وتعاليمه ويعتقد الصابئة أنه موحى إلى يحيى عن طريق جبرائيل.

3 ـ كتاب «قلستا» وفيه تعاليم الزّواج والزّوجية، وهذا إلى جانب كتب كثيرة اُخرى يطول ذكرها.

يبدو ممّا سبق أنّ هؤلاء أتباع يحيى بن زكريا، الذي يسميه المسيحيون يحيى المعمّد، أو يوحنا المعمّد(1).

صاحب كتاب «بلوغ الإِرب» له رأي آخر بشأن الصّابئة، يقول:

«هم من يعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك ولا يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلاّ بنوء من الأنواء ويقول مطرنا بنوء كذا ... (2).

وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل(عليه السلام) وهو أهل دعوته وكانوا بحرّان، فهي دار الصابئة، وكانوا قسمين: صابئة حنفاء، وصابئة مشركين، والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر، ويصورونها في هياكلهم ... ويتخذون لها أصناماً تخصها ويقربون لها القرابين.

وطوائف منهم يصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلواتهم الكعبة

___________________________

1 ـ راجع لمزيد من التوضيح كتاب «آراء وعقايد بشري» (فارسي).

2 ـ الأنواء جمع نوء وهو النّجم مال للغروب، بلوغ الإِرب جزء، 26، ص 222 ـ 228.

(257)

ويعظمون مكة ويرون الحج إليها ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرابات في النكاح ما يحرم المسلمون، وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد منهم هلال بن المحسن الصّابي صاحب الديوان الإِنشائي وصاحب الرسائل المشهورة، وكان مع المسلمين ويعبد معهم ويزكي ويحرم المحرمات، وكان النّاس يعجبون من موافقته للمسلمين وليس على دينهم، وأصل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون محاسن ديانات العالم ومذاهبهم ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا، ولهذا سموا صابئة، أي خارجين، فقد خرجوا عن تقييدهم بجملة كل دين وتفصيله إلاّ مارأوه فيه من الحق(1)».

من مجموع ما سبق يتبين أن الصابئين كانوا في الأصل أتباع أحد الأنبياء وإن اختلف المحققون في تعيين نبيّهم. وتبين أيضاً أن عدد هؤلاء قليل وهم في حالة إنقراض.

* * *

___________________________

1 ـ بلوغ الإِرب، ج 2، ص 223 ـ 225.

(258)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338098

  • التاريخ : 29/03/2024 - 08:52

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net