00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية 158 ـ 176 ( من ص 450 ـ 496 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الأول)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآية

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ(158)

النّزول

كان المشركون في الجاهلية يأتون مكة لأداء مناسك الحج، وكانت هذه المناسك ذات أصل إبراهيمي مع كثير من التحريف والخرافات والشرك. فكانت المناسك عبارة عن الوقوف بعرفات والاضحية والطّواف والسّعي بين الصفا والمروة. ولكن بشكل خاص بالجاهليين.

وجاء الإسلام وأصلح هذه المناسك، وطهّرها مما علق بها من تحريف، وأقرّ ما كان صحيحاً منها ومن جملتها السعي بين الصفا و المروة.

واستناداً إلى روايات المؤرخين من الشّيعة وأهل السّنة أن المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنماً اسمه «أساف»، وعلى المروة صنماً آخر سموه «نائلة» وكانوا يتمسحون بهما لدى السعي، من هنا خال المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة عمل غير صحيح، وكرهوا أن يفعلوا ذلك. الآية المذكورة نزلت لتعلن أن الصفا والمروة من شعائر الله، وتلويثها بالشرك على

(450)

يد الجاهليين لا يبرر إعراض المسلمين عن السعي بينهما.

واختلف المفسرون في وقت نزول الآية، منهم من قال إنها نزلت في (عمرة القضاء) في السنة السابعة للهجرة، وكان من شروط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين في هذه السفرة رفع الصنمين من الصفا والمروة، وقد عملوا بهذا الشرط، لكنهم أعادوهما إلى محلهما. وهذا أدّى إلى كراهة المسلمين والسعي بين الصفا والمروة، فنزلت الآية لتنهاهم عن هذه الكراهة.

وقيل إنّها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة. ومن المؤكد أن مكة كانت في هذه السنة خالية من الأصنام. ومن هنا يلزمنا أن نعتبر كراهة المسلمين السعي بين الصفا والمروة بسبب السوابق التاريخية لهذين المكانين حيث انتصب فيهما «أساف ونائلة».

* * *

التّفسير

أعمال الجهلة لا توجب تعطيل الشعائر

هذه الآية الكريمة تستهدف إزالة ما علق في ذهن المسلمين ونفوسهم من رواسب بشأن الصفا والمروة كما مرّ في سبب النّزول، وتقول للمسلمين: (إِنَّ الصَّفا وَالْمُرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ).

ومن هذه المقدمة تخرج الآية بنتيجة هي: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).

لا ينبغي أن تكون أعمال المشركين الجاهليين عاملا على إيقاف العمل بهذه الشعيرة، وعلى تقليل شأن وقدسية هذين المكانين.

ثم تقول الآية أخيراً: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).

فالله يشكر عباده المتطوعين للخير بأن يجازيهم خيراً، وهو سبحانه عالم

(451)

بسرائرهم، يعلم من تعلّق قلبه بهذه الأصنام ومن تبرّأ منها.

* * *

1 ـ الصفا والمروة

الصفا والمروة اسمان لجبلين صغيرين في مكة، يقعان اليوم بعد توسيع المسجد الحرام، في الضلع الشرقي للمسجد، في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم.

يفصل بين الجبلين 420 متراً تقريباً، والمسعى اليوم بدل بصالة كبيرة مسقّفة ذات طابقين يسعى الحجاج فيهما، وارتفاع الصفا خمسة عشر متراً، والمروة ثمانية أمتار.

واللفظان اليوم علمان لهذين الجبلين، وفي الأصل الصفا هي الصخرة الملساء القوية المختلطة بالحصى والرمل، والمروة الصخرة القوية المتعرّجة.

والشعائر جمع شعيرة أي العلامة، وشعائر الله أي العلامات التي تذكّر الإنسان بالله، وتعيد إلى الأذهان ذكريات مقدسة.

و«اعتمر» أي أدى العمرة، والعمرة في الأصل الملحقات الإضافية في البناء، وفي الشريعة تطلق على الأعمال الخاصة، التي يؤديها المسلم إلى جانب أعمال الحج، أو يؤديها لوحدها في العمرة المفردة. وبينها وبين أعمال الحج أوجه اشتراك وافتراق.

2 ـ من أسرار السعي بين الصفا والمروة

صحيح أن قراءة تاريخ حياة عظماء التاريخ يدفع الإنسان إلى الإقتداء بهم، لكن هناك طريقاً أكثر تأثيراً، وهو مشاهدة المعالم الأثرية التي كافح عليها هؤلاء

(452)

الرجال، وسجلوا فيها بطولاتهم.

هذه المعالم هي في الواقع ليست مثل كتب التاريخ الميتة، بل هي تاريخ حيّ ناطق، يستطيع أن يُحلّق بالإنسان عبر القرون والأعصار، ليجعله يعيش مع الحوادث الماضية بكل مشاعره.

الأثر التربوي لهذه المشاهدات أعمق بكثير من تأثير الكتب والمحاضرات وأمثالها ... فهنا الشعور لا الإدراك، والتصديق لا التصور، والعينية لا الذهنية.

من جهة اُخرى، قلّ أن يوجد بين الأنبياء نبيّ كإبراهيم(عليه السلام)، خاض ألوان النضال وتعرض لأنواع الإِمتحان، حتى قال القرآن عمّا اختبر به: (إِنَّ هَذا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبينُ)(1).

وهذه المعاناة الطويلة التي عاشها إبراهيم هي التي أهّلته لأن ينال مقام «الإمامة».

مناسك الحج تجسّد في الأذهان دورة كاملة من مشاهد كفاح إبراهيم ومراحل تكامله التوحيدي وعبوديته وتضحياته وإخلاصه.

لو فهم المسلمون ـ لدى أدائهم مناسك الحج ـ روح الحج وأسراره، وتعمّقوا في جوانبه «الرّمزية» لكان الحج دورة تربوية في حقل معرفة الله والنّبوة والشخصية الإِنسانية.

بعد هذه المقدمة نعود إلى الخلفيّة التاريخية للصّفا والمروة.

إبراهيم(عليه السلام) بلغه الكبر ولم يُرزق ولداً، فدعى ربّه أن لا يتركه فرداً، فاستجاب له، ورزقه من جاريته هاجر ولداً سمّاه «إسماعيل».

لم تستطع «سارة» زوجته الاُولى أن تطيق الحالة الجديدة، وقد رزق إبراهيم ولداً من غيرها، فأمر الله إبراهيم أن يهاجر بالطفل والأم إلى مكة حيث الأرض

___________________________

1 ـ الصافات، 106.

(453)

القاحلة المجدبة آنذاك، ويسكنهما هناك.

امتثل إبراهيم أمر ربه، وذهب بهما إلى صحراء مكة وأسكنهما في تلك الأرض، وهمّ بالرجوع، فضجّت زوجته بالبكاء، إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟!

بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع هزّ إبراهيم من الأعماق، لكنه لم يزد على أن ناجى ربّه قائلا: (رَبَّنَا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقهُمْ مِنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(1)، ثم ودّع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين.

لم يمض وقت طويل حتى نفذ طعام الأمّ وماؤها، وجفّ لبنها. بكاء الطفل أضرم في نفس الأم ناراً، ودفعها لأن تبحث بقلق واضطراب عن الماء. اتجهت أولا إلى جبل «الصفا» فلم تجد للماء أثراً، لَفت نظرها بريق ماء عند جبل «المروة» فأسرعت إليه فوجدته سراباً، ثم رأت عند المروة بريقاً لدى الصفا أسرعت إليه فما وجدت شيئاً، وهكذا جالت سبع مرات بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء. وفي النهاية، وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجله فجأة عين زمزم، فشرب الطفل وأمه ونجيا من الموت المحقق.

الماء، رمز الحياة، وانفجار العين جرّ الطيور من الآفاق نحو هذه الأرض، والقوافل شاهدت حركة الطيور، فاتجهت هي أيضاً نحو الماء وببركة هذه العائلة تحولت أرض مكة إلى مركز حضاري عظيم.

ويقع جوار الكعبة حجر إسماعيل حيث مدفن تلك المرأة وابنها، وعلى الحاج أن يضمه إلى البيت في طوافه، أي يجب على الحجاج أن يطوفوا خارج هذه الحجر وكأنه جزء من الكعبة.

___________________________

1 ـ إبراهيم، 37.

(454)

في الصفا والمروة درس في التضحية بكل غال ونفيس، حتى بالطفل الرضيع، من أجل المبدأ والعقيدة.

السعي بينهما يعلمنا أن نعيش دائماً أمل النجاح والإنتصار، حتى في أشدّ لحظات الشدّة، فهاجر بذلت سعيها وجاءها رزق الله من حيث لا تحتسب.

السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: إن هاتين الشعيرتين كانتا يوماً وكراً لصنمين من أصنام العرب، وأصبحتا اليوم معلمين من معالم التوحيد بفضل جهاد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، من حق جبل الصفا أن يفخر ويقول: أنا أول منطلق لدعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فحينما كانت مكة تغطّ في ظلمات الشرك وبزغ من عندي فجر الهداية. واعلموا أيّها الساعون بين الصفا والمروة أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) صعد يوماً على هذا الجبل ليدعو النّاس إلى الله، فلم يجبه أحد، واليوم فإن الآلاف المؤلفة تجيب الدعوة وتحج بيت الله على النهج المحمّدي الإبراهيمي. وإنه لدرس لكم يعلمكم أن تسيروا على طريق الحقّ دونما يأس، وإن قلّ الناصر والمجيب.

السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: اعرفوا قدر نعمة هذا الدين وهذا المركز التوحيدي، فثمة أفراد حفظوا الشريعة وشعائرها لنا بدمائهم على مرّ التاريخ.

من أجل إحياء كل تلك الأحاسيس والمشاعر في النفوس، أمر الله الحجيج أن يسعوا سبع مرات بين الصفا والمروة.

أضف إلى ما تقدم أن السعي يقضي على كبر الإنسان وغروره، فلا أثر للتبختر والتصنع في السعي، بل لابدّ من قطع هذه المسافة ذهاباً ومجيئاً مع كافة النّاس، وبنفس لباس النّاس، وبهرولة أحياناً!! ولذلك ورد في الروايات أن السعي إيقاظ للمتكبرين.

على أية حال، بعد أن ذكرت الآية أن الصفا والمروة من شعائر الله، أكدت عدم وجود جناح على من يطوّف بهما في الحج والعمرة، والطواف بين الصفا والمروة هو السعي بينهما، لأن الحركة التي يعود فيها الإنسان إلى حيث إبتدأ هي

(455)

طواف وإن لم تكن الحركة دائرية.

* * *

3 ـ جواب على سؤال

لفظ (لاجناح) يشير إلى عدم حرمة السعي بين الصفا والمروة وجواز ذلك، وقد يسأل سائل عن سبب وجوب السعي في الفقه الإسلامي، بينما الآية تبيحه فقط؟

الجواب على هذا السؤال نفهمه بوضوح من سبب نزول الآية. فالمسلمون كرهوا السعي بين الصفا والمروة، بعد أن شاهدوا بأم أعينهم مدى عبث المشركين بهذا المكان، ومدى تلويثهم إياه بالأصنام. فخالوا أن من غير اللائق بالمسلم أن يسعى في هذا المكان.

جاءت الآية لتقول لهم: إن الصفا والمروة من شعائر الله، وعبارة (لا جناح)(1)لإزالة ما تصوروه من كراهة لهذا العمل.

وثمّة تعبيرات مشابهة ذكرها القرآن لأحكام اُخرى كصلاة المسافر في قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ)(2).

ونعلم أن القصر واجب في صلاة المسافر، لا جائز. بشكل عام قد تستعمل كلمة (لا جناح) لإزالة التوهم بحرمة الشيء أو بكراهته، وهذا المعنى يؤكده حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) في كتاب «من لا يحضره الفقيه».

4 ـ معنى التطوع

التطوع في اللغة: قبول الطاعة والإنصياع للأوامر، وفي الفقه يطلق على الأعمال المستحبة، من هنا ذهب أَغلب المفسرين إلى تفسير «وَمن تطوع ...»

___________________________

1 ـ (الجناح) في الأصل الميل نحو اتجاه معيّن، وقيل للذنب جناح لأنه يميل بالإنسان عن طريق الحق. (قاله الراغب في المفردات).

2 ـ النساء، 101.

(456)

بالحج المستحب والعمرة المستحبة، أو الطواف، أو أي عمل مستحب آخر. فالعبارة تعني إذن أن الله شاكر لمن يعمل الخيرات امتثالا لأوامره سبحانه، والله عليم بكل هذه الأعمال.

ومن المحتمل أيضاً أن تكون العبارة تأكيداً لما سبقها، ويكون المقصود بالتطوع حينئذ قبول الطاعة في أداء الأعمال الشاقة.

معنى العبارة، على هذا، على الحجاج السعي بين الصفا والمروة بكل ما فيه من مشاق ورغم كراهتكم لذلك ... هذه الكراهة الناتجة عن سوء تصرف الجاهليين بهذا المكان المقدس.

5 ـ شكر الله

ينبغي الإِلتفات هنا إلى عبارة الشاكر في الآية، وهو تعبير في غاية الروعة، وإنه لتكريم ما بعده تكريم للإنسان، أن يشكره الله على أعماله الخيّرة.

وحين يكون الله شاكراً لعبده على برّه، فمن الأَولى أن يكون العبد شاكراً لربّه على نعمه التي لا تحصى، وشاكراً لمن أحسن إليه من العباد.

* * *

(457)

الآيتان

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَـتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَابَيَّنَّـهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَـبِ أُوْلَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـعِنُونَ(159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(160)

سبب النّزول

روى جلال الدين السيوطي عن ابن عباس، أن عدداً من المسلمين أمثال «معاذ بن جبل» و«سعد بن معاذ» و«خارجة بن زيد» سألوا أحبار اليهود عن مسائل في التوراة قد ترتبط بظهور النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأبى الأحبار أن يجيبوا وكتموا ما عندهم من علم(1).

التّفسير

حرمة كتمان الحق

الآية ـ وإن خاطبت كما في أسباب النّزول، علماء اليهود ـ غير محدودة

___________________________

1 ـ لباب النقول في أسباب النّزول، ص 22.

(458)

بمخاطبيها، بل تبين حكماً عاماً بشأن كاتمي الحق.

الآية الكريمة تتحدث عن هؤلاء بشدّة وتقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبِيِّنَاتِ وَالْهُدَىْ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ، أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ).

فالله سبحانه وعباده الصالحون وملائكته المقربون يلعنون من يكتم الحق، وبعبارة اُخرى، كل أنصار الحق يغضبون على من كتم الحق. وأية خيانة للعالم أكبر من محاولة العلماء كتمان آيات الله المودعة عندهم من أجل مصالحهم الشخصية ولتضليل النّاس.

وعبارة (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ) إشارة إلى أن هؤلاء الأفراد يصادرون في الواقع جهود الأنبياء وتضحيات أولياء الله الصالحين، وهو ذنب عظيم.

والفعل (يلعن) تكرر في الآية للتأكيد، واستعمل بصيغة المضارع لبيان استمرار اللعن، ومن هنا فإنّ لعنة الله ولعنة اللاعنين تلاحق هؤلاء الكاتمين لآيات الله باستمرار، وذلك أقسى صور العقاب.

«البينات» و«الهدى» لهما معنى واسع يشمل كل وسائل الهداية والتوعية والإيقاظ وإنقاذ النّاس.

ولما كان القرآن كتاب هداية، فإنه لايغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد، ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذبوب، لذلك تبين الآية التالية طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَابُ الرَّحِيمُ).

عبارة (أنَا التَّوَابُ الرَّحِيمُ) جاءت بعد عبارة (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ)للدلالة على كثرة محبة الله، وسبق عطفه على عباده التائبين. فيقول سبحانه لهؤلاء: إن تبتم، أي عدتم إلى نشر الحقائق، فأنا أعود أيضاً إلى إغداق الرحمة والمواهب

(459)

عليكم.

ومن الملفت للنظر، أن الله لم يقل أنه يقبل التوبة ممن تاب، بل يقول: من تاب فأنا أيضاً أتوب عليه، والفرق في التعبيرين واضح، فالثاني فيه من التودّد والتحنن وإغداق اللطف ما لا يمكن وصفه.

ثم استعمال الضمير (أنا) في هذا الموضع يستهدف نوعاً من التودّد وبيان الارتباط المباشر بين المتكلم والسّامع وخاصة اذا قال عظيم من العظماء: «أنا أتكفل لك بالعمل الفلاني» حيث يختلف عما لو قال: «سنقوم نحن بانجاز العمل» فالمحبّة الكامنة في الاسلوب الاول غير خافية على أحد.

وكلمة «توّاب» صيغة مبالغة تبعث الأمل في نفوس المذنبين وتمزق أستار اليأس، عن سماء أرواحهم خاصة وأنها اقترنت بكلمة (رحيم) التي تشير إلى الرحمة الالهية الخاصة.

* * *

1 ـ مفاسد كتمان الحق

كتمان الحقائق من المسائل التي عانت منها المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ، وكان لها دوماً آثار سيئة عميقة استمرت قروناً واعصاراً. ويتحمل تبعة هذه المساويء دون شك أولئك العلماء الذين يعلمون تلك الحقائق ويكتمونها.

لعل القرآن لم يهدد ويذمّ فئة كما هدّد وذم هذه الفئة الكاتمة للحقائق. ولم لا؟ فإن عمل هؤلاء يجرّ أجيالا متعاقبة إلى طريق الضلال والفساد، كما أن نشر الحقائق يدفع بالأمم إلى طريق الهداية والصلاح.

البشرية تميل للحقائق بفطرتها، وكتمان الحقائق عنها يعني صدّ البشرية عن

(460)

طريق تكاملها الفطري المرسوم لها.

لو أن علماء اليهود والنصارى أعلنوا ما عندهم من حقائق بشأن النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ونشروا ما جاء في العهدين من بشائر حول رسول الإسلام، لانضوى أهل الكتاب تحت راية الإسلام، ولأصبحوا مع المسلمين أمة واحدة.

كتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النّبوة والبشائر بالنّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع النّاس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.

السكوت في مواضع يجب فيها البيان قد يكون من مصاديق كتمان الحق، وذلك يكون في موارد يحتاج النّاس فيها بشدّة إلى فهم الحقائق ويستطيع العلماء فيها أن يلبّوا هذه الحاجة.

بعبارة اُخرى: نشر الحقائق التي يعاني منها النّاس لا يتوقف على السّؤال، وما يذهب إليه صاحب المنار من أن كتمان الحقائق يكون في مواضع السؤال ليس بصحيح. خاصة وأن القرآن لا يتحدث عن كتمان الحقائق فحسب، بل يتحدث في مواضع اُخرى عن تبيين الحقائق أيضاً، وهذا يرد على أولئك الذين يلتزمون جانب الصمت أمام الإنحرافات بحجّة عدم وجود سائل يطرح عليهم سؤالا بشأن تلك الإنحرافات. يقول سبحانه:

(وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)(1).

جدير بالذكر أن إلهاءَ النّاس بالمسائل الفرعية، لصرف أنظارهم عن المسائل الأسياسية الحياتية نوع من كتمان الحقائق. إذا لم يشمله فرضاً تعبير «كتمان الحقائق» فهو مشمول حتماً بملاك وفلسفة كتمان الحق.

___________________________

1 ـ آل عمران، 187.

(461)

2 ـ كتمان الحق في الأحاديث

حملت الأحاديث بشدّة أيضاً على كاتمي الحق، فروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ فَكَتَمَ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَام مِنْ نَار»(1).

ونعيد هنا القول أن ابتلاء الناس بمسألة والحاجة الى بيانها يحل محل السّؤال. وبيان الحقائق في هذه الحالة واجب.

وسُئل الامام أمير المؤمنين(عليه السلام):

«مَنْ شَرُّ خَلقِ اللّهِ بَعدَ إبلِيسَ وَفِرعَونَ؟ قَالَ: العُلَمَاءُ إذا فَسَدوا، هُم المُظهِرُونَ لِلأبَاطِيلِ، الكَاتِمُونَ للحَقَائِقِ، وَفِيهِم قَالَ اللّهُ عَزّوجَلَّ: (اُولئك يَلعَنهُم اللّهُ ويَلعَنُهُم اللاعِنُونَ)(2)

3 ـ معنى اللعن

اللعن في الأصل: الطرد والإبعاد الممزوج بالغضب والإستياء. فاللعن الإلهي إذن إبعاد الإنسان عن رحمة الله، وعن جميع المواهب المغدقة على عباده.

وما قيل بشأن تقسيم اللعن إلى: لعن في الآخرة، وهو العذاب والعقوبة، ولعن في الدنيا وهو سلب التوفيق، إنما هو من قبيل بيان المصداق، لا حصر اللعن بهذين القسمين.

وكلمة (اللاعنون) لها معنى واسع لا يقتصر على الملائكة والمؤمنين، بل يشمل كل الموجودات التي تتحدث بلسان القال أو الحال. وفي بعض الروايات نرى أن كل الموجودات تدعو لطلب العلم كقول المعصوم: «وَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ»(3)

وإن استغفرت هذه الموجودات لطالب العالم، فمن الطبيعي أن تلعن كاتمه.

___________________________

1 ـ مجمع البيان، في تفسير الآية.

2 ـ الاحتجاج للطبرسي، نقلاً عن نور الثقلين، ج2، ص139.

3 ـ أصول الكافي، ج 1، باب ثواب العالم والمتعلم.

(462)

4 ـ كلمة (توّاب) صيغة مبالغة من تاب: عاد، وتبين حقيقة انفتاح باب التوبة أمام الإنسان، حتى ولو انخدع الإنسان بوساوس الشيطان بعد توبته، فيستطيع أن يتوب ثانية ويعود إلى الله ويكشف ما عنده من الحق، فالله توّاب، ولا يجوز اليأس من رحمته وعفوه.

* * *

(463)

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَـئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(161) خَـلِدِينَ فِيهَا لاَيُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَهُمْ يُنظَرُونَ(162) وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحِيمُ(163)

التّفسير

أَلَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ

تحدثت الآيات السابقة عن نتيجة كتمان الحقائق، وهذه الآيات تكمل الموضوع السابق، وتتناول جزاء الذين يواصلون طريق الكفر والكتمان والعناد إلى آخر عمرهم.

تقول الآية: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ).

هؤلاء أيضاً مثل كاتمي الحق، مستحقون للعنة الله والملائكة وجميع النّاس، مع اختلاف هو أن هؤلاء المصرّين على الكفر حتى نهاية حياتهم لا رجعة لهم طبعاً ولا توبة.

ثم تقول الآية التالية إن هؤلاء الكفار المصرّين على كفرهم حتى اللحظات

(464)

الأخيرة من حياتهم: (خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ).

ولما كان التوحيد ينهي كل هذه المصائب، فالآية الثالثة تطرح هذا الأصل وتقول: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).

ثم تؤكد هذا الأصل وتقول: (لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ).

بعد ذلك تصف الآية الله بأنه (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) لتقول إن الله الذي تشمل رحمته العامة كل الموجودات، ورحمته الخاصة المؤمنين، هو اللائق بالعبودية لا الموجودات المحتاجة.

* * *

1 ـ يوضح القرآن في مواضع متعدّدة، أن الذين ماتوا على كفرهم لا نجاة لهم، وهذا أمر طبيعي، لأن سعادة الحياة الآخرة وشقاءها نتيجة مباشرة لما ادّخره الإنسان من أعمال في هذه الحياة. ومن أحرق جناحيه في الحياة الدنيا بنار الكفر والإنحراف لا يستطيع طبعاً أن يحلّق في الآخرة، ولابدّ من سقوطه في درك الجحيم. وواضح أيضاً أن هذا الفرد سيبقى على وضعه هذا في عالم الآخرة، لأن ذلك العالم ليس عالم الحصول على وسيلة.

هذا يشبه إنساناً فقد عينيه بسبب جنوحه واتباعه الشهوات والاهواء عالماً عامداً، فلابدّ له أن يعيش أعمى طول حياته.

وبديهي أن هذا مصير الكافرين الذين سلكوا طريق الكفر عن علم وعمد. (وسنوضح مسألة الخلود أكثر في تفسير الآيتين 107 و 108 من سورة هود، في المجلد السابع من هذا التّفسير).

2 ـ الآية الثالثة في بحثنا هذا تبين أحدية الله بشكل ينفي كل شرك وإنحراف.

قد نرى أحياناً موجودات منفردة في صفة من صفاتها، لكن هذه الموجودات

(465)

تتفرد في صفة أو عدّة صفات. أمّا الله فهو أحد في ذاته، وأحد في صفاته، وأحد في أفعاله، أحديته لا تقبل التعدد عقلا، إنه أحد أزلي وأبدي لا تؤثر الحوادث على أحديته. إنه أحد في الذهن وخارج الذهن. إنه أحد في أحديته!

3 ـ ألا يكفي لعن الله؟!

الآية أعلاه ذكرت أن الذين ماتوا وهم كفار، مشمولون بلعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين. وهنا قد يسأل سائل: أليست لعنة الله كافية؟

الجواب واضح، فلعنة الملائكة والنّاس زيدت على لعنة الله للتأكيد، ولبيان كراهة النّاس لمثل هؤلاء المذنبين.

ولو قيل لِمَ ذكرت الآية (النّاس) بشكل عام، بينما يوجد بين النّاس من هم شركاء في الجريمة، وهؤلاء لا يلعنون أولئك المجرمين؟

والجواب: إن هؤلاء أيضاً كارهون لأعمال أولئك، فهؤلاء يكرهون مثلا كتمان الحقائق عنهم، ويلعنون من يستر عنهم الحقيقة، لكنهم يفعلون هم أيضاً هذه السيئة إن اقتضت مصلحتهم ذلك.

* * *

(466)

الآية

إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلَـفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآء فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَـحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ لاََيَـت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ(164)

التّفسير

مظاهر عظمة الله في الكون

آخر آية في المبحث الماضي دارت حول توحيد الله، وهذه الآية تقدم الدليل على وجود الله ووحدانيته.

قبل أن ندخل في تفسير الآية، لابدّ من مقدمة موجزة. حيثما كان «النظم والإنسجام»، فهو دليل على وجود العلم والمعرفة، وأينما كان «التنسيق» فهو دليل على الوحدة. من هنا، حينما نشاهد مظاهر النظم والإنسجام في الكون من جهة، والتنسيق ووحدة العمل فيه من جهة اُخرى، نفهم وجود مبدأ واحد للعلم والقدرة صدرت منه كل هذه المظاهر.

حينما نمعن النظر في الأغشية الستة للعين الباصرة ونرى جهازها البديع،

(467)

نفهم أن الطبيعة العمياء الصماء لا يمكن إطلاقاً أن تكون مبدأ مثل هذا الأثر البديع، ثم حينما ندقق في التعاون والتنسيق بين هذه الأغشية، والتنسيق بين العين بكل أجزائها وبين جسم الإنسان، والتنسيق الفطري الموجود بين الإنسان وبين سائر البشر، والتنسيق بين بني البشر وبين كل مجموعة نظام الكون، نعلم أن كل ذلك صادر من مبدأ واحد، وكل ذلك من آثار وقدرة ذات مقدسة واحدة.

ألا تدل القصيدة الجميلة العميقة المعنى على ذوق الشاعر وقريحته؟!

ألا يدلّ التنسيق الموجود بين قصائد الديوان الواحد على أنها جميعاً صادرة من قريحة شاعر مقتدر واحد؟

بعد هذه المقدمة نعود إلى تفسير الآية، هذه الآية الكريمة تشير إلى ستة أقسام من آثار النظم الموجود في عالم الكون، وكل واحد آية تدل على وحدانية المبدأ الأكبر.

1 ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...)

من العلامات الدالة على ذات الله المقدسة وعلى قدرته وعلمه ووحدانيته، السماء وكرات العالم العلوي، أي هذه المليارات من الشموس المشرقة والنجوم الثابتة والسيارة، التي ترى بالعين المجردة أو بالتلسكوبات، ولا يمكن رؤية بعضها بأقوى أجهزة الإرصاد لبعدها الشاسع .... الشاسع للغاية، والتي تنتظم مع بعضها في نظام دقيق مترابط.

وهكذا الأرض بما على ظهرها من حياة، تتجلّى بمظاهر مختلفة وتتلبس بلباس آلاف الأنواع من النبات والحيوان.

ومن المدهش أن عظمة هذا العالم وسعته وامتداده تظهر أكثر كلما تقدّم العلم، ولا ندري المدى الذي سيبلغه العلم في فهم سعة هذا الكون!

يقول العلم لنا اليوم: إن في السماء آلافاً مؤلفة من المجرات، ومنظومتنا الشمسية جزء من واحدة من المجرات، وفي مجرتنا وحدها مئات الملايين من

(468)

الشموس والنجوم السّاطعة، وحسب دراسات العلماء يوجد بين هذه الكواكب مليون كوكب مسكون بمليارات الموجودات الحيّة!

حقاً ما أعظم هذا الكون! وما أعظم قدرة خالقه!!

2 ـ (وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ...)

من الدّلائل الاُخرى على ذاته المقدسة وصفاته المباركة تعاقب الليل والنهار، والظلمة والنور بنظام خاص، فينقص أحدهما بالتدريج ليزيد في الآخر، وما يتبع ذلك من تعاقب الفصول الأربعة، وتكامل النباتات وسائر الأحياء في ظل هذا التكامل.

لو انعدم هذا التغيير التدريجي، أو انعدم النظام في هذا التدريج، أو انعدم تعاقب الليل والنهار لإِنمحت الحياة من وجه الكرة الأرضية، ولو بقيت واستمرت ـ فرضاً ـ لأصابتها الفوضى والخبط(1).

3 ـ (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ)

الإنسان يمخر عباب البحار والمحيطات بالسفن الكبيرة والصغيرة، مستخدماً هذه السفن للسفر ولنقل المتاع. وحركة هذه السفن خاصة الشراعية منها تقوم على عدّة أنظمة:

الأوّل، نظام هبوب الرياح على سطح مياه الكرة الأرضية، فهناك الرياح القارية التي تهبّ من القطبين الشمالي والجنوبي نحو خطّ الإستواء وبالعكس وتدعى «اليزه» و«كنتر اليزه»؟؟ . وهناك الرياح الإقليمية التي تهب وفق نظام معين، وتعتبر قوة طبيعية لتحريك السفن نحو مقاصدها.

___________________________

1 ـ «الإختلاف» قد يعني التعاقب أي مجيء شيء وذهاب آخر، وقد يعني الزيادة والنقصان في الليل والنهار، وعلى المعنيين تتحدث الآية عن نظام خاص للّيل والنهار لا يمكن أن يكون قائماً على الصدفة. ومن دون تدخل وجود عالم وقادر في ذلك. ولهذا ورد في القرآن الكريم، هذا المعنى في موارد متعددة كدليل على الذات المقدسة.

(469)

وهكذا خاصية الخشب، أو خاصية القوّة الدافعة التي يسلطها الماء على الأجسام الغاطسة فيه، فيجعل هذه السفن تطفو على سطح الماء.

أضف إلى ذلك خاصية القطبين المغناطيسيين للكرة الأرضية، التي تساعد البحارة باستخدام البوصلة أن يعرفوا اتجاههم في وسط البحار، إضافة إلى استفادتهم من نظام حركة الكواكب في معرفة جهة السير.

كل هذه الأنظمة تساعد على الإستفادة من الفلك(1)، وتعطي دليلا محسوساً على قدرة الله وعظمته، وتعتبر آية من آيات وجوده.

استعمال المحركات الوقودية بدل الأشرعة في السفن اليوم، لم يقلل أهمية هذه الظاهرة، بل زادها عجباً ودهشة، إذ نرى اليوم السفن العملاقة التي تشبه مدينة بجميع مرافقها، تطفو على سطح الماء وتتنقل بفنادقها وساحات لعبها وأسواقها، بل ومدارج للطائرات فيها ... على ظهر البحار والمحيطات.

4 ـ (وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة ...).

من مظاهر قدرة الله وعظمته المطر الذي يحيي الأرض، فتهتز ببركته وتنمو فيها النباتات وتحيا الدواب بحياة هذه النباتات، وكل هذه الحياة تنتشر على ظهر الأرض من قطرات ماء لا حياة فيها.

5 ـ (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ...)، لا على سطح البحار والمحيطات لحركة السفن فحسب، بل على الجبال والهضاب والسهول أيضاً لتلقيح النباتات فتخرج لنا ثمارها اليانعة.

وتارة تعمل على تحريك أمواج المحيطات بصورة مستمرة ومخضها مخض السقاء لايجاد محيط مستعد لنمو وحياة الكائنات البحرية.

___________________________

1 ـ الفلك، هي السفينة أو السفن، فاللفظ مفرد وجمع.

(470)

واُخرى تقوم بتعديل حرارة الجو وتلطيف المناخ بنقلها حرارة المناطق الاستوائية إلى المناطق الباردة، وبالعكس.

واحياناً تقوم بنقل الهواء الملوّث الفاقد للاوكسجين من المدن إلى الصحاري والغابات لمنع تراكم السموم في الفضاء.

أجل فهبوب الرياح مع كل تلك البركات والفوائد علامة اُخرى على حكمة البارئ ولطفه الدائم.

6 ـ (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ...) والسحب المتراكمة في أعالي الجو، المحمّلة بمليارات الأطنان من المياه خلافاً لقانون الجاذبية، والمتحركة من نقطة إلى اُخرى دون ايجاد خطر، من مظاهر عظمة الله سبحانه.

إضافة إلى أن هذا الودق (المطر) الَّذي يخرج من خلال السحاب يحيي الأرض، وبحياة الأرض تحيا النباتات والحيوانات والإِنسان، ولولا ذلك لتحولت الكرة الأرضية إلى أرض مقفرة موحشة. وهذا مظهر آخر لعلم الله سبحانه وقدرته.

وكل تلك العلامات والمظاهر (لآيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ)، لا للغافلين الصم البكم العمي.

(471)

الآيات

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادَاً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاَْسْبَابُ(166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوَا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَـلَهُمْ حَسَرَت عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَرجِينَ مِنَ النَّارِ(167)

التّفسير

أئمّة الكفر يتبرّأون من أتباعهم!

تناولت الآيات السابقة دلائل وجود الله سبحانه وإثبات وحدانيته، عن طريق عرض مظاهر لنظام الكون. وهذه الآيات تتحدث عن أولئك الذين أعرضوا عن كل تلك الدلائل الواضحة، وساروا على طريق الشرك والوثنية وتعدّد الآلهة .. عن أُولئك الذين يحنون رؤوسهم تعظيماً أمام الآلهة المزيقة، ويتعشقونها ويشغفون بها حبّاً لا يليق إلاّ بالله سبحانه مصدر كل الكمالات وواهب جميع النعم.

(472)

تقول الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً)(1).

ولم يتخذ المشركون هؤلاء الأنداد للعبادة فحسب، بل (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ). (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لله)، لأنهم أصحاب عقل وإدراك، يفهمون أن الله سبحانه مصدر كل الكمالات، وهو وحده اللائق بالحبّ، ولا يحبون شيئاً آخر إلاّ من أجله. وقد غمر الحبّ الإلهي قلبهم حتى أصبحوا يرددون مع أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام): «فَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ»؟!(2).

الحبّ الحقيقي يتجه دائماً نحو نوع من الكمال، فالإِنسان لا يحبّ العدم والنقص، بل يسعى دوماً وراء الوجود والكمال، ولذلك كان الأكمل في الوجود والكمال أحق بالحبّ.

الآية أعلاه تؤكد أن حبّ المؤمنين لله أشدّ من حبّ الكافرين لمعبوداتهم.

ولم لا يكون كذلك؟! فلا يستوي من يحبّ عن عقل وبصيرة، ومن يحبّ عن جهل وخرافة وتخيّل.

حبّ المؤمنين ثابت عميق لا يتزلزل، وحبّ المشركين سطحي تافه لا بقاء له ولا استمرار.

لذلك تقول الآية: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَديدُ الْعَذابِ) لرأوا سوءَ فعلهم وسوءَ عاقبتهم(3).

في هذه اللحظات تزول حجب الجهل والغرور والغفلة من أمام أعينهم، وحين يرون أنفسهم دون ملجأ أو ملاذ، يتجهون إلى قادتهم ومعبوديهم، ولات حين ملاذ بغير الله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ

___________________________

1 ـ الأنداد جمع (ند) وهو (المثل)، وقال جمع من علماء اللغة، هو المثل المشابه في الجوهر، أي إن المشركين كانوا يعتقدون بأن هذه الأنداد تحمل الصفات الإِلهية!

2 ـ من دعاء علي(عليه السلام) المروي على لسان كميل بن زياد. المعروف بدعاء (كميل).

3 ـ هذا على تفسير «لو» شرطية وجوابها محذوف، ومن المفسرين من قال: إنّ (لو) هنا للتمني.

(473)

بِهِمُ الأَسْبَابُ).

واضح أن المعبودين هنا ليسوا الأصنام الحجرية أو الخشبية، بل الطغاة الجبابرة الذين استعبدوا النّاس، فقدم لهم المشركون فروض الولاء والطاعة، واستسلموا لهم دون قيد أو شرط.

هؤلاء الغافلون المغفّلون حين يروا ما حلّ بهم يمنّون أنفسهم: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةَ فَنَتَبَرَّاً مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُا مِنّا) لكنها أُمنية لا تتحقق، وعبرت آية اُخرى عن مثل هذا التمني على لسان كافر يقول لمعبوده المزيف: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرينُ)(1).

ثم تقول الآية: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرات عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

ليس لهم إلاّ أن يتحسّروا، يتحسّرون على أموالهم التي كنزوها واستفاد منها غيرهم ... وعلى فرصة الهداية والنجاة التي هيئت لهم فلم يستثمروها ... وعلى عبادتهم لآلهة زائفة بدل عبادة الله الواحد الأحد.

لكنّها حسرة غير نافعة ... فاليوم الجزاء على ما جنته يد الإنسان من أخطاء، وليس يوم تلافي الأخطاء.

* * *

___________________________

1 ـ الزخرف، 38.

(474)

الآيتان

يَـأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الاَْرْضِ حَلَـلا طَيِّباً وَلاَتَتَّبِعُوا خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(168) إِنَّمَا يَأمُرُكُم بِالسُّوء وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(169)

سبب النّزول

عن ابن عباس أن طوائف من العرب مثل ثقيف وخزاعة، حرموا على أنفسهم بعض النباتات والحيوانات دونما دليل، (ونسبوا التحريم إلى الله أيضاً)، فنزلت الآيتان تنهاهم عن ذلك.

التّفسير

خطوات الشيطان!

ذمّت الآيات السابقة الشرك والمشركين، وأحد أنواع الشرك إيكال أمر التقنين والتشريع وتقرير الحلال والحرام إلى غير الله.

الآية أعلاه اعتبرت هذا العمل شيطانياً وقالت: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلا طَيِّباً، وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

تكرر في القرآن طلب الإستفادة من الأطعمة، وورد الطلب عادة مقيّداً

(475)

بالحلال وبالطيّب.

و«الحلال» ما أُبيح تناوله، والطيب ما طاب ووافق الطبع السليم، ويقابله «الخبيث» الذي يشمأز منه الإنسان.

و«الخطوات» جمع «خطوة» وهي المرحلة التي يقطعها الشيطان للوصول إلى هدفه وللتغرير بالنّاس.

عبارة (لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) تكررت خمس مرات في القرآن الكريم، وكانت في موضعين بشأن الإستفادة من الأطعمة والرزق الإلهي. وهي تحذير من استهلاك هذه النعم الإلهية في غير موضعها. وحثّ على الإستفادة منها على طريق العبودية والطاعة لا الفساد والطغيان في الأرض.

النهي عن اتباع خطوات الشيطان في استثمار مواهب الطبيعة، توضحه آيات اُخرى تنهى أيضاً عن الإفساد في استثمار ما وهبه الله للناس، كقوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(1)، وكقوله سبحانه (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ)(2).

هذه المواهب والإمكانات ينبغي أن تكون طاقة دافعة نحو الطاعة لا وسيلة لارتكاب الذنوب.

عبارة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تكررت في القرآن الكريم عشر مرات بعد الحديث عن الشيطان، كي تحفّز الإنسان، وتجعله متأهباً لمجابهة هذا العدوّ اللدود الظاهر.

الآية التالية تؤكد على عداء الشيطان، وعلى هدفه المتمثل في شقاء الإنسان، وتقول: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).

منهج الشيطان يتلخص في ثلاثة أبعاد هي: السوء،والفحشاء،والتّقول على الله.

___________________________

1 ـ البقرة، 60.

2 ـ طه، 81.

(476)

الفحشاء من «الفحش»، وهو كل عمل خارج عن حدّ الإعتدال، ويشمل كل المنكرات والقبائح المبطنة والعلنية. واستعمال هذه المفردة حالياً بمعنى الأعمال المنافية للعفّة هو من قبيل استعمال اللفظ الكلي في بعض مصاديقه.

عبارة (تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) قد تشير إلى تحريم بعض الأطعمة المحللة، كما مرّ بنا في سبب النّزول. وهو عمل بعض القبائل العربية في الجاهلية، وقيل: إن رواسبه كانت باقية في ذهن بعض المسلمين الجدد(1).

وقد يتسع معناها ليشمل الشرك والتشبيه بالله أيضاً.

على أية حال، العبارة تشير إلى القول غير القائم على العلم، وهو قول شيطاني مذموم، خاصة إذا كان متضمناً نسبة شيء إلى الله.

الإسلام يحثّ دوماً على الإنطلاق من العقل والمنطق في اتخاذ المواقف وفي إصدار الأحكام، ولو كان دأب أفراد المجتمع ذلك لزال من المجتمع الشقاء.

كل ما دخل في الأديان الإلهية من تحريف ومسخ إنما كان على يد أفراد بعيدين عن المنطق، والجانب الأكبر من الإنحرافات العقائدية يعود إلى عدم رعاية هذا الأصل، لذلك كان محوراً من محاور النشاط الشيطاني بعنوان مستقل ـ في مقابل السوء والفحشاء ـ في الآية المذكورة.

* * *

1 ـ أصل الحليّة:

هذه الآية تدل على أنّ الأصل في كل الأغذية الموجودة على ظهر الأرض

___________________________

1 ـ الميزان، ج 1، ص 425.

(477)

الحليّة، والمستثناة هي الأغذية المحرمة. من هنا فإن الحرمة تحتاج إلى دليل لا الحلية. وهذا ما يقتضيه أيضاً طبيعة الخليقة. إذ لابدّ من وجود تنسيق بين القوانين التشريعية والقوانين التكوينية.

بعبارة أوضح ما خلقه الله لابدّ أن ينطوي على فائدة لعباده. من هنا فلا معنى أن يكون الأصل الأوّلى للأطعمة على ظهر الأرض التحريم. فكل غذاء إذن حسب هذه الآية الكريمة حلال ما لم تثبت حرمته بدليل صحيح، ومادام لا يشكل ضرراً على الفرد والمجتمع.

2 ـ الإنحرافات التدريجية

عبارة (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) قد تشير إلى مسألة تربوية دقيقة، هي إنّ الإنحرافات تدخل ساحة الإِنسان بشكل تدريجي، لا دفعي فوري. فتلوّث شاب بالقمار، أو شرب الخمر، أو بالمخدرات مثلا يتم على مراحل:

يشترك أوّلا متفرجاً في جلسة من جلسات الخمارين أو المقامرين، ظاناً أنه عمل اعتيادي لا ضير فيه.

ثم يشترك في القمار للترويح عن النفس (دون ربح أو خسارة)، أو يتناول شيئاً من المخدرات بحجة رفع التعب أو المعالجة أو أمثالها من الحجج.

وفي الخطوة الاُخرى يمارس العمل المحرم قاصداً أنه يمارسه مؤقتاً.

وهكذا تتوالى الخطوات واحدة بعد اُخرى ويصبح الفرد مقامراً محترفاً أو مدمناً خطراً.

وساوس الشيطان تدفع بالفرد على هذه الصورة التدريجية نحو هاوية السقوط، وليست هذه طريقة الشيطان الأصلي فحسب، بل كل الأجهزة الشيطانية تنفذ خططها المشؤومة على شكل «خُطُوات» لذلك يحذّر القرآن كثيراً من اتّخاذ الخطوة الاُولى على طريق الإنزلاق.

(478)

جدير بالذكر أن الأعمال الخرافية غير القائمة على أساس منطقي اعتبرتها النصوص الإسلامية من «خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ».

وقد ورد في رجل أقسم أن يذبح ابنه، قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «ذَلِكَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ»(1).

وعن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): «كُلُّ يَمِين بِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ».(2)

وعن الامام الصادق أيضاً: «إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى شَيء وَالَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ إِتْيَانُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلاَ كَفَّارَةَ لَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ»(3).

3 ـ الشّيطان عدوّ قديم

الآية الكريمة وصفت الشّيطان أنّه (عَدُوٌّ مُبِينٌ)، وذلك إمّا لعدائه لآدم بعد أن أبى السجود له، وخسر كل شيء على أثر ذلك. وإما بسبب إغوائه الواضح لبني البشر ودفعهم على طريق الإجرام. وواضح أن هذا الدفع لا يصدر إلاّ من عدوّ لدود.

أو لأن الشيطان أعلن عداءه صراحة للإنسان، وعاهد نفسه على إغوائهم إذ قال: (لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).

4 ـ طريقة الوسوسة الشّيطانية

الآية الكريمة تحدثت عن أمر الشيطان: فقالت: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ...) وهذا الأمر هو الوسوسة الشيطانية. وقد يطرح سؤال بشأن هذه الأوامر الشيطانية إذ لا يحسّ الإنسان بأمر خارجي يصدر إليه حين يرتكب

___________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج 1، ص 428.

2 ـ نفس المصدر.

3 ـ نفس المصدر.

(479)

السيئات، ولا يتلمس سعياً شيطانياً لإضلاله.

الجواب هو أن هذه «الوسوسة» تأثير خفي عبّرت عنه بعض الآيات بالإيحاء: (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائِهِمْ)(1). والإيحاء من «الوحي» الذي هو تأثير غيبي خفي أو التأثيرات اللاواعية أحياناً.

وثمّة فرق بين «الإلهام الإلهي» و«الوسوسة الشيطانية» هو إن الإلهام الإلهي لانسجامه مع الفطرة الإنسانية ومع تركيب الجسم والروح، يترك في النفس حالة انبساط وانشراح.

بينما الوسوسة الشيطانية لتناقضها مع الفطرة الإنسانية السليمة، تجعل القلب يحسّ بظلام وانزعاج وثقل. وإن لم يحدث فيه مثل هذا الإحساس قبل ارتكاب السيئة فإنه يحسّ بها بعد الإرتكاب. هذا هو الفرق بين الإلهامات الشيطانية والإلهامات الإلهية.

* * *

___________________________

1 ـ الأنعام، 121.

(480)

الآيتان

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ(170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(171)

التّفسير

التّقليد الأعمى

تشير الآية إلى منطق المشركين الواهي في تحريم ما أحلّ الله، أو عبادة الأوثان وتقول: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا).

ويدين القرآن هذا المنطق الخرافي، القائم على أساس التقليد الأعمى لعادات الآباء والأجداد، فيقول: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ).

أي إن اتباع الآباء صحيح لو أنهم كانوا على طريق العقل والهداية. أمّا إذا كانوا لا يعقلون ولا يهتدون، فما اتباعهم إلاّ تركيز للجهل والضلال.

الإنسان الجاهلي لا يستند إلى قاعدة ايمانية يحسّ معها بوجوده وبشخصيته وبأصالته، لذلك يستند إلى مفاخر الآباء وعاداتهم وتقاليدهم، ليصطنع له شخصية

(481)

كاذبة وأصالة موهومة. وهذه عادة الجاهليين قديماً وحديثاً في تعصبهم القومي وخاصة في ما يتعلق باسلافهم.

الإسلام أدان المنطق الرجعي القائم على تقديس ما عليه الآباء والأجداد، لأنه ينفي العقل الإنساني. ويرفض تطوّر التجارب البشرية، ويصادر الموضوعية في معالجة قضايا السلف.

هذا المنطق الجاهلي يسود اليوم ـ ومع الاسف ـ في بقاع مختلفة من عالمنا، ويظهر هنا وهناك بشكل «صنم» يوحي بعادات وتقاليد خرافية مطروحة باسم «آثار الآباء» ومؤامرة باسم الحفاظ على المآثر القوميّة والوطنية، مشكّلا بذلك أهم عامل لإنتقال الخرافات من جيل إلى جيل آخر.

لا مانع طبعاً من تحليل عادات الآباء وتقاليدهم، فما انسجم منها مع العقل والمنطق حُفِظَ، وما كان وهماً وخرافة لُفِظ. المقدار المنسجم مع العقل والمنطق من العادات والتقاليد يستحق الحفظ والصيانة باعتباره تراثاً قومياً. أمّا الإستسلام التام الأعمى لتلك العادات والتقاليد فليس إلاّ الرجعية والحماقة.

جدير بالذكر أن الآية أعلاه تتحدث عن آباء هؤلاء المشركين وتقول عنهم إنهم لا يعلمون، ولا يهتدون. وهذا يعني إمكان الإقتداء باثنين. بمن كان يملك الفكر والعقل والعلم، ومن كان قد اهتدى بالعلماء.

أما أسلاف هؤلاء فلم يكونوا يعلمون، ولم يكونوا قد اهتدوا بمن يعلم وهذا اللون من التقليد الاعمى هو السبب في تخلف البشرية لانه تقليد الجاهل للجاهل.

الآية التالية تبين سبب تعصّب هؤلاء وإعراضهم عن الإنصياع لقول الحق تقول: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الّذي يَنْعِقُ بِمَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً). تقول الآية: إن مثلك في دعوة هؤلاء المشركين إلى الايمان ونبذ الخرافات والتقليد الاعمى كَمن يصيح بقطيع الغنم (لإنقاذهم من الخطر) ولكن الاغنام لاتدرك منه سوى أصوات غير مفهومة.

(482)

أجل فهؤلاء الكفار والمشركين كالحيوانات والانعام التي لا تسمع من راعيها الذي يريد لها الخير سوى أصوات مبهمة.

ثم تضيف الآية لمزيد من التأكيد والتوضيح أن هؤلاء (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)(1).

ولذلك يتمسكون بالتقاليد الخاطئة لآبائهم، ويعرضون عن كل دعوة بنّاءة.

وقيل في تفسير الآية أيضاً إن معناها: مثل الذين يدعون أصنامهم وآلهتهم الكاذبة كالذي يدعو البهائم، لا الحيوانات تفهم النداء ولا تلك الأصنام، لأن هذه الأصنام صمّاء بكماء عمياء لا تعقل.

أكثر المفسرين على التّفسير الأوّل للآية، والروايات الإِسلامية تؤيده ونحن على ذلك أيضاً.

* * *

بحثان

1 ـ سبل المعرفة

يحتاج الإنسان في ارتباطه بالخارج دون شك إلى سبل، تسمّى سبل المعرفة. أهم هذه السبل العين والأُذن للرؤية والسماع، واللسان للسؤال.

لذلك، بعد أن تصف الآية هؤلاء بأنهم صم بكم عمي، تستنتج باستعمال فاء التفريع وتقول: (فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ).

من هنا يقرر القرآن أن أساس العلوم العين والأُذن واللسان، العين والأُذن للفهم المباشر، واللسان لإِقامة الإِرتباط بالآخرين وكسب علومهم.

___________________________

1 ـ وفقاً لهذا التّفسير فان المعنى بحاجة إلى تقدير، ففي الاصل: مثل الداعي للذين كفروا إلى الايمان ... وعلى هذا تكون جملة «صم بكم عمي فهم لا يعقلون» وصفية لهؤلاء الاشخاص الذين فقدوا جميع آليات الإدراك عملياً. لا أنهم فقدوا العين والاذن واللسان ولكن بما أنهم لم ينتفعوا بها بالوجه الصحيح، فكأنما قد فقدوها.

(483)

والفلسفة أثبتت أيضاً حقيقة انطلاق العلوم غير الحسية أيضاً من العلوم الحسيّة، وهو بحث واسع لا مجال هنا لشرحه. (لمزيد من التوضيح عن نعمة ادوات المعرفة راجع المجلد الثامن من هذا التّفسير، في شرح الآية 78 من سورة النحل).

2 ـ نعق الغراب:

إذا صوّت دون أن يمدّ عنقه، فإذا مدّ عنقه وحركها ثم صاح قيل: نغق (بالغين).(1)

ثم توسّعوا في نعق لتشمل كل صوت تنادى به البهائم، وواضح أن هذه البهائم لا تفهم شيئاً من هذا النداء وإن أبدت ردّ فعل تجاه هذا النداء، فإنما هو لدويّ هذا الصوت وطريقة أدائه الخاصة.

* * *

___________________________

1 ـ مجمع البيان، تفسير الآية مورد البحث.

(484)

الآيتان

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَـتِ مَارَزَقْنَـكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172)إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَعَاد فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(173)

التّفسير

الطّيبات والخبائث

القرآن ينهج أُسلوب التأكيد والتكرار بأشكال مختلفة في معالجته للإِنحرافات المزمنة. وفي هذه الآيات عودة إلى مسألة تحريم المشركين في الجاهلية لبعض الأطعمة دونما دليل. مع فارق هو أن الخطاب يتجه في هذه الآيات إلى المؤمنين، بينما خاطبت الآيات السابقة جميع النّاس.

تقول الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

هذه النعم الطيبة المحللة المتناسبة مع الفطرة الإنسانية السليمة قد خلقت لكم، فلم لا تستفيدون منها؟!

هذه الأطعمة تمنحكم القوة على أداء مهامكم، وتذكركم بشكر خالقكم

(485)

وعبادته.

لو قارنا هذه الآية بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الاَْرْضِ)(1) لفهمنا نكتتين:

تقول الآية هنا: (مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، بينما تقول تلك (مِمَّا فِي الاَْرْضِ). ولعل هذا الإختلاف يشير إلى أن النعم الطيبة مخلوقة أصلا للمؤمنين، وغير المؤمنين يتناولون هذه الأطعمة ببركة المؤمنين، كالماء الذي يستعمله البستاني لسقي أشجاره وأغراسه، بينما تستفيد من هذا الماء أيضاً الأعشاب والنباتات الطفيلية.

والاُخرى، أن الآية تقول لعامة النّاس: (كُلُوا ... وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَات الشَّيْطَانِ)وهذه الآية تخاطب المؤمنين وتقول: (كُلُوا ...وَاشْكُرُوا للهِ) أي لا تكتفي هذه الآية بالطلب من المؤمنين أن لا يسيئوا الإستفادة من هذه النعم، بل تحثهم على حسن الإستفادة منها.

فالمتوقع من النّاس العاديين أن لايذنبوا في استهلاك هذه النعم، بينما المتوقع من المؤمنين أن يستثمروها في أفضل طريق.

وقد يثير تكرار التأكيد في القرآن الكريم على الإِستفادة من الأطعمة الطيبة تساؤلا عن سبب هذا التكرار. أمّا لو عدنا إلى تاريخ العصر الجاهلي لفهمنا السبب. فالجاهليون قد حرّموا على أنفسهم بعض الأطعمة دونما دليل، وتناقلت أجيالهم هذا التحريم وكأنّه وحي منزل، ونسبوه أحياناً بصراحة إلى الله، والقرآن استهدف إقتلاع جذور هذه الأفكار الخرافية من أذهانهم.

ثم إن التركيز على كلمة «طيب» يتضمن أيضاً دعوة إلى اجتناب ما خبث من الأطعمة، كالميتة والوحوش والحشرات، وكالمسكرات السائدة بين النّاس بشدّة

___________________________

1 ـ الآية 168 من هذه السّورة.

(486)

آنذاك.

في تفسير الآية 32 من سورة الأعراف تحدثنا بالتفصيل عن استثمار المؤمنين الأطعمة الطيبة والزينة المعقولة (المجلد الخامس من هذا التّفسير).

الآية التالية تبين بعض ألوان الأطعمة المحرمة، وتقول: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ).

تذكر الآية ثلاثة أنواع من اللحوم المحرمة إضافة إلى الدم، وهي من أكثر المحرمات انتشاراً في ذلك العصر، في بعضها خبث ظاهر لا يخفى على أحد كالميتة والدم ولحم الخنزير، وفي بعضها خبث معنوي كالتي ذبحت من أجل الأصنام.

الحصر في الآية بكلمة «إنما» هو «حصر إضافي» لا يستهدف منه بيان جميع المحرمات، بل نفي ما ابتدعوه بشأن بعض اللحوم المحللة. بعبارة اُخرى، هؤلاء الجاهليون حرّموا بعض الأطعمة الطيبة استناداً إلى ما توارثوه من خرافات وأوهام، لكنهم بدلا من ذلك كانوا يعمدون عند قلة الطعام إلى أكل الميتة أو الخنزير أو الدم.

القرآن يقول لهؤلاء: إن هذه هي الأطعمة المحرمة لا تلك (وهذا هو معنى الحصر الإِضافي).

ولمّا كانت بعض الضرورات تدفع الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرمة حفظاً لحياته، فقد استثنت الآية هذه الحالة وقالت: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ).

ومن أجل أن تقطع الآية الطريق أمام من يتذرع بالإضطرار، أكدت على كون المضطر «غير باغ» و«لا عاد». والباغي هو الطالب، والمراد هنا طالب اللذة والعادي هو المتجاوز للحد، أي المتجاوز حدّ الضرورة، فالرخصة هنا إذن لمن لا يريد اللذة في تناول هذه الأطعمة، ولا يتجاوز حد الضرورة اللازمة لنجاته من

(487)

الموت.

ولأن معنى البغي الظلم أيضاً ذهب بعض المفسرين إلى أن الرخصة ممنوحة لأُولئك الذين يضطرون خلال سفر محلل، لا خلال سفر المعصية.

فالمسافرون لهدف غير مشروغ قد يجب عليهم تناول الأطعمة المحرمة لحفظ النفس من التلف، إلاّ أن هذا العمل يكتب في صحيفة أعماله من الذنوب.

بعبارة اُخرى: هؤلاء العاصون قد يجب عليهم عقلا في أسفارهم المحرمة أن يتناولوا شيئاً من الأطعمة المحرمة لدى الإِضطرار، لكن هذا الوجوب لا يرفع عنهم المسؤوليتة، لأنهم أجبروا على ذلك وهم على مسير خاطيء.

وهناك روايات تذكر أن الآية تشير إلى السائرين على طريق الخروج على إمام المسلمين، فهؤلاء مستثنون من هذه الرخصة. وهذه الروايات تشير في الواقع إلى نفس الحقيقة المذكورة، وهكذا الأمر في أحكام صلاة المسافر، فالمسافر يقصر الصلاة في السفر إلاّ ما كان سفراً حراماً، ولذلك يستدلّ بعبارة (غير باغ ولا عاد) للحكمين معاً، حكم صلاة المسافر، وحكم ضرورة تناول اللحوم المحرمة(1)وفي الختام تقول الآية: (إنّ الله غفورٌ رحيمٌ) فإن الله الذي حرّم تلك الأطعمة أباح تناولها في موارد الضرورة برحمته الخاصة.

* * *

1 ـ فلسفة تحريم اللحوم المحرمة:

الأغذية المحرمة التي ذكرتها الآية الكريمة أعلاه لها ـ كسائر المحرمات الإلهية ـ فلسفتها الخاصة. وقد شرّعت إنطلاقاً من خصائص الإنسان جسمياً

___________________________

1 ـ روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «أنَّ (الباغي) هُوَ الذّاهِبُ لِلصَّيْدِ عَلى سَبيلِ التَّنزَّهِ، وَ(الْعَادي) هُوَ السَّارِقُ، وَهَذانِ مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ رُخْصَةِ أكْلِ الْمِيْتَةِ وَقَصْرِ الصَّلاَةِ»،(وسائل الشيعة، ج 5، ص 509)

(488)

وروحياً. والروايات الإِسلامية ذكرت علل بعض هذه الأحكام، والعلوم الحديثة أماطت اللثام أيضاً عن بعض هذه العلل.

على سبيل المثال، روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «...أَمَّا الْمِيْتَةُ فَإِنَّهُ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا أَحَدٌ إِلاَّ ضَعُفَ بَدَنُهُ، وَذَهَبَتْ قُوَّتُهُ، وَانْقَطَعَ نَسْلُهُ، وَلاَ يَمُوتُ آكِلُ الْمِيْتَةِ إِلاَّ فَجْأَةً»(1).

ولعل هذه المفاسد تعود إلى أن جهاز الهضم لا يستطيع أن يصنع من الميتة دماً سالماً حياً، إضافة إلى أن الميتة مرتع أنواع الميكروبات، والإِسلام اعتبر الميتة نجسة، كي يبتعد عنها المسلم فضلا عن عدم تناولها.

والمحرّم الثاني في هذه الآية «الدم»، وشرب الدم له مفاسد أخلاقية وجسمية، فهو وسط مستعد تماماً لتكاثر أنواع الميكروبات.

الميكروبات التي تدخل البدن تتجه أول ما تتجه إلى الدم، وتتخذه مركزاً لنشاطهم، ولذلك اتخذت الكريات البيضاء مواقعها في الدم للوقوف بوجه توغل هذه الأحياء المجهرية في الدم المرتبط بكل أجزاء الجسم.

وحين يتوقف الدم عن الحركة وتنعدم الحياة فيه، يتوقف نشاط الكريات البيض أيضاً، ويصبح الدم على بذلك وسطاً صالحاً لتكاثر الميكروبات دون أن تواجه عقبة في التكاثر. ولذلك نستطيع القول إن الدم ـ حين يتوقف عن الحركة ـ يكون أكثر أجزاء جسم الإنسان والحيوان تلوثاً.

ومن جهة اُخرى ثبت اليوم في علم الأغذية، أن الأغذية لها تأثير على الأخلاق والمعنويات عن طريق التأثير في الغدد وإيجاد الهورمونات. ومنذ القديم ثبت تأثير شرب الدم تشديد قسوة الإنسان، وأصبح ذلك مضرب الأمثال. لذلك نرى الرواية عن الإمام جعفر بن محمّد(عليه السلام) تقول:

«أمّا الدم فإنه يورث القسوة في القلب وقلّة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل

___________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 16، ص 310.

(489)

ولده ووالديه ولا يؤمن على حميمه ولا يؤمن على من يصحبه»(1).

ثالث: المحرمات المذكورة في الآية «لحم الخنزير».

الخنزير ـ حتى عند الأوروبيين المولعين بأكل لحمه ـ رمز التحلل الجنسي. وهو حيوان قذر للغاية، وتأثير تناول لحمه على التحلل الجنسي لدى الإنسان مشهود.

حرمة تناول لحمه صرحت بها شريعة موسى(عليه السلام) أيضاً، وفي الأناجيل شُبّه المذنبون بالخنزير، كما أن هذا الحيوان مظهر الشيطان في القصص.

ومن العجيب أن أُناساً يرون بأعينهم قذارة هذا الحيوان حتى إنه يأكل عذرته، ويعلمون احتواء لحمه على نوعين خطرين من الديدان، ومع ذلك يصرّون على أكله.

دودة «التريشين» التي تعيش في لحم هذا الحيوان تتكاثر بسرعة مدهشة، وتبيض في الشهر الواحد خمسة عشر ألف مرة، وتسبب للإنسان أمراضاً متنوعة كفقر الدم، والغثيان، وحمّى خاصة، والإسهال، وآلام المفاصل، وتوتر الأعصاب، والحكّة، وتجمع الشحوم داخل البدن، والإحساس بالتعب، وصعوبة مضغ الطعام وبلعه، والتنفس و ... .

وقد يوجد في كيلو واحد من لحم الخنزير (400) مليون دودة من هذه الديدان!! ولذلك أقدمت بعض البلدان الأوروبية في السنوات الماضية على منع تناول لحم هذا الحيوان.

وهكذا تتجلى عظمة الأحكام الإلهية بمرور الأيّام أكثر فأكثر.

يقول البعض أن العلم تطور بحيث استطاع أن يقضي على ديدان هذا الحيوان، ولكن على فرض اننا استطعنا بواسطة العقاقير، أو بالاستفادة من الحرارة

___________________________

1 ـ الوسائل، ج 16، ص 310.

(490)

الشديدة في طبخه، إلاّ أن أضراره الاُخرى ستبقى. وقد ذكرنا أن للأطعمة تأثيراً على أخلاق الإِنسان عن طريق تأثيرها على الغدد والهورمونات وذلك الأصل علمي مسلّم، وهو أن لحم كل حيوان يحوي صفات ذلك الحيوان أيضاً. من هنا تبقى للحلم الخنزير خطورته في التأثير على التحلل الجنسي للآكلين، وهي صفة بارزة في هذا الحيوان.

ولعل تناول لحم هذا الحيوان أحد عوامل التحلّل الجنسي في أوربا.

رابع، المحرمات في الآية (مَا أُهلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ)، وهي الحيوانات التي تذبح على غير اسم الله، كالتي كانت تقدم للأصنام في الجاهلية.

وتحريم لحوم هذه الحيوانات لايلزم بالضرورة أن تكون لها اضرار صحية حتى؟ يقال: إن ذكر اسم الله أو غير الله حين الذبح لاربط له بالامور الصّحية. فليس من الحتم أن تكون للحم آثار صحية حتى تكون محرمة. لان المحرمات في الاسلام لها أبعاد مختلفة، فتارة بسبب الصحة وحفظ البدن واُخرى يكون للتحريم جانب معنوي وأخلاقي وتربوي، فهذه اللحوم تبعد الإنسان عن الله، ولها تأثير نفسي وتربوي سلبي على الآكل، لأنها من سنن الشرك والوثنية وتعيد إلى الذهن تلك التقاليد الخرافية.

2 ـ التكرار والتأكيد

تحريم المواد الأربع المذكورة تكرر في أربع سور من القرآن، سورتين مكيتين (الأنعام، 145 والنحل، 115) وسورتين مدنيتين (البقرة، 173 والمائدة،3).

يبدو أن تحريم هذه اللحوم أعلن أولا في أوائل البعثة، ثم أعلن ثانية في أواخر إقامة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، وتكرر الإعلان ثالثة في أوائل الهجرة إلى المدينة، ثم أُعيد التأكيد رابعة في أواخر عمر الرّسول في سورة المائدة وهي آخر

(491)

سور القرآن.

كل هذا التأكيد يعود إلى أهمية الموضوع وإلى ما في هذه المواد من أخطار جسمية وروحية، وإلى اتساع نطاق تلوث النّاس آنئذ بها.

3 ـ حقن الدم

واضح أن تحريم تناول الدم في الآية لا يشمل موارد الإستفادة المعقولة من هذه المادة مثل حقن الدم لإنقاذ الجرحى والمرضى، كما لا يتوفر لدينا دليل على حرمة بيع الدم وشرائه في هذه الموارد، لأنها موارد استفادة عقلائية مشروعة عامة.

* * *

(492)

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَـبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلا أُوْلَـئِكَ مَايَأكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(174) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِى الْكِتَـبِ لَفِى شِقَاق بَعِيد(176)

سبب النّزول

أجمع المفسرون على نزول هذه الآية في أهل الكتاب، وقيل إنها نزلت خاصة في علماء اليهود. فقد كانوا قبل ظهور الإسلام يبشرون بصفات النّبي المرتقب وبعلاماته. وبعد البعثة خاف هؤلاء الأحبار على مصالحهم فكفّوا عن طريقتهم السابقة، وكتموا ما عندهم في التوراة من صفات النّبي، فنزلت الآيات تؤنّبهم.

التّفسير

إدانة كتمان الحقّ مرّة اُخرى

(493)

هذه الآيات تأكيد على ما مرّ في الآية 159 بشأن كتمان الحقّ. وهي ـ وإن كانت تخاطب أحبار اليهود ـ لها مفهوم عام، لا تقتصر ـ كما ذكرنا مراراً ـ على سبب نزولها. فسبب النّزول ـ في الواقع ـ وسيلة لبيان الأحكام الكلية العامة، ومصداق من مصاديق الحكم الكلي للآية.

فكل الذين يكتمون أحكام الله وما يحتاجه النّاس من حقائق طلباً للرّئاسة أو الثروة، قد ارتكبوا خيانة كبرى، وعليهم أن يعلموا أنهم باعوا حقيقة نفيسة بثمن بخس، وهي تجارة خاسرة.

الآية الاُولى تقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بِطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ).

هذه الهدايا والعطايا التي ينالونها من هذا الطريق نيران محرقة تدخل بطونهم. هذا التعبير يوضح ضمنياً مسألة تجسيم الأعمال في الآخرة وتدل على أن الأموال المكتسبة عن هذا الطريق المحرّم، هي في الواقع نيران تدخل في بطونهم وستتجسّم بشكل واقعي في الآخرة.

ثم تتعرض الآية إلى عقاب معنوي سينال هؤلاء أشدّ من العقاب المادي، وتقول: (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وفي موضع آخر ذكر القرآن مثل هذا اللون من العقاب لأُولئك الذين ينكثون عهد الله من أجل مصالح تافهة، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1).

يستفاد من هذه الآية والآية التالية أن واحدة من أعظم المواهب الإِلهية في الآخرة أن يكلم الله المؤمنين تلطفاً بهم. أي إن المؤمنين سينالون في الآخرة نفس

___________________________

1 ـ آل عمران، 77.

(494)

المنزلة التي نالها أنبياء الله في الدنيا، وسيلتذون بما التذ به الأنبياء من تكليم إلهي ... وأية لذة أعظم من هذه اللذة؟!

أضف إلى ذلك إن الله ينظر إليهم بعين لطفه، ويطهرهم بماء عفوه ورحمته، وأية نعمة أعظم من هذه النعمة؟!

بديهي أن تكليم الله عبادَه لا يعني أن الله له جسم ولسان، بل إنه بقدرته الواسعة يخلق في الفضاء أمواجاً صوتية خاصة قابلة للسمع والإِدراك، (كما كلّم الله موسى عند جبل الطور)، أو أنه يتكلم مع خاصة عباده بلسان القلب عن طريق الإلهام.

على أية حال، هذا اللطف الإلهي الكبير، وهذه اللذة المعنوية المنقطعة النظير، للعباد المخلصين الذين ينطقون بالحق ويعرّفون النّاس بالحقائق، ويلتزمون بعهودهم ومواثيقهم، ولا يضحون برسالتهم من أجل مصالحهم المادية.

وقد يسأل سائل عن تكليم الله المجرمين يوم القيامة، استناداً الى ما ورد في الآيات كقوله تعالى: (قَالَ اخْسَؤُا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونْ)(1). وهذا جواب من الله لأُولئك الذين يطلبون الخروج من النار. ومثل هذا الحوار نجده في الآيتين 30 و 31 من سورة الجاثية.

والجواب: أن المقصود من التكليم في آيات بحثنا، هو تكليم عن لطف وحبّ واحترام، لا عن تحقير وطرد وعقوبة فذلك من أشدّ الجزاء.

من الواضح أن عبارة (يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلا) لا تعني السماح بأن يشتروا به ثمناً باهظاً، فالمقصود أن الثمن المادّي مهما زاد فهو تافه لا قيمة له أمام كتمان الحقّ، حتى ولو كان الثمن الدنيا وما فيها.

الآية التالية تحدد وضع هذه المجموعة وتبين نتيجة صفقتها الخاسرة وتقول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ).

___________________________

1 ـ المؤمنون، 108.

(495)

فهؤلاء خاسرون من ناحيتين: من ناحية تركهم الهداية واختيار الضلالة، ومن ناحية حرمانهم من رحمة الله واستحقاقهم بدل ذلك العقاب الإلهي، وهذه مبادلة لا يقدم عليها إنسان عاقل.

لذلك تتحدث الآية عن هؤلاء بلغة التعجب وتقول: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)؟!

آخر آية في بحثنا تقول إن ذلك التهديد والوعيد بالعذاب لكاتمي الحق، يعود إلى أن الله أنزل القرآن بالدلائل الواضحة، حتى لم تبق شبهة لأحد: (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ).

مع ذلك فإن زمرة محرفة تعمد إلى كتمان الحقائق صيانة لمصالحها، وتثير الإختلاف في الكتاب السماوي لتتصيد في الماء العكر.

مثل هؤلاء الذين يثيرون الإختلاف في الكتاب السماوي بعيدون عن الحقيقة: (وَإنَّ الَّذِينَ اخْتلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاق بَعِيد).

كلمة «شقاق» تعني في الأصل الشق والإِنفصال، ولعل المراد به أن الإِيمان والتقوى ونشر الحقائق رمز وحدة المجتمع الإِنساني، أما الخيانة وكتمان الحقائق فعامل التفرقة والتبعثر والإنشقاق لا الإنشقاق السطحي الذي يمكن التغافل عنه بل البعيد والعميق.

* * *

(496)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21403127

  • التاريخ : 19/04/2024 - 19:47

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net