00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة آل عمران من آية 69 ـ 95 ( من ص 551 ـ 600) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآية

وَدَّت طَّآئفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين إنّ فريقاً من اليهود سعوا أن يستميلوا إلى اليهودية بعض الشخصيات الإسلامية المجاهدة، «معاذ» و «عمّار» وغيرهما مستعينين بالوساوس الشيطانية وغير ذلك. فنزلت هذه الآية تنذر المسلمين ممّا يبيت لهم اليهود.

التّفسير

(ودّت طائفة(1) من أهل الكتاب لو يُضلّونكم (2))

سعى أعداء الإسلام، وعلى الأخصّ اليهود، كما جاء في سبب النزول أن

_____________________________

1 ـ «طائفة» من مادة الطواف. بمعنى الحركة حول الشيء. وبما أن الناس كانوا في السابق يسافرون بشكل جماعات لاحراز الأمان اطلقت هذه الكلمة عليها، ثمّ استعملت في كل فئة وجماعة.

2 ـ «لو» في جملة (لو يضلّونكم) بمعنى (أن) المصدرية، وبما أن (لو) تعطي معنى التمني جاءت في هذه الجملة بدل (أن) ليكون التعبير أبلغ.

(551)

يباعدوا بين المسلمين والإسلام، ولم يتوانوا في سبيل ذلك في بذل كلّ جهد، حتّى أنّهم طمعوا في إغراء أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المقرّبين لعلّهم يستطيعون صرفهم عن الإسلام. ولاشكّ أنّهم لو نجحوا في التأثير على عدد منهم، أو حتّى على فرد واحد منهم، لكان ذلك ضربة شديدة على الإسلام تمهّد الطريق لتضليل الآخرين أيضاً.

هذه الآية تكشف خطّة الأعداء، وتنذرهم بالكفّ عن محاولاتهم العقيمة إستناداً إلى التربية التي نشأ عليها هذا الفريق من المسلمين في مدرسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث لا يمكن أن يكون هناك أيّ إحتمال لارتدادهم. إنّ هؤلاء قد إعتنقوا الإسلام بكلّ وجودهم، ولذلك فإنّهم يعشقون هذه المدرسة الإنسانية بمجامع قلوبهم ويؤمنون بها. وبناءً على ذلك لا سبيل للأعداء إلى تضليلهم، بل أنّهم إنّما يضلّون أنفسهم.

(وما يضلّون إلاّ أنفسهم وما يشعرون) وذلك لأنّهم بإلقاء الشبهات حول الإسلام وعلى رسول الإسلام واتّهامهما بشتّى التهم، إنّما يربّون في أنفسهم روح سوء الظن. وبعبارة أوضح : إن العيّاب الذي يتصيّد الهفوات يعمى عن رؤية نقاط القوّة، أو بسبب تعصّبه وعناده يرى النقاط المضيئة الإيجابية نقاطاً مظلمة سلبية، وكلّما ازداد إصراراً على هذا، إزداد بُعداً عن الحقّ.

ولعلّ تعبير (وما يشعُرون) إشارة إلى هذه الحالة النفسية، وهي أنّ الإنسان يقع دون وعي منه تحت تأثير أقواله هو أيضاً، وفي الوقت الذي يحاول فيه بالسفسطة والكذب والإفتراء أن يضلّ الآخرين، لا يكون هو نفسه بمنأى عن التأثير بأكاذيبه، فتروح هذه الإختلافات تؤثّر بالتدريج في روحه وتتمكّن فيه بعد فترة وجيزة بصورة عقيدة راسخة، فيصدّقها ويضلّ نفسه بها.

* * *

(552)

الآيتان

يَـأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَـاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70)يَأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(71)

التّفسير

كتمان الحقّ لماذا ؟

تعقيباً للحديث عن الأعمال التخريبية لأهل الكتاب الواردة في الآية السابقة، توجّه هاتان الآيتان الخطاب لأهل الكتاب وتلومهم على كتمانهم للحقائق وعدم التسليم لها. فتقول :

(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون)(1).

السؤال هنا أيضاً موجه إلى أهل الكتاب عمّا يدعوهم إلى العناد واللجاجة

_____________________________

1 ـ جملة «تشهدون» تعني العلم والمعرفة وفقاً للتفسير أعلاه، كما ورد في مجمع البيان وغيره ـ وهذا العلم ناشىء من اطلاعهم على أوصاف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)الواردة في التوراة والإنجيل، ولكن البعض يرى أن المراد بالعلم هنا هو كفاية المعجزات لإثبات نبوة نبي الإسلام. وذهب آخرون إلى أن المراد تنكرون بها في الظاهر، ولكن في جلساتكم الخاصّة تشهدون بصدق دعوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)وحقانيته.

(553)

والإصرار عليهما بعد أن قرأوا علامات نبي الإسلام في التوراة والإنجيل ويعلمون ما فيهما، فلماذا ينكرونها ؟

(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل).

مرّة اُخرى يستنكر القرآن قيامهم بالخلط بين الحقّ والباطل، وإخفاءهم الحقّ مع علمهم به، فهم على علمهم بالأمارات الواردة في التوراة والإنجيل عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) يخفونها.

إنّه يوبّخهم أوّلاً على إنحرافهم عن طريق الحقّ مع علمهم به، ثمّ يوبّخهم في الآية الثانية على تضليلهم الآخرين(1).

* * *

_____________________________

1 ـ في تفسير الآية 42 من سورة البقرة المشابهة لهذه الآية تحدّثنا عن هذا الموضوع ـ انظر الجزء الأوّل ـ .

(554)

الآيات

وَقَالَت طَّآئفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73)يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين القدامى إنّ اثني عشر من يهود خيبر وغيرهما وضعوا خطّة ذكيّة لزعزعة إيمان بعض المؤمنين، فتعاهدوا فيما بينهم أن يصبحوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتظاهروا باعتناق الإسلام، ثمّ عند المساء يرتدّون عن إسلامهم، فإذا سئلوا لماذا فعلوا هذا، يقولون : لقد راقبنا أخلاق محمّد عن قرب، ثمّ عندما رجعنا إلى كتبنا وإلى أحبارنا رأينا أنّ ما رأيناه من صفاته وسلوكه لا يتّفق مع ما هو موجود في كتبنا، لذلك ارتددنا. إنّ هذا سيحمل بعضهم على القول بأنّ

(555)

هؤلاء قد رجعوا إلى كتبهم السماوية التي هم أعلم منّا بها، إذاً لابدّ أن يكون ما يقولونه صحيحاً. وبهذا تتزعزع عقيدتهم.

هناك سبب نزول آخر، إلاَّ أنّ ما ذكرناه أقرب إلى معنى الآية.

التّفسير

مؤامرة خطيرة :

تكشف هذه الآية عن خطّة هدّامة أُخرى من خطط اليهود، وتقول إنّ هؤلاء لكي يزلزلوا بُنية الإيمان الإسلامي توسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة. من ذلك أنّ (طائفة من أهل الكتاب) اتّفقوا أن يؤمنوا بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار ويرتدّوا عنه في آخره (ءامنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره).

لعلّ المقصود من أوّل النهار وآخره قصر المدة بين إيمانهم وارتدادهم، سواء أكان ذلك في أوّل النهار حقّاً أم في أيّ وقت آخر. إنّما قصر هذه المدّة يوحي إلى الآخرين أن يظنّوا أنّ هؤلاء كانوا يرون الإسلام شيئاً عظيماً قبل الدخول فيه، ولكنّهم بعد أن أسلموا وجدوه شيئاً آخر قد خيّب آمالهم، فارتدّوا عنه.

لاشكّ أن مثل هذه المؤامرة كانت ستؤثّر في نفوس ضعفاء الإيمان، خاصّة وأنّ أُولئك اليهود كانوا من الأحبار العلماء، وكان الجميع يعرفون عنهم أنّهم عالمون بالكتب السماوية وبعلائم خاتم الأنبياء. فإيمانهم ثمّ كفرهم كان قادراً على أن يزلزل إيمان المسلمين الجديد. لذلك كانوا يعتمدون كثيراً على خطّتهم الماهرة هذه، وقوله : (لعلهم يرجعون) دليل على أملهم هذا.

وكانت خطّتهم تقتضي أن يكون إيمانهم بالإسلام ظاهرياً، وأن يبقى إرتباطهم باتّباع دينهم.

(556)

 (ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم).

ويستفاد من بعض التفاسير أنّ يهود خيبر أوصوا يهود المدينة بذلك لئلاّ يقع القريبون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت تأثيره فيؤمنوا به حقّاً، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ النبوّة يجب أن تكون في العنصر اليهودي، فإذا ظهر نبيّ فلابدّ أن يكون يهودياً.

يرى بعض المفسّرين أنّ جملة (لاتؤمنوا) من الإيمان الذي يعني «الوثوق والإطمئنان» كما هو أصل الكلمة اللغوي. وبناءً على ذلك يكون المعنى : هذه المؤامرة يجب أن تبقى مكتومة وسرّية، وأن لا يعلم بها أحد من غير اليهود، حتّى المشركين، لئلاّ تنكشف وتحبط، ففضح الله هذه المؤامرة في هذه الآيات وفضحهم، ليكون ذلك درس عبرة للمؤمنين، ودرس هداية للمعاندين.

(قل إنّ الهُدى هُدى الله).

هذه جملة معترضة جاءت ضمن كلام على لسان اليهود في ما قبلها وما بعدها من الآيات.

في هذه الآية التي تقع بين كلام اليهود، يردّ الله عليهم ردّاً قصيراً ولكنه عميق المعنى. فأوّلاً : الهداية مصدرها الله، ولا تختصّ بعنصر أو قوم بذاته، فلا ضرورة في أن يجيء النبيّ من اليهود فقط. وثانياً : إنّ الذين شملهم الله بهدايته الواسعة لا تزعزعهم هذه المؤامرات ولا تؤثّر فيهم هذه الخطط.

(أن يؤتى أحدٌ مثل ما أُوتيتم أو يحاجّوكم عند ربّكم)(1).

هذه الآية استمرار لأقوال اليهود، بتقدير عبارة (ولا تصدّقوا) قبلها.

وعلى ذلك يصبح معنى الآية هكذا : «لا تصدّقوا أن ينال أحد ما نلتم من الفخر وما نزل عليكم من الكتب السماوية، وكذلك لا تصدّقوا أن يستطيع أحد أن

_____________________________

1 ـ جملة «ولاتؤمنوا» تعني انكم لا تصدقوا ان ينزل كتاب سماوي على احد كما نزل عليكم.

(557)

يجادلكم يوم القيامة أمام الله ويدينكم، لأنكم خير عنصر وقوم في العالم، وأنتم أصحاب النبوّة والعقل والعلم والمنطق والاستدلال !».

بهذا المنطق الواهي كان اليهود يسعون لنيل ميزة يتميّزون بها، من حيث علاقتهم بالله، ومن حيث العلم والمنطق والاستدلال، على الأقوام الأخرى. لذلك يردّهم الله في الآية التالية بقوله :

(قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليم).

أي : قل لهم إنّ المواهب والنعم، سواء أكانت النبوّة والاستدلالات العقلية المنطقية، أم المفاخر الأُخرى، هي جميعاً من الله، يسبغها على من يشاء من المؤهّلين اللائقين الجديرين بها. إنّ أحداً لم يأخذ عليه عهداً ووعداً، ولا لأحد قرابة معه. إنّ جوده وعفوه واسعان، وهو عليم بمن يستحقّهما.

(يختصّ برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(1).

هذا توكيد لما سبق أيضاً : إنّ الله يخصّ من عباده من يراه جديراً برحمته ـ بما في ذلك مقام النبوّة والقيادة ـ دون أن يستطيع أحد تحديده فهو صاحب الأفضال والنِعم العظيمة.

ويستفاد ضمناً من هذه الآية الكريمة أن الفضل الإلهي اذا شمل بعض الناس دون بعض، فليس ذلك لمحدودية الفضل الإلهي، بل بسبب تفاوت القابليات فيهم.

* * *

خطط قديمة

تعتبر هذه الآيات، في الواقع، من آيات إعجاز القرآن، لأنّها تكشف أسرار

_____________________________

1 ـ «فضل» بمعنى كل شيء زاد عن المقدار اللازم من المواهب والنعم، وهو معنىً إيجابي وممدوح. ولكن تارة يستبطن معنىً مذموماً وسلبياً، وذلك عندما يأتي بمعنى الخروج عن حدّ الاعتدال. والميل إلى الإفراط، ويأتي غالباً بصيغة (فضول) جمع (فضل) كما في قولهم «فضول الكلام).

(558)

اليهود وأعداء الإسلام وتفضح خططهم لزعزعة مسلمي الصدر الأوّل، فتيقّظ المسلمون ببركتها، ووعوا وساوس الأعداء المغرية. ولكنّنا لو دقّقنا النظر لأدركنا أنّ تلك الخطط تجري في عصرنا الحاضر أيضاً بطرق مختلفة. إنّ وسائل إعلام الأعداء القوية المتطوّرة مستخدمة الآن للغرض نفسه، فهم يحاولون هدم أركان العقيدة الإسلامية في عقول المسلمين، وبخاصة الجيل الشاب. وهم في هذا السبيل لا يتورّعون عن كلّ فرية، ويلجأون إلى كلّ السبل ويتلبّسون بلبوس العالم والمستشرق والمؤرّخ وعالم الطبيعيات والصحفي، بل حتّى الممثّل السينمائي.

إنّهم يصرّحون أنّ هدفهم ليس التبشير بالمسيحية وحمل المسلمين على اعتناقها، ولا اعتناق اليهودية، بل هدفهم هو هدم أُسس المعتقدات الإسلامية في أفكار الشباب، وجعلهم غير مهتمّين بدينهم وتراثهم. إنّ القرآن اليوم يحذّر المسلمين من هذه الخطط كما حذّرهم في القديم.

* * *

(559)

الآيتان

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَار يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَار لاَّ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قآئماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الاُْمّيِّنَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

سبب النّزول

نزلت هذه الآية بشأن يهوديّين أحدهما أمين وصادق، والآخر خائن منحط. الأوّل هو «عبدالله بن سلام» الذي أودع عنده رجل 1200 أوقية(1) من الذهب أمانة. ثمّ عندما استعادها ردّها إليه. والله يثني عليه في هذه الآية لأمانته. واليهوديّ الثاني هو «فنحاص بن عازورا» ائتمنه رجل من قريش بدينار، فخانه فيه. والله يذمّه في هذه الآية لخيانته الأمانة.

وقيل إنّ القسم الأوّل من الآية يقصد جمعاً من النصارى، وأمّا الذين خانوا

_____________________________

1 ـ الأوقية تساوي 1/12 من الرطل ويساوي 7 مثاقيل، جمعها : أواق.

(560)

الأمانة فهم جمع من اليهود. وقد تشير الآية إلى الحالتين، إذ أنّنا نعلم أنّ الآيات ـ وإن كان لبعضها سبب نزول خاص ـ لها طابع عامّ وسبب النزول لا يخصّصها.

التّفسير

ترسم الآية ملامح أُخرى لأهل الكتاب. كان جمع من اليهود يعتقدون أنّهم لا يكونون مسؤولين عن حفظ أمانات الناس، بل لهم الحقّ في تملّك أماناتهم ! كانوا يقولون : إنّنا أهل الكتاب، وأن النبيّ والكتاب السماوي نزلا بين ظهرانينا، لذلك فأموال الآخرين غير محترمة عندنا. لقد تغلغلت فيهم هذه الفكرة بحيث غدت عقيدة دينية راسخة. وهذا ما يعبّر عنه القرآن بقوله (يقولون على الله الكذب) قال اليهود : إنّ لنا حقّ التصرّف بأموال العرب واغتصابها لأنّهم مشركون ولا يتّبعون دين موسى.

وقيل أيضاً إن اليهود كانت لهم مع العرب إتفاقات إقتصادية وتجارية وعندما أسلم العرب، إمتنع اليهود عن ردّ حقوقهم، قائلين : إنكم عند عقد الإتفاق لم تكونوا من مخالفينا. أما وقد أتخذتم ديناً جديداً فقد سقط حقّكم.

من الجدير بالذكر أنّ هذه الآية تعلن أنّ أهل الكتاب لم يكونوا جميعاً ينهجون هذا الطراز من التفكير غير الإنساني، بل كان فيهم جماعة ترى أنّ من واجبها أن تؤدّي حقّ الآخرين. ولذلك فإنّ القرآن لم يدنهم جميعاً ولم يلق تبعة أخطاء بعضهم على الجميع، ولذلك يقول (ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار(1) يؤدّه إليك ومنهم مَن إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلاَّ ما دمت عليه قائماً).

إنّ تعبير (إلاَّ ما دمت عليه قائماً) أي واقفاً ومسيطراً، يشير إلى مبدأ أصيل في

_____________________________

1 ـ بشأن معنى قنطار انظر تفسير الآية 14 من هذه السورة.

(561)

نفسيّة اليهود، فكثير منهم لا يجدون أنفسهم ملزمين بردّ حقّ إلاَّ بالقوّة. ليس أمام المسلمين لاسترجاع حقوقهم منهم سوى هذا السبيل، سبيل السعي للحصول على القوّة التي تجعلهم يردّون حقوقهم.

إنّ الحوادث التي جرت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ القرارات الدولية والرأي العام العالمي، وقضايا الحقّ والعدالة وأمثالها، لا قيمة لها في نظر الصهاينة ولا معنى، وما من شيء يحملهم على الخضوع للحقّ سوى القوّة. وهذه من المسائل التي تنبّأ بها القرآن.

(ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأُمّيّين سبيل).

هذه الآية تبيّن منطقهم في أكل أموال الناس، وهو قولهم بأنّ «لأهل الكتاب» أفضلية على «الأُميّين» أي على المشركين والعرب الذين كانوا أُمّيّين غالباً أو أن المقصود كلّ من ليس له نصيب من قراءة التوراة والإنجيل، لذلك يحقّ لهم أن يستولوا على أموال الآخرين، وليس لأحد الحقّ أن يؤاخذهم على ذلك، حتّى أنّهم ينسبون إلى الله تقرير التفوّق الكاذب.

لاشكّ أنّ هذا المنطق كان أخطر بكثير من مجرّد خيانة الأمانة، لأنّهم كانوا يرون هذا حقّاً من حقوقهم، فيشير القرآن إلى هذا قائلاً :

(ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).

هؤلاء يعلمون أنّه ليس في كتبهم السماوية أيّ شيء من هذا القبيل بحيث يجيز لهم خيانة الناس في أموالهم، ولكنّهم لتسويغ أعمالهم القبيحة راحوا يختلقون الأكاذيب وينسبونها إلى الله.

الآية التالية تنفي مقولة اليهود (ليس علينا في الأُميّيّن سبيل) التي قرّروا فيها

(562)

لأنفسهم حرّية العمل، فاستندوا إلى هذا الزعم المزيّف للإعتداء على حقوق الآخرين بدون حقّ. حيث يتلاعبون بمصائر شعوب العالم، ولا يتورّعون عن إرتكاب كلّ إعتداء على حقوق الإنسان، ويرون القوانين مجرّد العوبة بيدهم لتحقيق مصالحهم، فتقول : (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين).

تقرر هذه الآية أنّ مقياس الشخصية والقيمة الإنسانية ومحبّة الله يتمثّل في الوفاء بالعهد وفي عدم خيانة الأمانة خاصّة، وفي التقوى بشكل عامّ، أجل، إن الله يحب هؤلاء، لا الخوانة الكذابين الذين يبيحون لأنفسهم غصب حقوق الآخرين ويتجرؤون كذلك على نسبتها إلى الله تعالى.

* * *

بحث

1 ـ اعتراض :

قد يقول قائل إنّ الإسلام قرّر أيضاً مثل هذا الحكم بالنسبة لأموال الأجانب، إذ أنّه يجيز الإستيلاء على أموالهم.

الجواب :

إنّ اتّهام الإسلام بهذا افتراء لاشكّ فيه، إذ أنّ من أحكام الإسلام القاطعة الواردة في كثير من الأحاديث، هو «ليس من الجائز خيانة الأمانة سواء أكانت الأمانة تخصّ مسلماً أم غير مسلم، وحتّى المشرك وعابد الأصنام».

في حديث معروف عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال : «عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمّداً بالحقّ نبياً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه»(1).

_____________________________

1 ـ أمالي الصدوق : ص 149.

(563)

وفي رواية اُخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «إنّ الله لم يبعث نبيّاً قط إلاَّ بصدق الحديث وأداء الأمانة مؤدّاه إلى البرّ والفاجر»(1).

بناءً على ذلك فإنّ ما جاء في هذه الآية عن اليهود وخيانتهم الأمانة ومنطقهم في تسويغ تلك الخيانة لم يسمح به الإسلام بأيّ شكل من الأشكال، فالمسلمون مكلّفون أن لا يخونوا الأمانة في جميع الأحوال.

2 ـ كلمة «بلى» تستعمل في اللغة العربية ردّاً على النفي أو جواباً على استفهام مقترن بالنفي، كقوله تعالى : (ألستُ بربكم قالوا بلى)(2) و (نعم) جواباً للإستفهام المثبت، مثل (فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً قالوا نعم)(3).

* * *

_____________________________

1 ـ مشكاة الأنوار : عن سفينة البحار.

2 ـ الأعراف : 172.

3 ـ الاعراف : 44.

(564)

الآية

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَـانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئكَ لاَخَلاقَ لَهُمْ فِي الاَْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

سبب النّزول

جمع من أحبار اليهود وعلمائهم مثل «أبي رافع» و «حي بن أخطب» و«كعب بن أشرف» حين لاحظوا أنّ مراكزهم الإجتماعية بين اليهود معرّضة للخطر، عمدوا إلى العلامات الموجودة في التوراة بشأن خاتم الأنبياء والتي كانوا هم أنفسهم قد دوّنوها بأيديهم في نسخ التوراة، فحرّفوها وأقسموا على أنّ تلك الكتابات المحرّفة من الله. لذلك نزلت هذه الآية وفيها إنذار شديد لهم.

وهناك مفسّرون آخرون ذهبوا إلى أنّ هذه الآية نزلت في «أشعث بن قيس» الذي كان يريد استملاك أرض لغيره عن طريق الكذب والتزوير. وعندما تهيّأ لأداء اليمين لتوثيق ادّعائه نزلت الآية، فاستولى الخوف على أشعث واعترف بالحقّ وأعاد الأرض لصاحبها.

(565)

التّفسير

المحرفون للحقائق :

تشير الآية إلى جانب آخر من آثام اليهود وأهل الكتاب. ولكونها وردت بصيغة عامّة، فإنّها تشمل كلّ من تنطبق عليه هذه الصفات.

تقول الآية : (إنَّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً) أي الذين يجعلون عهودهم مع الله والقسم باسمه المقدّس موضع بيع وشراء لقاء مبالغ مادّية، سيكون جزاءهم خمس عقوبات :

أحدها : أنّهم سوف يُحرمون من نِعم الله التي لا نهاية لها في الآخرة (أُولئك لا خلاق(1) لهم).

ثمّ إنّ الله يوم القيامة يكلّم المؤمنين ولكنّه لا يكلّم أمثال هؤلاء (ولا يكلّمهم الله).

كما إنّ الله سوف لا ينطر إليهم بنظر الرحمة واللطف يوم القيامة (ولا ينظر إليهم يوم القيامة). ومن ذلك يعلم أن الله تعالى في ذلك اليوم يتكلم مع عباده المؤمنين (سواء مباشرة أو بتوسط الملائكة) ممّا يجلب لهم السرور والفرح ويكون دليلاً على عنايته بهم ورعايته لهم، وكذلك النظر إليهم، فهو إشارة إلى العناية الخاصّة بهم، وليس المقصود النظر الجسماني كما توهم بعض الجهلاء.

أمّا الأشخاص الذين باعوا آيات الله بثمن مادي فلا يشملهم الله تعالى بعنايته، ولا بمحادثته.

ولايطهّرهم من ذنوبهم (ولا يزكّيهم).

_____________________________

1 ـ «خلاق» من مادة «خُلُق» بمعنى النصيب والفائدة. وذلك لأن الإنسان يحصل عليها بواسطة اخلاقه (وهو إشارة إلى أنهم يفتقدون الأخلاق الحميدة التي تؤهلهم للانتفاع في ذلك اليوم).

(566)

وأخيراً سيعذّبهم عذاباً شديداً (ولهم عذاب أليم).

وليس المقصود من «الثمن القليل» أن الإنسان إذا باع العهد الإلهي بثمن كثير فيجوز له ذلك، بل المقصود أي ثمن مادّي يعطى مقابل إرتكاب هذه الذنوب الكبيرة، حتّى وإن كان هذا الثمن يتمثّل في رئاسات كبيرة وواسعة، فهي مع ذلك قليلة.

بديهيّ أنّ كلام الله ليس نطق اللسان، لأنّ الله منزّه عن التجسّد، إنّما الكلام عن طريق الإلهام القلبي، أو عن طريق إحداث أمواج صوتية في الفضاء، كالكلام الذي سمعه موسى (عليه السلام) من شجرة الطور.

* * *

ملاحظة

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه العواقب الخمس المترتّبة على «نقض العهد» و «الأيمان الكاذبة» المذكورة في هذه الآية ربّما تكون إشارة إلى مراحل «القرب والبعد» من الله.

إنّ من يقترب من الله ويدنو من ساحة قربه تشمله مجموعة من النِعم الإلهيّة المعنوية، فإذا ازداد اقتراباً كلّمه الله، وإن دنا أكثر نظر إليه الله نظرة الرحمة، وإن اقترب أكثر طهّره الله من آثار ذنوبه، وأخيراً ينجو من العذاب الأليم وتغمره نِعم الله، أمّا الذين يسيرون في طريق نقض العهود واستغلال اسم الله بشكل غير مشروع، فيحرمون من كلّ تلك النِعم ويتراجعون مرحلة بعد مرحلة. في تفسير الآية 174 من سورة البقرة، المشابهة لهذه الآية، شرح أوفى للموضوع.

* * *

(567)

الآية

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُنَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَـابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَـابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

التّفسير

هذه الآية التي تؤكّد ما بحثته الآيات السابقة بشأن خيانة بعض علماء أهل الكتاب وتقول : إنّ فريقاً من هؤلاء يلوون ألسنتهم عند تلاوتهم الكتاب. وهذا كناية عن تحريفهم كلام الله. و «يلوُن» من مادة (لَيّ) على وزن حيّ، وهو الإمالة، وهو تعبير بليغ عن تحريف كلام الله، وكأنهم حين تلاوتهم للتوراة وعندما يصلون إلى الآيات التي فيها صفات رسول الله والبشارة بظهوره يغيّرون لحن كلامهم.

وتضيف : إنّهم في تحريفهم هذا من المهارة بحيث إنّكم تحسبون ما يقرأونه آيات أنزلها الله، وهو ليس كذلك (لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب).

ولكنّهم لا يقنعون بذلك، بل يشهدون علانية بأنّه من كتاب الله، وهو ليس كذلك (ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله).

مرّة أُخرى يقول القرآن : إنّهم في عملهم هذا ليسوا ضحية خطأ، بل هم يكذبون على الله بوعي وبتقصّد، وينسبون إليه هذه التهم الكبيرة وهم عالمون بما يفعلون (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).

* * *

(568)

الآيتان

مَا كَانَ لِبَشَر أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِيّ مِن دوُنِ اللهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّـانِيِّنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَـابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلائكَةَ وَالنَّبِيِّن أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذ أَنتُم مُّسْلِمُون (80)

سبب النّزول

في سبب نزول هذه الآية روايتان :

الأُولى ـ أنّ رجلاً قال : يا رسول الله نحن نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، ألا نسجد لك ؟

قال : لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون الله، ولكن اكرموا نبيّكم واعرفوا الحقّ لأهله، فأنزل الله الآية.

الثانية ـ أنّ أبا رافع من اليهود ومعه رئيس وفد نجران قالا للنبيّ : أتريد أن نعبدك ونتّخذك إلهاً ؟

(569)

 (ولعلّهم ظنّوا أن مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لالوهية المسيح (عليه السلام) لأنه ليس له نصيب من ذلك، فلو أنهم رفعوا منزلته إلى مستوى الإله كما هو الحال بالنسبة إلى المسيح (عليه السلام) لترك الخلاف معهم، ولعلّ هذا الإقتراح يستبطن مؤامرة دبّرت لتلويث سمعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودفع الأنظار عنه) ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني، فأنزل الله الآية.

التّفسير

الدعوة إلى عبادة غير الله مستحيلة :

سبق أن قلنا إنّ واحدة من عادات أهل الكتاب القبيحة ـ اليهود والنصارى ـ كانت تزييف الحقائق. من ذلك قولهم باُلوهية عيسى، زاعمين أنّه هو الذي أمرهم بذلك، وكان هذا ما يريد بعضهم أن يحقّقه بشأن رسول الإسلام أيضاً، للأسباب التي ذكرناها في نزول الآية.

إنّ الآية ردّ حاسم على جميع الذين كانوا يقترحون عبادة الأنبياء. تقول الآية : ليس لكم أن تعبدوا نبيّ الإسلام ولا أيّ نبيّ آخر ولا الملائكة. ويخطىء من يقول إنّ عيسى قد دعاهم إلى عبادته.

(ما كان لبشر أن يوتيَه الله الكتاب والحُكم والنُبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله).

الآية تنفي نفياً مطلقاً هذا الأمر. أي أنّ الذين أرسلهم الله وأتاهم العلم والحكمة لا يمكن ـ في أيّة مرحلة من المراحل ـ أن يتعدّوا حدود العبودية لله. بل إنّ رسل الله هم أسرع خضوعاً له من سائر الناس، لذلك فهم لا يمكن أن يخرجوا عن طريق العبودية والتوحيد ويجرّوا الناس إلى هوة الشرك.

(570)

 (ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرُسون).

«الربّاني» هو الذي أحكم إرتباطه بالله. ولمّا كانت الكلمة مشتقّة من «ربّ» فهي تطلق أيضاً على من يقوم بتربية الآخرين وتدبير أُمورهم وإصلاحهم.

وعلى هذا يكون المراد من هذه الآية : إنّ هذا العمل (دعوة الأنبياء الناس إلى عبادتهم) لا يليق بهم، إنّ ما يليق بهم هو أن يجعلوا الناس علماء إلهيّين فى ضوء تعليم آيات الله وتدريس حقائق الدين، ويصيّروا منهم أفراداً لا يعبدون غير الله ولا يدعون إلاَّ إلى العلم والمعرفة.

يتّضح من ذلك أنّ هدف الأنبياء لم يكن تربية الناس فحسب، بل استهدفوا أكثر من ذلك تربية المعلّمين والمربّين وقادة الجماعة، أي تربية أفراد يستطيع كلّ منهم أن يضيء بعلمه وإيمانه ومعرفته محيطاً واسعاً من حوله.

تبدأ الآية بذكر «التعليم» أوّلاً ثمّ «التدريس». تختلف الكلمتان من حيث اتّساع المعنى، فالتعليم أوسع ويشمل كلّ أنواع التعليم، بالقول وبالعمل، للمتعلّمين وللأُمّيّين. أمّا التدريس فيكون من خلال الكتابة والنظر إلى الكتاب، فهو أخصّ والتعليم أعمّ.

(ولا يأمُركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً).

هذه تكملة لما بحث في الآية السابقة، فكما أنّ الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم، فإنّهم كذلك لا يدعونهم إلى عبادة الملائكة وسائر الأنبياء. وفي هذا جواب لمشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هم بنات الله، وبذلك يسبغون عليهم نوعاً من الاُلوهية، ومع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم من أتباع دين إبراهيم. كذلك هو جواب للصابئة الذين يقولون إنّهم أتباع «يحيى»، وكانوا يرفعون مقام الملائكة إلى حدّ عبادتهم. وهو أيضاً ردّ على اليهود الذين قالوا إنّ

(571)

«عزيراً» ابن الله، أو النصارى الذين قالوا إن «المسيح» ابن الله، وأضفوا عليه طابعاً من الربوبية، فالآية تردّ هؤلاء جميعاً وتقول إنّه لا يليق بالأنبياء أن يدعو الناس إلى عبادة غير الله.

وفي الختام تقول الآية (أيأمُركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون). أيمكن أن يدعوكم النبيّ إلى الكفر بعد أن اخترتم الإسلام ديناً ؟

واضح أنّ «الإسلام» هنا يقصد به معناه الأوسع، كما هي الحال في مواضع كثيرة من القرآن، وهو التسليم لأمر الله والإيمان والتوحيد. أي كيف يمكن لنبيّ أن يدعو الناس أوّلاً إلى الإيمان والتوحيد، ثمّ يدلّهم على طريق الشرك ؟ أو كيف يمكن لنبيّ أن يهدم ما بناه الأنبياء في دعوتهم الناس إلى الإسلام. فيدعوهم إلى الكفر والشرك ؟

تنوّه الآية ضمنيّاً بعصمة الأنبياء وعدم إنحرافهم عن مسير إطاعة الله(1).

* * *

ملاحظة

منع عبادة البشر :

تدين هذه الآيات بصراحة كلّ عبادة، وخاصّة عبادة البشر، سوى عبادة الله، وتربّي في الإنسان روح الحرّية واستقلال الشخصية، تلك الروح التي لا يكون بدونها جديراً بحمل اسم إنسان.

نعرف من خلال التاريخ العديد من الأشخاص الذين كانوا، قبل الوصول إلى

_____________________________

1 ـ في القراءة المعروفة التي اعتمدتها طبعة القرآن السائده، تأتي «ولا يأمركم» في حالة نصب ـ بفتح الراء ـ وهي معطوفة على «أي يؤتيه الله» في الآية السابقة. و «لا» توكيد لـ «ما» النافية في الآية السابقة. وعليه تكون الآية بهذا المعنى : وما كان لبشر أن يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً.

(572)

السلطة، يتميّزون بالبراءة ويدعون الناس إلى الحقّ والعدالة والحرّية والإيمان. ولكنّهم ما أن صعدوا عروش السلطة والهيمنة على المجتمع غيّروا سيرتهم شيئاً فشيئاً وانحازوا إلى فكرة عبادة الشخصية ودعوا الناس إلى عبادتهم.

في الواقع، أنّ من أساليب تمييز «دعاة الحقّ» عن «دعاة الباطل» هو هذا. فدعاة الحقّ ـ وعلى رأسهم الأنبياء والأئمّة ـ كانوا وهم في قمّة السلطة، كما كانوا قبل أن تكون لهم أيّة سلطة، يدعون إلى الأهداف الدينية المقدّسة والإنسانية والتوحيد والحرّية. أمّا دعاة الباطل، فإنّ أوّل ما يبادرون إليه عند وصولهم السلطة هو الدعوه لأنفسهم وحثّ الناس على نوع من عبادتهم، نتيجة تملّق الناس الضعفاء المحيطين بهم، وكذلك نتيجة ضيق أُفقهم وغرورهم.

هناك حديث عن الإمام علي (عليه السلام) تظهر من خلاله شخصيّته الكبيرة الفذّة، ويعتبر دليلاً وشاهداً على هذا البحث.

عند وصول الإمام (عليه السلام) إلى أرض الأنبار ـ إحدى مدن العراق الحدودية ـ خرّ جمع من الدهّاقين ساجدين أمامه، بحسب التقاليد التي اعتادوا عليها، فغضب الإمام من فعلتهم هذه وصرخ فيهم :

«ما هذا الذي صنعتموه ؟ فقالوا : خُلُقٌ منّا نعظّم به أمراءنا. فقال : والله ما ينتفع بهذا أُمراؤكم، وأنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم وتشقّون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار».

* * *

(573)

الآيتان

وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْررْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّـاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى(81) بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ (82)

التّفسير

الميثاق المقدس :

بعد أن أشارت الآيات السابقة الى وجود علائم لنبيّ الإسلام في كتب الأنبياء السابقين، أشارت هذه الآية إلى مبدأ عام، وهو أنّ الأنبياء السابقين وأتباعهم قد أبرموا مع الله ميثاقاً بالتسليم للأنبياء الذين يأتون بعدهم، وبالإضافة إلى الإيمان بهم، لا يبخلون عليهم بشيء في مساعدتهم على تحقيق أهدافهم. تقول الآية :

(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين...).

في الواقع، مثلما أنّ الأنبياء والأُمم التالية تحترم الأنبياء السابقين ودياناتهم،

(574)

فإنّ الأنبياء السابقين والأُمم السابقة كانوا يحترمون الأنبياء الذين يأتون بعدهم. وفي القرآن إشارات كثيرة على وحدة الهدف عند أنبياء الله. وهذه الآية نموذج حيّ على ذلك.

و«الميثاق» من «الوثوق»، أي ما يدعو إلى الإطمئنان به والإعتماد عليه. و «الميثاق» هو الإتّفاق المؤكّد. وأخذ الميثاق من الأنبياء مصحوب بأخذ الميثاق من أتباعهم أيضاً. كان موضوع هذا الميثاق هو أنّه إذا جاء نبيّ تنسجم دعوته مع دعوتهم (وهذا ما يثبت صدق دعوته) فيجب الإيمان به ونصرته.

ثمّ لتوكيد هذا الموضوع جاءت الآية :

(قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري)(1).

هل اعترفتم بهذا الميثاق وقبلتم عهدي وأخذتم من أتباعكم عهداً بهذا الموضوع ؟

وجواباً على ذلك (قالوا أقررنا).

ثمّ لتوكيد هذا الأمر المهمّ وتثبيته يقول الله : كونوا شهداء على هذا الأمر وأنا شاهد عليكم وعلى أتباعكم (قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).

وفي الآية الأخيرة يذم ويهدد القرآن الكريم ناقضي العهود ويقول :

(فمن تولى بعد ذلك فأُولئك هم الفاسقون).

فلو أن أحداً بعد كلّ هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدة ـ أعرض عن الإيمان بنبيّ كنبيّ الإسلام الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه، فهو فاسق وخارج على أمر الله تعالى. ونعلم أن الله لايهدي الفاسقين المعاندين، كما

_____________________________

1 ـ الإصر : العهد المؤكّد الذي يستوجب نقضه العقاب الشديد.

(575)

مرّ في الآية 80 من سورة التوبة : (والله لا يهدي القوم الفاسقين)، ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهيّة، فإن مصيره إلى النار.

* * *

هنا ثلاث نقاط لابدّ أن ننتبه لها :

1 ـ هل هذه الآية مقصورة على بشارة الأنبياء السابقين وميثاقهم بالنسبة لنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أم أنّها تشمل كلّ نبيّ يبعث بعد نبيّ قبله ؟

يظهر من الآية أنّها تعبّر عن مسألة عامّة، وإن كان خاتم الأنبياء مصداقها البارز. كما أنّ هذا المعنى الواسع يتّسق مع روح مفاهيم القرآن. لذلك إذا ما رأينا في بعض الأخبار أنّ المقصود هو نبيّ الإسلام الكريم، فما ذلك إلاَّ من قبيل تفسير الآية وتطبيقها على أجلى مصاديقها، وليس لأنّ المعنى جاء على سبيل الحصر.

ينقل الفخر الرازي في تفسيره عن الإمام علي (عليه السلام) قال : «إنّ الله تعالى ما بعث آدم (عليه السلام) ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلاَّ أخذ عليهم العهد لئن بعث محمّد عليه الصلاة والسلام وهو حي، ليؤمننّ به ولينصرنّه»(1).

2 ـ بعد أخذ مضمون الآية بنظر الإعتبار، يبرز هذا السؤال : أيمكن أن يظهر نبيّ من أُولى العزم في زمان نبيّ آخر من أُولي العزم حتّى يتبعه ؟

يمكن القول في جواب هذا السؤال : إنّ الميثاق لم يؤخذ من الأنبياء وحدهم، بل ومن أتباعهم أيضاً، كما قلنا في تفسير الآية، والواقع أنّ القصد من أخذ الميثاق من الأنبياء وأخذه من أُممهم والأجيال التي تولد بعدهم وتدرك عصر النبيّ التالي. كما أنّ الأنبياء أنفسهم يؤمنون أيضاً إذا أدركوا ـ فرضاً ـ عهد الأنبياء التالين. أي أنّ أنبياء الله لا ينفصلون إطلاقاً في أهدافهم وفي دعوتهم ولا صراع أو خلاف بينهم.

_____________________________

1 ـ التفسير الكبير : ج 8 ص 123.

(576)

3 ـ والقول الأخير بشأن هذه الآية هو أنّها وإن تكن بخصوص الأنبياء، فهي تصدق طبعاً بحقّ خلفائهم أيضاً، إذ أنّ خلفائهم الصادقين لا ينفكّون عنهم، وهم جميعاً يسعون لتحقيق هدف واحد. ولذلك كان الأنبياء يعيّنون خلفائهم، ويبشّرون الناس بهم ويدعونهم إلى الإيمان بهم وشدّ أزرهم.

ولئن وجدنا بعض الروايات الواردة في تفاسيرنا لهذه الآية وكتب أحاديثنا بشأن نزول عبارة «ولتنصرنّه» في علي (عليه السلام) وأنها تشمل قضية الولاية، إنّما هو إشارة إلى هذا المعنى.

ولابدّ أن نشير إلى أنّ هذه الآية ـ من حيث تركيبها النحوي ـ كانت موضع بحث بين المفسّرين ورجال الأدب(1).

4 ـ التعصّب المقيت

يحدّثنا التاريخ أنّ أتباع دين من الأديان لا يتخلّون بسهولة عن دينهم ولا يستسلمون للأنبياء الجدد المبعوثين من قبل الله، بل يتمسّكون بدينهم القديم تمسّكاً جافّاً جامداً، ويدافعون عنه كأنّه جزء من وجودهم، ويرون تركه إبادة لقوميّتهم.

لذلك يشقّ عليهم القبول بالدين الجديد. إنّ منشأ الكثير من الحروب الدينية التي وقعت على امتداد التاريخ ـ وهي من أفظع حوادث التاريخ ـ هو هذا التعصّب الجاف والجمود على الأديان القديمة.

غير أنّ قانون الإرتقاء والتكامل يقول : هذه الأديان يجب أن تأتي الواحد تلو الآخر، وتتقدّم بالبشرية في سيرها نحو معرفة الله والحقّ والعدالة والإيمان والأخلاق والإنسانية والفضيلة، حتّى تصل إلى الدين النهائي، خاتم الأديان،

_____________________________

1 ـ في «لما آتيتكم»يعتبر بعضهم «ما» موصولة ومبتدأ، واللام موطئة للقسم، وجملة «لتؤمننّ به» خبر. وقال فريق آخر «ما» شرطية زمانية وجزاؤها «لتؤمننّ به ولتنصرنّه». وهذا الإحتمال الثاني أقرب إلى معنى الآية.

(577)

كالطفل الذي يتدرّج في مراحل الدراسة ويطويها الواحدة بعد الأُخرى حتّى يتخرّج من الكليّة والجامعة.

فإذا أحبّ التلاميذ جوّ مدرستهم الإبتدائية ذلك الحبّ الذي يربطهم بمدرستهم إلى درجة أنّهم يرفضون الإنتقال إلى المدرسة الثانوية، فبديهيّ أنّ لا يكون نصيب هؤلاء سوى التخلّف عن ركب السائرين نحو التقدّم والإرتقاء.

إنّ إصرار الآية على أخذ الميثاق والعهد المؤكّد من الأنبياء والأُمم الماضية نحو الأنبياء التالين لهم قد يكون من أجل اجتناب أمثال هذا التعصّب والجمود والعناد.

ولكنّ الذي يؤسف له أنّنا ـ بعد كلّ هذا التأكيد ـ ما زلنا نرى أتباع الأديان القديمة لا يسلّمون بسهولة أمام الحقائق الجديدة. سوف نشرح إن شاء الله في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب كيف يكون الإسلام آخر الأديان وخاتمها ولماذا ؟

* * *

(578)

الآيات

أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَـاوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعيسى والنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)  وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاِْسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ (85)

التّفسير

الإسلام أفضل الأديان الإلهيّة :

مرّت بنا حتّى الآن بحوث مسهبة في الآيات السابقة عن الأديان الماضية. وابتداءاً من هذه الآية يدور البحث حول الإسلام وفيها إلفات لأنظار أهل الكتاب وأتباع الأديان السابقة إلى الإسلام.

تبدأ الآية بالتساؤل : (أفغير دين الله يبغون) أيريد هؤلاء ديناً غير دين الله ؟

(579)

وما دين الله سوى التسليم للشرائع الإلهية، هي كلّها قد جمعت بصورتها الكاملة الشاملة في دين نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم). فإذا كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحقيقي فعليهم أن يسلموا.

(وله أسلمَ مَن في السماوات والأرض).

يبدأ القرآن بتفسير الإسلام بمعناه الأوسع، فيقول : كلّ مَن في السماوات والأرض، أو جميع الكائنات في السماوات والأرض، مسلمون خاضعون لأوامره (طوعاً وكرهاً). هذا الإستسلام والخضوع يكون «طوعاً» أو إختيارياً أحياناً، إزاء «القوانين التشريعية»، ويكون «كرهاً» أو إجبارياً أحياناً أُخرى، إزاء «القوانين التكوينية».

ولتوضيح ذلك نقول : إنّ لله نوعين من الأمر في عالم الوجود. فبعض أوامره يكون بشكل (قوانين طبيعية وما وراء طبيعية) تحكم على مختلف كائنات هذا العالم، فهي خاضعة لها خضوع إكراه وليس لها أن تخالفها لحظة واحدة، فإن فعلت ـ فرضاً ـ يكتب لها الفناء والزوال. هذا نوع من «الإسلام والتسليم» أمام أمر الله. وبناءً على هذا فإنّ أشعة الشمس التي تسطع على البحار، وبخار الماء الذي يتصاعد منها، وقطع السحاب التي تتواصل، وقطرات المطر التي تنزل من السماء والنباتات التي تنمو بها، والزهور التي تتفتح لها، جميعها مسلّمة، لأنّ كلاًّ منها قد أسلم للقوانين التي فرضها عليها قانون الخليقة.

والنوع الآخر من أوامر الله هي «الأوامر التشريعية» وهي القوانين التي ترد في الشرائع السماوية وتعاليم الأنبياء. إنّ التسليم أمامها تسليم «طوعي» أو إختياري. فالمؤمنون الذين يسلمون لها إنّما هم وحدهم المسلمون. إنّ مخالفة هذه القوانين والشرائع لا تقلّ ـ على كلّ حال ـ عن مخالفة القوانين التكوينية، لأنّ مخالفتها تبعث على الإنحطاط والتخلّف والعدم.

(580)

ولمّا كانت «أسلم» مستعملة في هذه الآية بالمعنى الأوسع للإسلام، أي المعنى الذي يشمل النوعين من أوامر الله، لذلك فهي تقول إنّ فريقاً يسلم طوعاً ـ كالمؤمنين ـ وفريقاً يسلم كرهاً ـ كالكافرين ـ أمام القوانين التكوينية. وهكذا نجد أنّ الكافرين الذين يمتنعون عن التسليم أمام بعض أوامر الله مجبرين على التسليم أمام بعض آخر من أوامر الله. فلماذا إذاً لا يسلمون لجميع قوانين الله ودين الحقّ ؟

هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ذكره كثير من المفسّرين، وإن لم يتعارض مع ما قلناه آنفاً، وهو : أنّ المؤمنين وهم في حال من الرفاه والهدوء يسيرون نحو الله بملء إختيارهم. أمّا غير المؤمنين فلا يسيرون نحو الله إلاَّ عندما تحيق بهم البلايا والمشكلات التي لا تطاق، فيدعونه ويتوسّلون إليه، فمع أنّهم في الظروف العادية يشركون به، فإنّهم في الشدائد والملمّات لا يتوجّهون إلاَّ إليه.

ويتضح ممّا تقدّم أن «مَن» في جملة (من في السماوات والأرض) تشمل الموجودات العاقلة وغير العاقلة، فبالرغم من كونها تستعمل عادة للعقلاء، إلاَّ أنها قد تكون عامّة للتغليب. و «طوعاً» إشارة إلى الموجودات العاقلة المؤمنة، و «كرهاً» إشارة إلى الكفّار وغير العقلاء.

(قل آمنّا بالله وما أُنزل علينا...).

في هذه الآية يأمر الله النبيّ والمسلمين بأنّهم، فضلاً عن إيمانهم بما أُنزل على رسول الإسلام، عليهم أن يظهروا إيمانهم بكلّ الآيات والتعليمات التي نزلت على الأنبياء السابقين، وأن يقولوا : إنّنا لا نفرّق بينهم من حيث صدقهم وعلاقتهم بالله. إنّنا نعترف بالجميع، فهم جميعاً كانوا قادة إلهيّين، وهم جميعاً بُعثوا لهداية الناس. إنّا نسلم بأمر الله من جميع النواحي، وبذلك نقطع أيدي المفرّقين.

(581)

 (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه).

«يبتغ» من «الإبتغاء» بمعنى الطلب والسعي، ويكون في الأُمور المحمودة وفي الأُمور المذمومة. هنا يختتم البحث المذكور باستنتاج نتيجة كلّيّة، وهي أنّ الدين الحقيقي هو الإسلام، أي التسليم لأمر الله بمعناه العام، وأمّا بمفهومه الخاصّ فهو الانتقال إلى الدين الإسلامي الذي هو أكمل الأديان، فتقول الآية : أنه لا يقبل من أحد سوى الإسلام مع الأخذ بنظر الإعتبار احترام سائر الشرايع الإلهيّة المقدسة. فكما أن طلاّب الجامعة في نفس الوقت الذي يحترمون فيه الكتب الدراسية للمراحل السابقة من الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، فإنه لا يقبل منهم سوى دراسة الكتب والدروس المقررة للمرحلة النهائية، فكذلك الإسلام. وأمّا الذين يتّخذون غير هذه الحقيقة ديناً، فلن يقبل منهم هذا أبداً، ولهم على ذلك عقاب شديد (وهو في الآخرة من الخاسرين) ذلك لأنّه تاجر بثروة وجوده مقابل بضع خرافات وتقاليد بالية، وعصبيّات جاهلية وعنصرية، ولا شكّ أنّه هو الخاسر في هذه الصفقة. وإذا ما خسر الإنسان ثروة وجوده، وجد نتيجة ذلك حرماناً وعذاباً وعقاباً يوم القيامة.

وذكر بعض المفسّرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين أظهروا الإيمان، ثمّ ارتدوا ، وخرجوا من المدينة إلى مكّة، فنزلت الآية وانذرتهم بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى : (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً) الآية أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول : يا ربّ أنا الصلاة فيقول : إنّك على خير، وتجيء الصدقة فتقول يا ربّ أنا الصدقة فيقول : إنّك على خير، ثمّ يجيء الصيام فيقول : أنا الصيام فيقول : إنّك على خير، ثمّ تجيء الأعمال كلّ ذلك يقول

(582)

الله : إنّك على خير، ثمّ يجيء الإسلام فيقول : يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله : إنّك على خير; بك اليوم آخذ، وبك أُعطي. قال الله في كتابه : (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(1).

فيما يتعلّق باختلاف «الإسلام» عن «الايمان» سوف يأتي شرحه في تفسير الآية 14 من سورة الحجرات إن شاء الله.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير الدر المنثور : ج 2 ص 48، نقلاً عن معجم الأوسط : ج 8 ص 296 حديث 7607.

(583)

الآيات

كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيَمـانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ (86)أُوْلَئكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعنَةَ اللهِ وَالْمَلائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَـالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89)

سبب النّزول

كان «الحارث بن سويد» من الأنصار، إرتكب قتل شخص بريء اسمه «المجذر بن زياد»، فارتدّ عن الإسلام خوفاً من العقاب، وفرّ من المدينة إلى مكّة.ولكنّه في مكّة ندم على فعلته، وراح يفكّر فيما يصنعه. وأخيراً استقرّ رأيه على أن يبعث بأحد أقاربه في المدينة يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا إذا كان له سبيل للرجوع. فنزلت هذه الآيات، تعلن قبول توبته بشروط خاصّة. فمثُل الحارث بن سويد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجدّد إسلامه، وظلّ ملتزماً وفيّاً لإسلامه حتّى

(584)

آخر رمق فيه. غير أنّ أحد عشر شخصاً ممّن ارتدّوا عن الإسلام معه بقوا مرتدّين(1).

في تفسير الدرّ المنثور وفي تفاسير أُخرى، سبب نزول للآيات المذكورة لا يختلف كثيراً عمّا أوردناه.

التّفسير

كان الكلام في الآيات السابقة عن أن الدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثمّ رفضوه وتركوه، ويسمى مثل هذا الشخص «مرتد» تقول الآية :

(كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرسول حقّ وجاءهم البيّنات).

فالآية تقول : إنّ الله لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الإهتداء، لماذا ؟ لأن هؤلاء قد عرفوا النبيّ بدلائل واضحة وقبلوا رسالته، فبعدولهم عن الإسلام أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق للهداية الإلهيّة : (والله لا يهدي القوم الظالمين).

المراد من «البينات» في هذه الآية القرآن الكريم وسائر معاجز النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد من «الظالم» هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى. ويرتد عن الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سبباً في إضلال الآخرين. ثمّ تضيف الآية :

(أُولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).

عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحقّ بعد معرفتهم له، كما هو مبيّن في الآية، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 471.

(585)

«اللعن» في الأصل الطرد والإبعاد على سبيل السخط، من هنا فلعن الله هو إبعاد الشخص عن رحمته، أمّا لعن الملائكة والناس فقد يكون السخط والطرد المعنوي، وقد يكون الطلب من الله تعالى بابعادهم عن رحمته. هؤلاء الأشخاص يكونون في الواقع غارقين في الفساد والإثم إلى درجة أنّهم يصبحون مورد إستنكار كلّ عاقل هادف في العالم، من البشر كان أم من الملائكة.

(خالدين فيها لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون).

تُضيف الآية هنا أنّهم فضلاً عن كونهم موضع لعن عام، فإنّهم سيبقون في هذا اللعن إلى الأبد، فهم في الواقع كالشيطان الخالد في اللعن الأبدي.

ولاشكّ أنّ نتيجة ذلك هو أن يكونوا في عذاب شديد ودائم بغير تخفيف ولا إمهال.

وفي آخر آية تفتح طريق العودة أمام هؤلاء الأفراد، وتدعوهم للتوبة، لأن هدف القرآن هو الإصلاح والتربية، ومن أهم الطرق لذلك هو فتح باب العودة للمذنبين والملوثين كيما تتاح لهم الفرصة لجبران ما فرط منهم،فتقول :

(إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفور رحيم).

إنّ هذه الآية مثل الكثير من آيات القرآن، وبعد الإشارة إلى التوبة ـ تشير إلى التكفير عن الذنوب السابقة وبجملة «وأصلحوا» تبيّن أنّ التوبة لا تعني مجرّد الندم على ما مضى والعزم على تجنّب إرتكاب الذنوب في المستقبل، بل شرط قبولها هو أن يمحو التائب بأعماله الصالحة في المستقبل جميع أعماله القبيحة الماضية.

لذلك نجد في كثير من الآيات انّ التوبة يرافقها العمل الصالح، مثل : (إلاَّ من تاب وعمل صالحاً)(1) وإلاَّ فإنّ التوبة لن تكون كاملة. فهؤلاء إن فعلوا ذلك نالوا رحمة الله ومغفرته (فإن الله غفور رحيم).

_____________________________

1 ـ طه : 82 .

(586)

بل إنه يستفاد من هذه الآية أن الذنب عبارة عن نقص في الإيمان، وأنه بعد التوبة يقوم الشخص التائب بتجديد الإيمان ليتطهر من هذا النقص.

هل تقبل توبة المرتد ؟

يبدو من الآية أعلاه ومن سبب نزولها أن قبول توبة المرتد (وهو الذي أسلم ثمّ عاد عن إسلامه) يرتبط بنوع الإرتداد. فثمّة «المرتدّ الفطري» وهو المرتد الذي ولد من أبوين مسلمين، أو انعقدت نطفته حين كان أبواه مسلمين، ثمّ قبل الإسلام وعاد عنه بعد ذلك. وهناك «المرتدّ الملّي» وهو الذي لم يولد من أبوين مسلمين.

توبة المرتدّ الملّي تقبل، وعقوبته في الواقع خفيفة لأنّه ليس مسلماً بالمولد، لكن حكم المرتدّ الفطري أشد. هذا المرتدّ ـ وإن قبلت توبته لدى الله سبحانه ـ يُحكم بالإعدام إن ثبت إرتداده. وتوزّع أمواله على ورثته المسلمين، وتنفصل عنه زوجته، ولا تحول توبته دون إنزال هذه العقوبة بحقّه.

لكن هذه الشدّة تخصّ ـ كما قلنا ـ المرتدّ الفطري، وبشرط أن يكون رجلاً. قد تعجّب بعضهم لهذا التشدّد، وربّما اعتبر نوعاً من الفظاظة القاسية البعيدة عن الرحمة، الأمر الذي لا يتّسق مع روح الإسلام.

غير أنّ لهذا الحكم فلسفة أساساً، وهي حفظة الجبهة الداخلية في بلاد الإسلام ضدّ نفوذ المنافقين والأجانب، وللحيلولة دون تفكّكها واضمحلالها. إنّ الإرتداد ضرب من التمرّد على نظام البلد الإسلامي، وحكمه الإعدام في أنظمة الكثير من قوانين العالم اليوم. إذ لو أُجيز لمن يشاء أن يعتنق الإسلام متى شاء وأن يرتدّ عنه متى شاء، لتحطّمت الجبهة الداخلية سريعاً، ولانفتحت أبواب البلد أمام الأعداء

(587)

وعملائهم، ولساد المجتمع الإسلامي الهرج والمرج. وبناءً على ذلك فإنّ هذا الحكم حكم سياسي في الواقع، ولابدّ منه لحماية الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وللضرب على أيدي العملاء والأجانب.

أضف إلى ذلك أنّ من يتقبّل الإسلام بعد التحقّق والتدقيق، ثمّ يتركه ليعتنق ديناً آخر، لا يمتلك دوافع سليمة ومنطقية، وهو بذلك يستحقّ أشدّ العقوبات. أمّا تخفيف هذا الحكم بالنسبة للمرأة، فلأنّ جميع العقوبات تخفّف بشأنها.

* * *

(588)

الآيتان

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيَمـانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (90) إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَماتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الاَْرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولئكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّـاصِرِينَ (91)

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين أن الآية الأولى نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته، ولكنّهم بعد البعثة كفروا به. وذهب آخرون إلى أنها نزلت في الحارث بن سويد وأحد عشر آخرين الذين إرتدّوا عن الإسلام لأسباب. ثمّ تاب وعاد إلى الإسلام. أمّا الآخرون فقد رفضوا دعوته للعودة، وقالوا : سنبقى في مكّة ونواصل مناوءة محمّد إنتظاراً لهزيمته. فإذا تحقّق ذلك فخير، وإلاَّ فإنّ باب التوبة مفتوح، نتوب وقتما نشاء ونرجع إلى محمّد، وسوف يقبل توبتنا ! وعندما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة اسلم بعضهم وقبلت توبتهم، وأمّا من أصرّ على البقاء على الكفر فقد نزلت الآية الثانية بشأنهم.

(589)

التّفسير

التوبة الباطلة :

(إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم).

كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول الذين يندمون حقّاً على إنحرافهم عن طريق الحقّ فيتوبون توبةً صادقة. في هذه الآية يدور الكلام على الذين لن تُقبل توبتهم، وهم الذين آمنوا أوّلاً، ثمّ إرتدّوا وكفروا، وأصرّوا على كفرهم، ورفضوا الإنصياع لأوامر الله، حتّى إذا اشتدّ عليهم الأمر اضطرّوا إلى العودة للإسلام. إنّ الله لن يقبل توبة هؤلاء، لأنّهم لن يتّخذوا بإختيارهم خطوة في سبيل الله، بل هم مجبرون على إظهار الندم والتوبة بعد رؤيتهم إنتصار المسلمين. لذلك فتوبتهم ظاهرية ولن تُقبل.

وثمّة إحتمال آخر في تفسير هذه الآية هو : أنّ أمثال هؤلاء الأشخاص عندما يرون أنفسهم على أعتاب الموت ونهاية العمر قد يندمون ويتوبون حقّاً. غير أنّ توبتهم لن تُقبل، لأنّ وقت التوبة يكون قد إنتهى، كما سيأتي شرحه. وهذا نظير قوله تعالى في الآية 18 من سورة النساء : (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال اني تبت الآن).

وقيل : من المحتمل أن يكون معنى الآية : إنّ التوبة عن الذنوب العادية في حال الكفر لن تقبل. أي إذا أصرّ أحدهم على المضي في طريق الكفر، ثمّ تاب عن ذنوب معيّنة كالظلم والغيبة وأمثالهما، فإنّ توبته هذه لا طائل وراءها ولن تُقبل، وذلك لأنّ غسل التلوّث الظاهر عن الروح والنفس، مع بقاء التلوّث الأعمق في الباطن، لا فائدة منه.

لابدّ أن نضيف هنا أنّ التفاسير المذكورة آنفاً لا تعارض بينها، وقد تشملها

(590)

الآية جميعاً، وإن يكن التفسير الأوّل أقرب إلى الآيات السابقة وإلى سبب نزول هذه الآية.

وفي الآية الثانية يقول تعالى :

(إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفّار فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به).

تخصّ الآية أُولئك الذين يقضون أعمارهم كافرين في هذه الدنيا، ثمّ يموتون وهم على تلك الحال. يقول القرآن، بعد أن اتّضح لهؤلاء طريق الحقّ، يسيرون في طريق الطغيان والعصيان، وهم في الحقيقة ليسوا مسلمين، ولن يُقبل منهم كلّ ما ينفقونه، وليس أمامهم أيّ طريق للخلاص، حتّى وإن أنفقوا ملء الأرض ذهباً في سبيل الله.

من الواضح أنّ القصد من القول بإنفاق هذا القدر الكبير من الذهب إنّما هو إشارة إلى بطلان إنفاقهم مهما كثر، لأنّه مقرون بتلوّث القلب والروح بالعداء لله، وإلاَّ فمن الواضح أنّ ملء الأرض ذهباً يوم القيامة لا يختلف عن ملئها تراباً. إنّما قصد الآية هو الكناية عن أهميّة الموضوع.

أمّا بشأن مكان هذا الإنفاق، أفي الدنيا أم في الآخرة ؟ فقد ذكر المفسّرون لذلك إحتمالين إثنين، ولكن ظاهر الآية يدلّ على العالم الآخر، أي كانوا كافرين (وماتوا وهم كفّار)، فلو كانوا يملكون ملء الأرض ذهباً، وظنّوا أنّهم بالإستفاده من هذا المال، كما هي الحال في الدنيا،يستطيعون أن يدرأوا العقاب عن أنفسهم، فهم على خطأ فاحش، إذ أنّ هذه الغرامة المالية والفدية ليست قادرة على التأثير في ما سيواجههم من عقاب. وفي الواقع فان مضمون هذه الآية يشبه قوله تعالى في الآية 15 من سورة الحديد : (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا).

(591)

وفي الختام يشير إلى نكتة اُخرى في المقام ويقول : (أُولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين).

لاشكّ في أنّهم سينالون عقاباً شديداً مؤلماً، ولن يكون باستطاعة أحد أن ينتصر أو يشفع لهم. لأن الشفاعة لها شرائط، وأهمها الإيمان بالله، ولهذا السبب فلو أن جميع الشفعاء اجتمعوا لإنقاذ أحد الكفّار من عذاب النار لم تقبل شفاعتهم. وأساساً، بما أن الشفاعة بإذن الله، فإن الشفعاء لا يشفعون أبداً لمثل هؤلاء الأفراد غير اللائقين للشفاعة، لأن الشفاعة تحتاج إلى قابلية المحل، والإذن الإلهي لايشمل الأفراد غير اللائقين.

* * *

(592)

الآية

لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

التّفسير

من علائم الإيمان :

(لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون).

ولفظة «البر» في أصلها اللغوي تعني «السعة» ولهذا يقال للصحراء «البَر» بفتح الباء، ولهذه الجهة أيضاً يقال للأعمال الصالحة ذات الآثار الواسعة التي تعم الآخرين وتشملهم «البِر» بكسر الباء، والفرق بين البر والخير من حيث اللغة هو أن البر يراد منه النفع الواصل إلى الآخرين مع القصد إلى ذلك، بينما يطلق الخير على ما وصل نفعه إلى الآخرين حتّى لو وقع عن سهو غير قصد.

ماذا يعني «البر» في الآية ؟

لقد ذهب المفسّرون في تفسير «البر» في هذه الآية إلى مذاهب شتى.

فمنهم من قال : إن المراد به هو «الجنة»، ومنهم من قال أن المراد هو «الطاعة

(593)

والتقوى» ومنهم من فسّره بأن معناه «الأجر الجميل».

غير أن المستفاد من موارد استعمال هذه اللفظة في آيات الكتاب العزيز نفسه هو : أن لكلمة «البر» معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع الخير إيماناً كان أو أعمالاً صالحة، كما أن المستفاد من الآية 177 من سورة البقرة هو إعتبار «الإيمان بالله واليوم الآخر، والأنبياء، وإعانة المحتاجين، والصلاة، والصيام، والوفاء، والإستقامة في البأساء والضراء» جميعها من شعب البر ومصاديقه.

وعلى هذا فإن للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطاً عديدة، منها : لإنفاق ممّا يحبه الإنسان من الأموال، لأن الحبّ الواقعي لله، والتعلّق بالقيم الأخلاقية والإنسانية إنما يتضح ويثبت إذا انتهى المرء إلى مفترق طريقين، وواجه خيارين لا ثالث لهما، ويقع في أحد الجانبين الثروة، أو المنصب، والمكانة المحببة لديه، وفي الجانب الآخر رضا الله والحقيقة والعواطف الإنسانية وفعل الخير، ويتعين عليه أن يختار أحدهما ويضحي بالآخر، ويتغاضى عنه.

فإذا غض نظره عن الأول لحساب الثاني أثبت صدق نيته، وبرهن على حبه، وعلى واقعيته في ولائه وانتمائه.

وإذا اقتصر ـ في هذا السبيل ـ على إنفاق الحقير القليل، وبذل ما لايحبه ويهواه، فإنه يكون بذلك قد برهن على قصوره في الإيمان والمحبة، والتعلّق المعنوي عن تلك المرتبة السامية، وأنه ليس إلاّ بنفس الدرجة التي أظهرها في سلوكه وعطائه لا أكثر، وهذا هو المقياس الطبيعي والمنطقي لتقييم الشخصية، ومعرفة مستوى الإيمان لدى الإنسان، ومدى تجذره في ضميره.

تأثير القرآن في قلوب المسلمين :

لقد كان لآيات الكتاب العزيز تأثير بالغ ونفوذ سريع في أفئدة المسلمين

(594)

الأوائل، فما إن سمعوا آيات جديدة النزول، إلاّ وظهر هذا التأثير على سلوكهم ومواقفهم وتصرفاتهم، ونذكر من باب المثال ما نقرأه في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي ممّا ورد في مجال هذه الآية بالذات.

1 ـ كان «أبو طلحة» أكثر أنصاري المدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت (لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون) قام أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن الله يقول : لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون وأن أحب أموالي إلي بيرحاء، وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : بخ بخ ذلك مال رابح لك وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أبو طلحة : افعل يا رسول الله، فقسمها أبوطلحة في أقاربه وبني عمه(1).

2 ـ أضاف أبو ذر الغفاري ضيفاً، فقال للضيف : إني مشغول، وأن لي إبلاً فاخرج وآتني بخيرها، فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال أبو ذر : خنتني بهذه، فقال : وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر : إن يوم حاجتي إليه ليوم اوضع في حفرتي، مع أن الله يقول :

(لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون)(2).

3 ـ كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدّاً، قد زينت غلافه بأغلى أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة وكانت تحبه حباً شديداً وتعتز به أكبر إعتزاز، وفيما هي تتلو القرآن في ذلك المصحف ذات يوم وإذا بها مرت على قوله

_____________________________

1 ـ مجمع البيان وصحيح مسلم والبخاري كتاب التفسير باب ما جاء في سورة آل عمران، ويرحاء موضع كان لأبي طلحة بالمدينة.

2 ـ مجمع البيان : ج 2 ص 474.

(595)

تعالى : (لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون) فتأملت فيه، وغاصت في معناه وتأثرت بندائه فقالت في نفسها : «إنه ليس هناك ما هو أحب إلي من هذا المصحف المزين الثمين فلأنفقه في سبيل الله»، فأرسلت إلى باعة الجواهر وباعت جواهره وأحجاره الكريمة عليهم ثمّ هيأت بثمنها آباراً وقنوات من الماء في صحراء الحجاز ليشرب منه سكان الصحراء وينتفع به المسافرون، ويقال أن بقايا هذه الآبار لا تزال باقية وتدعى(1) باسمها عند الناس.

وحتّى يطمئن المنفقون إلى أن أي شيء ممّا ينفقونه لن يعزب عن الله سبحانه ولن يضيع، عقب الله على حثه للناس على الإنفاق ممّا يحبون بقوله : (وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) إنه يعلم بما تنفقونه صغيراً أم كبيراً، تحبونه أو لاتحبونه.

* * *

_____________________________

1 ـ راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ج 3 ص 157 في تفسير الآية.

(596)

الآيات

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَاءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ  (93)  فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ  (95)  قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(95)

سبب النّزول

المستفاد من الروايات الواردة حول هذه الآيات وما ينقله المفسّرون هو : أن اليهود طرحوا إشكالين آخرين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضمن جدالهم له، أحدهما : تحليله لحوم الإبل وألبانها، وقد كانت حراماً في دين إبراهيم (عليه السلام) وكانوا يقولون : كلّ شيء نحرمه فهو كان محرماً على نوح وإبراهيم، فكيف تحلله وأنت تدعي متابعة إبراهيم وإنك على ملته ودينه ؟

والآخر : صلاته باتجاه الكعبة فكانوا يقولون : كيف تدعي يا محمّد الإقتداء بملّة إبراهيم (عليه السلام) والنبيين العظام، وقد كان جميع الأنبياء من ولد إسحاق يولون

(597)

وجوههم شطر «بيت المقدس» ويصلون باتجاهه وأنت تصلي شطر الكعبة وتعرض عن «بيت المقدس» ؟

فجاءت الآيات الثلاثة تردّ على إنكارهم للأمر الأول وتفند زعمهم، بينما تكفلت الآيات القادمة الردّ على اعتراضهم الأخير.

التّفسير

صرحت الآية الأُولى من هذه الآيات الثلاث بتفنيد كلّ المزاعم اليهودية حول تحريم بعض أنواع الطعام الطيب (مثل لحوم الإبل وألبانها) وردت على هذه الكذبة بقولها : (كلّ الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلاَّ ما حرّم إسرائيل(1) على نفسه من قبل أن تنزل التوراة).

أما لماذا حرّم يعقوب على نفسه بعض الأطعمة ؟ وما هو نوع الأطعمة التي حرمها على نفسه فلم يرد في الآية أي توضيح بشأنها، بيد أن المستفاد من الروايات الإسلامية هو أن يعقوب كان ـ كما قيل ـ كلّما أكل من لحم الإبل أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النساء(2) فعزم إن شفاه الله على أن يحرم لحم الإبل على نفسه، فاقتدى به أتباعه في هذا، حتّى اشتبه الأمر على من أتوا من خلفهم فيما بعد فتصور بعض أنه تحريم إلهي، فاعتبروا ذلك حكماً ونسبوه إلى الله، وادعوا بأنه حرم عليهم لحم الإبل، فنزلت الآية تفند هذا الزعم ببيان علّة الإلتباس، وتصرّح بأن نسبه هذا التحريم إلى الله سبحانه محض إختلاق.

وعلى هذا فقد كان كلّ الطعام حلالاً، ولم يكن شيء من الطيبات منه حراماً

_____________________________

1 ـ إسرائيل هو الإسم الآخر ليعقوب.

2 ـ عرق النساء ألم عصبي يمتد على مسار العصب الوركي من الالية إلى معصم القدم ويشتد هذا الألم جداً إذا ما ثنيت الساق الممتدة عند مفصل الحوض (الموسوعة العربية الميسرة).

(598)

على بني إسرائيل قبل نزول التوراة، كما يفيد قوله سبحانه (من قبل أن تنزل التوراة) وإن كان قد حرمت ـ بعد نزول التوراة ومجيء موسى بن عمران ـ بعض الأطعمة الطيبة، على اليهود لظلمهم وعصيانهم، تنكيلاً بهم، وجزاءً لظلمهم.

وتأكيداً لهذه الحقيقة أمر الله نبيه في هذه الآية أن يطلب من اليهود بأن يأتوا بالتوراة الموجودة عندهم ويقرأوها ليتبين كذب ما ادعوه، وصدق ما أخبر به الله حول حلية الطعام الطيب كله إذ قال : (قل فأتوابالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين).

ولكنّهم أعرضوا عن تلبية هذا الطلب لعلمهم بخلو التوراة عن التحريم الذي أدعوه.

والآن بعد أن تبين كذبهم وافتراؤهم على الله لعدم استجابتهم لطلب النبي باحضار التوراة، فإن عليهم أن يعرفوا بأن كلّ من افترى على الله الكذب استحق وصف الظلم، لأنه بهذا الإفتراء ظلم نفسه بتعريضها للعذاب الإلهي، وظلم غيره بتحريفه وإضلاله بما افترى، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه في ختام هذه الآية (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون).

التوراة الرائجة وتحريم بعض اللحوم :

نقرأ في الفصل(1) الحادي عشر من سفر اللاويين ضمن استعراض مفصل للحوم المحرّمة والمحلّلة : «كل ما شق ظلفاً وقسمه ظلفين ويجتر من البهائم فإياه تأكلون. إلاَّ هذه فلا تأكلوها ممّا يجتر وممّا يشق الظلف. الجمل لأنه يجتر لكنّه لا يشق ظلفاً فهو نجس لكم».

من هذه العبارات نفهم أن اليهود كانوا يحرمون الإبل وكل ما شق ظلفاً من البهائم، ولكن ذلك لايدلّ على أنها كانت محرمة في شريعة نوح وإبراهيم أيضاً، إذ

_____________________________

1 ـ وهو ما يسمى بالإصحاح.

(599)

يمكن أن يكون هذا التحريم مختصاً باليهود عقاباً لهم وتنكيلاً.

فإذا لم يكن لليهود حجّة على زعمهم، وإذا تبين لهم صدق الرسول الكريم في دعوته، واتضح لهم أنّه على ملّة إبراهيم، ودينه الحنيف حقّاً يوجب عليهم أن يتبعوه (قل صدق الله فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) اتبعوا ملّة إبراهيم الذي كان حنيفاً مستقيماً لا يميل إلى شيء من الأديان الباطلة، والأهواء الفاسدة، بل يسير في الطريق المستقيم، فلم يكن في دينه أي حكم منحرف مائل عن الحق وحتّى في الأطعمة الطيبة الطاهرة لم يكن يحرم شيئاً بدون مبرر أو سبب وجيه للتحريم... إنه لم يكن مشركاً، فادعاء مشركي العرب بأنهم على ملته محض إختلاق، فأين الوثنية وأين التوحيد ؟ وأين عبادة الأصنام، وأين تحطيم الأصنام ؟

والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يكرر هذا الوصف (وما كان من المشركين)في شأن إبراهيم ويؤكد عليه في مواطن كثيرة، وما ذلك إلاَّ لأن العرب الجاهليين الوثنيين كانوا ـ كما ألمحنا ـ ينسبون ديانتهم وعقائدهم الوثنية إلى الخليل (عليه السلام)، ويدعون بأنهم على دينه وملته، وكانوا يصرون على هذا إلى درجة أن الآخرين سموهم بالحنفاء (أي أتباع إبراهيم) ولذلك كرر القرآن نفي الشرك عن الخليل وصرح مراراً وتكراراً بأنه (عليه السلام) كان حنيفاً، ولم يكن من المشركين أبداً(1) ابطالاً لذلك الإدعاء السخيف، وتنزيهاً لساحة هذا النبي العظيم من تلك الوصمة المقيتة.

* * *

_____________________________

1 ـ جملة «وما كان من المشركين» جاءت في آل عمران 67 ـ 95 والأنعام 161 والنحل 124 والبقرة 135.

(600)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338364

  • التاريخ : 29/03/2024 - 10:24

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net