00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المائدة من آية 41 ـ 55 من ( بداية الجزء الرابع ـ 56 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الرّابع

 

[4]

الآيتان

يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَـرِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّـعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـعُونَ لِقَوْم ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(41) سَمَّـعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـلُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(42)

سبب النّزول

وردت روايات عديدة في سبب نزول الآيتين الأخيرتين أوضحها ما نقل عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في هذا المجال، وخلاصة ذلك أنّ أحد وجهاء اليهود في منطقة خيبر كان متزوجاً، فارتكب عملا غير شرعي ومخالفاً للعفة مع امرأة

[5]

متزوجة من عائلة خيبرية مشهورة، فاغتم اليهود كيف ينفذون حكم التّوراة (الرجم) في وجيههم ذلك وفي شريكته في الذنب، فأخذوا يبحثون عن حل لهذه المعضلة لينقذوهما من العقوبة المذكورة، وفي نفس الوقت ليظهروا التزامهم بالأحكام الإِلهية، ودفعهم هذا الأمر إِلى الإِستعانة بأبناء طائفتهم الموجودين في المدينة المنورة، وطلبوا منهم أن يسألوا عن حكم هذه الحادثة من النّبى محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)(حتى إِذا كان الحكم بسيطاً وخفيفاً أخذوا به، وإِذا كان شديداً تجاهلوه وتناسوه، ولعلهم أرادوا بسؤالهم ذلك أن يلفتوا انتباه نبيّ الإِسلام إِلى أنفسهم وليظهروا أنفسهم بأنّهم أصدقاء للمسلمين).

ولهذا الغرض توجه عدد من وجهاء يهود المدينة للقاء النّبى محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، فسألهم النّبى(صلى الله عليه وآله وسلم) إِن كانوا سيقبلون بكل حكم يصدره، فأجابوه بأنّهم قدموا إِليه لهذا السبب! فنزل في تلك الأثناء حكم رجم مرتكب الزنا مع المرأة المحصنة، لكن اليهود لم يبدوا استعداداً لقبول هذا الحكم، بدعوى أنّ ديانتهم تخلو من مثله، فرد عليهم النّبى(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ هذا الحكم هو نفس ذلك الذي هو عندهم في التّوراة، وسألهم إِن كانوا يقبلون بحضور أحد علمائهم ليتلو عليهم حكم التّوراة في تلك القضية ليأخذوا به، فوافقوا على ذلك، فسألهم النّبي عن رأيهم في العالم اليهودي (ابن صوريا) الذي كان يقطن منطقة (فدك) فأجابوه بأنّه خير من يعرف التّوراة من اليهود.

فبعث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى هذا العالم، فلمّا قدم عنده أقسم عليه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالله الواحد الأحد الذي أنزل التّوراة على موسى وفلق البحر لإِنقاذ بني إِسرائيل وأغرق عدوّهم فرعون وأنزل عليهم نعمه في صحراء سيناء، أن يصدق القول إِن كان حكم الرجم قد نزل في التّوراة في مثل تلك الواقعة أم لم ينزل؟ فأجاب العالم اليهودي (ابن صوريا) بأنّه مرغم بسبب القسم الذي أقسمه عليه النّبي أن يقول الحقيقة ويعترف بوجود حكم الرجم في التّوراة.

[6]

فسأل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اليهود عن سبب احجامهم عن تطبيق الحكم المذكور، فأجاب (ابن صوريا) بأنّهم كانوا يطبقون هذا الحكم بحقّ العامّة من أبناء طائفتهم ويصونون الأثرياء والوجهاء منهم من تنفيذ هذا الحكم بحقّهم، فأدى هذا التهاون إِلى انتشار الخطيئة المذكورة بين أثرياء اليهود حتى بادر إِلى ارتكابها ابن عم لأحد رؤساء الطائفة، فلم يطبق بحقه الحكم الشرعي بحسب العادة المتبعة لديهم، وصادف في نفس ذلك الوقت أن ارتكب نفس الخطيئة أحد عامّة الناس من أبناء الطائفة، فأرادوا تطبيق حكم الرجم بحقّه لكن أقاربه اعترضوا على ذلك، وقالوا: إِذا كان لابدّ من تنفيذ هذا الحكم فيجب أن ينفذ بحق الاثنين (الوجيه اليهودي والشخص الآخر العادي)، فعمد عند ذلك علماء الطائفة إِلى سنّ حكم أخف من الرجم وهو أن يجلد الزناة 40 جلدة وتسود وجوههم ويركبوا دابة ويطاف بهم في أزقة وأسواق المنطقة!

فأمر النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) على الفور أن يرجم ذلك الرجل الوجيه والمرأة الثرية أمام المسجد(1) وأشهد الله في ذلك الحين بأنّه هو أول شخص يحيي حكم الله بعد أن أماته اليهود.

في تلك الأثناء نزلت الآيتان الأخيرتان وتحدّثتا عن القضية المذكورة بالإِيجاز.

التّفسير

التّحكيم بين الأنصار والأعداء:

تدلّ هاتان الآيتان والآيات التي تليهما، على أنّ للقاضي المسلم الحق ـ في ظل شروط خاصّة ـ في الحكم في جرائم الطوائف الأُخرى من غير المسلمين،

______________________________

1 ـ ذكرت الرّوايات التي جاء بها (البيهقي) في الجزء الثامن من سننه، ص 266 أن علماء اليهود حين قدموا إِلى النّبي كانوا قد جلبوا معهم الرجل والمرأة الزانيين.

[7]

وسيأتي شرح هذا الموضوع في تفسير نفس هذه الآيات.

لقد بدأت الآية الاُولى ـ من الآيتين الأخيرتين ـ الخطاب بعبارة (يا أيّها الرّسول) وقد وردت هذه العبارة في مكانين من القرآن: أوّلهما في الآية موضوع البحث، والثّاني في الآية (67) من نفس هذه السورة والتي تتعرض لقضية الولاية والخلافة. وربّما جاء استخدام هذا التعبير من أجل إِثارة أكثر لدافع الشعور بالمسؤولية لدى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتعزيز ارادته، ومخاطبته بأنّه هو رسول الله، وعليه أن يستقيم ويصمد في ابلاغ الحكم المكلّف به.

بعد ذلك تطمئن الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كتمهيد لبيان الحكم التالي ـ فتقول: (لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم). ويرى البعض أن عبارة (يسارعون في الكفر) تختلف عن عبارة «يسارعون إِلى الكفر» وذلك لأنّ العبارة الاُولى تقال بشأن أفراد كافرين غارقين في كفرهم، ويتسابقون فيما بينهم للوصول إِلى آخر مرحلة من الكفر، أمّا العبارة الثّانية فتقال في من يعيشون خارج حدود الكفر لكنّهم يتسابقون للوصول إِليه(1).

وبعد أن تذكر الآية تجاوزات المنافقين والأعداء الداخليين، تتناول وضع الأعداء الخارجيين واليهود الذين كانوا سبباً لحزن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول الآية: (ومن الذين هادوا ...).

ثمّ تشير الآية إِلى قسم من تصرفات هؤلاء المشوبة بالنفاق والرياء، وفتؤكّد أنّهم إِنّما يستمعون كلام النّبي لا لأجل اطاعته، بل لكي يجعلوا من ذلك وسيلة لتكذيب النّبي والإِفتراء عليه حيث تقول الآية: (سماعون للكذب).

ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر، هو أنّ هؤلاء اليهود يستمعون كثيراً إِلى أكاذيب قادتهم وزعمائهم، لكنّهم لا يبدون استعداداً لإِستماع قول الحق

_____________________________

1 ـ المنار، ج 6، ص 388.

[8]

والإِذعان له(1).

ثمّ تفضح الآية الصفة الثالثة لليهود، فتبيّن أنّهم يتجسّسون على المسلمين لمصلحة قوم آخرين ممّن لا يحضرون الإِجتماعات الإِسلامية التي تعقد في مجلس النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول الآية: (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك....).

وفي تفسير آخر لهذه الجملة قيل أن هؤلاء اليهود كانوا يستمعون إِلى أوامر جماعتهم ـ فقط ـ وقد كلّفهم قومهم بأن يقبلوا ما وافق أهواءهم من أقوال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يخالفوا أو يرفضوا ما كان عكس ذلك من أقواله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبناء على هذا السلوك فإنّ ما كان يظهر من طاعة هؤلاء لبعض أقوال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن في الحقيقة إِلاّ طاعة منهم لأقوال كبارهم ووجهائهم الذين أمروهم باتباع هذا الأسلوب، ولذلك أشارت الآية على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يحزن لمخالفات هؤلاء، فهم لم يحضروا عنده أبداً من أجل الإِستماع إِلى الحقّ واتّباعه!

ثمّ تذكر الآية انحرافاً آخر لهؤلاء اليهود، فتشير إِلى تحريفهم لكلام الله سبحانه وتعالى من خلال تحريف الألفاظ أو تحريف المعاني الواردة في هذا الكلام، فهم إِن وجدوا في كلام الله حكماً يخالف مصالحهم أوّلوه أو رفضوه جملة وتفصيلا، كما تقول الآية: (يحرفون الكلم من بعد مواضعه ...)(2).

والأعجب من ذلك أنّ هؤلاء قبل أن يحضروا مجلس النّبي كانوا يقررون كما يأمرهم كبارهم أنّهم إِن تلقوا من محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) حكماً موافقاً لميولهم وأهوائهم قبلوا به، وإِن كان مخالفاً لهوى أنفسهم ردوه وابتعدوا عنه، تقول الآية الكريمة: (يقولون إِن أُوتيتم هذا فخذوه وإِن لم تؤتوه فاحذروا ...).

فهؤلاء قد غرقوا في الضلال وتحجرت عقولهم لغاية أنّهم كانوا يرفضون كل شيء يخالف ما عندهم من أحكام محرفة، دون أن يبذلوا جهداً أو عناء في التفكير

_____________________________

1 ـ في التّفسير الأوّل تكون اللام في عبارة (للكذب) لام التعليل بينما في التّفسير الثّاني فهي لام التعدية.

2 ـ تحدثنا عن أساليب التحريف التي اتبعها اليهود في تفسير الآية (13) من نفس هذه السورة.

[9]

لمعرفة الحقيقة، وقد أبعدتهم هذه الحالة عن طريق الرشاد وأخرجتهم من جادة الصواب، بحيث لم يبق أمل في هدايتهم، فاستحقوا بذلك عذاب الله، ولم تعد تنفع فيهم شفاعة الشافعين، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (ومن يرد الله فتنته فلن يملك له من الله شيئاً) وقد تدنست قلوب هؤلاء إِلى درجة لم تعد قابلة للتطهير، وحرمهم الله لذلك طهارة القلوب، فتقول الآية: (أُولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ...) وعمل الله مقرون بالحكمة دائماً، لأن من يقضي عمراً في الإِنحراف ويمارس النفاق والكذب ويخالف الحق ويرفض الحقيقة، ويحرف قوانين الله لن يبقى له مجال للتوبة والعودة إِلى الحق، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال: (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).

أمّا الآية الثّانية فتؤكّد ـ مرّة أُخرى ـ على أن هؤلاء لديهم آذان صاغية لإِستماع حديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا لإِطاعته بل لتكذيبه، أو كما يقول تفسير آخر فإِنّ هؤلاء آذانهم صاغية لإِستماع أكاذيب كبارهم، فتقول الآية: (سماعون  للكذب ...) وقد تكررت هذه الجملة في آيتين متتاليتين تأكيداً واثباتاً لوجود هذه الصفة الشنيعة في هؤلاء.

كما أضافت الآية صفة شنيعة أُخرى اتصف بها اليهود، وهي تعودهم وادمانهم على أكل الأموال المحرمة والباطلة من الرّبا والرّشوة وغير ذلك، حيث تقول الآية: (أكالون للسحت ...)(1).

ثمّ تخير الآية النّبي بين أن يحكم بينهم أو أن يتجنبهم ويتركهم، حيث تقول الآية: (فإِن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم ...) ولا يعني التخيير أن يستخدم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ميله ورغبته في اختيار أحد الأمرين المذكورين، بل إن

_____________________________

1 ـ تعني كلمة (سحت) في الأصل نزع القشرة، أو شدّة الجوع، ثمّ أُطلقت على كل مال غير مشروع، أي محرم، وبالأخص الرشوة، لأن مثل هذه الأموال تنزع الصفاء والمودة عن المجتمع وتزيل عنه البركة والرخاء مثلما يؤدي نزع قشر الشجرة إِلى ذبولها وجفافها وعلى هذا الأساس فإن لكلمة (سحت) معنى واسعاً، وإِذا ورد في بعض الرّوايات مصداق خاص لها فلا يدل ذلك على اختصاص الكلمة بذلك.

[10]

المراد من ذلك هو أن يراعي النّبي الظروف والملابسات المحيطة بكل حالة، فإن رأى الوضع يقتضي الحكم بينهم حكم، وإِن رأى خلاف ذلك تركهم وأعرض عنهم.

ولكي تعزز الآية الإِطمئنان في نفس النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِن هو ارتأى الإِعراض عن هؤلاء لمصلحة أكّدت قائلة: (وإِن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً ...).

كما أكّدت ضرورة اتباع العدل وتطبيقه إِذا كانت الحالة تقتضي أن يحكم النّبي بين هؤلاء فقالت الآية: (وإِن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إِنّ الله يحب المقسطين).

وقد اختلف المفسّرون في قضية تخيير النظام الإِسلامي بين الحكم في غير المسلمين بأحكام الإِسلام أو الإِعراض عنهم، وهل أن هذا التخيير باق على قوته أو أنّه أصبح منسوخاً؟

ويرى البعض أنّ الناس في ظل الحكم الإِسلامي مشمولون من الناحيتين الحقوقية والجزائية بالقوانين الإِسلامية، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين. وبناء على هذا الرأي فإن حكم التأخير إمّا أن يكون منسوخاً وإمّا أنّه يخص غير الكفار الذميين، أي يخض أُولئك الكفار الذين لا يعيشون في ظل حكم اسلامي، بل يرتبطون بالمسلمين باتفاقيات أو مواثيق، أو يكون بينهم علاقات ود وتزاور.

ويعتقد مفسّرون آخريون أنّ الحاكم المسلم يكون مخيراً ـ حتى في الوقت الحاضر لدى التعامل مع غير المسلمين، فهو إمّا أن يطبق فيهم الأحكام الإِسلامية إِذا اقتضت الضرورة والمصلحة ذلك، وإمّا أن يعرض عنهم ويحيلهم إِلى قوانينهم الخاصّة بهم، بحسب ظروف وملابسات كل حالة «للإِطلاع أكثر على تفاصيل هذا الحكم تراجع كتب الفقه».

* * *

[11]

الآية

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التُّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنينَ(43)

التّفسير

تتابع هذه الآية موضوع الحكم بين اليهود تطرقت إِليه الآيتان السابقتان، اللتان بيّنتا أنّ اليهود كانوا يأتون إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويطلبون منه الحكم فيهم، وقد أظهرت هذه الآية الأخيرة الإِستغراب من حالة اليهود الذين كانوا مع وجود التّوراة بينهم، واحتوائها على حكم الله، يأتون إِلى النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ويطلبون منه الحكم فيهم بالرغم من وجود التّوراة عندهم، فتقول: (وكيف يحكمونك وعندهم التّوراة فيها حكم الله ...).

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ المقصود من الحكم في الآية هو حكم الرجم للزاني المحصن من الرجال والنساء والذي ورد في التّوراة أيضاً، في سفر التثنية الفصل الثّاني والعشرين.

والعجيب في أمر هؤلاء اليهود أنّهم مع وجود التّوراة بينهم وعدم اعترافهم بنسخها من قبل القرآن ورفضهم للشريعة الإِسلامية، كانوا حين يرون حكماً في التّوراة لا يوافق ميولهم وأهوائهم يتركون ذلك الحكم ويبحثون عن حكم آخر في

[12]

مصادر لم يقرّوا ولم يعترفوا بها.

والأعجب من ذلك أنّهم حين كانوا يطلبون التحكيم من نبي الإِسلام بينهم، كانوا لا يقبلون بحكمه إِذا كان مطابقاً لحكم التّوراة لكنه لم يوافق ميولهم ورغباتهم حيث تقول الآية: (ثمّ يتولّون من بعد ذلك) وما ذلك إِلاّ لأن هؤلاء لم يكونوا بمؤمنين في الحقيقة، ولو كانوا مؤمنين لما استهزؤوا هكذا بأحكام الله، حيث تؤكّد الآية قائلة: (وما أُولئك بالمؤمنين).

وقد يرد اعتراض في هذا المجال وهو: إِن الآية الشريفة تقرّ بوجود حكم الله في التّوراة ونحن نعلم عن طريق القرآن والرّوايات الإِسلامية، بأن التّوراة قد أصابها التحريف قبل ظهور نبي الإِسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

إِنّ جوابنا على هذا الإِعتراض هو أننا أوّلا: لا نقول بأن التحريف قد أصاب التّوراة كلّها، بل نقر بوجود أحكام في التّوراة تطابق الحقيقة والواقع، وحكم الرجم ـ الذي هو موضوع بحثنا الآن ـ من الأحكام التي لم تصبها يد التحريف في التّوراة.

ثانياً: إِنّ التّوراة مهما كان حالها لا يعتبرها اليهود كتاباً محرفاً، ولذلك فإن الغرابة هنا تكمن في رفض اليهود العمل بحكم الله مع وجوده في توراتهم.

* * *

[13]

الآية

إِنَّآ أَنزَلْنَا التُّوْرةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّـنِيُّونَ وَالاَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَـبِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِأَيَـتِى ثَمَناً قَلِيلا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَـفِرُونَ(44)

التّفسير

إِنّ هذه الآية والآية التي تليها تكملان البحث أو الموضوع الوارد في الآيات السابقة، وتبيّن هذه الآية أهمية الكتاب السماوي الذي نزل على النّبي موسى(عليه السلام)أي التّوراة، حيث تشير إِلى أنّ الله أنزل هذا الكتاب وفيه الهداية والنّور اللذان يرشدان إِلى الحق، وأن النّور والضياء الذي فيه هو لإِزاحة ظلمات الجهل من العقول فتقول الآية: (إِنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور...).

ولذلك فإِنّ الأنبياء الذين أطاعوا أمر الله، والذين تولوا مهامهم بعد نزول التّوراة كانوا يحكمون بين اليهود بأحكام هذا الكتاب، تقول الآية الكريمة: (يحكم بها النّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا).

[14]

كما أنّ علماء اليهود ووجائهم ومفكريهم المؤمنين الأتقياء، كانوا يحكمون وفق هذا الكتاب السماوي الذي وصل أمانة بأيديهم وكانوا شهوداً عليه، حيث تقول الآية: (والرّبانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء).(1)

ثمّ توجه الآية الخطاب إِلى أُولئك العلماء والمفكرين من اليهود الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر، فتطلب منهم أن لا يخافوا الناس لدى بيان أحكام الله، بل عليهم أن يخافوا الله، فلا تسول لهم أنفسهم مخالفة أوامره أو كتمان الحق، وإِن فعلوا ذلك فسيلقون الجزاء والعقاب، فتقول الآية هنا: (فلا تخشوا الناس واخشون).

ثمّ تحذر الآية من الإِستهانة والإِستخفاف بآيات الله، فتقول: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا ...).

وحقيقة كتمان الحق وأحكام الله نابعة إمّا عن الخوف من الناس، وإمّا بدافع المصلحة الشخصية، وأيّاً كان السبب فهو دليل على ضعف الإِيمان وانحطاط الشخصية، وقد أشير في الجمل القرآنية أعلاه إِلى هذين السببين.

وتصدر الآية حكماً صارماً وحازماً على مثل هؤلاء الأفراد الذين يحكمون خلافاً لما أنزل الله فتقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الكافرون).

وواضح أنّ عدم الحكم بما أنزل الله يشمل السكوت والإِبتعاد عن حكم الله الذي يؤدي بالناس إِلى الضلال، كما يشمل التحدث بخلاف حكم الله.

وواضح ـ أيضاً ـ أنّ للكفر مراتب ودرجات مختلفة، تبدأ من إِنكار أساس وجود الله ويشمل عصيان أوامره، لأنّ الإِيمان الكامل يدعو ويحثّ الإِنسان على

_____________________________

1 ـ لقد تطرقنا إِلى معنى كلمة (رباني) ومصدرها لدى تفسير الآية (80) من سورة آل عمران، أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع من (حبر) على وزن (فكر) فهي تعني كل أثر خير، أُطلقت على المفكرين الذين يخلفون أثاراً خيرة في مجتمعهم، ويطلق أيضاً على حبر الدواة الذي يستعمل للكتابة لما فيه من أثر خير.

[15]

العمل وفق أوامر الله، ومن لا عمل له ليس له ايمان كامل.

وتبيّن هذه الآية ـ أيضاً ـ المسؤولية الكبرى التي يتحملها علماء ومفكروا كل أُمّة حيال العواصف الإِجتماعية، والأحداث التي تقع في بيئاتهم، وتدعو بأسلوب حازم لمكافحة الإِنحرافات وعدم الخوف من أي بشر ـ كائناً من كان ـ لدى تطبيق أحكام الله.

* * *

[16]

الآية

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالاَْنفَ بِالاَْنفِ والاُْذُنَ بِالاُْذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـلِمُونَ(45)

التّفسير

القصاص والعفو:

تشرح هذه الآية الكريمة قسماً آخر من الأحكام الجنائية والحدود الإِلهية التي وردت في التّوراة، فتشير إِلى ما ورد في هذا الكتاب السماوي من أحكام وقوانين تخص القصاص، وتبيّن أن من يقتل انساناً بريئاً فإِنّ لأولياء القتيل حق القصاص من القاتل بقتله نفساً بنفس. حيث تقول الآية في هذا المجال: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس).

كما بيّنت أن من يصيب عين انسان آخر ويتلفها، يستطيع هذا الإِنسان المتضرر في عينه أن يقتص من الفاعل ويتلف عينه، إِذ تقول الآية في هذا المجال: (والعين بالعين ...).

[17]

وكذلك الحال بالنسبة للأنف والأذن والسن والجروح الأُخرى، (والأنف بالأنف والأُذن بالأُذن والسن بالسن والجروح قصاص ...).

وعلى هذا الأساس فإنّ حكم القصاص يطبق بشكل عادل على المجرم الذي يرتكب أحد الجرائم المذكورة، دون الإِلتفات إِلى عنصره أو قوميته أو طبقته الإِجتماعية أو طائفته، ولا مجال أبداً لإِستخدام التمايز القومي أو الطبقي أو الطائفي لتأخير تطبيق حكم القصاص على الجاني.

وبديهي أنّ تطبيق حكم القصاص على المعتدي شأنه شأن الأحكام الإِسلامية الأُخرى، مقيد بشروط وحدود ذكرتها كتب الفقه، ولا يختص هذا الكلام ولا ينحصر ببني إِسرائيل وحدهم، لأنّ الإِسلام ـ أيضاً ـ جاء بنظيره كما ورد في آية القصاص في سورة البقرة ـ الآية (178).

وقد أنهت هذه الآية التمايز غير العادل الذي كان يمارس في ذلك الوقت حيث ذكرت بعض التفاسير أنّ تمايزاً غريباً كان يسود بين طائفتين من اليهود، هما بنو النضير وبنو قريظة الذين كانوا يقطنون المدينة المنورة في ذلك العصر، لدرجة أنّه إِذا قتل أحد أفراد طائفة بني النضير فرداً آخر من طائفة بني قريظة فالقاتل لا ينال القصاص، بينما في حالة حصول العكس فإن القاتل الذي كان من طائفة بني قريظة كان ينال القصاص إِن هو قتل واحداً من أفراد طائفة بني النضير.

ولمّا امتد نور الإِسلام إِلى المدينة سأل بنو قريظة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الأمر، فأكّد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا فرق في الدماء بين دم ودم ... فاعترضت قبيلة بني النضير على حكم النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وإدعت أنّ حكمه حطّ من شأنهم، فنزلت الآية الأخيرة وبيّنت أنّ هذا الحكم غير مختص بالاسلام، بل حتى الديانة اليهودية أوصت بتطبيق قانون القصاص بصورة عادلة(1).

ولكي لا يحصل وَهْمٌ أنّ القصاص أو المقابلة بالمثل أمر الزامي لا يمكن

_____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، الجزء الثّالث، ص 2188.

[18]

الحيدة عنه، استدركت الآية بعد ذكر حكم القصاص فبيّنت أن الذي يتنازل عن حقه في هذا الأمر ويعفو ويصفح عن الجاني، يعتبر عفوه كفارة له عن ذنوبه بمقدار ما يكون للعفو من أهمية (فمن تصدق به فهو كفارة له ...).(1)

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ الضمير الوارد في كلمة (به) يعود على القصاص، وكانت الآية جعلت التصدق بالقصاص عطية أو منحة للجاني واستخدام عبارة «التصدق» والوعد الذي قطعه الله للمتصدق، يعتبران عاملا محفزاً على العفو والصفح، لأنّ القصاص لا يمكنه أن يعيد للإِنسان ما فقده مطلقاً، بل يهبه نوعاً من الهدوء والإِستقرار النفسي المؤقت، بينما العفو الذي وعد به الله للمتصدق، بإمكانه أن يعوضه عما فقده بصورة أُخرى، وبذلك يزيل عن قلبه ونفسه بقايا الألم والإِضطراب، ويعتبر هذا الوعد خير محفز لمثل هؤلاء الأشخاص.

وقد ورد عن الحلبي قال سألت أبا عبداللّه ـ الإِمام الصادق ـ (عليه السلام) عن قوله اللّه عزّوجلّ: (فمن تصدق به فهو كفارة لهو..) قال: «يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفى»(2).

وتعتبر هذه الجملة القرآنية في الحقيقة خير جواب مفحم للذين يزعمون أن القصاص ليس بقانون عادل، ويدعون أنّه يشجع روح الإِنتقام والمثلة.

والذي يفهم من الصياغة العامّة للآية هو أنّ جواز القصاص إِنّما هو لإِخافة وإِرعاب الجناة وبالنتيجة لضمان الأمن لأرواح الناس الأبرياء، كما أنّ الآية فتحت باب العفو والتوبة، وبذلك أراد الإِسلام أن يحول دون ارتكاب مثل هذه الجرائم باستخدام الروادع والحوافز كالخوف والأمل، كما استهدف الإِسلام من ذلك ـ أيضاً ـ الحيلولة دون الإِنتقام للدم بالدم بقدر الإِمكان ـ إِذا استحق الأمر

_____________________________

1 ـ لقد أورد الكثير من المفسّرين احتمالا آخر، وهو أن الضمير الوارد في كلمة «له» يعود على شخص الجاني، بحيث يصبح المعنى أن الذي يتنازل عن حقه يرفع بذلك القصاص عن الجاني ويكون ذلك كفارة لعمل الجاني، إِلاّ أن ظاهر الآية يدل على التّفسير الذي أشرنا إليه أعلاه.

2 ـ نور الثقلين، الجزء الأول، ص 637.

[19]

ذلك.

وفي الختام تؤكّد الآية قائلة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الظّالمون).

وأي ظلم أكبر من الإِنجرار وراء العاطفة الكاذبة، وترك القاتل دون أن ينال قصاصه العادل بحجّة لا ضرورة في غسل الدم بالدم، وفسح المجال للقتلة للتمادي بارتكاب جرائم قتل أُخرى، وبالنهاية الإِساءة عبر هذا التغاضي إِلى أفراد أبرياء، وممارسة الظلم بحقّهم نتيجة لذلك.

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ التّوراة المتداولة حالياً قد اشتملت على هذا الحكم أيضاً، وذلك في الفصل الواحد والعشرين من سفر الخروج، حيث جاء فيها أنّ النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل والحرق بالحرق والجرح بالجرح والصفعة بالصفعة (سفر الخروج، الجمل 23 و 24 و 25).

* * *

[20]

الآية

وَقَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَـرِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَءَاتَيْنَـهُ الاِْنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(46)

التّفسير

بعد الآيات التي تحدثت عن التّوراة جاءت هذه الآية، وهي تشير إِلى حال الإِنجيل وتؤكّد بعثة ونبوة المسيح(عليه السلام) بعد الأنبياء الذين سبقوه، وتطابق الدلائل التي جاء بها مع تلك التي وردت في التّوراة، حيث تقول الآية: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التّوراة ...) ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر وهو أنّ عيسى المسيح(عليه السلام) قد أقرّ بحقيقة كلّ ما نزل في التّوراة على النّبي موسى(عليه السلام) كاقرار جميع الأنبياء(عليهم السلام) بنبوة من سبقوهم من الأنبياء، وبعدالة ما جاؤوا به من أحكام.

ثمّ تشير الآية الكريمة إِلى انزال الإِنجيل على المسيح(عليه السلام) وفيه الهداية والنّور فتقول: (وآتيناه الإِنجيل فيه هدى ونور) وقد أطلق اسم النّور في القرآن المجيد على التّوراة والإِنجيل والقرآن نفسه، حيث نقرأ بشأن التّوراة قوله تعالى: (إِنّا

[21]

أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور)(1).

وأمّا الإِنجيل فقد أُطلقت عليه الآية الأخيرة اسم النّور.

والقرآن ـ أيضاً ـ حيث نقرأ قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)(2).

فكما أنّ النّور يعتبر ـ في الحقيقة ـ ضرورة حتمية لجميع الموجودات من أجل أن تواصل حياتها، كذلك تكون الأديان الإِلهية والشرائع والكتب السماوية ضرورة حتمية لنضوج وتكامل بني الإِنسان.

وقد ثبت من حيث المبدأ أنّ مصدر كل الطاقات والقوى والحركات وكل أنواع الجمال هو النّور، فكذلك الحال في تعليمات الأنبياء وارشاداتهم، فلولاها لساد الظلام كل القيم الإِنسانية سواء الفردية منها أو الإِجتماعية، وهذا ما نلاحظه في المجتمعات المادية بكل وضوح.

لقد كرر القرآن الكريم في مجالات متعددة أنّ التّوراة والإِنجيل هما كتابان سماويان، ومع أن هذين الكتابين ـ دون شك ـ منزلان في الأصل من قبل الله سبحانه وتعالى، لكنّهما ـ بالتأكيد ـ قد تعرضا بعد حياة الأنبياء إِلى التحريف، فحذفت منهما حقائق وأضيفت إِليهما خرافات، وأدى ذلك إِلى أن يفقدا قيمتهما الحقيقية، أو أنّ الكتب الأصلية تعرضت للنسيان والتجاهل وحلت محلها كتب أُخرى حوت على بعض الحقائق من الكتب الأصلية(3).

وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة النّور التي أُطلقت في القرآن الكريم على هذين الكتابين، إِنما عنت التّوراة والإِنجيل الأصليين الحقيقيين.

بعد ذلك تكرر الآية التأكيد على أن عيسى(عليه السلام) لم يكن وحده الذي أيد

_____________________________

1 ـ المائدة، 44.

2 ـ المائدة، 15.

3 ـ راجع كتابي «الهدى إلى دين المصطفى» و«أنيس الأعلام» لمعرفة تفاصيل التحريف الوارد في الإِنجيل والدلائل التّأريخية على ذلك.

[22]

وصدق التّوراة، بل أن الإِنجيل ـ الكتاب السماوي الذي نزل عليه ـ هو الآخر شهد بصدق التّوراة حيث تقول الآية: (مصدقاً لما بين يديه من التّوراة ...).

وفي الختام تؤكّد الآية أنّ هذا الكتاب السماوي قد حوى سبل الرشاد والهداية والمواعظ للناس المتقين، حيث تقول: (وهدى وموعظة للمتقين).

وتشبه هذه العبارة، عبارة أُخرى وردت في بداية سورة البقرة، حين كان الحديث يدور عن القرآن الكريم، حيث جاء قوله تعالى: (هدى للمتقين).

إِن هذه الصفة لا تنحصر بالقرآن وحده، بل أن كل الكتب السماوية تحتوي على سبل الهداية للناس المؤمنين المتقين، والمراد بالمتقين هم أُولئك الذين يبحثون عن الحق والحقيقة والمستعدون لقبول الحق، وبديهي أن الذين يغلقون أبواب قلوبهم اصراراً وعناداً بوجه الحق، لن ينتفعوا بأي حقيقة أبداً.

والملفت للنظر في هذه الآية أيضاً، أنّها ذكرت أوّلا أنّ الإِنجيل (فيه هدى) ثمّ كررت الآية كلمة (هدى) بصورة مطلقة، وقد يكون المراد من هذا الإِختلاف في التعبير هو بيان أنّ الإِنجيل والكتب السماوية الأُخرى تشتمل على دلائل الهداية للناس ـ جميعاً ـ بصورة عامّة، ولكنّها بصورة خاصّة ـ تكون باعثاً لهداية وتربية وتكامل الأتقياء من النّاس الذي يتفكرون فيها بعمق وتدبر.

* * *

[23]

الآية

وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الاِْنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِـمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ(47)

التّفسير

الإِمتناع عن الحكم بالقانون الإِلهي:

بعد أن أشارت الآيات السابقة إِلى نزول الإِنجيل، أكّدت الآية الأخيرة أنّ حكم الله يقضي أن يطبق أهل الإِنجيل ما أنزله الله في هذا الكتاب من أحكام، فتقول الآية: (وليحكم أهل الإِنجيل ما أنزل الله فيه ...).

وبديهي أنّ القرآن لا يأمر بهذه الآية المسيحيين أن يواصلوا العمل بأحكام الإِنجيل في عصر الإِسلام، ولو كان كذلك لناقض هذا الكلام الآيات القرآنية الأُخرى، بل لناقض أصل وجود القرآن الذي أعلن الدين الجديد ونسخ الدين القديم، لذلك فالمراد هو أنّ المسيحيين تلقوا الأوامر من الله بعد نزول الإِنجيل بأن يعملوا بأحكام هذا الكتاب وأن يحكموها في جميع قضاياهم(1).

وتؤكّد هذه الآية ـ في النهاية ـ فسق الذين يمتنعون عن الحكم بما أنزل الله

_____________________________

1 ـ إنّ الحقيقة التي أكّدها الكثير من المفسّرين هي أنّ جملة «قلنا» تكون مقدرة هنا في هذه الآية حيث يصبح مفهوم الآية كما يلي: «قلنا ليحكم أهل الإِنجيل ...».

[24]

من أحكام وقوانين فتقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الفاسقون).

ويلفت النظر اطلاق كلمة «الكافر» مرّة و«الظّالم» أُخرى و«الفاسق» ثالثة، في الآيات الأخيرة على الذين يمتنعون عن تطبيق أحكام الله، ولعل هذا التنوع في اطلاق صفات مختلفة إِنّما هو لبيان أنّ لكل حكم جوانب ثلاثة:

أحدها: ينتهي بالمشرع الذي هو الله.

والثّاني: يمس المنفذين للحكم (الحاكم أو القاضي).

الثّالث: يرتبط بالفرد أو الأفراد الذين يطبق عليهم الحكم.

أي أنّ كل صفة من الصفات الثلاث المذكورة قد تكون إِشارة إِلى واحد من الجوانب الثلاثة، لأنّ الذي لا يحكم بما أنزل الله يكون قد تجاوز القانون الإِلهي وتجاهله، فيكون قد كفر بغفلته هذه، ومن جانب آخر ارتكب الظلم والجور بابتعاده عن حكم الله ـ على انسان برىء مظلوم، وثالثاً: يكون قد خرج عن حدود واجباته ومسؤوليته، فيصبح بذلك من الفاسقين (لأنّ «الفسق» كما أوضحنا، يعني الخروج عن حدود العبودية والواجب).

* * *

[25]

الآية

وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِـمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِـمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)

التّفسير

تشير هذه الآية إِلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.

وكلمة «مهيمن» تطلق في الأصل على كل شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف اشرافاً كاملا، ويكمل تلك الكتب، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية: (وأنزلنا إِليك الكتاب بالحقّ مصدقاً

[26]

لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه...).

فالقرآن بالإِضافة إِلى تصديقه الكتب السماوية السابقة، اشتمل ـ أيضاً ـ على دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب، فكان بذلك حافظاً وصائناً لها.

إِنّ الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادىء والهدف الواحد الذي تبنى تربية الإِنسان والسمو به إِلى مراتب الكمال المعنوي والمادي، على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإِنسان، حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإِنسان إِلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإِنساني، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطوراً، والإِتيان بعبارة: (مهيمناً عليه) بعد جملة (مصدقاً لما بين يديه) يدل على هذه الحقيقة، أي أنّ القرآن في الوقت الذي يصدّق الكتب السابقة، يأتي في نفس الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة.

ثمّ تؤكّد على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انطلاقاً من الحقيقة المذكورة ـ ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس، حيث تقول (فاحكم بينهم بما أنزل الله ...).

وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية، فتدلّ على شمولية أحكام الإِسلام بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأُخرى، ولا تعارض هنا بين هذا الأمر وبين ما سبق من أمر في أية سابقة والتي خيرت النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بين الحكم بين اليهود أو تركهم لحالهم، لأنّ هذه الآية ترشد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إِن هو أراد أن يحكم بين أهل الكتاب ـ إِلى أنّ عليه أن يحكم بتعاليم وقوانين القرآن بينهم.

ثمّ تؤكّد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب، الذين يريدون أن يطوعوا الأحكام الإِلهية لميولهم ورغباتهم، وأن ينفذ ما نزل عليه بالحق، حيث تقول الآية: (ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ ...).

ولأجل اكمال البحث تشير الآية إِلى أن كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام

[27]

للحياة يهديها إِلى السبيل الواضح، حيث تقول: (لكل جعلنا منكم شرعة  ومنهاجاً ...).

وكلمة «شرع» أو «الشريعة» تعني الطريق الذي يؤدي إِلى الماء وينتهي به، واطلاق كلمة «الشريعة» على الدين لأن الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإِنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية، أمّا كلمة «النهج» أو «المنهاج» فتطلقان على الطريق الواضح.

نقل (الراغب) في كتابه (المفردات) عن ابن عباس قوله بأنّ الفرق بين كلمتي «الشرعة» و«المنهاج» هو أنّ الاُولى تطلق على كل ما ورد في القرآن، وأن المنهاج يطلق على ما ورد في سُنّة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) (وهذا الفرق مع كونه جميلا، إلاّ أنّنا لا نملك دليلا جازماً لتأييده)(1).

ثمّ تبيّن الآية أنّ الله لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر أُمّة واحدة، تتبع ديناً وشرعة واحدة لقدر على ذلك، لكن هذا الأمر يتنافى مع قانون التكامل التدريجي، وحركة مراحل التربية المختلفة، فتقول: (ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ...).

وجملة (ليبلوكم فيما آتاكم ...) إِشارة إِلى ما قلناه سابقاً من أنّ الله قد أودع لدى أفراد البشر استعدادات وكفاءات تنمو في ظل الإِختبارات وفي ضوء تعاليم الأنبياء، فعندما يطوي بنو الإِنسان مرحلة معينة، يجعلهم الله في مرحلة أسمى وحين تنتهي مرحلة تربوية يأتي الله بمرحلة تربوية أُخرى على يد نبي آخر، كما يحصل بالضبط للمراحل التعليمية التي يمرّ بها الشاب في مدرسته.

_____________________________

1 ـ يعتقد البعض من كبار المفسّرين بوجود فرق بين «الدّين» و«الشريعة» ويقولون بأنّ الدين هو مبدأ التوحيد والمباديء الأُخرى المشتركة بين جميع الديانات، لذلك يكون الدين واحداً في كل الأحوال والأزمنه، والشريعة هي القوانين والأحكام والتعاليم التي تختلف أحياناً بين ديانة وأُخرى لكنّنا لا نمتلك ـ أيضاً ـ دليلا واضحاً يؤيد هذا القول، لأن هاتين الكلمتين أستخدمتا في الكثير من الموارد للدلالة على معنى واحد.

[28]

بعد ذلك تخاطب الآية ـ في الختام ـ جميع الأقوام والملل، وتدعوهم إِلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الإِختلاف والتناحر، حيث تقول: (فاستبقوا الخيرات) مؤكدة أنّ الجميع يكون مرجعهم وعودتهم إِلى الله الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون: (إِلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).

* * *

[29]

الآيتان

وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِـمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّـمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَـسِقُونَ(49) أَفَحُكْمَ الْجَـهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْم يُوقِنُونَ(50)

سبب النّزول

نقل بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قوله: أنّ رهطاً من وجهاء اليهود تآمروا واتفقوا على الذهاب إِلى النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بغية حرفِهِ عن الإِسلام، فذهبوا إِليه(صلى الله عليه وآله وسلم) وذكروا له أنّهم قوم من مفكري وعلماء اليهود، وأنّهم إِن اتبعوه(صلى الله عليه وآله وسلم) اقتدى بهم بالتأكيد بقية اليهود، وزعموا أنّ بينهم وبين جماعة أُخرى نزاع (في قضية قتل أو أمر آخر) وطلبوا من النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحكم في النزاع المزعوم لمصلحتهم، ووعدوه أنّه إِن استجاب لأمرهم يؤمنوا به، فامتنع النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) عن إِصدار حكم غير عادل، فنزلت الآية المذكورة(1).

_____________________________

1 ـ تفسير المنار، ج 6، ص 421.

[30]

التّفسير

تكرر هذه الآية تأكيد الباري عزّ وجلّ على نبيّه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يحكم بين أهل الكتاب طبقاً لأحكام الله، وأن لا يستسلم لأهواءهم ونزواتهم، فتقول: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ...).

والتكرار للأمر هنا إمّا أن يكون بسبب المواضيع التي اشتملت عليها الآية، وإمّا لأنّ موضوع الحكم في هذه الآية يختلف عن موضوع الحكم في الآيات السابقة، حيث كان موضوع الحكم في الآيات السابقة هو الزنا مع المحصنة، وموضوع الحكم في هذه الآية هو القتل أو شيء آخر.

ثمّ تحذر الآيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عن شرعة الحقّ والعدل، وطالبته بأن يراقب تحركاتهم، حيث تقول: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إِليك ...).

وأكّدت هذه الآية استمراراً لخطابها لنبي الإِسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ هؤلاء الكتابيين إِن لم يذعنوا لحكمه العادل فإنّ ذلك يكون دلالة على أن ذنوبهم وآثامهم قد طوقتهم فحرمتهم من التوفيق، وأنّ الله يريد أن يعاقبهم ويعذبهم بسبب بعض ذنوبهم، حيث تقول الآية: (فإن تولوا فاعلم إِنّـما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ...).

وسبب ذكر «بعض الذنوب» لا كلّها، قد يكون لأنّ عقاب كل الذنوب لا يتم في الحياة الدنيا بل يذوق وبال بعضها، والباقي منها يوكّل أمرها إِلى العالم الثّاني، أي بعد الموت.

ولم تصرّح هذه الآية بنوع الذنوب التي طوقت وأحاطت بهؤلاء، ويحتمل أن تكون إِشارة إِلى المصير الذي أحاط بيهود المدينة، بسبب الخيانات المتوالية التي مارسوها، ممّا اضطرهم إِلى ترك بيوتهم ومغادرة المدينة المنورة، أو أن يكون فشل هؤلاء وحرمانهم من التوفيق نوعاً من العقاب لهم على ذنوبهم السابقة، لأنّ

[31]

الحرمان من التوفيق يعتبر ـ بحد ذاته ـ نوعاً من العقاب، أي أن الذنوب المتتالية والعناد والإِصرار على الذنب، جزاؤهما الحرمان من الأحكام العادلة، والتورط بالضّلال والحيرة متاهات الحياة.

وتشير الآية في النهاية إِلى أنّ إِصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على باطلهم يجب أن لا يكون باعثاً للقلق عند النّبي، لأنّ الكثير من الناس منحرفون عن طريق الحق، أي أنّهم فاسقون، حيث تقول الآية: (وإنّ كثيراً من الناس لفاسقون).

سؤال:

يمكن أن يعترض البعض بأنّ هذه الآية توحي باحتمال صدور الإِنحراف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والعياذ بالله، وأن الله يحذره من ذلك، فهل أنّ هذا الأمر يتلائم ومنزلة العصمة التي يتمتع بها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

الجواب:

إِنّ العصمة لا تعني مطلقاً استحالة صدور الخطأ من المعصوم، ولو كان كذلك لما بقيت لهم مكرمة أو فضل، ومعنى العصمة هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) مع وجود احتمال صدور الذنب أو الخطأ منهم إِلاّ أنّهم لا يرتكبون الذنب أبداً وإن كان عدم ارتكاب الذنب من قبل المعصوم ناشىء عن التنبيه والتحذير والتذكير الإِلهي للمعصوم، أي أن التنبيه الإِلهي يعتبر جزءاً من عامل العصمة لدى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والذي يحول دون ارتكاب الخطأ، وسنبادر إِلى توضيح موضوع العصمة لدي الأنبياء ـ بتفصيل أكثر ـ عند تفسير آية التطهير (الآية 33 من سورة الأحزاب باذن الله).

أمّا الآية الأُخرى فتساءلت بصيغة استفهام استنكاري: هل أنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم اتباع الكتب السماوية يتوقعون أن تحكم بينهم (الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)) بأحكام الجاهلية التي فيها أنواع التمايز المقيت؟ حيث تقول الآية: (أفحكم

[32]

الجاهلية يبغون ...).

لكنّ أهل الإِيمان لا يرون أي حكم أرفع وأفضل من حكم الله، حيث تتابع الآية قولها: (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون).

ولقد بيّنا ـ عند تفسير الآيات السابقة ـ أن نوعاً من التمايز الغريب كان يسود الأوساط اليهودية بحيث لو أن فرداً من يهود بني قريظة قتل فرداً من يهود بني النضير لتعرض للقصاص، بينما لو حصل العكس لم يكن ليطبق حكم القصاص في القاتل، وقد شمل هذا التمايز المقيت ـ أيضاً ـ حكم الغرامة والدية عند هؤلاء، فكانوا يأخذون ضعف الدية من جماعة، ولا يأخذونها من جماعة أُخرى، أو يأخذون أقل من الحدّ المقرر، ولذلك استنكر القرآن هذا النوع من التمايز واعتبره من أحكام الجاهلية، في حين أنّ الأحكام الإِلهية تشمل البشر أجمعين وتطبق دون أي تمايز.

وجاء في كتاب «الكافي» عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: «الحكم حكمان: حكم الله، وحكم الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية»(1).

وهكذا يتّضح أنّ أي مسلم يتبع الأحكام الوضعية ولا يلتزم بالأحكام والقوانين الإِلهية السماوية إنّـما يسير في الحقيقة في طريق الجاهلية.

* * *

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 640.

[33]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَـرَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَيَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْر مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَآ أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَـدِمِينَ(52) وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَهَـؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنِهِمْ إِنَّهُمْ لَـمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَـلُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَـسِرِينَ(53)

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسّرين أنّ (عبادة بن صامت الخزرجي) قدم إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بعد غزوة بدر وذكر له أن له حلفاء من اليهود ذوي عدة وعدد، وأكّد للنبي أنّه يريد البراءة من صداقتهم ومن عهده معهم ما داموا يهددون المسلمين بالحرب، وقال بأنّه يريد أن يكون حليفاً لله ولنبيه دون سواهما، أمّا عبد الله بن أبي فرفض التنصل من عهده مع اليهود، واعتذر بأنّه يخشى المشاكل وادعى أنّه يحتاج إِلى اليهود.

[34]

وأظهر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خشيته على عبادة وعبدالله من صداقة اليهود مشيراً إِلى أنّ خطر صداقة اليهود على عبدالله أكبر من خطرها على عبادة بن صامت، فقال عبدالله بأنّه مادام الأمر كذلك فإنّه سيتخلى عن صداقته وعهده مع اليهود، فنزلت الآيات الأخيرة وهي تحذر المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى.

التّفسير

لقد حذرت الآيات الثلاث الأخيرة المسلمين ـ بشدّة ـ من الدخول في أحلاف مع اليهود والنصارى، فالآية الاُولى منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الإِعتماد عليهم (أي أنّ الإِيمان بالله يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض ومصالح مادية) حيث تقول الآية: (يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ...).

وكلمة «أولياء» صيغة جمع من «ولي» وهي مشتقة من مصدر «الولاية» وهي بمعنى التقارب الوثيق بين شيئين، وقد وردت بمعنى «الصداقة» و«التحالف» و«الإِشراف».

لكن بالنظر إِلى سبب النّزول والقرائن الأُخرى الموجودة، فإنّ المراد ليس منع المسلمين من اقامة أي علاقات تجارية واجتماعية مع اليهود والنصارى، بل المقصود هو منع المسلمين من التحالف مع هؤلاء أو الإِعتماد عليهم في مواجهة الأعداء.

وكانت قضية التحالف رائجة في ذلك العصر بين العرب، وكان يطلق على ذلك «الولاء».

والملفت للنظر في هذه الآية أنّها لم تعتمد تسمية «أهل الكتاب» لدى تحدثها عن اتباع الديانتين السماويتين المعروفتين، بل استخدمت كلمتي «اليهود والنّصارى» وربّما يكون هذا إِشارة إِلى أنّ اليهود والنصارى لو كانوا يعملون

[35]

بكتابيهم السماويين، لكان اتباع هذين الدينين خير حليفين للمسلمين، لكنّهم اتّحدوا معاً ـ لا بأمر من كتابيهم ـ بل لأغراض سياسية وتكتلات عنصرية وأمثال ذلك.

بعد ذلك تبيّن الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة، وتقول بأن هاتين الطائفتين إِنّما هما أصدقاء وحلفاء أشباههما من اليهود والنصارى حيث تقول: (بعضهم أولياء بعض) أي أنّهما يهتمان بمصالحهما ومصالح أصدقائهما فقط، ولا يعيران اهتماماً لمصالح المسلمين، ولذلك فإن أي مسلم يقيم صداقة أو حلفاً مع هؤلاء فإِنّه سيصبح من حيث التقسيم الإِجتماعي والديني جزءاً منهم، حيث تؤكّد الآية في هذا المجال بقولها: (ومن يتولهم منكم فإِنّه منهم).

وبديهي أنّ الله لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة بحق أنفسهم واخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات، ويعتمدون على أعداء الإِسلام تقول الآية: (إِنّ الله لا يهدي القوم الظالمين).

وتشير الآية التّالية إِلى الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء، واعتمادهم عليهم وتحالفهم معهم، مبررين ذلك بخوفهم من الوقوع في مشاكل إِن أصبحت القدرة يوماً في يد حلفائهم الغرباء، فتقول الآية: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)(1).

ويذكر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء ذوي النفوس المريضة رداً على تعللهم في التخلي عن حلفهم مع الغرباء، فيبيّن لهم أنّهم حين يحتملون أن يمسك اليهود والنصارى يوماً بزمام القدرة والسلطة يجب أن يحتملوا ـ أيضاً ـ أن ينصر الله

_____________________________

1 ـ إنّ كلمة (دائرة) مشتقة من المصدر (دور) أي الشيء الذي يكون في حالة دوران، وبما أن القدرات المادية والحكومات هي في حالة دوران دائم على طول التّأريخ، لذلك يقال لها (دائرة) كما تطلق هذه الكلمة ـ أيضاً ـ على أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.

[36]

المسلمين فتقع القدرة بأيديهم، حيث يندم هؤلاء على ما أضمروه في أنفسهم، كما تقول الآية: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين).

ويشتمل هذا الجواب القرآني ـ في الحقيقة على جانبين:

أوّلهما: أنّ أفكاراً كهذه إِنما تخرج من قلوب مريضة لأفراد تزلزل ايمانهم وأصبحوا يسيئون الظن بالله، ولو لم يكونوا كذلك لما سمحوا لهذه الأفكار بأن تداخل نفوسهم.

أمّا الجانب الثّاني في هذا الجواب فهو مواجهتهم بنفس الحجة التي أوردوها لتعللهم ذلك، إِذ أنّ احتمالهم لوقوع السلطة بيد اليهود والنصارى يقابله ـ بالضرورة ـ احتمال آخر وهو انتصار المسلمين واستلامهم لمقاليد الأُمور، وبهذا لا يكون هناك أي مجال لتشبث هؤلاء بحلفهم مع أُولئك أو الإِعتماد عليهم.

وعلى أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة (عسى) التي لها مفهوم الإِحتمال والأمل، تبقى في هذه الآية محتفظة بمعناها الأصلي لكن بعض المفسّرين قالوا بأنّها تعني هنا الوعد الجازم من قبل الله للمسلمين، وهذا ما لا يتلائم وظاهر كلمة (عسى) البتة.

أمّا المراد من جملة (أو أمر من عنده) التي جاءت بعد كلمة (الفتح) في هذه الآية فيحتمل أنّها تعني أنّ المسلمين ـ في المستقبل ـ إمّا أن يتغلبوا وينتصروا على أعدائهم عن طريق الحرب أو بدونها كأن تتوسع قدرتهم إِلى درجة يضطر بعدها الأعداء إِلى الخضوع والإِستسلام للمسلمين دون الحاجة إِلى الدخول في حرب.

وبتعبير آخر: كلمة (الفتح) تشير إِلى الإِنتصار العسكري للمسلمين، وأنّ جملة (أمر من عنده) إِشارة إِلى الإِنتصارات الإِجتماعية والإِقتصادية وما شابه ذلك.

[37]

إِنّ بيان هذا الإِحتمال من قبل الله سبحانه وتعالى، مع كونه ـ عزّ وجلّ ـ عالماً بجميع ما سيحصل في المستقبل، يدل على أنّ الآية تشير إِلى الإِنتصارات العسكرية والإِجتماعية والإِقتصادية التي سيحرمها المسلمون في المستقبل.

وتشير الآية في الختام إِلى مصير عمل المنافقين، وتبيّن أنّه حين يتحقق الفتح للمسلمين المؤمنين وتنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون ـ بدهشة ـ: هل أنّ هؤلاء المنافقين هم أُولئك الذين كانوا يتشدقون بتلك الدعاوى ويحلفون بالايمان المغلظة بأنّهم معنا، فكيف وصل الأمر بهم إِلى هذا الحدّ؟ حيث تقول الآية: (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد ايمانهم أنّهم لمعكم...)(1).

إِنّ هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح، لأنّها لم تكن نابعة من نيّة خالصة صادقة، ولهذا فقد أصبحوا من الخاسرين ـ سواء في هذه الدنيا أو الآخرة معاً ـ حيث تؤكّد الآية هذا الأمر بقولها: (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين).

والجملة الأخيرة تشبه ـ في الحقيقة ـ جواباً لسؤال مقدر، وكأن شخصاً يسأل: ماذا سيكون مصير هؤلاء؟

فيجاب بأنّ أعمالهم أدراج الرياح، وستطوقهم الخسارة من كل جانب، أي أنّ هؤلاء ـ حتى لو كانت لهم أعمال صدرت عنهم باخلاص ونية صادقة ـ فهم لا يحصلون على أي نتيجة حسنة من تلك الأعمال الصالحة لإنحرافهم صوب النفاق والشّرك بعد ذلك: وقد شرحنا هذا الأمر في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (217) من سورة البقرة.

الإِعتماد على الغرباء:

_____________________________

1 ـ في هذه الآية تكون كلمة «هؤلاء» مبتدأ وخبرها جملة «الذين أقسموا بالله» أمّا جملة «جهد إِيمانهم» فهي مفعول مطلق.

[38]

على الرّغم من أنّ الواقعة ـ التي ذكرت سبباً لنزول الآيات الأخيرة ـ تحدثت عن شخصين هما (عبادة بن الصامت» و«عبدالله بن أبي» إِلاّ أنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذين الشخصين لا يشار إِليهما باعتبارهما شخصيتين تاريختين ـ فحسب ـ بل لأنّهما يمثلان مذهبين فكريين واجتماعيين. يدعو أحدهما إِلى التخلي عن التعاون والتحالف مع الغرباء، وعدم تسليم زمام المسلمين بأيديهم، وعدم الثقة بتعاونهم.

والمذهب الآخر يرى أنّ كل انسان أو شعب في هذه الدنيا المليئة بالمشاكل والأهوال يحتاج إِلى من يتكيء ويعتمد عليه، وأن الحاجة تدعو أحياناً إِلى انتخاب الدّعم والسند من بين الغرباء بحجة أن الصداقة معهم لا تخلو من قيمة وفائدة، ولابدّ أن تظهر ثمارها في يوم من الأيّام.

وقد دحض القرآن الكريم رأي المذهب الثّاني بشدّة، وحذر المسلمين بصراحة من مغبة الوقوع والتورط في نتائج مثل هذا النوع من التفكير، لكن البعض من المسلمين ـ ومع الأسف ـ قد نسوا وتجاهلوا هذا الأمر القرآني العظيم، فانتخبوا من بين الغرباء والأجانب من يعتمدون عليهم، وقد أثبت التّأريخ أن كثيراً من النكبات التي أصابت المسلمين تنبع من هذا الإِتجاه الخاطىء!

وبلاد الأندلس تعتبر دليلا حيّاً وبارزاً على هذا الأمر، وتظهر كيف أن المسلمين بالإِعتماد على قواهم الذاتية ـ استطاعوا أن يبنوا أكثر الحضارات ازدهاراً في الأندلس ـ أسبانيا اليوم ـ لكنّهم نتيجة لإِعتمادهم على قوى غريبة أجنبية فقدوا تلك المكتسبات العظيمة بكل سهولة.

والأمبراطورية العثمانية التي سرعان ما ذابت كذوبان الجليد في الصيف، تعتبر دليلا آخر على هذه الدعوى.

كما أنّ التّأريخ المعاصر يشهد على ما أصاب المسلمين من خسائر ومصائب كبيرة بسبب إنحرافهم عن رسالتهم واعتمادهم في كثير من الأُمور على الأجانب

[39]

الغرباء، والعجب كل العجب من أن هذا السبات ما زال يلف العالم الإِسلامي، ولم توقظه بعد الكوارث والنكبات التي أصابته بسبب اعتماده على القوى الأجنبية.

على أي حال فإن الأجنبي أجنبي، ومهما اشترك معنا في المصالح وتعاون معنا في مجالات محدودة فهو في النهاية يعتزل عنّا في اللحظات الحساسة، وكثيراً ما تنالنا منه ـ أيضاً ـ ضربات مؤثرة.

وما على المسلمين اليوم إِلاّ أن ينتبهوا أكثر من أي وقت مضى إِلى هذا النداء القرآني ولا يعتمدوا على أحد سوى الله وقواهم الذاتية التي وهبها الله لهم.

لقد إهتمّ نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً بهذا الأمر، حتى أنّه رفض مساعدة اليهود في واقعة (أُحد» حين أعلن ثلاثمائة منهم استعدادهم للوقوف بجانب المسلمين ضد المشركين، فأعادهم النّبي إِلى حيث كانوا ولما يصلوا إِلى منتصف الطريق، وامتنع عن قبول عرضهم في حين أن مثل هذا العدد من الناس كان يمكن له أن يلعب دوراً مؤثراً في واقعة أُحد، فلماذا رفضهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

لقد رفضهم لأنّه لم يستبعد منهم أن يخذلوه ويخذلوا المسلمين في أحرج اللحظات وأكثرها خطورة أثناء الحرب، ويتحولوا إِلى التعاون مع العدوّ ويقضوا على ما تبقى من جيش المسلمين في ذلك الوقت.

* * *

[40]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَـفِرِينَ يُجَـهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ(54)

التّفسير

بعد الإِنتهاء من موضوع المنافقين، يأتي الكلام ـ في هذه الآية الكريمة ـ عن المرتدين الذين تنبّأ القرآن بارتدادهم عن الدين الإِسلامي الحنيف، وهذه الآية أتت بقانون عام يحمل انذاراً لجميع المسلمين، فأكّدت أنّ من يرتد عن دينه فهو لن يضر الله بارتداده هذا أبداً، ولن يضر الدين ولا المجتمع الإِسلامي أو تقدمه السريع، لأنّ الله كفيل بإِرسال من لديهم الإِستعداد في حماية هذا الدين، حيث تقول الآية الكريمة: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم ...).

ثمّ تتطرق الآية إِلى صفات هؤلاء الحماة الذين يتحملون مسؤولية الدفاع العظيمة، وتبيّنها على الوجه التّالي:

[41]

1 ـ إِنّهم يحبّون الله ولا يفكرون بغير رضاه، فالله يحبّهم وهم يحبّونه، كما تقول الآية: (يحبّهم ويحبّونه).

2 و3 ـ يبدون التواضع والخضوع والرأفة أمام المؤمنين، بينما هم أشداء أقوياء أمام الأعداء الظالمين ـ حيث تقول الآية: (أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين ...).

4 ـ إِنّ شغلهم الشاغل هو الجهاد في سبيل الله، إِذ تقول الآية: (يجاهدون في سبيل الله).

5 ـ وآخر صفة تذكرها الآية لهؤلاء العظام، هي أنّهم لا يخافون لومَ اللائمين في طريقهم لتنفيذ أوامر الله والدفاع عن الحق، حيث تقول الآية: (ولا يخافون لومة لائم ...) فهؤلاء بالإِضافة إِلى امتلاكهم القدرة الجسمانية، يمتلكون الجرأة والشّجاعة لمواجهة التقاليد الخاطئة، والوقوف بوجه الأغلبية المنحرفة التي اعتمدت على كثرتها في الإِستهزاء بالمؤمنين.

وهناك الكثير من الأفراد المعروفين بصفاتهم الطيبة، لكنّهم يبدون الكثير من التحفظ أمام الفوضى السائدة في المجتمع وهجوم الأفكار الخاطئة لدى سواد الناس أو من الأغلبية المنحرفة، ويتملكهم الخوف والجبن، وسرعان ما يتركون الساحة ويخلونها للمنحرفين، في حين أنّ القائد المصلح ومن معه من الأفراد بحاجة إِلى الجرأة والشهامة لتطبيق أفكارهم واصلاحاتهم. وعلى عكس هؤلاء فالذين لا يمتلكون هذه الصفات الروحية الرفيعة، يقفون سدّاً وحائلا دون حصول الإِصلاحات المطلوبة.

وتؤكّد الآية في الختام ـ على أنّ إكتساب أو نيل مثل هذه الإِمتيازات السامية (بالإِضافة إِلى الحاجة لسعي الإِنسان نفسه) مرهون بفضل الله الذي يهبها لمن يشاء، ولمن يراه كفؤاً لها من عباده، حيث تقول الآية في هذا المجال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ...).

[42]

وفي النهاية تبيّن الآية أنّ مجال فضل الله وكرمه واسع، وهو يعرف الأفكاء والمؤهلين من عباده، وكما تقول الآية: (والله واسع عليم).

لقد نقلت الرّوايات الإِسلامية التي أوردها المفسّرون أقوالا كثيرة حول هوية الأشخاص المعنيين بهذه الآية، فمن هم أنصار الإِسلام هؤلاء الذين مدحهم الله بهذه الصفات؟

في الكثير من الرّوايات الواردة عن طرق الشيعة والسنة نقرأ أن هذه الآية نزلت في حقّ (علي بن أبي طالب(عليه السلام)) وقتاله للناكثين والقاسطين والمارقين (مثيري حرب الجمل، وجيش معاوية، والخوارج)، وممّا يدل على ذلك قول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حين رأى عجز قادة جيش الإِسلام عن فتح حصن خيبر، حيث وجه(صلى الله عليه وآله وسلم) لهم الخطاب في إِحدى الليالي وفي مقر جيش الإِسلام قائلا: «لأُعطين الراية غداً رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده»(1).

ونقرأ في رواية أُخرى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن هذه الآية فوضع(صلى الله عليه وآله وسلم) يده الشريفة على كتف «سلمان» وقال ما مضمونه: «هذا وأنصاره وبني قومه ...» وبذلك تنبّأ النّبي عن اسلام الإِيرانيين وجهودهم ومساعيهم المثمرة في خدمة هذا الدين في المجالات المختلفة، ثمّ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «لو كان الدين (وفي رواية أُخرى ـ لو كان العلم ـ) معلقاً بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس»(2).

وذكرت روايات أُخرى أن هذه الآية نزلت في شأن أنصار المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الذين سيواجهون الإِرتداد والمرتدين بكل قوّة

_____________________________

1 ـ وقد ورد في تفسير (البرهان) و(نورالثقلين) العديد من الرّوايات منقولة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في هذا المجال، كما نقل (الثعلبي) وهو أحد علماء السنة هذه الرّوايات (راجع كتاب إِحقاق الحق، ج 3، ص 200).

2 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 208 ـ نورالثقلين، ج 1، ص 642 ـ أبو نعيم الأصفهاني في الحلية، ج 6، ص 64 نقلوا هذا الحديث على الوجه التالي: «لو كان العلم منوطاً بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس» أمّا ابن عبد البر فقد نقل الحديث على الصورة التّالية: «لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان ...» وذلك في الإِستيعاب، ج 2، ص 577.

[43]

وحزم، ويملؤون العالم قسطاً وعدلا وإيماناً.

وممّا لا شك فيه أنّه لا تناقض بين هذه الرّوايات الواردة في تفسير الآية الأخيرة، لأنّ الآية ـ جرياً على أسلوب القرآن الكريم ـ تبيّن مفهوماً كلياً عاماً، بحيث تعتبر «علي بن أبي طالب(عليه السلام)» أو «سلمان الفارسي» مصداقين مهمين ضمن هذا المفهوم الذي يشمل أفراداً آخرين يسيرون على نفس النهج، حتى لو لم تتطرق الرّوايات إِلى أسمائهم.

إِنّ الأمر الذي يثير الأسف في هذا المجال، هو تدخل العصبيات الطائفية والقومية في تفسير هذه الآية، والتي أدخلت أفراداً لا يمتلكون أي كفاءة ولا يتمتعون بأي من الصفات المذكورة ضمن مصاديق هذه الآية واعتبرتهم ممّن نزلت الآية في شأنهم، ومن هؤلاء الأفراد «أبو موسى الأشعري» الذي ارتكب تلك الحماقة التّأريخية المعروفة التي دفعت بالإِسلام نحو هاوية السقوط، ووضعت أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في أحرج موقف(1).

والغريب في هذا الأمر هو انتقال آثار التطرف الذي نلاحظه في الكتب العلمية ـ بشكل رهيب ـ إِلى سواد الناس، بل إِلى متعلميهم، وكأن هناك يداً خفية تسعى ال تشتيت صفوف المسلمين، وتحول دون اتحاد كلمتهم، وقد سرى هذا التطرف ليشمل تاريخ ما قبل الإِسلام، بحيث نرى هؤلاء المتطرفين وقد سمّوا شارعاً فخماً يقع بجوار بيت الله الحرام باسم «أبي سفيان» وهذا الشارع هو أكبر وأفخم بكثير من شارع «إِبراهيم الخليل(عليه السلام)» مؤسس الكعبة الشريفة.

وأخذ أمثال هؤلاء المتطرفين يصمون كثيراً من المسلمين وبكل بساطة بالشرك، لا لشيء إِلاّ لأنّ تحرك هؤلاء المسلمين لا يتفق مع أهوائهم وطريقتهم

_____________________________

1 ـ تفسير الطبري، ج 6، ص 184 ـ إلاّ أنّ بعض الرّوايات ذكرت فقط «قوم أبي موسى» للإِشارة إِلى أهل اليمن الذين هبوا لنصرة الإِسلام في أحرج اللحظات، واستثنى أبو موسى تلميحاً إِلى قومه، بينما تصرح الرّوايات الأُخرى بأن (سلمان الفارسي) وقومه هم المشمولون بهذه الآية.

[44]

الخاصة، وكأن الإِسلام ينحصر في هذه الطريقة، أو كأنّهم ـ وحدهم ـ سدنة القرآن وحفظته دون غيرهم، أو كأنّهم هم المكلفون ـ دون غيرهم ـ ببيان من هو المسلم ومن هو الكافر، فيشيرون بكلمة واحدة إِلى هذا بأنّه مشرك وإِلى ذاك بأنّه مسلم، وفق ما تشتهيه أهواؤهم ورغباتهم.

في حين أنّنا نقرأ في الرّوايات الواردة في تفسير الآيات الأخيرة، أنّ الإِسلام حين يصبح غريباً بين أهله يبرز أشخاص كسلمان الفارسي لإِعادة مجد الإِسلام وعظمته، وهذه بشارة وردت على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لقوم سلمان.

والمثير للدهشة والحيرة أن كلمة التوحيد التي هي رمز لوحدة المسلمين، أصبحت اليوم تستخدم من قبل جهات معلومة للتفريق بين المسلمين واتهامهم بالشرك والوثنية، وقد خاطب أحد العلماء هؤلاء المتطرفين بقوله: إنّكم قد وصلت بكم الحالة إِلى درجة أن إِسرائيل إِذا تسلطت على جماعة منكم فرحت جماعة أُخرى بهذا التسلط، وإِذا ضربت إِسرائيل الجماعة الأُخرى فرحت الجماعة الاُولى بهذا العمل، أو ليس هذا هو ما يبتغيه ويهدف إِليه أعداء الإِسلام؟

ومن الإِنصاف القول بأن اللقاءات المتكررة التي حصلت بيننا وبين عدد من علماء هؤلاء المتعصبين المتطرفين، كشفت القناع عن أنّ الواعين منهم كثيراً ما لا يرضون بهذا الوضع، وقد التقيت بأحد علماء اليمن في المسجد الحرام فقال أمام جمع من كبار مدرسي الحرم المكي: إنّ إتهام أهل القبلة بالشرك يعتبر ذنباً كبيراً، استقبحه السلف الصالح كثيراً، وقد صدر هذا القول منه حين كان الحديث يدور حول مسألة حدود الشرك، وقد أعرب هذا العالم عن استيائه لما يقوم به بعض الجهلاء من اتهام الناس بالشرك مشيراً إِلى أن هؤلاء يتحملون بعملهم هذا مسؤولية عظيمة.

* * *

[45]

الآية

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَكِعُونَ(55)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان ـ وتفاسير وكتب أُخرى ـ نقلا عن عبد الله بن عباس قوله: أنّه كان في أحد الأيّام جالساً إِلى جوار بئر زمزم، ويروي للناس أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقرب إِليهم ـ فجأة ـ رجل كان يرتدي عمامة، ويضع على وجهه نقاباً، وكان كلما تلا ابن عباس حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هو حديثاً عن النّبي مستهلا قوله بعبارة: «قال رسول الله...» فأقسم عليه ابن عباس أن يعرف نفسه، فرفع هذا الشخص النقاب عن وجهه وصاح أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ولم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبوذر الغفاري، سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهاتين وإِلاّ صمتا، ورأيته بهاتين وإِلاّ فعميتا، يقول: «علي قائد البررة، وقاتل الكفرة منصور من نصره، مخذول من خذله».

وأضاف أبوذر: أمّا إنّي صليت مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده الى السماء وقال: اللّهم أشهد بأنّي سألت في مسجد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يعطني أحد شيئاً، وكان علي(عليه السلام)

[46]

راكعاً فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يختتم فيها فاقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إِلى السماء وقال: «اللّهم موسى سألك فقال: (ربّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني ليفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشددّ به أزري واشركه في أمري)، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما..) اللّهم وأنا محمّد نبيّك وصفيك اللّهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيراً عليّاً أشدد به ظهري».

قال أبو ذر(رحمه الله): فما إستتم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كلامه حتى نزل جبرائيل من عند اللّه عزّوجلّ فقال(عليه السلام): يا محمّد إقرأ، قال: وما إقرأ؟ قال: إقرأ: (إنّما وَلِيّكُم اللّهُ وَسُولُهُ والذينَ آمنُوا الذينَ يُقيمُونَ الصّلاة ويُؤتونَ الزّكاةَ وهُم راكِعُونَ).(1)

وطبيعي أنّ سبب النّزول هذا قد نقل عن طرق مختلفة (كما سيأتي تفصيله) بحيث تختلف الرّوايات أحياناً بعضها عن البعض الآخر في جزئيات وخصوصيات الموضوع، لكنها جميعاً متفقة من حيث الأساس والمبدأ.

التّفسير

إبتدأت هذه الآية بكلمة «إِنّما» التي تفيد الحصر، وبذلك حصرت ولاية أمر المسلمين في ثلاث هم: الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، والذين آمنوا وأقاموا الصّلاة وأدوا الزّكاة وهم في حالة الركوع في الصّلاة كما تقول الآية: (إِنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون).

ولا شك أنّ الرّكوع المقصود في هذه الآية هو ركوع الصّلاة ولا يعني الخضوع، لأنّ الشارع المقدس اصطلح في القرآن على كلمة الرّكوع للدلالة على الركن الرّابع للصلاة.

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان: ج2، ص210، في ذيل الآية البحوثة.

[47]

وبالإِضافة إِلى الرّوايات الواردة في شأن نزول الآية، والتي تتحدث عن تصدق علي بن أبي طالب(عليه السلام) بخاتمه في الصّلاة ـ وسنتطرق إِليها بالتفصيل ـ فإنّ جملة (ويقيمون الصّلاة) تعتبر دليلا على هذا الأمر، وليس في القرآن أثر عن ضرورة أداء الزّكاة مقرونة بالخضوع، بل ورد التأكيد على دفع الزّكاة بنيّة خالصة وبدون منة.

كما لا شك في أنّ كلمة «الولي» الواردة في هذه الآية، لا تعني الناصر والمحب، لأنّ الولاية التي هي بمعنى الحب أو النصرة لا تنحصر في من يؤدون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون، بل تشمل كل المسلمين الذين يجب أن يتحابوا فيما بينهم وينصر بعضهم البعض، حتى أُولئك الذين لا زكاة عليهم، أو لا يمتلكون ـ أساساً ـ شيئاً ليؤدوا زكاته، فكيف يدفعون الزّكاة وهم في حالة الركوع؟! هؤلاء كلهم يجب أن يكونوا أحباء فيما بينهم وينصر بعضهم البعض الآخر.

ومن هنا يتّضح لنا أنّ المراد من كلمة «ولي» في هذه الآية، هو ولاية الأمر والإِشراف وحق التصرف والزعامة المادية والمعنوية، خاصّة وقد جاءت مقترنةً مع ولاية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وولاية الله حيث جاءت الولايات الثلاث في جملة واحدة.

وبهذه الصورة فإن الآية تعتبر نصّاً قرآنياً يدل على ولاية وإِمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام) للمسلمين.

شهادة الأحاديث والمفسّرين والمؤرخين:

لقد قلنا أنّ الكثير من الكتب الإِسلامية ومصادر أهل السنّة تشتمل على العديد من الرّوايات القائلة بنزول هذه الآية في شأن الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد ذكرت بعض هذه الرّوايات قضية تصدق الإِمام علي(عليه السلام) بخاتمه على السائل وهو في حالة الركوع، كما لم تذكر روايات أُخرى مسألة التصدق

[48]

هذه، بل اكتفت بتأييد نزول هذه الآية في حق علي(عليه السلام).

وقد نقل هذه الرّوايات كل من ابن عباس، وعمار بن ياسر، وعبدالله بن سلام، وسلمة بن كهيل، وأنس بن مالك، وعتبة بن حكيم، وعبدالله بن أبي، وعبد الله بن غالب، وجابر بن عبدالله الأنصاري، وأبي ذر الغفاري(1).

وبالإِضافة إِلى الرواة العشرة المذكورين، فقد نقلت كتب الجمهور (أهل السنة) هذه الرواية عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) نفسه(2).

والطّريف أنّ كتاب (غاية المرام) قد نقل 24 حديثاً عن طرق أهل السنة و19 حديثاً عن طرق الشّيعة(3).

وقد تجاوز عدد الكتب التي أوردت هذه الرّوايات الثلاثين كتاباً، كلها من تأليف علماء أهل السنة، منهم: محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص88، والعلامة القاضي الشوكاني في تفسير فتح القدير ج 2، ص 50، ومن هذه المصادر المعتمدة أيضاً: جامع الأُصول ج 9، ص 478، وفي أسباب النّزول للواحدي ص 148، وفي لباب النقول للسيوطي ص 90، وفي تذكرة سبط ابن الجوزي ص 18، وفي نور الأبصار للشبلنجي ص 105، وفي تفسير الطبري ص 165، وفي كتاب الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني ص 56، وفي مفاتيح الغيب للرازي ج 3، ص 431، وفي تفسير الدرّ المنثور ج2، ص393، وفي كتاب كنز العمال ج6، ص391، وفي مسند ابن مردويه ومسند ابن الشيخ، بالإِضافة إِلى صحيح النسائي، وكتاب الجمع بين الصحاح الستة، وكتب عديدة أُخرى نقلت حديث الولاية(4).

اذن كيف يمكن ـ والحالة هذه ـ انكار هذه الأحاديث والمصادر التي نقلتها،

_____________________________

1 ـ راجع كتاب إحقاق الحق، ج 2، ص 309 ـ 410.

2 ـ راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين، ص 155.

3 ـ منهاج البراعة، ج 2، ص 350.

4 ـ راجع كتاب إحقاق الحق، ج 2، وكتاب (الغدير) ج 2، وكتاب المراجعات للإِطلاع على تفاصيل أكثر بهذا الشأن.

[49]

في حين أنّها اكتفت في مجال أسباب نزول آيات أُخرى بحديث واحد أو حديثين؟! لعل التطرف الطائفي هو سبب تجاهل كل هذه الأحاديث والشهادات التي أدلى بها العلماء في مجال سبب نزول هذه الآية.

فلو أمكن التغاضي عن كل الرّوايات التي وردت في تفسير هذه الآية، وهي روايات كثيرة للزم أن لا نعتمد على أي رواية في تفسير النصوص القرآنية، لأنّنا قلما نجد أسباباً لنزول آية أو آيات قرآنية جاءت مدعومة بهذا العدد الكبير من الرّوايات، كما ورد في هذه الآية الكريمة.

إِنّ هذه القضية كانت بدرجة من الوضوح بحيث أنّ حسان بن ثابت الشاعر المعروف الذي عاصر واصطحب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ جاء بمضمون آية الولاية في قالب شعري من نظمه الذي قاله في حق علي بن أبي طالب(عليه السلام) حيث يقول:

فأنت الذي أعطيت إِذ كنت راكعاً زكاة فدتك النفس يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية وبينها في محكمات الشرائع

وقد وردت هذه الأشعار باختلافات طفيفة في كتب كثيرة، منها كتاب تفسير (روح المعاني) للألوسي، وكتاب (كفاية الطالب) للكنجي الشافعي، وكتب كثيرة أُخرى.

الرّد على اعتراضات ثمانية:

لقد أصرت جماعة من المتطرفين من أهل السنّة على تكرار الإِعتراضات حول نزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وكذلك على تفسير (الولاية) الواردة في الآية الكريمة بمعنى الإِشراف والتصرف والإِمامة، وفيما يلي نعرض أهم هذه الإِعتراضات للبحث والنقد، وهي:

1 ـ قالوا: أنّ عبارة «الذين» المقترنة بكلمة «آمنوا» الواردة في الآية: لا يمكن أن تطبق على المفرد، وذلك ضمن اعتراضهم على الرّوايات التي تقول

[50]

بنزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقالوا: أنّ الآية أشارت بصيغة الجمع قائلة (الذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون) فكيف يمكن أن تكون هذه الآية في حق شخص واحد كعلي(عليه السلام)؟

الجواب:

لقد زخرت كتب الأدب العربي بجمل تمّ التعبير فيها عن المفرد بصيغة الجمع، وقد اشتمل القرآن الكريم على مثل هذه الجمل، كما في آية المباهلة، حيث وردت كلمة «نساءنا» بصيغة الجمع مع أنّ الرّوايات التي ذكرت سبب نزول هذه الآية أكّدت أن المراد من هذه الكلمة هي فاطمة الزهراء(عليها السلام) وحدها، وكذلك في كلمة (أنفسنا) في نفس الآية وهي صيغة جمع، في حين لم يحضر من الرجال في واقعة المباهلة مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) غير علي(عليه السلام).

وكذلك نقرأ في الآية (172) من سورة آل عمران في واقعة أحد قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إِنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايماناً ...).

وقد بيّنا في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا عند تفسير هذه الآية، أن بعض المفسّرين ذكروا أنّها نزلت بشأن (نعيم بن مسعود) الذي لم يكن إِلاّ واحداً.

ونقرأ في الآية (52) من هذه السّورة ـ أيضاً ـ قوله تعالى: ـ (... يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ...) في حين أن هذا الجزء من الآية نزل في شخص واحد، كما جاء في سبب النّزول، وهو (عبد الله بن أبي) وقد مضى تفسير ذلك.

وكذلك في الآية الاُولى من سورة الممتحنة، والآية الثامنة من سورة (المنافقون) والآيتين (215 و274) من سورة البقرة، نقرأ فيها كلها عبارات جاءت بصيغة الجمع، بينما الذي ذكر في أسباب نزول هذه الآيات هو أنّ المراد في كل منها شخص واحد.

والتعبير بصيغة الجمع عن شخص واحد في القرآن الكريم إمّا أن يكون بسبب أهمية موقع هذا الشخص ولتوضيح دوره الفعال، أو لأجل عرض الحكم القرآني

[51]

بصيغة كلية عامّة حتى إِذا كان مصداقه منحصراً في شخص واحد، وقد ورد في كثير من آي القرآن ضمير الجمع للدلالة على الله الواحد الأحد، وذلك تعظيماً له جلّ شأنه.

وبديهي أنّ استخدام صيغة الجمع للدلالة على الواحد يعتبر خلافاً للظاهر، ولا يجوز بدون قرينة ولكن مع وجود الرّوايات الكثيرة الواردة في شأن نزول الآية تكون لدينا قرينة واضحة على هذا التّفسير وقد اكتفى في موارد أُخرى بأقل من هذه القرينة؟!

2 ـ وقال الفخر الرّازي ومتطرفون آخرون: أنّ عليّاً(عليه السلام) بما عرف عنه من خشوع وخضوع إِلى الله، بالأخص في حالة الصّلاة (إِلى درجة، أنّهم استلوا أثناء صلاته سهماً كان مغروزاً في رجله، دون أن يحس بالألم كما في (الرواية المعروفة) فكيف يمكن القول بأنّه سمع أثناء صلاته كلام السائل والتفت إِليه؟!

الجواب:

إِنّ الذين جاؤوا بهذا الإِعتراض قد غفلوا عن أن سماع صوت السائل والسعي لمساعدته لا يعتبر دليلا على الإِنصراف والتوجه إِلى النفس، بل هو عين التوجه إِلى الله، وعلي(عليه السلام) كان أثناء صلاته يتجرد عن ذاته وينصرف بكله إِلى الله، ومعروف أن التنصل عن خلق الله يعتبر تنصلا أيضاً عن الله، وبعبارة أوضح: أن أداء الزّكاة أثناء الصّلاة يعد عبادة ضمن عبادة أُخرى، وليس معناه القيام مباح ضمن العبادة، بعبارة ثالثة: إنّ ما يلائم روح العبادة هو الإِنشغال والإِنصراف أثناءها إِلى الأُمور الخاصّة بالحياة والشخصية، بينما التوجه إِلى ما فيه رضى الله تعالى يتلائم بصورة تامّة مع روح العبادة ويؤكّدها.

ومن الضروري أن تؤكّد هنا أن الذوبان في التوجه إِلى الله، ليس معناه أن يفقد الإِنسان الإِحساس بنفسه، ولا أن يكون بدون إرادة، بل الإِنسان بارادته يصرف عن نفسه التفكير في أي شيء لا صلة له بالله.

[52]

والطّريف في الأمر أنّ الفخر الرازي قد أوصله تطرّفه إِلى الحدّ الذي اعتبر فيه ايماءة الإِمام علي(عليه السلام) إِلى السائل بأصبعه ـ لكي يأخذ الخاتم ـ مصداقاً للفعل الكثير المنافي للصلاة، في حين أن هناك أفعالا يمكن القيام بها أثناء الصّلاة أكثر بكثير من تلك الإِيماءة التي قام بها الإِمام(عليه السلام)، وفي نفس الوقت لا تضر ولا تمس الصّلاة بشيء، ومن هذه الأفعال قتل الحشرات الضارة كالحية والعقرب، ورفع الطفل من محله ووضعه فيه، وإِضاع الطفل الرضيع، وكل هذه الأفعال لا تعتبر من الفعل الكثير في نظر الفقهاء، فكيف يمكن القول بأن تلك الإِيماءة تعتبر من الفعل الكثير؟!

وقد لا يكون هذا الخطأ غريباً عن عالم استولى عليه التطرف!

3 ـ أمّا الإِعتراض الآخر في هذا المجال، فهو أنّ كلمة (ولي) الواردة في الآية تعني الصديق والناصر وأمثالهما، وليست بمعنى المتصرف أو المشرف أو ولي الأمر.

الجواب: لقد بيّنا في تفسير هذه الآية أن كلمة (ولي) ـ الواردة فيها ـ لا يمكن أن تكون بمعنى الصديق أو الناصر، لأنّ هاتين الصفتين قد ثبتت شموليتهما لكل المسلمين المؤمنين، وليستا منحصرتين بالمؤمنين المذكورين في الآية والذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة أثناء الركوع، وبعبارة أُخرى: إنّ الصداقة والنصرة حكمان عامان، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تهدف إِلى بيان حكم خاص بشخص واحد.

4 ـ وقالوا ـ أيضاً ـ أنّ عليّاً(عليه السلام) لم يكن يمتلك شيئاً من حطام الدنيا حتى تجب عليه الزّكاة، ولو قلنا بأنّ المراد في الآية هو الصداقة المستحبة فهي لا تسمى زكاة؟!

الجواب:

أوّلا: إِنّ التّأريخ ليشهد على امتلاك علي(عليه السلام) المال الوفير الذي حصل عليه

[53]

من كدّ يمينه وعرق جبينه وتصدق به في سبيل الله، وقد نقلوا في هذا المجال أنّ عليّاً(عليه السلام) اعتق وحرر ألف رقبة من الرقيق، كان قد اشتراهم من ماله الخاص الذي كان حصيلة كدّه ومعاناته، أضف إِلى ذلك فقد كان(عليه السلام) يحصل ـ أيضاً ـ على حصته من غنائم الحرب، وعلى هذا الأساس فقد كان علي(عليه السلام) يمتلك ذخيرة بسيطة من المال، أو من نخلات التمر ممّا يتعين فيهما الزّكاة.

ونحن نعلم ـ أيضاً ـ ان الفورية الواجبة في أداء الزّكاة هي «فورية عرفية» لا تتنافى مع اداء الصّلاة، أي لا فرق في اداء الزّكاة سواء كان وقت الأداء قبل وقت الصّلاة أو أثناءها.

ثانياً: لقد أطلق القرآن الكريم في كثير من الحالات كلمة الزّكاة على الصدقة المستحبة، وبالأخص في السور المكية، حيث وردت هذه الكلمة للدلالة على الصدقة المستحبة، لأنّ وجوب الزّكاة كان قد شرع بعد هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى المدينة، كما في (الآية 3 من سورة النمل، والآية 39 من سورة الروم، والآية 4 من سورة لقمان، والآية 7 من سورة فصلت وغيرها).

5 ـ ويقولون: إِنّهم حتى لو أذعنوا بأن علياً(عليه السلام) هو الخليفة بعد النّبي مباشرة، فهذا لا يعني أن يكون علي(عليه السلام) ولياً في زمن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ ولايته في زمن النّبي لم تكن ولاية فعلية، بل كانت ولاية بالقوة، وأن ظاهر الآية ـ موضوع البحث ـ يدل على الولاية الفعلية.

الجواب:

نلاحظ كثيراً في كلامنا اليومي ـ وكذلك في النصوص الأدبية ـ اطلاق اسم معين أو صفة خاصّة على أفراد لا يتمتعون بمزاياها الفعلية، بل يمتلكون المزية أو المزايا بالقوة، وهذا مثل أن يوصي انسان في حياته ويعين لنفسه وصياً وقيماً على أطفاله فيكون الشخص الثّاني فور اقرار الوصية من قبل الشخص الأوّل وصياً وقيماً، ويدعي بهذين العنوانين حتى لو كان الإِنسان الموصي باقياً على قيد

[54]

الحياة.

ونحن نقرأ في الرّوايات التي نقلت في أسانيد الشّيعة والسنّة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بحقّ علي(عليه السلام) أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دعا علياً: وصيه وخليفته، في حين أن هذين العنوانين لم يكونا ليتحققا في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

والقرآن المجيد ـ أيضاً ـ يشتمل على مثل هذه التعابير، ومن ذلك ما ورد عن (زكريا) الذي توسل إِلى الله بقوله: (... هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب ...)(1) والمعروف أنّ المراد ـ هنا ـ من كلمة (ولي) المشرف الذي يتولى شؤون الإِشراف بعد الموت كما يعيّن الكثير من الناس في حياتهم من يقوم مقامهم بعد الموت، ويسمّى الشخص المعين منذ لحظة تعيينه بالنائب أو الخليفة مع كون هذه الصفات بالقوة، وليست بالفعل.

6 ـ واحتجّوا ـ أيضاً ـ بقولهم: لماذا لم يعتمد علي(عليه السلام) على هذا الدليل الواضح للدفاع عن حقّه؟

الجواب:

لقد لاحظنا ـ من خلال البحث الذي تناول الرّوايات في سبب نزول هذه الآية ـ أن هذا الحديث قد نقل في كتب عديدة عن الإِمام علي(عليه السلام) نفسه، ومن ذلك ما جاء في مسند «ابن مردويه» و«ابن الشّيخ» و«كنز العمال» وهذا بذاته دليل على استدلال الإِمام علي(عليه السلام) بهذه الآية الشريفة.

ونقل في كتاب (الغدير) القيم عن كتاب (سليم بن قيس الهلالي) حديث مفصل مفاده أنّ عليّاً(عليه السلام) حين كان منشغلا بحرب صفين، تحدث في ميدان الحرب امام جمع من الناس مستدلا بدلائل عديدة في إثبات حقّه، وكان من جملة ما استدل به الإِمام(عليه السلام) هذه الآية الكريمة(2).

_____________________________

1 ـ مريم، 5.

2 ـ الغدير، ج 1، ص 196.

[55]

وجاء في كتاب (غاية المرام) نقلا عن أبي ذر(رضي الله عنه) أنّ عليّاً(عليه السلام) استدل في يوم الشورى بهذه الآية(1).

7 ـ وقد ادعوا ـ أيضاً ـ أنّ هذا التّفسير الذي أوردناه موضوع البحث لا يتناسب أو لا يتلاءم مع الآيات الواردة قبل وبعد هذه الآية، لأن تلك الآيات جاءت فيها كلمة «الولاية» بمعنى الصداقة.

الجواب:

لقد قلنا مراراً ـ أنّ الآيات القرآنية بسبب نزولها بصورة تدريجية، وبحسب الوقائع المختلفة تكون دائماً ذات صلة بالأحداث التي نزلت الآيات في شأنها، أي أنّ الآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة، ليست دائماً ذات مفهوم مترابط، كما لا تشير دائماً إِلى معنى واحد، ولذلك يحصل كثيراً أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول، وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آية ـ لصلتها بحادثة خاصّة ـ عن مسير الآية التّالية لها لإِختلاف الحادثه التي نزلت بشأنها، وبما أنّ آية (إِنّما وليكم الله ...) بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدق الإِمام علي(عليه السلام) أثناء الركوع، أمّا الآيات السابقة واللاحقة لها ـ كما رأينا وسنرى ـ فقد نزلت في أحداث أُخرى، لذلك لا يمكن الإِعتماد ـ هنا كثيراً على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات.

وهناك نوع من التناسب بين الآية ـ موضوع البحث ـ والآيات السابقة واللاحقة لها، لأنّ الآيات الأُخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإِعانة، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تحدثت عن الولاية بمعنى القيادة والتصرف، وبديهي أنّ القائد والزعيم والمتصرف في أُمور جماعة معينة، يكون في نفس الوقت حامياً وناصراً وصديقاً ومحباً لجماعته، أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشؤون الولاية المطلقة.

_____________________________

1 ـ عن كتاب (منهاج البراعة)، ج 2، ص 363.

[56]

8 ـ وأخيراً قالوا: من أين أتي علي(عليه السلام) بذلك الخاتم النفيس؟

وسألوا أيضاً: ألا يعتبر ارتداء خاتم بتلك القيمة العالية نوعاً من الإِسراف؟

ألا تعتبر هذه الأُمور دليلا على عدم صحة التّفسير المذكور.

الجواب:

إِنّ المبالغات الواردة بشأن قيمة الخاتم الذي تصدق به علي(عليه السلام) أثناء الركوع لا أساس لها مطلقاً، ولا يقوم عليها أي دليل مقبول ـ وما جاء في قيمة ذلك الخاتم من أنّه كان يعادل خراج الشام مبالغة أقرب إِلى الأسطورة منه إِلى الحقيقة، وقد جاء ذلك في رواية ضعيفة(1) ولعل هذه الرواية وضعت لتشويه حقيقة القضية الأصلية واظهارها بمظهر الأمر التافه، وقد خلت الرّوايات الصحيحة ـ التي وردت حول سبب نزول هذه الآية ـ من أي أثر لمثل هذه الأسطورة.

وعلى هذا الإساس لم يتمكن أحد من تهميش هذه الواقعة التّأريخية التي أشارت إِليها الآية الكريمة ـ بمثل هذه الحكاية التافهة.

* * *

_____________________________

1 ـ جاءت هذه الرواية مرسلة في تفسير البرهان، ج 1، ص 485.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21400714

  • التاريخ : 19/04/2024 - 01:11

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net