00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الانعام من بداية السورة ـ آية 28 من ( ص 199 ـ 254 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[199]

سُورَة الأَنْعَــامَ

مَكيَّة

وفيهَا مَائة وخمس وَستُونَ آية

[201]

 

سورة الأنعام

سورة محاربة أنواع الشرك والوثنية

قيل أنّ سورة الأنعام مكية، وهي السورة التاسعة والستون في تسلسل نزول السور القرآنية، إِلاّ أنّ هناك اختلافاً بشأن عدد من آياتها، يعتقد بعض أنّ تلك الآيات نزلت في المدينة، لكن الأخبار الواصلة إِلينا من أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)تفيد بأن واحدة من مميزات هذه السورة هي أنّ آياتها جميعاً نزلت في مكان واحد، وعليه فكل آياتها مكية.

هدف هذه السورة الرئيسي ـ مثل أهداف السور المكية ـ توكيد الأُصول الثلاثة: «التوحيد» و«النبوة» و«المعاد»، ولكنها تؤكّد أكثر ما تؤكّد قضية عبادة الله الواحد ومحاربة الشرك والوثنية، بحيث أنّ معظم آيات هذه السورة يخاطب المشركين وعبدة الأصنام، وبهذا يتناول البحث في أكثر المواضع أعمال المشركين وبدعهم.

على كل حال، فإن تدبر آيات هذه السورة والتفكير في استدلالاتها الحية الجلية، يحيي روح التوحيد وعبادة الله في الإِنسان، ويحطم قواعد الشرك ويقتلع جذوره، ولعل السبب في نزول هذه السورة في مكان واحد هو هذا التماسك المعنوي وإِعطاء الأولوية لمسألة التوحيد.

ولعل هذا أيضاً هو السبب لما نقرؤه من روايات عن فضل هذه السورة، وإِنّها عند نزولها رافقها سبعون ألف ملك، وأنّ من يقرأها وترتوي روحه من ينبوع

[202]

التوحيد يستغفر له كل أُولئك الملائكة.

إِنّ التمعن في آيات هذه السورة يقضي على روح النفاق والتشتت بين المسلمين، ويجعل الآذان سميعة، والأعين بصيرة، والقلوب عارفة.

ولكن العجيب أن نرى بعضهم يكتفي من هذه السورة بقراءة ألفاظها فقط، ويعقد الجلسات لتلاوة آياتها من أجل حل المشاكل الشخصية، فلو اهتمت هذه الجلسات بمحتوى السورة، فلا تنحل المشاكل الخاصّة وحدها، بل تنحل جميع مشاكل المسلمين العامّة أيضاً، ومن المؤسف جداً أنّ جمعاً من الناس يعتبرون القرآن مجموعة من (الأوراد) التي لها خواص غامضة ومجهولة فيقرأونها بغير تمعن في مضامينها، مع أن القرآن كلّه مدرسة ودروس ومنهج ويقظة، ورسالة ووعي.

* * *

[203]

الآيتان

الْحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِين ثمّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ(2)

التّفسير

تبدأ السّورة بالحمد لله والثناء عليه، ثمّ تشرع بتوعية الناس على مبدأ التوحيد، عن طريق خلق العالم الكبير (السموات والأرض) أولا، ثمّ عن طريق خلق العالم الصغير (الإِنسان) ثانياً: (الحمدلله الذي خلق السموات والأرض)الله الذي هو مبدأ الظّلمة والنّور، وبخلاف ما يعتقده الثنويون، وهو وحده خالق كل شيء: (وجعل الظّلمات والنّور).

غير أنّ الكافرين والمشركين، بدلا من أن يتعلموا من هذا النظام الواحد درس التوحيد، يصطنعون لله الشريك والشبيه: (ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون)(1).

نلاحظ أنّ القرآن يذكر عقيدة المشركين بعد حرف العطف «ثم» الذي يدل في اللغة العربية على الترتيب والتراخي، وهذا يدل على أن التوحيد كان في أوّل الأمر مبدأ فطرياً وعقيدة عامّة للبشر، بعد ذلك حصل الشرك كإنحراف عن الأصل الفطري.

أمّا لماذا استعملت الآية كلمة «الخلق» بشأن السموات والأرض، وكلمة

_____________________________

1 ـ «يعدلون» من «عدل» على وزن «حفظ» بمعنى التساوي، وهي هنا بمعنى (العديل) أي الشريك والشبيه والمثيل.

[204]

«جعل» بشأن النّور والظلمة، فإنّ للمفسّرين في ذلك كلاماً كثيراً، ولكن أقربه إلى الذهن هو القول بأنّ «الخلق» يكون في أصل وجود الشيء، و«الجعل» يكون بشأن الخصائص والآثار والكيفيات التي هي نتيجة لخلق تلك المخلوقات، ولما كان النّور والظلمة حالتين تابعتين فقد عبّر عنهما بلفظة «جعل».

وروي عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في تفسير هذه الآية قوله: «وكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف منهم، لما قال:(الحمد لله الذي خلق السموات والأرض) فكان ردّاً على الدهرية الذين قالوا: إِنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة، ثمّ قال: (وجعل الظّلمات والنّور) فكان ردّاً على الثنوية الذين قالوا: إِنّ النّور والظلمة هما المدبران.

ثمّ قال: (ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلهم) فكان ردّاً على مشركي العرب الذين قالوا: إِنّ أوثاننا آلهة»(1).

هل الظّلمة من المخلوقات؟

تفيد الآية إِنّه مثلما أن «النّور» من مخلوقات الله، فإِنّ «الظلمة» كذلك من مخلوقاته، مع أنّ الفلاسفة والمختصين بالعلوم الطبيعية يعرفون أنّ الظلمة هي انعدام النّور، ولهذا فلا يمكن اطلاق صفة «المخلوق» على المعدوم إِذن، كيف تعتبر الآية المذكورة الظلمة من المخلوقات؟

في ردّ هذا الإِعتراض نقول.

أوّلا: الظّلمة ليس تعني دائماً الظلام المطلق، بل كثيراً ما تطلق على النّور الضعيف جداً بالمقارنة مع النّور القوي، فنحن جميعاً نقول، مثلا، ليل مظلم، مع العلم بأنّ ظلام الليل ليس ظلاماً مطلقاً، بل هو مزيج من نور النجوم الضعيف أو مصادراَ أُخرى للنور، وعلى هذايكون مفهوم الآية هو أنّ الله جعل لكم نور النهار وظلام الليل، فالأوّل نور قوي والآخر نور ضعيف جداً وواضح أنّ الظلمة، بهذا المعنى، تكون من المخلوقات.

وثانياً: صحيح أنّ الظلمة المطلقة أمر عدمي، ولكن الأمر العدمي ـ في ظروف

_____________________________

1 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 701.

[205]

خاصّة ـ يكون نابعاً من أمر وجودي، أي أنّ يوجد الظلمة المطلقة في ظروف خاصة لهدف معين، لابدّ أن يكون قد استعمل لذلك وسائل وجودية، فإِذا أردنا أنّ نجعل الغرفة مظلمة لتحميض صورة ـ مثلا ـ فعلينا أن نمنع النّور لكي تحصل الظلمة في تلك اللحظة المعينة، وظلمة هذا شأنها ظلمة مخلوقة (مخلوقة بالتبع).

وإِذا لم يكن (العدم المطلق) مخلوقاً، فإن (العدم الخاص) له نصيب من الوجود، وهو مخلوق.

النّور رمز الوحدة، والظلمة رمز التشتت:

الأمر الآخر الذي ينبغي الإِلتفات إليه هنا هو أنّ لفظة (نور) ترد في القرآن بصيغة المفرد، بينما الظلمة تأتي بصيغة الجمع (ظلمات).

وقد يكون هذا إِشارة لطيفة إِلى حقيقة كون الظلام (المادي والمعنوي) مصدراً دائماً للتشتت والإِنفصال والتباعد، بينما النّور رمز التوحد والتجمع.

طالما شاهدنا أنّنا في الليلة الصيفية الظلماء نوقد سراجاً في فناء الدار، ثمّ لا تمضي إِلاّ دقائق حتى نرى مختلف أنواع الحشرات تتجمع حول السراج مؤلفة تجمعاً حياً حول النّور، ولكننا إِذا أطفأنا السراج تفرقت الحشرات كل إِلى جهة، كذلك الحال في الشؤون المعنوية والإِجتماعية. فنور العلم والقرآن والإِيمان أساس الوحدة، وظلام الجهل والكفر والنفاق أساس التفرق والتشتت.

قلنا: إِنّ هذه السورة تسعى إِلى لفت نظر الإِنسان إِلى العالم الكبير لتثبيت قواعد عبادة الله والتوحيد في القلوب، توجه نظره أوّلا إِلى العالم الكبير، والآية التّالية تلفت نظره إِلى العالم الصغير (الإِنسان) فتشير إِلى أعجب أمر، وهو خلقه من الطين فتقول (هو الذي خلقكم من طين).

صحيح أنّنا ولدنا من أبوينا، لا من الطين، ولكن بما أنّ خلق الإِنسان الأوّل كان من الطين، فيصح أن نخاطب نحن أيضاً على أننا مخلوقين من الطين.

وتستمر السورة فتشير إِلى مراحل تكامل عمر الإِنسان فتقول: إِنّ الله بعد ذلك عين مدّة يقضها الإِنسان على هذه الأرض للنمو والتكامل: (ثمّ قضى أجلا).

«الأجل» في الأصل بمعنى «المدّة المعينة» و«قضاء الأجل» يعني تعيين تلك

[206]

المدّة أو إِنهاءها، ولكن كثيراً ما يطلق على الفرصة الأخيرة اسم «الأجل»، فتقول، مثلا: جاء أجل الدَّين، أي أنّ آخر موعد التسديد الدّين قد حل. ومن هنا أيضاً يكون التعبير عن آخر لحظة من الحظات عمر الإِنسان بالأجل لأنّها موعد حلول الموت.

ثمّ لإِستكمال البحث تقول: (وأجل مسمى عنده).

بعد ذلك تخاطب الآية المشركين وتقول لهم: (ثمّ أنتم تمترون) أي تشكون في قدرة الخالق الذي خلق الإِنسان من هذه المادة التافهة (الطين) واجتاز به هذه المراحل المدهشة، وتعبدون من دونه موجودات لا قيمة لها كالأصنام.

ما معنى الأجل المسمى؟

لا شك أنّ «الأجل المسمى» و«أجلا» في الآية مختلفتان في المعنى، أمّا اعتبار الإِثنين بمعنى واحد فلا ينسجم مع تكرار كلمة «أجل» خاصّة مع ذكر القيد: «مسمى» في الثّاني.

لذلك بحث المفسّرون كثيراً في الإِختلاف بين التعبيرين، والقرائن الموجودة في القرآن والرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيت(عليهم السلام) تفيد أنّ «أجل» وحدها تعني غير الحتمي من العمر والوقت والمدّة، و«الأجل المسمى» بمعنى الحتمي منها، وبعبارة أُخرى «الأجل المسمى» هو «الموت الطبيعي» و«الأجل» هو الموت غير الطبيعي.

ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الكثير من الموجودات لها من حيث البناء الطبيعي والذاتي الإِستعداد القابلية للبقاء مدّة طويلة، ولكن قد تحصل خلال ذلك موانع تحول بينها وبين الوصول إلى الحد الطبيعي الأعلى، افترض سراجاً نفطياً يستطيع أنّ يبقى مشتعلا مدّة عشرين ساعة مع الأخذ بنظر الإِعتبار سعته النفطية، غير أن هبوب ريح قوية، أو هطول المطر عليه أو عدم العناية به، يكون سبباً في قصر مدّة الإضاءة، فإِذا لم يصادف السراج أي مانع، وظل مشتعلا حتى آخر قطرة من نفطه ثمّ انطفأ نقول: إِنّه وصل إِلى أجله المحتوم، وإذا أطفأته الموانع قبل ذلك، فيكون عمره «أجل» غير محتوم.

[207]

والحال كذلك بالنسبة للإِنسان، فإِذا توفرت جميع ظروف بقاءة وزالت جميع الموانع من طريق استمرار حياته، فإن بنيته تضمن بقاءه مدّة طويلة إِلى حد معيّن، ولكنّه إِذا تعرض لسوء التغذية، أو ابتلى بنوع من الإِدمان، أو إِذا انتحر، أو أعدم لجريمة ومات قبل تلك المدّة، فإنّ موته في الحالة الاُولى يكون أجلا محتوماً، وفي الحالة الثّانية أجلا غير محتوم.

وبعبارة أُخرى: الأجل الحتمي يكون عندما ننظر إِلى «مجموع العلل التامّة»، والأجل غير الحتمي يكون عندما ننظر إِلى «المقتضيات» فقط.

استناداً إِلى هذين النوعين من الأجل يتّضح لنا كثير من الأُمور، من ذلك مثلا ما نقرؤه في الرّوايات والأحاديث من أن صلة الرحم تطيل العمر، وقطعها يقصر العمر، وواضح أنّ العمر هنا هو الأجل غير الحتمي.

أمّا قوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)(1).

فهو الأجل المحتوم، أي أنّ الإِنسان قد وصل إِلى نهاية عمره، وهو لا يشمل الموت غير المحتوم السابق لأوانه.

ولكن علينا أن نعلم ـ على كل حال ـ أنّ الأجلين يعينهما الله، الأوّل بصورة مطلقة، والثّاني بصورة معلقة أو مشروطة، وهذا يشبه بالضبط قولنا: إِنّ هذا السراج ينطفيء بعد عشرين ساعة بدون قيد ولا شرط، ونقول إِنّه ينطفيء بعد ساعتين إِذا هبت عليه ريح، كذلك الأمر بالنسبة للإِنسان والأقوام والملل، فنقول: إِنّ الله شاء أن يموت الشخص الفلاني أو أن تنقرض الأُمّة الفلانية بعد كذا من السنين، ونقول إِنّ هذه الأُمّة إِذا سلكت طريق الظلم والنفاق والتفرقة والكسل والتهاون فإنّها ستهلك في ثلث تلك المدّة، كلا الأجلين من الله، الأوّل مطلق والآخر مقيد بشروط.

جاء عن الإِمام الصادق(عليه السلام) تعقيباً على هذه الآية قوله: «هما أجلان: أجل محتوم وأجل موقوف» كما جاء عنه في أحاديث أُخرى أنّ الأجل الموقوف قابل للتقديم والتأخير، والأجل الحتمي لا يقبل التغيير(2).

_____________________________

1 ـ الأعراف، 34.

2 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 504.

[208]

الآية

وَهُوَ اللهُ فِى السَّمَـوَتِ وَفِى الاَْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3)

التّفسير

هذه الآية تكمل البحث السابق في التوحيد ووحدانية الله، وترد على الذين يقولون بوجود إِله لكل مجموعة من الكائنات، أو لكل ظاهرة من الظواهر، فيقولون: إِله المطر، وإِله الحرب، وإِله السلم، وإِله السماء، وما إِلى ذلك، تقول الآية: (وهو الله في السموات وفي الأرض)(1) أي كما أنّه خالق كل شيء فهو مدبر كل شيء أيضاً، وبذلك ترد الآية على مشركي الجاهلية الذين كانوا يعتقدون أنّ الخالق هو «الله» لكنّهم كانوا يؤمنون أنّ تدبير الأُمور بيد الأصنام.

هنالك احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّها تعني حضور الله في كل مكان، في السموات والأرض، ولا يخلو منه مكان، فليس هو بجسم ليشغل حيزاً معيناً، بل هو المحيط بكل الأمكنة.

_____________________________

1 ـ ثمّة إختلاف بين المفسّرين حول إعراب هذه العبارة القرآنية والظاهر أنّ «هو» مبتدأ و«الله» خبر. و(في السماوات ...)جار و مجرور متعلقان بفعل تدل عليه كلمة «الله» والتقدير: (هو المتفرد في السموات والأرض بالألوهية).

[209]

من الطبيعي أن يكون الحاكم على كل شيء والمدبر لكل الأُمور والحاضر في كل مكان عارفاً بجميع الأسرار والخفايا ولهذا تقول الآية: إِنّ ربّاً كهذا (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون).

قد يقال بأنّ (السرّ) و(الجهر) يشملان أعمال الإِنسان ونواياه، وعلى ذلك فلا حاجة لذكر (ويعلم ما تكسبون).

ولكن ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ «الكسب» هو نتائج العمل والحالات النفسية الناشئة عن الأعمال الحسنة والأعمال السيئة، أي أنّ الله يعلم أعمالكم ونواياكم، كما يعلم الآثار التي تخلفها تلك الأعمال والنوايا في نفوسكم، وعلى كل حال، فانّ ذكر العبارة هذه يفيد التوكيد بشأن أعمال الإِنسان.

* * *

[210]

الآيتان

وَمَا تَأْتِيِهم مِّنْ ءَايَة مِّنْ ءَايَـتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَـمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَـؤُا مَاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(5)

التّفسير

قلنا: إِنّ معظم الخطاب في سورة الأنعام موجه إِلى المشركين، والقرآن يستخدم شتى السبل لإِيقاظهم وتوعيتهم، فهذه الآية والآيات الكثيرة التي تليها تواصل هذا الموضوع.

تشير هذه الآية إِلى روح العناد واللامبالاة والتكبر عند المشركين تجاه الحقّ وتجاه آيات الله فتقول: (وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إِلاّ كانوا عنها معرضين)(1).

أي أنّ أبسط شروط الهداية ـ وهو البحث والتقصي ـ غير موجود عندهم، وليس فيهم أي اندفاع لطلب الحقيقة، ولا يحسّون بعطش إِليها ليبحثوا عنها،

_____________________________

1 ـ كلمة «آية» نكرة، ووردت في سياق النفي، فيكون المعنى: إنّهم يعرضون عن كل آية ولا يفكرون فيها.

[211]

وحتى لوتدفّق ينبوع الماء الزلال عند عتبات بيوتهم لأعرضوا عنه ولما نظروا اليه ... وكذلك فهم يعرضون عن آيات «ربّهم» النازلة لتربيتهم وتكاملهم.

مثل هذه النفسية لا يقتصر وجودها على عهود الجاهلية ومشركي العرب، فاليوم أيضاً نجد من بلغ الستين من عمره ومع ذلك لم يجشم نفسه عناء ساعة واحدة من البحث والتحقيق في الله والدين، وإِن وقع بيده كتاب أو بحث في هذا الموضوع لم ينظر إَليه، وإِن تحدث إِليه أحد بهذا الشأن لم يصغ إِليه، هؤلاء هم الجهلاء المعاندون الغافلون الذين قد يظهرون أحياناً أمام الناس بمظهر العالم المتجبر!

ثمّ تشير الآية إِلى نتيجة أعمالهم، وهي: أنّهم عندما رأوا الحقيقة كذبوها، ولو أنّهم دققوا في آيات الله جيداً لرأوا الحقيقة وأدركوها وآمنوا بها: (فقد كذبوا بالحقّ لمّا جاءهم)، ولسوف تصلهم نتيجة هذا التكذيب والسخرية: (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون).

في هاتين الآيتين إِشارة إِلى ثلاث مراحل من الكفر تتزايد في الشدّة على التوالي، المرحلة الاُولى هي مرحلة الإِعراض، ثمّ مرحلة التكذيب، وأخيراً مرحلة الإِستهزاء بآيات الله.

يدل هذا على أنّ الإِنسان في كفره لا يتوقف في مرحلة واحدة، بل يزداد باستمرار إِنكاراً للحق وعدواة له وابتعاداً عن الله.

المقصود من التهديد المذكور في آخر الآية أنّ أوزار عدم الإِيمان ستحيق بهم عاجلا أو آجلا في الدنيا والآخرة، والآيات التّالية تؤكّد هذا التّفسير.

* * *

[212]

الآية

أَلَمْ يَرَوْا كُمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْن مَّكَّنَّـهُمْ فِى الاَْرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاَْنْهَـرَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلكنَهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ(6)

التّفسير

مصير الطّغاة:

ابتداء من هذه الآية وما بعدها يشرع القرآن بعرض خطّة تربوية مرحلية لإِيقاظ عبدة الأصنام والمشركين تتناسب مع اختلاف الدوافع عند الفريقين، يبدأ أوّلا بمكافحة عامل (الغرور) وهو من عوامل الطغيان والعصيان والإِنحراف المهمّة، فيذكرهم بالأمم السالفة ومصائرهم المؤلمة، وبذلك يحذر هؤلاء الذين غطت أبصارهم غشاوة الغرور، ويقول: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنّانهم في الأرض ما لم نمكّن لكم وأرسلنا السماء عليهم مداراً(1) وجعلنا

_____________________________

1 ـ «المدرار» في الأصل من «درّ» اللبن، ثمّ إنتقل إِلى ما يشبهه في النّزول كالمطر والكلمة صيغة مبالغة، وجملة «أرسلنا السماء» للزيادة في المبالغة.

[213]

الأنهار تجري من تحتهم).

ولكنّهم لمّا استمروا على طريق الطغيان، لم تستطع هذه الإِمكانات إِنقاذهم من العقاب الإِلهي: (فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين).

أفلا ينبغي أنّ يكون علمهم بمصائر الماضين عبرة لهم، توقظهم من نوم غفلتهم، ومن سكرتهم؟ أليس الله الذي أهلك السابقين بقادر على أن يهلك هؤلاء أيضاً؟

ها هنا بضع نقاط نلفت إِليها الإِنتباه:

1 ـ على الرّغم من أن «قرن» تعني فترة طويلة من الزمن (مئة، أو سبعين أو ثلاثين سنة)، ولكنّها قد تعني أيضاً ـ كما يقول اللغويون ـ القوم والجماعة في زمان معين (القرن من الإِقتران بمعنى التقارب، وبالنظر لأنّ أهل العصر الواحد أو العصور المتقاربة قريبون من بعضهم فقد يطلق عليهم وعلى زمانهم اسم القرن).

2 ـ يتكرر في القرآن القول بأنّ الإِمكانات المادية الكثيرة تبعث على الغرور والغفلة لدى ضعفاء النفس من الناس كقوله تعالى: (إِنّ الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى)(1) لأنّهم بتوفر تلك الإِمكانات عندهم يرون أنفسهم في غنى عن الله، غافلين عن العناية الإِلهية والإِمدادات الربانية المغدقة عليهم في كل لحظة وثانية، ولولاها لما استمروا على قيد الحياة.

3 ـ ليس هذا التحذير مختصاً بعبدة الأصنام، فالقرآن يخاطب ـ أيضاً ـ اليوم العالم الصناعي الثري الذي أثملته الإِمكانات المادية وملأته بالغرور، ويحذره من نسيان الأقوام السابقة وممّا حاق بهم نتيجة ما ارتكبوه من ذنوب، وكأني بالقرآن يقول للمغرورين في عالمنا اليوم: إِنّكم ستفقدون كل شيء بانطلاق شرارة حرب عالمية أُخرى، لتعودوا إِلى عصر ما قبل التمدن الصناعي اعلموا أنّ سبب تعاسة أُولئك لم يكن شيئاً سوى إِثمهم وظلمهم واضطهادهم الناس وعدم إيمانهم

_____________________________

1 ـ العلق، 6 و7.

[214]

وهذه عوامل ظاهرة في مجتمعكم أيضاً.

حقاً إنّ دراسة تاريخ فراعنة مصر، وملوك سبأ وسلاطين كلدة وآشور، وقياصرة الرّوم، ومعيشتهم الباذخة الأسطورية وما كانوا يتقلبون فيه من نعم لا تعد ولا تحصى، ثمّ رؤية عواقب أُمورهم المؤلمة التي حاقت بهم بسبب ظلمهم الذي قوض أركان حياتهم، فيها أعظم العبر والدروس.

* * *

[215]

الآية

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـباً فِى قِرْطَاس فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـذَآ إِلاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(7)

التّفسير

منتهى العناد!

من عوامل إِنحرافهم الأُخرى التكبر والعناد اللذين تشير إِليهما، هذه الآية، أنّ المتكبر المكابر انسان عنيد في العادة، لأنّ التكبر لا يسمح لهم بالإِستسلام للحق والحقيقة، والأفراد المتصفون بهذه الصفة يكونون عادة معاندين مكابرين، ينكرون حتى الأُمور الواضحة القائمة على الدليل والبرهان، بل ينكرون حتى البديهيات، كما نراه بأمّ أعيننا في المتكبرين من أبناء مجتمعاتنا.

يشير القرآن هنا إِلى الطلب الذي تقدم به جمع من عبدة الأصنام (يقال أنّ هؤلاء هم نضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد الذين قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لن نؤمن حتى ينزل الله كتاباً مع أربعة من الملائكة!) ويقول: (ولو أنزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إِن هذا إِلاّ سحر مبين).

أي أنّ عنادهم قد وصل حدّاً ينكرون فيه حتى ما يشاهدونه بأعينهم

[216]

ويلمسونه بأيديهم فيعتبرونه سحراً لكيلا يستسلموا للحقيقة، مع أنّهم في حياتهم اليومية يكتفون بعشر هذه الدلائل للإِيمان بالحقائق ويقتنعون بها، وما هذابسبب ما فيهم من أنانية وتكبر وعناد.

وبهذه المناسبة فإنّ «القرطاس» هو كل ما يكتب عليه، سواء أكان ورقاً أو جلداً أو ألواحاً، أمّا اطلاقه اليوم على الورق فذلك لانتشار تداول الورق أكثر من غيره للكتابة.

* * *

[217]

الآيات

وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الاَْمْرُ ثُمَّ لاَيُنظَرُونَ(8) وَلَوْ جَعَلْنَـهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ(9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(10)

التّفسير

خلق المبررات:

من عوامل الكفر والإِنكار الأُخرى، روح التحجج والبحث عن المبررات، وعلى الرغم من أنّ لهذه الروح عوامل أُخرى، مثل التكبر والأنانية، ولكنّه ينقلب بالتدريج إِلى حالة نفسية سلبية، تصبح بدورها عاملا من عوامل عدم التسليم للحق.

ومن جملة الحجج التي احتج بها المشركون على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأشار إِليها القرآن في كثير من آياته ـ ومنها هذه الآية ـ هي أنّهم كانوا يقولون: لماذا يقوم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده بهذا الأمر العظيم؟ لماذا لا يقوم معه بهذا الأمر أحد من غير جنس البشر، من جنس الملائكة؟ أيمكن لإِنسان من جنسنا أنّ يحمل بمفرده هذه

[218]

الرسالة على عاتقه؟ (وقالو لولا أنزل عليه ملك).

ولا مجال لهذا التحجج على نبوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مع كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البيّنات، ثمّ إنّ الملك ليس أقدر من الإِنسان ولا يملك قابلية لحمل رسالة أكثر من قابلية الانسان بل انّ قابلية الإِنسان أكثر بكثير.

يرد القرآن عليهم بجملتين في كل منهما برهان:

الاُولى: (ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثمّ لا ينظرون).

أي لو نزل ملك لمعاونة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لهلك الكافرون، وسبب ذلك ما مرّ في آيات سابقة، وهو أنّه إِذا اتخذت النبوة جانب الشهود والحس، أي إِذا تحول الغيب بنزول الملك إِلى شهود، بحيث يرى كل شيء عياناً، غدت المرحلة هي المرحلة النهائية في إِتمام الحجة، إِذ لا يكون ثمّة دليل أوضح منها، وعلى ذلك فإن العصيان في هذه الحالة يستوجب العقاب القاطع، ولكن الله للطفه ورحمته بعباده، ولكي يمنحهم فرصة التأمل والتفكير، لا يفعل ذلك إِلاّ في حالات خاصّة يكون فيها طالب الدليل على أتمّ استعداد، أو في حالات يستحق فيها طالب الدليل الهلاك، أي أنّه ارتكب ما يستوجب معه العقاب الإِلهي، في هذه الحالة يحقق له طلبه، ثمّ إِذا لم يستسلم صدر أمر هلاكه.

الثّانية: هي أنّ الرّسول الذي يبعثه الله لقيادة الناس وتربيتهم وليكون أُسوة لهم، لابدّ أن يكون من جنس الناس أنفسهم وعلى شاكلتهم من حيث الصفات والغرائز البشرية، أمّا الملك فلا يظهر لعيون البشر كما أنّه ليس بإمكانه أنّ يكون قدوة عملية لهم، لأنّه لا يدري شيئاً عن حاجاتهم والآمهم ولا عن غرائزهم ومتطلباتها، لذلك فإن قيادته لجنس يختلف عنه كل الإِختلاف لا يحقق الهدف.

لذلك فالقرآن في الجواب الثّاني يقول: لو شئنا أن يكون رسولنا ملكاً حسبما يريدون، لوجب أن يتصف هذا الملك بصفات الإِنسان وأن يظهر في هيئة إِنسان:

[219]

(ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا)(1).

يتّضح ممّا قلنا أنّ جملة (لجعلناه رجلا) لا تعني: أنّنا سنجعله على هيئة انسان، كما تصور بعض المفسّرين، بل تعني: أنّنا نجعله على هئية البشر في الصفات الظاهرية والباطنية، ثمّ يستنتج من ذلك أنّهم ـ في هذه الحالة أيضاً ـ كانوا سيعترضون الإِعتراض نفسه، وهو: لماذا أوكل الله مهمّة القيادة إِلى بشر وأخفى عنّا وجه الحقيقة: (وللبسنا عليهم ما يلبسون).

«اللبس» بمعنى خلط الأمر وجعله مشتبهاً بغيره خافياً، و«اللبس» بمعنى ارتداء اللباس، ومن الواضح أنّ الآية تقصد المعنى الأوّل، أي أنّنا لو أردنا أن نرسل ملكاً لوجب أن يكون في صورة الإِنسان وسلوكه، وفي هذه الحالة سيعتقدون أنّنا خلطنا الأمر على الناس وأوقعناهم في الإِشتباه، ولكانوا يشكلون علينا الإِشكالات السابقة، بمثل ما يوقعون الجهلة من الناس في الخطأ والإِشتباه ويلبسون وجه الحقيقة عنهم، وعليه فإنّ نسبة «اللبس» والإِخفاء إِلى الله إِنّما هي من وجهة نظرهم الخاصة.

وفي الختام يهون الأمر على رسوله ويقولون له: (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون).

هذه الآية في الواقع تسلية لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب الله فيها منه أن لا تزعزعه الزعازع، ويهدد في الوقت نفسه المخالفين والمعاندين ويطلب منهم أن يتفكروا في عاقبة أمرهم المؤلمة(2).

* * *

_____________________________

1 ـ الضمير «جعلناه» يمكن أن يعود على الرّسول، أو على من يرسل معه لإِعانته على تثبيت النبوة وعلى الإِحتمال الثّاني يكون إقتراحهم قد تحقق، وعلى الأوّل قد تحقق أكثر ممّا طلبوه.

2 ـ «حاق» بمعنى أحاط به وحل به، و«ما كانوا به يستهزئون» أي ما كانوا يستهزئون به من تهديد وإنذار يسمعونه من أنبياء الله مثل إنذار نوح وقومه بوقوع الطوفان، فكان قومه من عبدة الأصنام يسخرون من ذلك. وعليه فلا ضرورة لتقدير كلمة «جزاء» كما يقول بعضهم، إذ يكون المعنى: العقوبات التي كانوا يستهزئون بها حلت بهم.

[220]

الآية

قُلْ سِيرُوا فِى الاَْرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)

التّفسير

لكي يوقظ القرآن هؤلاء المعاندين المغرورين يسلك في هذه الآية سبيلا آخر فيأمر رسوله أن يوصيهم بالسياحة في أرجاء الأرض ليروا بأعينهم مصائر أُولئك الذين كذبوا بالحقائق، فلعل ذلك يوقظهم من غفلتهم (قل سيروا في الأرض ثمّ انظروا كيف كان عاقبة المكذبين).

لا شك أنّ لرؤية آثار السابقين والأقوام التي هلكت بسبب إِنكارها الحقائق تأثيراً أعمق من مجرّد قراءة كتب التّأريخ، لأنّ هذه الآثار تجسد الحقيقة ناطقة ملموسة، ولهذا استعمل جملة «أنظروا» ولم يقل «تفكروا».

ولعل استعمال «ثم» لعاطفة التي تفيد عادة التراخي الزمني يراد منه أن لا يتعجلوا في سيرهم وفي اطلاق أحكامهم، عليهم أن يمعنوا النظر في تلك الآثار التي خلفتها الأقوام السالفة ويفكروا فيها ثمّ يأخذوا منها العبر ويروا عاقبة أعمال تلك الأُمم.

[221]

فيما يتعلق بالسير والسياحة في الأرض وتأثيره في ايقاظ الأفكار انظر تفسير الآية (137) من سورة آل عمران في هذا التّفسير.

* * *

[222]

الآيتان

قُل لِّمَن مّا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ لاَ رَيْبِ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(13)

التّفسير

يواصل القرآن مخاطبة المشركين، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول التوحيد وعبادة الله الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد، وبالإِشارة إِلى مبدأ التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة، هي طريقة السؤال والجواب، والسائل والمجيب كلاهما واحد، وهو من الأساليب الأدبية الجميلة.

يتكون الإِستدلال هنا على المعاد من مقدمتين:

أوّلا: يقول: (قل لمن ما في السموات والأرض). ثمّ يقول مباشرة: أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم: (قل لله)، فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم الوجود ملكاً لله وبيده وتدبيره.

[223]

ثانياً: إِنّ الله هو وحده مصدر كل رحمة، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة، ويفيض بنعمه على الجميع: (كتب على نفسه الرحمة).

أيمكن لربٍّ هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائياً بالموت فيوقف التكامل واستمرار الحياة؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله «فياضاً» و«ذا رحمة واسعة»؟ أيمكن أن يكون قاسياً على عباده بهذا الشكل، وهو مالكهم ومدبر شؤونهم، بحيث أنّهم بعد مدّة يفنون ويتبدلون إِلى لا شيء؟

طبعاً لا، إِذ أنّ رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات ـ وخاصة البشر ـ في طريق التكامل، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة شجرة ضخمة قوية، أو يحيلها إِلى شجيرة ورد جميلة، كما أنّه بفيض رحمته يبدل النطفة التافهة إِلى انسان كامل، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإِنسان ـ الذي عند امكانية الخلود ـ لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين: (ليجمعنّكم إِلى يوم القيامة لا ريب فيه).

إنّ الآية تبدأ بالإِستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإِقرار من السامع، ولمّا كان هذا الأمر مسلماً به بالفطرة، كما كان المشركون يعترفون بأنّ مالك عالم الوجود ليس الأصنام، بل الله، فإنّ الجواب يرد مباشرة، وهذا أسلوب جميل في عرض مختلف المسائل.

في مواضع أُخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أُخرى، بطريق قانون العدالة، وقانون التكامل، والحكمة الإِلهية، ولكن الإِستدلال بالرحمة إستدلال جديد جاءت به هذه الآية.

في نهاية الآية إِشارة إِلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم، فهؤلاء الذين أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة، لا يؤمنون بهذه الحقائق: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون).

[224]

ما أعجب هذا التعبير! فقد يخسر المرء أحياناً ثروته أو مركزه أو أي نوع آخر من أنواع رأس المال، ففي هذه الحالات يكون قد خسر شيئاً، ولكن هذا الشيء الذي خسره لا يكون جزءاً من وجوده، أي أنّه خارج وجوده، أمّا أعظم الخسائر التي هي في الواقع الخسارة الحقيقية، فهي عندما يخسر الإِنسان أصل وجوده.

إِنّ أعداء الحقيقة والمعاندين يخسرون تماماً رأس مال العمر ورأس مال الفكر والعقل والفطرة وجميع المواهب الروحية والجسمية التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها في طريق الحقّ للوصول إِلى مرحلة التكامل، وعندئذ لا يبقي رأس المال ولا صاحبه.

لقد ورد هذا التعبير في عدد من آيات القرآن الكريم، وهي تعبيرات مرعبة عن المصير المؤلم الذي ينتظر منكري الحقيقة والمذنبين الملوثين.

سؤال:

قد يقال: إِنّ الحياة الأبدية تكون مصداقاً للرّحمة بالنسبة للمؤمنين فقط، أمّا لغيرهم فهي لا تعدو أن تكون شقاء وتعاسة.

الجواب:

لا شك أنّ الله هو الذي يوفر فرص الرحمة، فهو الذي خلق الإِنسان، ووهب له العقل، وأرسل له الأنبياء لقيادته وهدايته، ومنحه مختلف أنواع النعم، وفتح أمامه طريقاً للحياة الخالدة، فهذه كلّها ألوان من الرحمة.

والإِنسان في غضون مسيرته للوصول إِلى ثمرات هذه الرحمة إِذا انحرف عن طريق وحول هذه الرحمة إِلى عذاب وشقاء، فإنّ ذلك لا يخرجها عن كونها رحمة، بل الإِنسان هو الملوم على الإِنحراف عنها وتبديلها إِلى عذاب وألم.

الآية الثّانية تكمل في الواقع الآية السابقة، فالآية السابقة تشير إِلى أنّ الله مالك كلّ شيء يستوعبه ظرف «المكان»: (قل لمن ما في السموات والأرض ...)؟

[225]

أمّا هذه الآية فتشير إِلى ملكية الله لما يستوعيه ظرف «الزمان» الوسيع، وتقول: (وله ما سكن في الليل والنهار).

في الواقع، عالم المادة هذا يتحدد بالزمان والمكان، فكل الكائنات التي تقع ضمن ظرف المكان والزمان ـ أي عالم المادة كله ـ ملك لله.

وليس الليل والنهار مختصين ـ طبعاً ـ بالمنظومة الشمسية، فإنّ لجميع كائنات السماوات والأرض ليلا ونهاراً، بعضها له نهار دائم بلا ليل ، ولبعضها ليل بلا نهار، ففي الشمس ـ مثلا ـ نهار دائم، فهناك ضوء دائم بلا ظلام، وفي بعض الكواكب الخامدة، التي لا نور فيها ولا تجاور النجوم، ليل دائم سرمدي، وهذه كلّها مشمولة بالآية المذكورة.

لابدّ هنا أن نلاحظ أنّ «سكن» والسكونة تعني التوقف والإِستقرار في مكان ما، سواء أكان ذلك الموجود الساكن في حالة حركة أو سكون، نقول مثلا: فلان «ساكن» في المدينة الفلانية، أي أنّه مستقر هناك، مع أنّه يمكن أن يكون متحركاً في شوارعها.

كما يحتمل أن تقابل «السكون» في هذه الآية «الحركة»، ولمّا كان السكون والحركة من الحالات النسبية، فإنّ ذكر أحدهما يغنينا عن ذكر الآخر، وعليه يصبح معنى الآية هكذا: كل ما هو كائن في الليل والنهار وظرف الزمان ساكناً كان أم متحركاً، ملك لله.

وبهذا يمكن أن تكون الآية إِشارة إِلى أحد أدلة التوحيد، لأنّ «الحركة» و«السكون» حالتان عارضتان وحادثتان طبعاً، فلا يمكن أن تكونا قديمتين أزليتين، لأنّ الحركة تعني وجود الشيء في مكانين مختلفين خلال زمانين، والسكون يعني وجود الشيء في مكان واحد خلال زمانين، وعليه فإنّ الإِلتفات إِلى الحالة السابقة كامن في ذات الحركة والسكون. ونحن نعلم أنّ الشيء إِذا كانت له حالة سابقة لا يمكن أن يكون أزلياً.

[226]

نستنتج من هذا الكلام أنّ الأجسام لا تخلو من الحركة والسكون، وأنّ ما لا يخلو من الحركة والسكون لا يمكن أن يكون أزلياً، وعليه فكل جسم حادث، وكل حادث لابدّ من محدث (خالق).

ولكن الله ليس جسماً، فلا حركة له ولا سكون، ولا زمان ولا مكان، ولذلك فهو أبدي أزلي.

وفي نهاية الآية، وبعد ذكر التوحيد، تشير الآية إِلى صفتين بارزتين في الله فتقول: (وهو السميع العليم)، أي أنّ إِتساع عالم الوجود، والكائنات في آفاق الزمان والمكان لا تحول أبداً دون أن يكون الله عليماً بأسرارها، بل إنّه يسمع نجواها، ويعلم حركة النملة الضعيفة على الصخرة الصمّاء في الليلة الظّلماء في أعماق واد سحيق صامت، وإنّه ليدرك حاجاتها وحاجات غيرها، ويعلم ما تفعل.

* * *

[227]

الآيات

قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(14) قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْم عَظِيم(15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ(16)

التّفسير

لا ملجأ غير الله!

من المفسّرين من يذكر أنّ سبب نزول الآية هو أنّه جاء جمع من أهل مكّة إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: يا محمّد، إِنّك تركت دين قومك، ولم يكن ذلك إِلاّ بسبب فقرك، فاقبل منّا نصف أموالنا تكن غنياً على أن تترك آلهتنا وشأنها وتعود إِلى ديننا، فنزلت هذه الآية ترد عليهم(1).

سبق أن قلنا: إِنّ آيات هذه السورة نزلت مرّة واحدة في مكّة، كما جاء في الأخبار المروية، لذلك لا يمكن أن يكون لكل منها سبب نزول خاص، غير أنّ

_____________________________

1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي وتفسير «مجمع البيان» في ذيل تفسير الآية.

[228]

أحاديث كانت قد جرت قبل نزول هذه السورة بين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين وبعض هذه الآيات تشير إِلى تلك الأحاديث، لذلك ليس ثمّة ما يمنع أن تكون أحاديث من هذا القبيل أيضاً قد جرت بين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين، فيشير القرآن في هذه الآيات إِلى أحاديثهم ويرد عليهم.

* * *

على كلّ حال، الهدف من نزول هذه الآيات هو إِثبات التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام فالمشركون، وإِن اعتقدوا أنّ الله هو خالق العالم، كانوا يتخذون من الأصنام ملجأً لأنفسهم، ولربّما اتخذوا صنماً لكل حاجة معينة، فلهم إله للمطر، وإِله للظلام، وإله للحرب والسلم، وإله للرزق، وهذا هو تعدد الأرباب الذي ساد اليونان القديم.

ولكي يزيل القرآن هذا التفكير الخاطىء، يأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن (قل أغير الله اتّخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم).

فإذا كان هو خالق عالم الوجود كله دون الإِستناد إِلى قدرة أُخرى، وهو الذي يرزق مخلوقاته، فما الذي يدعو الإِنسان إِلى أن يتخذ من دونه ولياً وربّاً؟ وإنّ كل الأشياء غيره مخلوقات وهي بحاجة إليه في كل لحظات وجودها، فكيف يمكن لها أن تقضي حاجة الآخرين؟

هذه الآية تستعمل كلمة «فاطر» في حديثها عن خالق السموات والأرض، وأصل «الفطر» و«الفطور» هو الشق، يروى عن ابن عباس أنّه قال: ما عرفت معنى فاطر السموات والأرض إِلاّ عندما رأيت اعرابيين يتنازعان على بئر قال أحدهما: «أنا فطرتها» أي أنا أحدثتها وأو جدتها.

ولكننا اليوم أقدر من ابن عباس على معرفة معنى «فاطر» بالإِستعانة بالعلوم

[229]

الحديثة، أنّه تعبير ينسجم مع أدق النظريات العلمية الحديثة عن تكون العالم، لقد أظهرت دراسات العلماء أنّ العالم الكبير (الكون) والعالم الصغير (المنظومة الشمسية) كانت كلها كتلة واحدة تشققت على أثر الإِنفجارات المتتالية، وتكونت المجرات والمنظومات والكرات، وفي الآية (30) من سورة الأنبياء بيان أوضح لهذا الأمر: (أو لم ير الذين كفروا أنّ السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما).

والنقطة الأُخرى التي ينبغي ألا نغفل عنها في هذه الآية هو أنّها تقتصر على توكيد إتصاف الله باطعام مخلوقاته ورزقهم، ولعل ذلك إِشارة إِلى أنّ أقوى حاجات الإِنسان في حياته المادية هي حاجته إِلى «لقمة العيش» كما يقال، وهذه اللقمة هي التي تحمل الناس على الخضوع لأصحاب المال والقوّة، وقد يصل خضوعهم لأُولئك حدّ العبودية، ففي هذا يقرر القرآن رزق الناس بيد الله لا بيد هؤلاء ولا بيد الأصنام، فأصحاب المال والقوّة هم أنفسهم محتاجون إِلى الطعام، وأنّ الله هو وحده الذي يطعم الناس ولا يحتاج إِلى طعام.

وفي آيات أُخرى نرى القرآن يؤكّد مالكية الله ورازقيته بإنزال الأمطار وإِنبات النباتات، وذلك لكي يزيل من أذهان البشر كلياً فكرة اعتمادهم على مخلوقات مثلهم.

ثمّ للردّ على أُولئك المشركين الذين كانوا يدعون رسول الله إِلى الإِنضمام إِليهم، يؤكّد القرآن على ضرورة رفض دعوة هؤلاء إِنطلاقاً من مبدأ نهي الوحي الإِلهي عن ذلك، إِضافة إِلى نهي العقل: (قل إِنّي أُمرت أن أكون أوّل من أسلم ولا تكونن من المشركين)(1).

لا شك أنّ أنبياء الله والصالحين من أقوامهم سبقوا النّبي الخاتم في

_____________________________

1 ـ جملة (إنّي أُمرت ...) من قبيل الخطاب غير المباشر، وجملة «ولا تكونن» خطاب مباشر، ولعل هذا الإِنتقال يقصد به القول بأنّ الإِبتعاد عن الشرك واستنكاره أهم بكثير من أن يكون المرء أول المسلمين، ولذا جاء موضوع تجنب الشرك في خطاب مباشر ومؤكد بنون التوكيد الثقيلة.

[230]

استسلامهم لأمر الله وعليه فإن قوله تعالى: (إِنّي أُمرت أن أكون أوّل من أسلم)يعني أوّل مسلم من أُمّة الرسالة الخاتمة.

كما أنّ هذا إِشارة إِلى أمر تربوي مهم أيضاً، وهو أنّ كل قائد ينبغي أن يكون في تطليق تعاليم دينه قدوة وطليعة، عليه أن يكون أوّل المؤمنين برسالته، وأوّل العاملين بها، وأكثر الناس اجتهاداً فيها، وأسرعهم إِلى التضحية في سبيلها.

الآية التّالية فيها توكيد أشدّ لهذا النهي الإِلهي عن إِتّباع المشركين: (قل إِني أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم)(1). أي يأمر الله رسوله أن يقول بأنّه ليس مستثنى من القوانين الإِلهية، وأنّه يخاف ـ إِن ركن إِلى المشركين ـ عذاب يوم القيامة.

ومن هذه الآية نفهم أيضاً أنّ شعور الأنبياء بالمسؤولية يفوق شعور الآخرين بها.

ولكي يتّضح أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستطيع شيئاً بغير الإِستناد إِلى لطف الله ورحمته، فكل شيء بيد الله وبأمره، وحتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه يترقب بعين الرجاء رحمة الله الواسعة، ومنه يطلب النجاة والفوز: (ومن يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين).

هذه الآيات تبيّن منتهي درجات التوحيد، وترد على الذين كانوا يرون للأنبياء سلطاناً مستقلا عن ارادة الله، كما فعل المسيحيون عندما جعلوا من المسيح(عليه السلام) المخلّص والمنقذ، فتقول لهم: إِنّ الأنبياء أنفسهم يحتاجون إِلى رحمة الله مثلكم.

* * *

_____________________________

1 ـ يلاحظ أنّ تركيب عبارة الآية يقتضي أن تأتي جملة «أخاف» بعد جملة «إن عصيت ربى» لأنها جواب الشرط، غير أنّ تقديمها يفيد التأكيد على عظم إحساس رسول الله بالمسؤولية أمام أوامر الله تعالى.

[231]

الآيتان

وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْر فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فُوقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(18)

التّفسير

قدرة الله القاهرة:

قلنا إِنّ هدف هذه السّورة هو استئصال جذور الشرك وعبادة الأصنام، وهاتان الآيتان تواصلان تحقيق ذلك.

فالقرآن يتساءل أوّلا: لماذا تتوجهون إِلى غير الله، وتلجأون إِلى معبودات تصطنعونها لحل مشاكلكم ودفع الضر عن أنفسكم واستجلاب الخير لها؟ بينما لو أصابك أدنى ضرر فلا يرفعه عنك غير الله، وإِذا أصابك الخير والبركة والفوز والسعادة فما ذلك إِلاّ بقدرة الله، لأنّه هو القادر القوي: (وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إِلاّ هو وإن يمسسك الله بخير فهو على كل شيء قدير)(1).

_____________________________

1 ـ «الضر» هو كل نقيصة يتعرض لها الانسان إمّا في الجسم مثل نقص عضو والمرض، وإمّا في النفس مثل الجهل والسفاهة والجنون، وإمّا في أُمور أُخرى مثل ذهاب المال أو المقام أو الأبناء.

[232]

في الواقع إنّ سبب الإِتجاه إِلى غير الله إمّا لتصورهم أنّ ما يتجهون إليه مصدر الخيرات، وإمّا لإِعتقادهم بقدرته وأنّه يدرأ عنهم المصائب ويحل لهم مشاكلهم، والخضوع إِلى حد العبادة لذوي السلطان والمال والقوة ينشأ من أحد هذين الدافعين، هذه الآية تبيّن أنّ إِرادة الله حاكمة على كل شيء، فإِذا منع عن أحد نعمة، أو منح أحداً نعمة، فما من قدرة في العالم تستطيع أن تغير ذلك، فلماذا إِذن يطأطئون رؤوسهم خضوعاً لغيره؟

إِنّ استعمال «يمسسك» في الخير والشر، وهي من «مسّ»، تشير إِلى أنّ الخير والشر ـ مهما قلّ ـ لا يكون إِلاّ بإِرادته وقدرته.

ثمّ إِنّ الآية المذكورة تدحض فكرة «الثنويين» القائلين بمبدأي «الخير» و«الشر» وعبادتهما، وتقول إِنّ الإثنين كليهما من جانب الله، ولكننا سبق أن قلنا أن ليس ثمّة شيء اسمه «الشر المطلق».

وعليه فعندما ينسب الشر إِلى الله فإِنّما يقصد به على الظاهر «سلب النعمة» وهو بحدّ ذاته «خير»، فهو إمّا أن يكون للإِيقاظ والتربية والتعليم وكبح حالات الغرور والطغيان والذاتية، أو لمصالح أُخرى.

وفي الآية التي تليها إِكمال للبحث، فيقول: (وهو القاهر فوق عباده).

«القاهر» و«الغالب» وإن كانا بمعنى واحد، إِلاّ أنّهما من جذرين مختلفين، «القهر» يطلق على ذلك النصر الذي يتحقق دون أن يتمكن الطرف المقهور من إِبداء أية مقاومة، وفي كلمة «الغلبة» لا يوجد هذا المعنى، وقد تحصل بعد المقاومة، وبعبارة أُخرى: القاهر يقال لمن يكون تسلطه على الطرف الآخر من الشمول بحيث إنّه لا يستطيع المقاومة مطلقاً كصبّ سطل من الماء على جذوة صغيرة من النّار فيطفؤها فوراً.

يرى بعض المفسّرين أنّ «القهر» تستعمل حيث يكون المقهور كائناً عاقلا،

[233]

ولكن «الغلبة» أوسع منها وتشمل النصر على الكائنات غير العاقلة أيضاً(1).

وعليه إِذا كانت الآية السابقة تشير إِلى شمول قدرة الله إزاء المعبودات الزائفة الأُخرى وأصحاب القوّة، فذلك لا يعني أنّه مضطر إِلى الدخول مدّة في صراع مع تلك القوى كي يتغلب عليها، بل يعني أنّ قدرته قاهرة، وقد جاء تعبير (فوق عباده) لتأكيد هذا المعنى.

وعلى هذا، كيف يمكن لإِنسان واع أن يعرض عن ربّ العالمين ويتجه إِلى كائنات وأشخاص لا يملكون بذواتهم أية قدرة، وما يملكونه من قوّة زهيدة إِنّما مصدرها الله أيضاً.

ولإِزالة كل وهم قد يخطر لأحدهم بأنّ الله قد يسيء استعمال قدرته غير المتناهية كما هو الحال في ذوي القدرة من البشر، يقول القرآن: (وهو الحكيم الخبير) أي أنّه صاحب حكمة وكل أعماله محسوبة، لأنه خبير وعالم ولا يخطىء في استعمال قدرته أبداً.

ونقرأ في حالات «فرعون» أنّه عندما هدد بقتل بني إِسرائيل، قال: (وإنّا فوقهم قاهرون)(2) أي أنّه اتّخذ من قدرته القاهرة ـ وإن تكن ضعيفة ـ وسيلة للظلم وغمط حقوق الآخرين، إِلاّ أنّ الله الحكيم الخبير بتلك القدرة القاهرة منزّه عن أن يظلم حتى أصغر مخلوقاته.

ومن نافلة القول أنّ تعبير (فوق عباده) هو التفوق في المقام لا في المكان، إِذ ليس لله مكان محدد.

ومن العجيب جداً أنّ بعض ذوي العقول المتحجرة اتّخذ من هذه الآية دليلا على تجسيم الله سبحانه، على الرغم من عدم وجود أي شك في أنّ هذا التعبير معنوي يدل على تفوق الله من حيث القدرة على عبيده وحتى فرعون ـ مع كونه

_____________________________

1 ـ تفسير «الميزان»، ج 7، ص 34.

2 ـ الأعراف، 127.

[234]

بشراً ذا جسم ـ يستعمل الكلمة نفسها لإِظهار تفوقه السلطوي، لاتفوقه المكاني (تأمل بدقّة).

* * *

[235]

الآيتان

قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـدَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـذَا الْقُرْءَآنُ لاُِنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَا تُشْرِكُونَ(19) الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَعْرِفُونَهُ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُو أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يَؤْمِنُونَ(20)

التّفسير

أعظم الشّاهدين:

يذكر جمع من المفسّرين أنّ عدداً من مشركي مكّة جاؤوا إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالوا: كيف تكون نبيّاً ولا نرى أحداً يؤيدك؟ وحتى اليهود والنصارى الذين سألناهم، لم يشهدوا بصحة أقوالك بحسب ما عندهم في التّوراة والإِنجيل، فهات من يشهد لك على رسالتك، والآيتان المذكورتان تشيران إِلى هذه الواقعة.

في مواجهة هؤلاء المخالفين المعاندين الذين يغمضون أعينهم عن رؤية كل تلك الدلائل على صدق الرسالة، ويطلبون مزيداً من الشواهد، يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أن: (قل أي شيء أكبر شهادة).

[236]

أهناك شهادة أعظم من شهادة ربّ العالمين؟ (قل الله شهيد بيني وبينكم)وهل هناك دليل أكبر من هذا القرآن؟: (وأُوحي إِلي هذا القرآن)، هذا القرآن الذي لا يمكن أن يكون وليد فكر بشري، خاصّة في تلك الظروف الزّمانية والمكانية، هذا القرآن الذي يضمّ مختلف الشواهد على إِعجازه، فألفاظه معجزة، ومعانيه معجزة، أليس هذا الشاهد الكبير وحده كاف لأن يكون تصديقاً إِلهياً للدعوة!!.

يستفاد من هذه العبارة أيضاً أنّ القرآن أعظم معجزة وأكبر شاهد على صدق دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

ثمّ يشير إِلى هدف نزول القرآن ويقول: (لأُنذركم به ومن بلغ) أي أنّ القرآن قد نزل عليّ لكي أنذركم، وأنذر جميع الذين يصل إِليهم ـ عبر تاريخ البشر، وعلى إمتداد الزمان وفي أرجاء العالم كافة ـ كلامي، وأحذرهم من عواقب عصيانهم.

يلاحظ هنا أنّ الكلام مقتصر على الإِنذار مع أنّ خطابات القرآن تجمع غالباً بين الإِنذار والبشرى، والسبب في ذلك يعود إِلى أنّ الكلام موجه هنا إِلى أفراد معاندين مصرين على المكابرة، ولا يمكن أن نتصور في الواقع عبارة أوجز وأشمل لبيان المقصود من هذه العبارة، وما فيها من دقّة وسعة يزيل كل إِيهام في عدم اختصاص دعوة القرآن بالعرب أو بزمان أو مكان معينين.

بعض العلماء استدلوا بهذا التعبير وأمثاله على ختم النّبوة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذه الجملة تعني أنّ الرّسول قد بعث إلى جميع الذين تصلهم دعوته، وهذا يشمل جميع الذين يردون الحياة حتى نهاية العالم.

وتفيد الأحاديث الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ مفهوم إِبلاغ القرآن لا يعني مجرّد وصول نصوصه إِلى الأقوام الأُخرى فحسب، بل أنّ المفهوم يشمل وصول ترجماته بمختلف اللغات إِلى تلك الأقوام.

جاء عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه عند ما سئل عن هذه الآية قال: «بكل

[237]

لسان»(1).

كما أنّ من أُصول الفقه المسلم بها هو مبدأ «قبح العقاب بلا بيان» وهذا ما تفيده الآية المذكورة.

فقد ثبت في أُصول الفقه أنّه مادام الحكم لم يبلغ شخصاً، فإِنّه لا يتحمل مسؤولية تنفيذه (إلاّ إذا كان مقصراً في استيعاب الحكم)، فهذه الآية تقول بأنّ الذين تصلهم الدعوة يتحملون مسؤوليتها، أمّا الذين لم تصلهم الدعوة، بدون تقصير، فلا مسؤولية عليهم.

في تفسير (المنار) رواية عن أُبيّ بن كعب قال: أُتي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إِلى الإِسلام؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم، ثمّ قرأ (وأُوحي إِليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ)، ثمّ قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنّهم لم يدعوا(2).

ومن هذه الآية نفهم ـ أيضاً أنّ إِطلاق كلمة «شيء» على الله جائز، إِلاّ أنّه شيء لا كالأشياء المخلوقة المحدودة، بل هو خالق ولا تحده حدود.

ثمّ أمر الله رسوله أن يسألهم: (أئنكم لتشهدون أنّ مع الله آلهة أُخرى)ويأمره أن: (قل لا أشهد، قل إنّما هو إِله واحد وإنّني بريء ممّا تشركون).

ذكر العبارات الأخيرة في الآية له هدف نفسي هام، وهو أنّ المشركين قد يتصورون حدوث تزلزل في نفس النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على أثر كلامهم، فيتركون المجلس آملين، ويبشرون أصحابهم بإمكان أن يعيد محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) النظر في دعوته.

فهذه الجمل الصريحة الحاسمة تقضي على أمل المشركين وتحيله إِلى يأس، وتبيّن لهم أنّ الأمر أعظم ممّا يظنون، وأنّه لم يداخله أدنى شك في دعوته، ولقد دلت التجارب على أنّ ذكر أمثال هذه العبارات الجازمة والحاسمة في ختام كل

_____________________________

1 ـ تفسير «البرهان»، وتفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 707 ذيل الآية.

2 ـ تفسير «المنار»، ج 7، ص 341.

[238]

بحث له أثر عميق في تحقيق الهدف النهائي.

أمّا الذين قالوا: إِنّ أهل الكتاب لم يشهدوا لنبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإِنّ الآية التي بعدها ترد عليهم وتقول: (والذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)أي أن معرفتهم به لا تقتصر على مبدأ ظهوره ودعوته فحسب، بل إِنّهم يعرفون حتى التفاصيل والخصائص وعلاماته الدقيقة أيضاً، وعليه، إِذا قال جمع من أهل مكّة: إِنّهم رجعوا إِلى أهل الكتاب فلم يجدوا عندهم علماً بالنّبي، فإِنّهم إمّا أن يكونوا قد كذبوا ولم يتحققوا من الأمر، أو أنّ أهل الكتاب قد أخفوا عنهم الحقائق ولم يطلعوهم عليها، وهذا الكتمان تشير إِليه آيات أُخرى من القرآن (لمزيد من التوضيح انظر المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (146) من سورة البقرة).

والآية تعلن في آخر مقاطعها النتيجة النهائية: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) أي أنّ الذين لا يؤمنون بالنّبي ـ مع كل ما تحيطه من دلائل وعلامات واضحة ـ هم فقط أُولئك الذين خسروا كل شيء في تجارة الحياة.

* * *

[239]

الآيات

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْكَذَّبَ بِأَيَـتِهِ إِنَّهُ  لاَ يُفْلِحُ الظَّـلِمُونَ(21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوآ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)

التّفسير

أشدّ الظّلم:

تواصل هذه الآيات المنهج القرآني في مقارعة الشرك وعبادة الأصنام بشكل شامل، تقول الآية الاُولى بصراحة وبصورة استفهام إِستنكاري: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته)؟

الجملة الأُولى ـ في الواقع ـ إِشارة إِلى إنكار التوحيد، والثّانية إِشارة إِلى إِنكار النّبوة ... حقّاً لا ظلم أكبر من أن يتخذ المرء قطعة جماد لا قيمة لها، أو إِنساناً ضعيفاً مثله شريكاً لربّ لا تحدّه، حدود، وله الحكم على كل عالم الوجود، فهذا ظلم من جهات ثلاث: ظلم لذات الله بالقول بوجود شريك له، وظلم للشخص

[240]

نفسه بالحط من قدره إِلى حد السجود والخضوع لقطعة حجر أو خشب، وظلم بحق المجتمع الذي يسبب له الشرك والتشتت والتفرق والإِبتعاد عن روح الوحدة والتوحد.

فلا شك إِذن في أنّ أي ظالم ـ وعلى الأخص أُولئك الذين لظلمهم جوانب متعددة ـ لا يمكن أن يرى السعادة والفلاح: (إِنّه لا يفلح الظالمون).

إِنّ لفظة «الشّرك» لم ترد صراحة في الآية، ولكن بأخذ الآيات السابقة واللاّحقة لها بنظر الاعتبار التي تدور حول الشرك، يتّضح أنّ القصد من كلمة «إفتراء» هو القول بوجود شريك لله سبحانه.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يصف في خمسة عشر موضعاً بعض الناس بأنّهم من أظلم الناس في سياق الإِستفهام: «ومن أظلم ...» أو «فمن أظلم ...» وعلى الرغم من أنّ معظم تلك الآيات تتناول الشرك وعبادة الأصنام وإِنكار آيات الله، أي أنّها تدور حول التوحيد، فإنّ بعضاً آخر منها يدول حول أُمور أُخرى، مثل (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)(1).

وقول سبحانه (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله)(2).

هنا يثار هذا السّؤال: كيف يمكن أن تكون كل طائفة من هؤلاء أظلم الناس، في حين أنّ صفة (الأظلم) لا يمكن أن تنطبق إِلاّ على طائفة واحدة منها؟

نقول في الجواب: كل هذه الحالات تستقي ـ في الحقيقة ـ من منبع واحد، وهو الشرك والكفر والعناد. فمنع الناس من ذكر الله في المساجد والسعي في خرابها دليل على الكفر والشرك، وكتمان الشهادة أي كتمان الحقائق المؤدي إِلى حيرة الناس وضلالهم، هو معلم من معالم الشرك وإنكار وحدانية الله.

الآية التّالية تشير إِلى مصير المشركين يوم القيامة مبيّنة أنّهم باعتمادهم على

_____________________________

1 ـ البقرة، 114.

2 ـ البقرة، 140.

[241]

مخلوقات ضعيفة كالأصنام، لا هم حققوا لأنفسهم الراحة في هذا العالم، ولا هم ضمنوا ذلك في الحياة الآخرة، فتقول الآية: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون)، أين هم; لماذا لا يأتون اليوم لإنقاذهم؟ لماذا لا يظهر أي حول ولا يبدون أية قوّة؟

ألم تكونوا تتوقعون منهم أن يعينوكم على حل مشكلاتكم؟ فلماذا ـ إِذن ـ لا نرى لهم أثراً؟

فيستولي على هؤلاء الرعب والخوف ويبهتون ولا يحيرون جواباً، سوى أن يقسموا بالله إنّهم لم يكونوا مشركين، ظناً منهم أنّهم هناك أيضاً قادرون على إِخفاء الحقائق: (ثمّ لم تكن فتنتهم إِلاّ قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين).

حول معنى «فتنة» ثمّة كلام بين المفسّرين، منهم من قال: إِنّها بمعنى الإِعتذار، وقال آخرون: إِنّها بمعنى الجواب: وقالوا أيضاً: إِنّها الشرك(1).

هنالك احتمال آخر في تفسيرهذه الآية، وهو القول بأنّ «الفتنة» من «الإِفتتان» أي الوله بالشيء، فيكون المعنى أن إِفتتانهم بالشرك وعبادة الأصنام، بشكل يغشى عقولهم وأفكارهم، قد أدى إِلى أن يدركوا يوم القيامة ـ يوم يزاح الستر ـ خطأهم الكبير، ويستقبحوا أعمالهم وينكروها تماماً.

يقول الراغب في «المفردات»: أن أصل «الفتن» إِدخال الذهب النّار لتظهر جودته من رداءته، فقد يكون هذا المعنى ممّا تفسر به الآية المذكورة، أي أنّهم عندما تحيط بهم شدّة يوم القيامة يستيقظون ويقفون على خطأهم، فينكرون أعمالهم طلباً للنجاة.

الآية الثّالثة، ومن أجل أن يعتبر الناس بمصير هؤلاء الأفراد تقول: (اُنظر كيف كذبوا على أنفسهم).

_____________________________

1 ـ إِذا أخذناها على إنّها بمعنى الإِعتذار والجواب، فلا حاجة فيهما للتقدير، أمّا إِذا أخذت بمعنى الشرك، فينبغي أن نقدر كلمة «نتيجة» أي أنّ نتيجة شركهم كانت أن يقسموا إِنّهم لم يكونوا مشركين.

[242]

وتنهار المساند التي اختاروا الإِستناد عليها وجعلوها شريكة لله، وخابوا في مسعاهم (وضل عنهم ما كانوا يفترون).

* * *

لابدّ هنا من ملاحظة النقاط التّالية:

1 ـ لا شك أنّ المقصود بعبارة «انظر» هو النظر بعين العقل، لا بالعين الباصرة إذا لايمكن أن ترى مشاهد يوم القيامة رأي العين في هذه الدنيا.

2 ـ وقوله سبحانه (وكذبوا على أنفسهم) إمّا أن يعني أنّهم خدعوا أنفسهم في الدنيا وخرجوا عن طريق الحقّ، وإمّا أن يراد منه يوم القيامة حيث يقسمون على أنّهم لم يكونوا مشركين، والحقيقة أنّهم بهذا يكذبون على أنفسهم، فقد كانوا مشركين فعلا.

3 ـ يبقى سؤال آخر، وهو أنّ الآية المذكورة تفيد أنّ المشركين ينكرون شركهم يوم القيامة مع أنّ ظروف يوم القيامة لا يمكن أن تسمح لأحد أن يجانب الصدق وهو يرى تلك الحقائق الحسية، كما لو كان أحد يريد أن يغطي على الشمس في رابعة النهار، ليقول كذباً: إنّ الدنيا ظلام، ثمّ إن هناك آيات أُخرى تفيد بأنّهم يوم القيامة يعترفون صراحة بشركهم ولا يخفون أمراً: (ولا يكتمون الله حديثاً)(1).

يمكن أن نذكر لهذا السؤال جوابين:

أوّلا: ليوم القيامة مراحل، ففي المراحل الأُولى يظن المشركون أنّهم بالكذب يستطيعون التملص من عذاب الله الأليم، لذلك يرجعون إِلى عادتهم القديمة في التوسل بالكذب، ولكن في المراحل التّالية يدركون أن لا مهرب لهم أبداً،

_____________________________

1 ـ النساء، 42.

[243]

فيعترفون بأعمالهم.

يبدو أنّ الأستار يوم القيامة ترفع ـ بالتدريج ـ عن عين الإِنسان، وفي البداية ـ عندما لا يكون المشركون قد درسوا ملفات أعمالهم جيداً بعد ـ يركنون إِلى الكذب، ولكن في المراحل التّالية حيث ترتفع فيها الأستار أكثر ويرون كل شيء حاضراً، لا يجدون مندوحة عن الإِعتراف تماماً، مثل المجرمين الذين ينكرون كل شيء في بداية التحقيق، حتى معرفتهم بأصدقائهم ... ولكنّهم عندما يرون الأدلة المادية والمستندات الحيّة التي تفضح جريمتهم، يدركون أنّ الأمر من الوضوح بحيث لا يحتمل الإِنكار، فيعترفون ويدلون بإِفادة كاملة، وقد ورد هذا الجواب في حديث عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)(1).

وثانياً: إِنّ الآية المذكورة تتحدث عمّن لا يرى نفسه مشركاً مثل المسيحيين الذين قالوا بالآلهة الثلاثة واعتقدوا أنّهم موحدون، أو مثل الذين يدّعون التوحيد، لكن أعمالهم ملوثة بالشرك، لأنّهم كانوا يعرضون عن تعاليم الأنبياء، ويعتمدون على غير الله وينكرون ولاية أولياء الله ... هؤلاء يقسمون يوم القيامة على أنّهم كانوا موحدين، ولكنّهم سرعان ما يدركون أنّهم في الباطن كانوا مشركين، هذا الجواب أيضاً قد ورد في عدد من الرّوايات نقلا عن الإِمام علي(عليه السلام) والإِمام الصادق(عليه السلام)(2).

وكلا الجوابين مقبولان.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 708.

2 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج 1 ، ص 708.

[244]

الآيتان

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَة لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَـدِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاْوَّلِينَ(25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(26)

التّفسير

حجب لا تقبل الإِختراق:

في هذه الآية إِشارة إِلى الوضع النفسي لبعض المشركين، فهم لا يبدون أية مرونة تجاه سماع الحقائق، بل أكثر من ذلك ـ يناصبونها العداء، ويقذفونها بالتهم، فيبعدون أنفسهم وغيرهم عنها، عن هؤلاء تقول الآية: (ومنهم من يستمع إِليك وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً)(1).

في الواقع كانت عقولهم وأفكارهم منغمسة في التعصب الجاهلي الأعمى، وفي المصالح المادية والأهواء، بحيث أصبحت وكأنّها واقعة تحت الأستار

_____________________________

1 ـ «أكنة» جمع «كنان» وهو كل ستار أو حاجز، و«الوقر» بمعنى ثقل السمع.

[245]

والحواجز، فلا هم يسمعون حقيقة من الحقائق، ولا هم يدركون الأُمور إِدراكاً صحيحاً.

سبق أن قلنا مراراً أنّ نسبة هذة الأُمور إِلى الله، إِنّما هو إِشارة إِلى قانون «العلة والمعلول» وخاصية «العمل»، أي أنّ أثر الاستمرار في الإِنحراف والإِصرار على المعاندة والتشاؤم يظهر في إِتصاف نفس الإِنسان بهذه المؤثرات، وفي تحولها إِلى مثل المرآة المعوجة التي تعكس صور الأشياء معوجة منحرفة، لقد أثبتت التجربة أنّ المنحرفين والمذنبين يحسون أوّل الأمر بعدم الرضا عن حالهم، ولكنّهم يعتادون ذلك بالتدريج، وقد يصل بهم الأمر إِلى اعتبار أعمالهم القبيحة لازمة وضرورية، وبتعبير آخر: هذا واحد من أنواع العقاب الذي يناله المصّرون على العصيان ومعاداة الحقّ.

وهؤلاء وصلوا حدّاً تصفه الآية فتقول: (وإِن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)، بل الأكثر من ذلك أنّهم عندما يأتون إِليك، لا يفتحون نوافذ قلوبهم أمام ما تقول، ولا يأتون ـ على الأقل ـ بهيئة الباحث عن الحقّ الذي يسعى للعثور على الحقيقة والتفكير فيها، بل يأتون بروح وفكر سلبيين، ولا هدف لهم سوى الجدل والإِعتراض: (حتى إِذا جاؤوك يجادلونك) أنّهم عند سماعهم كلامك الذي يستقى من ينابيع الوحي ويجري على لسانك الناطق بالحقّ، يبادرون إِلى إِتهامك بأنّ ما تقوله إِنّما هو خرافات اصطنعها أُناس غابرون: (يقول الذين كفروا إِن هذاأساطير الأولين).

الآية التّالية تذكر أنّ هؤلاء لا يكتفون بهذا، فهم مع ضلالهم يسعون جاهدين للحيلولة دون سلوك الباحثين عن الحقيقة هذا الطريق بما يشيعونه ويروجونه من مختلف الأكاذيب، ويمنعونهم أن يقتربوا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (وهم ينهون عنه)، ويبتعدون عنه بأنفسهم: (وينأون عنه)(1)، دون أن يدركوا أنّ من يصارع الحقّ

_____________________________

1 ـ «ينأون» من «نأى» بمعنى إبتعد.

[246]

يكن صريعه، وأخيراً، وبحسب قانون الخلق الثابت، يظهر وجه الحقّ من وراء السحب، وينتصر بما له من قوّة، ويتلاشى الباطل كما يتلاشى الزبد الطافي على سطح الماء، وعليه فإنّ مساعيهم سوف تتحطم على صخرة الإِخفاق والخيبة وما يهلكون غير أنفسهم، ولكنّهم لا يدركون الحقيقة: (وإن يُهلكون إِلاّ أنفسهم ومايشعرون).

الصاق تهمة عظيمة بأبي طالب مؤمن قريش:

يتّضح ممّا قيل في تفسير هذه الآية أنّها تتابع الكلام على المشركين المعاندين وأعداء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الألداء، والضمير «هم» يعود ـ بموجب قواعد الأدب واللغة ـ إِلى الذين تتناولهم الآية بالبحث، أي الكفار المتعصبين الذين لم يدخروا وسعاً في إِيذاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ووضع العثرات في طريق الدعوة إِلى الإِسلام.

ولكن ـ لشديد الأسف ـ نرى بعض المفسّرين من أهل السنة يخالفون جميع قواعد اللغة العربية، فيقطعون الآية الثّانية من الآية الاُولى ويقولون: إِنّها نزلت في أبي طالب والد أمير المؤمنين علي(عليه السلام).

أنّهم يفسرون الآية هكذا: هناك فريق يدافعون عن رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)ولكنّهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) وهم يستشهدون في توكيد رأيهم ببعض الآيات الأُخرى من القرآن، ممّا سنتناوله في موضعه، مثل الآية (114) من سورة التوبة والآية (56) من سورة القصص.

لكن جميع علماء الشيعة وجمع من علماء أهل السنة، ومثل ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة والقسطلاني في «إِرشاد الساري» وزيني دحلان في حاشية السيرة الحلبية، ويعتبرون أبا طالب من مؤمني الإِسلام، وهناك في المصادر الإِسلامية الأصيلة دلائل كثيرة على هذا.

ومن يطالع هذه الأدلة يندفع للتساؤل بدهشة: ما السبب الذي حدا ببعضهم

[247]

إِلى كره أبي طالب وتوجيه مثل هذا الإِتهام الكبير إِليه؟!

كيف يكون هدفاً لمثل هذا الإِتهام من كان يدافع بكل كيانه ووجوده عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولطالما وقف هو وابنه في مواقع الخطر يدرآن عن حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كل خطر؟!

هنا يرى المحققون المدققون أنّ التيار المناويء لأبي طالب تيار سياسي ينطلق من عداء «شجرة بني أُمية الخبيثة» لمكانة علي(عليه السلام).

ذلك لأنّ أبا طالب ليس الوحيد الذي تعرض لمثل هذه الهجمات بسبب قرابته من أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، بل إِنّنا نلاحظ على امتداد تاريخ الإِسلام أنّ كل من كان له بأي شكل من الأشكال نوع من القرابة من أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) لم ينج من هذه الحملات اللئيمة، وفي الحقيقة كان ذنب أبي طالب الوحيد أنّه والد الشخصية الإِسلامية الكبرى علي(عليه السلام).

ونذكر هنا بإِيجاز مختلف الأدلة التي تثبت إيمان أبي طالب، تاركين التفاصيل للكتب المختصة في الموضوع.

1 ـ كان أبو طالب يعلم، قبل بعثة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّ ابن أخيه سوف يصل إِلى مقام النبوة، فقد كتب المؤرخون أنّه في رحلته مع قافلة قريش إِلى الشام اصطحب معه ابن أخيه محمّداً البالغ يومئذ الثّانية عشرة من العمر، وفي غضون الرحلة رأى منه مختلف الكرامات، ثمّ عندما مرّت القافلة بالراهب (بحيرا) الذي أمضى سنوات طوالا في صومعته على طريق القوافل التجارية، استلف محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) نظر الراهب الذي راح يدقق في وجهه وملامحه، ثمّ التفت إِلى الجمع سائلاً: من منكم صاحب هذا الصبي؟ فأشار الجمع إِلى أبي طالب الذي قال له: هذا ابن أخي، فقال بحيرا: إِنّ لهذا الصبي شأناً، إِنّه النّبي الذي أخبرت به وبرسالته الكتب السماوية، وقد قرأت فيها تفاصيل ذلك كله(1).

_____________________________

1 ـ ملخص ما ورد في سيرة ابن هشام، ج 1، ص 191، وسيرة الحلبي، ج 1، ص 131، وكتب أُخرى.

[248]

ولقد كان أبو طالب قبل ذلك قد أدرك من الوقائع والقرائن التي رآها من ابن أخيه أنّه سيكون نبي هذه الأُمّة.

وبموجب ما يذكره الشهرستاني صاحب «الملل والنحل» وغيره من علماء السنة أنّ سماء مكّة قد جست بركتها عن أهلها سنة من السنين، فواجه الناس سنة جفاف شديد، فأمر أبو طالب أنّ يأتوه بابن أخيه محمّد، فأتوه به وهو رضيع في قماطه، فوقف تجاه الكعبة، وفي حالة من التضرع والخشوع أخذ يرمي بالطفل ثلاث مرات إِلى أعلى ثمّ يتلقفه وهو يقول: يا ربّ بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا، فلم يمض إِلاّ بعض الوقت حتى ظهرت غمامة من جانب الاُفق وغطت سماء مكّة كلّها وهطل مطر غزير كادت معه مكّة أن تغرق.

ثمّ يقول الشهرستاني: هذه الواقعة، التي تدل على علم أبي طالب بنبوة ابن أخيه ورسالته منذ طفولته تؤكّد إِيمانه به، وهذا أبيات أنشدها أبو طالب بعد ذلك بتلك المناسبة:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل

إِنّ حكاية إِقبال قريش على أبي طالب(رحمه الله) عند الجفاف، واستشفاع أبي طالب إِلى الله بالطفل قد ذكرها غير الشهرستاني عدد آخر من كبار المؤرخين، وقد أورد العلاّمة الاميني(قدس سره) صاحب كتاب «الغدير» هذه الحكاية وذكر أنّه نقلها من «شرح البخاري» و«المواهب اللدنية» و«الخصائص الكبرى» و«شرح بهجة المحافل»  و «السيرة الحلبية» و«السيرة النبوية» و«طلبة الطالب»(1).

2 ـ إِضافة إِلى كتب التّأريخ المعروفة، فانّ بين أيدينا شعراً لأبي طالب جمع في «ديوان أبي طالب»، ومنه الأبيات التّالية:

_____________________________

1 ـ «الغدير»، ج 7، ص 346.

[249]

والله لن يصلوا إِليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي ولقد دعوت وكنت ثمّ أميناً

ولقد علمت بأنّ دين محمّد من خير أديان البرية دينا

كما قال أيضاً:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمّداً رسولا كموسى خط في أوّل الكتب

وإنّ عليه في العباد محبّة ولا حيف في من خصّه الله بالحبّ(1)

يذكر ابن أبي الحديد طائفة كبيرة من أشعار أبي طالب (التي يقول عنها ابن شهر آشوب في «متشابهات القرآن» أنّها تبلغ ثلاثة آلاف بيت) ثمّ يقول: إِن هذه الأشعار لا تدع مجالا للشك أنّ أبا طالب كان يؤمن برسالة ابن أخيه.

3 ـ ثمّة أحاديث منقولة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكّد شهادته بإِيمان عمه الوفي أبي طالب، من ذلك ما ينقله لنا صاحب كتاب «أبو طالب مؤمن قريش» فيقول: عندما توفي أبو طالب رثاه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على قبره، قائلا: «وا أبتاه! وا أبا طالباه واحزناه عليك! كيف أسلو عليك يا من ربيتني صغيراً، واجبتني كبيراً، وكنت عندك بمنزلة العين من الحدقة والروح من الجسد»(2).

وكثيراً ما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب»(3).

4 ـ من المتفق عليه أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر بقطع كل رابطة صحبة له بالمشركين، وكان ذلك قبل وفاة أبي طالب بسنوات، وعليه فانّ ما أظهره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من الحبّ والتعلق بأبي طالب يدل على أنّه كان يرى في أبي طالب

_____________________________

1 ـ هاتان القطعتان وردتا في «خزانة الأدب» و«وتاريخ ابن كثير» و«شرح ابن أبي الحديد» و«فتح الباري» و«بلوغ الارب» و«تاريخ أبي الفداء» و«السيرة النبوية» وغيرها نقلا عن «الغدير»، ج 8.

2 ـ «شيخ الأباطح» نقلا عن «أبو طالب مؤمن قريش».

3 ـ الطبري، نقلا عن «أبو طالب مؤمن قريش».

[250]

تابعاً لمدرسة التوحيد، وإِلاّ فكيف ينهى الآخرين عن مصاحبة المشركين، ويبقى هو على حبّه العميق لأبي طالب؟

5 ـ في الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت(عليهم السلام) أدلة وافرة على إِيمان أبي طالب وإِخلاصه، ولا يسع المجال هنا لذكرها، وهي أحاديث تستند إِلى الاستدلال المنطقي والعقلي، كالحديث المنقول عن الإِمام زين العابدين(عليه السلام) الذي قال ـ بعد أن سئل عن إِيمان أبي طالب وأجاب الإِيجاب ـ: «إنّ هنا قوماً يزعمون أنّه كافر ... واعجبا كل العجب! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وقد نهاه الله أن تقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن (أي في أكثر من آية) ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها من المؤمنات السابقات، فأنّها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه»(1).

6 ـ وإِذا تركنا كل هذا جانباً، فاننا قد نشك في كل شيء إِلاّ في حقيقة كون أبي طالب كان على رأس حماة الإِسلام ورسول الإِسلام، وكانت حمايته تتعدى الحدود المألوفة بين أبناء العشيرة والعصبيات القبلية ولا يمكن تفسيرها بها.

ومن الأمثلة الحيّة على ذلك حكاية (شعب أبي طالب) يجمع المؤرخون على أنّه عندما حاصرت قريش النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين محاصرة إِقتصادية وإِجتماعية وسياسية شديدة وقطعت علائقها بهم، ظل أبو طالب الحامي والمدافع الوحيد عنهم مدّة ثلاث سنوات ترك فيها كل أعماله، وسار ببني هاشم إِلى واد بين جبال مكّة يعرف بشعب أبي طالب فعاشوا فيه، وقد بلغت تضحياته حداً أنّه، فضلا عن بنائه الأبراج الخاصّة للوقوف بوجه أي هجوم قد تشنه قريش عليهم، كان في كل ليلة يوقظ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من نومه ويأخذه إِلى مضجع آخر يعده له ويجعل ابنه الحبيب إِليه علياً(عليه السلام) في مكانه، فإِذا ما قال له ابنه علي(عليه السلام): يا أبة، إِنّ هذا سيوردني موارد الهلكة، أجابه أبو طالب(عليه السلام): ولدي عليك بالصبر، كل حي إِلى ممات، لقد

_____________________________

1 ـ كتاب «الحجة» و«الدرجات الرفيعة» نقلا عن «الغدير» ج 8، ص 380.

[251]

جعلت فداء ابن عبدالله الحبيب، فيرد علي(عليه السلام): يا أبه، ما قلت لك ذلك خوفاً من الموت في سبيل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كنت أريدك أن تعلم مدى طاعتي لك واستعدادي للوقوف إِلى جانب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

إِنّنا نرى أن من يترك التعصب، ويقرأ ـ بغير تحيز ـ ما كتبه التّأريخ بحروف من ذهب عن أبي طالب، سيرفع صوته مع صوت ابن أبي الحديد منشداً:

ولولا أبو طالب وابنه لما مثل الدين شخصاً وقاماً

فذاك بمكّة آوى وحامى وهذا بيثرب جس الحماما(2)

* * *

_____________________________

1 ـ الغدير، ج 7، ص 357 ـ 358 بتصرف.

2 ـ الغدير، ص 86.

[252]

الآيتان

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَـلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بَأَيَـتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ(27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ(28)

التّفسير

يقظة عابرة عقيمة:

في هاتين الآيتين إِشارة إِلى بعض مواقف عناد المشركين، وفيهما يتجسد مشهد من مشاهد نتائج أعمالهم لكي يدركوا المصير المشؤوم الذي ينتظرهم فيستيقظون، أو تكون حالهم ـ على الأقل ـ عبرة لغيرهم، فتقول الآية: (ولو ترى إِذ وُقفوا على النّار ...)(1) لتبيّن لك مصيرهم السيىء المؤلم.

إِنّهم في تلك الحال على درجة من الهلع بحيث أنّهم يصرخون: ليتنا نرجع إِلى الدنيا لنعوض عن أعمالنا القبيحة، ونعمل للنجاة من هذا المصير المشؤوم، ونصدق آيات ربّنا، ونقف إِلى جاب المؤمنين: (فقالوا يا ليتنا نُردّ ولا نكذّب

_____________________________

1 ـ «لو» شرطية، وقد حذف الجواب لوضوحه.

[253]

بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين)(1).

الآية التّالية تؤكّد أن ذلك ليس أكثر من تمن كاذب، وإِنّما تمنوه لأنّهم رأوا في ذلك العالم كل ما كانوا يخفونه ـ من عقائد ونيات وأعمال سيئة ـ مكشوفاً أمامهم، فاستيقظوا يقظة مؤقتة عابرة: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل).

غير أن هذه اليقظة ليست قائمة ثابتة، بل إِنّها قد حصلت لظروف طارئة، ولذلك فحتى لو افترضنا المستحيل وعادوا إِلى هذه الدنيا مرّة أُخرى لفعلوا ما كانوا يفعلونه من قبل وما نهوا عنه: (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه) لذلك فهم ليسوا صادقين في تمنياتهم ومزاعمهم (وإنّهم لكاذبون).

ملاحظات

1 ـ يتبيّن من ظاهر (بدا لهم) أنّهم لم يكونوا يخفون كثيراً من الحقائق عن الناس فحسب، بل كانوا يخفونها حتى عن أنفسهم، فتبدوا لهم جلية يوم القيامة، وليس في هذا ما يدعو إِلى العجب، فالإِنسان كثيراً ما يخفي عنه نفسه الحقائق ويغطي على ضميره وفطرته لكي ينال شيئاً من الراحة الكاذبة.

إِنّ قضية مخادعة النفس وإِخفاء الحقائق عنها من القضايا التي تعالجها البحوث الخاصّة بنشاط الضمير، فقد نجد الكثيرين من الذين يتبعون أهواءهم يتنبهون إِلى أضرار ذلك عليهم، ولكنّهم لكي يواصلوا أعمالهم تلك بغير أن تنغصها عليهم ضمائرهم ـ يحاولون إِخفاء هذا الوعي فيهم بشكل من الأشكال.

غير أنّ بعض المفسّرين ـ دون الإِلتفات إِلى هذه النكتة ـ فهموا من (لهم) ما

_____________________________

1 ـ ينبغي الإِنتباه إِلى نقطة مهمّة في الآية: في القراءة المشهورة التي بين أيدينا «نردّ» مرفوعة و«ولانكذب» و«نكون» منصوبتان، مع أنّ الظاهر يدل على أنّهما معطوفتان على «نردّ» وخير تعليل لذلك هو القول بأنّ «نردّ» جزء من التمني، و«ولا نكذب» جواب التمني، و«الواو» هنا بمنزلة «الفاء» ومعلوم أن جواب التمني إذا وقع بعد الفاء كان منصوباً، إن مفسرين كالفخر الرازي والمرحوم الطبرسي وأبي الفتوح الرازي أوردوا تعليلات أُخرى، ولكن الذي قلناه أوضح الوجوه، وعليه فهذه الآية تكون شبيهة بالآية (58) من سورة الزمر: (لو أنّ لي كرةً فأكون من المحسنين).

[254]

ينطبق على الأعمال التي أخفاها المشركون عن الناس (تأمل بدقّة).

2 ـ قد يقال أنّ التمني ليس من الأُمور يصح فيها أن تكون صادقة أو كاذبة، فهي مثل «الإِنشاء» الذي لا يحتمل الصدق والكذب، إِلاّ أنّ هذا القول بعيد عن الصواب، وذلك لأنّ «الإِنشاء» كثيراً ما يصاحبه «الإِخبار» ممّا يحتمل الصدق والكذب، فقد يقول قائل أتمنى أن يعطيني الله مالا وفيراً فاعينك، هذا من باب التمني بالطبع، ولكن مفهومه هو أنّه إِذا أعطاني الله مالا وفيراً فاني سوف أُساعدك، وهذا مفهوم خبري يحتمل أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإِذا كنت تعرف بخل المتمني وضيق نظرته فأنت تعرف أنّه كاذب حتى إِن أعطاه الله ما يشاء من المال (هذا الموضوع مشهور كثيراً في الجمل الإِنشائية).

3 ـ إِنّ سبب ذكر الآية أنّهم لو عادوا إِلى الدنيا لعادوا إِلى تكرار أعمالهم السابقة هو أن كثيراً من الناس عندما يشاهدون نتائج أعمالهم بأعينهم، أي حينما يصلون إِلى مرحلة الشهود، يستنكرون ما فعلوا ويندمون آنياً ويتمنون لو يتاح لهم أن يجبروا ما كسروا، إِلاّ أنّ هذه تمنيات عارضة تنشأ من مشاهدة نتائج الأعمال عياناً، وتعرض لكل إِنسان يشهد بأُم عينه ما ينتظره من عذاب وعقاب، ولكن ما أن تغيب تلك المشاهد عن نظره حتى يزول تأثيرها عنه، ويعود إِلى سابق عهده.

شأنهم في ذلك شأن عبدة الأصنام الذين دهمهم طوفان عظيم في البحر ورأوا أنفسهم على عتبة الهلاك، فنسوا كل شيء سوى الله، ولكن ما أن هدأت العاصفة ووصلوا إِلى ساحل الأمان حتى عاد كل شيء إِلى ما كان عليه(1).

4 ـ ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ هذه الحالات تخص جمعاً من عبدة الأصنام الذين مرّت الإِشارة إِليهم في الآيات السابقة لا كلهم، لذلك كان لابدّ لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يواصل نصح الآخرين لإِيقاظهم وهدايتهم.

* * *

_____________________________

1 ـ يونس، 22.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336375

  • التاريخ : 28/03/2024 - 22:02

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net