00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة التوبة من آية ( 86 ـ 105 ) من ( ص 155 ـ 209 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[155]

الآيات

وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُوا بِاللهِ وَجَـهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَئْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَـعِدينَ(86) رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87) لَكِن الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ جَـهَدُوا بِأَمْولِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَـلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

التّفسير

دناءة الهمّة

الكلام في هذه الآيات يدور كذلك حول المنافقين، إلاّ أنّ هذه الآيات تقارن بين الأعمال القبيحة للمنافقين وأعمال المؤمنين الحقيقيين الحسنة، وتوضح من خلال هذه المقارنة انحراف هؤلاء المنافقين ودناءتهم.

فالآية الأُولى تتحدث عن حال المنافقين إِذا ما دعا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إِلى

[156]

الثبات على الإِيمان والجهاد في سبيل الله، فإنّهم ـ أي المنافقون ـ رغم قدرتهم الجسمية والمالية سيطلبون العذر والسماح لهم بعدم المشاركة والبقاء مع ذوي الأعذار: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين).

كلمة «الطول» على وزن فعل ـ جاءت بمعنى القدرة والإستطاعة المالية، وعلى هذا فإنّ (أولوا الطول) بمعنى المستطيعين والقادرين مالياً وجسمياً على الحضور في ميدان الحرب، ورغم ذلك فهم يميلون إِلى التخلف مع أُولئك الذين لا قدرة لديهم ـ مادياً أو بدنياً ـ على الحضور والمشاركة في الجهاد.

وأصل هذه الكلمة مأخوذ من «الطول» ضد العرض، والإِشتراك والإِرتباط بين هذين المعنيين واضح، لأنّ القدرة المالية والجسمية يعطي معنى الإستمرارية والدوام وطول القدرة.

وفي الآية التي تليها وبخ القرآن هؤلاء وذمّهم وقبّحهم بأنّهم (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف)، وكما أشرنا سابقاً، فإنّ خوالف جمع خالفة، وأصلها من (خلف)، ولذلك يقال للمرأة إِذا خرج الرجل من المنزل، وبقيت في المنزل: إنّها خالفة. والمقصود من الخوالف في هذه الآية كل الذين عُذِروا عن المشاركة في الجهاد بشكل أو آخر، أعم من أنّ يكونوا نساء أو مسنّين أو مرضى أو صبيان. وقد أشارت بعض الأحاديث الواردة في تفسير الآية إِلى هذا الموضوع.

ثمّ أضافت الآية: بأن هؤلاء نتيجة لكثرة الذنوب والنفاق وصلوا إِلى مرحلة (وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون). وقد بحثنا في بداية سورة البقرة معنى الطبع على القلب.(1)

ثمّ تحدثت الآية التي تليها في الجانب المقابل عن صفات وروحيات الفئة التي تقابل المنافقين، وهم المؤمنون المخلصون، وعن أعمالهم الحسنة، وبالتالي عاقبة

____________________________

(1) راجع المجلد الأوّل من الأمثل (ذيل آية 7 من سورة البقرة).

[157]

أعمالهم المعاكسة تماماً لعاقبة أُولئك. فهي تقول: (لكن الرّسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) فكانت عاقبتهم أن يتمتعوا بكل الخيرات والسعادة واللذائذ المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة (وأُولئك لهم الخيرات وأُولئك هم المفلحون).

كلمة (الخيرات) صيغة جمع محلّى بالألف واللام، ومن ذلك يستفاد عموميتها، فهي تعبير جامع لكل توفيق وخير ونصر وموهبة، وهي تشمل المادية منها والمعنوية.

كما أن تعبير هاتين الجملتين ـ حسب القواعد التي قررت في المعاني والبيان ـ يدل على الحصر، أي أن هذا التعبير يدل على أن (المخلصين) وحدهم يمثلون هذا الجانب المقابل، ويدل على أنّ هؤلاء وحدهم الذين يستحقون كل خير وسعادة، هؤلاء الذين يجاهدون بكل وجودهم وبكل ما يمتلكون.

ويستفاد بوضوح من هذه الآية أن «الإيمان» و«الجهاد» إذا اتحدا في شخص، فسيصحبهما كل خير وبركة، ولا سبيل إِلى الفلاح والإخلاص، أو إِلى شيء من الخيرات والبركات المادية والمعنوية إلاّ في ظل هذين العامَليْن.

وهناك نقطة أُخرى تستحق التنبيه لها، وهي أنّنا نستفيد من خلال مقارنة صفات هاتين المجموعتين أنّ المنافقين ـ لفقدانهم الإِيمان، وتلوثهم المضاعف بالمعاصي والذنوب ـ أفراد جاهلون، لذلك فهم محرومون من (علو الهمة) التي هي وليدة الفهم والشعور والوعي، فهم يرضون أن يكونوا مع القاعدين من المرضى والصبيان، ويأبون الحضور في سوح الجهاد رغم افتخاراته وامتيازاته.

أمّا في المقابل، فإنّ المؤمنين قد اتضحت لهم الأُمور وأدركوا عواقبها فعلت همتهم بحيث رأوا أن الجهاد هو الطريق الوحيد للإِنتصار على المشاكل التي تعترضهم، فسعوا إليه بكل وجودهم وقدراتهم.

إن هذا الدرس الكبير هو الذي علمنا القرآن إياه في كثير من آياته، ومع ذلك

[158]

فنحن غافلون عنه.

وفي آخر آية من الآيات التي نبحثها إشارة إلى قسم من الجزاء الأُخروي المعد لهؤلاء المؤمنين، فهي تبشرهم بأنّهم قد (أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) وتوكّد لهم بأنّ هذه المواهب والنعم سوف لا تفنى ولا تنفد، بل سيبقون (خالدين فيها)، ثمّ تبيّن أن (ذلك هو الفوز العظيم).

إنّ تعبير (أعدّ الله) علاّمة جلية على مدى الإحترام الذي أولى الله هؤلاء المؤمنين به، حيث أعد لهم من قبل كل هذه المواهب والنعم.

* * *

[159]

الآية

وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاَْعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(90)

التّفسير

في هذه الآية ـ ولمناسبة البحث هنا للأبحاث السابقة حول المنافقين الذين يتعذرون بكل عذر ويتمسكون بأتفه الحجج ـ إِشارة إِلى وضع وواقع مجموعتين من المتخلفين عن الجهاد:

الأُولى: وهم المعذورون فعلا في عدم مشاركتهم في القتال.

والثّانية: وهم المتخلفون عن أداء هذا الواجب الكبير تمرداً وعصياناً، وليس لهم أي عذر في تخلفهم هذا.

ففي البداية تقول الآية أنّ هؤلاء الأعراب رغم أنّهم كانوا معذورين في عدم الإِشتراك في الجهاد، فإنّهم حضروا بين يدي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يأذن لهم في الجهاد: (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم). وفي مقابل ذلك فإن الفئة الأُخرى التي كذبت على الله ورسوله قد تخلف أفرادها دون أي عذر، (وقعد

[160]

الذين كذبوا الله ورسوله). وفي النهاية هددت الآية المجموعة الثّانية تهديداً شديداً وأنذرتهم بأنّه (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم).

إن ما قلناه في تفسير الآية المذكورة هو الأنسب للقرائن الموجودة، فإننا نرى من جهة أن هاتين الفئتين تقابل إحداهما الأُخرى، ومن جهة أُخرى فإنّ كلمة (منهم) تدل على أن أفراد المجموعتين لم يكونوا كفاراً بأجمعهم، ومن هاتين القرينتين يفهم أن (المعذرين) هم المعذورون حقيقة.

إلاّ أنّه قيل في مقابل هذا التّفسير تفسيران آخران:

الأوّل: إنّ المقصود من (المعذرين) هم الذين كانوا يتمسكون بالأعذار الواهية والكاذبة للفرار من الجهاد. والمقصود من المجموعة الثّانية هم الذين لا يكلفون أنفسهم حتى مشقّة الإِعتذار، بل إنّهم يمتنعون علناً وبكل صراحة عن إطاعة أوامر الله عزّوجلّ.

الثّاني: إِنّ كلمة (المعذرين) تشمل كل الفئات التي تعتذر بأعذار ما عن الذهاب إِلى ميادين الحرب والجهاد، سواء كانت هذه الأعذار صادقة أم كاذبة.

إِلاّ أنّ القرائن تدل على أنّ (المعذرين) هم المعذورون الحقيقيون.

* * *

[161]

الآيات

لَّيْسَ عَلىَ الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الُْمحْسِنِينَ مِن سَبِيل وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّما السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَسْتَئْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93)

سبب النّزول

نقل في سبب نزول الآية الأُولى أن أحد أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المخلصين قال للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله، إِني شيخ كبير أعمى وعاجز، وليس لي حتى من يأخذ بيدي ليذهب بي إِلى ميدان القتال، فهل أعذر إِذا لم أحضر وأشارك في الجهاد؟ فسكت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت الآية وعذرت مثل هؤلاء الأفراد.

ويستفاد من سبب النزول هذا أن المسلمين ـ حتى الأعمى منهم ـ لم يكونوا

[162]

ليسمحوا لأنفسهم أن يمتنعوا عن الحضور في ميدان الجهاد، وربّما كان ذلك لأنّهم كانوا يحتملون أن وجودهم بهذه الحالة قد يرغّب المجاهدين في الإنضمام إِلى جيوش المسلمين ومشاركتهم في أمر الجهاد، أو أنّهم يكثرون السواد على أقل التقادير.

وبالنسبة للآية الثّانية ورد في الرّوايات أنّ سبعة نفر من فقراء الأنصار جاءوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه وسيلة للمشاركة في الجهاد، ولما لم يكن لدى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) شيء من ذلك خرجوا من عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعينهم تفيض من الدمع، ثمّ عُرفوا بعد ذلك بـ «البكّائين».

التّفسير

العشق للجهاد ودموع الحسرة:

هذه الآيات قسمت المسلمين في مجال المشاركة في الجهاد لتوضيح حال سائر المجاميع من ناحية القدرة على الجهاد، أو العجز عنه، وأشارت إِلى خمس مجموعات: أربع منها معذورة حقيقة وواقعاً، والخامسة هم المنافقون.

الآية الأُولى تقول: إنّ الضعفاء، والعاجزين لكبر أو عمى أو نقص في الأعضاء، والذين لا وسيلة لهم يتنقلون بها ويستفيدون منها في المشاركة في الجهاد، لا حرج عليهم إِذا تخلفوا عن هذا الواجب الإِسلامي المهم: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج). هذه الأقسام الثلاث تعذر في كل قانون إِذا لم تشارك، والعقل والمنطق يمضي هذا التسامح، ومن المسلم أنّ القوانين الإِسلامية لا تنفصل عن المنطق والعقل في أي مورد.

كلمة «الحرج» في الأصل تعني مركز اجتماع الشيء، ولما كان اجتماع الناس وكثرتهم في مكان ومركز ما ملازم لضيق ذلك المكان، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الضيق والإِزعاج والمسؤولية والتكليف، ويكون معناها في هذه الآية هو

[163]

المعنى الأخير، أي المسؤولية والتكليف.

ثمّ بيّنت الآية شرطاً مهماً في السماح لهؤلاء بالإِنصراف، وهو إخلاصهم وحبّهم لله ورسوله، ورجاؤهم وعملهم كل خير لهذا الدين الحنيف، لذا قالت: (إذا نصحوا لله ورسوله) أي إنّ هؤلاء إذا لم يكونوا قادرين على حمل السلاح والمشاركة في القتال، فإنّهم قادرون على استعمال سلاح الكلمة والسلوك الإِسلامي الأمثل، وبهذا يستطيعون ترغيب المجاهدين، ويثيرون الحماس في نفوس المقاتلين، ويرفعون معنوياتهم بذكرهم الثمرات المترتبة على الجهاد وثوابه العظيم.

وكذلك يجب أن لا يقصروا في هدم وتضعيف معنويات العدو، وتهيئة أرضية الهزيمة في نفوس أفراده قدر المستطاع لأنّ كلمة (نصح) في الأصل بمعنى (الإخلاص) وهي كلمة جامعة شاملة لكل شكل من أشكال طلب الخير والإِقدام المخلص في هذا السبيل، ولما كان الكلام عن الجهاد، فإنّها تنظر إِلى كل جهد وسعي يبذل في هذا المجال.

ثمّ تذكر الآية الدليل على هذا الموضوع، فتذكر أن مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يألون جهداً في عمل الخير، لا يمكن أن يعاتبوا أو يُوبَّخوا أو يُعاقبوا، إذ (ما على المحسنين من سبيل).

بعد ذلك اختتمت الآية بذكر صفتين عظيمتين من صفات الله عزّوجلّ ـ وكل صفاته عظيمة ـ كدليل آخر على جواز تخلف هؤلاء المندرجين ضمن المجموعات الثلاث فقالت: (والله غفور رحيم).

(غفور) مأخوذة من مادة الغفران، أي الستر والإخفاء، أي إن الله سبحانه وتعالى سيلقي الستار على أعمال هؤلاء المعذورين ويقبل أعذارهم، وكون الله «رحيماً» يقتضي أن لا يكلف أحداً فوق طاقته، بل يعفيه من ذلك، وإذا أُجبر هؤلاء على الحضور في ميدان القتال، فإنّ ذلك لا يناسب غفران الله ورحمته، وهذا يعني

[164]

أنّ الله الغفور الرحيم سيعفي هؤلاء عن الحضور حتماً، ويعفو عنهم.

ويستفاد من جملة من الرّوايات التي نقلها المفسّرون في ذيل هذه الآية، أنّ هذه المجموعات المعذورة لا يقتصر الأمر فيهم على السماح لهم في التخلف وعدم مؤاخذتهم فحسب، بل إنّ أفرادها لهم من الجزاء والثواب كثواب المجاهدين الذين حضروا وقاتلوا، كل على قدر اشتياقه وتحرقه للمشاركة، فنحن نقف على حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونقرأ: إِنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لما قفل من غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال: «لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم وادياً إِلاّ كانوا معكم فيه قالوا: «وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر»(1).

ثمّ تشير الآية إِلى الفئة الرّابعة من المعفو عنهم وهؤلاء هم الذين حضروا ـ بشوق ـ عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يحملهم على الدواب للمشاركة في الجهاد، فاعتذر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بأنّه لا يملك ما يحملهم عليه، فخرجوا من عنده وعيونهم تفيض من الدمع حزناً وأسفاً على ما فاتهم، وعلى أنّهم لا يملكون ما ينفقونه في سبيل الله: (ولا على الذين إِذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون).

«تفيض» من مادة الفيضان، أي الإِنسكاب والتساقط بعد الإِمتلاء، فإنّ الإنسان إِذا أهمه أمر أو دهمته مصيبة، فإذا لم تكن شديدة اغرورقت عيناه بالدموع وامتلأت دون أن تجري، أمّا إذا وصلت إِلى مرحلة يضعف الإِنسان عن تحملها سالت دموعه.

إنّ في هذه دلالة على أنّ هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا عشاقاً ومولهين بالجهاد إِلى درجة أنّهم لما رُخص لهم في البقاء لم يكتفوا بالتأسف والهمّ لهذه الرخصة، بل إنّهم جرت دموعهم كما لو فقد إنسان أعز أصدقائه وأحبائه،

____________________________

(1) الدر المنثور، طبقاً لنقل الميزان، ج9، ص 386.

[165]

وبكوا بكاءً مرّاً لهذا الحرمان.

لا شك أن الفئة الرّابعة لا تفترق عن الفئة الثّالثة المذكورة في الآية ولكنّهم لهذه الحالة الخاصّة من العشق، ولإمتيازهم بها عن السابقين، ولتكريمهم جسمت الآية وضعهم بصورة مستقلة ضمن نفس الآية، وكانت خصائصهم هي:

أوّلا: إنّهم لم يقتنعوا بعدم ملكهم لمستلزمات الجهاد، فحضروا عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)طمعاً في الحصول عليها، وأصروا عليه أصراراً شديداً في تهيئتها إِنّ أمكنه ذلك.

ثانياً: إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما اعتذر عن تلبية طلبهم لم يكتفوا بعدم الفرحة بذلك، بل انقلبوا بهمّ وحزن فاضت دموعهم بسببه، ولهاتين الخصلتين ذكرهم الله سبحانه وتعالى مستقلا في الآية.

أمّا آخر الآية فتبين وضع الفئة الخامسة، وهم الذين لم يعذروا، ولن يُعذروا عند الله تعالى، فإنّهم قد توفرت فيهم كل الشروط، ويملكون كل مستلزمات الجهاد، فوجب عليهم حتماً، لكنّهم رغم ذلك يحاولون التملّص من أداء هذا الواجب الإِلهي الخطير، فجاؤوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبون الإِذن في الإنصراف عن الحرب، فبيّنت الآية أنّهم سيؤاخذون بتهربهم ويعاقبون عليه: (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء).

وتضيف الآية بأنّ هؤلاء يكفيهم عاراً وخزياً أن يرضوا بالبقاء مع العاجزين والمرضى رغم سلامتهم وقدرتهم، ولم يهتموا بأنّهم سيحرمون من فخر الإشتراك في الجهاد: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف). وكفى به عقاباً أن يسلبهم الله القدرة على التفكر والإِدراك نتيجة أعمالهم السيئة هذه، ولذلك أبغضهم الله (وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون).

* * *

[166]

ملاحظات

1 ـ تتّضح من هذه الآيات ـ بصورة جلية وواضحة ـ المعنويات القوية العالية لجنود الإِسلام، وكيف أن قلوبهم كانت تتطلع بشوق، وتتحرق عشقاً للجهاد والشهادة، وهذا الفخر والوسام مقدم على جميع الأوسمة والصفات الأُخرى التي كانوا يمتلكونها، ومن هنا يتّضح عامل هو من أهم عوامل التقدم السريع للإِسلام وتطوره وانتشاره في ذلك اليوم، وتخلفنا في الوقت الحاضر لفقداننا هذا الوسام.

كيف يمكننا أن نجعل من يبكي ألماً وحسرة لحرمانه من الجهاد، وإن كان لعذر، ومن يحاول التذرع بألف عذر وعذر من أجل الفرار من صف المجاهدين، في صف واحد ومرتبة واحدة؟

إذا رجعت إِلينا روح الإِيمان وحبّ الجهاد وعشقه، والإِفتخار بالشهادة في سبيل الله، ودبت في واقعنا الميت، فإنّنا سنحصل على نفس الإمتيازات والإنتصارات التي حققها وحصل عليها مسلمو الصدر الأوّل.

إنّ تعاستنا وتخلفنا يكمن في أننا التزمنا بالإِسلام ظاهراً، واتخذناه ردءاً دون أن ينفذ إِلى أعماقنا ووجودنا، ورغم ذلك فإننا نتوقع أن نصل بهذا الواقع إِلى مستوى المسلمين الأوائل!

2 ـ ونستفيد من الآيات السابقة أيضاً، أنّه لا يستثنى أحد ـ بصورة عامّة ـ من المشاركة في أمر الجهاد، من دعم المجاهدين، وإسنادهم في جهادهم، حتى المرضى والعاجزين عن حمل الأسلحة والمشاركة في ميدان الحرب، فإنّهم إن عجزوا عن ذلك فهم قادرون أن يُرغّبوا المجاهدين ويثيروا حماسهم يكلامهم وبيانهم وسلوكهم، وأن يدعموا جهادهم بذلك، وفي الحقيقة فإنّ للجهاد مراحل متعددة، فإذا عُذر الإنسان عن احدى مراحله فإنّ ذلك لا يعني سقوط بقية المراحل عن ذمته.

3 ـ إنّ جملة (ما على المحسنين من سبيل) أصبحت منبعاً قانونياً واسعاً في

[167]

المباحث الفقهية حيث استفاد الفقهاء منها أحكاماً كثيرة، فمثلا: إذ تلفت الوديعة في يد الأمين بدون أي افراط أو تفريط منه، فإنّه لا يكون ضامناً، ومن جملة الأدلّة على هذه المسألة هي الآية المذكورة، لأنّه محسن، ولم يرتكب مخالفة، فإذا اعتبرناه مسؤولا وضامناً، فإنّ هذا يعني أنّ المحسن مؤاخذ.

ليس هناك شك في أنّ الآية المذكورة قد وردت في المجاهدين، إلاّ أنا نعلم أن مورد الآية لا ينقص من عموميتها، وبعبارة أُخرى، فإن مورد الآية لا يخصص الحكم مطلقاً.

* * *

نهاية الجزء العاشر من القرآن المجيد.

[169]

 

بداية الجزءُ الحادي عَشر مِن القرآن الكريم

[171]

 

الآيات

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهَ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَـلِمِ الْغَيْبِ وَالْشَّهَـدَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون(94) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَومِ الْفَـسِقِينَ (96)

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين: إنّ هذه الآيات نزلت في جماعة من المنافقين يبلغ عددهم ثمانين رجلا، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما رجع من غزوة تبوك أمر أن لا يجالسهم أحد ولا يكلمهم، فلمّا رأى هؤلاء هذه المقاطعة الإِجتماعية الشديدة بدأوا يعتذرون عمّا بدر منهم، فنزلت هذه الآيات لتبيّن حال هؤلاء وحقيقتهم.

[172]

التّفسير

لا تصغوا إِلى أعذارهم وأيمانهم الكاذبة:

تستمر هذه السلسلة من الآيات في الحديث عن الأعمال الشيطانية للمنافقين، وتزيح الستار عنها الواحد تلو الآخر، وتحذر المسلمين من الإنخداع بريائهم أو الوقوع تحت تأثير كلماتهم المعسولة.

الآية الأُولى تبيّن للمسلمين أن هؤلاء إِذا علموا بقدومكم فسيأتون(يعتذرون إِليكم إِذا رجعتم إِليهم). إِن التعبير بـ (يعتذرون) بصيغة المضارع، يظهر منه أن الله تعالى قد أطلع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل على كذب المنافقين، وأنّهم سيأتونهم ليعتذروا إِليهم، ولذلك فإنّه تعالى علمهم كيفية جواب هؤلاء إذا قدموا إِليهم ليعتذروا منهم.

ثمّ يتوجه الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ باعتباره قائد المسلمين ـ بأن يواجه المنافقين (قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم) لأنّا على علم بأهدافكم الشيطانية وما تضمرون وما تعلنون، إذ (قد نبأنا الله من أخباركم). إلاّ أنّه في الوقت نفسه سيبقى باب التوبة والرجوع إِلى الصواب مفتوحاً أمامكم (وسيرى الله عملكم وروسوله).

واحتمل البعض في تفسير هذه الآية أنّ التوبة ليست هي المقصودة من هذه الجملة، بل المقصود أن الله ورسوله سيطلعان على أعمالكم ويريانها في المستقبل كما رأياها الآن، وسيحبطان كل مؤامراتكم، وعلى هذا فلا يمكن أن تصنعوا شيئاً، لا اليوم ولا عذاً، ولنا بحث مفصّل حول هذه الجملة، ومسألة عرض أعمال الأمة على نبيّها(صلى الله عليه وآله وسلم) سيأتي في ذيل الآية (105) من هذه السورة.

ثمّ قالت الآية: إنّ كل أعمالكم ونياتكم ستثبت اليوم في كتبكم (ثمّ تردون إِلى عام الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).

وفي الآية التالية إشارة أُخرى إِلى أيمان المنافقين الكاذبين، وتنبيه للمسلمين على أنّ هؤلاء سيتوسلون باليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم

[173]

(سيحلفون بالله لكم إِذا انقلبتم إِليهم لتعرضوا عنهم).

في الحقيقة، إِنّ هؤلاء يطرقون كل باب ليردّوا منه، فتارةً يريدون إِثبات براءتهم وعدم تقصيرهم بالإِعتذار، وتارةً يعترقون بالتقصير ثمّ يطلبون العفو عن ذلك التقصير، إِذ ربّما استطاعوا عن إحدى هذه الطرق النفوذ إِلى قلوبكم، لكن لا تتأثروا بأي أُسلوب من هذه الأساليب، بل إِذا جاؤوكم ليعتذروا إِليكم (فاعرضوا عنهم).

إنّ هؤلاء يطلبون منكم أن تعرضوا عن أفعالهم، أي أن تصفحوا عنهم، لكنكم يجب أن تعرضوا عنهم، لكن لا بالصفح والعفو، بل بالتكذيب والإنكار عليهم، وهذان التعبيران المتشابهان لفظاً لهما معنيان متضادان تماماً، ولهما هنا من جمال التعبير وجزالته وبيانه ما لا يخفى على أهل الذوق والبلاغة.

ولتأكيد المطلب وتوضيحه وبيان دليلة عقّبت الآية بأن السبب في الاعراض هؤلاء (إنّهم رجس)، ولأنّهم كذلك فإنّ مصيرهم (ومأواهم جهنم) لأنّ الجنّة أُعدت للمتقين الذين يعملون الصالحات، وليس فيها موضع للأرجاس الملوّثين بالمعاصي. إن كل العواقب السيئة التي سيلقونها إنما يرونها (جزاء بما كانوا يكسبون).

في الآية الأخيرة التي نبحثها هنا إشارة إِلى يمين أُخرى من أيمان هؤلاء، الهدف منها جلب رضى المسلمين (يحلفون لكم لترضوا عنهم).

الفرق بين اليمين في هذه الآية واليمين في الآية السابقة، أنّ المنافقين في الآية السابقة أرادوا تهدئة خواطر المؤمنين في الواقع العملي أمّا اليمين التي في هذه فإنّها تشير إِلى أنّ المنافقين أرادوا من المؤمنين مضافاً إِلى سكوتهم العملي إظهار الرضا القلبي عنهم.

الملفت للنظر هنا أن الله تعالى لم يقل: لا ترضوا عنهم، بل عبّر سبحانه بتعبير تُشم منه رائحة التهديد، إِذ تقول عزَّوجلّ: (فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن

[174]

القوم الفاسقين).

لا شك أن هؤلاء من الناحية الدينية والأخلاقية لا يعيرون اهتماماً لرضى المسلمين، بل إن الهدف من عملهم هذا هو رفع النظرة السلبية والغضب عليهم من أفكار وقلوب المسلمين، ليكونوا في المستقبل في مأمن من ردود الفعل ضدهم إذا بدرت منهم أعمال منافية، إلاّ أن الله تعالى لما عبر بقوله: (لا يرضى عن القوم الفاسقين) نبّه المسلمين على أن هؤلاء فاسقون، ولا معنى لرضاكم عنهم، فإنّ هؤلاء دأبهم يضحكوا على الأذقان، فانتبهوا وعوا أمر هؤلاء ولا تقعوا في شراكهم.

كم هو مهم وجيدّ أن يراقب المسلمون في كل زمان خطط المنافقين الشيطانية ويعرفوهم، حتى لا يستفيدوا من الخطط السابقة للوصول إِلى أهدافهم المشؤومة عبر هذه الوسائل والخطط الخبيثة.

* * *

[175]

الآيات

الاَْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الاَْعْرابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَآئِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَـت عِندَ اللهِ وَصَلَوتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةً لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99)

التّفسير

الأعراب القساة والمؤمنون:

في هذه الآيات الثّلاث ـ استمراراً للبحث المتقدم حول منافقي المدينة ـ حديث وبحث حول وضع منافقي الأعراب ـ وهم سكان البوادي ـ وعلاماتهم وأفكارهم، وكذلك قد تحدثت حول المؤمنين الخلص منهم.

وربّما كان السبب في تحذير المسلمين من هؤلاء، هو أن لا يتصور المسلمون أن المنافقين هم ـ فقط ـ هؤلاء المتواجدون في المدينة، بل إنّ المنافقين من

[176]

الأعراب أشدّ وأقسى، وشواهد التأريخ الإِسلامي تدل على المسلمين قد تعرضوا عدّة مرات لهجوم منافقي البادية، ولعل الإِنتصارات المتلاحقة لجيش الإِسلام هي التي جعلت المسلمين في غفلة عن خطر هؤلاء.

على كل حال، فالآية الأُولى تقول: إنّ الأعراب، بحكم بعدهم عن التعليم والتربية، وعدم سماعهم الآيات الرّبانية وكلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أشدّ كفراً ونفاقاً من مشابهيهم في المدينة: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً) ولهذا البعد والجهل فمن الطبيعي، بل الاؤلى أن يجهلوا الحدود والأحكام الإِلهية التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله).

كلمة «الأعراب» من الكلمات التي تعطي معنى الجمع، ولا مفرد لها في لغة العرب، وعلى ما قاله أئمّة اللغة ـ كمؤلف القاموس والصحاح وتاج العروس وآخرون ـ فإن هذه الكلمة تطلق على سكان البادية فقط، ومختصة بهم، وإذا أرادوا اطلاقهم على شخص واحد فإنّهم يستعملون نفس هذه الكلمة ويلحقون بها ياء النسب، فيقولون: أعرابي. وعلى هذا فإنّ أعراب ليست جمع عرب كما يظن البعض.

أمّا «أجدر» فهي مأخوذة من الجدار، ومن ثمّ أُطلقت على كل شيء مرتفع ومناسب، ولهذا فإنّ (أجدر) تستعمل ـ عادةً ـ بمعنى الأنسب والأليق.

وتقول الآية أخيراً: (والله عليم حكيم) أي إِنّه تعالى عندما يحكم على الأعراب بمثل هذا الحكم، فلأنّه يناسب الوضع الخاص لهم، لأنّ محيطهم يتصف بمثل هذه الصفات.

لكن ومن أجل لا يُتوهم بأنّ كل الأعراب أو سكان البوادي يتصفون بهذه الصفات، فقد أشارت الآية التالية إِلى مجموعتين من الاعراب.

ففي البداية تتحدث عن أن قسماً من هؤلاء الأعراب ـ لنفاقهم أو ضعف إِيمانهم ـ عندما ينفقون شيئاً في سبيل الله، فإنّهم يعتبرون ذلك ضرراً وخسارة

[177]

لحقت بهم، لا أنّه توفيق ونصر وتجارة رابحة: (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً)(1).

ومن الصفات الأُخرى لهؤلاء أنّهم دائماً ينتظرون أن تحيط بكم المصائب والنوائب والمشاكل، ويرميكم الدهر بسهمه: (ويتربص بكم الدوائر).

«الدوائر» جمع دائرة، ومعناها معروف، ولكن العرب يقولون للحادثة الصعبة والأليمة التي تحل بالإِنسان: دائرة، وجمعها (دوائر).

في الواقع أنّ هؤلاء أفراد ضيقو النظر، وبخلاء وحسودون، وبسبب بخلهم فإنّهم يرون كل إِنفاق في سبيل الله خسارة، وبسبب حسدهم فإنهم ينتظرون دائماً ظهور المشاكل والمشاغل والمصائب عند الآخرين. ثمّ تقول الآية ـ بعد ذلك ـ إِن هؤلاء ينبغي أن لا يتربصوا بكم، وينتظروا حلول المصائب والدوائر بكم، لأنّها في النهاية ستحل بهم فقط: (عليهم دائرة السوء)(2).

ثمّ تختم الآية الحديث بقولها: (والله سميع عليم)، فهو تعالى يسمع كلامهم، ويعلم بنياتهم ومكنون ضمائرهم.

أمّا الآية الأخيرة فقد أشارت إِلى الفئة الثّانية من الأعراب، وهم المؤمنون المخلصون، إذ تقول: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) ولهذا السبب فإنّهم لا يعتبرون الإِنفاق في سبيل الله خسارة أبداً، بل وسيلة للتقرب إِلى الله ودعاء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، لإِيمانهم بالجزاء الحسن والعطاء الجزيل الذي ينتظر

____________________________

(1) مغرم - كما ورد في مجمع البيان ـ مأخوذة من مادة (غرم) على وزن (جرم)، وهي في الأصل بمعنى ملازمة الشيء، ولهذه المناسبة قيل للدائن والمدين اللذين لا يدع كل منهما صاحبه: غريم، وأيضاً قيل: غرامة، لنفس هذه المناسبة لأنّها تلازم الإِنسان ولا تنقطع عنه إلاّ بأدائها. ويقال للعشق الشديد: غرام، لأنّه ينفذ إِلى روح الإِنسان بصورة لا يمكن تصور الإِنفصال معها. ومغرم يساوي غرامة من حيث المعنى.

(2) يستفاد من جملة (عليهم دائرة السوء) الحصر، أي إنّ حوادث السوء ستنال هؤلاء فقط. واستفادة الحصر هذه من أن (عليهم) خبر مقدم على المبتدأ.

[178]

المنفقين في سبيل الله: (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرّسول).

هنا يؤيّد الله تعالى ويصدّق هذا النوع من التفكير، ويؤكّد على أنّ هذا الإِنفاق يقرب هؤلاء من الله قطعاً: (ألا إِنّها قربة لهم) ولهذا (سيدخلهم الله في رحمته) وإذا ما صدرت من هؤلاء هفوات وعثرات، فإنّ الله سيغفرها لهم لإيمانهم وأعمالهم الحسنة، فـ (إن الله غفور رحيم).

إنّ التأكيدات المتوالية والمكررة التي تلاحظ في هذه الآية تجلب الإِنتباه حقّاً، فإنّ (ألا) و(إِن) يدل كلاهما على التأكيد، ثمّ جملة (سيدخلهم الله في رحمته)خصوصاً مع ملاحظة (في) التي تعني الدخول والغوص في الرحمة الإِلهية، وبعد ذلك الجملة الأخيرة التي تبدأ بـ (إنَّ) وتذكر صفتين من صفات الرحمة وهما (غفور رحيم) كل هذه التأكيدات تبيّن منتهى اللطف والرحمة الإِلهية بهذه الفئة.

وربّما كان هذا الإهتمام بهؤلاء لأنّهم رغم حرمانهم من التعليم والتربية، وعدم الفهم الكافي لآيات الله وأحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّهم قبلوا الإِسلام وآمنوا به بكل وجودهم، ورغم قلّة إمكانياتهم المالية ـ التي يحتمها وضع البادية ـ فإنّهم لم يمتنعوا عن البذل والإِنفاق في سبيل الله، ولذلك استحقوا كل تقدير واحترام، وأكثر ممّا يستحقه سكان المدينة المتمكنون.

ويجب الالتفات إِلى أنّ القرآن قد استعمل (عليهم دائرة السوء) في حق الأعراب المنافقين، التي تدل على إِحاطة التعاسة وسوء العاقبة بهم، أمّا في حق المؤمنين فقد ذكرت عبارة (في رحمته) لتبيّن إِحاطة الرحمة الإِلهية بهؤلاء، فقسم تحيط به الرحمة الإِلهية، والآخر تحيط به الدوائر والمصائب.

* * *

[179]

بحوث

وهنا ملاحظات تسترعي الإِنتباه:

1 ـ التّجمعات الكبيرة

يبدو بوضوح ـ من الآيات المذكورة ـ مدى الأهمية التي يوليها الإِسلام للمجتمعات الكبيرة، والأماكن المزدحمة بالسكان، والجميل في الأمر أنّ الإِسلام قد نهض وبزغ نوره من محيط متخلف، محيط لا تشم منه رائحة التمدن والتطور، إلاّ أنّه في الوقت نفسه يهتم اهتماماً خاصّاً بالعوامل البناءة التي تنهض بالمجتمع، وتحلّق به في أجواء التطور والرقي، فنراه يقرر أنّ هؤلاء الذين يعيشون في مناطق نائية عن المدينة أكثر تخلفاً من أهل المدن، لأنّهم لا يملكون الوسائل الكافية للتعليم والتربية فتخلفوا، ولهذا نقرأ في نهج البلاغة قول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «الزموا السواد الأعظم، فإنّ يدالله مع الجماعة»(1).

إِلاّ أنّ هذا الكلام لا يعني أن يتجه كل الناس إِلى المدن، ويتركوا القرى ـ التي هي أساس عمران المدن ـ تعبث بها يد الخراب، بل يجب السّعي في إيصال علم وتقدم المدينة إِلى القرية، وتقوية أُسس التربية والتعليم وأُصول الدين والوعي ونشرها بين صفوف القرويين.

ولا شك أنّ سكان القرى إِذا تُركوا على حالتهم ولم تفتح عليهم نافذة من العلوم المدنية وآيات الكتب السماوية، وتعليمات وتوجيهات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والهداة الكرام، فسيحل بهم الكفر والنفاق سريعاً ويأخذ منهم مأخذاً عظيماً. إنّ هؤلاء لهم استعداد أكبر لقبول التربية السليمة والتعليم الصحيح لصفاء قلوبهم، وبساطة أفكارهم، وقلّة انتشار المكر والمراوغة التي تعم المدن بينهم.

____________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 127.

[180]

2 ـ الأعراب من سكان المدن

إِنّ كلمة (الأعرابي) وإِن كانت تعني ساكن البادية، إلاّ أنّها استعملت بمعنى أوسع في الأخبار والرّوايات الإِسلامية، وبتعبير آخر: فإنّ مفهومها الإِسلامي لا يرتبط أو يتحدد بالمنطقة الجغرافية التي يشغلها الأعراب، بل تعبر عن منهجية في التفكير، فإنّ من كان في منآى عن الآداب والسنن والتربية الإِسلامية فهو من الاعراب وإن كان سكان المدن، أمّا سكّان البادية الملتزمون بالآداب والسنن الإِسلامية فليسوا بأعراب.

الحديث المشهور المنقول عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي»(1) دليل قوي وشاهد واضح على الكلام أعلاه.

وفي خبر آخر نقرأ: «من الكفر التعرب بعد الهجرة».

ونقل أيضاً عن علي(عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه خاطب جماعة من أصحابه العاصين لأمره فقال: «واعلموه أنّكم صرتم بعد الهجرة أعراباً»(2)

في الحديثين أعلاه جعل «التعرب» مقابل «الهجرة»، وإذا لاحظنا أنّ للهجرة أيضاً مفهوماً واسعاً لا يتحدد بالجانب المكاني، بل إِنّ أساسها انتقال الفكر من محور الكفر إِلى محور الإِيمان، اتّضح معنى كون الفرد أعرابياً، أي أنّه يعني الرجوع عن الآداب والسنن الإِسلامية إِلى الآداب والعادات الجاهلية.

3 ـ نطالع في الآية المذكورة أعلاه الواردة في حق المؤمنين من الأعراب، أنّ هؤلاء يعتبرون إنفاقهم أساس القرب من الله تعالى، خاصّة وأنّ هذه الكلمة قد وردت بصيغة الجمع (قربات)، وهي توحي أنّ هؤلاء لا يبتغون من إِنفاقهم قربة واحدة، بل قربات.

____________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 254.

(2) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص 192.

[181]

وممّا لا شك فيه أنّ القرب والقربة بالنسبة إِلى الله سبحانه وتعالى لا تعني القرب المكاني، بل القرب المقامي، أي السير إلى الذات المقدسة والكمال المطلق والتعرض لأنوار صفات جماله وجلاله وفي دائرة الفكر والروح.

* * *

[182]

الآية

وَالسَّـبِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالاَْنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـنِ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـت تَجْرِى تَحْتَهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوزُ الْعَظِيمُ (100)

التّفسير

السّابقون إِلى الإِسلام:

بالرغم من أن المفسّرين قد نقلوا أسباباً عديدة للنزول، إلاّ أنّ أيّاً منها ـ كما سنرى ـ ليس سبباً للنزول، بل إنّها في الواقع بيان المصداق والوجود الخارجي لها.

على كل حال، فإنّ هذه الآية ـ التي وردت بعد الآيات المتحدثة عن حال الكفار والمنافقين ـ تشير إِلى مجموعات وفئات مختلفة من المسلمين المخلصين، وقسمتهم إِلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: السابقون في الإِسلام والهجرة: (والسابقون الأولون من المهاجرين).

الثّاني: السابقون في نصرة وحماية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المهاجرين: (والأنصار).

[183]

الثّالث: الذين جاؤوا بعد هذين القسمين واتبعوا خطواتهم ومناهجهم، وقبولهم الإِسلام والهجرة، ونصرتهم للدين الإِسلامي، فإنّهم ارتبطوا بهؤلاء السابقين: (والذين اتبعوهم باحسان)(1).

ممّا قلناه يتبيّن أنّ المقصود من «بإحسان» في الحقيقة هو بيان الأعمال والمعتقدات لهؤلاء السابقين إِلى الاسلام التي ينبغي اتباعها، وبتعبير آخر فإنّ (إحسان) وصف لبرامجهم التي تُتَّبَع.

وقد احتمل أيضاً في معنى الآية أنّ (إِحسان) بيان لكيفية المتابعة، أي أن هؤلاء يتبعونهم بالصورة اللائقة والمناسبة. ففي الصورة الأُولى الباء في (بإحسان) بمعنى (في)، وفي الصورة الثّانية بمعنى (مع). إلاّ أنّ ظاهر الآية مطابق للتفسير الأوّل.

وبعد ذكر هذه الأقسام الثّلاثة قالت الآية: (رضي الله عنهم ورضوا عنه).

إن رضى الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء هو نتيجة لإيمانهم وأعمالهم الصالحة التي عملوها، ورضاهم عن الله لما أعد لهم من الجزاء والعطايا المختلفة التي لا تدركها عقول البشر. وبتعبير آخر، فإنّ هؤلاء قد نفذوا كل ما أراده الله منهم، وفي المقابل أعطاهم الله كل ما أرادوا، وعلى هذا فكما أنّ الله سبحانه راض عنهم، فإنّهم راضون عن الله تعالى.

ومع أنّ الجملة السابقة قد تضمنت كل المواهب والنعم الإِلهية، المادية منها والمعنوية، الجسمية والروحية، لكن الآية أضافت من باب التأكيد، وبيان التفصيل بعد الإِجمال: (وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار) ومن إمتيازات هذه النعمة أنّها خالدة، وسيبقى هؤلاء (خالدين فيها) وإذا نظرنا إِلى مجموع هذه المواهب المادية والمعنوية أيقنا أن (ذلك الفوز العظيم).

____________________________

(1) لقد عدّ الكثير من المفسّرين (من) الواردة في جملة (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار)تبعيضية، وظاهر الآية أيضاً كذلك، لأن حديث الآية عن طلائع الإِسلام والسابقين إِليه، لا عن جميع المسلمين. أمّا الباقون فإنّهم يدخلون في مفهوم الجملة التالية، أي: (التابعون).

[184]

أيّ فوز أعلى وأكبر من أن يدرك الإِنسان أن خالقه ومعبوده ومولاه قد رضي عنه، وقد وقّع على قبول أعماله؟ وأي فوز أعلى من أن يحصل الإِنسان على مواهب خالدة نتيجة أعمال محدودة يعملها في أيّام هذا العمر الفاني؟

* * *

بحوث

1 ـ موقع السّابقين

في كل ثورة اجتماعية جبارة تقوم ضد أوضاع المجتمع الفاسدة، فإنّ طلائع الثورة هم أعمدتها، وعلى عاتقهم يقع حملها وثقلها، وهؤلاء في الحقيقة هم أوفى عناصر الثورة، لأنّهم نصروا قائدهم وقدوتهم في أحلك الظروف والتفوا حوله في ساعات المحنة والوحدة رغم أنّهم محاصرون وتحيط بهم أنواع الأخطار إلاّ أنّهم لم يتخلوا عن دعمهم ونصرتهم وتضحيتهم. خاصّة وإن مطالعة تاريخ صدر الإِسلام تعطي صورة واضحة عن مدى ضخامة المشاكل التي واجهها السابقون والرعيل الأوّل من المسلمين!

كيف كانوا يؤذونهم ويعذبونهم لكنّهم لم يصرخوا ولم يتأوهوا رغم شدة آلامهم، كانوا يتهمونهم، يسحبونهم بالسلاسل، وبالتالي يقتلونهم. ورغم كل ذلك، فإنّ هؤلاء قد وضعوا قدماً في هذا السبيل بإرادة حديدية، وعشق ملتهب، وعزم راسخ، وإيمان عميق، ووطنوا أنفسهم على تحمل أنواع المخاطر والمصاعب.

ومن بين هؤلاء كان سهم المهاجرين الأوّلين هو الأرجح، ومن بعدهم الأنصار الأوائل، أي الذين دعوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى المدينة واستقبلوه برحابة وأسكنوا أصحابه واعتبروهم كإخوانهم، ودافعوا عنهم بكل وجودهم، بل قدموهم حتى على قومهم. وإذا كانت الآية أعلاه قد أولت هذين القسمين اهتماماً خاصاً، فلهذه العوامل.

[185]

إِلاّ أنّ القرآن الكريم في الوقت نفسه ـ كما هي طريقته دائماً ـ لم يبخس حقّ الآخرين، وذكر كل الأقسام والفئات الأُخرى الذين التحقوا في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أو الأعصار التالية، والذين هاجروا، أو آووا المهاجرين ونصروهم تحت عنوان (التابعين بإحسان)، وبشر الجميع بالأجر والجزاء الحسن.

2 ـ من هم التابعون؟

اصطلح جماعة من العلماء على أنّ كلمة «التابعين» تعني تلامذة الصحابة، وجعلوها من مختصاتهم، أي أُولئك الذين لم يروا النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنّهم تصدوا لإكتساب العلوم الإِسلامية ووسعوها، وبعبارة أُخرى: إنّهم اكتسبوا علومهم الإِسلامية من صحابة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن مفهوم الآية ـ كما قلنا قبل قليل ـ من الناحية اللغوية وإلاّ ينحصر بهذه المجموعة ولا يختص بها، بل يشمل كل الفئات والمجموعات التي اتبعت برامج وأهداف الطلائع الإِسلامية والسابقون إِلى الإِسلام في كل عصر وزمان.

وتوضيح ذلك أنّه على خلاف ما يعتقده البعض من أن الهجرة والنصرة ـ اللتين هما من المفاهيم الإِسلامية البناءة ـ مختصتان بعصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّهما توجدان في كل عصر ـ وحتى في عصرنا الحاضر ـ ولكن بأشكال أُخرى، وعلى هذا فإنّ كل الأفراد الذين يسيرون في هذا المسير ـ مسير الهجرة والنصرة ـ يدخلون تحت هذين المفهومين.

إِذن، المهم أن نعلم أن القرآن الكريم بذكره كلمة (إِحسان) يؤكّد على أن اتباع خط السابقين إِلى الإِسلام، والسير في طريقهم يجب أن لا يبقى في حدود الكلام والإدعاء، بل وحتى مجرّد الإِيمان الخالي من العمل، بل يجب أن تكون هذه المتابعة أو الإِتباعاً إتباعاً فكرياً وعملياً وفي كل الجوانب.

[186]

3 ـ من هو أوّل من أسلم؟

إنّ أكثر المفسّرين يطرح هنا سؤالا ـ لمناسبة بحث الآية ـ وهو: من هو أوّل من أسلم، وثبت هذا الإفتخار العظيم باسمه في التاريخ؟

وفي جواب هذا السؤال، فقد قالوا بالإجماع، إنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة زوجة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الوفية المضحية. وأمّا من الرجال فكل علماء الشيعة ومفسريهم، وفريق كبير من أهل السنة قالوا: إنّ عليّاً(عليه السلام) أوّل من أسلم ولبّى دعوة النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

إنّ اشتهار هذا الموضوع بين علماء أهل السنة بلغ حداً إدّعى جماعة منهم الإجماع عليه واتفقوا على ذلك. ومن جملة هؤلاء الحاكم النيسابوري في (المستدرك على الصحيحين) وفي كتاب (المعرفة)، فإنّه يقول في ص 22: لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أوّلهم إِسلاماً، وإنّما اختلفوا في بلوغه(1).

وكتب ابن عبد البر في (الإِستيعاب) ج2، ص 457: اتفقوا على أنّ خديجة أوّل من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به، من علي بعدها(2).

وكتب أبو جعفر الإسكافي: قد روى الناس كافة افتخار علي بالسبق إِلى الإِسلام.(3)

وبعد هذا، فإنّ الرّوايات الكثيرة التي نقلت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن علي(عليه السلام) نفسه، والصحابة ـ في هذا الباب بلغت حد التواتر، وكنموذج لها نورد هنا بعض الأحاديث:

1 ـ قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «أوّلكم وروداً على الحوض أوّلكم إِسلاماً، علي بن أبي

____________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 5، ص 3075.

(2) ـ الغدير، ج 3، ص 238 و 237.

(3) المصدر السّابق.

[187]

طالب(عليه السلام)».(1)

2 ـ نقل جماعة من علماء أهل السنة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه أخذ بيد علي(عليه السلام) وقال: «إنّ هذا أوّل من آمن بي، وهذا أوّل من يصافحني، وهذا الصديق الأكبر».(2)

3 ـ نقل أبو سعيد الخدري عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه وضع يده بين كتفي علي(عليه السلام) وقال: «يا علي، لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة: أنت أوّل المؤمنين بالله إِيماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله...»(3)

وكما أشرنا سابقاً، فإنّ عشرات الرّوايات في مختلف كتب التأريخ والتّفسير والحديث قد نقلت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وآخرين في هذا الباب، ومن أراد مزيد الإطلاع فليراجع الجزء الثّالث من الغدير ص 220 ـ 240، وكتاب إحقاق الحق الجزء 3 ص 114 ـ 120.

وهنا التفاتة لطيفة، وهي أنّ جماعة لما لم يستطيعوا إنكار سبق علي(عليه السلام) في الإِيمان والإِسلام سعوا إلى إنكار ذلك بأساليب أخر، أو التقليل من أهمية هذا الموضوع، والبعض يحاول أن يجعل أبا بكر مكان علي(عليه السلام)، ويدعي أنّه أول من أسلم.

فهم يقولون تارةً إنّ عليّاً(عليه السلام) في ذلك الوقت كان في العاشرة من عمره، وهو غير بالغ طبعاً، وعلى هذا فإن إِسلامه يعني إِسلام صبي، ومثل هذا الإِسلام لم يكن له تأثير في تقوية جبهة المسلمين وزيادة اقتدارهم في مقابل الأعداء (هذا القول ذكره الفخرالرازي في تفسيره في ذيل الآية).

وهذا عجيب حقّاً، وهو في الحقيقة إيراد واعتراض على شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)،

____________________________

(1) الحديث أعلاه ـ حسب نقل الغدير ـ جاء في مستدرك الحاكم، ج 2، ص 136، والإستيعاب، ج2، ص 457، وشرح ابن أبي الحديد، ج3، ص 258.

(2) في المصدر السابق إنّ هذا الحديث قد نقل عن الطبراني، والبيهقي، والميثمي في المجتمع، والحافظ الكنجي في الكفاية، والإِكمال، وكنز العمال.

(3) هذا الحديث ـ حسب نقل الغدير ـ قد نقل في كتاب حلية الأولياء، ج 1، ص 66.

[188]

لأنا نعلم أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد عرض الإِسلام على عشيرته وقومه يوم الدار، ولم يقبله إلاّ عليّ(عليه السلام) حين قام وأعلن اسلامه، فقبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إسلامه، بل وخاطبه بأنّك: أخي ووصي وخليفتي.

إنّ هذا الحديث الذي نقله جماعة من حفاظ الحديث، من الشيعة والسنة، في كتب الصحاح والمسانيد، وكذلك جمع من مؤرخي الإِسلام، واستندوا عليه، يبيّن أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مضافاً إِلى قبوله إِسلام علي(عليه السلام) في ذلك السن الصغير، فإنّه عرفه للحاضرين ـ وللناس فيما بعد ـ بأنّه أخوه ووصيه وخليفته(1).

ويعبرون تارة أُخرى بأنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة، ومن الرجال أبوبكر، ومن الصبيان علي(عليه السلام)، وأرادوا بهذا التعبير أن يقللوا من أهمية إسلام علي(عليه السلام). (ذكر هذا التعبير المفسّر المعروف والمتعصّب صاحب المنار في ذيل الآية المبحوثة).

إلاّ أنّ أوّلا: كما قلنا، إِنّ سن علي(عليه السلام) الصغير في ذلك اليوم لا يقدح في أهمية الأمر بأي وجه، ولا يقلل من شأنه، خاصّة وأن القرآن الكريم قال في شأن يحيى: (وآتيناه الحكم صبياً)(2)، وكذلك نقرأ ما قاله في شأن عيسى(عليه السلام) من أنّه تكلم وهو في المهد، وخاطب أُولئك الذين وقعوا في حيرة وشك من أمره وقال: (إِني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيّا)(3).

إنّنا إِذا ما ضممنا مثل هذه الآيات إِلى الحديث الذي نقلناه آنفاً من أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)جعل عليّاً(عليه السلام) وصيه وخليفته اتّضح أن كلام صاحب المنار لم يصدر إلاّ عن تعصب مقيت.

____________________________

(1) هذا الحديث نقل بعبارات مختلفة، وما أوردناه أعلاه هو ما نقله أبو جعفر الإِسكافي في كتاب (نهج العثمانية)، وبرهان الدين في (أنباء نجباء الأبناء)، وابن الأثير في (الكامل)، وآخرون. لمزيد الإِطلاع والإِستيضاح راجع الجزء الثّاني من الغدير، ص 278 ـ 286.

(2) مريم، 12.

(3) مريم، 30.

[189]

ثانياً: إِنّ من غير المسلم تاريخياً أنّ أبابكر هو ثالث من أسلم، بل ذكروا في كثير من كتب التاريخ والحديث جماعة أُخرى أسلمت قبله.

وننهي هذا البحث بذكر هذا المطلب، وهو أنّ علياً(عليه السلام) أشار مراراً وتكراراً في خطبه إِلى أنّه أوّل من أسلم، وأوّل من آمن، وأوّل من صلّى مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبيّن موقعه من الإِسلام، وهذه المسألة قد نقلت عنه في كثير من الكتب.

إِضافة إِلى أنّ ابن أبي الحديد نقل عن العالم المعروف أبي جعفر الإِسكافي المعتزلي، أن البعض يقول: إِذا كان أبو بكر قد سبق إِلى الإِسلام، فلماذا لم يستدل لنفسه بذلك في أي موقف؟ بل ولم يدّع ذلك أي أحد من مواليه من الصحابة.(1)

4 ـ هل كان الصحابة كلهم صالحين؟

لقد أشرنا سابقاً إِلى هذا الموضوع، وإِلى أنّ علماء أهل السنة يعتقدون ـ عادة ـ بأن جميع أصحاب النّبي فاضلون وصالحون ومن أهل الجنّة. ولمناسبة الآية لهذا البحث، والتي جعلها البعض دليلا قاطعاً على هذا المُدعى، فإنّنا هنا نحلّل ونفصل هذا الموضوع المهم الذي يعتبر أساساً ومنبعاً لإختلاف كثيرة أُخرى في المسائل الإِسلامية.

إِنّ كثيراً من مفسّري أهل السنة نقلوا حديثاً في ذيل هذه الآية، وهو أن حميد بن زياد قال: ذهبت إِلى محمّد بن كعب القرظي وقلت له: ما تقول في أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: جميع أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنّة، محسنهم ومسيئهم ! فقلت: من أين قلت هذا؟ فقال: إقرأ هذه الآية: (والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار) إلى قوله تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ثمّ قال: لكن قد اشترط في التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمال الخير (ففي هذه الصورة فقط هم من

____________________________

(1) الغدير، ج3، ص 240.

[190]

الناجين، أمّا الصحابة فلم يشترط عليهم هذا الشرط)(1).

إلاّ أنّ هذا الإِدعاء لا يمكن قبوله، وهو مردود بأدلة كثيرة:

أوّلا: إِن الحكم المذكور في الآية يشمل التابعين أيضاً، والمقصود من التابعين ـ كما أشرنا سابقاً ـ كل الذين يتبعون المهاجرين والأنصار السابقين في معتقداتهم وأهدافهم وبرامجهم، وعلى هذا فإنّ كل الأُمّة بدون استثناء ناجية.

وأمّا ما ورد في حديث محمّد بن كعب، من أنّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر قيد الإحسان في التابعين، أي أتباع الصحابة في أعمالهم الحسنة، لا في ذنوبهم، فهو أعجب البحوث وأغربها، لأنّ مفهوم ذلك إِضافة الفرع إِلى الأصل، فعندما يكون شرط نجاة التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمالهم الحسنة، فاشتراط هذا الشرط على الصحابة أنفسهم يكون بطريق أولى.

وبتعبير آخر فإنّ الله تعالى يبيّن في الآية أن رضاه يشمل كل المهاجرين والأنصار السابقين الذين كانت لهم برامج وأهداف صالحة، وكل التابعين لهم، لا أنّه قد رضي عن المهاجرين والأنصار، الصالح منهم والطالح، أمّا التابعون فإنّه يرضى عنهم بشرط.

ثانياً: إنّ هذا الموضوع لا يناسب الدليل العقلي بأي وجه من الوجوه، لأنّ العقل لا يعطي أي امتياز لأصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فما الفرق بين أبي جهل وأمثاله، وبين من آمنوا أوّلا ثمّ انحرفوا عن الدين؟

ولماذا لا تشمل رحمة الباري والرضوان الإلهي الاشخاص الذين جاؤوا بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بسنوات وقرون، ولم تكن تضحياتهم وجهادهم أقل ممّا عمله أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل قد امتازوا بأنهم لم يروا نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنّهم عرفوه وآمنوا به؟

إنّ القرآن الذي يقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) كيف يرضى هذا التبعيض والتفرقة غير المنطقية؟

____________________________

(1) تفسير المنار، وتفسير الفخر الرازي في ذيل الآية أعلاه.

[191]

إنّ القرآن الذي يلعن الظالمين والفاسقين في آياته المختلفة، ويعدهم ممّن استوجب العقاب والعذاب الإِلهي، كيف يوافق ويقرّ هذه الصيانة غير المنطقية للصحابة في مقابل الجزاء الإِلهي؟!

هل إنّ مثل هذه اللعنات والتهديدات القرآنية قابلة للإِستثناء، وأن يخرج من دائرتها قوم معينون؟ لماذا ولأجل أي شي؟!

وإذا تجاوزنا عن كل ذلك، ألا يعتبر مثل هذا الحكم بمثابة إِعطاء الضوء الأخضر للصحابة ليرتكبوا من الذنب والجريمة ما يحلو لهم؟

ثالثاً: إِنّ هذا الحكم لا يناسب المتون التأريخية الإِسلامية، لأنّ كثيراً ممّن كان في صفوف المهاجرين والأنصار قد انحرف عن طريق الحق، وتعرض لغضب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الملازم لغضب الله عزَّوجلّ. ألم نقرأ في الآيات السابقة قصّة ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وكيف انحرف وأصبح مورد لعنة وغضب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

ونقول بصورة أوضح: إِذا كان مقصود هؤلاء أنّ أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرتكبوا أي معصية، وكانوا معصومين، فهذا من قبيل إنكار البديهيات.

وإن كان مقصودهم أنّ هؤلاء قد ارتكبوا المعاصي، وعملوا المخالفات، إلاّ أنّ الله تعالى راض عنهم رغم ذلك، فإنّ معنى ذلك أن الله سبحانه قد رضي بالمعصية!

من يستطيع أن يبرىء ساحة طلحة والزبير اللذين كانا في البداية من خواص أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك عائشة زوجة النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من دماء سبعة عشر ألف مسلم أريقت دماؤهم في حرب الجمل؟ هل أنّ الله عزَّوجَلّ كان راضياً عن إِراقة هذه الدماء؟!

هل إنّ مخالفة علي(عليه السلام) خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ الذي إِذا لم نقبل النّص على خلافته فرضاً، فعلى الأَقل كان قد انتخب بإجماع الأُمّة ـ وشهر السلاح بوجهه وبوجه أصحابه الأوفياء شيء يرضى الله عنه؟

في الحقيقة، إنّ أنصار نظرية (تنزيه الصحابة) بإصرارهم على هذا المطلب

[192]

والمبحث قد شوهوا صورة الإسلام الطاهر الذي جعل الإِيمان والعمل الصالح هو المعيار والأساس الذي يستند عليه في تقييم الأشخاص في كل المجالات وعلى أي الأحوال.

وآخر الكلام إن رضى الله سبحانه وتعالى في الآية التي نبحثها قد اتخذ عنواناً كلياً، وهو الهجرة والنصرة والإِيمان والعمل الصالح، وكل الصحابة والتابعين تشملهم رحمة الله ورضاه ما داموا داخلين تحت هذه العناوين، فإذا خرجوا منها خرجوا بذلك عن رضى الله تعالى.

ممّا قلنا يتّضح بصورة جلية أنّ قول المفسّر العالم ـ لكنّه متعصب ـ أي صاحب المنار، الذي يشن هنا هجوماً عنيفاً وتقريعاً لاذعاً على الشيعة لعدم اعتقادهم بنزاهة الصحابة جميعاً، لا قيمة له، إذ الشيعة لا ذنب لهم إلاّ أنّهم قبلوا حكم العقل وشهادة التاريخ، وشواهد القرآن وأدلّته التي وردت في هذه المسألة، ولم يعتبروا الإِمتيازات الواهية، والأوسمة التي أعطاها المتعصبون للصحابة بدون استحقاق.

* * *

[193]

الآية

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الاَْعْرابِ مُنَـفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَاب عَظِيم (101)

التّفسير

مرّة أُخرى يدير القرآن المجيد دفة البحث إِلى أعمال المنافقين وفئاتهم، فيقول: (وممن حولكم من الأعراب منافقون) أي يجب أن لا تركزوا اهتمامكم على المنافقين الموجودين داخل المدينة، بل ينبغي أن تأخذوا بنظر الإِعتبار المنافقين المتواجدين في أطراف المدينة، وتحذروهم، وتراقبوا أعمالهم ونشاطاتهم الخطرة. وكلمة (أعراب) كما أشرنا تقال عادة لسكان البادية.

ثمّ تضيف الآية بأنّ في المدينة نفسها قسماً من أهلها قد وصلوا في النفاق إِلى أقصى درجاته، وثبتوا عليه، وأصبحوا ذوي خبرة في النفاق: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق).

(مردوا) مأخوذة من مادة (مرد) بمعنى الطغيان والعصيان والتمرد المطلق، وهي في الأصل بمعنى التعري والتجرّد، ولهذا يقال لمن لم ينبت الشعر في وجهه:

[194]

(أمرد)، وشجرة مرداء، أي خالية من أي ورقة، والمارد هو الشخص العاصي الذي خرج على القانون وعصاه كلية.

وقال بعض المفسّرين وأهل اللغة: إِنّ هذه المادة تأتي بمعنى (التمرين) أيضاً. (ذكر في تاج العروس والقاموس أن التمرين واحد من معاني هذه الكلمة). وربّما كان ذلك، لأنّ التجرد المطلق من الشيء، والخروج الكامل من هيمنته لا يمكن تحققه بدون تمرين وممارسة.

على كل حال، فإنّ هؤلاء المنافقين قد انسلخوا من الحق والحقيقة، وتسلطوا على أعمال النفاق إِلى درجة أنّهم كانوا يستطيعون أن يظهروا في مصاف المؤمنين الحقيقين، دون أن ينتبه أحد إِلى حقيقتهم ومراوغتهم.

إنّ هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية يلاحظ جلياً، وربّما كان ذلك إِشارة إِلى أنّ المنافقين الداخليين أكثر تسلطاً على النفاق، وبالتالي فهم أشد خطراً، فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقّة، لكن يجب أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين، بل يراقبونهم أيضاً. لذلك تقول الآية مباشرة بعد ذلك (لا تعلمهم نحن نعلمهم) ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة العلم الطبيعي للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملا على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإِلهي.

وفي النهاية تبيّن الآية صورة العذاب الذي سيصب هؤلاء: (سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردون إِلى عذاب عظيم).

لا شك أنّ العذاب العظيم إِشارة إلى عذاب يوم القيامة، إلاّ أنّ بين المفسّرين نقاشاً واحتمالات عديدة في نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما. إلاّ أنّ الذي يرجحه النظر أن واحداً من هذين العذابين هو العقاب الإِجتماعي لهؤلاء، والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم، والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا، وهذا يستتبع خسرانهم لكل وجودهم الإِجتماعي، والدليل على ذلك ما

[195]

قرأناه في الآيات السابقة، وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ أعمال هؤلاء عندما كانت تبلغ حد الخطر، كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف هؤلاء الناس بأسمائهم وصفاتهم، بل وربّما طردهم من المسجد.

والعذاب الثّاني هو ما أشارت إِليه الآية (50) من سورة الأنفال، حيث تقول هناك: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم).

ويحتمل أيضاً أن يكون العذاب الثّاني إشارة إلى المعاناة النفسية والعذاب الروحي الذي كان يعيشه هؤلاء نتيجة انتصارات المسلمين في كل الجوانب والأبعاد والمجالات.

* * *

[196]

الآية

وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صلِحَاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102)

سبب النّزول

نقلت روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية، ونواجه في أكثرها اسم (أبي لبابة الأنصاري) فهو ـ حسب رواية ـ قد امتنع مع اثنين ـ أو أكثر ـ من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من الإِشتراك في غزوة تبوك، لكنّهم لما سمعوا الآيات التي نزلت في ذم المتخلفين ندموا أشدّ الندم، فجاؤوا إِلى مسجد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وربطوا أنفسهم بأعمدته، فلمّا رجع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبلغه أمرهم قالوا بأنهم أقسموا أن لا يفكوا رباطهم حتى يفكّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأجابهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه يقسم أيضاً أن لا يفعل ذلك حتى يأذن له الله، فنزلت الآية، وقبل الله توبتهم، ففكّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)رباطهم.

فأراد هؤلاء أن يشكروا ذلك، فقدموا كل أموالهم بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالوا: إِنّ هذه الأموال هي التي صرفتنا ومنعتنا عن الجهاد، فاقبلها منّا، وأنفقها في سبيل الله، فأخبرهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه لم ينزل عليه شيء في هذا. فلم تمض مدّة

[197]

حتى نزلت الآية التي تلي هذه الآية، وأمرت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأخذ قسماً من أموال هؤلاء، وحسب بعض الرّوايات فإنّه قبل ثلثها.

ونقرأ في بعض الرّوايات، أن هذه الآية قد نزلت في قصّة بني قريظة مع أبي لبابة، فإن بني قريظة قد استشاروا أبا لبابة في أن يسلّموا لحكم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأوامره، فأشار إِليهم بأنّهم إن سلّموا له فسيقتلهم جميعاً، ثمّ ندم على ما صدر، فتاب وشدّ نفسه بعمود المسجد، فنزلت الآية، وقبل الله تعالى توبته(1).

التّفسير

التّوابون:

بعد أن أشارت الآية السابقة إِلى وضع المنافقين في داخل المدينة وخارجها، أشارت هذه الآية هنا إِلى وضع جمع من المسلمين العاصين الذين أقدموا على التوبة لجبران الأعمال السيئة التي صدرت منهم، ورجاء لمحوها: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم)ويشملهم برحمته الواسعة فـ (إنّ الله غفور رحيم).

إنّ التعبير بـ (عسى) في الآية، والتي تستعمل في الموارد التي يتساوى فيها احتمال الفوز وعدمه، أو تحقق الأمل وعدمه، ربّما كان ذلك كيما يعيش هؤلاء حالة الخوف والرجاء، وهما وسيلتان مهمتان للتكامل والتربية.

ويحتمل أيضاً أنّ التعبير بـ (عسى) إِشارة إِلى وجوب الإِلتزام بشروط أُخرى في المستقبل، مضافاً إِلى الندم على ما مضى والتوبة منه وعدم الإِكتفاء بذلك بل يجب أن تجبر الأعمال السيئة التي ارتكبت فيما مضى بالأعمال الصالحة مستقبلا.

إِلاّ أنّنا إِذا لاحظنا أن الآية تُختم ببيان المغفرة والرحمة الإِلهية، فإن جانب

____________________________

(1) مجمع البيان في ذيل الآية، وتفاسير أُخرى.

[198]

الأمل والرجاء هو الذي يرجح.

وهناك ملاحظة واضحة أيضاً، وهي أن نزول الآية في أبي لبابة، أو سائر المتخلفين عن غزوة تبوك لا يخصص المفهوم الواسع لهذه الآية، بل إنّها تشمل كل الأفراد الذين خلطوا الأعمال الصالحة الحسنة بالسيئة، وندموا على أعمالهم السيئة.

ولهذا نقل عن بعض العلماء قولهم: إِنّ هذه الآية أرجى آيات القرآن الكريم، لأنّها فتحت الأبواب أمام المذنبين العاصين، ودعت التّوابين إِلى الله الغفور الرحيم.

* * *

[199]

الآيات

خُذْ مِنْ أمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيِهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتَرَدُّونَ إِلَى عَـلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهـدَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

التّفسير

الزّكاة مطهرة للفرد والمجتمع:

في الآية الأُولى من هذه الآيات إِشارة إِلى أحد الأحكام الإِسلامية المهمّة، وهي مسألة الزكاة، حيث تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل عام أن (خذ من أموالهم صدقة).

إنّ كلمة (من) التبعيضية توضح أنّ الزكاة تشكل ـ دائماً ـ جزءاً من الأموال، لا أنّها تستوعب جميع الأموال، أو الجزء الأكبر منها.

ثمّ تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والإِجتماعية للزكاة، حيث تقول: (تطهّرهم وتزكيهم بها) فهي تطهرهم من الرّذائل الأخلاقية، ومن حبّ الدنيا

[200]

وعبادتها، ومن البخل وغيره من مساوىء الأخلاق، وتزرع مكانها خلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم. وفوق كل ذلك فإنّ المفاسد الإِجتماعية والإنحطاط الخلقي والإِجتماعي المتولّد من الفقر والتفاوت الطبقي والذي يؤدي إِلى وجود طبقة محرومة، كل هذه الأُمور ستقتلع بتطبيق هذه الفريضة الإِلهية وأدائها، وهي التي تطهر المجتمع من التلوث الذي يعيشه ويحيط به، وكذلك سيفعّل التكافل الإِجتماعي، وينمو ويتطور الإِقتصاد في ظل مثل هذه البرامج.

وعلى هذا فإنّ حكم الزكاة مطهر للفرد والمجتمع من جهة ويكرّس الفضيلة في النفوس من جهة أُخرى، وهو سبب في تقدم المجتمع أيضاً، ويمكن القول بأنّ هذا التعبير أبلغ مايمكن قوله في الزكاة، فهي تزيل الشوائب من جهة، ووسيلة للتكامل من جانب آخر.

ويحتمل أيضاً في معنى هذه الآية أن يكون فاعل (تطهّرهم) هو الزكاة، وفاعل (تزكيهم) (النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم))، وعلى هذا سيكون معنى هذه الآية هو: إنّ الزكاة تطهرهم، وإن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يربيهم ويزكيهم.

إِلاّ أنّ الأظهر أنّ الفاعل في كلا الفعلين هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما شرحنا وبيّنا ذلك في البداية، رغم أنّه ليس هناك فرق كبير في النتيجة.

ثمّ تضيف الآية في خطابها للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم (وصلّ عليهم). إِنّ هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم، حتى إِذا كان مايؤدونه واجباً عليهم وحكماً شرعياً يقومون به، وترغيبهم بكل الطرق، وخاصّة المعنوية والنفسية، ولهذا ورد في الرّوايات أنّ الناس عندما كانوا يأتون بالزكاة إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو لهم يقول: «اللهم صل عليهم».

ثمّ تقول الآية: (إنّ صلاتك سكن لهم) لأنّ من بركات هذا الدعاء أن تنزل الرحمة الإِلهية عليهم، وتغمر قلوبهم ونفوسهم الى درجة أنّهم كانوا يحسون بها.

[201]

مضافاً إِلى ثناء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحدّ ذاته يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم، بحيث يشعرون بأنّهم إِن فقدوا شيئاً بحسب الظاهر، فإنّهم قد حصلوا ـ قطعاً ـ على ما هو أفضل منه.

اللطيف في الأمر، أنّنا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب مأمورين بشكر الناس وتقديرهم، إلاّ أنّ هذا الحكم الذي شُرع كحكم مستحب في الأوامر والأحكام الإِسلامية يعكس عمق الجانب الإِنساني في هذه الأحكام.

وفي نهاية الآية نقرأ: (والله سميع عليم) وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية، إذ أن الله سبحانه يسمع دعاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومطلع على نيّات المؤدين للزّكاة.

* * *

ملاحظات

1 ـ يتّضح من سبب النزول المذكور لهذه الآية، أنّ هذه الآية ترتبط بالآية التي سبقتها في موضوع توبة أبي لبابة ورفاقه، لأنّهم ـ وكشكر منهم لقبول توبتهم ـ أتوا بأموالهم ووضعوها بين يدي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليصرفها في سبيل الله، إلاّ أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) اكتفى بأخذ قسم منها فقط.

إِلاّ أنّ سبب النزول هذا لا ينافي ـ مطلقاً ـ أن هذه الآية بيّنت حكماً كلياً عاماً في الزكاة، ولا يصحّ ما طرحه بعض المفسّرين من التضاد بين سبب نزولها وما بينته من حكم كلي، كما قلنا ذلك مكرراً في سائر آيات القرآن وأسباب نزولها.

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا، هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ حسب رواية ـ قد قبل ثلث أموال أبي لبابة وأصحابه، في الوقت الذي لا يبلغ مقدار الزكاة الثلث في أي مورد، ففي الحنطة والشعير والتمر والزبيب العشر أحياناً، وأحياناً جزء من عشرين جزءاً، وفي الذهب والفضة (5، 2%)، وفي الأنعام (البقر والغنم والإِبل) لا

[202]

يصل إِلى الثلث مطلقاً.

لكن يمكن الإِجابة على هذا السؤال بأنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخذ قسماً من أموالهم بعنوان الزكاة، والمقدار الإِضافي الذي يكمل الثلث بعنوان الكفّارة عن ذنوبهم، وعلى هذا فإنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخذ الزكاة الواجبة عليهم، ومقداراً آخر لتطهيرهم من ذنوبهم وتكفيرها فكان المجموع هو الثلث.

2 ـ إنّ حكم (خذ) دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإِسلامية يستطيع أن يأخذ الزكاة من الناس، لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة، وإلاّ فلا.

3 ـ إِنَّ جملة (صلّ عليهم) وإن كانت خطاباً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه من المسلّم أنّها في معرض بيان حكم كلّي ـ لأنّ القانون الكلّي يعني أن الأحكام الإِسلامية تجري على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وباقي المسلمين على السواء، ومختصات النّبي من جانب الأحكام يجب أن تثبت بدليل خاصّ ـ وعلى هذا فإنّ المسؤولين عن بيت المال في كلّ عصر وزمان يستطيعون أن يدعوا لمؤدي الزكاة بجملة: «اللّهم صلّ عليهم».

وممّا يثير العجب أنّ بعض المتعصبين من العامّة لم يجوز الصلاة مستقلة على آل الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي أنّ شخصاً لو قال: (اللّهمَّ صلِّ على عليّ أمير المؤمنين) أو: (صلِّ على فاطمة الزَّهراء) فإِنَّهم اعتبروا ذلك ممنوعاً وحراماً! في الوقت الذي نعلم أنّ منع مثل هذا الدعاء هو الذي يحتاج إِلى دليل، لا جوازه!

إِضافةً إِلى أنّ القرآن الكريم ـ كما قلنا سابقاً ـ قد أجاز بصراحة مثل هذا الدعاء في حق أفراد عاديين، فكيف بأهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه؟! لكن، ماذا يمكن عمله؟ فإنّ التعصبات قد تقف أحياناً مانعة حتى من فهم آيات القرآن.

ولمّا كان بعض المذنبين ـ كالمتخلفين عن غزوة تبوك ـ يصرّون على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في قبول توبتهم، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إِلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطاً بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل بالله الغفور الرحيم، لذا قالت: (أَلَمْ يَعْلَمُوا

[203]

أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَوبَةَ عَنْ عِبادِهِ). ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول الله لها، بل إِنَّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأُخرى التي يعطيها العباد تقرباً إِليه، أو تكفيراً لذنوبهم: (ويأخذ الصدقات).

لا شكَّ في أنَّ الذي يأخذ الزكاة هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإِمام المعصوم(عليه السلام) أو خليفة المسلمين وقائدهم، أو الأفراد المستحقون، وفي كلَّ هذه الأحوال فإنّ الله تبارك وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهراً، ولكن لمّا كانت يد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والنّواب الحقيقيين يد الله سبحانه ـ لأنَّهُم خلفاء الله ووكلاؤه ـ قالت الآية: إِنَّ الله يأخذ الصدقات. وكذلك العباد المحتاجون، فإنَّهُم يأمر الله يأخذون مثل هذه المساعدات، وهم في الحقيقة وكلاء الله، وعلى هذا فإنَّ يدهم يد الله أيضاً.

إِنَّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإِسلامي ـ أي الزكاة ـ فبالرغم من ترغيب كلَّ المسلمين ودعوتهم إِلى القيام بهذه الوظيفة الإِلهية الكبيرة، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإِسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إِليه، لأنَّ من يأخذها هو الله عزَّوجَلّ، وإنَّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين، أو اعطائه الزكاة بشكل يؤدي إِلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلِّ أدب وخضوع، كما يوصل العبد شيئاً إِلى مولاه.

ففي رواية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إِلى يد السائل»(1)!

وفي حديث آخر عن الإِمام السّجاد(عليه السلام): «إِنَّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب»(2).

بل إِنّ رواية صرّحت بأنّ كلَّ أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلاّ الصدقة، فإنّها

____________________________

(1) مجمع البيان، ذيل الآية.

(2) تفسير العياشي، على ما نقل في تفسير الصافي في ذيل الآية.

[204]

تصل مباشرة إِلى يد الله سبحانه(1).

هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) بعبارات مختلفة، ونقل أيضاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق العامّة، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري: «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ـ ولا يقبل الله إلاّ الطيب ـ إلاّ أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل»(2).

إنَّ هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات، والعظيم المعنى، مؤشر ودليل على الأهمية الخاصّة للخدمات الإِنسانية ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأحكام الإِسلامية.

لقد وردت عبارات حديثية أُخرى في هذا المجال، وهي مهمّة وملفتة للنظر إِلى درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم، وكأنّ ذلك المحتاج يمن على المتصدّق ويتفضل عليه بقبول صدقته.

فمثلا نجد في بعض الأحاديث، أن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) كانوا أحياناً يقبلون الصَّدقة احتراماً وتعظيماً للصدقة، ثمّ يعطونها الفقراء، أو إِنَّهم كانوا يعطونها للفقير ثمّ يأخذونها منه يقبِّلونها ويشمّونها ثمّ يعيدونها إِليه، لماذا؟ لأنَّهم وضعوها في يدالله سبحانه!

وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإِسلامية وبين الأشخاص الذين يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشيء اليسير، أو يعاملونهم بخشونة وقسوة، بل ويرمون مساعدتهم أحياناً بلا أدب وخلق؟!

وكما قلنا في محلّة، فإنّ الإِسلام يسعى بكلِّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإِسلامي، إلاّ أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلِّ مجتمع أفراداً عاجزين أطفال،

____________________________

(1) تفسير العياشي، على ما نقل في تفسير البرهان في ذيل الآية.

(2) تفسير المنار، ج 11، ص 33. وقد نقل هذا الحديث عن طريق أهل البيت(عليهم السلام) عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أيضاً. راجع: بحارالانوار، ج 96، ص 134، الطبعة الجديدة.

[205]

يتامى، مرضى ... وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم.

ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد: (وَإِنَّ الله هُوَ التَّوّاب الرَّحِيم).

التّوبة والجبران:

يستفاد من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ التوبة لا تعني الندم على المعصية فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب، ويمكن أن يتمثل جبران هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه، كما هو في هذه الآيات، وكما مرّ في قصّة أبي لبابة.

ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنباً مالياً، أو أي ذنب آخر، كما هو الحال في قضية المتخلفين عن غزوة تبوك، فإنّ الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي تلوّثت بالمعصية من آثار هذه المعصية، وذلك بالعمل الصالح، وهذا هو الذي يُرْجِع الروح إِلى طهارتها الأُولى التي كانت عليها قبل الذنب.

وتوكّد الآية التي تليها البحوث التي مَرَّت بصورة جديدة، وتأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغ الناس: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوُلُهُ وَالمُؤْمِنُونَ) فهي تشير إِلى أن لا يتصور أحد أنّه إِذا عمل عملا، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه، بل إِنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين يعلمون به إِضافةً إِلى علم الله عزَّوجلّ.

إِنَّ الإِلتفات إِلى هذه الحقيقة والإِيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال والنيات، فإنّ الإِنسان ـ عادة ـ إِذا أحسّ بأنّ أحداً ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته، فإنَّه يحاول أن يتصرّف تصرفاً لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه، فكيف إِذا أحسّ وآمن بأنَّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟!

[206]

إِنَّ هذا الإِطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر، لذا فإِنَّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول: (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عَالَمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنُبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

* * *

ملاحظات

1 ـ مسألة عرض الأعمال

إِنّ بين أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّة(عليهم السلام)، عقيدة معروفة ومشهورة، وهي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) يطلعون على أعمال كل الأُمّة، أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصّة عليهم.

إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّاً، وربّما بلغت حدّ التواتر، وننقل هنا أقساماً منها كنماذج:

روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «تعرض الأعمال على رسول الله أعمال العباد كل صباح، أبرارها وفجارها، فاحذروها، وهو قول الله عزَّوجلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله)وسكت(1).

وفي حديث آخر عن الإِمام الباقر(عليه السلام): «إِنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كل عشية الخميس، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح»(2).

وفي رواية أُخرى عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، أنّ شخصاً قال له: ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: «أولست أفعل؟ والله أنّ أعمالكم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة». يقول الراوي، فاستعظمت ذلك، فقال لي، «أمّا تقرأ كتاب الله عزَّوجَلّ: (وقل

____________________________

(1) أصول الكافي، ج1، ص 171، باب عرض الأعمال.

(2) تفسير البرهان، ج2، ص 158.

[207]

اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، هو والله علي بن أبي طالب»(1).

إِنّ بعض هذه الأخبار ورد فيها ذكر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، وفي بعضها علي(عليه السلام)، وفي بعضها الآخر ذكر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام)، كما أنّ بعضها قد خص وقت عرض الأعمال بعصر الخميس، وبعضها جعله كل يوم، وبعضها في الأسبوع مرّتين، وبعضها في أوّل كل شهر، وبعضها عند الموت والوضع في القبر.

ومن الواضح أنّ لا منافاة بين هذه الرّوايات، ويمكن أن تكون كلّها صحيحة، تماماً كما هو الحال في دستور عمل المؤسسات الخيرية، فالمحصلة اليومية تعرض في نهاية كل يوم، والأسبوعية منها في نهاية كل أسبوع، والشهرية أو السنوية في نهاية الشهر أو السنة على المسؤولين في المراتب العليا.

وهنا يطرح سؤال، وهو: هل يمكن استفادة هذا الموضوع من نفس الآية مع غضّ النظر عن الرّوايات التي وردت في تفسيرها؟ أم أنّ الأمر كما قاله مفسّرو العامّة، وهو أنّ الآية تشير إِلى أمر طبيعي، وهو أنّ الإِنسان إِذا عمل أي عمل، فإنّه سيظهر، شاء أم أبي، ومضافاً إِلى علم الله سبحانه، فإنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين سيطلعون على ذلك العمل بالطرق الطبيعة؟

وفي الجواب عن هذا السؤال يجب أن يقال: الحق أنّ لدنيا شواهد على هذا الموضوع من نفس الآية، وذلك:

أوّلا: إِنّ الآية مطلقة، وهي تشمل جميع الأعمال، فإنّا نعلم أن جميع الأعمال لا يمكن أن تتّضح للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بالطرق العادية الطبيعية، لأنّ أكثر المعاصي ترتكب في السر، وتبقى مستترة عن الأنظار والعلم غالباً، بل إنّ الكثير من أعمال الخير أيضاً تُعمل في السرّ، ويلفها الكتمان. ودعوى أن كل الأعمال، الصالحة منها والطالحة، أو أغلبها تتّضح للجميع واضحة والبطلان وبعيدة كل البعد عن المنطق والحكمة. وعلى هذا فإنّ علم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بأعمال الناس يجب أن يكون

____________________________

(1) أصول الكافي، ج1، ص 171، باب عرض الأعمال.

[208]

عن طريق غير طبيعي، بل عن طريق التعليم الإِلهي.

ثانياً: إِنّ آخر الآية يقول: (فينبئكم بما كنتم تعملون) ولا شك أنّ هذه الجملة تشمل كل أعمال البشر ـ العلنية منها والمخفية ـ وظاهر تعبير الآية أنّ المقصود من العمل الوارد في أولها وآخرها واحد، وعلى هذا فإن أول الآية يشمل أيضاً كل الأعمال ـ الظاهرة منها والباطنة ـ ولا شك أنّ الوقوف عليها كاملا لا يمكن بالطرق المعروفة الطبيعية.

وبتعبير آخر، فإنّ نهاية الآية تتحدث عن جزاء جميع الأعمال، وكذلك تبحث بداية الآية علم الله ورسوله والمؤمنين بكل الأعمال، فهنا مرحلتان: إِحداهما: مرحلة الإِطلاع والعلم، والأُخرى: مرحلة الجزاء، والموضوع واحد في المرحلتين.

ثالثاً: إِنّ ضميمة المؤمنين في الآية إِلى الله ورسوله يصح في صورة يكون المقصود فيها كل الأعمال وبطرق غير الطبيعية، وإِلاّ فإنّ الأعمال العلنية يراها المؤمنون وغير المؤمنين على السواء، ومن هنا تتّضح مسألة أُخرى بصورة ضمنية، وهي أنّ المقصود من المؤمنين في الآية ـ كما ورد في الرّوايات الكثيرة أيضاً ـ ليس جميع المؤمنين، بل فئة خاصّة منهم، وهم الذين يطلعون على الأسرار الغيبية بإذن الله تعالى، ونعني بهم خلفاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الحقيقيين.

والمسألة الأُخرى التي يجب الإِنتباه لها هنا، وهي ـ كما أشرنا سابقاً ـ أنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها، فإنّي إِذا علمت أنّ الله الموجود في كل مكان معي، وبالإِضافة إِلى ذلك فإنّ نبيي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّتي(عليهم السلام)يطلعون على كل أعمالي، الحسنة والسيئة في يوم كل يوم، أو في كل أسبوع، فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن، تماماً كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأنّ تقريراً يومياً أو أسبوعياً، تسجل فيه جزئيات أعمالهم، يُرفع إِلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم.

[209]

2 ـ هل الرّؤية هنا تعني النظر؟

المعروف بين جميع من المفسّرين أنّ الرؤية الواردة في قوله تعالى: (فسيرى الله عملكم...) تعني المعرفة، لا العلم، لأنّها لم تأخذ أكثر من مفعول واحد ولو كانت الرؤية بمعنى العلم لأخذت مفعولين.

لكن لا مانع أن تكون الرؤية بمعناها الأصلي، وهو مشاهدة المحسوسات، لا بمعنى العلم، ولا بمعنى المعرفة، فإنّ هذا الموضوع بالنسبة إِلى الله سبحانه وتعالى الموجود في كل مكان، والمحيط بكل المحسوسات لا مناقشة فيه.

وأمّا بالنسبة للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام)، فلا مانع من ذلك أيضاً، حيث أنّهم يرون نفس الأعمال عند عرضها، لأنّا نعلم أنّ أعمال الإِنسان لا تفنى، بل تبقى إِلى يوم القيامة.

3 ـ لا شك أنّ الله عزَّوجَلّ يعلم بالأعمال قبل وقوعها، والذي في جملة: (فسيرى الله) إِشارة إِلى تلك الأعمال بعد تحققها في عالم الوجود.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21400682

  • التاريخ : 19/04/2024 - 00:43

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net