00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الرعد من أول السورة ـ آية 15 من ( ص 327 ـ 365 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[327]

                                سورة الرعد

 

الآيات

المر تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَبِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَوَتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَل مُّسَمّىً يُدَبِّرُ الاَْمْرَ يُفَصِّلُ الاَْيَتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاَْرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَسِىَ وَأَنْهَراً وَمِن كُلِّ الَّثمَرَتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَت لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِى الاَْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَوِرَتٌ وَجَنَّتٌ مِّنْ أَعْنَب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاء وَحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِى الاُْكُلِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ (4)

التّفسير

آيات الله في السّماء والأرض وعالم النّبات:

مرّةً أُخرى نواجه الحروف المقطّعة في بداية هذه السورة، والتي وردت في

[328]

(29) سورة أُخرى، ولكن الحروف المقطّعة المذكورة هنا تتكوّن من (الم) التي وردت في بداية عدّة سور، و (الر) والتي وردت في بداية سور أُخرى، وفي الواقع إنّ هذه السورة تنفرد عن غيرها من السور بـ(المر).

ومن المعتقد في تفسير الحروف المقطّعة أنّ لها إرتباطاً مباشراً بمعاني نفس السورة، فمن المحتمل أنّ هذا التركيب في بداية سورة الرعد يشير إلى جمعها لمحتوى مجموعتين من السور التي تبتدىء بـ(الم) و (الر).

وإذا ما أمعنا النظر في محتوى هذه السور نجدها مطابقة لما قلناه، وبخصوص تفسير الحروف المقطّعة كانت لنا شروح مفصّلة عنها في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف فلا ضرورة في التكرار.

وعلى أيّة حال فالآية الأُولى من هذه السورة تتحدّث عن عظمة القرآن (تلك آيات الكتاب والذي اُنزل إليك من ربّك الحقّ)(1).

ولا يوجد أي شك أو ترديد في هذه الآيات، لأنّها تبيّن عين الحقيقة للكون ونظامه المرتبط بالإنسان. فهو حقّ لا يشوبه باطل، ولهذا السبب فإنّ علائم الحقّ واضحة فيه لا تحتاج إلى براهين (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون).

لأنّ الناس إذا ما تُركوا وشأنهم ولم يتّبعوا معلماً صادقاً يهديهم ويربيهم في حياتهم وكانوا أحراراً في أتباع أهوائهم فانّهم سوف يتيهون في الطريق ويضلّون عن الحقّ.

وأمّا إذا كان الرسل وهداة الحقّ همُ الأئمّة والقادة حيث يضع الفرد نفسه في تصرّفهم، فإنّ الأكثرية تسير في طريق الحقّ.

ثمّ تتطرّق السورة إلى شرح القسم المهمّ من أدلّة التوحيد وآيات الله في الكون، وتتجوّل بالإنسان في عرض السّماوات وتريه الكواكب العظيمة وأسرار هذا النظام وحركته، حتّى يؤمن بالقدرة المطلقة والحكمة اللامتناهية (الله الذي

_____________________________

1 ـ إستخدام تلك للبعيد ـ وكما قلنا سابقاً ـ كناية عن عظمة القرآن وإعجازه.

[329]

رفع السّماوات بغير عمد ترونها)(1).

الجملة (بغير عمد ترونها) لها تفسيران:

1 ـ فكما ترون أنّ السّماء مرفوعة بدون عمد (أي انّها في الأصل بلا عمد كما ترونها فعلا).

2 ـ والثانية إن (ترونها) صفة للعمد فيكون المعنى: إنّ السّماء مرفوعة بعمد ولكن لا ترونها لأنّها غير مرئية!

وهذا هو الذي يراه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ففي حديث رواه الحسين بن خالد قال: سألت الإمام أبا الحسن الرضا (عليه السلام): ما المقصود في قوله تعالى: (والسّماء ذات الحبك) قال: هذه السّماء لها طرق إلى الأرض، فقلت له: كيف تكون لها طرق إلى الأرض في الوقت الذي يقول سبحانه وتعالى: (رفع السّماوات بغير عمد) فأجابه الإمام: «سبحان الله، أليس الله يقول بغير عمد ترونها؟ قلت بلى، فقال: ثمّ عمد ولكن لا ترونها»(2).

إنّ هذه الآية بالرغم من وجود هذا الحديث الذي يفسّرها، فإنّها تكشف عن حقيقة علمية لم تكن معروفة عند نزول الآيات الكريمة، لأنّه في ذاك الوقت كانت نظرية «بطليموس» في الهيئة تتحكّم بكلّ قواها في المحافل العلمية في العالم وعلى أفكار الناس، وطبقاً لهذه النظرية فإنّ السّماوات عبارة عن أجرام متداخلة تشبه قشور البصل، وإنّها لم تكن معلّقة وبدون عمد، بل كلّ واحدة منها تستند إلى الأُخرى.

ولكن بعد نزول هذه الآيات بألف سنة تقريباً توصل علم الإنسان إلى أنّ هذه الفكرة غير صحيحة، فالحقيقة إنّ الأجرام السّماوية لها مقرّ ومدار ثابت، ولا

_____________________________

1 ـ (عَمد) على وزن (صَمد) «وعُمد» على وزن (زُحل) والإثنان جمع عمود، فالأوّل جمع، والثّاني اسم الجمع (مجمع البيان ذيل الآية).

2 ـ الحديث في تفسير البرهان، عن علي بن إبراهيم عن العياشي (البرهان، المجلّد الثّاني، ص278).

[330]

تستند إلى شيء، فالشيء الوحيد الذي يجعلها مستقرّة وثابتة في مكانها هو تعادل قوّة التجاذب والتنافر، فالأُولى تربط الأجرام فيما بينها، والأُخرى لها علاقة بحركتها.

هذا التعادل للقوّتين الذي يشكّل أعمدة غير مرئيّة يحفظ الأجرام السّماوية ويجعلها مستقرّة في مكانها.

وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بخصوص هذا الموضوع قال: «هذه النّجوم التي في السّماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور»(1).

وهل نجد أوضح من هذا الوصف «عمود غير مرئي» أو «عمود من نور» في أدب ذلك العصر لبيان أمواج الجاذبية وتعادل قوّتي الجذب والدفع. وللإطلاع أكثر راجع كتاب [القرآن وآخر الرسل] صفحة 166 وما بعدها.

(ثمّ إستوى على العرش) في خصوص معنى العرش والإستواء عليه هناك شرح واف عنه في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.

وبعد أن بيّن خلق السّماوات وهيمنة الخالق عليها، تحدّث عن تسخير الشمس والقمر (وسخّر الشمس والقمر).

ما أعظم هذا التسخير الذي يقع تحت إرادة ومشيئة الخالق، وفي خدمة الوجود الإنساني والكائنات الحيّة حيث يشعّ نورهما وتضيئان العالم، وتحافظان على دفء الكائنات وتساعدانها على النمو، وتخلقان ظاهرة الجزر والمدّ في البحار، وخلاصة القول إنّهما منشأ لجميع البركات، ولكن هذا النظام المادّي ليس أبديّاً، بل (كلّ يجري لأجل مسمّىً).

ثمّ يضيف بعد ذلك: إنّ هذه الحركات والتغيّرات في الأحوال ليست بدون حساب وكتاب، وبدون فائدة ونتيجة، بل (يدبّر الأمر يفصل الآيات لعلّكم بلقاء

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلّد الثّاني، ص574 نقلا من تفسير علي بن إبراهيم القمّي.

[331]

ربّكم توقنون).

وتعقيباً للآيات السابقة التي نقلت الإنسان إلى السّماء لتريه الآيات الإلهيّة هناك، تنقله الآية الثانية من آيات التوحيد إلى كتاب الكون أي الأرض والجبال والأنهار وأنواع الثمار وشروق الشمس وغروبها، حتّى يتفكّر في محلّ إستقراره في البداية ماذا كان؟ وكيف أصبح الآن بهذه الصورة؟

قوله تعالى: (وهو الذي مدّ الأرض) وبسطها بالشكل الذي تتهيّأ فيه لحياة الإنسان ونمو النباتات والحيوانات، وملأ الأودية والمنحدرات الصعبة بالتراب من خلال تفتّت الصخور الجبليّة، وجعل الأرض مسطّحة وقابلة للسكن، بعد أن كانت التضاريس مانعة من سكن الإنسان عليها.

وقد يحتمل في تفسير هذه الجملة (مدّ الأرض) الإشارة إلى ما يقوله علماء الطبيعة من أنّ الأرض كانت مغطاة بالماء. ثمّ إستقرّت المياه في الوديان ظهرت اليابسة، وبمرور الوقت اتّسعت حتّى أصبحت على ما نراه اليوم.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى ظهور الجبال (وجعل فيها رواسي) فهي تلك الجبال التي عبّرت عنها في آيات أُخرى بـ(الأوتاد) ولعلّ ذلك إشارة إلى أنّها متشابكة فيما بينها من الأسفل مثلها مثل الدرع الواقي وتغطّي سطح الأرض، فهي تبطل الضغوط الداخلية في الأسفل والضغط الخارجي المتمثّل بجاذبية القمر والمدّ والجزر. وكذلك تقضي على الإضطرابات والزلازل، وتجعل الأرض مستقرّة وساكنة وصالحة لحياة الإنسان.

إنّ ذكر القرآن الكريم الجبال بعد مدّ الأرض يُحتمل أن يكون المراد منه أنّ الأرض ليست منبسطة بشكل تامّ بحيث تنعدم فيها المرتفعات، ففي هذه الصورة لا تستقرّ فيها الأمطار والمياه، أو تتحوّل إلى مستنقعات وتجري فيها السيول وتتعرّض للطوفانات الدائمة، فخلق الجبال لتأمن البشرية من هذين الأمرين.

وليست الأرض كلّها جبالا وودياناً فتكون غير قابلة للسكن، بل تحتوي

[332]

على مناطق منبسطة ومناطق جبلية ووديان، وهذه أفضل صيغة لحياة الإنسان والكائنات الحيّة. ثمّ تضيف الآية بعد ذلك الأنهار (وأنهاراً).

رائع جدّاً نظام سقي الأرض بواسطة الجبال، وعلاقة الأنهار بالجبال، لأنّ كثيراً من الجبال تختزن المياه بشكل ثلوج على قممها وفي شقوق الوديان، ثمّ تذوب تدريجيّاً، وطبقاً لقانون الجاذبية تأخذ طريقها من المناطق المرتفعة إلى المناطق المنخفضة بدون أن تحتاج إلى قوّة أُخرى لمساعدتها، فهي تقوم بسقي كثير من المناطق وبشكل طبيعي على مدار السنة.

فلو لم يكن للأرض إنحدار كاف ولم تختزن الجبال المياه بهذا الشكل، لكان سقي كثير من المناطق اليابسة صعباً، وفي حالة الإمكان كُنّا نحتاج إلى صرف مبالغ هائلة لإيصال الماء إليها.

ثمّ يذكر القرآن بعد ذلك النباتات والأشجار التي تتكوّن من الأرض والمياه وأشعّة الشمس، والتي هي أفضل وسيلة لإمرار الإنسان بالغذاء: (ومن كلّ الثمرات جعل فيها زوجين إثنين).

والآية تشير هنا إلى أنّ الفاكهة كائنات حيّة فيها الذكر والاُنثى، وبواسطة التلقيح تتكوّن الثمار.

فإذا كان العالم السويدي «لينه» المختص بعلم النبات هو الذي توصّل إلى هذه الحقيقة في حوالي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وهي أنّ التزويج في عالم النباتات يعتبر قانوناً عامّاً تقريباً كالحيوانات ولها نُطَف ذكرية واُنثوية وأنّ الثمرة تتكوّن من التلقيح. فالقرآن الكريم قبل ألف ومائة عام من ذلك كشف لنا عن هذه الحقيقة، وهذه واحدة من معاجز القرآن العلمية التي تبيّن عظمة هذا الكتاب السّماوي الكبير.

وليس من شكّ أنّ ما قبل «لينه» كان كثير من العلماء يعتقدون بوجود الذكور والإناث في بعض الأشجار، حتّى الناس العاديين كانوا يعلمون بذلك،

[333]

ولكن لم يكن يعلم أي واحد أنّ هذا القانون عام، حتّى كشفه «لينه» ومن قبله القرآن الكريم.

وبما أنّ حياة الإنسان وكلّ الكائنات ـ وخصوصاً النباتات ـ لا يمكن لها الإستمرار إلاّ بوجود نظام دقيق للّيل والنهار، فإنّ القرآن يشير إلى ذلك في القسم الآخر من الآية (يغشي الليل النهار).

ولولا ظلمة الليل وهدوؤه، لأحرقت الشمس بنورها المستمر كلّ النباتات، ولم تبق فاكهةً ولا أي كائن حي على وجه الأرض، فسطح القمر ليس له نهار دائم ومع هذا نجد أن حتّى هذا المقدار من نهاره الذي يعادل خمسة عشر يوماً من أيّام الأرض. نرى أنّ درجة فيها مرتفعة جدّاً بحيث لو وضعنا هناك ماءاً أو أي سائل آخر فسوف يغلي ويتبخّر، ولا يمكن لأي موجود حيّ في الأرض أن يتحمّل هذه الحرارة.

وتبيّن الآية في النهاية (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) أُولئك الذين يتفكّرون في هذا النظام الرائع، في نظام النّور والظلام، وحركة الأجرام السّماوية، وتسخير الشمس والقمر وجعلها في خدمة الإنسان، وفي نظام مدّ الأرض وأسرار خلق الجبال والأنهار والنباتات، نعم! فهم يرون بوضوح في هذه الآيات الحكمة المطلقة والقدرة اللامتناهية للخالق العلاّم.

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة يشير القرآن الكريم إلى عدّة نقاط حول علم الأرض وعلم النبات، والتي تعبّر عن النظام الدقيق للخلقة، يقول أوّلا (وفي الأرض قطع متجاورات)(1) فبالرغم من أنّ هذه القطع متصلة مع بعضها البعض، فإنّ لكلّ واحد منها بناءه وتركيبه الخاص به، فبعضها قوي والآخر ضعيف، وبعضها مالح والآخر حلو، وكلّ قطعة لها الإستعداد في تربية نوع خاص

_____________________________

1 ـ متجاور بمعنى الجار وما يكون قريباً، فقوله: (قطع متجاورات) يقصد منه أنّ هذه القطع مختلفة وليست متساوية، وإلاّ لم يكن للجملة معنى.

[334]

من النباتات وأشجار الفاكهة والزراعة، لأنّ إحتياجات الإنسان والحيوان كثيرة ومتفاوتة، وقد تكون لكلّ قطعة من الأرض المسؤولية في تلبية إحدى هذه الحاجات. وأمّا إذا كانت في مستوىً واحد، أو لم تكن إستعداداتها مقسّمة بالشكل المطلوب، لكان الإنسان يمرّ بأزمة ونقص في مواده الغذائية والطبية وسائر الإحتياجات الأُخرى، ولكن هذا التقسيم المناسب للمسؤولية وتوزيعها على القطعات المختلفة للأرض سوف يسدّ الإحتياجات اللازمة للإنسان.

قوله تعالى: (وجنّات من أعناب وزرع ونخيل(1) صنوان وغير صنوان)(2).

«صنوان» جمع «صنو» بمعنى الغصن الخارج من أصل الشجرة، وعليه فالكلمة تعني الأغصان المختلفة الخارجة من أصل الشجرة.

والملفت للنظر أنّه يمكن أن يكون لكلّ واحد من هذه الأغصان نوع خاصّ من الثمر، وهذه قد تشير إلى قابلية الأشجار للتركيب. ففي بعض الأحيان يتمّ تركيب عدّة أغصان مختلفة على ساق واحدة، وبعد نمو هذه التراكيب تعطي كلّ واحدة منها نوعاً خاصاً من الثمر، فالتربة واحدة والساق والجذر واحد ولكن الثمر مختلف.

والأعجب من ذلك أنّها تسقى بماء واحد (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل).

وقد نرى كثيراً أنّه في الشجرة الواحدة أو في غصن واحد توجد ثمار من نفس الصنف ولكن لها أطعمة وألوان مختلفة، وفي العالم نشاهد أوراداً كثيرة، وقد يحمل الغصن الواحد أوراداً مختلفة الألوان.

_____________________________

1 ـ «أعناب» جمع عنب و «النخيل» جمع نخلة، ويحتمل أنّهما ذكرتا بصيغة الجمع للدلالة على الأنواع المختلفة للعنب والتمر والتي قد تصل إلى مئات الأنواع في العالم.

2 ـ وقد ذكروا معنىً آخر لصنو، وهو الشبيه، ولكن يحتمل أنّ هذا المعنى مأخوذ من نفس المعنى الذي ذكرناه آنفاً.

[335]

أي مختبر للأسرار هذا الذي يعمل في أغصان الأشجار، والذي ينتج من مواد قليلة متحدة، تركيبات مختلفة تؤمّن إحتياجات الإنسان.

أليست هذه الأسرار تدلّ على وجود من يقود هذا النظام بالعلم والحكمة. وهنا في آخر الآية يقول تعالى: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون).

* * *

هناك عدّة نقاط:

1 ـ ما هي وجه العلاقة بين التوحيد والمعاد؟

كان الحديث في بداية الآية عن التوحيد وأسرار الكون، ولكن نقرأ في نهايتها (يفصّل الآيات لعلّكم بلقاء ربّكم توقنون) فما هي وجه العلاقة بين التوحيد والمعاد حتّى تكون الواحدة نتيجة للاُخرى؟

للإجابة على هذا السؤال لابدّ من ملاحظة ما يلي:

أ ـ إنّ قدرة الله على إيجاد الكون دليل على قدرته في إعادته كما نقرأ في الآية (29) من سورة الأعراف (كما بدأكم تعودون) أو نقرأ في أواخر سورة «يس» قوله تعالى: (أو ليس الذي خلق السّماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم).

ب ـ وكما قلنا في بحثنا عن المعاد، فإنّه لا فائدة من خلق العالم إذا لم تكن الآخرة حقيقة، لأنّه لا يمكن أن تكون هذه الحياة هي الهدف من خلق هذا العالم الواسع. يقول القرآن الكريم ضمن آياته المتعلّقة بالمعاد من سورة الواقعة آية (62): (ولقد علمتم النشأة الأُولى فلولا تذكرون)(1).

_____________________________

1 ـ للمطالعة أكثر راجع كتاب [المعاد والعالم بعد الموت].

[336]

2 ـ الإعجاز العلمي للقرآن

هناك آيات كثيرة في القرآن المجيد أزاحت الستار عن مجموعة من الأسرار العلمية التي كانت خافية على العلماء في ذلك الوقت. وهذه واحدة من دلائل إعجاز وعظمة القرآن، وغالباً ما كان يشير إليها كثير من المحقّقين في مسألة الإعجاز.

فمن جملة هذه الآيات ما ذكرناه آنفاً وهي الآية التي تذكر الزوجية في النباتات، فكما قلنا سابقاً: إنّ ظاهرة الزوجية في النباتات كانت معروفة للناس منذ القديم ولو بشكلها الجزئي، ولكن لم تكن تعرف بشكل قانون عام حتّى أواسط القرن الثامن عشر حين إستطاع العالم «لينه» والأوّل مرّة أن يكشف عن هذه الحقيقة، ولكن القرآن الكريم أخبر بذلك قبل أكثر من ألف عام.

كما أشار القرآن إلى هذا الموضوع في سورة لقمان الآية 10 قوله تعالى: (وأنزلنا من السّماء ماء فأنبتنا فيها من كلّ زوج كريم).

كما أشارت إليها آيات أُخرى.

3 ـ تسخير الشمس والقمر

قرأنا في الآيات السابقة أنّ الله سخّر الشمس والقمر، كما نقرأ في آيات كثيرة أُخرى عن تسخير السّماء والأرض والليل والنهار للإنسان.

فنقرأ في آية (وسخّر لكم الأنهار)(1) وفي آية أُخرى (وسخّر لكم الفلك)(2)(سخّر لكم الليل والنهار)(3) (وسخّر لكم الشمس والقمر)(4) (وهو

_____________________________

1 ـ إبراهيم، 32.

2 ـ إبراهيم، 32.

3 ـ النحل، 12.

4 ـ إبراهيم، 33.

[337]

الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً)(1) (ألم تر أنّ الله سخّر لكم ما في الأرض)(2) (وسخّر لكم ما في السّماوات وما في الأرض جميعاً منه)(3).

من مجموع هذه الآيات يمكن أن نستفيد ما يلي:

أوّلا: إنّ الإنسان أكمل من جميع الموجودات في هذا العالم، فمن وجهة إسلامية نرى أنّ الشريعة الإسلامية تعطي للإنسان القيمة الكبيرة بحيث تسخّر له كلّ ما في الكون، فهو خليفة الله، وقلبه مستودع نوره!

ثانياً: ويتّضح أنّ التسخير ليس المقصود منه أنّ جميع هذه الكائنات هي تحت إمرة الإنسان، بل هي بقدر معيّن تدخل ضمن منافعه وخدمته، وعلى سبيل المثال فإنّ تسخير الكواكب السّماوية من أجل أن يستفيد الإنسان من نورها أو لفوائد أُخرى.

فلا يوجد أي مبدأ يقيّم الإنسان بهذا الشكل، ولا يوجد في أيّة فلسفة هذا المقام لشخصيته، فهذه من خصائص المدرسة الإسلامية التي ترفع من قيمة الإنسان بهذا الشكل الكبير، فالمعرفة بها لها أثر عميق على تربيته، لأنّه حينما يفكر الإنسان بتعظيم الله له، وتسخير السحاب والهواء والشمس والقمر والنّجوم وجعلها في خدمته، فمثل هذا الإنسان لا تعتريه الغفلة ولا يكون عبداً للشهوات وأسيراً للمال والمقام، بل يحطّم القيود ويتطلّع إلى آفاق السّماء.

كيف يمكن القول: إنّ الشمس والقمر غير مسخّرين للإنسان في الوقت الذي نرى أنّ في أشعّتها نور يضيء حياة الإنسان ويحافظ على دفئه، ولولا أشعّة الشمس لما وجدت أي حركة أو نشاط على الكرة الأرضية، ومن جهة أُخرى فإنّ جاذبيتها تنظم حركة الأرض حول مدارها، وتوجد ظاهرة المدّ والجزر في

_____________________________

1 ـ النحل، 14.

2 ـ الحجّ، 65.

3 ـ الجاثية، 13.

[338]

البحار بمساعدة القمر وهي بالتالي منبع لكثير من الفوائد والبركات.

فالبحار والأنهار، والليل والنهار، والفلك; كلّ واحدة هي في خدمة الإنسان ومصالحه. والدقّة في هذا التسخير والنظام دليل واضح على عظمة وقدرة وحكمة الخالق المتعال.

* * *

[339]

الآيتان

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَباً أَءِنَّا لَفِى خَلْق جَدِيد أُوْلَئِك الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاَْغْلَلُ فِى أَعْنَاقِهِم وَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)

التّفسير

تعجّب الكفّار من المعاد:

بعد ما إنتهينا من البحث السابق عن عظمة الله ودلائله، تتطرّق الآية الأُولى من هذه المجموعة إلى مسألة المعاد التي لها علاقة خاصّة بمسألة المبدأ، ويؤكّد القرآن الكريم هذا المعنى حيث يقول: (وإن تعجب فعجب قوله أءِذا كنّا تراباً أَءِنّا لفي خلق جديد)(1) أي إذا أردت أن تتعجّب من قولهم هذا فتعجب لقولهم في

_____________________________

1 ـ ويحتمل في تفسير جملة (إن تعجب فعجبُ قولهم) إنّ المقصود منه إن تعجب من عبادتهم للأصنام فالأعجب أن ينكروا المعاد، ولكن هذا الإحتمال غير وارد، والصحيح ما هو ظاهر الآية المذكور في المتن.

[340]

المعاد.

هذا التعجّب من المعاد كان موجوداً عند جميع الأقوام الجاهلة، فهم يظنّون أنّ الحياة بعد الموت أمرٌ محال، ولكنّنا نرى أنّ الآيات السابقة وآيات أُخرى من القرآن الكريم تجيب على هذا التساؤل، فما هو الفرق بين بدء الخلق والبعث من جديد؟ فالقادر الذي خلقهم أوّل مرّة بإستطاعته أن يبعث الروح فيهم مرّة ثانية، وهل نسي هؤلاء بداية خلقهم حتّى يجادلوا في بعثهم!؟

ثمّ يبيّن حالهم الحاضر ومصيرهم في ثلاث جمل:

يقول أوّلا: (أُولئك الذين كفروا بربّهم) لأنّهم لو كانوا يعتقدون بربوبيّة الله لما كانوا يتردّدون في قدرة الله على بعث الإنسان من جديد، وعلى هذا فسوء ظنّهم بالمعاد هو نتيجة لسوء ظنّهم بالتوحيد وربوبية الله.

والأمر الآخر انّه بكفرهم وعدم إيمانهم وخروجهم من ساحة التوحيد قيّدوا أنفسهم بالأغلال، أغلال عبادة الأصنام والأهواء والمادة والجهل والخرافة، وجعلوها في أعناقهم (وأُولئك الأغلال في أعناقهم).

ومثل هؤلاء الأشخاص ليس لهم عاقبة سوى دخول النّار (وأُولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون).

وفي الآية الثانية يشير إلى دعوى أُخرى للمشركين حيث يقول: (ويستعجلونك بالسيّئة قبل الحسنة) بدلا من طلب الرحمة ببركة وجودك بينهم.

لماذا يصرّ هؤلاء القوم على الجهل والعناد؟ لماذا لم يقولوا: لو كنت صادقاً لأنزلت علينا رحمة الله، أو لرفعت العذاب عنّا!؟

وهل يعتقدون بكذب العقوبات الإلهيّة؟ (وقد خلت من قبلهم المثلات)(1).

ثمّ تضيف الآية (وإنّ ربّك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإنّ ربّك لشديد

_____________________________

1 ـ المثلات جمع «مثلة» بفتح الميم وضمّ الثاء ومعناها العقوبات النازلة على الاُمم الماضية.

[341]

العقاب). إنّ العذاب الشديد غير مخالف لرحمته الواسعة، كما لا يتوهّم أحداً أنّ رحمته العامّة هي إعطاء الفرصة للظالمين أن يفعلوا ما يريدون. لأنّه في هذه الموارد يكون شديد العقاب، والحصول على نتائج هذه الصفتين للربّ يعني (ذو مغفرة) و (شديد العقاب) مرهونٌ بسلوك الإنسان نفسه.

* * *

ملاحظتان

1 ـ لماذا التعجّب في الخلق الجديد؟

يستفاد من خلال آيات متعدّدة في القرآن الكريم أنّ من جملة مشاكل الأنبياء مع المشركين إثبات «المعاد الجسماني» لأنّهم كانوا يتعجّبون دائماً من هذا الموضوع وهو: كيف يبعث الإنسان من جديد بعد أن صار تُراباً؟ كما أشارت إليه الآية السابقة (أءِذا كنّا تراباً أءِنّا لفي خلق جديد) وهناك سبع آيات أُخرى تشير إلى هذا الموضوع (الآية 35 و 82 من سورة المؤمنون ـ 27 النمل ـ 16 و53 الصافات ـ 3ق ـ 47 الواقعة).

ومن هنا يتّضح أنّ هذا التساؤل كان مهمّاً بالنسبة إليهم حيث كانوا يكرّرونه في كلّ فرصة، ولكن القرآن الكريم يجيبهم بعبارات قصيرة وقاطعة، فمثلا الآية (29) من سورة الأعراف: (كما بدأكم تعودون) تتكوّن من كلمات قليلة ولكنّها مفحمة لهم، وفي مكان آخر يقول تعالى: (وهو أهون عليه) لأنّكم في الخلق الأوّل لم تكونوا شيئاً أمّا الآن فتوجد على الأقل عظام نخرة مع التراب المتبّقي منكم.

وفي بعض الأحيان يأخذ بأيدي الناس ويدعوهم إلى التفكّر والإمعان في عظمة وقدرة الخالق (أو ليس الذي خلق السّماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم).

[342]

2 ـ هل إنّ الله يعفو عن الظالمين؟

قرأنا في الآيات المتقدّمة أنّ الله يعفو ويغفر للذين ظلموا، وهذا الغفران غير لازم لمن يصرّ على ظلمه، ولكنّه من باب إعطاء الفرصة لهم لأن يصلحوا أنفسهم، وإلاّ فهو تعالى شديد العقاب.

ويمكن أن نستفيد من هذه الآية أنّ الذنوب الكبيرة ـ ومن جملتها الظلم ـ قابلة للغفران (ولكن بتحقّق شروطها)، وهو ردّ على قول المعتزلة بأنّ الذنوب الكبيرة لا يغفرها الله أبداً.

وعلى أيّة حال فـ«المغفرة الواسعة» و «العقاب الشديد» في الواقع تجعل كل المعترفين بوجود الله بين «الخوف» و «الرجاء» الذي يعتبر من العوامل المهمّة لتربية الإنسان، فلا ييأس من رحمة الله لكثرة الذنوب، ولا يأمن من العذاب لقلّتها.

ولهذا جاء في الحديث عن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنىء أحد العيش، ولولا وعيد الله وعقابه لأتّكل كلّ واحد»(1).

ومن هنا يتّضح أنّ الذين يقولون ـ أثناء إرتكابهم المعاصي ـ إنّ الله كريم، يكذبون في إتّكالهم على كرم الله، فهم في الواقع يستهزؤون بعقاب الله.

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 5 و 6، ص278 ـ تفسير القرطبي، المجلّد السادس، ص3514.

[343]

الآية

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد (7)

التّفسير

ذريعة أُخرى!

بعد ما أشرنا في الآيات السابقة إلى مسألة «التوحيد» و «المعاد»، تتطرّق هذه الآية إلى واحدة من إعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوّة: (ويقول الذين كفروا لولا أُنزل عليه آية من ربّه).

ومن الواضح أنّ إحدى وظائف النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إظهار معاجزه لكي يدلّ على صدقه وصلته بالوحي الإلهي، والذي يبحث عن الحقيقة له الحقّ في المطالبة بالمعجزة أثناء شكّه وتردّده في تصديق الدعوة، أو تتّضح له دلائل النبوّة عن طريق آخر.

ولكن يجب أن نلتفت إلى هذه النقطة وهي: إنّ أعداء الأنبياء لم يكن لديهم حُسن نيّة أو اتّباع للحقّ عند طلبهم المعجزة، بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة وأُخرى معاجز عجيبة وغريبة. وهذه ما

[344]

يسمّى بـ «المعجزات الأخلاقية».

إقتراحهم للمعاجز لم يكن لكشف الحقيقة، ولهذا لم يستجب الأنبياء لمطاليبهم، وفي الحقيقة كانت هذه الفئة من الكفّار المعاندين يعتقدون أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدّعي القدرة على إنجاز أي عمل خارق للعادة، وأيّ واحد منهم يقترح عليه إنجاز عمل ما سوف يُلبّي مطاليبه.

ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي أنّ المعاجز بيد الله، ورسالتنا هداية الناس.

ولذلك نقرأ في تكملة الآية قوله تعالى: (إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد).

* * *

بحثان

هنا يرد سؤالان:

1 ـ هل الآية «إنّما أنت منذر...» جواب للكفّار؟

كيف يمكن لجملة (إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد) أن تكون جواباً للكفّار عند طلبهم المعجزة؟

الجواب: بالإضافة إلى ما قلناه سابقاً فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست له القدرة الغيبية المطلقة كي يطلبوا منه الإعجاز، لأنّ الوظيفة الأُولى له هي إنذار أُولئك الذين يسيرون في طريق الضلال، والدعوة إلى الصراط المستقيم، وإذا ما إحتاجت هذه الدعوة إلى المعجزة فسوف يأتي بها النّبي، ولكن لا يأتي بها للمعاندين البعيدين عن هذه المسيرة.

فمعنى الآية: إنّ الكفّار نسوا أنّ هدف الأنبياء الإنذار والدعوة إلى الله، واعتقدوا أنّ وظيفتهم القيام بالمعاجز.

[345]

2 ـ ما هو المقصود من جملة (لكلّ قوم هاد)؟

قال بعض المفسّرين: إنّ هاتين الصفتين (منذر) و (هاد) صفتان للرسول، فأصل الجملة تكون (أنت منذر وهاد لكلّ قوم).

ولكن هذا التّفسير خلاف الظاهر، لأنّ الواو في جملة (ولكلّ قوم هاد)تفصل بين جملة (إنّما أنت منذر) ولو كانت كلمة «هاد» قبل «لكلّ قوم» كان المعنى السابق صحيحاً. ولكن الأمر ليس كذلك.

والشيء الآخر هو أنّ هدف الآية بيان أنّ هناك قسمين من الدعوة إلى الله: أحدهما أن يكون عمل الداعي هو الإنذار فقط. والآخر: أن يكون العمل هو الهداية.

وسوف تسألون حتماً: ما هو وجه التفاوت بين (الإنذار) و (الهداية)؟ نقول في جواب هذا السؤال: إنّ الإنذار للذين أضلّوا الطريق ودعوتهم تكون إلى الصراط المستقيم، ولكن الهداية والإستقامة للذين آمنوا.

وفي الحقيقة إنّ المنذر مثل العلّة المحدثة، أمّا الهادي فبمنزلة العلّة الباقية وهذه هي التي تعبّر عنها بالرّسول والإمام، فالرّسول يقوم بتأسيس الشريعة والإمام يقوم بحفظها وحراستها. (ليس من شكّ أنّ الهداية في آيات أُخرى مطلقة للرسول، ولكن بقرينة المنذر في هذه الآية نفهم أنّ المقصود من الهادي هو الشخص الحافظ والحامي للشريعة).

هناك روايات عديدة تؤكّد ما قلناه سابقاً، فقد قال الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا المنذر وعلي الهادي».

ولا بأس أن نشير إلى عدّة من هذه الرّوايات :

1 ـ في ذيل هذه الآية من تفسير الفخر الرازي مرفوعاً عن ابن عبّاس قال: وضع رسول الله يده على صدره فقال: «أنا المنذر» ثمّ أومأ إلى منكب علي (عليه السلام)وقال: (أنت الهادي بك يهتدي المهتدون من بعدي) هذه الرّواية ذكرها العلاّمة

[346]

«ابن كثير» في تفسيره، والعلاّمة «ابن الصبّاغ المالكي» في الفصول المهمّة، و «الكنجي» الشافعي في كفاية الطالب و «الطبري» في تفسيره، و «أبو حيّان الأندلسي» في تفسيره البحر المحيط، وكذلك «العلاّمة النيسابوري» في تفسيره الكشّاف، وعدد آخر من المفسّرين.

2 ـ نقل «الحمويني» وهو من علماء أهل السنّة المعروفين في كتابه فرائد السمطين عن أبو هريرة قال «إن المراد بالهادي علي (عليه السلام)».

3 ـ «مير غياث الدين» مؤلّف كتاب (حبيب السيّد) كتب يقول في المجلّد الثّاني صفحة 12: «قد ثبت بطرق متعدّدة أنّه لمّا نزل قوله تعالى: (إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد) قال لعلي: «أنا المنذر وأنت الهادي بك ياعلي يهتدي المهتدون من بعدي».

كما نقل هذا الحديث «الآلوسي» في (روح المعاني) و «الشبلنجي» في (نور الأبصار) والشيخ «سليمان القندوزي» في (ينابيع المودّة).

وبما أنّ أكثر هذه الرّوايات مسنده إلى ابن عبّاس فإنّه لم يكن الشخص الوحيد الذي روى ذلك، فأبو هريرة نقل ذلك فيما ذكره الحمويني، وحتّى علي نفسه ـ طبقاً لما نقله الثعلبي ـ قد قال: «المنذر النّبي والهادي رجل من بني هاشم» يعني نفسه(1).

لا شكّ أنّ هذه الأحاديث لا تصرّح بالخلافة، ولكن بالنظر إلى ما تحتويه هذه الكلمة (الهداية) من المعنى الواسع، فإنّها غير منحصرة بعلي (عليه السلام) بل تشمل جميع العلماء وأصحاب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين كانوا يقومون بنفس المهمّة، فإنّه يتّضح لنا تخصيص علي بن أبي طالب (عليه السلام) في هذه الرّوايات بهذا العنوان يدلّ على انّه المصداق البارز له، وذلك لما يمتاز به من الخصوصيات، وهذا المطلب لا يكون منفصلا عن خلافة الرّسول (صلى الله عليه وآله) حتماً.

* * *

_____________________________

1 ـ للمزيد من الإطلاع راجع كتاب إحقاق الحقّ، المجلّد الثّالث، ص87 وما بعدها.

[347]

الآيات

اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاَْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىء عِندَهُ بِمِقْدَار (8) علِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْف بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)

التّفسير

عِلمِ الله المطلق:

نقرأ في هذه الآيات قسماً من صفات الخالق، والتي تكمل بحث التوحيد والمعاد، فالحديث عن علمه الواسع ومعرفته بكلّ شيء، هو ذاك العلم الذي يقوم عليه نظام التكوين وعجائب الخلقة وآيات التوحيد، وهو العلم الذي يكون أساساً للمعاد والعدالة الإلهيّة يوم القيامة وهذه الآيات إستندت إلى هذين القسمين: (العلم بنظام التكوين، والعلم بأعمال العباد).

تقول الآية أوّلا: (الله يعلم ما تحمل كلّ اُنثى) في رحمها، سواء من اُنثى الإنسان أو الحيوان (وما تغيض الأرحام) أي تنقص قبل موعدها المقرّر (وما

[348]

تزداد)(1) أي يعلم بما تزيد عن موعدها المقرّر.

في تفسير هذه الجمل الثلاث هناك آراء مختلفة بين المفسّرين:

يعتقد البعض ـ أنّها تشير ـ كما ذكرنا آنفاً ـ إلى وقت الولادة، وهي على ثلاثة أنواع: فمرّة يولد المولود قبل موعده. ومرّة في موعده، وأُخرى بعد الموعد المقرّر. فالله يعلم كلّ ذلك ويعلم لحظة الولادة بالتحديد، وهذه من الأُمور التي لا يستطيع أي أحد أو جهاز أن يحدّد موعده، وهذا العلم خاص بذات الله المنزّهة، وسببه واضح لأنّ إستعدادات الأرحام والأجنّة مختلفة، ولا أحد يعلم بهذا التفاوت.

وقال بعض آخر: إنّها تشير إلى ثلاث حالات مختلفة للرحم أيّام الحمل، فالجملة الأُولى تشير إلى نفس الجنين الذي تحفظه، والجملة الثانية تشير إلى دم الحيض الذي يُنصب في الرحم ويمصّه الجنين، والجملة الثالثة إشارة إلى الدم الإضافي الذي يخرج أثناء الحمل أحياناً، أو دم النفاس أثناء الولادة(2).

وهناك عدّة إحتمالات أُخرى في تفسير هذه الآية دون أن تكون متناقضة فيما بينها، ويمكن أن يكون مراد الآية إشارةً إلى مجموع هذه التفاسير، ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل أقرب، بدليل جملة (تحمل) المقصود منها الجنين والجمل (تغيض) و (تزداد) بقرينة الجملة السابقة تشير إلى الزيادة والنقصان في فترات الحمل.

روى الشيخ الكليني في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أو الإمام الباقر (عليه السلام)

_____________________________

1 ـ «تغيض» أصلها الغيض بمعنى إبتلاع السائل وهبوط مستوى الماء. وتأتي بمعنى النقصان والفساد، و «الغيضة» المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه، و «ليلة غائضة» أي مظلمة.

2 ـ يقول صاحب الميزان مؤيّداً هذا الرأي: إنّ بعض روايات أئمّة أهل البيت يؤيّد هذا الرأي. وابن عبّاس ممّن يؤيّد هذا الرأي أيضاً، ولكن بالنظر إلى الرّوايات المنقولة في تفسير نور الثقلين في ذيل الآية فانّ أكثرها يؤيّد ما قلناه في الرأي الأوّل.

[349]

في تفسير الآية أنّ «الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر، وما تزداد كلّ شيء حمل على تسعة أشهر». وفي تكملة الحديث يقول: «كلّما رأت المرأة الدم الخالص في حملها فإنّها تزداد وبعدد الأيّام التي زاد فيها في حملها من الدم»(1).

(وكلّ شيء عنده بمقدار) ولكي لا يتصوّر أحد أنّ هذه الزيادة والنقصان بدون حساب ودليل، بل انّ كلّ ساعة وثانية ولحظة لا تمرّ دون حساب، كما أنّ للجنين ودم الرحم حساب وكتاب أيضاً. فالآية التي بعدها تؤكّد ما قلناه في الآية السابقة حيث تقول: (عالم الغيب والشهادة) فعلمه بالغيب والشهادة لهذا السبب (الكبير المتعال) فهو يحيط بكلّ شيء، ولا يخفى عنه شيء.

ولتكميل هذا البحث وتأكيد علمه المطلق يضيف القرآن الكريم: (سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار)(2)وهذا هو الحقّ فالذي يوجد في كلّ مكان لا معنى للغيب والشهادة أو الليل والنهار عنده، فهو محيط بها وعالم بأخبارها بشكل متساو.

* * *

بحوث

1 ـ القرآن وعلم الأجنّة

أشار القرآن المجيد مراراً إلى مسألة الجنين وعجائب تكوينه ليكون أحد الأدلّة على التوحيد ومعرفة الله وعلمه المطلق، وبالطبع فإنّ علم الأجنّة واحد من العلوم الحديثة وكان سابقاً عبارة عن معلومات أوّليّة محدودة ثمّ توسعت في هذا العصر. ولكن بتقدّم العلم والمعرفة حدثت قفزة في هذا المجال كشفت عن

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج2، صفحة 485.

2 ـ «سارب» من سرَبَ على وزن ضرر، بمعنى الماء الجاري، ويقال للشخص الذاهب إلى عمل أيضاً.

[350]

كثير من أسرار هذا العالم الساكن والهادىء وعن كثير من عجائبه بحيث نستطيع أن نقول: إنّ أكبر درس للتوحيد ومعرفة الله كامنٌ في تكوين الجنين ومراحل تكامله.

فمن هذا الذي يرعى هذا الكائن المخفي وبتعبير القرآن واقع «في ظلمات ثلاث» الذي يمتاز بالظرافة ودقّة التكوين وأن يوصل له المقدار اللازم من الغذاء ويرشده مراحل حياته؟

وعندما تقول الآية السابقة: (الله يعلم ما تحمل كلّ اُنثى) فليس المقصود من علمه بالذكر والاُنثى فقط، بل بكلّ خصائصه والطاقة الكامنة فيه، هذه الأشياء لا يستطيع أحد وبأي وسيلة أن يتعرّف عليها، وعلى هذا فإنّ وجود هذا النظام الدقيق والمعقّد للجنين ومراحل تكامله لا يمكن أن يكون بدون صانع عالم وقدير.

2 ـ كلّ شيء له مقدار

نحن نقرأ في آيات مختلفة من القرآن الكريم أنّ كلّ شيء له حدّ محدود ولا يتجاوزه، ففي الآية (3) من سورة الطلاق يقول تعالى: (قد جعل الله لكلّ شيء قدراً)وفي الآية 21 سورة الحجر يقول تعالى: (وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدر معلوم) والآية التي نحن بصددها (وكلّ شيء عنده بمقدار).

كلّ هذه تشير إلى أنّه ليس هناك شيء في العالم بدون حساب، حتّى الموجودات في الطبيعة التي نعتبرها في بعض الأحيان غير مهمّة، فإنّ وجودها على أساس حساب دقيق، علمنا بذلك أم لم نعلم، وأساساً فإنّ معنى حكمة الله هو أن يجعل لكلّ ما في الكون حدّاً ومقداراً ونظاماً.

وكلّ ما حصلناه اليوم من أسرار الكون بواسطة العلوم يؤكّد هذه الحقيقة، فمثلا نرى أنّ دم الإنسان ـ الذي هو المادّة الحياتية لوجود الإنسان والذي يقوم

[351]

بنقل المواد الضروريّة اللازمة لخلايا الجسم ـ يتركّب من عشرين مادّة أو أكثر، وبنسب ثابتة دقيقة بحيث لو تمّ أي تغيير فيها لتعرّضت سلامة الإنسان للخطر، ولهذا السبب ولمعرفة النقص الحاصل في الجسم يقومون بتحليل الدم وقياس نسبة السكر والدهن وسائر مركّبات الدم الأُخرى، ويتمّ تشخيص العلّة بواسطة معرفة زيادة أو نقصان هذه النسب، وليس دم الإنسان وحده له هذه الميزة، بل كلّ ما في الوجود له نفس هذه الدقّة في النظام.

ولابدّ هنا من التنبيه على أنّ ما يظهر لنا في بعض الأحيان من عدم النظام في عالم الوجود هو في الواقع ناتج من قصور في علومنا ومعرفتنا، فالإنسان الذي يؤمن بالله لا يمكن أن يتصوّر ذلك، وبتطوّر العلوم تتأكّد لنا هذه الحقيقة.

وكي نستطيع أن نتعلّم هذا الدرس وهو أنّ المجتمع الإنساني الذي هو جزء من عالم الوجود إذا أراد له العيش بسلام، فعليه أن يجعل شعار (كلّ شيء عنده بمقدار) يسود جميع جوانبه، ويجتنب الإفراط والتفريط في أعماله وتخضع جميع مؤسساته الإجتماعية للحساب والموازين.

3 ـ الغيب والشهادة سواء عند الله

إستندت هذه الآيات إلى أنّ الغيب والشهادة معلومان عند الله، فهما مفهومان نسبيان وتستخدمان للكائن الذي علمه ووجوده محدود، وعلى سبيل المثال نحن نمتلك حواساً ذات مدى نسبي، فمتى ما كان الشيء داخلا في هذا المدى فهو شاهد بالنسبة لنا، وما كان خارجاً عنه فهو غيب، فلو فرضنا أنّ أبصارنا لها قدرة غير محدودة ويمكنها النفوذ في باطن الأشياء وإدراكها، فإنّ كلّ شيء يعتبر شاهد عندنا.

وبما أنّ كلّ شيء له حدّ محدود غير الذات الإلهيّة، فإنّ لغير الله تعالى غيب وشهادة، ولأنّ ذات الله غير محدودة ووجوده عام ومطلق فإنّ كلّ شيء بالنسبة

[352]

إليه شهادة، ولا معنى للغيب بالنسبة إليه، وإذا ما قلنا ـ إنّ الله عالم الغيب والشهادة فهو ما نعتبره نحن غيب وشهادة، أمّا هو فهما عنده سواء. لنفترض أنّنا ننظر ما في أيدينا في النهار، فهل نجهل ما فيها؟! جميع الكون في مقابل علم الله أوضح من هذا وأظهر.

4 ـ الآثار التربوية في إدراكنا لعلم الله

أثناء قراءتنا للآيات الماضية التي تقول: إنّ الله يعلم السرّ والجهر من القول وحركاتكم في الليل والنهار وكلّها مشهودة عنده، هل نجد في أنفسنا إيماناً بهذه الحقيقة؟.. لو كنّا مؤمنين بذلك حقّاً ونشعر بأنّ الله تعالى مطّلع علينا فانّ هذا الإيمان والإحساس الباطني يبعث على تغيير عميق في روحنا وفكرنا وقولنا وضمائرنا؟.

نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جوابه لمن سأله عن طريقتهم في الحياة قال: «علمت إنّ الله مطلع عليّ فاستحييت».

كما نشاهد كثيراً من المواقف من تأريخ المسلمين وحياتهم تتجلّى فيها هذه الحقيقة، يقال: دخل أب وإبنه في بستان، فتسلّق الأب شجرةً ليقطف ثمارها دون إذن صاحبها، بينما بقي الإبن أسفل الشجرة لمراقبة الأوضاع. وفجأة صاح الابن الذي كان مؤمناً ومتعلّماً ونادى أباه بأن ينزل بسرعة، عندها خاف الأب ونزل فوراً وسأل من الذي رآني؟ قال: الذي هو فوقنا، فنظر الأب إلى الأعلى فلم يجد أحداً، وسأل من الذي رآني؟ قال: الذي هو فوقنا، فنظر الأب إلى الأعلى فلم يجد أحداً، فقال الابن: كان قصدي هو الله المحيط بنا جميعاً، كيف يمكن أن تخاف أن يراك الإنسان، ولا تخاف أن يراك الله؟! أين الإيمان؟!

* * *

[353]

الآية

لَهُ مُعَقِّبَتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْم سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَال (11)

التّفسير

المعقّبات الغيبية!

علمنا في الآيات السابقة أنّ الله بما أنّه عالم الغيب والشهادة فإنّه يعلم أسرار الناس وخفاياهم، وتضيف هذه الآية أنّه مع حفظ وحراسة الله لعبادة فإنّ (له معقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله)(1).

ولكي لا يتصوّر أحد أنّ هذا الحفظ بدون شروط وينغمِسُ في المزلاّت، أو يرتكب الذنوب الموجبة للعقاب، ومع كلّ ذلك ينتظر من الله أو الملائكة أن يحفظوه، يعلّل القرآن ذلك بقوله: (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما

_____________________________

1 ـ هناك حديث بين المفسّرين في أنّ الضمير (له) لمن يعود، وكما تشير الآية فإنّه يعود للإنسان كما تؤكّد عليه الآيات السابقة، ولكن بعضهم قال: يعود للنبي أو لله. وهذا يخالف ما جاء في ذيل الآية [فتأمّل].

[354]

بأنفسهم).

وكي لا يتبادر إلى الأذهان أنّه مع وجود الملائكة الحافظة فأيّ معنى للعذاب أو الجزاء؟ هنا تضيف الآية (وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال) ولهذا السبب فإنّه حين صدور العذاب الإلهي على قوم أو اُمّة، فسوف ينتهي دور المعقّبات ويتركون الإنسان عرضةً للحوادث

* * *

بحوث

1 ـ ما هي المعقّبات؟

«المعقّبات» كما جاء في مجمع البيان للعلاّمة الطبرسي وكما قاله بعض المفسّرين جمع (معقبة) وهي بدورها جمع (معقّب) ومعناه المجموعة التي تعمل بشكل متناوب ومستمر. والظاهر من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى أمر مجموعة من الملائكة بأن يحفظوا الإنسان في الليل والنهار ومن بين يديه ومن خلفه.

إنّ الإنسان ـ بدون شك ـ معرّض في حياته إلى كثير من الحوادث الروحية والجسمية، فالأمراض والمتغيّرات في السّماء والأرض محيطة بالإنسان، وخصوصاً في مرحلة الطفولة التي لا يدرك فيها ما يجري حوله ويكون هدفاً سهلا للإصابة بها، فقد يتعجّب الإنسان كيف ينجو الطفل وينمو من بين جميع هذه الحوادث، وخصوصاً في العوائل التي لا تدرك هذه المسائل وتعاني من قلّة الإمكانيات كأبناء الريف الذين يعانون من الحرمان والفقر وهم معرضون للأمراض أكثر من غيرهم.

وإذا ما أمعنّا النظر في هذه المسائل فسوف نجد أنّ هناك قوى محافظة، تحفظ الإنسان في مقابل هذه الحوادث كالدرع الواقي.

وكثيراً ما يتعرّض الإنسان إلى حوادث خطرة ويتخلّص منها بشكل

[355]

إعجازي تجعله يشعر أنّ كلّ ذلك ليس صدفة وإنّما هناك قوى محافظة تحميه.

وهناك كثير من الأحاديث المنقولة عن أئمّة المسلمين تؤكّد ذلك ومن جملتها: الحديث المروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية يقول: «يحفظ بأمر الله من أن يقع في ركي أو يقع عليه حائط أو يصيبه شيء، حتّى إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان من نهار يتعاقبانه».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «ما من عبد إلاّ ومعه ملكان يحفظانه فإذا جاء الأمر من عند الله خليا بينه وبين أمر الله».

ونقرأ في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «إنّ مع كلّ إنسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه».

كما نقرأ في نهج البلاغة في وصف الملائكة من الخطبة الأُولى «ومنهم الحفظة لعباده».

إنّ عدم إدراكنا لوجود المعقّبات عن طريق الحسّ أو التجربة العلمية ليس دليلا على عدم وجودهم، لأنّه غير منحصر في هذا المجال فقط، فالقرآن الكريم والمصادر المعرفية الأُخرى أشارت إلى اُمور كثيرة وراء الحسّ والتي لا يمكن إثباتها بالطرق العادية. وأكثر من ذلك ما قلنا سابقاً من أنّنا نتعرّض في حياتنا إلى كثير من المخاطر والتي لا يمكن النجاة منها إلاّ بوجود هذه القوى المحافظة (ورأيت في حياتي بعض من هذه النماذج المحيّرة، والتي كانت بالنسبة لي كشخص صعب التصديق دليلا على وجود هذا المعقّب اللامرئي).

2 ـ التغيير يبدأ من النفس (قانون عام)

تبيّن الجملة (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم) والتي جاءت في موردين متفاوتين في القرآن الكريم، أنّها قانون عام، قانون حاسم ومنذر!

[356]

هذا القانون الذي هو واحد من القوانين الأساسيّة لعلم الإجتماع في الإسلام، يقول لنا: إنّ ما يصيبكم هو من عند أنفسكم، وما أصاب القوم من السعادة والشقاء هو ممّا عملت أيديهم، وما يقال من الحظّ والصدفة وما يحتمله المنجّمون ليس له أساس من الصحّة، فالأساس والقاعدة هي إرادة الأُمّة إذا أرادت العزّة والإفتخار والتقدّم، أو العكس إن أرادت هي الذلّة والهزيمة، حتّى اللطف الإلهي أو العقاب لا يكون إلاّ بمقدّمة. فتلك إرادة الاُمم في تغيير ما بأنفسهم حتّى يشملهم اللطف أو العذاب الإلهي.

وبتعبير آخر: إنّ هذا الأصل القرآني الذي يبيّن واحداً من أهمّ المسائل الإجتماعية في الإسلام، يؤكّد لنا أن أي تغيير خارجي للاُمم مرتبط بالتغيير الداخلي لها، وأي نجاح أو فشل يصيب الأُمّة ناشىء من هذا الأمر، والذين يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير أعمالهم وتصرّفاتهم ويعتبرون القوى المستعمرة والمتسلّطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير، لأنّ هذه القوى الجهنميّة لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا لم تكن لديها قدرة ومركز في داخل المجتمع.

المهمّ أن نطهّر مجتمعاتنا من هذه المقرّات والمراكز للمستعمرين ولا نجعلها تنفذ في داخل مجتمعنا، فهؤلاء بمنزلة الشياطين، ونحن نعلم أنّ الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين، فهو يتسلّط على الذي مهّد له السبيل في داخله.

يقول هذا الأصل القرآني: إنّنا يجب أن نثور من الداخل كي نُنهي حالة الشقاء والحرمان، ثورة فكرية وثقافية، ثورة إيمانيّة وأخلاقية، وأثناء وقوعنا في مخالب الشقاء يجب أن نبحث فوراً عن نقاط الضعف فينا، ونطهّر أنفسنا منها بالتوبة والرجوع إلى الله، ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنّور والحركة، كي نستطيع في ظلّها أن نبدّل الهزيمة إلى نصر، لا أن نخفي نقاط الضعف وعوامل الهزيمة هذه ونبحث عنها في خارج المجتمع ونظلّ ندور في الطرق الملتوية.

[357]

هناك كتب ومؤلّفات كثيرة كتبت عن عوامل إنتصار المسلمين الأوائل ثمّ تضعضع سلطانهم بعد حين، وكثير من تلك الأبحاث ظلّت تتعثّر في الطرق الملتوية، ولكن إذا ما أردنا أن نستلهم من الأصل أعلاه والصادر من منبع الوحي فيجب أن نبحث عن ذاك النصر أو تلك الهزيمة وعن عواملها الفكرية والعقائدية والأخلاقية في المسلمين. ففي الثورات المعاصرة ومن جملتها الثورة الإسلامية في إيران، أو ثورة الجزائر أو ثورة المسلمين الأفغان، نشاهد بوضوح إنطباق هذا الأصل القرآني عليها. فقبل أن تغيّر الدول المستعمرة والمستكبرة طريقتها في التعامل معنا، غيّرنا نحن ما بأنفسنا فتغيّر كلّ شيء.

وعلى أيّة حال فهذا درس ليومنا ولغدنا ولمستقبلنا ولكلّ المسلمين والأجيال القادمة. ونحن نرى أنّ القيادات المنتصرة فقط هي التي إستطاعت أن تقود وتغيّر شعوبها على أساس هذا الأصل الخالد، وفي تاريخ المسلمين والإسلام شواهد على ذلك كثيرة.

* * *

[358]

الآيات

هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَدِلُونَ فِى اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الِْمحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَلِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَل (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَلُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاَْصَالِ(15)

التّفسير

قسمٌ آخر من دلائل عظمة الله:

يتطرّق القرآن الكريم مرّةً ثانية إلى آيات التوحيد وعلائم العظمة وأسرار الخلقة. فهذه الآيات تحاول أن تقرّب العلاقة بين الإنسان وربّه من خلال الإشارة إلى بعض الظواهر الطبيعيّة بشكل موجز وعميق المعنى لكي يشعّ نور الإيمان في

[359]

قلوب الناس، فتشير أوّلا إلى البرق (هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً)فالبرق بشعاعه يبهر العيون من جانب، ويحدث صوتاً مخيفاً وهو الرعد من جانب آخر، وقد يسبّب أحياناً الحرائق للناس وخصوصاً في المناطق الصحراوية فيبعث على خوفهم ومن جانب آخر فإنّه يسبّب هطول الأمطار ويروي ظمأ الصحراء ويسقي المزروعات فيطمع فيه الناس، وبين هذا الخوف والرجاء تمرّ عليهم لحظات حسّاسة. ثمّ تضيف الآية (وينشيء السحاب الثقال)القادرة على أرواء ظمأ الأراضي الزراعية.

بركات الرعد والبرق:

نحن نعلم أنّ ظاهرة البرق في المفهوم العلمي هي إقتراب سحابتين إحداهما من الأُخرى، وهما تحملان شحنات سالبة وموجبة، فيتمّ تفريغ الشحنات بين السحابتين فتحدث شرارة عظيمة، ويحدث مثل ذلك عند إقتراب سلكين أحدهما سالب والآخر موجب، وإذا كنّا قريبين منهما فإنّنا نسمع صوتاً خفيفاً، ولكن لإحتواء الغيوم على شحنات هائلة من الألكترونات فانّهما تحدثان صوتاً شديداً يسمّى الرعد.

وإذا ما إقتربت سحابة تحمل الشحنة الموجبة من الأرض التي تحتوي على شحنات سالبة فستحدث شرارة تسمّى بالصاعقة، وخطورتها تكمن في أنّ الأرض والمناطق المرتفعة تعتبر رأس السلك السالب، حتّى الإنسان في الصحراء يمكن أن يمثّل هذا السلك فيحدث تفريغ للشحنات يحوّل الإنسان إلى رماد في لحظة واحدة، ولهذا السبب عند وقوع البرق والرعد في الصحراء يجب أن يلجأ الإنسان إلى شجرة أو حائط أو إلى الجبال أو إلى أي مرتفع آخر، أو أن يستلقي في أرض منخفضة.

وعلى أيّة حال فإنّ للبرق ـ الذي يسمّى في بعض الأحيان مزاح الطبيعة ـ

[360]

فوائد جمّة عُرِفت من خلال ما كشفه العلم الحديث. ونشير هنا إلى ثلاثة منها:

1 ـ السقي:ـ من الطبيعي أنّ البرق تتولّد منه حرارة عالية جدّاً قد تصل بعض الأحيان إلى (15) ألف درجة مئوية، وهذه الحرارة كافية لأن تحرق الهواء المحيط بها، وفي النتيجة يقلّ الضغط الجوي، فيسبّب سقوط الأمطار. ولهذا السبب نرى هطول الأمطار الغزيرة بعد حدوث البرق.

وهذه في الواقع واحدة من وظائف البرق (السقي).

2 ـ التعقيم:ـ ونتيجةً للحرارة العالية التي يسبّبها البرق فسوف يزداد مقدار الأوكسجين في قطرات الماء، ويسمّى هذا الماء بالماء الثقيل أو الماء المؤكسد (H2O2) ومن آثاره قتل المكروبات، ولهذا السبب يستعمل لغسل الجروح، فعند نزول هذه القطرات إلى الأرض سوف تُبيد بيوض الحشرات والآفات الزراعية، ولهذا السبب يقال أنّ السنة الكثيرة الآفات الزراعية هي السنة القليلة البرق والرعد.

3 ـ التغذية والتسميد:ـ تتفاعل قطرات الماء مع الحرارة العالية للبرق لتنتج حامض الكاربون، وعند نزولها إلى الأرض وتركيبها مع محتوياتها تضع نوعاً من السّماد النباتي، فتتمّ تغذية النبات من هذا الطريق.

يقول بعض العلماء: إنّ مقدار ما ينتجه البرق من الأسمدة في السنة يصل إلى عشرات الملايين من الأطنان، وهذه كميّة كبيرة جدّاً.

وعلى أيّة حال نرى من خلال ظاهرة طبيعيّة صغيرة كلّ هذه المنافع والبركات، فهي تقوم بالسقي ورشّ السموم والتغذية، فيمكن أن تكون دليلا واضحاً لمعرفة الله، كلّ ذلك من بركات البرق. كما أنّه يمكن أن يكون البرق عاملا مهمّاً في إشعال الحرائق من خلال الصاعقة، وقد تحرق الإنسان أو الأشجار، ومع أنّها نادرة الحدوث ويمكن الوقاية منها، فهي مع ذلك عامل خوف للناس، فمفهوم الخوف والطمع للبرق قد يكون إشارة إلى جميع هذه الأُمور.

[361]

ويمكن أن تكون الجملة (وينشىء السحاب الثقال) لها علاقة بالبرق الذي يصنع هذه الغيوم المليئة بالمياه.

الآية الأُخرى تشير إلى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق (ويسبّح الرعد بحمده)(1).

نعم، فهذا الصوت المدوّي في عالم الطبيعة يُضرب به المثل، فهو مع البرق في خدمة هدف واحد ولهما منافع متعدّدة كما أشرنا إليها، ويقومان بعملية التسبيح، وبعبارة أُخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن نظام التكوين. فهو كتاب معنوي، وقصيدة غرّاء، ولوحة جميلة وجذّابة، نظام محكم ومنظّم ومحسوب بدقّة، وبلسان حاله يتحدّث عن علم ومهارة وذوق الكاتب والرسام والمعمار ويحمده ويثني عليه، كلّ ذرّات هذا العالم لها أسرار ونظام دقيق. وتحكي عن تنزيه الله وخلوّه من النقص والعيوب (وهل التسبيح غير ذلك؟!).

وتتحدّث عن قدرته وحكمته (وهل الحمد غير بيان صفات الكمال؟!).

وقد إحتمل بعض الفلاسفة أنّ لكلّ ذرّات هذا العالم نوعاً من العقل والشعور، فهي من خلال هذا العقل تسبّح الله وتقدّسه، ليس بلسان الحال فقط، بل بلسان المقال أيضاً.

وليس الرعد وسائر أجزاء العالم تسبّح بحمده تعالى، بل حتّى الملائكة (والملائكة من خيفته)(2) فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة على عاتقهم، وبالتالي فهم يخشون العقاب الإلهي، ونحن نعلم أنّ الخوف يُصيب أُولئك الذين يحسّون بمسؤولياتهم ووظائفهم .. خوف بنّاء يحثّ الشخص على

_____________________________

1 ـ للتوضيح أكثر في معنيي التسبيح والتقديس للكائنات سيأتي في ذيل الآية (وإن من شيء إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) الإسراء، 44.

2 ـ يقول الشيخ الطوسي(رحمه الله) في تفسيره التبيان: الخيفة بيان لحالة الشخص أمّا الخوف فمصدر.

[362]

السعي والحركة.

وللتوضيح أكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية إلى الصاعقة (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) ومع كلّ ذلك ـ وبمشاهدة آيات العظمة الإلهية في عالم التكوين من السّماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد وأمثالها، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث، حتّى في مقابل واحدة منها مثل شرارة البرق ـ نرى أنّ هناك جماعة جاهلة تجادل في الله (وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال).

«المحال» في الأصل «الحيلة» بمعنى التدبير السرّي وغير الظاهر، فالذي له القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية، ولهذا السبب يستطيع أن ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.

وذكر المفسّرون وجوهاً عديدة في تفسير (شديد المحال) فتارةً بمعنى «شديد القوّة»، أو «شديد العذاب»، أو «شديد القدرة» أو «شديد الأخذ»(1).

الآية الأخيرة تشير إلى مطلبين:

الأوّل: قوله تعالى: (له دعوة الحقّ) فهو يستجيب لدعواتنا، وهو عالم بدعاء العباد وقادرٌ على قضاء حوائجهم، ولهذا السبب يكون دعاؤنا إيّاه وطلبنا منه حقّاً، وليس باطلا.

ولكن دعاء الأصنام باطل (والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء) نعم هكذا في دعوة الباطل ليست أكثر من وهم، لأنّ ما يقولونه من علم وقدرة الأصنام ما هو إلاّ أوهام وخيال، أو ليس الحقّ هو عين الواقع وأصل الخير والبركة؟ والباطل هو الوهم وأصل الشرّ والفساد؟ ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالا حيّاً ورائعاً يقول: (إلاّ كباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ

_____________________________

1 ـ فسّر البعض «المحال» من «المحلّ، الماحل» بمعنى المكر والجدال والتصميم على العقوبة، ولكن ما أشرنا إليه أعلاه هو الصحيح، والتّفسيران قريباً المعنى.

[363]

فاه وما هو ببالغه). فهل يستطيع أحد أن يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يد ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر إلاّ من إنسان مجنون!

وتحتمل الآية تفسيراً آخر، فهي تُشبّه المشركين كمن بسط كفّه في الماء ليتجمع فوقها الماء، وعند خروجها من الماء لم يجد فيها شيئاً منه لأنّ الماء يتسرّب من بين أصابع الكفّ المفتوحة.

وهناك تفسير ثالث وهو أنّ المشركين ـ لحلّ مشاكلهم ـ كانوا يلجأون إلى الأصنام، فمثلهم مثل الذي يحتفظ بالماء في يده، هل يُحفظ الماء في يد؟! وهناك مثل معروف بين العرب لمن يسعى بدون فائدة يقال له: هو كقابض الماء باليد، ويقول الشاعر:

فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الودّ مثل القابض الماء باليد

ولكنّنا نعتقد أنّ التّفسير الأوّل أوضح!

وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى: (وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال) وأيّ ضلال أكبر من أن يسعى الإنسان ويجتهد في السبيل الضالّ ... ولكنّه لا يصل إلى مقاصده. ولا يحصل على شيء نتيجة تَعبه وجهده.

الآية الأخيرة من هذه المجموعة، ولكي تُبرهن كيف أنّ المشركين ضلّوا الطريق تقول: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال).

* * *

بحوث

1 ـ ما هو المقصود من سجود الكائنات؟

السجدة في هذه الموارد تعني الخضوع والتسليم، فإنّ جميع الملائكة

[364]

والناس ذوي العقول والأفكار متواضعين لله وخاضعين لأوامره، وهناك نوعان من السجود، سجود تكويني وهو أنّ الكلّ خاضعون ومسلّمون للقوانين الطبيعيّة مثل الحياة والممات والمرض و.. و..، والبعض منهم له سجود تشريعي بالإضافة إلى السجود التكويني، فهم بميلهم وإرادتهم يسجدون لله.

2 ـ ما هو معنى (طوعاً وكرهاً)؟

عبارة (طوعاً وكُرهاً) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ المؤمنين خاضعون لله بميلهم وإرادتهم، وأمّا غير المؤمنين فهم خاضعون كذلك للقوانين الطبيعيّة التي تسير بأمر الله إن شاؤوا وإن أبوا.

و (الكُره) بضمّ الكاف تعني الكراهية في داخل الإنسان، و (كَره) بفتح الكاف ما حُمل عليه الإنسان من خارج نفسه، وبما أنّ الأشخاص غير المؤمنين مقهورون للعوامل الخارجية وللقوانين الطبيعيّة، إستعمل القرآن (كَره) بفتح الكاف.

ويحتمل في تفسير (طوعاً وكرهاً) أنّ المقصود من «طوعاً» هو التوافق والميل الفطري والطبيعي بين الإنسان والأسباب الطبيعيّة (مثل حبّ أي إنسان للحياة) والمقصود من «كَرهَاً» هو ما فُرض على الإنسان من الخارج مثل موت أحد الأشخاص بسبب المرض أو أي عامل طبيعي آخر.

3 ـ ما هو معنى كلمة (الظِّلال)؟

«الظِّلال» جمع «ظِل» وإستعمال هذه الكلمة في الآية يشير إلى أنّ المقصود في السجود ليس فقط السجود التشريعي، فظِلال الكائنات ليست خاضعة لإرادتهم وإختيارهم، بل هو تسليم لقانون الضوء، وعلى هذا يكون سجودهم تكويني، يعني التسليم لقوانين الطبيعيّة.

[365]

وطبيعي ليس المقصود من «الظلال» أنّ جميع ما في السّماوات والأرض لها وجود مادّي كي يكون لها ظلال، ولكن الآية تشير إلى تلك الأشياء التي لها ظلال، فمثلا يُقال: إنّ جمعاً من العلماء وأبنائهم شاركوا في المجلس الكذائي، وليس المقصود هنا أنّ لكلّ العلماء أبناء «فتدبّر».

وعلى أيّة حال فإنّ الظلّ أمر عدمي، وهو ليس أكثر من فقدان النّور، ولكن له آثاراً ووجوداً بسبب النّور المحيط به، ولعلّ الآية تشير إلى هذه النقطة، وهي أنّه حتّى الظلال خاضعة لله.

4 ـ ما هو معنى كلوة (الآصال)؟

«الآصال» جمع «أُصل» وهي جمع «أصيل» ومعناه آخر وقت من النهار، ولذلك يعتبر أوّل الليل، والغدو جمع غداة بمعنى أوّل النهار.

ورغم انّ السجود والخضوع للأشياء الكونية في مقابل الأوامر الإلهيّة دائمة ومستمرّة في كلّ وقت، ولكن ذكرها هنا في موقعين (الصبح والعشاء) إِمّا أنّه كناية عن دوام الوقت، فمثلا تقول: إنّ فلاناً يطلب العلم صباحاً ومساءاً، فالمقصود وهو أنّه في كلّ وقت يطلب العلم، وإِمّا أن يكون المقصود من الآية ما جاء في الكلام عن الظلال والتي تكون واضحة أكثر في أوّل النهار وآخره.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337747

  • التاريخ : 29/03/2024 - 05:51

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net