00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الحجر من آية 19 ـ 84 من ( ص 49 ـ 104 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[49]

الآيات

وَالاَْرْضَ مَدَدْنَـهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَ سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْء مَّوزُون(19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فَيها مَعَـيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرزِقِينَ(20) وَإِن مِّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَّعْلُوم(21)

التّفسير

وإِتماماً لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق، ومظاهر عظمة الباري على وجه البسيطة، ويبدأ بنفس الأرض (والأرض مددناها).

«المد»، في الأصل بمعنى: التوسعة والبسط، ومن المحتمل أن يراد به إِخراج القسم اليابس من الأرض من تحت الماء، لأنّ سطح الأرض (كما هو معلوم) كان مغطىً بالمياه بشكل كامل نتيجة للأمطار الغزيرة، واستقرت المياه على سطح الأرض بعد أن مرّت السنين الطويلة على انقطاع الأمطار، وبشكل تدريجي ظهرت اليابسة من تحت الماء، وهو ما تسمّيه الرّوايات بـ «دحو الأرض».

ثمّ يتطرق إِلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمّة كآية من آيات التوحيد (وألقينا فيها رواسي).

[50]

عبّر سبحانه عن خلق الجبال بالإِلقاء، ولعل المراد بـ «إلقاء» هنا بمعنى (إِيجاد) لأنّ الجبال هي الإِرتفاعات الشاخصة على سطح الأرض الناشئة من برودة قشرة الأرض التدريجي، أو من المواد البركانية.

ومن بديع خلق الجبال إِضافةً إِلى كونها أوتاداً لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي، فإِنّها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوّة العواصف، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه، ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون.

واستعمال كلمة «رواسي» جمع (راسية) بمعنى الثابت والراسخ، إِشارة لطيفة لما ذكرناه.

فهي: ثابتة بنفسها، وسبب لثبات قشرة الأرض وثبات الحياة الإِنسانية عليها.

ثمّ ينتقل إِلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية، ألاَ وهو النبات (وأنبتنا فيها من كل شيء موزون).

ما أجمل هذا التعبير وأبلغه! «موزون» من مادة (وزن)(1)، ويشير بذلك إِلى: الحساب الدقيق، النظام العجيب، والتناسق في التقدير في جميع شؤون النباتات، وكل أجزائها تخضع لحساب معين لا يقبل التخلخل من الساق، الغصن، الورقة، الوردة، الحبة وحتى الثمرة.

يتنوع على وجه البسيطة مئات الآلاف من النباتات، وكل تحمل خواصاً معينة ولها من الآثار ما يميزها عن غيرها، وهي بابُ بمعرفة واسع وصولا لمعرفة الباريء المصور جل شأنه، وكل ورقة منها كتاب ينطق بعرفة الخالق.

وقد ذهب البعض إِلى أن المقصود هو إِحداث المعادن والمناجم المختلفة في الجبال، لأنّ كلمة «إِنبات» تستعمل في اللغة العربية للمعادن أيضاً.

_____________________________

1 ـ الوزن: معرفة قدر الشيء ـ مفرادت الراغب.

[51]

وقد وردت الإِشارة في بعض الرّوايات لهذا المعنى، ففي رواية عن الإِمام الباقر (عليه السلام) عندما سئل عن تفسير هذه الآية أنبتنا فيها من كل شيء موزون، أنّه قال: «فإنّ اللّه تبارك وتعالى انبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والرصاص والكحل والزرنيغ وأشباه هذه لايباع إِلاّ وزناً»(1).

وهناك من ذهب إِلى أن المقصود من الإِنبات في الآية إِلى معنىً أوسع يشمل جميع المخلوقات على هذه الأرض، كما يشير إِلى ذلك نوح (عليه السلام) حين مخاطبته قومه (واللّه أنبتكم من الأرض نباتاً)(2).

وعليه، فليس هناك ما يمنع من إِطلاق مفهوم الإِنبات في الآية ليشمل النبات والبشر والمعادن... الخ.

وبما أنّ وسائل وعوامل حياة الإِنسان غير منحصرة بالنبات والمعادن فقط، ففي الآية التالية يشير القرآن الكريم إِلى جميع المواهب بقوله: (وجعلنا لكم فيها معايش).

ليس لكم فقط، بل لجميع الكائنات الحية حتى الخارجة عن مسؤوليتكم (ومَن لستم له برازقين).

نعم، لقد كفينا الجميع احتياجاتهم.

«معايش» جمع «معيشة»، وهي: الوسائل والمستلزمات التي تتطلبها حياة الإِنسان، والتي يحصل عليها بالسعي تارة، وتأتيه بنفسها تارة أُخرى.

ومع أن بعض المفسّرين قد حصر كلمة «معايش» بالزراعة والنبات أو الأكل والشرب فقط، ولكنّ مفهومها اللغوي أوسع من أن يخصص، ويطلق ليشمل كل ما يرتبط بالحياة من وسائل العيش.

وانقسم المفسّرون في تفسير (مَنْ لستم له برازقين) إِلى قسمين:

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص6 (يعود ضمير «فيما» بناءاً على هذا التّفسير إِلى الجبال).

2 ـ سورة نوح، 17.

[52]

الأوّل: أنّ اللّه تعالى يريد أن يبيّن مواهبه ونعمه الشاملة للبشر والحيوان والكائنات الحية الأُخرى التي لا يملك الإِنسان أمر تغذيتها ولا يستطيعه.

الثّاني: أنّ اللّه تعالى يريد تذكير الإِنسان بأنّه سبحانه هو الرازق، وقد تكفل بإيصال رزقه إِلى كل محتاج له سواء كان بواسطة الإِنسان أو بواسطة أُخرى(1).

ويبدو لنا أنّ التّفسير الأوّل أكثر صواباً، ويعزز ذلك الحديث المروي في تفسير علي بن إِبراهيم، حيث يتناول معنى (ومَنْ لستم له برازقين) على أنّه: (لكل ضرب من الحيوان قدّرنا له مقدراً)(2).

أمّا آخر آية من الآيات المبحوثة، فتحوي جواباً لسؤال طالما تردد على أذهان كثير من الناس، وهو: لماذا لم تهيأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إِلى سعي وكدح؟! فتنطق الحكمة الإِلهية جواباً: (وإِن من شيء إِلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إِلاّ بقدر معلوم). فليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاذ ما نملك، وإِنّما منبع ومخزن وأصل كل شيء تحت أيدينا، وليس من الصعب علينا خلق أي شيء وبأي وقت يكون، ولكنّ الحكمة إقتضت أن يكون كل شيء في هذا الوجود خاضعاً لحساب دقيق، حتى الأرزاق إِنّما تنزل إِليكم بقدر.

ونقرأ في مكان آخر من القرآن: (ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء)(3).

_____________________________

1 ـ بناء على التّفسير الأوّل يكون الإِسم الموصول «مَنْ» في «مَنْ لستم له برازقين» عطفاً على ضمير «لكم» وبناء على التّفسير الثّاني عطفاً على «معايش»، وبعض المفسّرين اعترض على التّفسير الأوّل بأنّ الإِسم الصريح المجرور لا يعطف على ضمير مجرور إِلاّ بإِعادة ذكر حرف الجر، أيْ.. دخول اللام على «مَنْ» هنا واجباً، وثمة اعتراض آخر يقول: كيف يطلق الإِسم الموصول «مَنْ» على غير العاقل؟

والإِعتراضان مردودان، لأنّ عدم تكرار حرف الجر جار على لسان العرب، وكذا الحال بالنسبة لا ستعمال «مَنْ» لغير العاقل. بل التّفسير الثّاني يواجهه ما لسعة المفهوم للـ «معايش»، حيث يشمل جميع وسائل الحياة حتى الحيوانات الداجنة وما شابهها.. وعلى هذا الأساس رجحنا التّفسير الأوّل.

2 ـ تفسير نور الثّقلين، ج3، ص6.

3 ـ الشورى، 27.

[53]

إِنّ السعي والكدح في صراع الحياة يضفي على حركة الإِنسان الحيوية والنشاط، وهو بقدر ما يعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لتشغيل العقول وتحريك الأبدان، فإِنه يطرد الكسل ويمنع العجز ويحيي القلب للتحرك والتفاعل مع الآخرين.. وإِذا ما جعلت الأرزاق تحت اختيار الإِنسان بما يرغب هو لا حسب التقدير الرباني، فهل يستطيع أحد أن يتكهن بما سيؤول إِليه مصير البشرية؟

فيكفي لحفنة ضئيلة من العاطلين، ذوي البطون المنتفخة، وبدون أيّ وازع انضباطي، يكفيهم لأن يعيثوا في الأرض الفساد. لماذا؟

لأنّ الناس ليسوا كالملائكة، بل هناك الأهواء التي تلعب بالقلوب والمغريات التي تُدني إِلى الإِنحراف.

لقد اقتضت الحكمة الرّبانية أن يكون الإِنسان حاملا لجميع الصفات الحسنة والسيئة، ويمتحن على هذه الأرض بما يحمل، وبماذا يعمل، وعن ماذا يتجاوز؟.. والسعي والحركة لما هو مشروع، المجال الأمثل للإِمتحان.

والفقر والغنى من البلاء الذي يدخل ضمن مخطط التمحيص والإمتحان، فكما أنّ الفقر والعوز قد يجران الإِنسان نحو هاوية السقوط في مهالك الإِنحراف، فكذلك الغنى في كثير من حالاته يكون منشأً للفساد والطغيان.

* * *

بحوث

1 ـ ما هي خزائن اللّه تعالى؟

نقرأ فى آيات القرآن أن: للّه عزَّ وجلّ خزائن، للّه خزائن السماوات والأرض، بيده خزائن كل شيء.. فما هي خزائنه تعالى؟

«الخزائن» لغةً جمع «خزانة»: وهي المكان المخصص لحفظ وتجميع المال.

وهي من مادة (خَزَنَ) على وَزْنِ (وَزَنَ) بمعنى: حفظ الشيء وحبسه.

[54]

بديهي، أن مَنْ كانت قدرته محدودة وغير قادر على أن يهيء لنفسه كل ما يحتاج إِليه على الدوام، يبدأ بجمع ما يملك وخزنه لوقت الحاجة إِليه مستقبلا.

وهل يمكن تصور ذلك في شأنه سبحانه!؟ الجواب بالنفي قطعاً.. ولهذا فسّر جمع من المفسّرين أمثال العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) والفخر الرازي في (تفسيره الكبير) والراغب في (المفردات)، فسّروا خزائن اللّه بمعنى (مقدورات اللّه)، يعني: أنّ كل شيء جمع في خزانة قدرة اللّه، وكل ما يخطه ضرورة أو صلاحاً لمخلوقه يخلقه بقدرته.

وقد فسّر بعض كبار المفسّرين «خزائن اللّه» بأنّها: (مجموع ما في الكون من أصوله وعناصره وأسبابه العامّة المادية، ومجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها)(1).

هذا التّفسير وإِن كان مقبولا من الناحية الأصولية ولكنّ تعبير «عندنا» ينسجم أكثر مع التّفسير الأوّل.

وانَّ عبارة «خزائن اللّه» وما شابهها لا تصف مقام الرب وشأنه الجليل، ولا يصح أن نعتبرها بعين معناها، وإِنّما استعملت للتقريب، من باب تكلم الناس بلسانهم، ليكونوا أكثر قرباً للسمع وأشد فهماً للمعنى.

وذكر بعض المفسّرين أنّ «خزائن» تختص بالماء والمطر، ولكن من الواضح حصر مفهوم «خزائن» بهذا المصداق المحدد تقييد بلا مقيد لإِطلاق مفهوم الآية، وهو خال من أيِّ دليل أو قرنية.

2 ـ النّزول مكانيّ ومقامى

كما بيّنا سابقاً أن النّزول لا يرمز إِلى الحالة المكانية دوماً (أيْ النّزول من

_____________________________

1 ـ الميزان، ج12، ص142.

[55]

مكان عال إِلى أسفل)، بل يرمز إِلى النّزول المقامي في بعض الموارد، فمثلا.. في حال وصول نعمة من شخص ذي شأن إِلى من هم أقل منه شأناً، فإنّه يعبر عنها بالنّزول.

وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مورد النعم الإِلهية، سواء كانت نازلة من السماء إِلى الأرض كالمطر، أو ما يتوالد على الأرض كالحيوانات، وهذا ما نلاحظه في الآية السادسة من سورة الزمر (وأنزلنا لكم من الأنعام ثمانية أزواج)، و كذلك في الآية الخامسة والعشرين من سورة الحديد، بشأن الحديد، (وأنزلنا الحديد) ... الخ.

خلاصة القول:

إِنّ (نزول) و (إِنزال) هنا بمعنى وجود و إِيجاد وخلق ، وما استعمال هذا اللفظ إِلاّ لأنّها نعم اللّه عزَّ وجلّ التي وهبها لعباده.

* * *

[56]

الآيات

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـحَ لَوَقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَسْقَيْنَـكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَـزِنِينَ(22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَ رِثُونَ(23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَئْخِرِينَ(24) وَإِنِّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(25)

التّفسير

دور الرّياح والأمطار:

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة قسماً من أسرار الخليقة والنعم الإِلهية كخلق الأرض والجبال والنباتات وما تحتاجه الحياة من مستلزمات، يشير في أولى الآيات المبحوثة إلى حركة الرياح وما لها من آثار في عملية نزول المطر، فيقول: (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين).

«لواقح» جمع «لاقح» .. وهي تشير هنا إِلى دور الرياح في تجميع قطع الحساب مع بعضها لتهيئة عملية سقوط الأمطار.

وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إِلى أن الآية تشير إِلى عملية تلقيح

[57]

النباتات بواسطة الرياح، وبها يستدلون على الإِعجاز العلمي للقرآن، على اعتبار أن عصر نزول القرآن ما كان يحظى بما وصل إِليه عصرنا من العلوم الحديثة، وأنّ إِخبار القرآن بهذه الحقيقة العلمية (علمية التلقيح) من ذلك الوقت لدليل على إِعجازه العلمي.

مع قبولنا بحقيقة تلقيح النباتات ودور الرياح فيها، إِلاّ أنّنا لا نرى ما يشير لما ذهب إِليه علماء اليوم لسببين:

الأوّل: وجود قرينة نزول المطر بعد كلمة لواقح مباشرة.

ثانياً: وجود فاء السببية بينها (بين لواقح ونزول المطر).

ممّا يبيّن بشكل جلي أن تلقيح الرياح يعقبه نزول المطر.

ويعتبر ما جاء في الآية المباركة من روائع الكلم، حيث شبّه قطع الحساب بالآباء والأمهات يتم تزاوجهم بأئر الرياح، فتحمل الأُمهات، ثمّ تلقي بما حملت (قطرات المطر) إلى الأرض.

ويمكن حمل (ما أنتم له بخازنين) على أنّها إِشارة لخزن ماء المطر في السحب قبل نزوله، أي إِنّكم لا تستطيعون استملاك السحب التي هي المصدر الأصلي للأمطار.

ويمكن حملها على أنّها إِشارة إِلى جمع وخزن الأمطار بعد نزولها، أي إِنّكم لا تقدرون على جمع مياه الأمطار بمقادير كبيرة حتى بعد نزوله، وأنّ اللّه عزَّوجلّ هو الذي يحفظها ويخزنها على قمم الجبال بهيئة ثلوج، أو ينزلها في أعماق الأرض لتكون بعد ذلك عيوناً وآباراً.

ثمّ ينتقل من مظاهر توحيد اللّه إِلى المعاد ومقدماته: (وإِنّا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون)، فيذكر مسألة الحياة والموت التي تعتبر من أهم المقدمات لبحث موضوع المعاد، إِضافة لكون هذه المسألة من مكملات موضوع التوحيد، باعتبار مسألة الحياة منذ بدايتها وحتى انتهائها بالموت تشكل نظاماً مترابطاً في عالم

[58]

الوجود لا يمكن تصور تشكيله إِلاّ بوجود علم وقدرة مطلقين، بالإِضافة إِلى أن وجود الحياة والموت بحد ذاته دليل على أنّ موجودات هذا العالم لا تملك زمام أنفسها ناهيك عمّا هو بأيديها، وأنّ الوارث الحقيقي لكل شيء هو اللّه تعالى.

ثمّ يضيف: (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين).

أيْ، نحن على علم بهم وبما يعملون، وإِن أمر محاسبتهم وجزائهم في المعاد علينا سهل يسير.

ولهذا، نرى الآية التي تليها: (وإِنّ ربّك هو يحشر هم إنّه حكيم عليم) مرتبطة تماماً مع ما قبلها ومتممة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد الموت.. فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شيء.

فلو أنّ الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شيء بالموت لكانت عملية الخلق عبثاً، وهذا غير معقول، لأنّه تعالى منزّه عن العبث.

فالحكمة الإِلهية اقتضت من «حياة الدنيا أن تكون مرحلة استعداد لمسيرة دائمة نحو المطلق»، وبتعبير آخر. مقدمة لحياة أبدية خالدة. وأمّا كونه سبحانه عليماً.. فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من جهة، وكذلك في اعماق وجود الانسان من جهة أُخرى، ولا تخفى عليه خافية يوم يقوم الحساب.

وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على مسألة الحشر والمعاد.

* * *

بحث

مَنْ هم المستقدمون والمستأخرون؟

ذكر المفسّرون في تفسير (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا

[59]

المستأخرين) احتمالات كثيرة، فذكر العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) ستة احتمالات، والقرطبي ثمانية احتمالات، وأبو الفتوح الرازي بحدود العشرة احتمالات، والملاحظة الدقيقة تظهر أنّه يمكن لنا أن نجمع كل ما ذكروه في تفسير واحد، لأن كلمة «المستقدمين» و«المستأخرين» لهما معنيان واسعان يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان، وكذلك من حيث أعمال الخير والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها. وإِذا ما أخذنا بهذا المعنى الجامع فيمكننا جمع كل الإِحتمالات الواردة في «تقدم» و«تأخر» المذكورتين في الآية في تفسير واحد.

وفيما روي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحث على الإِشتراك في الصف الأوّل من صفوف صلاة الجماعة أنّه قال: «إنّ اللّه وملائكتة يصلون على الصف المتقدم» فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا: «لنبيعنّ دورنا ولنشترينّ دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم»، فنزلت هذه الآية. (وأفهمتهم على أنّ اللّه تعالى عليم بنيّاتكم، فحتى لو كنتم في الصف الأخير فإنّه يكتب لكم ثواب الصف الأوّل حسب نيّتكم وعزمكم على ذلك).

فمحدودية شأن نزول الآية لا يكون أبداً سبباً لحصر مفهومها الواسع.

* * *

[60]

الآيات

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنَسنَ مِنْ صَلْصَـل مِّنْ حَمَإ مَّسْنُون(26)وَالْجَآنَّ خَلَقْنهُ مِنْ قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ(27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـئِكَةِ إِنِّى خَـلِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَـل مِّنْ حَمَإ مَّسْنُون(28)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـجِدِينَ(29)فَسَجَدَ الْمَلَـئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30) إِلآَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّـجِدِينَ(31) قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّـجِدِين(32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَِسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَـل مِّن حَمَإ مَّسْنُون(33) قَالَ فَاخْرُجْ مَنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38) قَالَ رَبِّ بَمَا أَغْوَيْتَنِى لأَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأَْرْضَ وَلأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُْمخْلَصِينَ(40) قَالَ هَـذَا صِرَ طٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ(41) إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ

[61]

سُلْطَـنٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ(42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ(43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْواب لِّكُلِّ بَاب مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ(44)

التّفسير

خلق الإنسان:

بعد ذكر خلق نماذج من مخلوقات اللّه في الآيات السابقة، تأتي هذه الآيات لتبيّن أن الهدف الأساسي من إيجاد كل الخليقة إِنّما هو خلق الإِنسان. وتتطرق الآيات إِلى جزئيات عديدة في شأن الخلق، زاخرةً بالمعاني.

وقبل الدخول في بحوث مفصلة حول بعض المسائل التي ذكرت في الآيات المباركات نشرع بتفسير إِجمالي..

يقول تعالى في البداية: (ولقد خلقنا الإِنسان من صلصال من حمأ مسنون)، «الصلصال» هو التراب اليابس الذي لو اصطدم به شيء أحدث صوتاً.. و «الحمأ المسنون» هو طينٌ متعفن.

(والجان خلقناه من قبل من نار السموم).

«السّموم» لغة: الهواء الحارق، وسميَّ بالسموم لأنّه يخترق جميع مسامات بدن الإِنسان، وكذلك يطلق على المادة القاتلة (السم) لأنّها تنفذ في بدن الإِنسان وتقتله.

ثمّ يعود القرآن الكريم إِلى خلق الإِنسان مرّة أُخرى فيتعرض إِلى كلام اللّه تعالى مع الملائكة قبل خلق الإِنسان: (وإِذا قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون فإِذا سويته ونفخت فيه من روحي) وهي روح شريفة طاهرة جليلة (فقعوا له ساجدين).

وبعد أن تمّ خلق الإِنسان من الجسم والروح المناسبين (فسجد الملائكة كلّهم أجمعين).

[62]

ولم يعص هذا الأمر إِلاّ إِبليس: (إِلاّ إِبليس أبى أن يكون مع الساجدين).

وهنا سأل اللّه إِبليسَ: (قال يا إِبليس ما لك ألاّ تكون مع الساجدين).

فأجاب إِبليس بعد أن كان غارقاً في بحر الغرور المظلم، وتائهاً في حب النفس المقتم، وبعد أن غطى حجاب الخسران عقله.. أجاب بوقاحة (قال لم أكن لا سجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون).. فأين النّار المضيئة من التراب الأسود المتعفن! وهل لموجود شريف مثلي أن يتواضع ويخضع لموجود أدنى منه! أيُّ قانون هذا؟!..

ونتيجةً للغرور وحب النفس، فقد جهل أسرار الخليقة، ونسي بركات التراب الذي هو منبع كل خير وبركة، والأهم من ذلك كله.. فقد تجاهل شرافة تلك الروح التي أودعها الرّب في آدم.. وكنتيجة طبيعية لهذا السلوك المنحرف فقد هوى من ذلك المقام المرموق بعد أن أصبح غير لائق لأن يكون في درجة الملائكة وبين صفوفهم، فجاء الأمر الإِلهي مقرعاً: (قال فاخرج منها فإِنّك رجيم)، أي أخرج من الجنّة، أو من السماوات أو اخرج من بين صفوف الملائكة.

واعلم يا إِبليس بأنّ غرورك أصبح سبباً لكفرك، وكفرك قد أوجب طردك الأبدي (وإِنّ عليك اللعنة إِلى يوم الدين) أي، إِلى يوم القيامة.

وهنا.. حينما وجد إِبليس نفسه مطروداً من الساحة الإِلهية، ساوره إِحساس بأنّ خلق الإِنسان هو سبب شقائه فاشتعلت نار الحقد والضغينة في قلبه لينتقم لنفسه من أولاد آدم(عليه السلام).

فبالرغم من أنّ السبب الحقيقي يرجع إِلى إِبليس نفسه وليس لآدم دخل في ذلك، إِلاّ أن غروره وحبّه لنفسه وعناده المستحكم لم يعطياه الفرصة لدرك حقيقة شقاءه، ولهذا (قال ربّ فانظرني إِلى يوم يبعثون)، ليركز عناده وعداءه!

وقبل اللّه تعالى طلبه: (قال فإِنّك من المنظرين).

ولكن ليس إِلى يوم يبعثون كما أراد، بل (إِلى يوم الوقت المعلوم). فما هو

[63]

يوم الوقت المعلوم؟

قال بعض المفسّرين: هو نهاية هذا العالم وانتهاء التكليف، لأنّ بعد ذلك (كما يفهم من ظاهر الآيات القرآنية) تحلّ نهاية حياة جميع الكائنات، ولا يبقى حي إِلاّ الذات الإِلهية المقدسة، ومن هذا نفهم حصول الموافقة على بعض طلب إِبليس.

وقال بعض آخر: هو زمان معين لا يعلمه إِلاّ اللّه، لإنّه لو أظهره عزَّوجلّ لكان لإِبليس ذريعة في المزيد من التمرد والمعاصي.

وثمة مَنْ قال: إنّه يوم القيامة، لأن إِبليس أراد أن يكون حياً إِلى ذلك اليوم ليكون بذلك من الخالدين في الحياة، وإِن يوم الوقت المعلوم قد ورد بمعنى يوم القيامة في سورة الواقعة (الآية / 50)، وهو ما يعزز هذا القول.

ويبدو أن هذا الإحتمال بعيد جداً لأنه يتضمن الموافقة الإِلهية على كل طلب إِبليس، والحال أن ظاهر الآيات المذكورة لا تعطي هذا المعنى، فلم تبيّن الآيات أن اللّه استجاب لطلبه بالكامل، بل يوم الوقت المعلوم... ومن هنا يكون التّفسير الأوّل أكثر توافقاً مع روح وظاهر الآية، وكذلك ينسجم مع بعض الرّوايات عن الإِمام الصّادق (عليه السلام) بهذا الخصوص(1).

وهنا أظهر إِبليس نيته الباطنية (قال ربّ بما أغويتني) وكان هذا الإِنسان سبباً لشقائي (لأُزينن لهم في الأرض) نعمها المادية (ولأُغوينهم أجمعين) بإِلهائهم بتلك النعم.

إِلاّ أنّه يعلم جيداً بأن وساوسه سوف لن تؤثر في قلوب عباد اللّه المخلصين، وأنّهم متحصنون من الوقوع في شباكه، لأنّ قوة الإِيمان ودرجة الإِخلاص عندهم بمكان يكفي لدرء الخطر عنهم بتحطيم قيود الشيطان عن أنفسهم.. ولهذا نراه قد استثنى في طلبه (إِلاّ عبادك منهم المخلصين).

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج3، ص13، الحديث 45.

[64]

من البديهي أنّ اللّه سبحانه منزّه عن تضليل خلقه، إِلاّ أنّ محاولة إِبليس لتبرير ضلاله وتبرئة نفسه جعلته ينسب ذلك إِلى اللّه سبحانه وتعالى. هذا الموقف هو ديدن جميع الأبالسة والشياطين، فهم يلقون تبعة ذنوبهم على الآخرين أوّلاً ومن ثمّ يسعون لتبرير أعمالهم القبيحة بمنطق مغلوط ثانياً، والمصيبة أن مواقفهم تلك إِنّما يواجهون بها ربّ العزة والجبروت، وكأنّهم لا يعلمون أنّه لا تخفى عليه خافية.

وينبغي ملاحظة أن «المخلصين» جمع مخلَص (بفتح اللام) وهو ـ كما بيّناه في تفسير سورة يوسف ـ المؤمن الذي وصل إِلى مرحلة عالية من الإِيمان والعمل بعد تعلم وتربية ومجاهدة مع النفس، فيكون ممتنعاً من نفوذ وساوس الشيطان وأيّ وسواس آخر.

ثمّ قال تعالى تحقيراً للشيطان وتقوية لقلوب العباد المؤمنين السالكين درب التوحيد الخالص: (قال هذا صراط عَلَيَّ مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ مَنْ اتبعك من الغاوين).

يعني، يا إِبليس ليس لك القدرة على إِضلال الناس، لكن الذين يتبعونك إِن هم إِلاّ المنحرفين عن الصراط المستقيم والمستجيبين لدواعي رغباتهم وميولهم.

وبعبارة أُخرى.. إِنّ الإِنسان حر الإِرادة، وإِنّ إِبليس وجنوده لا يقوون على أن يجبروا إِنساناً واحداً على السير في طريق الفساد والضلال، لكنّه الإِنسان هو الذي يلبي دعوتهم ويفتح قلبه أمامهم ويأذن لهم في الدخول فيه!

وخلاصة القول: إنّ الوساوس الشيطانية وإن كانت لا تخلو من أثر في تضليل وانحراف الإِنسان، إِلاّ أنّ القرار الفعلي للإِنصياع للوساوس أو رفضها يرجع بالكامل إِلى الإِنسان، ولا يستطيع الشيطان وجنوده مهما بلغوا من مكر أن يدخلوا قلب إِنسان صاحب إِرادة موجهة صوب الإِيمان المخلص.

وأراد اللّه سبحانه بهذا القول نزع الخيال الباطل والغرور الساذج من فكر

[65]

الشيطان من أنّه سيجد سلطة فائقة على الناس وبلا منازع، يمكنه من خلالها إِغواء من يريد.

ثمّ يهدد اللّه بشدّة أتباع الشيطان: (وإِنّ جهنم لموعدهم أجمعين) وأنْ ليس هناك وسيلة للفرار، والكل سيحاسب في مكان واحد.

(لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم).

هي أبواب للذنوب التي يدخلون جهنم بسببها، وكل يحاسب بذنبه.. كما هو الحال في أبواب الجنّة التي هي عبارة عن طاعات وأعمال صالحة ومجاهدة للنفس يدخل بها المؤمنون الجنّة.

* * *

بحوث

1 ـ التكبر والغرور من المهالك العظام:

المستفاد تربوياً من قصة إِبليس في القرآن هو أن الكبر والغرور من الأسباب الخطيرة في عملية الإِنهيار والسقوط من المكانة المحترمة المرموقة إِلى مدارك الدون والخسران.

فكما هو معلوم أنّ إِبليس لم يكن من الملائكة (كما تشير إِلى ذلك الآية الخمسون من سورة الكهف) إِلاّ أنّه ارتقى الدرجات العُلا ونال شرف العيش بين صفوف الملائكة نتيجة لطاعته السابقة للّه عزَّوجلّ، حتى أنّ البعض قال عنه: إنّه كان معلماً للملائكة، ويستفاد من الخطبة القاصعة في (نهج البلاغه) أنّه عبد اللّه عزَّ وجلّ آلاف السنين.

لكن شراك التعصب الأعمى وعبادة هوى النفس المهلك قد أدّيا الى خسرانه كل ذلك في لحظة تكبر وغرور.

بل إِنّ حب الذات والغرور والتعصب والتكبر قد جعلته يستمر في موقفه

[66]

المريض ويوغل قدمه في وحل الإِصرار على الإِثمّ والسير المتخبط في جادة العناد، فنسي أو تناسى ما للتوبة والإِستغفار من أثر إِيجابي، حتى دعته الحال لأن يشارك كل الظلمة والمذنبين من بني آدم في جرائمهم وذنوبهم بوسوسته لهم.. وبات عليه أن يتحمل نصيبه من عذاب الجميع يوم الفزع الأكبر.

وليس ابليس فحسب، بل إنّ التأريخ يحدثنا عن أصحاب النفوس المريضة ممن ركبهم الغرور والكبر فعاثوا في الأرض فساداً بعد أن غطت العصبية رؤاهم، وحجب الجهل بصيرتهم، وسلكوا طريق الظلم والإِستبداد وسادوا على الرقاب بكل جنون فهبطوا إِلى أدنى درجات الرذيلة والإِنحراف عن الطريق القويم.

إِنّ هاتين السمتين الأخلاقيتين (التكبر والغرور) في الواقع.. نار رهيبة محرقة. فكما أن مَنْ صرف وطراً من عمره في بناء وتأثيث دار، لربّما في لحظات معدودات يتحول إِلى هباء منثور بسبب شرارة صغيرة.. فالتكبر والغرور يفعل فعل النّار في الحطب ولا تنفع معه تلك السنين المعمورة بالطاعة والبناء.

فأيُّ درس أنطق من قصة إِبليس وأبلغ؟!

إِنّ إِبليس قد اختلطت عليه معاني الأشياء فراح يضع المعاني حسب تصوراته الخادعة المحدودة ولم يدرك أن النّار ليست أفضل وأشرف من التراب، والتراب مصدر جميع البركات كالنباتات والحيوانات والمعادن وهو محل حفظ المياه، وبعبارة اشمل هو منبع وأصل كل الكائنات الحية، وما عمل النّار إِلاّ الإِحراق وكثيراً ما تكون مخربة ومهلكة.

ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) إِبليسَ بأنّه «عدو للّه، إِمام المتعصبين وسلف المستكبرين» ثمّ يقول: «ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبره ووضعه بترفعه، فجعله في الدنيا مدحوراً وأعد له في الآخرة سعيراً»(1).

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، من الخطبة 192.

[67]

وكما أشرنا سابقاً أنّ إِبليس كان أوّل مَنْ وضع أُسس مذهب الجبر الذي ينكره وجدان أي إِنسان. حيث أنّ الدافع المهم لأصحاب هذا المذهب تبرئة ساحة المذنبين من أعمالهم المخالفة لشرع اللّه، وكما قرأنا في الآيات مورد البحث من أنّ إِبليس تذرع بتلك الكذبة الكبيرة لأجل تبرئة نفسه، وأنّه على حق في إِضلاله لبني آدم حين قال: (ربّ بما أغويتني لأُزينّن لهم في الأرض ولأُغوينهم أجمعين).

2 ـ على مَنْ يتسلط الشيطان؟

نرى من الضروري أن نكرر القول بأنّ نفوذ الوساوس الشيطانية في قلب الإِنسان لا تأتي فجأة أو إِجباراً، وإِنما بوجود الرغبة الكافية عند الإِنسان بفسح المجال أمام دخول الوساوس إِلى دواخله، وعلى هذا فالشيطان يعلم تماماً بأنْ ليس له سبيل على المخلصين الذين طهّروا أنفسهم في ظل التربية الخالصة من الشوائب والأدران وغسلوا قلوبهم من صدأ الشرك والضلال. وبتعبير القرآن الكريم إِنّ رابطة الشيطان مع الضالين هي رابطة التابع والمتبوع وليس رابطة المُجْبِرْ والمجبور.

3 ـ أبواب جهنم!

قرأنا في الآيات مورد البحث أن لجهنم سبعة أبواب (وليس بعيداً أن يكون ذكر العدد في هذا المورد للكثرة كما ورد هذا العدد في الآية السابعة والعشرين من سورة لقمان بهذا المعنى أيضاً).

ومن الواضح أنّ تعدد أبواب جهنم (كما هو تعدد أبواب الجنّة) لم يكن لتسهيل أمر دخول الواردين نتيجة لكثرتهم، بل هي إِشارة إِلى الأسباب والعوامل المتعددة التي تؤدي لدخول الناس في جهنم، وأنّ لكل من هذه الذنوب باب معين

[68]

يؤدي إِلى مدركه.

ففي نهج البلاغة: «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه»(1)، وفي الحديث المعروف: «إن السيوف مقاليد الجنّة».. فهذه التعبيرات تبيّن لنا بوضوح ما المقصود من تعدد أبواب الجنّة والنّار.

وثمة نكتة لطيفة في ما روي عن الإِمام الباقر (عليه السلام): «إنّ للجنة ثمانية أبواب»(2)، في حين أن الآيات تذكر أن لجهنم سبعة أبواب، وهذا الإختلاف في العددين إِشارة إِلى أنّه مع كثرة أبواب العذاب والهلاك إِلاَّ أن أبواب الوصول إِلى السعادة والنعيم أكثر، (وقد تحدثنا عن ذلك في تفسير الآية الثّالثة والعشرين من سورة الرعد).

4 ـ (الحمأ المسنون) و (روح اللّه):

يستفاد من الآيات أن خلق الإِنسان تمّ بشيئين متغايرين، أحدهما في أعلى درجات الشرف والآخر في أدنى الدرجات (بقياس ظاهر القيمة).

فالطين المتعفن خلق منه الجانب المادي منه الإنسان، في حين جانبه الروحي والمعنوي خلق بشيء سُمي (روح اللّه).

وبديهي أنّ اللّه سبحانه منزّه عن الجسمية وليس له روح، وإِنّما أضيف الروح إِلى لفظ الجلالة لإِضفاء التشريف عليها وللدلالة على أنّها روح ذات شأن جليل قد أودعت في بدن الانسان، بالضبط كما تسمّى الكعبة (بيت اللّه) لجلالة قدرها، وشهر رمضان المبارك (شهر اللّه) لبركته.

ولهذا السبب نرى أن الخط التصاعدي الانسان يتساهى في العلو حتى يصل الى أن لا يرى سوى اللّه عزَّوجلّ، وخط تسافله من الإِنحطاط حتى يركد في

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 27.

2 ـ الخصال للشيخ الصدوق ـ باب الثمانية.

[69]

أدنى مرتبة من الحيوانات (بل هم أضل) وهذا البون الشاسع بين الخطين التصاعدي والتنازلي بحد ذاته دليلٌ على الأهمية الإِستثنائية لهذا المخلوق.

إِنّ شرف مقام الانسان وتكريمه يأتي من خلال هذا التركيب الخاص، ولكن ليس بفضل جنبته المادية لأنّه ليس سوى (حمأ مسنون) وإِنّما بفضل الروح الإِلهية المودعة فيه، بما تحمل من استعدادات ولياقة لأن تكون منعكساً للأنوار الإِلهية، تلك الأنوار التي استمد منها الإنسان شرف قدره ومقامه.. ولا سبيل لتكامل الانسان إِلاّ ببنائه الروحي ووضع بعده المادي في خدمة طريق التكامل والوصول لساحة رضوانه جل شأنه.

والمستفاد من الآيات المتعلقة بخلق آدم في أوائل سورة البقرة أنّ مسألة سجود الملائكة لآدم، كان لما أودع فيه من العلم الإِلهي الخاص.

وقد أجبنا على سؤال: كيف يصحّ السجود لغير اللّه؟ وهل أنّ سجود الملائكة كان في حقيقة للّه عزَّ وجلّ لأجل هذا الخلق العجيب؟ أم كان لآدم؟.. في تفسير الآيات المتعلقة بخلق آدم سورة البقرة.

5 ـ ما هو الجان؟

إنّ كلمة (الجن) في الأصل بمعنى: الشيء الذي يُسْتَرُ عن حس الانسان، فمثلا نقول (جَنَّهُ الليلُ) أو (فلما جنَّ عليه الليل) أي عندما غطته ستارة الليل السوداء، ويقال (مجنون) لمن فقد عقله أيْ سُتِرْ، و(الجنين) للطفل المستور في رحم أُمّه، و(الجنّة) للبستان الذي تغطي أشجاره أرضه، و(الجِنَان) للقلب الذي سُتِرَ داخل صدر الانسان، و(الجُنّه) للدرع الذي يحمي الإنسان من ضربات الأعداد.

والمستفاد من آيات القرآن أن «الجِنَّ» نوعٌ من الموجودات العاقلة قد سُترت عن حس الانسان، وخُلِقَتْ من النّار، أو من مارج من نار، أيْ من صافي

[70]

شعلتها، وابليس من هذا الصنف.

وقد عبّر بعض العلماء عن الجن بأنّها: نوع من الأرواح العاقلة المجردة من المادة (وواضح أن تجردها ليس كاملا، فما يخلق من المادة فهو مادي، ولكنْ يمكن أن يكون نصف تجرد لأنه لا يدرك بحواسنا، وبتعبير آخر: إنّه نوع من الجسم اللطيف).

ويستفاد من الآيات القرآنية أيضاً أنّ الجن فيهم المؤمن المطيع والكافر العاصي، وأنّهم مكلفون شرعاً، ومسؤولون .

ومن الطبيعي أنّ شرح هذه الأُمور ومسألة انسجامها مع العلم الحديث يتطلب منا بحثاً مطولا، وسنتناوله إن شاء اللّه في تفسير سورة الجن.

وممّا ينبغي الإِشارة إِليه في هذا الصدد.. أنّ كلمة «الجان» الواردة في الآيات مورد البحث هي من مادة (الجن) ولكن.. هل ترمزان إِلى معنى واحد؟ فقد ذهب بعض المفسّرين إِلى أن الجان نوع خاص من الجن، ولكننا لا نرى ذلك.

فلو جمعنا الآيات القرآنية الواردة بهذا الشأن مع بعضها البعض لا تضح أن كلا المعنيين واحد، لأن الآيات القرآنية وضعت «الجن» في قبال الانسان تارة، ووضعت «الجان» تارة أُخرى.

فمثلا نقرأ في الآية (88) من سورة الإِسراء (قل لئن اجتمعت الإِنس والجن).

وفي بعض الآية (56) من سورة الذاريات (وما خلقت الجن والإِنس إِلاّ ليعبدون).

في حين نقرأ في الآية (15) من سورة الرحمن (خلق الإِنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار).

وفي الآية (39) من نفس السورة (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان).

فمن مجموع الآيات أعلاه والآيات القرآنية الأُخرى يستفاد بوضوح أن الجّن والجان لفظان لمعنى واحد، ولهذا وردت في الآيات السابقة كلمة «الجن»

[71]

في مقابل الإِنسان، وكذا الحال بالنسبة للـ «جان».

وينبغي التنويه إِلى أن القرآن الكريم قد ذكر «الجان» ويريد به نوعاً من الأفاعي كما جاء في قصة موسى (عليه السلام) (كأنّها جان) في سورة القصص ـ 31، إِلاّ أن ذلك خارج نطاق بحثنا.

6 ـ القرآن وخلق الإِنسان:

شاهدنا في الآيات الأنفة أن القرآن قد تناول مسألة خلق الإِنسان بشكل مختصر ومكثف تقريباً، لأنّ الهدف الأساسي من التناول هو الجانب التربوي في الخلق، وورد نظير ذلك في أماكن أُخرى من القرآن، كما في سورة السجدة، والمؤمنون، وسورة ص، وغيرها.

وبما أنّ القرآن الكريم ليس كتاباً للعلوم الطبيعية بقدر ما هو كتاب حياة الإِنسان يرسم له فيه أساليب التربية وأسس التكامل. فلا ينتظره منه أن يتناول جزئيات هذه العلوم من قبيل تفاصيل: النمو، التشريح، علم الأجنّة، علم النبات وما شابه ذلك، إِلاّ أنّه لا يمنع من أن يتطرق بإِشارات مختصرة إِلى قسم من هذه العلوم بما يتناسب مع البحث التربوي المراد طرحه.

بعد هذه المقدمة نشرع بالموضوع من خلال بحثين:

1 ـ التكامل النوعي من الناحية العلمية.

2 ـ التكامل النوعي وفق المنظور القرآني.

في البدء، نتناول البحث الأوّل وندرس المسألة وفق المقاييس الخاصة للمعلوم الطبيعية بعيداً عن الآيات والرّوايات:

ثمة فرضيتان مطروحتان في أوساط علماء الطبيعة بشأن خلق الكائنات الحية بما فيها الحيوانات والنباتات:

ألف: فرضية تطوّر الانواع (ترانسفور ميسم) والتي تقول: إِنّ الكائنات الحية

[72]

لم تكن في البداية على ما هي عليه الآن، وإِنّما كانت على هيئة موجودات ذات خلية واحدة تعيش في مياه المحيطات، وظهرت بطفرة خاصة من تعرقات طين أعماق البحار.

أيْ أنّها كانت موجودات عديمة الروح، وقد تولدت منها أوّل خلية حية نتيجة لظروف خاصّة.

وهذه الكائنات الحية لصغرها لا ترى بالعين المجرّدة وقد مرت بمراحل التكامل التدريجي وتحولت من نوع إِلى آخر.

وتمّ انتقالها من البحار إِلى الصحاري ومنها إِلى الهواء.. فتكونت بذلك أنواع النباتات والحيوانات المائية والبرية والطيور.

وإِن أكمل مرحلة وأتمّ حلقة لهذا التكامل هو الإِنسان الذي نراه اليوم، الذي تحول من موجودات تشبه القرود إِلى القرود التي تشبه الإِنسان ثمّ وصل إِلى صورته الحالية.

ب ـ فرضية ثبوت الأنواع (فيكنسيسم)، والتي تقول: إنّ أنواع الكائنات الحية منذ بدايتها وما زالت تحمل ذات الأشكال والخواص، ولم يتغير أيَّ من الأنواع إلى نوع آخر، ومن جملتها الإِنسان فكان له صورته الخاصّة به منذ بداية خلقه.

وقد كتب علماء كلا الفريقين بحوثاً مطولة لإثبات عقيدتهم، وجرت مناظرات ومنازعات كثيرة في المحافل العلمية حول هذه المسألة، وقد اشتد النزاع عندما عرض كل من (لامارك) العالم الفرنسي المعروف المتخصص بعلوم الأحياء والذي عاش بين أوخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، و(داروين) عالم الأحياء الإِنكليزي الذي عاش في القرن التاسع عشر نظراتهما في مسألة تطوّر الانواع بأدلة جديدة.

وممّا ينبغي التنوية إِليه، هو أنّ معظم علماء اليوم يميلون إِلى فريضة تطوّر أو

[73]

تكامل الانواع هذه خصوصاً في محافل العلوم الطبيعية.

أدلة القائلين بالتكامل:

يمكننا تلخيص أدلتهم بثلاثة أقسام:

الأوّل: الأدلة المأخوذة من الهياكل العظمية المتحجرة للكائنات الحيّة القديمة فإن الدراسات لطبقات الأرض المختلفة (حسب اعتقادهم) تُظهر أن الكائنات الحيّة قد تحولت من صور بسيطة إِلى أُخرى أكمل وأكثر تعقيداً، ولا يمكن تفسير ما عثر عليه من متحجرات الكائنات الحية إِلاّ بفرضية التكامل هذه.

الثّاني: مجموع القرائن التي جمعت في (التشريح المقارن).

ويؤكّد هؤلاء العلماء عبر بحوثهم المطولة المفصلة: إنّنا عندما نشرّح الهياكل العظمية للحيوانات المختلفة ونقارنها فيما بينها، نجد أن ثمّة تشابهاً كبيراً فيما بينها، ممّا يشير إلى أنّها جاءت من أصل واحد.

الثّالث: مجموع القرائن التي حُصِلَ عليها من (علم الأجنَّة).

فيقولون: إنّنا لو وضعنا جميع الحيوانات في حالتها الجنينية ـ قبل أن تأخذ شكلهاالكامل ـ مع بعضها، فسنرى أنّ الأجنَّة قبل أن تتكامل في رحم أُمهاتها أو في داخل البيوض تتشابه إِلى حد كبير.. وهذا ما يؤكّد على أنّها قد جاءت في الأصل من شيء واحد.

أجوبة القائلين بثبوت الأنواع:

إِلاّ أن القائلين بفرضية ثبوت الأنواع لديهم جوابٌ واحد لجميع أدلة القائلين بالتكامل وهو: أن القرائن المذكورة لا تملك قوّة الإِقناع، والذي لا يمكن إِنكاره أن الأدلة الثلاثة توجد في الذهن احتمالا ظنياً لمسألة التكامل، إِلاّ أنّها لا تقوى أن تصل إِلى حال اليقين أبداً.

[74]

وبعبارة أوضح: إنّ إثبات فرضية التكامل وانتقالها من صورة فرض علمي إلى قانون علمي قطعي.. إمّا أن يكون عن طريق الدليل العقلي، أو عن طريق الحس والتجربة والإِختيار، ولا ثالث لها.

أمّا الأدلة العقلية والفلسفية فليس لها طريق إِلى هذه المسائل كما نعلم، وأما يد التجربة والإِختيار فأقصر من أن تمتد إِلى مسائل قد امتدت جذورها إِلى ملايين السنين.

إنّ ما ندركه بالحس والتجربة لا يتعدى بعض الحالات السطحية، ولفترة زمنية متباعدة، على شكل طفرة وراثية (موتاسيون) في كل من الحيوان والنبات.

فمثلا.. نرى أحياناً في نسل الأغنام العادية ولادة مفاجئة لخروف ذي صوف يختلف عن صوف الخراف العادية، فيكون أنعم وأكثر ليناً من العادية بكثير، فيكون بداية لظهور نسل جديد يسمّى (أغنام مرينوس).

أو أنّ حيوانات تحصل فيها الطفرة الوارثية فيتغير لون عيونها أو أظفارها أو شكل جلودها وما شابه ذلك.. لكنّه لم يشاهد لحدّ الآن طفرة تؤدي إِلى حصول تغيير مهم في الأعضاء الأصلية لبدن أيّ حيوان، أو يتبدل نوع منها إِلى نوع آخر.

بناء على ذلك.. يمكننا أنْ نتخيل أنّ نوعاً من الحيوان يتحول إِلى نوع آخر بطريق تراكم الطفرة الوراثية، كأن تتحول الزواحف الى طيور ولكنّ ذلك ليس سوى حدس و مجرّد تخيل لا غير، ولم نر الطفرات الوارثية قد غيرت عضواً أصلياً لحيوان ما إِلى صورة أُخرى.

نخلص ممّا تقدم إِلى النتيجة التالية: إِن الأدلة التي يطرحها أنصار فرضية (الترانسفور ميسم) لا تتجاوز كونها فرضاً لا غير، لذا نرى أنصارها يعبرون عنها بـ (فرضية تطوّر الانواع) ولم يجرأ أيٌ منهم من تسميتها بالقانون أو الحقيقة العلمية.

[75]

نظرية التكامل و.. الإِيمان باللّه:

الكثير ممّن يحاولون تصوير نوع من التضاد بين هذه الفرضية ومسألة الإِيمان باللّه، ولعل الحق يعطى لهم من جهة، حيث أنّ العقيدة الداروينية في واقعها قد أوجدت حرباً شعواء بين أصحاب الكنيسة من جانب ومؤيدي داروين من جانب آخر، حتى وصل الصراع ذروته بين الطرفين في تلك الفترة بعدما لعب الظرف السياسي وكذا الإِجتماعي دورهما (ممّا لا يسع المجال لشرح ذلك هنا)، فكانت النتيجة أن اتهم أصحاب الكنيسة الداروينية بأنّها لا تنسجم مع الإِيمان باللّه.

وقد كشفت الأيّام عن عدم وجود تضاد بين الأمرين، فإِنّنا سواء قبلنا بفرضية التكامل أو نفيناها لفقدانها الدليل، فلا يمنع من الإِيمان باللّه بكلا الإِحتمالين.

فإذا قبلنا بالفرضية فلكونها قانوناً علمياً مبنياً على العلة والمعلول، ولا فرق في العلاقة بين العلة والمعلول في عالم الكائنات الحية وبقية الموجودات، فهل يعتبر اكتشاف العلل الطبيعية من قبيل نزول الأمطار، المد والجزر في البحار، الزلازل وما شابهها، مانعاً من الإِيمان باللّه؟ الجواب بالنفي قطعاً. إَذن فاكتشاف وجود رابطة وعلاقة تكاملية بين أنواع الموجودات الحية لا يؤدي إِلى تعارض مع مسألة الإِيمان باللّه كذلك.

إذن، فالأشخاص الذين يتصورون أن كشف العلل الطبيعية ينافي الإِيمان بوجود اللّه هم الذين يذهبون هذا المذهب وإلاّ فإِنّ كشف هذه العلل ليس ـ فقط ـ لا يتعارض مع التوحيد، وإِنّما سيعطينا أدلة جديدة من عالم الخليقة لإِثبات وجوده سبحانه وتعالى.

وممّا ينبغي ذكره: أنّ داروين قد تبرأ من تهمة الإِلحاد وصرح في كتابه (أصل الأنواع) قائلا: إنّني مع قبولي لتكامل الأنواع فإنّي اعتقد بوجود اللّه، واساساً فإنّه

[76]

بدون الاعتقاد بوجود اللّه لا يمكن توجيه مسألة التكامل.

وقد كُتب عن داروين بما نصه: (إِنّه بقي مؤمناً باللّه الواحد رغم قبوله بالعلل الطبيعية في ظهور الأنواع المختلفة من الأحياء، وقد كان إِحساسه بوجود قدرة مافوق البشر يشتد في أعماقه كلما تقدم في السن، معتبراً أن لغز الخلق يبقى لغزاً محيراً للإِنسان)(1).

كان يعتقد أن توجيه هذا التكامل النوعي المعقد والعجيب، وتحويل كائن حي بسيط جدّاً إِلى كل هذه الأنواع المختلفة من الأحياء لا يتمّ إِلاّ بوجود خطة دقيقة يضعها ويسيرها عقل كلي.

وهو كذلك.. إِذ كيف يمكن إِيجاد كل هذه الأنواع العجيبة والمحيرة والتي لكل منها تفصيلات وشؤون واسعة، من مادة واحدة بسيطة جداً وحقيرة.. كيف يمكن ذلك بدون الإِستناد على علم وقدرة مطلقين؟!

النتيجة: إِنّ الضجّة المفتعلة في وجود تضاد بين عقيدة التكامل النوعي وبين مسألة الإِيمان باللّه إنّما هي بلا أساس وفاقدة للدليل (سواء قبلنا بالفرضية أو لم نقبلها).

تبقى أمامنا مسألة جديرة بالبحث وهي: هل أنّ فرضية تطور الأنواع تتعارض مع ما ذكره القرآن حول قصة خلق آدم، أو لا؟

القرآن ومسألة التكامل:

الجدير بالذكر أن كلا من مؤيدي ومنكري فرضية التكامل النوعي ـ نعني المسلمين منهم ـ قد استدل بآيات القرآن الكريم لإِثبات مقصوده، ولكنّهما في بعض الأحيان وتحت تأثير موقفهما قد استدلا بآيات لا ترتبط بمقصودهما إِلاّ

_____________________________

1 ـ الداروينية، تأليف محمود بهزاد، الصفحة 75 و 76.

[77]

من بعيد، ولذلك سنتطرق إِلى الآيات القابلة للبحث والمناقشة.

أهم آية يتمسك بها مؤيدو الفرضية، الآية الثّالثة والثلاثون من سورة آل عمران (إِنّ اللّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إِبراهيم، وآل عمران على العالمين).

فيقولون: كما أنّ نوحاً وآل إِبراهيم وآل عمران كانوا يعيشون ضمن أُممهم فاصطفاهم اللّه من بينهم فكذلك آدم، أي ينبغي أنّه كان في عصره وزمانه أناس باسم «العالمين» فاصطفاه اللّه من بينهم، وهذا يشير إِلى أن آدم لم يكن أوّل إِنسان على وجه الأرض، بل كان قبله أناس آخرون، ثمّ امتاز آدم من بينهم بالطفرة الفكرية والروحية فكانت سبباً لاصطفائه من دونهم.

هذا وذكروا آيات أُخر ولكنّها من حيث الأصل لا ترتبط بمسألة البحث، ولا يعدو تفسيرها بالتكامل أن يكون تفسيراً بالرأي، وبالبعض الآخر مع كونه ينسجم مع التكامل النوعي إِلاّ أنّه ينسجم مع الثبوت النوعي والخلق المستقل لآدم كذلك، ولهذا ارتأينا صرف النظر عنها.

أمّا ما يؤخذ على هذا الإستدلال فهو أنّ كلمة «العالمين» إنْ كانت بمعنى الناس المعاصرين لآدم (عليه السلام) وأنّ الإِصطفاء كان من بينهم، كان ذلك مقبولا، أمّا لو اعتبرنا «العالمين» أعم من المعاصرين لآدم، حيث تشمل حتى غير المعاصرين، كما روي في الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل فاطمة عليها السلام حيث قال: «أمّا إبنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين»، ففي هذه الحال سوف لا تكون لهذه الآية دلالة على مقصودهم، وهو شبيه بقول قائل: إِنّ اللّه تعالى اصطفى عدّة أشخاص من بين الناس جميعاً في كل القرون والأزمان، وآدم (عليه السلام) أحدهم، وعندها سوف لا يكون لازماً وجود أناس في زمان آدم كي يطلق عليهم اسم «العالمين» أو يصطفي آدم من بينهم، وخصوصاً أن الإِصطفاء إِلهي، واللّه عزَّوجلّ مطلع على المستقبل وعلى كافة الأجيال في كل

[78]

الأزمان(1).

وأمّا مؤيدو ثبوت الأنواع فقد اختاروا الآيات مورد البحث وما شابهها، حيث نقول إِن اللّه تعالى خلق الانسان من تراب من طين متعفن.

ومن الملفت للنظر أن هذا التعبير قد ورد في صفة خلق «الإِنسان» (ولقد خلقنا الإِنسان من صلصال من حمأ مسنون) ـ الآية السادسة والعشرون من سورة الحجر ـ، وأيضاً في صفة خلق «البشر» (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون) ـ الآية الثامنة والعشرون من سورة الحجر ـ، وفي مسألة سجود الملائكة بعد خلق شخص آدم أيضاً (لاحظ الآيات 29، 30، 31 من سورة الحجر).

عند الملاحظة الأُولى للآيات يظهر أن خلق آدم كان من الحمأ المسنون أوّلاً، ومن ثمّ اكتملت هيئته بنفخ الروح الإِلهية فيه فسجد له الملائكة إِلاّ إِبليس.

ثمّ إِنّ أُسلوب تتابع الآيات لا ينم عن وجود أيٍّ من الأنواع الأُخرى منذ أن خلق آدم من تراب حتى الصورة الحالية لبنيه.

وعلى الرغم من استعمال الحرف «ثمّ» في بعض من هذه الآيات لبيان الفاصلة بين الأمرين، إِلاّ أنّه لا يدل أبداً على مرور ملايين السنين ووجود آلاف الأنواع خلال تلك الفاصلة.

بل لا مانع إِطلاقاً من كونه إِشارة إِلى نفس مرحلة خلق آدم من الحمأ المسنون، ثمّ مرحلة خلقه من الصلصال، فخلق بدن آدم، ونفخ الروح فيه.

وذلك ما ملاحظه في استعمال «ثمّ» في مسألة خلق الإنسان في عالم الجنين والمراحل التي يطويها.. (يا أيّها الناس إِن كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة... ثمّ نخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا

_____________________________

1 ـ وهناك احتمال آخر وهو: أن اصطفاء آدم من بين أولاده بعد أن مرّت عليهم مدّة ليست بالطويلة فتشكل من بينهم مجتمع صغير.

[79]

أشدكم)(1).

فهذه الآية المباركة تدلل على أن استعمال «ثم» يعبر عن وجود فاصلة ليس من الضروري أن تكون طويلة، فيمكن كونها فاصلة طويلة أو قصيرة.

وخلاصة ما ذكر: أن الآيات القرآنية وإِن لم تتطرق مباشرة لمسألة التكامل النوعي أو ثبوت الأنواع، لكنّ ظاهرها (في خصوص الإِنسان) ينسجم مع مسألة الخلق المستقل، وإِنْ لم يكن بالتصريح المفصل، لأنّ أكثر ما يدور ظاهر الآيات حول الخلق المستقل المباشر، أمّا ما يتعلق بخلق سائر الأحياء (من غير الإِنسان) فقد سكت القرآن عنه.

* * *

_____________________________

1 ـ سورة الحج، 5.

[80]

الآيات

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـت وَعُيُون(45) ادْخُلُوهَا بِسَلَـم ءَامِنِينَ(46)وَنَزَعْنا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانَاً عَلى سُرُر مُّتَقَـبِلِينِ(47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُم مِّنْها بِمُخْرَجِينَ(48)نَبِّىء عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الْرَّحِيمُ(49) وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأَْلِيمُ(50)

التّفسير

نِعَمُ الجنّة الثّمان:

رأينا في الآيات السابقة كيف وصف اللّه تعالى عاقبة أمر الشيطان وأنصاره وأتباعه، وأنّ جهنم بأبوابها السبعة مفتحة لهم.

وجرياً على أسلوب القرآن في التربية والتعليم جاءت هذه الآيات المباركات (ومن باب المقارنة) لترفع الستار عن حال الجنّة وأهلها وما ترفل به من نعم مادية ومعنوية، جسدية وروحية.

وقد عرضت الآيات ثمانية نعم كبيرة (مادية ومعنوية) بما يساوي عدد أبواب الجنّة.

1 ـ أشارت في البدء إِلى نعمة جسمانية مهمّة حيث: (إِنّ المتقين في جنات وعيون) ويلاحظ أنّ هذه الآية قد اتخذت من صفة (التقوى) أساساً لها، وهي

[81]

الخوف من اللّه والورع والإِلتزام، فهي إِذن.. جامعة لكافة صفات الكمال الإِنساني.

إِنّ ذكر الجنات والعيون بصيغة الجمع إِشارة إِلى تنوع رياض الجنّة وكثرة عيونها، والتي لكل منها لذة مميزة وطعم خاص.

2 و 3 ـ ثمّ تشير الآيات إِلى نعمتين معنويتين مهمّتين أخريتين (السلامة) و(الأمن).. السلامة من أيّ أذىً وألم، والأمن من كل خطر، فتقول ـ على لسان الملائكة مرحبة بهم ـ : (أدخلوها بسلام آمنين).

وفي الآية التّالية بيان لثلاث نعم معنوية أُخرى:

4 ـ (ونزعنا ما في صدوركم من غل) أيْ: الحسد والحقد والعداوة والخيانة(1).

5 ـ (إخواناً) تربطهم أقوى صلات المحبة.

6 ـ (على سرر متقابلين)(2).

إِن جلساتهم الإِجتماعية خالية من القيود المتعبة التي يُعاني منها عالمنا الدنيوي، فلا طبقية ولا ترجيح بدون مرجع والكل إخوان، يجلسون متقابلين في صف واحد ومستوى واحد.

وبطبيعة الحال، فهذا لا ينافي تفاوت مقاماتهم ودرجاتهم الحاصلة من درجة الإِيمان والتقوى في الحياة الدنيا، ولكنّ ذلك التساوي إِنما يرتبط بجلساتهم الإِجتماعية.

7 ـ ثمّ تأتي الإِشارة إِلى النعمة المادية والمعنوية السابعة: (لا يمسهم فيها

_____________________________

1 ـ الغل: في الأصل بمعنى النفوذ الخفي للشيء، ولهذا يطلق على الحسد والحقد والعداوة التي تنفذ بخفاء في نفس الإِنسان، فالغل مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الأخلاقية القبيحة.

2 ـ السّرر: جمع سرير، وهي المقاعد التي يجلسون عليها في جلسات سمرهم. (علماً بأن كلا من سرر وسرير من مادة واحدة).

[82]

نصب) إنّه ليس كيوم استراحة بهذه الدنيا يقع بين تعب ونصب قبله وبعده، ولا يدع الإِنسان يجد طعم الراحة والاستقرار.

8 ـ ولا يشغلهم همّ فناء أو انتهاء نِعَم (وما هم منها بمخرجين).

بعد أن عرض القرآن الكريم النعم الجليلة التي ينالها المتقون في الجنّة بذلك الرونق المؤثر الذي يوقع المذنبين والعاصين في بحار لجية من الغم والحسرة ويجعلهم يقولون: ياليتنا نصيب بعض هذه المواهب، فهناك، يفتح اللّه الرحمن الرحيم أبواب الجنّة لهم ولكن بشرط، فيقول لهم بلهجة ملؤها المحبّة والعطف والرحمة وعلى لسان نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): (نبيء عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم).

إِنّ كلمة «عبادي» لها من اللطافة ما يجذب كل إِنسان، وحينما يختم الكلام  بـ (الغفور الرحيم) يصل ذلك الجذب إِلى أوج شدته المؤثرة.

وكما هو معهود من الأسلوب القرآني، تأتي العبارات العنيفة حين تتحدث عن الغضب والعذاب الإِلهي لتمنع من سوء الإِستفادة من الرحمة الإِلهية، ولتوجد التعادل بين مسألتي الخوف والرجاء، الذي يعتبر رمز التكامل والتربية فيقول وبدون فاصلة: (وأنّ عذابي هو العذاب الأليم).

* * *

بحوث

1 ـ رياض وعيون الجنّة:

إِنّ فهم واستيعاب أبعاد النعم الإِلهية التي تزخر بها الجنّة ونحن نعيش في هذا العالم الدنيوي المحدود، يعتبر أمراً صعباً جداً، بل ومن غير الممكن، لأنّ نعم هذا العالم بالنسبة لنعم الآخرة كنسبة الصفر إِلى رقم كبير جدّاً.. ومع ذلك فلا يمنع من أن نحس ببعض أشعتها بفكرنا وروحنا.

إِنّ القدر المسلم بهذا الخصوص، هو أنّ النعم الأخروية متنوعة جدّاً، وينطق

[83]

بهذه الحقيقة التعبير بالـ «جنات» في الآيات المتقدمة وغيرها من الآيات الأُخر، وكذلك التعبير بالـ «عيون».

لقد ورد في القرآن الكريم (في سور الإِنسان، الرحمن، الدخان، محمد وغيرها) إِشارة إِلى أنواع مختلفة من هذه العيون، واشير الى تنوعها بإِشارات صغيرة، ولعل ذلك تصوير لأنواع الأعمال الصالحة في هذا العالم، وسنشير إِلى هذا الأمر إِن شاء اللّه عند تفسيرنا لهذه السور.

2 ـ النّعم المادية وغير المادية:

على خلاف ما يتصور البعض.. فإِنّ القرآن لم يبشر الناس دائماً بالنعم المادية للجنّة فقط، بل تحدث مراراً عن النعم المعنوية أيضاً، والآيات مورد البحث نموذج واضح لذلك حيث نرى أن اول ما يواجه أهل الجنّة هناك هو الترحيب والبشارة من الملائكة لأهل الجنّة عند دخولهم فيها (ادخلوها بسلام آمين).

ومن النعم الروحية الأُخرى التي أشارت إِليها هذه الآيات.. تطهير الصدور من الأحقاد وكل الصفات المذمومة كالحسد والخيانة وما شابهها، والتي تذهب بروح الأخوة.

وكذلك حذف الإِعتبارات والإمتيازات الإِجتماعية المغلوطة التي تخدش استقرار فكر وروح الإِنسان، وهو ما ذكره في وصف جلساتهم.

ومن نافلة القول.. أن (السلامة) و(الأمن) المجعولتين على رأس النعم الأخروي، هما أساس لكل نعمة أُخرى، ولا يمكن الإِستفادة الكاملة من أية نعمة بدونهما وهذا ما ينطبق حتى على الحياة الدنيا، فالأمن والسلام أساس لكل نعيم ورخاء وإلاّ فلا.

[84]

3 ـ الحقد والحسد عدوّا الأخوة:

من لطيف ما يلاحظ في هذه الآيات أنّها بعد أن ذكرت نعمة السلامة والأمن، وقبل أن تتعرض لبيان حال الأخوّة والألفة التي سيكون عليها أهل الجنّة، أشارت إِلى مسألة نزع الصفات المانعة للأخوّة، كالحقد والحسد والغرور والخيانة، جامعة كل ذلك بكلمة «الغل» ذات المفهوم الواسع.

وفي الحقيقة، إِنّ قلب الإِنسان ما لم يطهر من هذا «الغل» فسوف لا تتحقق نعمة السلامة والأمن ولا الأخوّة والمحبّة، بل الحروب والمظالم والمجابهات والصراعات على الدوام، وهو ما يؤدي إِلى قلع جذور الأخوّة والسلامة والأمن من الحياة.

4 ـ الجزاء الكامل:

يقول بعض المفسّرين: إِنّ الجزاء لا يكتمل إِلاّ بأربعة اُمور: منافع وخيرة، أن تكون مقرونة بالإِحترام، خالية من أيّ ألم، دائمة وخالدة.

وقد أشارت الآيات مورد البحث إِلى هذه الأُمور الأربعة...

فعبارة (إِنّ المتقين في جنات وعيون) إِشارة إِلى المنفعة الأُولى.

وعبارة (ادخلوها بسلام آمنين) دليل على الإحترام والتقدير.

وعبارة (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) إِشارة إِلى نفي أي نوع من الآلام والمعاناة الروحية (النفسية).

وعبارة (لا يمسهم فيها نصب) إِشارة إِلى نفي الآلام الجسمانية.

أمّا عبارة (وما هم منها بمخرجين) فهي حاكية عن آخر شرط، وهو دوام وبقاء النعم.

[85]

وبهذا يكون هذا الجزاء والثواب كاملا من كل الجهات(1).

5 ـ تعالو لنجعل من هذه الدنيا جنّة:

إِنّ النعم المادية والروحية الأخروية التي صورتها الآيات السابقة في حقيقتها تشكل أصول النعم لهذا العالم، ولعل القرآن الكريم يريد أن يفهمنا بأنّنا يمكن أن نوجد جنّة صغيرة في حياتنا تكون شبيهة بتلك الجنّة الكبيرة، فيما لو استطعنا أن نوفر شرائطها المطلوبة اللازمة.

فلو طهرنا قلوبنا من الحقد والعداوة.

وقوّينا بيننا روابط الأخوّة والمحبة.

و حذفنا من حياتنا تلك الإِعتبارات واشكال الترف الزائدة والمفرقة.

وإِذا ما عملنا لتحقيق الأمن والسلام في مجتمعنا.

وإذا أدرك الناس بأنّه لا استعباد ولا استغلال ولا طبقية فيما بينهم... فإِنّنا ـ والحال هذه ـ سنكون في جنّة الحياة الدنيا!!

* * *

_____________________________

1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج19، ص193.

[86]

الآيات

وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراهِيمَ(51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلماً قالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ(52) قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلم عَلِيم(53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِى الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ(54)قالُوا بَشَّرْنكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُن مِّنَ الْقنِطِينَ(55) قالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ(56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّها الْمُرْسَلُونَ(57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنآ إِلى قَوْم مُّجْرِمِينَ(58) إِلآَّ ءَالَ لُوط إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ(59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنآ إِنَّها لَمِنَ الْغبِرِينَ(60)

التّفسير

الضّيوف الغرباء..!

تتحدث هذه الآيات المباركات وما بعدها عن الجنبة التربوية في تاريخ حياة الأنبياء عليهم السلام وما جرى لهم مع العصاة من أقوامهم، وتطرح الآيات نماذج حيّة للإِعتبار، لكلا الطرفين (عباد اللّه المخلصين من طرف وأتباع

[87]

الشيطان من طرف آخر).

ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إِبراهيم (وهم الملائكة الذين جاؤوا بهيئة البشر وبشروه بولد جليل الشأن، ومن ثمّ أخبروه عن أمر عذاب قوم لوط).

فقد جاء في الآيتين السابقتين أمر اللّه إِلى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبيان سعة رحمة اللّه للناس مع تبيان أليم عذابه، ويطرح في هذه القصة نموذجين حيين لهاتين الصفتين، وبذلك تتبيّن صلة الربط بين هذه الآيات.

فتقول أوّلاً: (ونبئهم عن ضيف إِبراهيم).

فكلمة «ضيف» جاءت بصيغة المفرد، ولا مانع من ذلك حيث ذهب بعض كبار المفسّرين إِلى أن «ضيف» تستعمل مفرداً وجمعاً.

وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذين دخلوا على إِبراهيم (عليه السلام) بوجوه خالية من الإِبتسامة، فابتدأوه بالسلام (إِذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً).

فقام إِبراهيم (عليه السلام) بوظيفته (إِكرام الضيف)، فهيأ لهم طعاماً ووضعه أمامهم، إِلاّ أنّهم لم يدنوا إِليه، فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء، فعبّر عمّا جال في خاطره (قال إِنّا منكم وجلون)(1).

وكان مصدر خوف إِبراهيم (عليه السلام) ممّا كان عليه متعارفاً في مسألة رد الطعام أو عدم التقرب منه، فهو عندهم إِشارة إِلى وجود نيّة سوء أو علامة عداء.

ولكن الملائكة لم يتركوا ابراهيم في هذا الحال حتى: (قالوا لا توجل إِنّا نبشرك بغلام عليم).

مَنْ هو المقصود بالغلام العليم؟

يبدو من خلال متابعة الآيات القرآنية أنّ المقصود هو (إِسحاق)، حيث نقرأ

_____________________________

1 ـ إِنّ الآيات مورد البحث لم تذكر هذا التفصيل في تهيئة الطعام وعدم مد أيديهم إِليه، إِلاّ أنَّ ذلك ورد في الآية (69) و(70) من سورة هود فليراجع.

[88]

في سورة هود، الآية (71) أن امرأة إِبراهيم كانت واقفة بقربه عندما بشرته الملائكة، ويظهر كذلك أنّها كانت امرأة عاقراً فبشروها أيضاً (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإِسحاق).

وكما هو معروف فإِنّ سارة، هي أم إِسحاق، ولإِبراهيم (عليه السلام) ولد آخر أكبر من إِسحاق واسمه (إِسماعيل) من (هاجر) ـ الأمَة التي تزوجها إِبراهيم.

كان إِبراهيم يعلم جيداً أنّه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين الطبيعية، (ومع أن كل شيء مقدوراً للّه عزَّ وجلّ)، ولهذا أجابهم بصيغة التعجب: (قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون).. هل البشارة منكم أم من اللّه عزَّوجلّ وبأمره، أجيبوني كي أزداد اطمئناناً؟

إِنّ تعبير «مسّني الكبر» إِشارة الى ما كان يجده من بياض في شعره وتجاعيد في وجهه وبقية آثار الكبر فيه.

ويمكن لأحد أن يشكل: بأنّ إِبراهيم (عليه السلام) قد سبق بحالة مشابهة حينما ولد له إِسماعيل (عليه السلام) وهو في الكبر.. فَلِمَ التعجب من تكرار ذلك؟

والجواب: أوّلاً: كان بين ولادة إِسماعيل وإِسحاق (على ما يقول بعض المفسّرين) أكثر من عشر سنوات، وبذلك يكون تكرار الولادة مع مضي هذه المدّة ضعيف الإحتمال.

وثانياً: إنّ حدوث ووقوع حالة مخالفة للموازين الطبيعية مدعاة للتعجب، وإِذا ما تكررت فلا يمنع من التعجب لحدوثها وتكرارها مرّة أُخرى.

فولادة مولود جديد في هكذا سن أمر غير متوقع، وإِذا ما وقع فهو غريب وعجيب في كل الأحوال(1).

وعلى أية حال.. لم يدع الملائكة مجالا لشك أو تعجب إِبراهيم حيث (قالوا بشرناك بالحق) فهي بشارة من اللّه وبأمره، فهي حقُّ مُسَلَّمٌ به.

_____________________________

1 ـ يذكر بعض المفسّرين أن عمر إِبراهيم عليه السلام عند ولادة ابنه إِسماعيل كان (99) عاماً، وعند ولادة إِسحاق كان عمره (112) عاماً.

[89]

وتأكيداً للأمر ودفعاً لأي احتمال في غلبة اليأس على إِبراهيم، قالت الملائكة: (فلا تكن من القانطين).

لكنّ إِبراهيم (عليه السلام) طمأنهم بعدم دخول اليأس من رحمة اللّه إِليه، وإنّما هو في أمر تلك القدرة التي تجعل من اختراق النواميس الطبيعية أمر حاصل وبدون الخلل في الموازنة، (قال ومن يقنط من رحمة ربّه إِلاّ الضّالون).

إِنّ الضالين هم الذين لا يعرفون اللّه وقدرته المطلقة، اللّه الذي خلق الانسان ببناءه العجيب المحير من ذرة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولداً سوياً، اللّه الذي حوّل نخلة يابسة الى حاملة للثمر بإِذنه، اللّه الذي جعل النّار برداً وسلاماً.. هل من شك بأنّه سبحانه قادر على كل شيء، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته!؟!

وراود إِبراهيم (عليه السلام) ـ بعد سماعه البشارة ـ أنّ الملائكة قد تنزلت لأمر ما غير البشارة، وما البشارة إِلاّ مهمّة عرضية ضمن مهمّتهم الرئيسية، ولهذا (قال فما خطبكم أيّها المرسلون قالوا إنّا أرسلنا إِلى قوم مجرمين).

ومع علم الملائكة بإِحساس إِبراهيم (عليه السلام) المرهف وأنّه دقيق في كل شيء  ولا يقنع بالعموميات، فبينوا له أمر نزول العذاب على قوم لوط المجرمين باستثناء أهله (إِلاّ آل لوط إِنّا لمنجّوهم أجمعين).

إِنّ ظاهر تعبير «آل لوط» وما ورد من تأكيد بكلمة «أجمعين» سيشمل امرأة لوط الضالة التي وقفت في صف المشركين، ولعل إِبراهيم كان مطلعاً على ذلك، ولذا أضافوا قائلين: (إِلاّ امرأته قدّرنا أنّها لمن الغابرين).

و«قدّرنا» إِشارة إِلى المهمّة التي كُلفوا بها من اللّه عزَّ وجلّ.

هذا وقد بحثنا قصة نزول الملائكة على إِبراهيم (عليه السلام) وتبشيره بإِسحاق (عليه السلام)وحديثهم معه بشأن قوم لوط (عليه السلام) مفصلا في تفسيرنا للآيتين (69 و 70) من سورة هود من هذا التّفسير.

* * *

[90]

الآيات

فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوط الْمُرْسَلُونَ(61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنْكَرُونَ(62) قَالوا بَلْ جِئْنْكَ بِما كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ(63) وَأَتَيْنكَ بِالْحَقِّ وَإِنّا لَصدِقُونَ(64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْع مِّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبرَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُم أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ(65)وَقَضَيْنآ إِلَيْهِ ذلِكَ الأَْمْرَ أَنّ دَابِرَ هؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ(66)وَجآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ(67) قالَ إِنَّ هَؤُلآَءَ ضَيْفِى فَلا تَفْضَحُونِ(68) وَاتَّقَوُا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ(69) قَالوُا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعلَمِينَ(70) قالَ هَؤُلآَءِ بَناتِى إِن كُنْتُمْ فعِلِينَ(71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِم يَعْمَهُونَ(72) فَأَخَذَتْهُمُ الْصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ(73)فَجَعَلْنا علِيَهَا سَافِلَها وَأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيل(73)إِنَّ فِى ذلِكَ لأََيت لِّلْمُتَوَسِّمِينَ(75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيل مُّقِيم(76) إِنَّ فِى ذلِكَ لأََيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ(77)

[91]

التّفسير

عاقبة مذنبي قوم لوط:

طالعتنا الآيات السابقة بقصة اللقاء بين ملائكة العذاب هؤلاء وبين إِبراهيم(عليه السلام)، وهذه الآيات تكمل لنا سير أحدث القصّة فتبتدأ من خروجهم من عند إِبراهيم حتى لقائهم بلوط(عليه السلام).

فنقرأ أوّلاً (فلما جاء آل لوط المرسلون).

فالتفت إِليهم لوط (قال إِنّكم قوم منكرون).

يقول المفسّرون: قال لهم ذلك لما كانوا عليه من جمال الصورة ريعان الشباب، وهو يعلم ما كان متفشياً بين قومه من الإِنحراف الجنسي.. فمن جهة، هم ضيوفه ومقدمهم مبارك ولابد من إِكرامهم واحترامهم، ولكنّ المحيط الذي يعيشه لوط (عليه السلام) مريض وملوث.

ولهذا ورد تعبير «سيء بهم» في الآيات المتعرضة لقصة قوم لوط في سورة هود، أيْ إِنّ هذا الموضوع كان صعباً على نبيّ اللّه وقد اغتم لقدومهم لتوقعه يوماً عصيباً!

ولكنّ الملائكة لم يتركوه وهذه الهواجس طويلا حتى سارعوا الى القول: (قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون)، أيْ إِنّنا جئنا بالعذاب الذي واعدتهم به كثيراً، وذلك لأنّهم لم يعتنوا ولم يصدقوا بما ذكرته لهم.

ثمّ أكّدوا له قائلين: (وأتيناك بالحق)، أي العذاب الحتمي الجزاء الحاسم لقومك الضالين.

ثمّ أضافوا لزيادة التأكيد: (وإِنّا لصادقون).

فهؤلاء القوم قد قطعوا كل جسور العودة ولم يبق في شأنهم محلا للشفاعة والمناقشة، كي لا يفكر لوط في التشفع لهم وليعلم أنّهم لا يستحقونها أبداً.

ثمّ قال الملائكة للوط: أخرج وأهلك من المدينة ليلا حين ينام القوم أو

[92]

ينشغلوا بشرابهم وشهواتهم، لأجل نجاة الثلة المؤمنة من قومه (وهم أهله ما عدا زوجته).

(فأسر بأهلك بقطع من الليل) وكن خلفهم كي لا يتخلف أحد منهم ولتكون محافظاً ورقيباً لهم (واتّبع أدبارهم) وعلى أن يكون نظركم إِلى الأمام (ولايلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون)، أي إِلى أرض الشام، أو أيِّ مكان آخر يكون فيه الناس مطهرين من هذه الآثام.

ثمّ ينتقل مجرى الحديث حين يقول تعالى: (وقضينا إِليه ذلك الأمر أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين)، أي سوف لا يبقى منهم أحد عند الصباح.

ومن الملفت للنظر، أن القرآن قد ترك القصّة عند هذا الحد وعاد إِلى بدايتها ليعرض ما ترك القول فيه ـ لسبب سنشير إِليه فيما بعد ـ فيقول: (وجاء أهل المدينة يستبشرون) أي إنّهم قد ظنوا بحصول لقمة جديدة سائغة عن طريق ضيوف لوط!

إِنّ تعبير (أهل المدينة) ليوحي إِلى أن الذين تحركوا صوب منزل لوط(عليه السلام)كانوا جمعاً كبيراً، وهو ما يوضح بجلاء تلك الوقاحة والقبح والجسارة التي كانوا عليها، وخصوصاً قوله (يستبشرون) التي تحكي عمق تلوثهم بذلك الدرك السافل، مع أنّ مثل هذا الفعل القبيح ربّما لا يشاهد حتى بين الحيوانات، وإِذا ما ابتلي به إِنسان (والعياذ باللّه) فإِنّه سوف يحاول كتمه وإِخفاءه، حيث أن الإِتيان به مدعاة للتحقير والإِزدراء من قبل الآخرين.. أمّا قوم لوط، فكانوا مستبشرين بذلك الصيد الجديد وكل يهنيء الآخر على ما سيصيبه من نصيب!!

وحينما سمع لوط أصواتهم وضجيجهم أغتم غمّاً شديداً لأجل ضيوفه، لأنّه ما كان يدري أنّهم ملائكة العذاب الى ذلك الوقت ولهذا (قال إِنّ هؤلاء ضيفي  فلا تفضحون).

أي.. إِن كنتم لا تؤمنون باللّه ولا تصدقون بالنّبي ولا تعتقدون بثواب وعقاب، فراعوا حق الضيافة التي هي من السنن المتعارف عليها عند كل

[93]

المجتمعات سواء كانت مؤمنة أم كافرة، أيِّ بشر أنتم؟ لا تفهمون أبسط المسائل الإِنسانية، فإِنْ لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم!

ثمّ أضاف قائلا: (واتقوا اللّه ولا تخزون)(1) أمام ضيفي.

ولكنّهم من الوقاحة والإِصرار على الإِنحراف بحيث صاروا لا يشعرون بالخجل من أنفسهم، بل راحوا يحاججون لوطاً ويحاسبونه، وكأنّه ارتكب جرماً في استضافته لهؤلاء القوم (قالوا أوَ لم ننهك عن العالمين)، باستضافتهم! فلماذا خالفت أمرنا؟!

وكان قوم لوط من البخل بحيث أنّهم لا يحبون الضيافة، وكانت مدينتهم على طريق القوافل، ويبررون فعلهم القبيح ببعض الواردين لأجل أن لاينزل عندهم أحد من القوافل المارة، وتعارفوا على ذلك حتى أصبح عندهم عادة.

وكما يبدو أنّ لوطاً كان حينما يسمع بأحد الغرباء يدخل المدينة يسرع لاستضافته خوفاً عليه من عمل قومه الخبيث، ولما علم أهل المدينة بذلك جاؤوا إِليه غاضبين ونهوه عن أن يستضيف أحداً مستقبلا.

عليه، فكلمة «العالمين» في الآية أعلاه ـ ما يبدو ـ إِشارة إِلى عابري السبيل، ومن هم ليسوا من أهل تلك المدينة.

وعندما رآهم لوط على تلك الحال من الوقاحة والجسارة، أتاهم من طريق آخر لعلهم يستفيقون من غفلتهم وسكر انحرافهم، فقال لهم: إِن كنتم تريدون إِشباع غرائزكم فلماذا تسلكون سبيل الإِنحراف ولا تسلكون الطريق الصحيح (الزواج) (قال هؤلاء بناتي إِن كنتم فاعلين).

_____________________________

1 ـ نرى في هذه الآيات أن لوطاً يطلب من قومه أن لا يفضحوه تارة وألاّ يخزوه تارة أُخرى، الفضيحة لغة بمعنى: إِنكشاف شيء، وظهور العيب أيضاً (وأراد لوط أنّه يفهمهم بأن عملكم القبيح هذا سيخجلني أمام ضيوفي ويعرفوا مدى خباثة أهل مدينتي).

أمّا الخزي: فهو بمعنى الإِبعاد وكذلك بمعنى الخجل (وأراد لوط أن يقول لهم: لا تخجلوني أمام ضيوفي وتباعدوا بيني وبينهم).

[94]

ممّا لا شك فيه أنّ بنات لوط لا يكفين لذلك العدد الهائل من المتحجرين حول داره، ولكن لوطاً الذي كان يهدف إِلى إِلقاء الحجّة عليهم أراد أن يقول لهم: انني مستعد الى هذه الدرجة للتضحية من أجل الضيف، وكذلك لأجل إِنقاذكم من الفساد ونجاتهم من الإِنحراف.

وذهب البعض إِلى أنّ المقصود من (هؤلاء بناتي) كل بنات المدينة، باعتباره أباً روحياً للجميع. (إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى معنى الآية).

وليس نجافِ أنّ لوطاً ما كان ليزوج بناته من أُولئك المشركين الضالين، ولكنّه أراد أن يقول لهم: تعالوا آمنوا لأزوجكم بناتي.

لكنّ الويل، كل الويل من سكرات الشهوة، الإِنحراف الغرور والعناد.. التي مسحت عنهم كل قيم الأخلاق الإِنسانية وأفرغتهم من العواطف البشرية، والتي بها يحسون بالخجل والحياء أمام منطق لوط (عليه السلام)، أو أن يتركوا بيت لوط وينسحبوا عن موقفهم، ولكنّ أنّى لهم ذلك، والأكثرية بسبب عدم تأثرهم بحديث لوط استمروا في غيهم وأرادوا أن يمدوا أيديهم إِلى الضيوف.

وهنا يخاطب اللّه تعالى نبيّه قائلا: (لعمرك إنّهم في سكرتهم يعمهون).

وقرأنا في سورة هود ـ فيما يتعلق بهذه القصّة ـ أنّ ملائكة العذاب قد كشفوا عن أمرهم وقالوا للوط: لا تخف إنّهم لن يصلوا إِليك.

وفي الآية السابعة والثلاثين من سورة القمر نقرأ (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم).

وفي بعض الرّوايات: إِنّ أحد هؤلاء الضيوف أخذ قبضة من تراب فرماها في وجوه القوم فأصبحوا لا يبصرون جميعاً.

وبعد ذلك يبلغ كلام اللّه تعالى عن هؤلاء القوم الذروة حينما يبيّن عاقبتهم السيئة في آيتين قصيرتين وبشكل حدّي مليء بالدروس والعبر بقوله: (فأخذتهم الصيحة مشرقين) أىْ صوت شديد عند شروق الشمس.

[95]

ويمكن حمل «الصيحة» على أنّها صاعقة عظيمة أو صوت زلزلة رهيب، والمهم أنّه كان صوتاً مرعباً أسقط الجميع مغمياً عليهم أو ميتين.

والمعلوم أنّ الأمواج الصوتية إِذا ما تعدت حدّاً معيناً فستكون مرعبة مخيفة تهز فرائض الإِنسان، وإِذا ما ازدادت شدتها فستبهت الإِنسان وتشلّه عن الحركة وربّما تودي بحياته، بل ومن الممكن لها أن تهدم الأبنية، وهذا ما تفعله المتفجرات.

ولم يكتف بذلك بل شمل العذاب المدينة أيضاً (فجعلنا عاليها سافلها).

وزيد في التنكيل بهم (وأمطرنا عليهم حجازة من سجيل).

إِنّ سقوط الحجارة على رؤوسهم ربّما كان يستهدف مَنْ لم يمت من الصيحة المرعبة ولم يصبح تحت الأنقاض، وربّما لأجل محو أجسادهم وجثثهم من على الأرض كي لا يبقى أثر لهؤلاء القوم المجرمين، حتى أنّ المار على تلك الديار بعد نزول الأحجار لا يصدق بسهولة أنّها كانت مدينة معمورة!

ثمّ إِنّ نزول هذا العذاب ذو المراحل الثلاث (الصيحة الرهيبه، قلب المدينة، المطر الحجري) ـ رغم أن كل واحدة منهن كانت تكفي لقطع دابر القوم ـ كان لمضاعفة عذابهم لشدّة فسادهم وجسارتهم وإِصرارهم على إِدامة التلوّث بتلك القبائح الشنيعة، وكي يكون عبرة لمن يعتبر.

وهنا يخلص القرآن الكريم إِلى النتائج الأخلاقية والتربية فيقول: (إِنّ في ذلك لآيات للمتوسمين)(1) العقلاء الذين يفهمون الأحداث بفراستهم وذكائهم ونظرهم الثاقب ويحملون من كل إِشارة حقيقة ومن كل تنبيه درساً.

ولا تتصوروا أن آثارهم ذهبت تماماً، بل هي باقية على طريق القوافل والمارة (وأنّها لبسبيل مقيم).

_____________________________

1 ـ متوسم: من مادة (وسم) ـ على وزن رسم ـ أىْ ترك أثراً، ويقال لمن يخلص من أثر صغير إِلى نتائج وحقائق كبيره (متوسم).

[96]

وإِن لم تصدقوا فاذهبوا لرؤية آثار المدن المعذبة الواقعة على طريق المسافرين إِلى الشام (من المدينة) فانظروا وفكروا واعتبروا، وعودوا إِلى اللّه، واسلكوا طريق التوبة، وطهّروا نفوسكم من الآثام والذنوب.

ثمّ تدعو الآية المؤمنين إِلى التفكر ملياً في هذه القصة واستخلاص العبر منها: (إِنّ في ذلك لآية للمؤمنين).

فكيف يمكن للمؤمن أن لا يعتبر ولا يهتز عندما يطالع خبر هذه الواقعة؟!

بحثنا بشيء من التفصيل في الآيات المتعلقة بقوم لوط في سورة هود من هذا التفسير، فبحثنا في معنى «سجيل»، ولماذا أُمطر على هؤلاء القوم المنحرفين بالحجارة، ولماذا قلبت مدينتهم، ولماذا كان العذاب صباحاً، ولماذا أُمر لوط وأهله أنْ لا يلتفتوا إِلى الوراء، وكذلك بحثنا مسألة تحريم الشذوذ الجنسي في الأديان السماوية وفلسفة التحريم، بالإِضافة إِلى بحث في أخلاق قوم لوط... وسنبحث هنا بعض ما تبقى من الإِشارات المتعلقة بهذه القصّة.

* * *

بحوث

1 ـ ما المقصود بـ (قطع من الليل) ؟

«القطع» بمعنى سواد الليل. يقول المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان): القطع كأنّه جمع قطعة، ومعناه: سر بأهلك بعدما يمضي أكثر الليل وتبقى قطعة منه.

ولكنّ الراغب الأصفهاني في مفرداته يعتبر كلمة «قطع» بمعنى قطعة على صيغة المفرد، مع أن كثيراً من المفسّرين فسّروها بأواخر الليل وعند السحر، ولعل تفسيرهم يعود إِلى الآيات الأُخرى التي تحدد هذا الوقت في قصّة آل لوط

[97]

(نجيناهم بسحر)(1).

أيْ إنّهم خرجوا عندما كان عبّاد الشهوة غارقين في نوم غفلتهم وقد أفسد وجودهم سكر الشراب والغرور والشهوات، فكانت المدينة مهيئة لآل لوط في الخروج بسلام.

ثمّ إِنّ نزول العقاب كان في الصباح عند شروق الشمس، ولعل انتخاب هذا الوقت كان لإِعطاء المهلة لقوم لوط بعد أن فقدوا أبصارهم، عسى أن يتفكروا في أمرهم فيعيدوا النظر في شركهم وعصيانهم، فكانت تلك الليلة آخر فرصة لهم.

ويستفاد من بعض الرّوايات.. أنّ بعضاً منهم عندما كانوا في طريق عودتهم إِلى دورهم أقسموا أن لا يدعوا أحداً من آل لوط حياً عند الصباح، ولهذا نزل عليهم العذاب الإِلهية في ذلك الوقت(2).

2 ـ تفسير قوله تعالى: (وامضوا حيث تؤمرون).

ذكرنا أنّ الملائكة أوصت آل لوط بالخروج آخر الليل إِلى المكان الذي عين لهم، إِلاّ أن الآيات القرآنية لم تدخل في تفاصيل ذلك السفر ولم تعين المنطقة التي سيذهبون إِليها، لذلك عرض المفسّرون جملة آراء بهذا الخصوص.

فمنهم مَنْ قال: أُمروا بالسير نحو الشام لأنّ محيطها أكثر طهارة.

وقال بعض آخر: إِنّ الملائكة عينت لهم قرية وطلبت منهم الذهاب إِليها.

واكتفى تفسير الميزان بعبارة: كان لديهم نوع من الهدية الإِلهية والدلالة العلمية في سلوك طريقهم.

_____________________________

1 ـ سورة القمر، 34.

2 ـ نور الثقلين، ج2، ص358.

[98]

3 ـ علاقة الرّبط بين «المتوسم» و «المؤمن».

لاحظنا تعبير (إِنّ في ذلك لآيات للمتوسمين) و (إِنّ في ذلك لآية للمؤمنين)في الآيات الحاكية عن قصّة قوم لوط، والجمع بين التعبيرين يعطينا: أنّ المؤمن الحقيقي هو المتوسم الذكي ذو الفراسة والنباهة.

وفي رواية عن الإُمام الباقر(عليه السلام) عندما سئل عن تفسير قوله تعالى: (إِنّ في ذلك لآيات للمتوسمين) قال: هم الأُمّة، ثمّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللّه عزَّ وجلّ»(1).

وفي رواية أُخرى عن الإِمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «هم الأئمّة»(2).

وروي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال: «كان رسول اللّه المتوسم، وأنا من بعده، والأئمّة من ذريتي المتوسمون»(3).

4 ـ سكر الشّهوة والغرور!

إِن سكر الخمر معروف، وثمة سكر أشد منه آثاراً كسكر المنصب وسكر الشهوة، وقرأنا في الآيات السابقة كيف أن اللّه يقسم بروح نبيّه (لعمرك إنّه لفي سكرتهم يعمهون)، ولهذا فإنّهم لا يبصرون أوضح طرق النجاة، وبلغ بهم الحال أنْ يردوا ما عرض عليهم نبيّهم(عليهم السلام) أن يشبعوا شهواتهم بالطريق الصحيح المشروع ليتخلصوا من الذنوب والتلوثات وقبائح الأفعال!

والذي نستفيده من موقف لوط (عليه السلام) هو أنّ مكافحة الفساد لا يتم بالنهي عنه فقط، بل لابدّ من تهيئة وتعبيد الطريق المعبدة البديلة، لينتقل الضال أو المضلل به من جادة الفساد إِلى جادة الصلاح، فلابد من تهيئة الأوضاع والأجواء السليمة

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج3، ص23.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

[99]

للناس مع وجود البرامج المؤثرة الهادفة.

ومن غريب ما نطالعه في بعض الرّوايات.. أنّ لوطاً (هذا النّبي الجليل) قد قضى بين قومه ثلاثين عاماً وهو يدعوهم إِلى الهدى ويحذرهم من مغبة الإِنغماس في متاهات الضلال، ومع ذلك لم يؤمن به إِلاّ أهل بيته (ما عدا زوجته)(1).

ما أعظم ثباته(عليه السلام)! مع منحرفين لدرجة لا يطيق أيُّ إِنسان العيش معهم حتى ولو لساعة واحدة! بل وما أصعب العيش مع تلك الزوجة!

ونقرأ في الآيتين الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سورة الذاريات: (فأخرجنا مَنْ كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)؟

فيتّضح لنا.. أنّ العقاب الإِلهي لا يكون عشوائياً، بل لا يشمل إِلاّ المستحقين له ولو كان هناك مؤمن واحد عامل بواجباته لا نقذه اللّه تعالى من بينهم.

* * *

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج3، ص382.

[100]

الآيات

وَإِن كَانَ أَصْحـبُ الأَْيْكَةِ لَظَـلِمِينَ(78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَام مُّبين(79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحـبُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ(80) وَءَاتَيْنهُمْ ءَايتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(81)وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ءَامِنِينَ(82) فَأَخَذَتْهُمُ الْصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ(83) فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ(84)

التّفسير

خاتمة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر:

يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى قصّتين من قصص الأُمم السالفة، وهما (أصحاب الأيكة) و (أصحاب الحجر) ليكمل البحث الذي عرضه في الآيات السابقة حول قوم لوط.

يقول أوّلاً: (وإِنْ كان أصحاب الأيكة لظالمين)(1).

(فانتقمنا منهم) وعاقبناهم على ظلمهم واستبدادهم..

_____________________________

1 ـ إِنّ كلمة «إِنْ» في هذه الآية ليست شرطية وإِنّما هي مخففة، فيكون تقدير الكلام (إِنه كان أصحاب الأيكة لضالمين).

[101]

وجعلنا أرضهم وأرض قوم لوط ـ المتقدمة قصّتهم ـ على طريقكم (وإِنّهما لبإِمام مبين) فانظروا إِليها وإِلى عاقبة أمرهم، واعتبروا يا أُولي الألباب.

مَنْ هم أصحاب الأيكة؟

قال جمع من المفسّرين، بالإِضافة إِلى أرباب اللغة: «الأيكة»: هي الأشجار المتشابكة مع بعضها، و«أصحاب الأيكة»: هم قوم «شعيب» الذين عاشوا في بلدة مليئة بالماء والأشجار بين الحجاز والشام وكانت حياتهم مرفهة ثرية فأُصيبوا بالغرور والغفلة، فأدى ذلك إلى الإحتكار والفساد في الأرض.

وقد دعاهم شعيب(عليه السلام) إِلى التوحيد ونهج طريق الحق، مع تحذيره المكرر لهم من عاقبة أعمالهم السيئة فيما لو استمروا على الحال التي هم عليها.

ومن خلال ما بيّنته الآيات في سورة هود، فإنّهم لم ينصاعوا للحق ولم ينصتوا لداعيه حتى جاءهم عذاب اللّه المهلك.

فبعد أن يئس من إِصلاحهم أصابهم حرٌّ شديد استمر لعدّة أيّام متصلة، وفي اليوم الأخير ظهرت سحابة في السماء اجتمعوا في ظلها، ليتفيؤوا من حر ذلك اليوم، فنزلت عليهم صاعقة مهلكة فقطعت دابرهم عن آخرهم.

ولعل استعمال القرآن لعبارة «أصحاب الأيكة» في تسميتهم، إِشارة إِلى النعم التي أعطاها اللّه لهم، ولكنّهم استبدلوا الشكر بالكفر، فأقاموا صرح الظلم والإِستبداد، فحقّت عليهم كلمة اللّه فأهلكوا بالصاعقة هم وأشجارهم.

وورد ذكرهم مفصلا ـ مع التصريح باسم شعيب ـ في الآيات (176) حتى (190) من سورة الشعراء.

وينبغي الإِلتفات إلى أنّ عبارة (فانتقمنا منهم) يمكن أن تشمل قوم لوط وأصحاب الأيكة معاً، بدليل ما يأتي بعدها مباشرة (وإِنّهما لبإِمام مبين).

والمشهور عند المفسّرين أنّ الآية تشير إِلى مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب

[102]

الأيكة.

وكلمة «إِمام» بمعنى طريق وجادة، لأنّها من مادة. «أمَّ»، بمعنى القصد، حيث أنّ الإِنسان حينما يسير في طريق ما إِنّما يسير لأجل الوصول إِلى غاية معينة أو قصد معين.

واحتمل البعض أنّ الإِمام المبين هو اللوح المحفوظ، بدلالة الآية (12) من سورة يس.

ولكن هذا الإحتمال مستبعد، لأنّ القرآن هنا في صدد إِعطاء درس العبرة للإِعتبار، ووجود اسم هذين البلدين في اللوح المحفوظ سيكون بعيداً عن التأثير في اعتبار الناس وتذكيرهم، في حين أن وجود هذين البلدين على طريق القوافل والمارة يمكن أن يكون له الأثر البالغ فيهم.

فعند وقوف الناس قرب تلك الآثار وتذكر خبر أهلها وما جرى لهم من سوء العاقبة، ربّما سيهمل دموع العابرين عند أرض قوم لوط مرّة، وعند أرض أصحاب الأيكة مرّة أُخرى.. فتكون تلك اللحظات لحظات اعتبار، بعدما عرفوا أو استذكروا ما حل بالقومين من دمار وهلاك نتيجة ظلمهم وضلالهم.

* * *

أمّا «أصحاب الحجر» فهم قومٌ عُصاة عاشوا مرفهين في بلدة تدعى «الحجر» وقد بعث اللّه إِليهم نبيّه صالح(عليه السلام) لهدايتهم.

ويقول القرآن عنهم: (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين)!

ولكنْ أين تقع هذه البلدة؟

يذكر بعض المفسّرين والمؤرخين: أنّها كانت على طريق القوافل بين المدينة والشام في منزل يسمى (وادي القرى) في جنوب (تيماء) ولا أثر لها اليوم ـ تقريباً.

[103]

ويذكرون أنّها كانت إِحدى المدن التجارية في الجزيرة العربية، ولها من الأهمية بحيث ذكرها (بطليموس) في مذكراته لكونها إِحدى المدن التجارية.

وكذلك ذكرها العالم الجغرافي (بلين) باسم (حجرى).

ونستشف من بعض الرّوايات أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قاد جيشاً لدفع جيش الروم في السنة التاسعة للهجرة، أراد الجنود أن يتوقفوا في هذا المكان، فمنعهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هنا نزل عذاب اللّه على قوم ثمود(1).

ومن الجدير ذكره أنّ القرآن الكريم ذكر مسألة تكذيب الأنبياء في خبر أصحاب الحجر (وكذلك قوم نوح وقوم شعيب وقوم لوط في الآيات (105 و 123 و 160) من سورة الشعراء) بالإِضافة إلى أقوام أُخر كذبت الأنبياء(عليهم السلام)، والواضح من خلال ظاهر القصص أن لكل قوم كان نبيٌّ واحد لا أكثر.

ولعل مجيء هذا التعبير في هذه الآية (المرسلين)، باعتبار أنّ الأنبياء لهم برنامج واحد وهدف واحد، وبينهم من درجة من الصلة بحيث أن تكذيب أيّ منهم هو تكذيب للجميع.

واحتمل آخرون وجود أكثر من نبي وسط الأُمّة الواحدة، وذكر اسم أحدهم لأنّه أكثر شهرة.

وكما يبدو فإِنّ التّفسير الأوّل أقرب إِلى الصواب منه إِلى الثّاني.

ويستمر القرآن بالحديث عن «أصحاب الحجر»: (وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين) وموقف الأعراض المشار إِليه ـ كما يبدو ـ هو عدم استعدادهم لسماع الآيات والتفكر بها.

وتشير الآية إِلى أنّهم كانوا من الجد والدقّة في أُمور معاشهم وحياتهم الدنيوية حتى أنّهم (وكانواينحتون من الجبال بيوتاً آمنين).

_____________________________

1 ـ أعلام القرآن، الخزائلي، الصفحة 292.

[104]

وهو ما يبيّن لنا أنّ منطقتهم كانت جبلية، بالإِضافة إِلى ما توصلوا إِليه من مدنية متقدمة، حيث أصبحوا يبنون بيوتهم داخل الجبال ليأمنوا من السيول والعواصف والزلازل.

والعجيب من أمر الإِنسان، أنّه يحزم أمره لتجهيز وتحصين مستلزمات حياته الفانية، ولا يعير أيَّ اهتمام لحياته الباقية، حتى يصل به المآل لأنْ لا يكلف نفسه بسماع آيات اللّه والتفكر بها!!.

وأيُّ عاقبة ينتظرون بعد عنادهم وكفرهم غير أنْ يطبق عليهم القانون الإِلهي الموعدين به (البقاء للأصلاح) وعدم إِعطاء حق إِدامة الحياة لأقوام فاسدين ومفسدين.. فليس لهؤلاء سوى البلاء المهلك، ولهذا يقول القرآن: (فأخذتهم الصيحة مصبحين).

وكانت «الصيحة» عبارة عن صوت صاعق مدمر نزل على دورهم وكان من القّوة والرهبة بحيث جعل أجسادهم تتناثر على الأرض.

والشاهد على ما قلناه ما تحدثنا به الآية الثّالثة عشر من سورة فصلت: (فإِنّ أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود).

فالعذاب الإِلهي لا تقف أمامه الجبال الشاهقة، ولا البيوت المحصنة، ولا الأبدان القوية أو الأموال الوافرة، ولهذا يأتي في نهاية قصتهم (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون).

وجاءت الآيات (141 إِلى 158) من سورة الشعراء بتفصيل أكثر، وهو ما سيأتي في محله إِن شاء اللّه تعالى.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336628

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:57

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net