00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الروم من أول السورة ـ آية 32من ( ص 463 ـ 530 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

سُورَة الروم

مكيّة

وَعَدَدُ آياتها ستون آية  

[ 463 ]

«سورة الروم»

 محتوى سورة الروم:

حيث أنّ هذه السورة جميعها نزلت بمكّة ـ كما هو المشهور ـ فإنّ محتوى السور المكية، وروحها باد عليها... أي إنّها تبحث قبل كل شيء عن المبدأ والمعاد، لأنّ فترة مكّة هي فترة تعلم الإعتقادات الإسلامية الأصلية الأساسية، كالتوحيد ومواجهة الشرك والتوجه ليوم المعاد ومحكمة العدل الإلهي والبعث والنشور.. الخ... كما تُثار خلال هذه المباحث مسائل أُخرى ترتبط بها.

ويمكن تلخيص مضامين هذه السورة في سبعة أقسام:

1 ـ التنبؤ بانتصار الرُوم على الفُرس في معركة تحدث في المستقبل، وذلك لما جرى من الحديث بين المسلمين والمشركين في هذا الصدد، وسيأتي تفصيل ذلك في الصفحات المقبلة بإذن الله.

2 ـ جانب من طريقة التفكير عند غير المؤمنين وكيفية أحوالهم، ثمّ التهديدات لهم بالعذاب والجزاء (الإلهي) في يوم القيامة.

3 ـ قسم مهم من آيات «عظمة الله» في الأرض والسماء، وفي وجود الإنسان، من قبيل خروج الحي من الميت، وخروج الميت من الحيّ.. وخلق الإنسان من تراب، ونظام الزوجية بالنسبة للناس، وعلاقة المودة بين كل من الزوجين، خلق السماوات والأرض واختلاف الألسن، نعمة النوم في الليل

[ 464 ]

والحركة في النهار، وظهور البرق والرعد والغيث وحياة الأرض بعد موتها، وتدبير الله لأمر السماء والأرض.

4 ـ الكلام عن التوحيد «الفطري» بعد بيان دلائله في الآفاق وفي الأنفس لمعرفة الله سبحانه.

5 ـ العودة إلى شرح أحوال غير المؤمنين والمذنبين وتفصيل حالاتهم، وظهور الفساد في الأرض نتيجة لآثامهم وذنوبهم.

6 ـ إشارة إلى مسألة التملك، وحق ذوي القربى، وذم الربا.

7 ـ العودة ـ مرّة أُخرى ـ إلى دلائل التوحيد، وآيات الله وآثاره، والمسائل المتعلقة بالمعاد.

وبشكل عام فإنّ في هذه السورة ـ كباقي سور القرآن الأُخرى مسائل استدلالية و عاطفية وخطابية ممزوجة مزجاً.. حتى غدت «مزيجاً» كاملا لهداية النفوس وتربيتها.

 

فضيلة سورة الروم:

ورد في حديث للإمام الصادق(عليه السلام) كما أشرنا إليه من قبل، في فضيلة هذه السورة وسورة العنكبوت مايلي: «من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله ـ [يا أبا محمّد] ـ من أهل الجنّة  لا  أستثني فيه أبداً، ولا أخاف أن يكتب الله علي في يميني إثماً، وإن لهاتين السورتين من الله مكاناً» (1).

وفي حديث آخر عن النّبي(صلى الله عليه وآله) ورد مايلي «من قرأها كان له من الأجر عشر

_____________________________

1 ـ ثواب الأعمال للصدوق، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 164.

[ 465 ]

حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيع في يومه وليلته» (1).

ومن البديهي أن من جعل محتوى هذه السورة التي هي درس عامٌ للتوحيد ومحكمة القيامة الكبرى، في روحه وقلبه، وراقب الله في كل لحظة، واعتقد بيوم الجزاء حقاً، فإن تقوى الله تملأ قلبه حتى يكون حقيقاً بهذا الأجر والثواب.

 

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، بداية سورة الروم.

[ 466 ]

الآيات

 الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِى أَدْنَى الاَْرْضِ وَهُمْ مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِى بِضْعِ سِنِينَ للهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَـكِنَّ أَكْثِرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَـهِراً مِّنَ الْحَيَـوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاَْخِرَةِ هُمْ غَـفِلُونَ (7)

 سبب النّزول

يتفق المفسّرون الكبار على أن الآيات الأُولى من هذه السورة نزلت في أعقاب الحرب التي دارت بين الروم والفُرس، وانتصر الفرس على الروم، وكان النّبي حينئذ في مكّة، والمؤمنون يمثلون الأقلية.

فاعتبر المشركون هذا الإنتصار للفرس فألا حسناً، وعدّوه دليلا على حقانية المشركين و«الشرك»، وقالوا:إن الفرس مجوسٌ مشركون، وأمّا الروم فهم مسيحيون «نصارى» ومن أهل الكتاب.. فكما أن الفرس غلبوا «الروم» فإن

[ 467 ]

الغلبة النهائية للشرك أيضاً، وستنطوي صفحة الإسلام بسرعة ويكون النصر حليفنا.

وبالرغم من أن مثل هذا الإستنتاج عار من أي أساس، إلاّ أنّه لم يكن خالياً من التأثير في ذلك الجوّ والمحيط للتبليغ بين الناس الجهلة، لذلك كان هذا الأمر عسيراً على المسلمين.

فنزلت الآيات الآنفة وقالتْ بشكل قاطع: لئن غلب الفرس الروم ليأتينّ النصر والغلبة للروم خلال فترة قصيرة. وقد حدّدت الفترة لانتصار الروم على الفرس في (بضع سنين ).

وهذا الكلام السابق لأوانه، هو من جهة دليل على إعجاز القرآن، هذا الكتاب السماوي الذي يستند علمه إلى الخالق غير المحدود، ومن جهة أُخرى كان فألا حسناً للمسلمين في مقابل فأل المشركين، حتى أن بعض المسلمين عقدوا مع المشركين رهاناً على هذه المسألة المهمّة، ولم يكن في ذلك الحين قد نزل الحكم بتحريم مثل هذا الشرط(1).

 

التّفسير

تنبؤ عجيب!

هذه السورة ضمن مجموع تسع وعشرين سورة تبدأ بالحروف المقطعة (ألم ).

وقد بحثنا مراراً في تفسير هذه الحروف المقطعة «وخاصةً في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف».

_____________________________

1 ـ جاء سبب النّزول هذا في كتب التفاسير المختلفة بشيء من الإختلاف البسيط في التعابير، فراجع مجمع البيان والميزان ونور الثقلين وتفسير الفخر الرازي وأبو الفتوح الرازي، وتفسير الآلوسي وفي ظلال القرآن والتفاسير الأخرى.

[ 468 ]

والفارق الوحيد الذي نلاحظه هنا عن بقية السور، ويلفت النظر، هو أنّه خلافاً لكثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطعة، التي يأتي الحديث بعدها على عظمة القرآن الكريم، بل بحثاً عن اندحار الروم وانتصارهم في المستقبل، ولكن مع التدقيق يتّضح أن هذا البحث يتحدث عن عظمة القرآن الكريم أيضاً... لأنّ هذا الخبر الغيبي المرتبط بالمستقبل هو من دلائل إعجاز القرآن، وعظمة هذا الكتاب السماوي!.

يقول القرآن بعد الحروف المقطعة (غلبت الروم في أدنى الأرض ) وهم قريب منكم يا أهل مكّة، إذ أنّهم في شمال جزيرة العرب، في أراضي الشام في منطقة بين «بصرى» و«أذرعات».

ومن هنا يعلم بأنّ المراد من الروم هنا هم الروم الشرقيون، لا الروم الغربيون.

ويرى بعض المفسّرين كالشيخ الطوسي في تفسير «التبيان» ـ أن من المحتمل أن يكون المراد بأدنى الأرض المكان القريب من بلاد فارس، أي إن المعركة وقعت في أقرب نقطة بين الفرس والروم.(1)

وصحيحٌ أن التّفسير الأوّل معه الألف واللام للعهد ـ في «الأرض» مناسبٌ أكثر، ولكن ومن جهات متعددة ـ كما سنذكرها ـ يبدوا أن التّفسير الثّاني أصحّ من الأول!

ويوجد هنا تفسير ثالث، ولعلّه لا يختلف من حيث النتيجة مع التّفسير الثاني، هو أنّ المراد من هذه الأرض ـ هي أرض الروم، أي إنّهم غلبوا في أقرب حدودهم مع بلاد فارس، وهذا يشير إلى أهمية هذا الإندحار وعمقه، لأنّ الإندحار في المناطق البعيدة والحدود المترامية البعد ليس له أهمية بالغة، بل المهم أن تندحر دولة في أقرب نقاطها من حدودها مع العدو، إذ هي فيها أقوى وأشدّ من غيرها.

_____________________________

1 ـ تفسير التبيان، ج 8، ص 206.

[ 469 ]

فعلى هذا سيكون ذكر جملة (في أدنى الأرض ) إشارة إلى أهمية هذا الإندحار.

وبالطبع فإن التنبؤ عن انتصار البلد المغلوب خلال بضع سنين في المستقبل، له أهمية أكبر، إذ لا يمكن التوقع له إلاّ عن طريق الإعجاز.

ثمّ يضيف القرآن: (وهم من بعد غلبهم سيلغبون ) وهم أيّ الروم. ومع أن جملة «سيغلبون» كافية لبيان المقصود، ولكن جاء التعبير (من بعد غلبهم )بشكل خاص لتتّضح أهمية هذا الإنتصار أكثر، لأنّه لا ينتظر أن تغلب جماعة مغلوبة وفي أقرب حدودها وأقواها في ظرف قصير، لكن القرآن يخبر بصراحة عن هذه الحادثة غير المتوقعة.

ثمّ يبيّن الفترة القصيرة من هذه السنين بهذا التعبير (في بضع سنين )(1)والمعلوم أن «بضع» ما يكون أقله الثلاث وأكثره التسع.

وإذا أخبر الله عن المستقبل، فلأنّه (لله الأمر من قبل ومن بعد ).

وبديهيّ أن كون الأشياء جميعها بيد الله ـ وبأمره وإرادته ـ لا يمنع من اختيارنا في الإرادة وحريتنا وسعينا وجهادنا في مسير الأهداف المنظورة.

وبتعبير آخر: إن هذه العبارة لا تريد سلب الإختيار من الآخرين، بل تريد أن توضح هذه اللطيفة، وهي أن القادر بالذات والمالك على الإطلاق هوالله، وكل من لديه شيء فهو منه!.

ثمّ يضيف القرآن، أنّه إذا فرح المشركون اليوم بانتصار الفرس على الروم فإنه ستغلب الروم (ويومئذ يفرح المؤمنون ).

أجل، يفرحون (بنصر الله... ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ).

ولكن ما المراد من فرح المؤمنون؟!

_____________________________

1 ـ توجد احتمالات كثيرة في معنى «بضع» فقيل: إنّها تتراوح بين ثلاث وعشر، أو أنّها تتراوح بين واحدة وتسع، وقيل: أقلّها ست وأكثرها تسع. إلاّ أن ما ذكرناه في المتن هو المشهور.

[ 470 ]

قال جماعة: المراد منه فرحهم بانتصار الروم، وإن كانوا في صفوف الكفار أيضاً، إلاّ أنّهم لكونهم لديهم كتاب سماوي فانتصارهم على المجوس يعدّ مرحلة من انتصار «التوحيد» على «الشرك».

وأضاف آخرون: إن المؤمنين إنّما فرحوا لأنّهم تفألوا من هذه الحادثة فألا حسناً، وجعلوها دليلا على انتصارهم على المشركين.

أو أن فرحهم كان لأنّ عظمة القرآن وصدق كلامه المسبق القاطع ـ بنفسه ـ انتصار معنوي للمسلمين وظهر في ذلك اليوم.

ولا يبعد هذا الإحتمال وهو أن انتصار الروم كان مقارناً مع بعض انتصارات المسلمين على المشركين، وخاصة أن بعض المفسّرين أشار إلى أن هذا الإنتصار كان مقارناً لإنتصار بدر أو مقارناً لصلح الحديبية. وهو بنفسه يعدّ انتصاراً كبيراً، وخاصة إن التعبير بنصر الله أيضاً يناسب هذا المعنى.

والخلاصة: إنّ المسلمين «المؤمنين» فرحوا في ذلك اليوم لجهات متعددة:

1 ـ من انتصار أهل الكتاب على المجوس، لأنّه ساحة لإنتصار الموحدين على المشركين.

2 ـ من الإنتصار المعنوي لظهور إعجاز القرآن.

3 ـ ومن الإنتصار المقارن لذلك الإنتصار، ويحتمل أن يكون صلح الحديبية، أو بعض فتوحات المسلمين الأُخر!.

ولزيادة التأكيد يضيف أيضاً (وعد الله(1) لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) والسبب في عدم علم الناس، هو عدم معرفتهم بالله وقدرته، فهم لم يعرفوا الله حق معرفته، فهم لا يعلمون هذه الحقيقة، وهي أن الله محال عليه أن يتخلف عن وعده، لأنّ التخلف عن الوعد إمّا للجهل، أو لأنّ الأمر كان مكتوماً

_____________________________

1 ـ نصب «وعد الله» على أنّه مفعول مطلق وعامله محذوف، ويعلم من الجملة التي قبله أي «سيغلبون» التي هي مصداق الوعد الإلهي، ويكون تقديره: وعد الله ذلك وعداً!.

[ 471 ]

ثمّ اتضح وصار سبباً لتغيير العقيدة، أو للضعف وعدم القدرة، إذ لم يرجع الذي وعد عن عقيدته لكنّه غير قادر، لكن الله لا يتخلف عن الوعد، لأنّه يعرف عواقب الأمور، وقدرته فوق كل شيء.

ثمّ يضيف القرآن معقباً: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ).

إنّهم لا يعلمون إلاّ الحياة الدنيا فحسب، بل يعلمون الظاهر منها ويقنعون به! فكلّ ما تمثله نظراتهم ونصيبهم من هذه الحياة هو اللهو واللذة العابرة والنوم والخيال... وما ينطوي في هذا الادران السطحي للحياة من الغفلة والغرور، غير خاف على أحد.

ولو كانوا يعلمون باطن الحياة وواقعها في هذه الدنيا، لكان ذلك كافياً لمعرفة الآخرة! لأنّ التدقيق في هذه الحياة العابرة، يكشف أنّها حلقة من سلسلة طويلة ومرحلة من مسير مديد كبير، كما أن التدقيق في مرحلة تكوين الجنين يكشف عن أن الهدف النهائي ليس هو هذه المرحلة من حياة الجنين فحسب! بل هي مقدمة لحياة أوسع!.

أجل، هم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فحسب، ولكنّهم غافلون عن مكنونها ومحتواها ومفاهيمها!.

ومن الطريف هنا أن تكرار الضمير «هم» يشير إلى هذه الحقيقة، وهي أن علة هذه الغفلة وسرّها تعود إليهم «فهم الغفلة وهم الجهلة» وهذا يشبه تماماً قول القائل لك مثلا: لقد أغفلتني عن هذا الأمر، فتجيبه: أنت كنت غافلا عن هذا الأمر، أي إن سبب الغفلة يعود إلى نفسك أنت!.

 

* * *

 

[ 472 ]

بحوث

1 ـ إعجاز القرآن من جهة «علم الغيب»

إن واحداً من طرق إثبات إعجاز القرآن، هو الإخبار بالمغيبات، ومثله الواضح في هذه الآيات ـ محل البحث ـ ففي عدّة آيات يخبر بأنواع التأكيدات عن انتصار كبير لجيش منهزم بعد بضع سنين.. ويعدّ ذلك وعداً إلهيّاً غير مكذوب ولا يتخلف أبداً.

فمن جهة يتحدث مخبراً عن أصل الإنتصار والغلب (وهم من بعد غلبهم سيغلبون ).

ومن جهة يتحدث عن خبر لإنتصار آخر للمسلمين على الكفار مقترناً لزمان الإنتصار الذي يتحقق للروم (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ).

ومن جهة ثالثة يصرّح أنّ هذا الأمر سيقع خلال عدّة سنوات (في بضع سنين ).

ومن جهة رابعة يسجّل قطعية هذا الوعد الإلهي بتأكيدين بالوعد (وعد الله لا يخلف الله وعده ).

ويحدثنا التأريخ أنّه لم تمض تسع سنوات حتى تحققت هاتان الحادثتان... فقد انتصر الروم في حربهم الجديدة على الفرس، واقترن زمان هذا الإنتصار بـ «صلح الحديبية» وطبقاً لرواية أُخرى أنّه كان مقارناً لمعركة بدر، إذ حقق المسلمون انتصاراً ملحوظاً على الكفار.

والآن ينقدح هذا السؤال، وهو: هل يستطيع إنسان أن يخبر بعلم عادي بسيط، عن مثل هذه الحادثة المهمة بضرس قاطع؟.. حتى لو فرضنا أن الأمر كان مع تكهّن سياسي ـ ولم يكن ـ فينبغي أن يذكر هذا الأمر بقيد «الإحتياط» والإحتمال، لا بمثل هذه الصراحة والقطع، إذ لو ظهر خلافه لكان أحسن دليل

[ 473 ]

وسند على إبطال دعوى النبوة بيد الأعداء!.

والحقيقة هي أنّ مسائل من قبيل توقّع انتصار دولة كبيرة كالروم، أو مسألة المباهلة، تدل بصورة جيدة على أنّ نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله) كان قلبه متعلقاً بمكان آخر، وكان له سند قوي، وإلاّ فلا يمكن لأي أحد ـ في مثل هذه الظروف ـ أن يجرؤ على مثل هذا الأمر!.

وخاصة، إنّ مطالعة سيرة النّبي(صلى الله عليه وآله) تكشف أنّه لم يكن إنساناً يتصيد بالماء العكر، بل كانت أعماله محسوبة... فمثل هذا الإدعاء من مثل هذا الشخص يدل على أنّه كان يعتمد على ما وراء الطبيعة، وعلى وحي الله وعلمه المطلق.

وسنتحدث عن تطبيق هذا التنبؤ التاريخي في القريب العاجل إن شاء الله.

 

2 ـ السطحيّون «أصحاب الظاهر»

تختلف نظرة الإنسان المؤمن الإلهي أساساً مع نظرة الفرد المادي المشرك، اختلافاً كبيراً.

فالأوّل طبقاً لعقيدة التوحيد ـ يرى أن العالم مخلوق لربّ عليم حكيم، وجميع أفعاله وفق حساب وخطة مدروسة، وعلى هذا فهو يعتقد أن العالم مجموعة أسرار ورموز دقيقة، ولا شيء في هذا العالم بسيط واعتيادي، وجميع كلمات هذا الكتاب «التكويني» ذات محتوى ومعنى كبير.

هذه النظرة التوحيدية تقول لصاحبها: لا تمرّ على أية حادثة وأي موضوع ببساطة، إذ يمكن أن يكون أبسط المسائل أعقدها.. فهو ينظر دائماً إلى عمق هذا العالم ولا يقنع بظواهره، قرأ الدرس في مدرسة التوحيد، ويرى للعالم هدفاً كبيراً، وما من شيء إلاّ يراه في دائرة هذا الهدف غير خارج عنها.

في حين أن الإنسان المادي غير المؤمن يعدّ الدنيا مجموعة من الحوادث

[ 474 ]

العُمي والصمّ التي لا هدف لها، ولا يفكر بغير ظاهرها، ولا يرى لها باطناً وعمقاً أساساً.

ترى هل يعقل أن يكون لكتاب رسم طفل على صفحاته خطوطاً عشوائية، أهمية تذكر؟! وكما يقول بعض العلماء الكبار في علوم الطبيعة: إن جميع علماء البشر من أية فئة كانوا وأية طبقة، حين نهضوا للتفكير في نظام هذا العالم، كانوا ينطلقون من تفكير ديني «فتأملوا بدقّة».

«أنشتاين» العالم المعاصر يقول: من الصعب العثور بين المفكرين في العالم شخص لا يحس بدين خاص... وهذا الدين يختلف مع دين الإنسان العامي، إنّه يدعو هذا العالم إلى التحيّر من هذا النظام العجيب والدقيق للكائنات، إذ تكشف عن وجهها أسراراً لا تقاس مع جميع تلك الجهود والأفكار المنظمة للبشر(1)!.

ويقول في مكان آخر: إن الشيء الذي دعا العلماء والمفكرين والمكتشفين ـ في جميع القرون والأعصار ـ أن يفكروا في أسرار العالم الدقيقة، هو اعتقادهم الديني(2).

ومن جهة أُخرى كيف يمكن أن يساوى بين من يعتبر هذه الدنيا مرحلة نهائية وهدفاً أصليّاً، ومن يعدّها مزرعة وميداناً للإمتحان للحياة الخالدة التي تعقب هذه الحياة الدنيا، فالأوّل لا يرى أكثر من ظاهر هذه الحياة، والآخر يفكر في أعماقها!.

وهذا الإختلاف في النظر يؤثر في حياتهم بأجمعها، فالذي يعيش حياة سطحية وظاهرية يعتبر الإنفاق سبباً للخسران والضرر، في حين أن هذا «الموحد» يعدّها تجارة رابحة لن تبور.

وذلك المادي يعتبر «أكل الربا» سبباً للزيادة ووفرة المال. وأمّا الموحد

_____________________________

1 ـ نقلا عن كتاب «الدنيا التي أراها».

[ 475 ]

فيعده وبالا وشقاءً وضرراً.

وذلك يعتبر الجهاد ضنىً وشقاءً ويعتبر الشهادة فناءً وانعداماً، وأمّا الموحد فيعد الجهاد رمزاً للرفعة، والشهادة حياة خالدة!

أجل، إن غير المؤمنين لا يعرفون إلاّ الظواهر من الدنيا، وهم في غفلة عن الحياة الأُخرى (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ).

 

3 ـ المطابقة التاريخية

لكي نعرف المقطع التاريخي الذي حدثت فيه المعارك بين الروم والفرس، يكفي أن نعرف في ذلك التاريخ أن حرباً طويلة حدثت في عهد «خسرو پرويز» ملك الفرس مع الروم استمرت زهاء أربع وعشرين سنة، حيث دامت من سنة «604 ميلادية إلى سنة 628».

وفي حدود سنة 616 ميلادية هجم قائدان عسكريان في الجيش الفارسي هما: (شهربراز» و (شاهين) على الحدود الشرقية للروم، فهزما الروم هزيمة نكراء، وسيطرا على منطقة الشامات ومصر وآسيا الصغرى، فواجهت الروم الشرقية بسبب هذه الهزيمة حالة الإنقراض تقريباً، واستولى الفرس على جميع ما كان تحت يد الروم من آسيا ومصر.

وكان ذلك في حدود السنة السابعة للبعثة!

غير أنّ ملك الروم «هرقل» بدأ هجومه على بلاد فارس سنة 622 ميلادية وألحق هزائم متتابعة بالجيش الفارسي، واستمرت هذه المعارك حتى سنة 628 لصالح الروم، وغُلب خسرو پرويز، وانكسر انكساراً مريراً، فخلعه الفرس عن السلطنة وأجلسوا مكانه ابنه «شيرويه».

وبملاحظة أنّ مولد النّبي (صلى الله عليه وآله) كان سنة 571 ميلادية وكانت بعثته سنة 610 ميلادية، فإن هزيمة الروم وقعت في السنة السابعة للبعثة، وكان انتصارهم بين

[ 476 ]

سنتي خمس وست للهجرة النبوية، ومن المعلوم أن السنة الخامسة حدثت فيها معركة الخندق، وتم في السنة السادسة صلح الحديبية، وبطبيعة الحال فإن تنقّل الأخبار عن حرب فارس والروم إلى منطقة الحجاز ومكّة كانت تستوعب عادة فترة من الزمان، وبهذا ينطبق هذا الخبر القرآني على هذه الفترة التاريخية بوضوح «فلاحظوا بدقة».

* * *

[ 477 ]

 

 

 

 

الآيات

أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنْفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إلاَّ بَالْحَقِّ وَأَجَل مُّسَمّىً وَإِنَّ كَثيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآىءِ رَبِّهِمْ لَكَـفِرُونَ (8) أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأَثَارُواْ الاَْرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَـتِ فَمَا كَانَ اللهَ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِنْ كَانُوآ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَـقِبَةَ الَّذِينَ أَسَـئُواْ السُّـوأَى أَنْ كَذَّبُواْ بِايَـتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10)

 

التّفسير

عاقبة المسيئين:

كان الكلام في آخر آية من البحث السابق عن السطحيين وأصحاب الظاهر، حيث كان أفق فكرهم لا يتجاوز حدود الدنيا والعالم المادي.. وكانوا جاهلين بما وراء الطبيعة ويوم القيامة.

أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ والآيات المقبلة، فيقع الكلام على مطالب متنوعة حول المبدأ والمعاد، فتبدأ هذه الآيات أولا على صورة استفهام

[ 478 ]

فتقول: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض إلاّ بالحق وأجل مسمى ).

أي: لو أنّهم فكروا جيداً ورجعوا إلى عقلهم في الحكم ووجدانهم، لكانوا يطلعون جيداً على هذين الأمرين:

أوّلا: إنّ العالم خلق على أساس الحق، وتحكمه أنظمة هي دليل على أنّ الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة.

وثانياً: هذا العالم يمضي إلى الزوال، وحيث أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثاً، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا، وإلاّ فلا مفهوم لخلق هذا العالم، وهذا الخلق الطويل العريض لا يعقل أن يكون من أجل أيّام معدودات في الحياة الدنيا، وبذلك يذعنون بوجود الآخرة!.

فعلى هذا يكون التدقيق في نظم هذا العالم وحقانيته دليلا على وجود المبدأ، والتدقيق في أن هناك «أجلا مسمى» دليل على المعاد «فلاحظوا بدقة» .

لذلك يضيف القرآن في نهاية الآية قائلا: (وإن كثيراً من الناس بلقاء ربّهم لكافرون ) فينكرون لقاء الله.

أو إنّهم ينكرون المعاد أصلا، كما نقلنا عن قول المشركين مراراً في آيات القرآن، إذ كانوا يقولون: (أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد ) (إنّ هذا إلاّ اختلاق ) (إنَّ هذا لشيء عجاب ). إنَّ هذا.. إنّ هذا.. الخ.. وبتعابير مختلفة «كماورد في سورة الرعد الآية (5)، وسورة المؤمنون الآية (35)، وسورة النمل الآية (67)، وسورة ق الآية (3) وفي غيرها من السور».

أو إنّهم لا ينكرون بلسانهم، لكن أعمالهم «ملوثة» ومخزية تدل على أنّهم غير معتقدين بالمعاد، إذ لو كانوا يعتقدون بالمعاد لم يكونوا فاسدين أو مفسدين!.

والتعبير بـ (في أنفسهم ) لا يعني أن يطالعوا في أسرار وجودهم، كما يدّعي الفخر الرازي في تفسيره، بل المراد منه أن يفكروا في داخل أنفسهم عن طريق

[ 479 ]

العقل والوجدان يخلق السماوات والأرض.

والتعبير (بالحق ) له معنيان: الأوّل: أنّ الخلق كان توأماً مع الحق والقانون والنظم، والآخر: أن الهدف من الخلق كان بالحق، ولا منافاة بين هذين التّفسيرين طبعاً(1).

والتعبير (بلقاء ربّهم ) كما قلنا مراراً، هو إشارة إلى يوم القيامة والنشور، حيث تنكشف الحجب، والإنسان يعرف عظمة الله بالشهود الباطنيّين.

وحيث أنّ التعبير بـ (أجل مسمى ) كاشف عن أن هذه الحياة على كل حال لا تدوم، وهذا إنذار لجميع عبدة الدنيا، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات ) أي بالدلائل الواضحات... إلاّ أنّهم أهملوا ذلك، ولووا رؤوسهم، ولم يستسلموا للحق، فابتلوا بعقاب الله الأليم! (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ).

في الواقع إنّ القرآن يشير إلى أمم كانت لهم ـ في نظر مشركي مكّة ـ عظمة ملحوظة من حيث القدرة والقوّة الجسمية والثروة المالية، وكان مصيرهم الأليم يمثل درساً من العبرة لهؤلاء المشركين.

ويمكن أن تكون جملة (أثاروا الأرض ) إشارة إلى حرث الأرض للزراعة والتشجير، أو حفر الأنهار،أو تأسيس العمارات على الأرض، أو جميع هذه الأمور، لأنّ جملة (أثاروا الأرض ) لها مفهوم واسع يشمل جميع هذه الأُمور التي هي مقدمة للعمارة والبناء(2).

_____________________________

1 ـ في صورة ما لو قلنا بالتّفسير الأوّل، فإن «الباء» في كلمة «بالحق» للمصاحبة، وفي التّفسير الثّاني تكون الباء بمعنى اللام، أي للحق.

2 ـ «آثار» مأخوذة من مادة (ثور) على زنة (غور) ومعناها التفريق والنثر، وإنّما سمي الثور ثوراً لأنّه يثير الأرض ويفرّقها.

[ 480 ]

وحيث كانت أكبر قدرة ـ في ذلك العصر ـ تعني التقدم في الزراعة والرقي الملحوظ من حيث البناء والعمارات، فإنّه يتّضح رفعة الأُمم السالفة وعلوهم على مشركي مكّة الذين كانت قدرتهم في هذه المجالات محدودة جدّاً.

إلاّ أنّ أُولئك مع كل قدراتهم حين أنكروا آيات الله وكذبوا الأنبياء، لم يستطيعوا الفرار من مخالب العقاب، فكيف تستطيعون الفرار من عذاب الله؟!

وهذا العقاب والجزاء الأليم هو نتيجة أعمالهم المهلكة أنفسهم، إذ ظلموا أنفسهم، ولا يظلم ربّك أحداً.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث، فتبيّن آخر مرحلة من كفرهم فتقول: (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ).

أجل، إنّ الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث، فيأكل إيمانه ويعدمه، ويبلغ الأمر حدّاً يكذب الإنسان فيه آيات الله، وأبعد من ذلك أيضاً إذ يحمل الذنب صاحبه على الإستهزاء بالأنبياء، والسخرية بآيات الله، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبداً، ولا تؤثر فيه أية حكمة وأيّة آية، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب الله المؤلمة له.

إنّ نظرة واحدة في صفحات تاريخ كثير من الجناة والبغاة تكشف أنّهم لم يكونوا هكذا في بداية الأمر، إذ كان لديهم على الأقل نور إيمان ضعيف يشع في قلوبهم، ولكن ارتكابهم للذنوب المتتابعة سبّب يوماً بعد آخر أن ينفصلوا عن الإيمان والتقوى، وأن يبلغوا آخر الأمر إلى المرحلة النهائية من الكفر.

ونلاحظ في خطبة العقيلة زينب(عليها السلام) أمام يزيد بن معاوية في الشام، النتيجة ذاتها التي أشرنا إليها آنفاً... لأنّها حين رأت يزيد يسخر بكل شيء ويتكلم بكلمات الكفر وأنشد أشعاراً من ضمنها:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

[ 481 ]

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل

وهذه الكلمات تكشف عن عدم إيمانه بأساس الإسلام، فحمدت زينب الله تعالى وصلّت وسلّمت على النّبي(صلى الله عليه وآله) وقالت:

«صدق الله، كذلك يقول: (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون )» .

أي إذا أنكرت الإسلام والإيمان هذا اليوم بأشعارك المشوبة بالكفر، وتقول لأسلافك المشركين الذين قتلوا على أيدي المسلمين في معركة بدر: ليتكم تشهدون انتقامي من بني هاشم، فلا مجال للتعجب، فذلك ما قاله الله سبحانه: (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ).. وقد ذكرت في هذا الصدد مطالب كثيرة.

ولمزيد من الإيضاح يراجع الجزء الخامس والأربعون من بحار الأنوار الصفحة 157.(1)

 

* * *

_____________________________

1 ـ طبقاً لما ذكرنا في التّفسير تكون كلمة «السوءى» مفعولا لأساءوا وجملة (أن كذبوا بآيات الله )مكان اسم كان وخبرها «عاقبة الذين» .

ويذكر العلاّمة الطباطبائي ذلك في الميزان بصورة احتمال، وإن لم ينتخبه هو نفسه، ويرى «أبو البقاء» في كتاب «إملاء ما منّ به الرحمن» الصفحة 185 الجزء الثاني، أنّه واحد من احتمالين مقبولين.
إلاّ أن أغلب المفسّرين كالطبرسي وصاحب الميزان، والفخر الرازي، والآلوسي، وأبو الفتوح الرازي والقرطبي وسيد قطب في ظلاله، والطوسي في تبيانه» يقوّون إحتمالا آخر في تفسير الآية.. وهو أن كلمة «السوءى» اسم كان، وجملة «إن كذبوا» في مقام التعليل.
وطبقاً لهذا التّفسير يكون معنى الآية: وأخيراً فإن عاقبة أعمال المسيئين كانت السوء، لأنّهم كذبوا بآياتنا. وهذا المعنى شبيه بقوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى ).
إلاّ أن الأنصاف أن هذا التفسير خلاف ما يستظهر من الآية، وانتخاب المفسّرين لهذا الرأي والتفسير لا يصرفنا عما هو منسجم مع الآية، وخاصة أنّهم اضطروا إلى أن يقدروا اللام في جملة «أن كذبوا» والتقدير خلاف الظاهر «فلاحظوا بدقة» .

[ 482 ]

 

 

 

 

الآيات

اللهُ يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْـمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ مِّنْ شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَـؤُاْ وَكَانُوا بِشُرَكَآئِهِمْ كَـفِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّآ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّآ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِايَـتِنَا وَلِقَآىءِ الاَْخِرَةِ فَأُولَـئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

 

التّفسير

مصير المجرمين ومآلهم يوم القيامة!

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن الذين يكذّبون ويستهزؤون بآيات الله، وفي الآيات ـ محل البحث ـ تستكمل البحوث السابقة عن المعاد، مع بيان جوانب منه، ومآل المجرمين في القيامة!

فتبدأ الآيات بالقول: (الله يبدأ الخلق ثمّ يعيده ثمّ إليه ترجعون ) ويُبيّن في هذه الآية استدلال قصير موجز، وذو معنى كبير، على مسألة المعاد. وقد ورد هذا المعنى بعبارة أُخرى في بعض آيات القرآن الأُخرى ومنها (قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكل خلق عليهم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً

[ 483 ]

فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم )(1)

وجملة (ثمّ اليه ترجعون )إشارة إلى أنّه بعد النشور والقيامة يعود الجميع إلى محكمة الله، والأسمى من ذلك أن المؤمنين يمضون في تكاملهم نحو ذات الله المقدسة إلى ما لا نهاية..

والآية الأُخرى تجسد حالة المجرمين يوم القيامة (يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ).

«يبلس» مأخوذ من مادة «إبلاس» وتعني في الأصل الغم والحزن المترتبان على أثر شدة اليأس والقنوط.

وبديهي أنّه إذا يئس الإنسان من شيء غير ضروري، فهذا اليأس غير مهم، لكن الحزن والغم يكشف في هذه الموارد عن أُمور ضرورية مأيوس منها، لذلك يرى بعض المفسّرين أنّ «الضرورة» جزء من «الإبلاس» وإنّما سمّي «إبليس» بهذا الإسم، فلأنّه أبلس من رحمة الله واستولى عليه الهم.

وعلى كل حال فيحق للمجرمين أى ييأسوا ويبلسوا في ذلك اليوم، إذ ليس لديهم إيمان وعمل صالح فيشفع لهم في عرصات المحشر، ولا صديق حميم، ولا مجال للرجوع إلى الدنيا وتدارك ما مضى!.

لذلك يضيف القرآن في الاية التالية قائلا: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء ).

فتلك الأصنام والمعبودات المصنوعة التي كانوا يتذرعون بها عندما يسألون: من تعبدون؟ فيقولون: (هؤلاء شفعاؤنا عندالله )(2)، سيتّضح لهم جيداً حينئذ أنّه لا قيمة لها ولا تنفعهم أبداً.. فلذلك يكفرون بهذا المعبودات من دون الله

_____________________________

1 ـ سورة يس، 79 ـ 81.

2 ـ سورة يونس، الآية 18.

[ 484 ]

ويبرأون منها (وكانوا بشركائهم كافرين ).

ولم لا يكفرون بهذه الأصنام؟ وهم يرونها ساكنة عن الدفاع عنهم بل كما يعبّر القرآن تقوم بتكذيبهم وتقول: يا رب (ما كانوا إيانا يعبدون )(1) بل كانوا يعبدون هوى أنفسهم؟!

وأكثر من هذا، فقد عبر القرآن عن هذ المعبودات في الآية (6) من سورة الأحقاف أنّها ستكون معادية لهم وكافرة بهم (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين ).

ثمّ يشير القرآن إلى الجماعات المختلفة من الناس في يوم القيامة، فيقول: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون ).

كلمة «يحبرون» مأخوذة من مادة «حبر» على زنة «قشر» ومعناها الأثر الرائق الرائع، كما يطلق هذا التعبير على حالة السرور والفرح التي يظهر أثرها على الوجه أيضاً، وحيث أن قلوب أهل الجنّة في غاية السرور والفرح بحيث أن آثارها تظهر في وجودهم قاطبة، فقد استعمل هذا التعبير لهذه الحالة أيضاً.

و«الروضة» معناها المكان الذي تكثر فيه الأشجار والماء، ولذلك تطلق هذه الكلمة على البساتين النضرة بأشجارها واخضرارها.. وقد جاءت هذه الكلمة هنا بصيغة التنكير لغرض التعظيم والمبالغة، أي إنّهم في أفضل الجنان وأعلاها التي تبعث السرور، فهم منعمون، بل غارقون في نعيم الجنّة.

(وأمّا الذين كفرا بآياتنا ولقاء الآخرة فأُولئك في العذاب محضرون ).

الطريف هنا أنّه في شأن أهل الجنّة استعملت كلمة «يُحبرون» وتدلّ على منتهى الرضا من جميع الجوانب لدى أهل الجنّة.. ولكن استعملت كلمة «محضرون» في أهل النّار، وهي دليل على منتهى الكراهة وعدم الرضا لما

_____________________________

1 ـ سورة القصص، الآية 63.

[ 485 ]

يتلقونه ويستقبلونه، لأنّ الإحضار يطلق في موارد تكون على خلاف الرغبات الباطنيّة للإنسان.

اللطيفة الأُخرى أن أهل الجنّة ذكروا بقيدالإيمان والعمل الصالح، ولكن أهل النّار اكتفي من ذكرهم بعدم الإيمان «إنكار المبدأ والمعاد». وهي إشارة أن ورود الجنّة ـ لابد له من الإيمان والعمل الصالح ـ فلا يكفي الإيمان وحده، ولكن يكفي لدخول النّار عدم الإيمان ـ وإن لم يصدر من ذلك «الكافر» ذنب ـ لأنّ الكفر نفسه أعظم ذنب!.

* * *

 

ملاحظة

لم كان أحد أسماء القيامة «الساعة»؟!

ينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة الدقيقة... وهي أنّه في كثير من آيات القرآن، ومن ضمنها الآيتان من الآيات محل البحث، عبر عن قيام «القيامة» بقيام«الساعة» وذلك لأنّ «الساعة» في الأصل جزء من الزمان، أو لحظات عابرة، وحيث أنّه من جهة تكون القيامة بصورة مفاجئة وكالبرق الخاطف، ومن جهة أُخرى بمقتضى أن الله سريع الحساب فإنه ينهي حساب عباده بسرعة، فقد استعمل هذا التعبير في شأن يوم القيامة ليفكر الناس بيوم القيامة ويكونوا على «أهبة الإستعداد».

يقول «ابن منظور» في «لسان العرب» اسم للوقت الذي تصعق فيه العباد والوقت الذي يبعثون فيه وتقوم فيه القيامة ، سمّيت ساعة لأنّها تفاجيء الناس في ساعة فيموت الخلق كلّهم عند الصيحة الاُولى التي ذكرها الله عزّوجلّ فقال: (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا خامدون )(1).. وأشار إلى الثّانية بقوله: (إن

_____________________________

1 ـ سورة يس، الآية 29 ـ وما بعدها...

[ 486 ]

كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم من الاجداث إلى ربّهم ينسلون )(1).

وينقل «الزبيدي» في «تاج العروس» عن بعضهم أن الساعة ثلاث «ساعات»:

فساعة كبرى: وهي يوم القيامة، وإحياء الموتى للحساب.

وساعة وسطى: وهي يوم الموت الفجائي لأهل زمان واحد «بالعذاب والعقوبة الإلهية للإستيصال».

وساعة صغرى: وهي يوم الموت الطبيعي لكل إنسان.

* * *

 

_____________________________

1 ـ المصدر السابق.

[ 487 ]

 

 

 

 

الآيات

فَسُبْحَـنَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَعَشِّيَّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْىِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

 

التّفسير

التسبيح والحمد في جميع الأحوال لله!

بعد الأبحاث الكثيرة التي وردت في الآيات السابقة في شأن المبدأ والمعاد، وقسم من ثواب المؤمنين، وجزاء المشركين وعقابهم... ففي الآيات محل البحث يذكر التسبيح والحمد والتقديس والتنزيه لله من جميع أنواع الشرك والنقص والعيب، إذ تقول الآية: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون ).

وعلى هذا فقد ورد في هاتين الآيتين ذكر لأربع أوقات لتسبيح الله:

1 ـ بداية الليل (حين تمسون ).

2 ـ وطلوع الفجر (حين تصبحون ).

3 ـ وعصراً (عشياً ).

[ 488 ]

4 ـ وعند الزوال ـ في الظهر ـ (حين تظهرون )(1).

أمّا «الحمد» من حيث المكان فهو عام وشامل لجميع السماوات والأرض.

وذكر هذه الأوقات الأربعة في الآيات المتقدمة لعله كناية عن الدوام والإستمرار في التسبيح، «أي كل وقت وكل زمان».

كما احتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من هذه الأوقات الأربعة الإشارة إلى أوقات الصلاة، إلاّ أنّهم لم يجيبوا على هذا السؤال، وهو: لم ذكر في القرآن أربعة أوقات بدلا من خمسة أوقات؟ «ولم يرد الكلام على صلاة العشاء»!

ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال بأن وقت صلاة المغرب مقارب لوقت صلاة العشاء نسبياً، والفاصلة بينهما حدود الساعة إلى الساعة والنصف، فجاءت الصلاتان في مكان واحد، غير أنّ الفاصلة بين الظهر والعصر أطول نسبياً، حيث تطول أكثر من ساعتين.

لكننا لو أخذنا التسبيح والحمد بمفهومهما الوسيع في الآية، لوجدنا أنّهما لا يتحدّدان بالصلوات الخمس، وإن كانت هذه الصلوات من مصاديقهما الواضحة.

وينبغى أن نذكر هذه المسألة «اللطيفة» وهي: إن كلا من جملتي (سبحان الله )و(له الحمد ) يمكن أن تكونا إنشاء لتسبيح الله وحمده من قبل الله سبحانه، كما قال في الآية (14) من سورة المؤمنون (فتبارك الله أحسن الخالقين ).

ويمكن أن يكون هذا الحمد والتسبيح بمعنى الأمر، أي «سبّحوه واحمدوا له».

وهذا التّفسير يبدو أقرب للنظر، إذ الآيات المتقدمة هي بمثابة دستور لجميع العباد لمحو آثار الشرك والذنب من الروح والقلب كل صباح ومساء وكل ظهر وعصر، فسبحوا الله واحمدوا له في الصلاة وفي غير الصلاة.

ونقرأ حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله) يقول فيه: «من قال حين يمسي ثلاث مرات

_____________________________

1 ـ يرجى ملاحظة أن «عشياً» و «حين تظهرون» قد عطفتا على «حين تمسون» ويرجع الجميع للتسبيح...

[ 489 ]

فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (الآيات الثلاث إلى.. تخرجون) أدرك مافاته في يومه، وإن قالها حين يمسي أدرك ما فاته ليلته» (1).

وفي الآية التالية عودة إلى المعاد، ويرد القرآن المنكرين له عن طريق آخر، فيقول: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ).

أي إنّ ميدان «المعاد» وميدان «نهاية الدنيا» المتمثّل أحدهما بخروج «الحي من الميت» والآخر «خروج الميت من الحي» يتكرران أمام أعينكم، فلا مجال للتعجب من أن تحيا الكائنات جميعاً، ويعودالناس في يوم القيامة إلى الحياة مرّة أُخرى!

أمّا التعبير بـ «يخرج الحي من الميت» المستعمل للأراضي الموات، فقد ذكره القرآن مراراً في مسألة المعاد وواضح أنّ الأرض تبدوا ميتة في فصل الشتاء، فلا خضرة ولا أزهار تضحك ولا براعم تتفتح، ولكن في فصل الربيع مع سقوط الغيث واعتدال الهواء، تدبّ الحركة في الأرض، وتنمو الخضرة في كل مكان، وتتبسّم الأزهار وتنمو البراعم على الأغصان وهذا ميدان المعاد الذي نراه في هذه الدنيا.

وأمّا مسألة «إخراج الميت من الحيّ» فهي ليست شيئاً خافياً ولا مستتراً، فدائماً تموت الأشجار على الأرض وتتبدل إلى أخشاب، ويفقد الإنسان والحيوان حياتهما، ويتبدل كل منهما إلى جسد هامد لا روح فيه.

وأمّا ما يتعلق بـ «إخراج الحيّ من الميت» ففسّره بعضهم بخروج الإنسان والحيوان من النطفة، وقال بعضهم: بل المراد منه تولد المؤمن من الكافر، وقال بعضهم: المراد منه تيقظ النائمين والراقدين.

والظاهر أنّه ليس أيّاً من هذه المعاني هو المعنى الأصلي، لأنّ النطفة بنفسها

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 172.

[ 490 ]

موجود حي، ومسألة «الكفر والإيمان» هي من بطون الآية، لا من ظواهر الآية، وأمّا موضوع التيقظ والنوم فهو أمر مجازي، إذ ليس النوم والتيقظ موتاً وحياة حقيقيين.

إنّما ظاهر الآية هو أنّ الله يخرج الموجودات الحية دائماً من الموجودات الميتة، ويبدل الموجودات الهامدة التي لا روح فيها إلى موجودات حيّة.

وبالرغم من أنّه من المسلّم به ـ في العصر الحاضر على الأقل ـ أنّه لم يُر في المختبرات والمشاهدات اليوميّة أن موجوداً حيّاً يتولد من موجود ميّت، بل تتولد الموجودات الحية دائماً من البيوض أو البذور أونطف الموجودات الحية الأُخرى، غير أن الثابت علمياً والمسلّم به أنّه كانت الأرض في البداية قطعة ملتهبة من النّار، ولم يوجد عليها أي موجود حي، ثمّ وفقاً لظروف خاصة لم يكتشفها العلم ـ حتى الآن ـ بصورة دقيقة، تولدت الموجودات الحية من مواد لا روح فيها بقفزة كبيرة.. لكن هذا الموضوع وفي الظروف الفعلية للكرة الأرضية. وحيث أنّ العلم البشري لم يتوصل إليه، فلم يشاهد هذا الموضوع (وبالطبع يحتمل أن تتحقق هذه القفزة الكبرى في أعماق البحار والمحيطات في بعض الظروف الحالية).

لكن الذي نلمسه وندركه، هو أنّ الموجودات الميتة دائماً تكون جزءاً من الموجودات الحية وتكسى ثوب الحياة! فالماء والطعام اللذان نتناولهما ليسا من الموجودات الحية، لكنّهما حين يكونان في البدن ويصيران جزءاً منه يتحولان إلى موجود حيّ وتضاف كريات جديدة وخلايا جديدة إلى كريات البدن وخلاياه، كما يتبدل الطفل الرضيع عن هذا الطريق إلى شاب قوي متين.

أليس هذا إخراج الحياة من قلب الموت، أو «الحي من الميت»؟!

فعلى هذا يمكن القول بأن في نظام الطبيعة دائماً يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وبهذا الدليل فإنّ الله الذي خلق الطبيعة قادر على إحياء

[ 491 ]

الموتى في العالم الآخر.

وبالطبع فإنّ الآية الآنفة من جهة البعد المعنوي لها تفاسير أخر.. منها تولد المؤمن من الكافر، وتولد الكافر من المؤمن، والعالم من الجاهل، والجاهل من العالم، والصالح من المفسد، والمفسد من الصالح، كما أشير إلى كل ذلك في الروايات الإسلامية أيضاً.

ويمكن أن تكون هذه المعاني من بطون الآية، لأنّنا نعرف أنّ آيات القرآن لها ظاهر وباطن، كما يمكن أن يكون للموت والحياة معنى جامع واسع يشمل الجانب المادي والجانب المعنوي.

هذا وقد جاء في رواية عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) في تفسير الآية (يحيي الأرض بعد موتها ) مايلي: «ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل، فتحيي الأرض لإحياء العدل ولإقامة العدل فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً» (1).

وواضح أنّ مراد الإمام(عليه السلام) أن معنى الآية لا ينحصر بنزول الغيث، ولا ينبغي تفسير الآية بالغيث فحسب، لأنّ الإحياء المعنوي للأرض بالعدل أهم من إحيائها بالغيث عند نزوله.

* * *

 

_____________________________

1 ـ نقلا عن كتاب الكافي وطبقاً لتسفير نور الثقلين، ج 4، ص 173.

[ 492 ]

 

 

 

 

الآيات

وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَاب ثُمَّ إِذَآ أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ ءَايَـتِهِ خَلْقُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلَـفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـت لِّلْعَـلَمِينَ (22)

 

التّفسير

آيات الله في الآفاق وفي الأنفس:

تحدثت هذه الآيات ـ وبعض الآيات الأخر التي تليها ـ عن طرائف ولطائف من دلائل التوحيد، وآيات الله وآثاره في نظام عالم الوجود، وهي تكمل البحوث السابقة، ويمكن القول بأن القسم المهم بشكل عام من آيات التوحيد في القرآن تمثله هذه الآيات!

هذه الآيات التي تبدأ جميعها بقوله تعالى: (ومن آياته ) ولها وقع خاص ولحن بليغ جاذب وتعبيرات مؤثرة وعميقة، مجموعة من سبع آيات، ستٌ منها متتابعات، وواحدة منفصلة «وهي الآية السادسة والأربعون».

[ 493 ]

هذه الآيات مقسمة تقسيماً طريفاً من حيث «آيات الآفاق» و «آيات الأنفس» إذ تتحدث ثلاث منها عن آيات الأنفس (دلائل الخالق في وجود الإنسان نفسه) وثلاث منها عن آيات الآفاق (دلائل الخالق خارج وجود الإنسان) وواحدة من هذه الآيات تتحدث عن الآيات في الأنفس وفي الآفاق معاً.

وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ الآيات التي تبدأ بهذه العبارة: (ومن آياته )مجموعها إحدى عشرة آية فحسب، في سائر سور القرآن، سبع منها في هذه السورة، واثنتان في سورة فصلت هما «الآية 37 والآية 39» وآيتان أُخريان في سورة الشورى هما الآية 29 والآية 32 ـ ومجموعها كما ذكرنا آنفاً إحدى عشرة لا غير. وهي تشكل دورة متكاملة في التوحيد.

ويجدر التنبيهُ ـ قبل الدخول إلى تفسير هذه الآيات ـ على هذه «اللطيفة» وهي أن ما أشار إليه القرآن في هذه الآيات، وإن كانت تبدو للنظر محسوسة وملموسة، يمكن أن يدركها عامّة الناس، إلاّ أنّه مع تطور العلم وتقدمه تبدو للبشر لطائف جديدة في هذا المجال، وتتّضح للعلماء أُمور ذات أهمية كبرى، وسنشير إلى قسم منها خلال تفسيرنا لهذه الآيات إن شاء الله.

ويتحدث القرآن هنا أوّلا عن خلقة الإنسان التي تعد أوّل موهبة إلهية له، وأهمهما أيضاً، فيقول: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون )!

في هذه الآية إشارة دليلين من أدلة عظمة الله.

الأوّل: خلق الإنسان من التراب، وربّما كان إشارة إلى الخلق الأوّل للإنسان، أي آدم(عليه السلام)، أو خلق جميع الناس من التراب، لأنّ المواد الغذائية التي تشكل وجود الإنسان، جميعها من التراب بشكل مباشرة أو غير مباشر!

الثّاني: كثرة النسل «الآدمي» وانتشار أبناء «آدم» على سطح المعمورة، فلو

[ 494 ]

لم تُخلق خصوصية التناسل في آدم، لإنطوى نسله من الوجود بسرعة!.

تُرى أين التراب وأين الإنسان بهذا الهندام والرشاقة؟!

فلو وضعنا خلايا وأستار العين التي هي أدق من ورق الزهور وألطف وأكثر حساسية، وكذلك الخلايا الدقيقة للدماغ والمخ إلى جانب التراب وقارناهما بالقياس إلى بعضهما البعض، نعرف حينئذ كم لخالق العالم من قدرة عجيبة، بحيث أوجد من مادة كدرة سوداء لا قيمة لها هذه الأجهزة الظريفة والدقيقة القيّمة.

فالتراب ليس فيه نور، ولا حرارة، ولا جمال، ولا طراوة، ولا حس، ولا حركة ومع ذلك فقدأضحى عجينة الإنسان ولها جميع هذه الصفات، فالذي أوجد من هذا الموجود الميت التافه موجوداً حيّاً عجيباً، لحقيق بكل حمد وثناء على هذه القدرة الباهرة والعلم المطلق (فتبارك الله أحسن الخالقين ).

والآية محل البحث تبيّن ضمناً هذه الحقيقة، وهي أنّه لا تفاوت بين بني الإنسان، ويعود جذرهم إلى شيء واحد، وأصل واحدة وهو التراب وبالطبع فنهايتهم إلى ذلك التراب أيضاً.

وممّا ينبغي الإلتفات إليه، أن كلمة «إذا» تستعمل في لغة العرب في الموارد الفجائية ولعل هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ الله له القدرة البالغة على أن يخلق مثل آدم أعداداً هائلة بحيث ينتشر نسلها في فترة قصيرة ـ فجأةً ـ ويملأ سطح الأرض.. ويكون مجتمعاً إنسانيّاً كاملا.

والآية الثّانية من الآيات محل البحث تتحدث أيضاً عن قسم آخر من الآيات في الأنفس، التي تمثل مرحلة ما بعد خلق الإنسان، فتقول: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ). أي من جنسكم والغاية هي السكينة الروحية والهدوء النفسي

وحيث أن استمرار العلاقة بين الزوجين خاصة، وبين جميع الناس عامة،

[ 495 ]

يحتاج إلى جذب قلبي وروحاني، فإنّ الآية تعقب على ذلك مضيفةً (وجعل بينكم مودةً ورحمة ).

ولمزيد التأكيد تُختتم الآية بالقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ).

الطريف هنا أن القرآن ـ في هذه الآية ـ جعل الهدف من الزواج الإطمئنان والسكن، وأبان مسائل كثيرة في تعبير غزير المعنى «لتسكنوا» كما ورد نظير هذا التعبير في سورة الأعراف الآية 189.

والحقّ أن وجود الأزواج مع هذه الخصائص للناس التي تعتبر أساس الإطمئنان في الحياة، هو أحد مواهب الله العظيمة.

وهذا السكن أو الإطمئنان ينشأ من أن هذين الجنسين يكمل بعضهما بعضاً، وكل منهما أساس النشاط والنماء لصاحبه، بحيث يعد كل منهما ناقصاً بغير صاحبه، فمن الطبيعي أن تكون بين الزوجين مثل هذه الجاذبيّة القوية.

ومن هنا يمكن الإستنتاج بأنّ الذين يهملون هذه السنة الإلهية وجودهم ناقص، لأنّ مرحلة تكاملية منهم متوقفة، (إلاّ أن توجب الظروف الخاصة والضرورة في بقائهم عزّاباً).

وعلى كل حال، فإنّ هذا الإطمئنان أو السكن يكون من عدّة جهات «جسمياً وروحيّاً وفردياً واجتماعيّاً».

ولا يمكن إنكار الأمراض التي تصيب الجسم في حالة عدم الزواج، وكذلك عدم التعادل الروحي والإضطراب النفسي عند غير المتزوجين.

ثمّ أنّ الأفراد العزّاب لا يحسّوون بالمسؤولية ـ من الناحية الإجتماعية ـ كثيراً.. ولذلك فإن الإنتحارتزداد بين أمثال هؤلاء أكثر.. كما تصدر منهم جرائم مهولة أكثر من سواهم أيضاً.

وحين يخطو الإنسان من مرحلة العزوبة الى مرحلة الحياة الأُسرية يجد في نفسه شخصية جديدة، ويحس بالمسؤولية أكثر،، وهذا السكن والإطمئنان في

[ 496 ]

ظل الزواج.

وأمّا مسألة «المودة والرحمة» فهما في الحقيقة «ملاط» البناء في المجتمع الإنساني، لأنّ المجتمع يتكون من افراد متفرقين كما أن البناء العظيم يتألف من عدد من الطابوق و «الآجر» أو الأحجار. فلو أن هؤلاء الأفراد المتفرقين اجتمعوا، أو أن تلك الأجزاء المتناثرةوصلت بعضها ببعض، لنشأ من ذلك المجتمع أو البناء حينئذ.

فالذي خلق الإنسان للحياة الإجتماعية جعل في قلبه وروحه هذه الرابطة الضرورية.

والفرق بين «المودة» و «الرحمة» قد يعود إلى الجهات التالية:

1 ـ المودة هي الباعثة على الإرتباط في بداية الأمر بين الزوجين، ولكن في النهاية، وحين يضعف أحد الزوجين فلا يكون قادراً على الخدمة، تأخذ الرحمة مكان المودة وتحلّ محلها.

2 ـ المودة تكون بين الكبار الذين يمكن تقديم الخدمة لهم، أمّا الأطفال والصبيان الصغار، فإنهم يتربون في ظلّ الرحمة.

3 ـ المودّة، غالباً ما يكون فيها «تقابل بين الطرفين»، فهي بمثابة الفعل ورد الفعل، غير أنّ الرحمة من جانب واحد لديه إيثار وعطف، لأنّه قد لا يحتاج إلى الخدمات المتقابلة أحياناً،فأساس بقاء المجتمع هو «المودة» ولكن قد يحتاج إلى الخدمات بلا عوض، فهو الايثار والرحمة.

وبالطبع فإنّ الآية تبيّن المودة والرحمة بين الزوجين، ولكن يحتمل أن يكون التعبير «بينكم» إشارة إلى جميع الناس.. والزوجان مصداق بارز من مصاديق هذا التعبير، لأنّه ليست الحياة العائلية وحدها لا تستقيم إلاّ بهذين الأصلين (المودّة والرحمة) بل جميع المجتمع الإنساني قائم على هذين الأصلين وزوالهما من المجتمع ـ وحتى نقصانهما يؤدي الى أنواع الارباك والشقاء

[ 497 ]

والاضطراب الإجتماعي.

أمّا آخر آية ـ من هذه الآيات محل البحث ـ فهي مزيج من آيات الآفاق وآيات الأنفس، فتبدأ بالإشارة إلى خلق السماء والأرض، فتقول: (ومن آياته خلق السماوات والأرض ).

السماوات بجميع ما فيها من كرات، وبجميع ما فيها من منظومات ومجرّات، السماوات التي مهما حلّق فيها الفكر عجز عن إدراك عظمتها ومطالعتها.. وكلّما تقدم علم الإنسان تتجلى له نقاط جديدة من عظمتها.

كان الإنسان يرى الكواكب في السماء بهذا العدد الذي تراه العين (وقد أحصى العلماء الكواكب التي ترى بالعين المجرّدة، فوجدوها تتراوح بين خمسة الآف إلى ستة الآف كوكب).

ولكن كلما تقدم العلم في صناعة المجهر والتلسكوب، فإنّ عظمة وكثرة الكواكب تزداد أكثر... إلى درجة بلغ الإعتقاد اليوم أن مجرتنا لوحدها من بين مجاميع المجرات في السماء تحتوي على أكثر من مئة مليون كوكب وتعد الشمس على عظمتها المذهلة واحدة من النجوم المتوسطة، ولا يعلم عدد المجرات ولا يحصيها إلاّ الله، إذ هو وحده يعلم كم من كوكب ونجمة في هذا المجرات!

وكذلك كلما تقدم العلم الطبيعي والجيولوجيا، وعلم النبات والعلوم البيلوجية «والحيوانية» وعلم التشريح والفيزياء، والعلوم النفسية وغيرها، فستتضح عجائب في خلق الأرض كانت خافية، كل واحدة تعدُّ آية من آيات الله.

ثمّ ينتقل القرآن إلى آية من آيات الأنفس الكبيرة فيقول: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم ).

وبلا شك فإنّ الحياة الإجتماعية للبشر، لا تقوم بغير معرفة وتشخيص الأفراد والأشخاص، إذ لو كان الناس جميعاً في يوم ما على صورة واحدة ولباس

[ 498 ]

واحد، فإن أسلوب حياتهم يضطرب في ذلك اليوم ، إذ لا يعرف الأب والابن والزوج من الغرباء، ولايميز المجرم من البريء، ولا الدائن من المدين، ولا الآمر من المأمور، ولا الرئيس من المرؤوس، ولا الضيف من المضيف ولا العدوّ من الصديق، وأي ارباك عجيب كان سيحدث لو كانوا على هذه الشاكلة!.

وعلى سبيل الإتفاق قد تحدث هذه المسألة بين الإخوة التوائم، أو الشقيقين التوأمين المتشابهين من جميع الوجوه، وكم تحدث من المشاكل بين الناس وبينهم، وقد سمعنا ذات مرّة أن امرأة كان لديها توأمان متشابهان تماماً، وكان أحدهما مريضاً، فأعطت الدواء لمعافى دون السقيم!!.

لذلك خلق الله الأصوات والألون لتنظيم المجتمع البشري، على حد تعبير «الرازي» في تفسيره في ذيل الآية محل البحث: إن معرفة الإنسان للإنسان تحصل إمّا عن طريق العين أو الأذن، فخلق الله الألوان والصور والأشكال المختلفة لتعرفها العين وتشخصها، وأوجد اختلاف الأصوات لتشخصها الأذن، حتى أنّه لا يمكن العثور في جميع العالم على انسانين متشابهين في الوجه والصوت معاً، أي إن وجه الإنسان الذي هو عضو صغير، وصوته الذي هو موضوع بسيط، بقدرة الله جاءا على مليارات الأشكال والأصوات المختلفة، وما ذلك الإختلاف إلاّ من آيات عظمة الله.

كما يحتمل أن المراد باختلاف الألسنة كما أشار إليه كبار المفسّرين هو اختلاف اللغات، من قبيل العربية والفارسية واللغات الأخرى.

ولكن يمكن أن يستفاد من كلمة «اختلاف» معنى واسع بحيث يشمل هذا التّفسير وما قبله، وأي تفسير آخر، فهذا التنوع في الخلقة شاهد على عظمة الخالق وقدرته.

يقول «فريد وجدي» في دائرة معارفه، نقلا عن قول «نيوتن» العالم الغربي المعروف (لا تشكوا في الخالق، فإنه ممّا لا يُعقل أن تكون الضرورة وحدها هي

[ 499 ]

قائدة الوجود، لأنّ ضرورة عمياء متجانسة في كل مكان وفي كل زمان لا يتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات، ولا هذا الوجود كله بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها، مع تغيرات الأزمنة والأمكنة، بل إن كل هذا لا يعقل أن يصدر إلاّ من كائن أزلي له حكمة وإرادة)(1).

ويقول القرآن في نهاية الآية الآنفة الذكر (إنّ في ذلك لآيات للعالمين ).

فالعلماء يعرفون هذه الأسرار قبل كل أحد.

* * *

_____________________________

1 ـ دائرة المعارف، محمّد فريد وجدي، ج 1، ص 496 (مادة اله).

[ 500 ]

 

 

 

 

الآيات

وَمِنْ ءَاَيَـتِهِ مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ ءَايَـتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَنُنَزِّلُ مِنِ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْىِ بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالاَْرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الاَْرْضِ إِذآ أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

 

التّفسير

آياتُ عظمته ـ مرّةً أُخرى:

تعقيباً على الأبحاث السابقة حول آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، تتحدث هذه الآيات ـ محل البحث ـ حول قسم آخر من هذه الآيات العظيمة.

فتتحدث في البداية عن ظاهرة «النوم» على أنّها ظاهرة مهمة من ظواهر الخلق ومثل بارز من نظام الحكيم الخالق، فتقول: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ).

وتُختتم الآية بإثارة العبرة بالقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون ).

وهذه الحقيقة غير خافية على أحد، هي أن جميع «الموجودات الحية»

[ 501 ]

تحتاج إلى الراحة والدعة، وذلك لتجديد قوتها وتهيئة الإستعداد اللازم لإدامة العمل والفعالية، الراحة التي لابدّ منها حتى لأولئك الأفراد الحريصين والجاديّن.

فأي شيء يُتصور أحسن من النوم للوصول إلى هذا الهدف، وهو يأتيه بشكل إلزامي، ويدعوه إلى تعطيل نشاطه الجسماني، وقسم مهم من نشاطه الفكري والذهني، بينما تستمر أجهزة خاصة في العمل في جسم الإنسان كالقلب الرئة وبعض النشاط الذهني، وما إلى ذلك ممّا يستلزمه استمرار الحياة في الإنسان فحسب، أمّا البقية فتهدأ وتتعطل عن العمل.

هذه الموهبة العظيمة تؤدي الى أن يحصل جسم الإنسان وروحه على الراحة اللازمة، فيرتفع التعب بطرو النوم الذي بمثابة وقفة لعمل البدن، ونوع من التعطيل له. ويجد الإنسان على أثرها قوة ونشاطاً جديداً في حياته.

ومن المسلّم به أنّه لولا النوم لتصدّعت روح الانسان وذبل جسمه وانهار بسرعة، ولعجل عليه العجز والشيخوخة... وبهذا فإن النوم المناسب والهادىء مدعاة للسلامة وطول العمر، ودوام «الشباب» ونشاطه.

وممّا يجدر التنبيه عليه أوّلاً: أنّ النوم ورد قبل عبارة (ابتغاؤكم من فضله )التي تعني السعي وراء الرزق، وهذا التعبير هو إشارة إلى أن النوم أساس السعي لأنّه ـ من دون النوم الكافي ـ يصعب الإبتغاء من فضل الله.

ثانياً: صحيح أنّ النوم يقع في الليل، والإبتغاء من فضل الله في النهار، إلاّ أنّه ليس صعباً على الإنسان أن يغيّر هذا المنهج إذا اقتضت الضرورة. بل الله خلق الإنسان بصورة يستطيع معها تغيير منهجية النوم، ويجعلها وفقاً للضرورات والحاجات، فكأنّ التعبير (منامكم بالليل والنهار ) إشارة إلى هذه «اللطيفة» الدقيقة.

ولا شك أنّ المنهج الأصل للنوم متعلق بالليل، ولأنّ الليل هادىء بسبب الظلمة، فله أولوية خاصة في هذا المورد.

[ 502 ]

ولكن قد يتفق للإنسان ولظروف خاصة يكون مجبراً على السفر ليلا وأن يستريح نهاراً.. فلو كان منهج تنظيم النوم خارجاً عن اختيار الإنسان فسيواجه العديد من الصعوبات حتماً.

وأهمية هذا الموضوع، خاصة في عصرنا الذي تضطر فيه بعض المؤسسات الصناعية والطبية والعلاجية أن تعمل ليل نهار، ولا يمكن لها أن تعطل منهجها بحيث يتناوب عمالها في ثلاث مراحل للعمل فيها، هذه الأهمية في هذا العصر أجلى منه في أي عصر مضى!

وحاجة جسم الإنسان وروحه إلى النوم كثيرة إلى درجة لا يستطيع الفرد أن يتحمل السهر المتواصل أكثر من يومين أو ثلاثة.

ولذلك فإنّ المنع من النوم يعتبر من أشد أنواع التعذيب الذي يمارسه الطغاة والجبابرة مع سجنائهم.

وكذلك يُعدُّ النوم واحداً من الطرق العلاجية لكثير من الأمراض، حيث يوصي الأطباء المريض بأن يغطّ في نوم عميق فتزداد بذلك قوّة المريض ومناعته.

وبالطبع لا يمكن لأحد أن يحدد مقداراً معيناً للنوم على أنّه «مقدار النوم اللازم» لعموم الناس لأنّ ذلك يرتبط بسنّ الأشخاص ووضعهم ومزاجهم وكيفية البناء الفيسيولوجي والسيكلوجي «الجسيمي والروحي»، بل المهم النوم الكافي بمقدار يحسّ الإنسان بعده بأنّه شبع منه... كما هي الحال بالنسبة للشبع من الغذاء والماء تماماً.

وينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة، وهي أنّه بالإضافة إلى «طول» زمان النوم ،فلعمقه خصوصية وأهمية أُخرى أيضاً... فرب ساعة ينام فيها الإنسان نوماً عميقاً تسد عن عدد من الساعات التي ينامها نوماً سطحياً في إعادة بناء روح الإنسان وجسمه.

[ 503 ]

وبالطبع، فحيث لا يمكن النوم العميق، فالنعاس أيضاً من النعم الإلهية، كما أشارت إليه الآية الحادية عشرة من سورة الأنفال في شأن المجاهدين يوم بدر (إذْ يغشيّكم النعاس أمنة منه ) لأنّه لا يمكن النوم العميق في ميدان الحرب، وليس مفيداً ـ أيضاً ـ ولا نافعاً.

وعلى كل حال فإن نعمة النوم والهدوء والإطمئنان الناشىء منه، وما يحصل عليه الانسان من قوة ونشاط بعد النوم، هي من النعم التي لا يمكن وصفها بأي بيان!.

والآية التي تلتها، والتي تبيّن خامس آية من آيات عظمة الله، تتجه أيضاً إلى «الآيات في الآفاق» وتتحدث عن البرق والرعد والغيث وحياة الأرض بعد موتها فتقول: (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً ).

«الخوف» ممّا يخطر على البال من احتمال نزول الصاعقة مع البرق فتحرق كل شيء تقع عليه وتحيله رماداً.

«والطمع» من جهة نزول الغيث الذي ينزل بعد البرق والرعد على هيئة قطر أو مزنة.

وعلى هذا فإنّ البرق السماوي مقدمة لنزول الغيث (بالإضافة إلى فوائد البرق المختلفة المهمة والتي كشف العلم عنها أخيراً وقد تحدثنا عنه في بداية سورة الرعد»(1).

ثمّ يضيف القرآن معقباً (وينزل من السماء ماءً فيحي به الأرض بعد موتها ).

الأرض الميتة التي لا يؤمل فيها الحياة والنبات، تهتز بنزول الغيث الذي يمنحها الحياة، فتحيا وتظهر آثار الحياة عليها على هيئة الأزهار والنباتات، بحيث لا تصدق أحياناً أنّها الأرض الميتة سابقاً.

_____________________________

1 ـ راجع تفسير «سورة الرعد» الآيات الأُولى منها.

[ 504 ]

ويؤكّد القرآن في نهاية هذه الآية مضيفاً: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون )ويفهمون أن وراء هذه الخطة المدروسة يداً قادرة تقودها وتهديها، ولا يمكن أن تكون المسألة وليدة الصدفة والضرورة العمياء الصّماء أبداً.

وفي آخر اية من الآيات محل البحث، يقع الكلام عن آية أُخرى من الآيات الآفاقية، وذلك عن تدبير نظام السماء والأرض وبقائهما ودوامهما، إذ تقول: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمر ).

أي إنّ خلق السماوات ـ المشار إليه في الآيات السابقة ـ ليس آية وحدة فحسب، بل بقاؤها ودوام نظامها أيضاً آية أُخرى، فهذه الأجرام العظيمة في دورانها المنظّم حول نفسها تحتاج إلى أُمور كثيرة، وأهمّها المحاسبة المعقدة للقوّة الجاذبة والدافعة!

إنّ الخالق الكبير جعل هذا التعادل دقيقاً، بحيث لا يعترض الأجرام أدنى انحراف في مسيرها ودورانها حول نفسها إلى ملايين السنين.

وبتعبير آخر: إنّ الآية السابقة كانت إشارة إلى «توحيد الخلق» وأمّا هذه الآية فهي إشارة إلى «توحيد الربوبية والتدبير».

والتعبير بقيام السماء والأرض، تعبير لطيف مأخوذ من حالات الإنسان، لأنّ أحسن حالات الإنسان لأجل استدامة نشاطه هي حالة قيامه، إذ يستطيع فيها أداء جميع حوائجه، وتكون له السيطرة والتسلط الكامل على أطرافه.

والتعبير بـ «أمره» هنا إشارة إلى منتهى قدرة الله، إذ يكفي أمر واحد من قبله لإستمرار الحياة، ونظم هذا العالم الوسيع.

وفي نهاية الآية وبالإستفادة من عامل التوحيد لإثبات المعاد، ينقل القرآن البحث إلى هذه المسألة فيقول: (ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ).

ولقد رأينا ـ مراراً ـ في آيات القرآن أن الله سبحانه يستدل على المعاد

[ 505 ]

بآيات قدرته في السماء والأرض، والآية محل البحث واحدة من تلك الآيات.

والتعبير بـ«دعاكم» اشارة إلى أنّه كما أنّ أمراً واحداً منه كاف للتدبير ولنظم العالم، فإنّ دعوة واحدة منه كافية لأن تبعثكم من رقدتكم وتنشركم من قبوركم ليوم القيامة، وخاصة إذا لاحظنا جملة (إذا أنتم تخرجون ) فإنّ كلمة «إذا» تبين بوضوح مؤدى هذه الجملة، حيث أنّها «فجائية» كما يصطلح عليها أهل النحو واللغة، ومعناها: إذا دعاكم الله تخرجون بشكل سريع وفجائي.

والتعبير بـ(دعوة من الأرض ) دليل واضح على المعاد الجسماني، إذ يثب الإنسان في يوم القيامة من هذه الأرض «فلاحظوا بدقّة» .

* * *

 

بحوث

1 ـ دورة دروس كاملة لمعرفة الله

تناولت الآيات الست المتقدمة بحوثاً مختلفة في معرفة الله، وهي بمجموعها تمثل حلقات متصلة ودورة كاملة طريفة، بدءاً بخلق السماء إلى خلق البشر من التراب، ومن رباط الحب في الأسرة، إلى النوم الذي يمنح الدعة والإطمئنان في الليل والنهار، ومن تدبير النظام والعالم متدرجاً، إلى البرق والغيث واختلاف الألسنة والألوان... فهي مجموعة مناسبة من آيات الآفاق وآيات الأنفس!.

الطريف هنا أن كلّ آية من الآيات الست يذكر فيها قسمان من دلائل التوحيد، ليهيء الأوّل الأرضية المناسبة، والآخر للتحكيم والتأكيد، وهذا يشبه تماماً الإتيان بشاهدين عدلين لإثبات المدّعى، فيكون المجموع اثني عشر شاهداً صادقاً على قدرة الله الحق، التي لا نهاية ولا أمد لها.

 

[ 506 ]

2 ـ من هم المستلهمون من هذه الآيات

ورد في أربع آيات من هذه الآيات الست التأكيد على أن في هذه الأُمور دلائل واضحة «للعالمين، المتفكرين، السميعين، العاقلين» إلاّ أنّ هذا التأكيد لم يرد في الآية الأولى، ولا الآية الأخيرة.

ويوضح الفخر الرازي في هذا المجال فيقول: لعل عدم ذكر ذلك، في الآية الأُولى لأنّ الآية الأُولى والثّانية جاءتا متصلتين في سياق واحد، وكلتاهما من الآيات التي تتحدث في الأنفس.

وأمّا في الآية الأخيرة فإنّ الأمر واضح إلى درجة لا يحتاج بعدها إلى مزيد إيضاح، ولا تأكيد على التعقل والتفكر(1)!

الطريف هنا أن الحديث عن التفكر ورد قبل الحديث والكلام عن «العلم» لأنّ التفكر مقدمة وقاعدة للعلم، ثمّ يأتي الكلام على من يسمع، لأنّ الإنسان يستعد للإستماع وتقبل الحق، إذا كان في صدد العلم والإطلاع، كما يقول القرآن في هذا المجال: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه )(2)

وفي آخر مرحلة كان الكلام عن العقل، لأنّ أُولئك كانوا يسمعون، فلابدّ أن يبلغوا مرحلة العقل الكامل!

كما ينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، هي أنّه وقع الكلام في ذيل الآية الأُولى عن خلق الإنسان وانتشار نسله في الأرض (ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون ).

ووقع الكلام في آخر آية أيضاً عن خروج الناس ونشورهم في يوم القيامة (إذا أنتم تخرجون ).

فالآية الأُولى لبداية الخلق، والأخيرة للنهاية.

_____________________________

1 ـ التفسير الكبير الفخر الرازي ـ ذيل الآيات محل البحث.

2 ـ الزمر، الآية 18.

[ 507 ]

 

3 ـ عجائب عالم النوم

بالرغم من جميع الأبحاث التي كتبها العلماء حول النوم وخصائصه، يبدو أن زوايا هذا العالم لم تنكشف جميعها، ولم يرفع النقاب عن أسراره وحقائقه الغامضة!

فما زال البحث يدور بين العلماء: أي فعل وانفعال يكون في البدن بحيث يتوقف ـ خلال لحظة مفاجئة ـ قسم من نشاطات المخ والبدن، ويظهر تحول في عامّة الروح والجسد؟!

قال بعضهم: إنّ العامل الأصلي للنوم هو «عامل فيزياوي» ويعتقدون أن انتقال الدم من المخ إلى أجزاء البدن الأخرى، يوجد هذه الظاهرة، ولأجل إثبات معتقدهم عمدوا إلى صنع سرير للنوم على شكل خاص يدعى «سرير النوم المعياري» يبيّن كيفية انتقال الدم من المخ إلى سائر أعضاء البدن!.

وقال جماعة: إنّ العامل الأصلي للنوم هو «عامل كيمياوي» ويعتقدون أن الإنسان في حالة السعي والعمل تزداد فيه السموم بحيث تؤدي الى تعطيل قسم من المخ عن عمله، فينام الإنسان على أثر ذلك، وحين تتلاشى السموم وتسيطر عليها كريات الدم يتيقظ الإنسان مرّة أُخرى!

وقال جماعة آخرون: إنّ العامل الأصلي للنوم هو «عامل عصبي» ويعتقدون أن للنشاط العصبي خصوصيةً في المخ لها حكم وقود السيارة، فعندما تتعب ينطفىء المخ ويتوقف عن العمل مؤقتاً.

ولكن هناك أسئلة ونقاط مبهمة حول جميع هذه النظريات، لم نحصل إلى الآن على جواب واضح لها، وما يزال النوم محتفظاً بوجهه المليء بالأسرار.

من عجائب عالم النوم ما أماط العلماء النقاب عنه أخيراً، وهو حين يتعطل قسم كبير من المخ عن العمل تبقى بعض خلاياه التي ينبغي أن تسمى بـ «الخلايا الحارسة» متيقظة ولا تنسى الوصايا التي يوصيها الإنسان قبل النوم عند ساعة

[ 508 ]

التيقظ... وعند الحاجة توقظ هذه الخلايا جميع المخ ويتحرك نحو العمل مرّة أُخرى!

فمثلا: الأم المرضعة المتعبة حين تنام الليل وإلى جنبها رضيعها في المهد، يوصي عقلها الباطني الخلايا الحارسة التي تربط بين الروح والجسم، أنّه متى ما سمعت أقل صوت لطفلي فأيقظيني، ولكن لا يهمني أي صوت آخر، فقد لا تتيقظ المرأة من صوت الرعد المهول، ولكنّها تتيقظ لأقل صوت من ولدها الرضيع، فهذه المهمّة هي وظيفة الخلايا الحارسة.

ونحن أيضاً جرّبنا هذا الموضوع كثيراً، فمتى ما كان لدينا تصميم أن نستيقظ مبكرين أو في منتصف الليل لنسافر أو لأداء مهمّة، ونحدث أنفسنا بذلك، فإننا غالباً ما نستيقظ في الوقت المطلوب، في حين أن من الممكن أن نغرق في النوم لساعات طوال في غير هذه الحالة!

والخلاصة، حيث أنّ النوم هو من الظواهر الروحية، وللروح عالم مليء بالأسرار، فليس عجيباً أن تبقى كثير من زوايا هذه المسألة غامضة... ولكن كلما سبرنا غور هذا العالم نتعرف على عظمة خالق هذه الظاهرة.

هذا عن ظاهرة النوم، وأمّا عن الرؤيا والأحلام، فقد بحثنا عنه بحوثاً كثيرة، ولا بأس بمراجعة تفسير سورة يوسف(عليه السلام).

 

4 ـ علاقة الحب بين الزوجين

بالرّغم من أنّ العلاقة أو الإرتباط بين الإنسان وأبيه وأمه وإخوته هي علاقة نسبية، تمتد جذورها العميقة بالقرابة. والعلاقة بين الزوجين علاقة قانونية. و«معاقدة بينهما» لكن كثيراً ما تتغلب هذه العلاقة حتى على علاقة الإنسان بأبيه وأُمه، وفي الحقيقة هذا هو ما أشارت إليه الآيات الآنفة بالتعبير (وجعل بينكم مودّة ورحمة ).

[ 509 ]

ونقرأ حديثاً عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) أنّه أخبر ابنة جحش باستشهاد خالها حمزة، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فأخبرها باستشهاد أخيها فقالت مرّة أُخرى: «إنا لله وإنا إليه راجعون» (وطلبت له الأجر والثواب من الله).

ولكن حين أخبرها باستشهاد زوجها، وضعت يدها على رأسها وصرخت، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما يعدل الزوج عند المرأة شيء» (1).

 

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج4، ص 174.

[ 510 ]

 

 

 

 

الآيات

وَلَهُ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـنِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِى يَبْدَوُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الاَْعْلى فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلا مِّنْ أَنْفُسِكُمْ هَل لَّكُمْ مِّنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ مِّنْ شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَـكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَْيَـتِ لِقَوْم يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِّنْ نَّـصِرِينَ (29)

 

التّفسير

المالكية لله وحده:

كانت الآيات المتقدمة تتحدث حول توحيد الخالق، وتوحيد الرّب، أمّا الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث فتتحدث عن فرع آخر من فروع التوحيد، وهو توحيد الملك فتقول: (وله من في السماوات والأرض ).

ولأنّهم ملك يده فـ (كلٌّ له قانتون ) وخاضعون.

وواضح أنّ المراد من المالكية وخضوع المخلوقات وقنوتها، الملك

[ 511 ]

والقنوت التكوينيان... أي إن زمام أمر الجميع من جهة القوانين التكوينية كلّه في يده، وهم مستسلمون لقانون عالم التكوين وفق مشيئة الله، شاؤوا أم أبوا.

حتى العُتاة الطغاة الألدّاء والمتمردون على القانون والجبابرة، هم مضطرون أيضاً أن يحنوا رؤوسهم لأمر الله في القوانين التكوينية.

والدليل على هذه «المالكية» هو الخالقية والربوبية، فإنّ من خلق الموجودات في البداية وتكفلها بالتدبير، فمن المسلم أنّه هو المالك الأصلي لها لا سواه!

وبما أنّ جميع موجودات الدنيا سواسية في هذا الأمر، فمن الواضح أن لا يكون معه أي شريك في الملك حتى الأوثان والمعبودات المصطنعة التي يتصورها المشركون أنّها أربابهم، هي أيضاً مملوكة لمالك «الملك» والملوك، وهي طوع أمره.

وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ إلى أنّ كلمة «قانت» تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ في الأصل: الطاعة الملازمة للخضوع!

ونقرأ حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال «كل قنوت في القرآن فهو طاعة».

غاية ما في الأمر، تارة تأتي هذه الطاعة «تكوينية» وأُخرى «تشريعية».

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ كلمة «قانتون» معناها هنا «قائمون بالشهادة على وحدانيته» (1) فهو في الحقيقة بيان لأحد مصاديق الطاعة، لأنّ الشهادة على وحدانية الله نوع من الطاعات.

وحيث أنّ المسائل المرتبطة بالمبدأ والمعاد هي كالنسيج الواحد في انسجامها في سلسلة الآيات الآنفة، والتي ستأتي في ما بعد، ففي الآية التالية يعود القرآن إلى موضوع المعاد، فيقول: (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو

_____________________________

1 ـ نقل «الآلوسي» في تفسيره «روح المعاني» ذيل الآية محل البحث هذا الكلام عن بعض المفسّرين المتقدمين.

[ 512 ]

أهون عليه )(1).

إنّ القرآن يثبت في هذه الآية ـ بأوجز الإستدلال ـ مسألة إمكان المعاد، إذ يقول لهم: إنكم تعتقدون أن بداية الخلق من قبل الله، فعودة الخلق مرّة أُخرى أيسر وأهون من بداية الخلق!.

والدليل على أن عودة الخلق أهون من البداية، هو أنّه في البداية لم يكن شيء ولكن الله هو الذي أبدعه، وفي الإعادة توجد المواد الأصلية على الأقل، فبعضها في طيّات التراب، وبعضها متناثر في الفضاء، وإنّما تحتاج إلى نظم وإلى إعطائها صورتها الأُولى فحسب، فهي أهون!

ولكن من الضروري أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة»، وهي أنّ التعبير بالهيّن والصعب، هو من خلال نافذتنا الفكرية، وأمّا بالنسبة للقادر المطلق فلا فرق عنده بين «الصعب والسهل».

وأساساً فإنّ «الصعب والسهل» يصدقان مفهوماً في مكان يكون الكلام عن قدرة محدودة، كأن يستطيع أحد أن يؤدي عملا بصورة جيدة، والآخرة لا يؤديه بصورة جيدة، بل بمشقّة، أمّا حين يكون الكلام على قدرة لا حدّ لها، فلا معنى للصعب والهيّن هناك!

وبتعبير آخر: إنّ حمل «أعظم الجبال» على الأرض بالنسبة إلى الله وحمل أخف الأشياء عليها عنده سواء، لقدرته التي لا يعظم عليها شيء.

وربّما كان لهذا السبب أن عقّب القرآن في ذيل الآية مباشرة بالقول: (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ).

لأننا لو تصورنا أي وصف كمالي لأي موجود في السماء والأرض، من علم

_____________________________

1 ـ ينقل «الفخر الرازي» عن «الزمخشري» في تفسير الكشّاف أن الله قال في شأن ولادة عيسى(عليه السلام) دون أب «هو علي هين» ولأنّ كلمة «عليّ» مقدمة، فهي دليل على الحصر، أي إن هذا العمل سهل علي فحسب لا على سواي، أمّا في هذه الآية محل البحث فقد قال: سبحانه: (وهو أهون عليه ) فلا يستفاد منها الحصر، وهي إشارة إلى أن كل من يستطيع أن يؤدي عملا في البداية فهو قادر على إعادته أيضاً «فلاحظوا بدقة».

[ 513 ]

وقدرة وملك وعظمة وجود وكرم، فمصداقه الأتم والأكمل هو عند الله، لأنّ الجميع لديهم المحدود من الصفات، إلاّ هو وحده فإنّ لديه الأوصاف غير المحدودة، والجميع لديهم أوصاف عارضة، أمّا أوصاف الله فذاتية، وهو مصدر الكمالات وأساسها.

حتى الألفاظ التي تجري على ألسنتنا لبيان مقاصدنا يوميّاً.. لا يمكن أن تكون مبينة لأوصافه... كما هو في تعبير «أهون» الذي نجده مثلا عندنا.

والجملة الآنفة هي كالآية (180) في سورة الأعراف، إذ ورد فيها (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) والآية (11) في سورة الشورى إذيقول: (ليس كمثله شيء ).

وتنتهي الآية ـ بما هو ضرب من التأكيد أو الدليل، إذ يقول سبحانه: (وهو العزيز الحكيم ).

هو عزيز لا يقهر، إلاّ أنّه وفي منتهى قدرته غير المحدودة لا يصدر منه فعل غير دقيق، فكل أفعاله وفق حكمته.

وبعد بيان قسم آخر من دلائل التوحيد والمعاد في الآيات المتقدمة، يتناول القرآن موضوع «نفي الشرك» في مثال بيّن فيقول: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم ).

هذا المثال هو لو كان لديكم ـ أيّها المشركون ـ عبيد ومماليك فـ (هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) أي أن عبيدكم هؤلاء يشاركونكم في أموالكم وفي ما رزقناكم. بحيث تكونون أنتم وعبيدكم سواء في مالكية هذه الأموال والنعم وتخافون أن يتصرفوا في هذه الأموال بشكل مستقل كما هو الحالة في تصرف شركاءكم الأحرار فيها أو في الميراث مثلا... فأنتم غير مستعدين لأنّ يتصرفوا في أموالكم.

[ 514 ]

فلو كان لكم عبيد وملك يمين «وهو ملك مجازي» لما رضيتم بمثل هذا الفعل منهم، فكيف تتصورون المخلوقات التي هي ملك حقيقي لله شركاءه! أو تزعمون أن بعض الأنبياء كالمسيح أو ملائكة الله أو بعض المخلوقات الأُخرى كالجن أو الأصنام الحجرية والخشبيّة شركاءه، ألا ساء ما تحكمون!!

المملوكات المجازية التي يمكن أن تتحرر وتنعتق بسرعة، وتكون في صفوفكم ومن أمثالكم «كما جرى ذلك في الإسلام» ـ لا تكون حالة كونها مملوكة ـ في صف مالكها، وليس لها حق التدخل في منطقة نفوذه، فكيف تجعلون العبيد الحقيقيين أو المملوكات الحقيقية شركاء الله، في حين أنّهم متعلقون بالله ذاتاً ووجوداً، ولا يمكن أن يُسلب هذا التعلق بالله والإرتباط به منهم، وكل ما عندكم فمن عنده، وما أنتم بشيء من دونه!.

قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية ناظرة لما قاله المشركون من قريش، عند التلبية في مناسك الحج، إذ كانوا يقولون عند التلبية.. «لبيك، اللّهم لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكة وما ملك» ... هكذا كان محتوى تلبية المشركين(1).

وبديهي أن شأن نزول هذه الآيات شأن سائر الآيات في نزولها، إذ لا يحدد معنى الآية، كما هي في الوقت ذاته جواب لجميع المشركين، هي مستقاة من حياتهم أنفسهم التي تدور حول الرق والمملوكين، وتحتج عليهم احتجاجاً متيناً.

والتعبير بـ (ما رزقناكم ) يشير إلى هذه اللطيفة، وهي أنّكم لستم المالكين الحقيقيين لهؤلاء العبيد والمماليك، ولا المالكين الواقعيين للمال، لأنّ كل ذلك لله وحده، ولكنّكم غير مستعدين لأن تخوّلوا ممّاليككم المجازيين بالتصرف في أموالكم المجازية وتعدّوهم شركاءكم، في حين أنّه لا يستلزم محالا ولا مشكلة من الناحية التكوينية لأنّ الكلام يدور مدار الإعتباريّات.

غير أن التفاوت بين الله ومخلوقاته تفاوت تكويني ولا يتغيّر، وجعل هذه

_____________________________

1 ـ تفسير الميزان وتفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين ذيل الآية محل البحث.

[ 515 ]

المخلوقات شريكة لله من سابع المستحيلات.

ومن جهة أُخرى فإنّ عبادة أحد الموجودات، إمّا لعظمته، أو لأنّه ينفع ويضر الإنسان، إلاّ أن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر(1).

ويعقب القرآن في ختام الآية للتأكيد والدقة على مضمون السؤال، فيقول: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ).

أجل، نذكر لكم الحقائق من الأمثلة الواضحة في حياتكم لتفكروا فيها، ولكيلا تنسبوا لله ـ على الأقل ـ ما لا ترضون أن تنسبوه لأنفسكم!.

غير أنّ هذه الآيات البينات وهذه الأمثلة الواضحة هي لأولي الألباب، لا للظالمين عبدة الهوى الجهلة الذين قلوبهم أسدال الجهل، واستوعبت آفاقهم الخرافات والعصبيات، لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم ).

ولذلك فإنّ الله خلّى بينهم وبين أنفسهم بسبب أعمالهم السيئة، فتاهوا في وادي الضلالة (فمن يهدي من أضل الله )؟!

والتعبير بـ «ظلموا» مكان «أشركوا» إشارة إلى أن الشرك بعد أعظم الظلم: فهو ظلم للخالق، إذ جعله مخلوقه إلى جانبه وأشركه معه (ونعرف أن الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه).

وظلم للخلق، إذ منعوهم عن طريق الخير والسعادة «طريق التوحيد».

وظلم لأنفسهم، لأنّهم أطلقوا جميع وجودهم وكيانهم للريح، وظلوا في مفازة عمياء! وبيداء قفراء.

وهذا التعبير ـ ضمناً ـ مقدمة للجملة التالية، وهو إنّما أضلهم الله عن طريق

_____________________________

1 ـ فسّر بعض المفسّرين جملة «تخافونهم كخيفتكم أنفسكم» بهذه المناسبة تفسيراً آخر، حاصله أنّ هؤلاء المعبودين ليست لديهم القدرة حتى تخافوهم كما تخافون من بعضكم، فكيف إذا كان الخوف أكثر! «إلاّ أن التّفسير الذي ذكرناه في البداية يبدو أقرب للنظر».

[ 516 ]

الحق فبظلمهم، كما جاء مثل هذا التعبير في سورة إبراهيم الآية (27) (ويضل الله الظالمين ).

ولا شك أن من يتركهم الله ويخلّي بينهم وبين أنفسهم (فما لهم من ناصرين ).

وبهذا يوضح القرآن عاقبة هذه الجماعة المشؤومة، ولم لا تكون كذلك؟! وهم يرتكبون «أعظم الذنوب وأعظم الظلم»، إذ عطلوا عقولهم وأفكارهم عن العمل، وتركوا شمس العلم خلف ظهورهم، وتوجهوا إلى ظلمة الجهل والهوى.

فمن الطبيعي أن يسلب الله منهم التوفيق، ويتركهم في ظلماتهم، وما لهم من ناصرين ولا معينين!.

* * *

[ 517 ]

 

 

 

 

الآيات

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها لاَ تَبْدِيلَ لِخْلْقِ اللهِ ذلِكَ الدَّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيهِ وَاتَّقُوهُ وأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَلاَ تَكُونوُاْمِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعَاً كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

 

التّفسير

كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة الله، عن طريق مشاهدة نظام الخلق، والإستفادة منه لإثبات مبدأ العلم والقدرة في ما وراء عالم الطبيعة، بالاستفادة من آيات التوحيد في هذه السورة!

وتعقيباً على الآيات الآنفة الذكر، فإن الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد الفطري، أي الإستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: (فأقم وجهك للدين حنيفاً ) لأنّها (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).

«الوجه» معناه معروف، وهو مقدم الرأس. والمراد به هنا الوجه الباطني،

[ 518 ]

ووجه القلب والروح فعلى هذا ليس المراد هنا من الوجه أو المحيّا وحده، بل التوجه بجميع الوجود، لأنّ الوجه أهم أعضاء البدن!

وكلمة «أقم» مشتقة من الإقامة، ومعناه الإستقامة والوقوف بثبات (على قدم راسخة)...

وكلمة «حنيف» مشتقة من «حَنَف» ، ومعناها الميل من الباطل نحو الحق، ومن الإعوجاج نحو الإستواء والإستقامة، على العكس من «جنف» على وزن «حنف» أيضاً، ومعناها الميل من الإستواء إلى الضلالة والإعواجاج.

فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والإستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال.

فيكون معنى هذه الجملة بمجموعها، أن وجّه نفسك دائماً نحو مبدأ ومذهب خال من أي أنواع الإعوجاج والإنحراف، وذلك هو مبدأ الإسلام ودين الله الخالص والطاهر(1).

إنّ الآية المتقدمة تؤكّد على أن الدين الحنيف الخالص الخالي من كل أنواع الشرك، هو الدين الذي ألهمه الله سبحانه في كل فطرة، الفطرة الخالدة التي  لا تتغير، وإن كان كثير من الناس غير ملتفت لهذه الحقيقة.

والآية المتقدمة تبين عدة حقائق:

1 ـ إنّ معرفة الله ـ ليست وحدها ـ بل الدين والإعتقاد بشكل كلي وفي جميع أبعاده هو أمر فطري، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ الدراسات التوحيدية تؤكّد أن بين جهاز التكوين والتشريع انسجاماً لازماً، فما ورد في الشرع لابدّ أن يكون له جذر في الفطرة، وما هو في التكوين وفطرة الإنسان متناغم مع قوانين الشرع!

_____________________________

1 ـ الألف واللام في كلمة «الدين» هما للعهد، وهما هنا إشارة إلى الدين الذي أمر النّبي(صلى الله عليه وآله) أن يبلغه، أي دين «الإسلام» .

[ 519 ]

وبتعبير آخر: إنّ التكوين والتشريع عضدان قويان يعملان بانسجام في المجالات كافة، فلا يمكن أن يدعو الشرع إلى شيء ليس له أساس ولا جذر في أعماق فطرة الإنسان، ولا يمكن أن يكون شيء في أعماق وجود الإنسان مخالف للشرع!

وبدون شك فإنّ الشرع يعين حدوداً وقيوداً لقيادة الفطرة لئلا تقع في مسار منحرف، إلاّ أنّه لا يعارض أصل مشيئة الفطرة، بل يهديها من الطريق المشروع، وإلاّ فسيقع التضاد بين التشريع والتكوين، وهذا لا ينسجم مع أساس التوحيد.

وبعبارة أُخرى: إنّ الله لا يفعل أعمالا متناقضة أبداً، بحيث يقول أمره التكويني: افعل! ويقول أمره التشريعي: لا تفعل.

2 ـ إنّ الدين له وجود نقي خالص من كل شائبة داخل نفس الإنسان، أمّا الإنحرافات فأمر عارض، ووظيفة الأنبياءإذن إزالة هذه الأُمور العارضة، وفسح المجال لفطرة الإنسان في الأشراق.

3 ـ إنّ جملة (لا تبديل لخلق الله ) وبعدها جملة (ذلك الدين القيّم )تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطرياً، وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة!... وإن كان كثير من الناس لا يدركون هذه الحقيقة بسبب عدم رشدهم كما ينبغي!

وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أن الفطرة في الأصل من مادة «فطر» على زنة «بذر» ومعناها شق الشيء من الطول، وهنا معناها الخلقة، فكأن ستار العدم ينشق عند خلق الموجودات ويبرز كل شيء منها.

وعلى كل حال فمنذ أن وضع الإنسان قدمه في عالم الوجود، كان هذا النور متوقداً في داخله، من أوّل يوم ومن ذلك الحين!

والرّوايات المتعددة التي وردت في تفسير الآية تؤيد ما ذكرناه آنفاً، وسنتحدث عن ذلك لاحقاً إن شاء الله، بالإضافة إلى الأبحاث الأُخرى في مجال كون التوحيد فطرياً.

[ 520 ]

ويضيف القرآن في الآية التالية: ينبغي أن يكون التفاتكم للدين الحنيف والفطري حالة كونكم (منيبين إليه ) فأصلكم وأساسكم على التوحيد، وينبغي أن تعودوا إليه أيضاً.

وكلمة «منيبين» من مادة «إنابة» وهي في الأصل تعني الرجوع المكرر، وتعني هنا الرجوع نحو الله والعودة نحو الفطرة (التوحيدية) ومعناها متى ما حصل عامل يحرف الإنسان عقيدته وعن أصل التوحيد فينبغي أن يعود إليه.. ومهما تكرر هذا الأمر فلا مانع من ذلك الى أن تغدو أسس الفطرة متينة وراسخة، وتغدو الموانع والدوافع خاوية ويقف الانسان بصورة مستديمة في جبهة التوحيد، ويكون مصداقاً للآية (وأقم وجهك للدين حنيفاً ).

وممّا ينبغي الإلتفات إليه أن (أقم وجهك ) جاءت بصيغة الإفراد، وكلمة «منيبين» جاءت بصيغة الجمع، وهذا يدل على أنّه وإن كان الأمر الأوّل مخاطباً به النّبي(صلى الله عليه وآله) إلاّ أن الخطاب ـ في الحقيقة ـ لعموم المؤمنين وجميع المسلمين.

ويعقب على الأمر بالإنابة والعودة إليه، بالأمر بالتقوى، وهي كلمة تجمع معاني أوامر الله ونواهيه، إذ يقول: (واتقوه ) أي اتقوا مخالفة أوامره!.

ثمّ يؤكّد القرآن على موضوع الصلاة من بين جميع الأوامر فيقول: (وأقيموا الصلاة ).

لأنّ الصلاة في جميع أبعادها، هي أهم منهج لمواجهة الشرك، وأشد الوسائل تأثيراً في تقوية أسس التوحيد والإيمان بالله سبحانه.

كما أنّه يؤكّد في نهيه عن «الشرك» من بين جميع النواهي فيقول:  (ولا تكونوا من المشركين ).

لأنّ الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، إذ يمكن أن يغفر الله جميع الذنوب إلاّ الشرك بالله، فإنّه لا يغفره. كما نقرأ في الآية (48) من سورة النساء (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ).

[ 521 ]

وواضح أن الأوامر الأربعة الواردة في هذه الآية، هي تأكيد على مسألة التوحيد وآثاره العملية، فالمسألة أعمّ من التوبة والعودة إليه تعالى وإلى تقواه وإقامة الصلوة وعدم الشرك به.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يبيّن القرآن واحداً من آثار الشرك وعلائمه في عبارة موجزة ذات معنى كبير، فيقول: لا تكونوا من المشركين الذين انقسموا في دينهم على فرق واحزاب كثيرة: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ).

والعجيب في الأمر أنّهم على تضادّهم واختلافهم فإنّ (كلّ حزب بما لديهم فرحون ).

أجل، إن واحدة من علائم الشرك هي التفرقة، لأنّ المعبودات المختلفة هي منشأ الأساليب المتفاوتة وهي أساس الإنفصال والتفرق، خاصة وأنّ الشرك هو توأم عادة لهوى النفس والتعصّب والكبر والأنانية وعبادة الذات، أو متولد عنها، لذلك لا يمكن أن تتحقق الوحدة والإتحاد إلاّ في ظل عبادة الله، والعقل والتواضع والإيثار!.

فعلى هذا، حيثما وجدنا تفرقة واختلافاً فينبغي أن نعرف أن نوعاً من الشرك حاكم هناك، ويمكن أن نستنتج من هذا الموضوع أن نتيجة الشرك هي تفرق الصفوف، والتضاد، وهدر القوى، وأخيراً الضعف وعدم القدرة.

وأمّا مسألة (كل حزب بما لديهم فرحون ) فهي واضحة ودليلها بيّن، حين يعتقدون أن ما لديهم حق، لأنّ الهوى يزيّن للنفس عملها في نظر الإنسان وهذا التزيين نتيجته التعلق أكثر فأكثر، والفرح بالطريق الذي اختارته النفس، وإن كان هذا الطريق يؤدي إلى الضلال والإنحراف.

إنّ عبادة الهوى لا تسمح للإنسان أن يرى وجه الحقيقة كما هو، ولا يمكنه أن يقضي قضاءً صحيحاً خالياً من الحبّ والحقد.

[ 522 ]

يقول القرآن المجيد في الآية (8) من سورة فاطر: (فمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ).. كالذي يمضي في طريق الحق، ويرى الحقائق كما هي، ويعرفها حق المعرفة؟!

* * *

 

بحثان

1 ـ التوحيد باعث داخلي قوي:

كما أنّ الدلائل العقلية والمنطقية توجّه الإنسان، فإنّ في داخله دوافع وموانع أيضاً.. بحيث تعين له الجهة «أحياناً» من حيث يدري أو لا يدري!

وفلسفة وجودها في داخل الإنسان، هي أنّ الإنسان لا يستطيع ـ دائماً ـ أن ينتظر إيعاز العقل والمنطق، لأنّ هذا العمل قد يعطل الأهداف «الحياتية» بعض الأحيان.

فمثلا لو أراد الإنسان أن يستلهم من منطق «لزوم بدل ما يتحلل» ضرورة تناول الطعام.. أو «لزوم استمرار النسل عن طريق التوالد والتناسل» ضرورة الممارسة الجنسية، وأن يعمل ويتحرك وفق المنطق في كل ذلك، لكان ينبغي أن ينقرض الإنسان ـ قبل هذا الزمان بكثير ـ إلاّ أن الغريزة الجنسية من جهة وجاذبيتها، والإشتهاء للطعام من جهة أُخرى، يجرانه نحو هذا الهدف شاء أم أبى. وكلما كانت الأهداف حياتيةً أكثر وعمومية، كانت هذه «الدوافع» أشد وأقوى أيضاً.

لكن ينبغي الإلتفات إلى أن هذه الدوافع على نحوين:

فبعضها باطنية (غير واعية) لا تحتاج إلى وساطة العقل والشعور، كما ينجذب الحيوان نحو الطعام والجنس دون الحاجة إلى التفكير.

وقد يكون تأثير الدوافع عن طريق الوعي، أي إن هذه الدوافع الداخلية

[ 523 ]

تترك أثرها في العقل والتفكير وتدفعه إلى انتخاب الطريق!

وعادة يطلق على النوع الأوّل من هذه الدوافع «الغريزة» وعلى النوع الثّاني «الفطرة» (فلاحظوا بدقّة).

عبادة الله والإتجاه نحوه لهما مكانه في نفوس جميع الناس، وهو ما يصطلح عليه بـ «الفطرة».

ويمكن أن يعدّ بعض الناس هذا الكلام ادعاءً محضاً، يدّعيه المؤمنون، إلاّ أن لدينا دلائل وشواهد مختلفة توضح بجلاء كون «الميل إلى الله» فطرياً، بل تؤكّد هذا الميل في جميع اصول الدين وأبعاده:

1 ـ إنّ دوام الإعتقاد الديني والإيمان بالله على امتداد التاريخ البشري بنفسه دليل على الفطرة! لأنّه إذا كان ذلك على سبيل العادة، لما كانت له جنبة عمومية ولا جنبة دائمية، فهذا العموم وهذا الدوام دليل على فطرية الحالة.

يقول المؤرخون الكبار: لم يُر في المجتمعات الإنسانية في أعماق التاريخ البشري، وفي عصر ما قبل التاريخ أن اقواماً بشرية عاشت بلا دين إلاّ بشكل استثنائي.

ويقول «ويل دورانت» المؤرخ المعاصر:

«إذا عرّفنا الدين على أنّه عبادة القوى التي هي أسمى من الطبيعة، فينبغي أن نأخذ بنظر الإعتبار هذه المسألة الدقيقة، وهي أن بعض الأُمم البدائية لم يكن لها أي دين ظاهراً» ثمّ يضيف بعد ذكر أمثلة لهذا الموضوع: فما ذكر من الأمثلة هو في عداد الحالات النادرة، والرأي القائل: التدين يشمل عموم أفراد البشر، يوافق الحقيقة»!

ثمّ يضيف قائلا: «تعدّ هذه القضية في نظر الفيلسوف واحدة من القضايا الأساسية في التاريخ والدراسات النفسيّة، فهو لا يقنع بهذه المسألة: إنّ جميع الأديان محشوّة بالباطل واللغو والخرافات، بل هو ملتفت إلى هذه المسألة، وهي

[ 524 ]

أن الدين منذ قديم الأيّام كان مرافقاً للتاريخ البشري»(1).

ويختتم كلامه بهذا الإستفهام الكبير معنىً ومغزى «ترى أين هو مصدر التقوى التي لا يخلوا القلب منها بأي وجه»؟!

وهذا المؤرخ نفسه يقول في تحقيقاته حول وجود الدين في فترات ما قبل التاريخ «وإذا لم نتصور للدين جذوراً في فترات ما قبل التاريخ، فلا يمكن أن نعرفها في الفترة التاريخية كما هي عليه»(2).

والتنقيبات عن إنسان ما قبل التاريخ التي تمت عن طريق الحفر، تؤيد هذا الموضوع أيضاً، كما يصرح بذلك العالم الإجتماعي «ساموئيل كنيج» في كتابه «دراسة المجتمع»: إن الأسلاف الماضين للإنسان المعاصر «ممن ينتمون إلى إنسان نئاندرتال» كان لديهم دين حتماً، ويستدلّ بعدئذ لإثبات هذا الموضوع بالآثار التي عثر عليها عن طريق التنقيب والحفر، ومنها أنّهم كانوا يدفنون موتاهم بكيفية خاصة، ويدفنون معهم أشياء تدل على اعتقادهم بيوم القيامة».(3)

وعلى كل حال، فإنّ فصل الدين عن التاريخ البشري لا يمكن أن يقبله أي محقق وباحث.

2 ـ إنّ المشاهدات عياناً في العالم المعاصر تكشف أنّه مع جميع ما بذل الطغاة والمستبدون ـ وأنظمتهم الجائرة من جهود وسعي لمحو الدين وآثاره وعن طرق مختلفة ـ لم يستطيعوا أن يستأصلوا الدين وجذوره من أعماق هذه المجتمعات.

ونعرف جيداً أنّ الحزب الشيوعي الحاكم في الإتحاد السوفياتي، ومنذ أكثر من ستين سنة، وبوسائل الإعلام و «الدعايات» المختلفة، حاول أن يغسل

_____________________________

1 ـ تاريخ التمدن، ج 1، ص 87 ـ 89.

2 ـ تاريخ التمدن، ج 1، ص 156.

3 ـ دراسة المجتمع، ص 192 أصله بالفارسية وعنوانه جامعه شناسي.

[ 525 ]

الأذهان والعقول والقلوب من الإعتقادات الدينية مستعيناً بالخلايا التنظيمية الجماعية، إلاّ أنّ الأخبار التي تسربت وتهربت من ذلك المحيط المغلق، وما نقرؤه في الصحف والجرائد، تكشف أنّهم «أي الحزب الحاكم في روسيا» مضافاً الى عدم تحقيقهم هدفهم بالرغم من تشددهم في وسائل الإعلام، فإنّه تبدو هذه الأيّام حالة من التطلع المتزايد الى المسائل الدينية في بعض الدول الإشتراكية وجمهوريات روسيا ممّا أقلق قادة النظام، وهذا يدل على أنّه لو رفعوا الضغوط ولو يوماً واحداً، لعاد الدين إلى مكانه بسرعة فائقة، وهذا بنفسه شاهد آخر على فطرية الدافع الديني أيضاً.

3 ـ الكشوفات الأخيرة من قبل النفسانيين وعلماء النفس في مجال أبعاد الروح الإنسانية، شاهد آخر على هذا المدعى، إذ أنّهم يقولون: «إنّ التحقيقات في المجالات النفسيّة تشير إلى بعد أصيل هو «البعد الديني» أو بتعبير آخر «بعد قدسي» أو «رباني» وربّما عدّوا هذا البعد أساساً للأبعاد الثلاثة الأُخرى وهي «البعد العلمي» ، و«البعد الجمالي»، و«البعد الخيّر».

إذ يدّعون بأن البواعث الأساسية للروح البشرية هي هذه:

1 ـ دافع البحث عن الحقيقة (الشعور العلمي) وهو مصدر أنواع العلوم، والأهداف التحقيقية المستمرة، والمتابعات في معرفة عالم الوجود!

2 ـ حس «الإحسان والعمل الصالح» الذي يجذب الإنسان نحو المفاهيم الأخلاقية كالتضحية والإيثار والعدل والشهامة وأمثالها. حتى أنّه لو كان الإنسان غير واجد لهذه الصفات، فإنّه يعشق من تتوفر فيهم هذه الصفات، وهذا يدل على أن العشق للعمل الصالح والإحسان كامن في جذور النفس.

3 ـ الحس «الجمالي» : وهو يجذب الإنسان نحو الفن الأصيل والأدب والمسائل الذوقية، وربّما أصبح مصدر التحول في حياة الفرد أو المجتمع أحياناً.

4 ـ الحس «الديني»، أي الإيمان بمبدأ عال وعبادته واتّباعه.

[ 526 ]

ونقرأ في مقالة كتبها «كوونتايم» في هذا المجال مايلي:

«إنّ معرفة النفس بالبحث داخل النفس البشرية غير الواعية ـ التي بوشر بها بواسطة فرويد «في البداية» استمرّت بالإستعانة بـ«آدلر» و «يونك» ـ في أعماق روح الإنسان وصلت إلى عالم جديد من القوى المستورة، وأنحاء الدرك والمعرفة وراء العقل، ويمكن أن يكون الحسّ الديني مفتاحاً من مفاتيح حل هذه الأحجية.

وبالرغم من أنّنا بعيدون للآن عن اتفاق الآراء، إلاّ أنّه ومع هذه الحال فما يزال «مسير فكري» في ازدياد يوماً بعد يوم، إذ يعتقد كثير من المفكرين بالتعريف الذي نورده ذيلا:

«إنّ الحس الديني واحد من العناصر الأولية الثابتة والطبيعية لروح الإنسان، وهو أكثرها أصالة وما هويّة، ولا يمكن مطابقته لأي من الأحساسيس والدوافع الأُخرى، حيث يمدّ جذوره الى أعماق اللاوعي ويعدّ «المفهوم الديني» أو بتعبير أصح «المفهوم المقدس» بالنسبة لمفاهيم الجمال والإحسان والحقيقة، مقولة رابعة، ولها أصالة المفاهيم الثلاثة ذاتها واستقلالها أيضاً(1).

كما نقرأ في المقالة المترجمة المقتبسة عن المحقق «تان كي دو ـ كنتن» ما يلي «كما أن من مزايا العصر الحاضر ـ في عالم الطبيعة ـ هو اكتشاف البعد الرابع، الذي أطلق عليه اسم «بعد» الزمان مضافاً الى الأبعاد الثّلاثة للجسم، وهو في الوقت ذاته جامع لها، فكذلك اكتشفت في هذا العصر المقولة الرابعة «المقدسة» أو المقولة الإلهية «الربانية» بموازاة المفاهيم الثلاثة «الجمال، الإحسان، طلب الحقيقة» وهي البعد الرّابع لروح الإنسان، ففي هذا المقام أيضاً فان هذا البعد الرّابع الروحي منفصل عن الأبعاد الثلاثة الأخرى، وربّما كان هذا البعد منشأ

_____________________________

1 ـ يراجع كتاب الحسّ المذهبي أو البعد الرّابع ترجمه مهندس بياني [ للكاتب كوونتايم] .

[ 527 ]

ولادة الأبعاد الثلاثة الأخرى»(1).

4 ـ إن التجاء الإنسان في الشدائد والمحن إلى قوة خفية وراء الطبيعة، وطلب حل المشاكل والازمات من قبل هذه القوة، لهو أيضاً شاهد آخر على أصالة هذا الدافع الباطني والإلهام الفطري، ويمكن ـ بضمها إلى مجموع الشواهد التي ذكرناها آنفاً ـ أن توقفنا على مثل هذا الدافع الباطني في داخلنا نحو الله سبحانه.

وبالطبع فمن الممكن أن يعدّ بعضهم هذا التوجه من آثار التلقينات أو الإعلام الديني في المحيط الإجتماعي المتدين!

إلاّ أن عمومية هذه الظواهر في جميع الناس، حتى في أُولئك الذين لا علاقة لهم بالمسائل الدينية عادةً، تدلّ على أن لها جذراً أعمق من هذه الفرضية.

5 ـ وفي حياة الإنسان حوادث وظواهر لا يمكن تفسيرها إلاّ عن طريق أصالة الحسّ الديني... فكثير من الناس نجدهم قد ضحوا بجميع ما لديهم من الإمكانات المادية، ولا يزالون يضحون أيضاً، ويصبّون كل ما عندهم مع ما لديهم من سوابق تحت قدم الدين، وربّما قدّموا أنفسهم في سبيله أيضاً.

الشهداء الذين شربوا كأس الشهادة ـ من أجل تقدم الأهداف الإلهية وتحقّقها ـ بشوق وعشق بالغين، بحيث نرى أمثالهم في تاريخ جهاد الإسلام الطويل، بل في تأريخ الأمم الأُخرى أيضاً، يكشفون عن هذه الحقيقة، وهي أن الحس الديني له جذر عميق في روح الإنسان.

لكن قد يرد على هذا الكلام إشكال، وهو أنّ أفراداً ـ كالشيوعيين مثلا ـ لهم موقع إلحادىّ ـ ضد الأيدلوجية والدين ـ ولا يكتمون موقعهم هذا أبداً.. كما أن لهم مواقف تضحوية في سبيل حفظ فكرتهم واعتقادهم!

إلاّ أنّ هذا الإشكال ينحل تماماً بملاحظة هذه المسألة، وهي أنّه حتى

_____________________________

1 ـ المصدر نفسه الطبعة الثّانية، ص 39.

[ 528 ]

الشيوعيون الذين ينفون الدين كليّاً ـ بحسب الظاهر ـ ويعتقدون أن الدين مرتبط بالتأريخ القديم، ولا يمكن أن يكون له مكان في المجتمعات الشيوعية.. أجل، إن هؤلاء أنفسهم قد قبلوا بالدين بشكل آخر عن طريق العقل الباطني «واللاوعي».

فهم يقدّسون زعماءهم وقادتهم بالنظرة التي ينظرها المصريون القدماء أوثانهم، وصفوفهم الطويلة عند جسد «لينين» لزيارته هي شاهد آخر على هذا الموضوع أيضاً.

وهم عادة يعتبرون الأصول الماركسية كوحي السماء لا تقبل النقد والخدش، فهي مقدّسة عندهم، ويتصورون أن ماركس ولينين وأنجلس كالمعصومين من الأخطاء والسهو، ويعدون مراجعة العقل لاتخاذ موقف جديد من هذه الأصول ذنباً لا يغتفر أبداً.. ويخاطبون مخالفيهم بتعبيرنا الديني على أنّهم «مرتدون» وعلى هذا فهم يعتقدون بكثير من المفاهيم والمسائل الدينية، غاية ما في الأمر هو أن تفكير هم نوع من الفكر الديني في شكل منحرف!

2 ـ فطرة التوحيد في الأحاديث الإسلامية

موضوع «معرفة الله الفطرية» لم يختص به القرآن الكريم فحسب، بل هو وارد في الأحاديث الإسلامية بشكل يسترعي الإنتباه، حيث أن بعضها يؤكّد على التوحيد بالفطرة، وبعضها يؤكّد على المعرفة، وقسم يتناول الفطرة «على الإسلام» وأخيراً فإن قسماً منها تناول عنوان الولاية أيضاً.

ففي حديث معتبر يرويه المحدث الكبير الشيخ الكليني في أصول الكافي، وهو ما نقله عن هشام بن سالم، قال: سألت الإمام الصادق(عليه السلام): ما المراد من قوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها )... فقال «هي التوحيد» (1).

كما ورد في الكافي نفسه نقلا عن بعض أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً

_____________________________

1 ـ أصول الكافي، ج 2، ص 10، باب «فطرة الخلق على التوحيد».

[ 529 ]

حين سأله عن تفسير الآية المتقدمة فقال الإمام(عليه السلام) «هي الإسلام» (1).

كما نقرأ حديثاً متشابهاً لما سبق ـ عن الإمام الباقر(عليه السلام) جواباً لزرارة أحد أصحابه العلماء حين سأله عن تفسير الآية فقال(عليه السلام) «فطرهم على المعرفة به» (2).

والحديث المنقول عن النّبي(صلى الله عليه وآله) «كل مولود يولد على الفطرة حتى ليكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» يؤكّد هذا المضمون أيضاً(3).

وأخيراً فإننا نقرأ في أصول الكافي حديثاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً في تفسير الآية قال: «هي الولاية» (4).

وقد ورد في الخطبة الأُولى لنهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) حديث موجز العبارة غزير المعنى، إذ يقول(عليه السلام) «فبعث فيهم رسوله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول».

وطبقاً للرّوايات المتقدمة، فليست معرفة الله هي الفطرية فحسب، بل مجموع الإسلام بشكل موجز «مضغوط» كامن في داخل الفطرة الإنسانية بدءاً من التوحيد وانتهاءً بالقادة الإلهيين وخلفائهم الصادقين، وكذلك فروع الأحكام أيضاً.

فعلى هذا، وطبقاً للتعبير الوارد في نهج البلاغة، فإن عمل الإنبياء هو رعاية الفطرة حتى تفتح، وتذكر الناس نعم الله المنسية، ومن جملة هذه النعم الفطرة على التوحيد، واستخراج كنوز المعرفة الدفينة في روح الإنسان وأفكاره!

وممّا يسترعي الإنتباه أن القرآن الكريم ـ في آيات متعددة ـ يتخذ من الشدائد والمشاكل والحوادث المؤلمة التي يمر بها الإنسان في حياته مناخاً

_____________________________

1 ـ المصدر السابق.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ تفسير «جمع الجوامع» للمرحوم الطبرسي ذيل الآية محل البحث.

4 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 184.

[ 530 ]

ملائماً للحس الديني، أذ يقول في واحدة من هذه الآيات: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلّما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون )(1).

وسنتحدث بإذن الله في هذا المجال ذيل الآيات المقبلة التي تشبه الآيات من سورة العنكبوت أيضاً.

* * *

 

_____________________________

1 ـ العنكبوت، الآية 65.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335122

  • التاريخ : 28/03/2024 - 14:03

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net