00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة يس من أول السورة ـ آية 30 من ( ص 125 ـ 172 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 123 ]

سُورَة يس

مكّية

 وعَدَدُ آيَاتِها ثلاث و ثمانون آية

                                       [ 125 ]

  «سورة يس»

محتوى السورة:

هذه السورة من السور المكّية، لذا فهي من حيث النظرة الإجمالية لها نفس المحتوى العام للسور المكّية، فهي تتحدّث عن التوحيد والمعاد والوحي والقرآن والإنذار والبشارة، ويلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسيّة:

1 ـ تتحدّث السورة أوّلا عن رسالة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم وعن المؤمنين به، وتستمر بذلك حتّى آخر الآية الحادية عشرة.

2 ـ قسم آخر من هذه السورة يتحدّث عن رسالة ثلاثة من أنبياء الله، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد، وجهادهم المتواصل المرير ضدّ الشرك، وهذا في الحقيقة نوع من التسلية والمواساة لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضيح الطريق أمامه لتبليغ رسالته الكبرى.

3 ـ قسم آخر منها، والذي يبدأ من الآية 33 وحتّى الآية 44، مملوء بالنكات التوحيدية الملفتة للنظر، وهو عرض معبّر عن الآيات والدلائل المشيرة إلى عظمة الله في عالم الوجود، كذلك فإنّ أواخر السورة أيضاً تعود إلى نفس هذا البحث التوحيدي والآيات الإلهية.

4 ـ قسم مهمّ آخر من هذه السورة، يتحدّث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلّة المختلفة عليه، وكيفية الحشر والنشر، والسؤال والجواب في يوم القيامة، ونهاية الدنيا، ثمّ الجنّة والنار، وهذا القسم يتضمّن مطالب مهمّة ودقيقة جدّاً.

[ 126 ]

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محرّكة ومحفّزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهّال، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

الخلاصة، أنّ الإنسان يواجه في هذه السورة بمشاهد مختلفة من الخلق والقيامة، الحياة والموت، الإنذار والبشارة، بحيث تشكّل بمجموعها نسخة الشفاء ومجموعة موقظة من الغفلة.

 

فضيلة سورة «يس»:

سورة يس ـ بشهادة الأحاديث المتعدّدة التي وردت بهذا الخصوص ـ من أهمّ السور القرآنية، إلى حدّ أنّ الأحاديث لقّبتها بـ «قلب القرآن» ففي حديث عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ «إنّ لكلّ شيء قلباً، وقلب القرآن يس»(1).

وفي حديث عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ لكلّ شيء قلباً وقلب القرآن يس، فمن قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتّى يمسي، ومن قرأها في ليلة قبل أن ينام وكّل به ألف ملك يحفظونه من كلّ شيطان رجيم ومن كلّ آفة ...» الحديث(2).

كذلك نقرأ عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً «سورة يس تدعى في التوراة المعمّة! قيل: وما المعمّة؟ قال: تعمّ صاحبها خير الدنيا والآخرة» الحديث(3).

وهناك روايات اُخرى عديدة بهذا الخصوص، وردت في كتب الفريقين أعرضنا عن ذكرها حذراً من الإطالة.

لذا يجب الإقرار بأنّه ربّما لم تنل سورة من سور القرآن الاُخرى كلّ هذه الفضائل الخاصّة بسورة يس.

________________________________

1 ـ مجمع البيان، مجلّد 4، صفحة 413.2 ـ مجمع البيان، مجلّد 4، صفحة 413.3 ـ المصدر السابق.

[ 127 ]

وكما أشرنا سابقاً فإنّ هذه الفضيلة والثواب لا ينالهما من يكتفي بقراءة الألفاظ ـ فقط ـ مشيحاً عن مفاهيم السورة، بل إنّ عظمة فضيلة هذه السورة إنّما هي لعظمة محتواها ..

محتوىً يوقظ من الغفلة ويضخّ في النفس الإيمان، ويولد روح المسؤولية ويدعو إلى التقوى، بحيث أنّ الإنسان إذا تفكّر في هذه الآية وجعل ذلك التفكّر يلقي بظلاله على أعماله، فإنّه يفوز بخير الدنيا والآخرة.

فمثلا، الآية (60) من هذه السورة تتحدّث حول عهد الله في التحذير من عبادة الشيطان (ألم أعهد إليكم يابني آدم ألاّ تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدو مبين).

ومن الواضح أنّه حينما ينشغل الإنسان بهذا العهد الإلهي ـ تماماً مثلما ورد في الأحاديث التي ذكرناها ـ سيكون في أمان من أي شيطان رجيم، ولكن لو قرئت هذه الآية بلا رويّة، وفي مقام العمل يكون من الأصدقاء المخلصين والأوفياء للشيطان، فإنّه لن ينال ذلك الفخر الذي ذكرناه، وهذا يصدق على آيات هذه السورة آية آية.

 

* * *

[ 128 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

يس (1) وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَط مُّسْتَقِيم (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـفِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـقِهِمْ أَغْلَـلا فَهِىَ إِلَى الاَْذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَـهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10)

 

التّفسير

هذه السورة تبدأ ـ كما هو الحال في ثمان وعشرين سورة اُخرى ـ بحروف مقطّعة وهي (ياء) و (سين).

وقد فصّلنا الحديث فيما يخصّ الحروف المقطّعة في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف)، ولكن فيما يخصّ سورة (يس) فتوجد تفسيرات اُخرى أيضاً لهذه الحروف المقطّعة.

[ 129 ]

من جملتها أنّ هذه الكلمة (يس) تتكوّن من «ياء» حرف نداء و «سين» أي شخص الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليه فيكون المعنى أنّه خطاب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)لتوضيح قضايا لاحقة.

وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ هذه الكلمة تمثّل أحد أسماء الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

ومنها أنّ المخاطب هنا هو الإنسان و «سين» إشارة له، ولكن هذا الإحتمال لا يحقّق الإنسجام بين هذه الآية والآيات اللاحقة، لأنّ هذه الآيات تتحدّث إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده.

لذا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «يس اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)والدليل على ذلك قوله تعالى: (إنّك لمن المرسلين على صراط مستقيم).(2)

بعد هذه الحروف المقطّعة ـ وكما هو الحال في أغلب السور التي تبتدى بالحروف المقطّعة ـ يأتي الحديث عن القرآن المجيد، فيورد هنا قَسَماً بالقرآن، إذ يقول: (والقرآن الحكيم). الملفت للنظر أنّه وصف «القرآن» هنا بـ «الحكيم»، في حين أنّ الحكمة عادةً صفة للعاقل، كأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي وعاقل ومرشد، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر، ويؤدّي إلى الصراط المستقيم الذي تشير إليه الآيات التالية.

بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأنّ يقسم، ولكن الأقسام القرآنية تتضمّن ـ دائماً ـ فائدتين أساسيتين: الاُولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم، والثانية بيان عظمة الشيء الذي يقسم به الله تعالى، إذ أنّ القسم لا يكون عادةً بأشياء ليست ذات قيمة.

الآية التي بعدها توضّح الأمر الذي من أجله أقسم الله تعالى في مقدّمة السورة

________________________________

1 ـ نور الثقلين، مجلّد 4، صفحة 374 و375.2 ـ نور الثقلين، ج4، ص375.

[ 130 ]

الكريمة: (إنّك لمن المرسلين على صراط مستقيم)(1).

بعد ذلك تضيف الآية (تنزيل العزيز الرحيم)(2).

التأكيد على «العزيز» كصفة لله سبحانه وتعالى، لأجل بيان قدرته سبحانه وتعالى في قبال كتاب كبير كهذا، كتاب يقف معجزة شامخة على مرّ العصور والقرون، ولن تستطيع أيّة قدرة مهما كانت أن تمحو أثره العظيم من صفحة القلوب.

والتأكيد على «رحيميته» لأجل بيان هذه الحقيقة وهي أنّ رحمته أوجبت أن تقيّض للبشر نعمة عظيمة كهذه.

بعض المفسّرين قالوا بأنّ هاتين الصفتين ذكرتا للإشارة إلى نوعين من ردود الفعل المحتملة من قبل الناس إزاء نزول ذلك الكتاب السماوي وإرسال النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلو أنكروا وكذّبوا، فإنّ الله سبحانه وتعالى يهدّدهم بعزّته، ولو دخلوا من باب التسليم والقبول، فإنّ الله يبشّرهم برحمته الخاصّة.

وعليه فإنّ عزّته ورحمته إحداهما مظهر للإنذار والاُخرى للبشارة، وبإقترانهما جعل هذا الكتاب السماوي العظيم في متناول البشرية.

هنا يطرح سؤال: هل يمكن إثبات حقّانية الرّسول أو الكتاب السماوي، بواسطة قَسَم أو تأكيد؟

الجواب تستبطنه الآيات المذكورة، لأنّها من جانب تصف القرآن بالحكيم، مشيرة إلى أنّ حكمته ليست مخفية عن أحد، وذلك دليل على حقّانيته.

________________________________

1 ـ اختلف المفسّرون في تركيب جملة (على صراط مستقيم) بعضهم قال «إنّها جار ومجرور» متعلّقان بـ «المرسلين»، بحيث يكون المعنى «رسالتك على صراط مستقيم» وبعضهم قال: «إنّها خبر بعد خبر» والمعنى «إنّك مستقر على صراط مستقيم»، والبعض الآخر اعتبروها (حال) منصوبة والمعنى «إنّك من المرسلين وحالك على صراط مستقيم» (من الطبيعي أن ليس هناك تفاوت كثير في المعنى).2 ـ «تنزيل» مفعول منصوب لفعل مقدّر والتقدير «نزل تنزيل العزيز الرحيم»، كذلك فقد وردت إحتمالات اُخرى لإعراب هذه الجملة.

[ 131 ]

ومن جانب آخر فإنّ وصف الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه (على صراط مستقيم)، بمعنى أنّ محتوى دعوته يتّضح من سبيله القويم، وماضيه أيضاً دليل على أنّه لم يسلك في حياته سوى الطريق المستقيم.

وقد أشرنا في البحوث التي أوردناها حول أدلّة حقّانية الرسل، إلى أنّ أحد أهمّ الطرق لإدراك حقّانية الرسل، هو التحقّق والإطلاع على محتوى دعواتهم بشكل دقيق، الأمر الذي يؤكّد دائماً أنّها متوافقة ومنسجمة مع الفطرة والعقل والوجدان، وقابلة للإدراك والتعقّل البشري، إضافةً إلى أنّ تأريخ حياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يدلّل على أنّه رجل أمانة وصدق، وليس رجل كذب وتزوير .. هذه الاُمور قرائن حيّة على كونه رسول الله، والآيات أعلاه في الحقيقة تشير إلى كلا المطلبين، وعليه فإنّ القسم والدعوى أعلاه لم يكونا بلا سبب أبداً.

ناهيك عن أنّه من حيث أدب المناظرة، فإنّه لأجل النفوذ في قلوب المنكرين والمعاندين يجب أن تكون العبارات في طرحها أكثر إحكاماً وحسماً ومصحوبة بتأكيد أقوى، كيما تستطيع التأثير في هؤلاء.

يبقى سؤال: وهو لماذا كان المخاطب في هذه الجملة شخص الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس المشركين أو عموم الناس؟

الجواب هو التأكيد على أنّك ياأيّها النّبي على الحقّ وعلى الصراط المستقيم، سواء إستجاب هؤلاء أو لم يستجيبوا، لذا فإنّ عليك الإجتهاد في تبليغ رسالتك العظيمة، ولا تُعِر المخالفين أدنى إهتمام.

الآية التالية تشرح الهدف الأصلي لنزول القرآن كما يلي (ولتنذر قوماً ما اُنذر آباؤهم فهم غافلون)(1) أي إنّه لم يأت نذير لآبائهم.

________________________________

1 ـ أعطى المفسّرون إحتمالات مختلفة حول كون «ما» نافية أو غير ذلك، أغلبهم قالوا بأنّها «نافية»، وقد إعتمدنا ذلك نحن في تفسيرنا، أوّلا: لأنّ جملة «فهم غافلون» دليل على ذلك المعنى، فعدم وجود المنذر سبب للغفلة.الآية الثالثة من سورة السجدة ـ أيضاً ـ شاهد على ذلك، حيث يقول سبحانه وتعالى: (لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلّهم يهتدون).وقال بعضهم بأنّ «ما» هنا موصولة، بحيث يكون معنى الجملة «لتنذر قوماً بالذي اُنذر آباؤهم».وبعض احتملوا أنّ «ما» مصدرية، وعليه يكون معنى الجملة «لتنذر قوماً بنفس الإنذار الذي كان لآبائهم»، ولكن يبدو أنّ كلا الإحتمالين ضعيف.

[ 132 ]

من المسلّم أنّ المقصود بهؤلاء القوم هم المشركون في مكّة، وإذا قيل أنّه لم تخلُ اُمّة من منذر، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله، علاوةً على أنّه تعالى يقول في الآية (24) من سورة فاطر (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير)؟

 

فنقول: إنّ المقصود من الآية ـ مورد البحث ـ هو المنذر الظاهر والنّبي العظيم الذي ملأ صيته الآفاق، وإلاّ فإنّ الأرض لم تخلُ يوماً من حجّة لله على عباده، وإذا نظرنا إلى الفترة من عصر المسيح (عليه السلام) إلى قيام الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) نجدها لم تخل من الحجّة الإلهية، بل إنّها فترة من قيام اُولي العزم، يقول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بهذا الخصوص «إنّ الله بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدّعي نبوّة!».(1)

وعلى كلّ حال فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم كان تنبيه الناس الغافلين، وإيقاظ النائمين، وتذكيرهم بالمخاطر المحيطة بهم، والذنوب والمعاصي التي ارتكبوها، والشرك وأنواع المفاسد التي تلوّثوا بها، نعم فالقرآن أساس العلم واليقظة، وكتاب تطهير القلب والروح.

ثمّ يتنبّأ القرآن الكريم بما يؤول إليه مصير الكفّار والمشركين فيقول تعالى: (لقد حقّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون).

إحتمل المفسّرون هنا العديد من الإحتمالات في المراد من «القول» هنا.

الظاهر أنّه ذلك الوعيد الإلهي لكل أتباع الشيطان بالعذاب في جهنّم، فمثله ما ورد في الآية (13) من سورة السجدة (ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم من

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، خ33 و104.

[ 133 ]

الجنّة والناس أجمعين). كذلك في الآية (71) من سورة الزمر نقرأ (ولكن حقّت كلمة العذاب على الكافرين).

على كلّ حال فإنّ ذلك يخصّ اُولئك الذين قطعوا كلّ إرتباط لهم بالله سبحانه وتعالى، وأغلقوا عليهم منافذ الهداية بأجمعها، وأوصلوا عنادهم وتكبّرهم وحماقتهم إلى الحدّ الأعلى، نعم فهم لن يؤمنوا أبداً، وليس لديهم أي طريق للعودة، لأنّهم قد دمّروا كلّ الجسور خلفهم.

في الحقيقة فإنّ الإنسان القابل للإصلاح والهداية هو ذلك الذي لم يلوّث فطرته التوحيدية تماماً بأعماله القبيحة وأخلاقه المنحرفة، وإلاّ فإنّ الظلمة المطلقة ستتغلّب على قلبه وتغلق عليه كلّ منافذ الأمل.

فاتّضح أنّ المقصود هم تلك الأكثرية من الرؤوس المشركة الكافرة التي لم تؤمن أبداً، وكذلك كان، فقد قتلوا في حروبهم ضدّ الإسلام وهم على حال الشرك وعبادة الأوثان، وما تبقى منهم ظلّ على ضلاله إلى آخر الأمر.

وإلاّ فإنّ أكثر مشركي العرب أسلموا بعد فتح مكّة بمفاد قوله تعالى: (يدخلون في دين الله أفواجاً).(1)

ويشهد بذلك ما ورد في الآيات التالية التي تتحدّث عن وجود سدٍّ أمام وخلف هؤلاء وكونهم لا يبصرون. وأنّه لا ينفع معهم الإنذار أو عدمه(2).

الآية التي بعدها تواصل وصف تلك الفئة المعاندة، فتقول: (إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) أي مرفوعي الرأس لوجود الغلّ حول الأعناق.

«أغلال» جمع «غل»: من مادّة «غلل» ويعني تدرع الشيء وتوسطه، ومنه

________________________________

1 ـ سورة النصر، الآية 2.2 ـ بناءً على ما عرضناه يتّضح بأنّ الضمير في «أكثرهم» يعود على قادة القوم وليس على القوم، وشاهد ذلك الآيات التالية لتلك الآية.

[ 134 ]

الغلل (على وزن عمل) للماء الجاري بين الشجر. و «الغل» الحلقة حول العنق أو اليدين وتربط بعد ذلك بسلسلة، وبما أنّ العنق أو اليدين تقع في ما بينها فقد إستعملت هذه المفردة في هذا المورد، وحيناً تكون الأغلال في العنق مربوطة بسلسلة مستقلّة عمّا تربط به أغلال الأيدي، وحيناً تكون جميعها مربوطة بسلسلة واحدة فيكون الشخص بذلك تحت ضغط شديد وفي محدودية وعذاب شديدين.

وإذا قيل لحالة العطش الشديد أو الحسرة والغضب «غُلة» فإنّ ذلك لنفوذ تلك الحالة في داخل قلب وجسم الإنسان، وأساساً فإنّ مادّة «غَل» ـ على وزن جدّ ـ بمعنى الدخول أو الإدخال، لذا قيل عن حاصل الكسب أو الزراعة وأمثالها «غَلة»(1).

وقد تكون حلقة «الغل» حول الرقبة عريضة أحياناً بحيث تضغط على الذقن وترفع الرأس إلى الأعلى، من هنا فإنّ المقيّد يتحمّل عذاباً فوق العذاب الذي يتحمّله من ذلك القيد بأنّه لا يستطيع مشاهدة أطرافه.

ويا له من تمثيل رائع حيث شبّه القرآن الكريم حال عبدة الأوثان المشركين بحال هذا الإنسان، فقد طوّقوا أنفسهم بطوق «التقليد الأعمى»، وربطوا ذلك بسلسلة «العادات والتقاليد الخرافية» فكانت تلك الأغلال من العرض والإتّساع أنّها أبقت رؤوسهم تنظر إلى الأعلى وحرمتهم بذلك من رؤية الحقائق، وبذلك فإنّهم أسرى لا يملكون القدرة والفعّالية والحركة، ولا قدرة الإبصار(2).

على أيّة حال فإنّ الآية أعلاه، تعتبر شرحاً لحال تلك الفئة الكافرة في الدنيا وحالهم في عالم الآخرة الذي هو تجسيد لمسائل هذا العالم، وليس من الغريب إستخدام صيغة الماضي في تصوير حال الآخرة هنا، فإنّ الكثير من الآيات

________________________________

1 ـ مفردات الراغب، وقطر المحيط، ومجمع البحرين، مادّة غل.2 ـ على ما أوردناه أصبح واضحاً أنّ الضمير «هي» في جملة (فهي إلى الأذقان) يعود على «الأغلال» بحيث أنّها رفعت أذقانهم إلى الأعلى، وجملة «فهم مقمحون» تفريع على ذلك. وما احتمله البعض من أنّ «هي» تعود على «الأيدي» التي لم يرد ذكرها في الآية، يبدو بعيداً جدّاً.

[ 135 ]

القرآنية الكريمة تتكلّم بصيغة الماضي حينما تتعرّض إلى الحوادث المسلّم بها في المستقبل للدلالة على مضارع متحقّق الوقوع، وبذلك يمكن أن تكون إشارة إلى كلا المعنيين حالهم في الدنيا وحالهم في الآخرة.

جمع من المفسّرين ذكروا في أسباب نزول هذه الآية والآية التالية لها أنّهما نزلتا في (أبي جهل) أو (رجل من مخزوم) أو قريش، الذين صمّموا مراراً على قتل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن الله سبحانه وتعالى منعهم من ذلك بطريقة إعجازية فكلّما أرادوا إنزال ضربة بالنّبي عميت عيونهم عن الإبصار أو أنّهم سلبوا القدرة على التحرّك تماماً(1).

ولكن سبب النّزول ذلك لا يمنع من عمومية مفهوم الآية وسعة معناها، بحيث يشمل جميع أئمّة الكفر والمعاندين، وفي الضمن فهي تعتبر تأييداً لما قلناه في تفسير (فهم لا يؤمنون) في أنّ المقصود بهم هم أئمّة الكفر والنفاق وليس أكثرية المشركين.

الآية التالية تتناول وصفاً آخر لحالة تلك المجموعة، وتمثيلا ناطقاً عن عوامل وأسباب عدم تقبّلهم الحقائق فتقول: (وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً) وحوصروا بين هذين السدّين وأمسوا لا يملكون طريقاً لا إلى الأمام ولا إلى الوراء، آنئذ (فأغشيناهم فهم لا يبصرون).

ويا له من تشبيه رائع!! فهم من جهة كالأسرى في الأغلال والسلاسل، ومن جهة اُخرى فإنّ حلقة الغلّ عريضة بحيث أنّها ترفع رؤوسهم إلى السماء، وتمنعهم من أن يبصروا شيئاً ممّا حولهم، ومن جهة ثالثة فهم محاصرون بين سدود من أمامهم وخلفهم وممنوعون من سلوك طريقهم إلى الأمام أو إلى الخلف. ومن جهة رابعة (فهم لا يبصرون) إذ فقدت عيونهم كلّ قدرة على الإبصار.

تأمّلوا مليّاً ماذا ينتظر ممّن هو على تلك الحال؟ ما هو مقدار إدراكه للحقائق؟

________________________________

1 ـ تفسير الآلوسي، المجلّد 22، صفحة 199.

[ 136 ]

ماذا يمكنه أن يبصر؟ وكيف يمكنه أن ينقل خطاه؟ فكذلك حال المستكبرين المعاندين العمي الصمّ في قبال الحقائق!!

لهذا فإنّه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون). فمهما كان حديثك نافذاً في القلوب ومهما كان أثر الوحي السماوي، فإنّه لن يؤثّر ما لم يجد الأرضية المناسبة، فلو سطعت الشمس آلاف السنين على أرض سبخة، ونزلت عليها مياه الأمطار المباركة، وهبّت عليها نسائم الربيع على الدوام، فليس لها أن تنبت سوى الشوك والتبن، لأنّ قابلية القابل شرط مع فاعلية الفاعل.

* * *

 

بحوث

1 ـ فقدان وسائل المعرفة

يحتاج الإنسان للتعرّف على العالم الخارجي إلى الإستفادة من وسائل وأدوات تسمّى «وسائل المعرفة».

قسم منها «باطنية» والقسم الآخر «ظاهرية».

العقل والوجدان والفطرة من وسائل المعرفة الباطنية، والحواس الظاهرية كالأبصار والأسماع وأمثالها وسائل المعرفة الظاهرية.

وقد أعطى الله هذه الوسائل القدرة على الإشتداد شيئاً فشيئاً إذا استُفيد منها على وجه صحيح حتّى تتمكّن من تشخيص الحقائق بصورة أفضل وأدق.

أمّا إذا استُغلّت بطريقة خاطئة، أو لم يتمّ الإستفادة منها أصلا، فإنّها تضطرب بشكل كلّي وتعكس الحقائق بشكل مقلوب، تماماً كالمرآة الصافية إذا غطّاها غبار غليظ أو أنّها تخرّشت بحيث أضحت لا تعكس الصورة عليها، أو أنّها تعكس ما لا ينطبق على الواقع.

[ 137 ]

هذه الأعمال المغلوطة والمواقف المنحرفة هي التي تصادر وسائل المعرفة من الإنسان، ولهذا السبب فإنّ المقصّر الأصلي هو الإنسان، وهو الذي جنى على نفسه.

الآيات أعلاه تشبيه معبّر عن هذه المسألة المهمّة والمصيرية، فهي تشبه المستكبرين والمتعصّبين والأنانيين والمنافقين بالمقيدين بالأغلال والسلاسل من جهة، سلاسل الكبر والهوس والغرور والتقليد الأعمى الذي وضعوه على أعناقهم وأياديهم. وباُولئك المحاصرين بين سدّين منيعين لا يمكن عبورهما.

ومن جهة اُخرى فإنّ أعينهم مغلقة ولا تبصر.

الغلّ والسلاسل وحدها تكفي لمنعهم من الحركة، والسدّان العظيمان أيضاً وحدهما كافيان لمنعهم من الفعّالية، إنعدام البصر وحده أيضاً عامل مستقل.

هذان السدّان عاليان ومتقاربان إلى حدّ أنّهما وحدهما كافيان لسلبهم القدرة على الإبصار، كما أنّهما كافيان لسلبهم قدرة الحركة. وقد كرّرنا القول بأنّ الإنسان تبقى هدايته ممكنة ما لم يصل إلى تلك المرحلة، أمّا حينما يبلغ تلك المرحلة، فلو إجتمع جميع الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) أيضاً وقرأوا له جميع الكتب السماوية، فلن يؤثّر ذلك فيه.

وذلك ما تمّ التأكيد عليه، سواء في آيات القرآن أو الروايات، وهو أنّ الإنسان إذا زلّت قدمه أو إرتكب ذنباً فعليه أو يتوب فوراً ويتوجّه إلى الله، وأن يبتعد عن التسويف والتأخير، والإصرار والتكرار، ومن أجل أن لا يصل إلى تلك المرحلة عليه أن ينظف صدأ القلب، ويدمّر السدود والموانع الصغيرة قبل أن تتحوّل إلى سدود كبيرة وعظيمة، ويحتفظ بمساره وتكامله وينفض الغبار عن عينيه لكي يتمكّن من الإبصار.

 

[ 138 ]

2 ـ السدود من الأمام والخلف

طرح بعض المفسّرين هذا السؤال، وهو أنّ المانع الأساسي من إستمرار الحركة هو السدّ الذي يكون أمام الإنسان، فما معنى السدّ من الخلف؟

وأجاب بعضهم قائلا: «إنّ الإنسان له هداية فطرية ووجدانية ـ وهداية نظرية إستدلالية ـ فكأنّه تعالى يقول: «جعلنا من بين أيديهم سدّاً» أي: حرمناهم من سلوك سبيل الهداية النظرية «وجعلنا من خلفهم سدّاً» أي: منعناهم من العودة إلى الهداية الفطرية(1).

وقال البعض الآخر: انّ السدّ من بين أيديهم إشارة إلى الموانع التي تمنعهم من الوصول إلى الآخرة وسلوك طريق السعادة الخالدة، وأمّا السدّ من خلفهم فهو الذي يصدّهم عن تحصيل السعادة الدنيوية(2).

كذلك يحتمل التّفسير التالي أيضاً، وهو إنّ السالك إذا انسدّ الطريق الذي قدّامه فقد فاته المقصد ولكنّه يرجع ليبحث عن طريق آخر يوصله إلى المقصد، فإذا أغلق الطريق من خلفه ومن قدّامه فسوف يكون محروماً من الوصول إلى المقصد حتماً.

وفي الثنايا يتّضح الجواب أيضاً على السؤال التالي: وهو لماذا لم يذكر السدود عن اليمين والشمال؟ ذلك لأنّ الإنسان لا يصل إلى المقصد الذي أمامه بالسير يميناً أو شمالا، إضافةً إلى أنّ السدّ عادةً يبنى في مكان يكون طرفاه الأيمن والأيسر مغلقين، والممر الوحيد هو مكان السدّ الذي ينغلق هو الآخر بوجوده، فيكون الإنسان في حصار كامل عمليّاً.

 

3 ـ الحرمان من السير الآفاقي والأنفسي

هناك طريقان معروفان لمعرفة الله، الأوّل التأمّل والتفكّر في آثار الله في جسم

________________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي الكبير، تفسير الآيات مورد البحث مجلّد 26، ص45.2 ـ تفسير القرطبي، تفسير الآيات مورد البحث، مجلّد 15، ص10.

[ 139 ]

الإنسان وروحه، وتلك «الآيات الأنفسية»، والثاني التأمّل في الآيات الخارجية الموجودة في الأرض والسماء والثوابت والسيارات من الكواكب، والجبال والبحار. وتلك تسمّى «الآيات الآفاقية» وقد أشار القرآن إليهما في الآية (53) من سورة فصّلت (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ). وحينما يفقد الإنسان قدرة المعرفة، فإنّه يغلق عليه طريق مشاهدة الآيات الأنفسية والآفاقية على حدّ سواء.

في الآيات الماضية وفي جملة (إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) إشارة إلى المعنى الأوّل، لأنّ الأغلال ترفع رؤوسهم إلى الأعلى بحيث أنّهم لا يملكون القدرة على رؤية أنفسهم، وكذلك فإنّ السدود أمامهم وخلفهم تمنعهم من رؤية ما حولهم، بحيث أنّهم مهما نظروا فلن يبصروا غير السدود، وبذا يحرمون من مشاهدة الآيات الآفاقية.

* * *

[ 140 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَـنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَة وَأَجْر كَرِيم (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَـرَهُمْ وَكُلَّ شَىْء أَحْصَيْنَـهُ فِى إِمَام مُّبِين (12)

 

التّفسير

من هم الذين يتقبّلون إنذارك؟

كان الحديث في الآيات السابقة عن مجموعة لا تملك أي إستعداد لتقبّل الإنذارات الإلهيّة ويتساوى عندهم الإنذار وعدمه، أمّا هذه الآيات فتتحدّث عن فئة اُخرى هي على النقيض من تلك الفئة، وذلك لكي يتّضح المطلب بالمقارنة بين الفئتين كما هو اُسلوب القرآن.

تقول الآية الاُولى من هذه المجموعة (إنّما تنذر من اتّبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشّره بمغفرة وأجر كريم).

هنا ينبغي الإلتفات إلى اُمور:

1 ـ ذكرت في هذه الآية صفتان لمن تؤثّر فيهم مواعظ وإنذارات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وهي «أتباع الذكر» و «الخشية من الله في الغيب». لا شكّ أنّ المقصود من هاتين

[ 141 ]

الصفتين هو ذلك الإستعداد الذاتي وما هو موجود فيهم «بالقوّة». أي أنّ الإنذار يؤثّر فقط في اُولئك الذين لهم أسماع واعية وقلوب مهيّأة، فالإنذار يترك فيهم أثرين: الأوّل إتّباع الذكر والقرآن الكريم، والآخر الإحساس بالخوف بين يدي الله والمسؤولية.

وبتعبير آخر فإنّ هاتين الحالتين موجودتان فيهم بالقوّة، وإنّها تظهر فيهم بالفعل بعد الإنذار، وذلك على خلاف الكفّار عمي القلوب الغافلين الذين لا يملكون اُذناً صاغية وليسوا أهلا للخشية من الله أبداً.

هذه الآية كالآية من سورة البقرة حيث يقول تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين).

2 ـ بإعتقاد الكثير من المفسّرين أنّ المقصود من «الذكر» هو «القرآن المجيد». لأنّ هذه الكلمة جاءت بهذه الصورة مراراً في القرآن الكريم لتعبّر عن هذا المعنى(1)، ولكن لا مانع من أن يكون المقصود من هذه الكلمة أيضاً المعنى اللغوي لها بمعنى مطلق التذكير، بحيث يشمل كلّ الآيات القرآنية وسائر الإنذارات الصادرة عن الأنبياء والقادة الإلهيين.

3 ـ «الخشية» كما قلنا سابقاً، بمعنى الخوف الممزوج بالإحساس بعظمة الله تعالى، والتعبير بـ «الرحمن» هنا والذي يشير إلى مظهر رحمة الله العامّة يثير معنى جميلا، وهو أنّه في عين الوقت الذي يُستشعر فيه الخوف من عظمة الله، يجب أن يكون هنالك أمل برحمته، لموازنة كفّتي الخوف والرجاء، اللذين هما عاملا الحركة التكاملية المستمرة.

الملفت للنظر أنّه ذكرت كلمة «الله» في بعض من الآيات القرآنية في مورد

________________________________

1 ـ اُنظر النحل: 44 وفصّلت: 41، والزخرف: 44 والقمر: 25، وفي نفس الوقت فإنّ لفظة «ذكر» تكرّرت في القرآن كثيراً بمعنى «التذكير المطلق».

[ 142 ]

«الرجاء» والتي تمثّل مظهر الهيبة والعظمة (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)(1)إشارة إلى أنّه يجب أن يكون الرجاء ممزوجاً بالخوف، والخوف ممزوجاً بالرجاء على حد سواء (تأمّل!!).

4 ـ التعبير بـ «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الإستدلال والبرهان، إذ أنّ ذات الله سبحانه وتعالى غيب بالنسبة إلى حواس الإنسان، ويمكن فقط مشاهدة جماله وجلاله سبحانه ببصيرة القلب ومن خلال آثاره تعالى.

كذلك يحتمل أيضاً أنّ «الغيب» هنا بمعنى «الغياب عن عيون الناس» بمعنى أنّ مقام الخشية والخوف يجب أن لا يتّخذ طابعاً ريائياً، بل إنّ الخشية والخوف يجب أن تكون في السرّ والخفية.

بعضهم فسّر «الغيب» أيضاً بـ «القيامة» لأنّها من المصاديق الواضحة للاُمور المغيبة عن حسّنا، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

5 ـ جملة «فبشّره» في الحقيقة تكميل للإنذار، إذ أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في البدء ينذر، وحين يتحقّق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله، هنا يبشّره الباري عزّوجلّ.

بماذا يبشّر؟ أوّلا يبشّره بشيء قد شغل فكره أكثر من أي موضوع آخر، وهو تلك الزلاّت التي إرتكبها، يبشّره بأنّ الله العظيم سيغفر له تلك الزلاّت جميعها، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلاّ الله سبحانه.

الملفت للنظر هو تنكير «المغفرة» و «الأجر الكريم» ونعلم بأنّ إستخدام النكرة في مثل هذه المواضع إنّما هو للتدليل على الوفرة والعِظم.

6 ـ يرى بعض المفسّرين أنّ (الفاء) في جملة «فبشّره» للتفريع والتفصيل، إشارة إلى أنّ (اتّباع التذكر والخشية) نتيجتها «المغفرة» و «الأجر الكريم» بحيث أنّ الاُولى وهي المغفرة تترتّب على الأوّل، والثانية على الثاني.

________________________________

1 ـ الأحزاب، 21.

[ 143 ]

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين والمصدّقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة، تقول الآية الكريمة: (إنّا نحن نحيي الموتى).

الإستناد إلى لفظة «نحن» إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا! وكذلك قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم، ويبعث الروح في الأبدان من جديد؟ وليس نحيي الموتى فقط، بل (ونكتب ما قدّموا وآثارهم) وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ وتحفظها إلى يوم الحساب.

جملة «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر، أمّا التعبير «وآثارهم» فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).

كذلك يحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أنّ «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال ذات الجنبة الشخصية، و «آثارهم» إشارة إلى الأعمال التي تصبح سنناً وتوجب الخير والبركات بعد موت الإنسان، أو تؤدّي إلى الشرّ والمعاصي والذنوب. ومفهوم الآية واسع يمكن أن يشمل التّفسيرين.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد (وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين).

أغلب المفسّرين اعتبروا أنّ معنى «إمام مبين» هنا هو «اللوح المحفوظ» ذلك الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كلّ الأعمال والموجودات والحوادث التي في هذا العالم.

والتعبير بـ «إمام» ربّما كان بلحاظ أنّ هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائداً وإماماً لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب، أو لكونه معياراً لتقييم الأعمال

[ 144 ]

الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها.

الجدير بالملاحظة أنّ تعبير (إمام) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير عن «التوراة» حيث يقول سبحانه وتعالى: (أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة).

وإطلاق كلمة «إمام» في هذه الآية على «التوراة» يشير إلى المعارف والأحكام والأوامر الواردة في التوراة، وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة بحقّ نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي كلّ هذه الاُمور يمكن للتوراة أن تكون قائداً وإماماً للخلق، وبناءً على ذلك فإنّ الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي في كلّ مورد إستعمال.

* * *

 

مسألتان

1 ـ أنواع الكتب التي تثبت بها أعمال الناس

يُستفاد من الآيات القرآنية الكريمة أنّ أعمال الإنسان تدون وتضبط في أكثر من كتاب، حتّى لا يبقى له حجّة أو غدر يوم الحساب.

أوّلها: «صحيفة الأعمال الشخصية» التي تحصي جميع أعمال الفرد على مدى عمره (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).(1)

هناك حيث تتعالى صرخات المجرمين (يقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها).(2) وهو الكتاب الذي يأخذه المحسنون في أيمانهم والمسيئون في شمائلهم ـ الحاقّة 19 و25.

ثانياً: «صحيفة أعمال الاُمّة» والتي تبيّن الخطوط الإجتماعية لحياتها، كما

________________________________

1 ـ الإسراء، 14.2 ـ الكهف، 49.

[ 145 ]

يقول القرآن الكريم: (كلّ اُمّة تدعى إلى كتابها).(1)

وثالثها: «اللوح المحفوظ» وهو الكتاب الجامع، ليس لأعمال جميع البشر من الأوّلين والآخرين فقط، بل لجميع الحوادث العالمية، وشاهد آخر على أعمال بني آدم في ذلك المشهد العظيم، وفي الحقيقة فهو إمام لملائكة الحساب وملائكة الثواب والعقاب.

 

2 ـ كلّ شيء أحصيناه

ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: «ائتوا بحطب، فقالوا: يارسول الله، نحن بأرض قرعاء! قال: فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). هكذا تجمع الذنوب، ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين»(2).

هذا الحديث المؤثّر، صورة معبّرة عن أنّ تراكم صغائر الذنوب والمعاصي يمكنه أن يولد ناراً عظيمة اللهب.

في حديث آخر ورد أنّ «بني سلمة» كانوا في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية (إنّا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم)فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ آثاركم تكتب» ـ أي خطواتكم التي تخطونها إلى المسجد، وسوف تثابون عليها ـ فلم ينتقلوا(3).

________________________________

1 ـ الجاثية، 28.2 ـ نور الثقلين، ج4، ص378، ح25.3 ـ تفسير القرطبي، ج15، ص12، نقل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري، كما في صحيح الترمذي وجاء مثله في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله الأنصاري أيضاً، وقد ذكره مفسّرون آخرون كالآلوسي والفخر الرازي والطبرسي والعلاّمة الطباطبائي ـ أيضاً ـ بتفاوت يسير.

[ 146 ]

اتّضح إذاً أنّ مفهوم الآية واسع وشامل، وله في كلّ من تلك الاُمور التي ذكرناها مصداق.

وقد يبدو عدم إنسجام ما ذكرنا مع ما ورد من «أهل البيت» (عليهم السلام) حول تفسير «إمام مبين» بأمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. كما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): «لمّا اُنزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يارسول الله، هو التوراة؟ قال: لا، قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا، قالا: فهو القرآن؟ قال: لا، قال: فأقبل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هو هذا، إنّه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء»(1).

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال: «أنا والله الإمام المبين، أُبيّن الحقّ من الباطل، ورثته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)»(2).

فمع أنّ بعض المفسّرين من أمثال «الآلوسي»، قد إستاء كثيراً من عملية نقل أمثال هذه الروايات من طرق الشيعة، ونسبهم لذلك إلى عدم المعرفة والإطلاع وعدم التمكّن من التّفسير، إلاّ أنّه بقليل من الدقّة يتّضح أنّ أمثال هذه الروايات لا تتنافى مع تفسير «الإمام المبين» بـ «اللوح المحفوظ». بلحاظ أنّ قلب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمقام الأوّل، ثمّ يليه قلب وليّه، ويعتبران مرآة تعكس ما في اللوح المحفوظ. وإنّ الله سبحانه وتعالى يلهمهم القسم الأعظم ممّا هو موجود في اللوح المحفوظ، وبذا يصبحان نموذجاً من اللوح المحفوظ، وعليه فإنّ إطلاق «الإمام المبين» عليهما ليس بالأمر العجيب، لأنّهما فرع لذلك الأصل، ناهيك عن أنّ وجود الإنسان الكامل ـ كما نعلم ـ يعتبر عالماً صغيراً ينطوي على خلاصة العالم

________________________________

1 ـ معاني الأخبار للصدوق، باب معنى الإمام، صفحة 95.2 ـ نور الثقلين، ج4، ص379.

[ 147 ]

الكبير، وطبقاً للشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

أتزعم أنّك جرم صغير؟ *** وفيك انطوى العالم الأكبر

والعجيب أنّ «الآلوسي» لا يستبعد هذا التّفسير مع إنكاره للرّوايات السالفة الذكر، وعلى كلّ حال فليس من شكّ في كون المقصود من «الإمام المبين» هو «اللوح المحفوظ» فإنّ الروايات السالفة الذكر يمكن تطبيقها عليه «دقّق النظر!!».

* * *

[ 148 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـبَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِث فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَـنُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلَـغُ الْمُبِينُ (17) قَالُواْ إِنَّآ تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلََيمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18) قَالُواْ طَـئِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ(19)

 

التّفسير

واضرب لهم مثلا أصحاب القرية:

لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، والمؤمنين الصادقين، والكفّار المعاندين، تطرح هذه الآيات نموذجاً من موقف الاُمم السابقة بهذا الصدد، إنّ هذه الآيات وبعضاً من الآيات التالية لها،

[ 149 ]

والتي تشكّل بمجموعها ثماني عشرة آية، تتحدّث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين الذين بعثوا لهداية المشركين عبّاد الأوثان الذين سمّاهم القرآن الكريم (أصحاب القرية) وكيف أنّهم نهضوا لمخالفة اُولئك الأنبياء، وتكذيبهم، وكانت خاتمتهم أن أخذهم العذاب الأليم، لتكون تنبيهاً لمشركي مكّة من جهة، وتسلية للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم. على كلّ حال فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصّة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم، بسبب تشابه ظروف تلك القصّة مع ظروف المسلمين في ذلك اليوم.

أوّلا تقول الآيات الكريمة: (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون)(1).

«القرية» في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، وتطلق أحياناً على نفس الناس أيضاً، لذا فمفهومها يتّسع حتّى يشمل المدن والنواحي، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مراراً على المدن المهمّة مثل «مصر» و «مكّة» وأمثالهما.

 

لكن ما اسم هذه القرية أو المدينة التي ذُكرت في هذه الآية؟

المشهور بين المفسّرين أنّها «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام. وهي إحدى المدن الرومية المشهورة قديماً، كما أنّها ضمن منطقة نفوذ تركيا جغرافياً في الحال الحاضر، وسنتعرض إلى تفصيل الحديث عنها في البحوث الآيتة إن شاء الله، وعلى كلّ حال فإنّه يظهر جيداً من آيات هذه السورة الكريمة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

________________________________

1 ـ يعتقد البعض بأنّ «أصحاب القرية» مفعول أو للفعل «اضرب» و «مثلا» مفعول ثان مقدّم، والبعض يقول: إنّها بدل عن «مثلا»، ولكن الظاهر رجاحة الإحتمال الأوّل.

[ 150 ]

بعد ذلك العرض الإجمالي العام، تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول: (إذ أرسلنا إليهم إثنين فكذّبوهما فعزّزنا بثالث فقالوا إنّا إليكم مرسلون)(1).

أمّا من هم هؤلاء الرسل؟ هناك أخذ وردّ بين المفسّرين، بعضهم قال: إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس»، وبعضهم ذكر أسماء اُخرى لهم.

وكذلك هناك أخذ ورد في أنّهم رسل الله تعالى، أم أنّهم رسل المسيح (عليه السلام) (ولا منافاة مع قوله تعالى: (إذ أرسلنا) إذ أنّ رسل المسيح رسله تعالى أيضاً)، مع أنّ ظاهر الآيات أعلاه ينسجم معه التّفسير الأوّل، وإن كان لا فرق بالنسبة إلى النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالّين قبال دعوة الرسل، القرآن الكريم يقول: إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذّرع بها الكثير من الكفّار دائماً في مواجهة الأنبياء (قالوا ما أنتم إلاّ بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلاّ تكذّبون).

فإذا كان مقرّراً أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه، فيجب أن يكون ملكاً مقرّباً وليس إنساناً مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية، والمحتمل أنّهم يعلمون بأنّ جميع الأنبياء على مدى التاريخ كانوا من نسل آدم، من جملتهم إبراهيم الخليل (عليه السلام)، الذي عرف برسالته، ومن المسلّم أنّه كان إنساناً، وناهيك عن أنّه هل يمكن لغير الإنسان أن يدرك حاجات الإنسان ومشكلاته وآلامه؟

وثمّ لماذا أكّدت الآية أيضاً على صفة «الرحمانية» لله؟ لعلّ ذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى ضمن نقله هذه الصفة في كلامهم يشعر بأنّ الجواب كامن في كلامهم، إذ أنّ

________________________________

1 ـ بعض المفسّرين قالوا بأنّ كلمة «إذ» هنا بدل عن «أصحاب القرية»، وذهب آخرون بأنّها متعلّق لفعل محذوف تقديره «اذكر».

[ 151 ]

الله الذي شملت رحمته العالم بأسره لابدّ أن يبعث الأنبياء والرسل لتربية النفوس والدعوة إلى الرشد والتكامل البشري.

كذلك يُحتمل أيضاً أن يكونوا قد أكّدوا على وصف الرحمانية لله ليقولوا بذلك أنّ الله الرحمن العطوف لا يثير المشاكل لعباده بإرسال الرسل والأنبياء، بل إنّه يتركهم وشأنهم! وهذا المنطق الخاوي المتهاوي يتناسب مع مستوى تفكير هذه الفئة الضالّة.

على كلّ حال، فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالّين ولم يضعفوا، وفي جوابهم (قالوا ربّنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون) ومسؤوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبيّن فحسب.

(وما علينا إلاّ البلاغ المبين).

من المسلّم به أنّهم لم يكتفوا بمجرّد الإدّعاء، أو القسم بأنّهم من قبل الله، بل إنّ ممّا يستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم، وإلاّ فلا مصداقية (للبلاغ المبين)، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده، وذلك لا يمكن تحقّقه إلاّ من خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضاً أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم ـ بإذن الله ـ كما كان لعيسى (عليه السلام).

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة، وإنتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد (قالوا إنّا تطيّرنا بكم)(1).

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم، أو كإنذارات إلهية لهم،

________________________________

1 ـ تقدّم الكلام عن «التطيّر» بالتفصيل في تفسير سورة الأعراف، الآية 131، وذيل الآية 47 من سورة النمل.

[ 152 ]

فكما نقل بعض المفسّرين فقد توقّف نزول المطر عليهم لمدّة(1)، ولكنّهم لم يعتبروا من ذلك، بل إنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا بذلك، بل إنّهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني، وقالوا: (لئن لم تنتهوا لنرجمنّكم وليمسنّكم منّا عذاب أليم).

هل أنّ «العذاب الأليم» هو تأكيد على مسألة الرجم، أو زيادة المجازاة أكثر من الرجم وحده؟

يوجد إحتمالان، ولكن يبدو أنّ الإحتمال الثاني هو الأقرب، لأنّ الرجم من أسوأ أنواع العذاب الذي قد ينتهي أحياناً بالموت، ومن الممكن أن ذكر (العذاب الأليم) إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حدّ الموت، أو أنّه علاوة على الرجم فإنّنا سنمارس معكم أنواعاً اُخرى من التعذيب التي كانت تستعمل قديماً كإدخال الأسياخ المحمّاة في العيون أو صبّ الفلز المذاب في الفمّ وأمثالها.

بعض المفسّرين احتملوا أيضاً أنّ (الرجم) هو تعذيب جسماني أمّا «العذاب الأليم» فهو عذاب معنوي روحي(2). ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل هو الأقرب.

أجل، فلأنّ أتباع الباطل وحماة الظلم والفساد لا يملكون منطقاً يمكنهم من المنازلة في الحوار، فإنّهم يستندون دائماً إلى التهديد والضغط والعنف، غافلين عن أنّ سالكي طريق الله لن يستسلموا أمام أمثال هذه التهديدات، بل سيزيدون من إستقامتهم على الطريق، فمنذ اليوم الأوّل الذي سلكت فيها أقدامهم طريق الدعوة إلى الله وضعوا أرواحهم على الأكف، واستعدوا لأي نوع من الفداء والتضحية.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء: (قالوا طائركم معكم أئن ذكّرتم).

________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ذيل الآيات محلّ البحث.2 ـ وذلك في حال كون «لنرجمنّكم» من مادّة «رجم» بمعنى السبّ والإتّهام والقذف.

[ 153 ]

فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم، ورحلت بركات الله عنكم، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة، وليس في دعوتنا، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات، وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة (أئن ذكّرتم) جملة مستقلّة وقالوا: إنّ معناها هو «هل أنّ الأنبياء إذا جاءوا وذكروكم وأنذروكم يكون جزاؤهم تهديدهم بالعذاب والعقوبة وتعتبرون وجودهم شؤماً عليكم؟ وما جلبوا لكم إلاّ النور والهداية والخير والبركة. فهل جواب مثل هذه الخدمة هو التهديد والكلام السيء؟!(1).

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء (بل أنتم قوم مسرفون).

فإنّ مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحقّ، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات، وأخيراً ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهدّدون الهادفين إلى الخير بالموت، وهذا أيضاً بسبب التجاوز والإسراف.

وسوف نعود إلى شرح قصّة اُولئك القوم، وما جرى لهؤلاء الرسل، بعد تفسير الآيات الباقية التي تكمل القصّة.

* * *

________________________________

1 ـ التقدير هو «أئن ذكّرتم قابلتمونا بهذه الاُمور» أو «أئن ذكّرتم علمتم صدق ما قلنا».

[ 154 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَـقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21)وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّى شَفَـعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّى إِذاً لَّفِى ضَلَـل مُّبِين (24) إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَـلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُند مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلينَ(28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَـمِدُونَ (29)يَـحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُول إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30)

 

[ 155 ]

التّفسير

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة .. وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.

تشرع هذه الآيات بالقول: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتّبعوا المرسلين).

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه «حبيب النجّار» هو من الأشخاص الذين قُيّض لهم الإستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم، وكان مؤمناً ثابت القدم في إيمانه، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء، أسرع ـ كما يستشفّ من كلمة يسعى ـ وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما إستطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعاً في ذلك.

التعبير بـ «رجل» بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فرداً عادياً، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع، وسلك طريقه فرداً وحيداً. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعاً عن الحقّ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) درساً بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام، إلاّ أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد.

التعبير بـ «أقصى المدينة» يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادةً تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول

[ 156 ]

الحقّ والتصديق به، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.

التعبير بـ «ياقوم» يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة (اتّبعوا من لا يسألكم أجراً). فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية، ولا يريدون منكم مالا ولا جاهاً ولا مقاماً، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة: لا يريدون منكم أجراً ولا أي شيء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مراراً فيما يخصّ الأنبياء العظام، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات (وما أسألكم عليه من أجر)(1).

ثمّ يضيف: إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون: (وهم مهتدون) إشارة إلى أنّ عدم الإستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين: إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطىء عن الإستجابة.

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل، فيقول: (وما لي لا أعبد الذي فطرني).

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب، وليس الأصنام التي لا

________________________________

1 ـ الآيات: 109 ـ 127 ـ 145 ـ 164 ـ 180.

[ 157 ]

تُضرّ ولا تنفع، الفطرة السليمة تقول: يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة.

والتأكيد على «فطرني» لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضاً وهو: إنّني حينما أرجع إلى الفطرة الأصيلة في نفسي اُلاحظ بوضوح أنّ هناك صوتاً يدعوني إلى عبادة خالقي، دعوة تنسجم مع العقل، فكيف أغضّ الطرف إذاً عن دعوة تؤيّدها فطرتي وعقلي؟!

والملفت للنظر أنّه لا يقول: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ بل يقول: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيراً في النفوس وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول: (وإليه ترجعون).

أي: لا تتصوّروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضاً، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث إستدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام، فيكمل قائلا: (أأتّخذ من دونه آلهةً إن يُردن الرحمن بضرٍّ لا تغن عنّي شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون).

هنا أيضاً يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والإستعلاء عليهم، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون: نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعاً لنا أمام الله، فكأنّه يقول: أيّة شفاعة؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم، فماذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات؟

التعبير بـ «الرحمن» هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريد أحداً بضرٍّ، إلاّ إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من

[ 158 ]

رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.

ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر: إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكاً لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد: (إنّي إذاً لفي ضلال مبين)فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنباً إلى جنب خالق السموات والأرض!!

وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من إستعراض تلك الإستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين (إنّي آمنت بربّكم فاسمعون).

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة (فاسمعون) والجملة السابقة لها (إنّي آمنت بربّكم

ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنّهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة، والتعبير بـ «ربّكم» لا ينافي هذا المعنى أيضاً، إذ أنّ هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن الكفّار حينما تستعرض الإستدلالات التوحيدية(1).

وجملة «فاسمعون» لا تنافي ما قلنا، لأنّ هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتّباع قوله، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال: (ياقوم اتّبعون أهدكم سبيل الرشاد) غافر ـ 38.

ومن هنا يتّضح أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المخاطب في هذه الجملة هم اُولئك الرسل، والتعبير بـ «ربّكم» وجملة «فاسمعون» قرينة على ذلك ـ لا يقوم عليه دليل سليم.

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

________________________________

1 ـ راجع الآيات 3 و32 يونس ـ 3 و52 هود ـ 24 النمل 29 ـ الكهف وغيرها.

[ 159 ]

نعم فإنّ حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالإستدلالات القوّية الدامغة، واللفتات الخاصّة والنافذة إلى القلب، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب، بل إنّها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة، بحيث أنّهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل انّهم رموه بالحجارة، وهو يقول: اللهمّ اهدِ قومي، حتّى قتلوه(1).

وفي رواية اُخرى أنّهم وطؤوه بأرجلهم حتّى مات(2).

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي (قيل ادخل الجنّة) وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحقّ في آيات اُخرى من القرآن الكريم (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون).(3)

والجدير بالذكر والملاحظة أنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنّة كان مقترناً باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن، بحيث أنّ الفاصلة بين الإثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنّة بدلا عن شهادته، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة!!

وواضح أنّ المقصود من الجنّة هنا، هي (جنّة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الرّوايات أنّ الجنّة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين، كما أنّ جهنّم ستكون نصيب المجرمين.

وعليه فإنّ هناك جنّة وجهنّم اُخريين في عالم البرزخ، وهما نموذج من جنّة وجهنّم يوم القيامة، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال: «والقبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النار»(4).

________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج15، ص 18 و19.2 ـ تفسير التبيان، ج8، ص414.3 ـ آل عمران، 169.4 ـ بحار الأنوار، ج6، ص218.

[ 160 ]

وما احتمله البعض من أنّ هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا المؤمن الشهم في يوم القيامة، وأنّها تحوي جنبة مستقبلية، فهو خلاف لظاهر الآية.

على كلّ حال فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان، وهناك لم تكن له سوى اُمنية واحدة (قال ياليت قومي يعلمون).

ياليت قومي يعلمون بأي شيء (بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين)(1).

أي: ليست أنّ لهم عين تبصر الحقّ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة، فيروا ما حُجب عنهم من النعمة والإكرام والإحترام من قبل الله، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ ..

لو أنّهم يبصرون ويؤمنون، ولكن ياحسرةً!!

في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يخصّ هذا المؤمن «إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته»(2).

ومن الجدير بالملاحظة أنّه تحدّث أوّلا عن نعمة الغفران الإلهي، ثمّ عن الإكرام، إذ يجب أوّلا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب، وحينها تأخذ محلّها على بساط القرب والإكرام الإلهي.

والجدير بالتأمّل أنّ الإكرام والإحترام والتجليل، وإن كان من نصيب الكثير من العباد، واُصولا فإنّه ـ أي الإكرام ـ يتعاظم مع «التقوى» جنباً إلى جنب، (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم).(3) ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو شرط جاء في القرآن الكريم خاصاً لمجموعتين:

________________________________

1 ـ بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة إحتمالات: إمّا مصدرية، أو موصولة، أو إستفهامية، ولكن يبدو أنّ إحتمال كونها إستفهامية بعيد، ويبقى أنّ الأقرب كونها موصولة، مع أنّ المعنى لا يختلف كثيراً حينما تكون مصدرية.2 ـ تفسير القرطبي، المجلّد 8،ـ صفحة 20.3 ـ الحجرات، 13.

[ 161 ]

الاُولى: «الملائكة المقرّبون» (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون).(1)

والثانية: الأشخاص الذين بلغوا بإيمانهم أكمل الإيمان ويسمّيهم القرآن «المخلَصين» فيقول عنهم: (اُولئك في جنّات مكرمون)(2)(3).

وعلى كلّ حال، فقد كان هذا مآل ذلك الرجل المؤمن المجاهد الصادق الذي أدّى رسالته ولم يقصّر في حماية الرسل الإلهيين، وارتشف في النهاية كأس الشهادة، وقَفل راجعاً إلى جوار رحمة ربّه الكريم.

ولكن لننظر ما هو مصير هؤلاء القوم الطغاة الظلمة؟.

مع أنّ القرآن الكريم لم يورد شيئاً في ما انتهى إليه عمل هؤلاء الثلاثة من الرسل الذين بعثوا إلى هؤلاء القوم، لكن جمعاً من المفسّرين ذكروا أنّ هؤلاء قتلوا الرسل أيضاً إضافةً إلى قتلهم ذلك الرجل المؤمن، وفي حال أنّ البعض الآخر يصرّح بأنّ هذا الرجل الصالح شاغل هؤلاء القوم بحديثه وبشهادته لكي يتسنّى لهؤلاء الرسل التخلّص ممّا حيك ضدّهم من المؤامرات، والإنتقال إلى مكان أكثر أمناً، ولكن نزول العذاب الإلهي الأليم على هؤلاء القوم قرينة على ترجيح القول الأوّل، وإن كان التعبير «من بعده» (أي بعد شهادة ذلك المؤمن) يدلّل ـ في خصوص نزول العذاب الإلهي ـ على أنّ القول الثاني أصحّ «تأمّل بدقّة!!».

رأينا كيف أصرّ أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين، والآن لننظر ماذا كانت نتيجة عملهم؟

القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنّا منزلين).

________________________________

1 ـ الأنبياء، 27.2 ـ المعارج، 35.3 ـ الميزان، المجلّد 17، صفحة 82.

 

[ 163 ]

 

 

 

 

 

 

بدايَة الجزء الثالث و العشرون مِنَ القُرآن الكريم

 

 

 

 

 

 

[ 165 ]

فلسنا بحاجة إلى تلك الاُمور، وأساساً فانّه ليس من سنّتنا لإهلاك قوم ظالمين أن نستخدم جنود السماء، لأنّ إشارة واحدة كانت كافية للقضاء عليهم جميعاً وإرسالهم إلى ديار العدم والفناء، إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء، وفي لحظة خاطفة تقلب حياتهم عاليها سافلها.

ثمّ يضيف تعالى (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون).

هل أنّ تلك الصيحة كانت صدى صاعقة نزلت من الغيوم على الأرض وهزّت كلّ شيء، ودمّرت كلّ العمران الموجود، وجعلت القوم من شدّة الخوف والوحشة يستسلمون للموت؟

أو أنّها كانت صيحة ناتجة عن زلزلة خرجت من قلب الأرض فضجّت في الفضاء بحيث أنّ موج إنفجارها أهلك الجميع.

أيّاً كانت فإنّها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها، صيحة أسكتت جميع الصيحات، هزّة أوقفت كلّ شيء عن التحرّك، وهكذا هي قدرة الله سبحانه وتعالى، وهكذا هو مصير قوم ضالّين لا نفع فيهم.

الآية الأخيرة تتعرّض إلى طريقة جميع متمردّي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية لأنبياء الله بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول: (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون).

وا أسفاه عليهم أن أغلقوا نافذة الرحمة الإلهية عليهم! وا أسفاه عليهم أن كسّروا مصباح هدايتهم!!، هؤلاء الضالّون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم الإستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط، بل إنّهم أصرّوا على السخرية والإستهزاء منهم ثمّ بادروا إلى قتلهم. مع أنّهم علموا المصير المشؤوم للطغاة الكفّار من قبلهم، وسمعوا أو قرءوا على صفحات التأريخ كيف كانت خاتمتهم الأليمة، ولكنّهم لم يعتبروا بالمواعظ وسلكوا نفس المسير، وصاروا إلى

[ 166 ]

نفس المصير.

ومن الواضح أنّ هذه الجملة هي قول الله تعالى، لأنّ جميع هذه الآيات توضيح منه تعالى، غير أنّ من الطبيعي أن الحسرة هنا ـ بمعناها المتعارف وهو الغمّ على ما فات ـ لا تنطبق على الله سبحانه وتعالى، كما أنّ (الغضب) وأمثاله أيضاً لا يصدر بمفهومه المتعارف من الله سبحانه، بل المقصود أنّ حال تلك الفئة التعيسة سيء إلى حدّ أنّ كلّ إنسان يطّلع عليه يتأسّف ويتحسّر متسائلا: لماذا غرقوا في تلك الدوامة مع توفّر كلّ وسائل النجاة؟

التعبير بـ «عباد» إشارة إلى أنّ العجب أن يكون هؤلاء العباد غارقين بنعم الله سبحانه وتعالى ثمّ يرتكبون مثل تلك الجنايات.

* * *

 

بحوث

1 ـ قصّة رسل أنطاكية

(أنطاكية) واحدة من أقدم مدن الشام التي بنيت ـ على قول البعض ـ بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد. وكانت تعدّ من أكبر ثلاث مدن رومية في ذلك الزمان من حيث الثروة والعلم والتجارة.

تبعد (أنطاكية) مائة كيلومتر عن مدينة حلب، وستّين كيلومتراً عن الإسكندرية.

فتحت من قبل (أبي عبيدة الجراح) في زمن الخليفة الثاني، وقبل أهلها دفع الجزية والبقاء على ديانتهم.

احتّلها الفرنسيون بعد الحرب العالمية الاُولى، وحينما أراد الفرنسيون ترك الشام ألحقوها بالأراضي التركية خوفاً على أهالي أنطاكية من أن يمسّهم سوء بعد خروجهم لأنّهم نصارى مثلهم.

[ 167 ]

(أنطاكية) تعتبر بالنسبة إلى النصارى كالمدينة المنورة للمسلمين، المدينة الثانية في الأهمية بعد بيت المقدس، التي ابتدأ المسيح (عليه السلام) منها دعوته، ثمّ هاجر بعض من آمن بالمسيح (عليه السلام) ـ بولس وبرنابا ـ(1) إلى أنطاكية ودعوا الناس هناك إلى المسيحية، وبذا إنتشرت المسيحية هناك، وبهذا اللحاظ أشار القرآن الكريم إلى هذه المدينة لأهميّتها(2).

«الطبرسي» ـ أعلى الله مقامه ـ في تفسير مجمع البيان يقول: قالوا بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو (حبيب) صاحب (يس) فسلّما عليه.

فقال الشيخ لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن.

فقال: أمعكما آية؟

قالا: نعم، نحن نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله.

فقال الشيخ: إنّ لي إبناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين.

قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله، فذهب بهما فمسحا إبنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرضى.

وكان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه، فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر.

فقال الملك: ولنا إله سوى آلهتنا؟

________________________________

1 ـ «بولس» من المبلّغين المسيحيين المعروفين الذي سعى كثيراً في نشر الديانة المسيحية. «برنابا» ـ بفتح الباء ـ إسمه الأصلي «يوسف» كان من أصدقاء بولس ومرقس، له انجيل معروف ذكر فيه كثيراً البشارة بظهور نبي الإسلام، ولكن المسيحيين لا يعتقدون بصحّته ويقولون انّ هذا الإنجيل قد كتبه أحد المسلمين.2 ـ تفسير «أبو الفتوح الرازي» وهامش العالم المرحوم «الشعراني».

[ 168 ]

قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك.

قال: قُوما حتّى أنظر في أمركما، فأخذهما الناس في السوق وضربوهما.

وروي أنّ عيسى (عليه السلام) بعث هذين الرّسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها، وطالت مدّة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّرا وذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما، وجلد كلّ واحد منهما مائة جلدة، فلمّا كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى (شمعون الصفا) رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلدة متنكّراً فجعل يعاشر حاشية الملك حتّى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثمّ قال له ذات يوم: أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما. قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتّى نتطلّع ما عندهما فدعاهما الملك.

فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا.

قالا: الله الذي خلق كلّ شيء لا شريك له.

قال: وما آيتكما.

قالا: ما تتمنّاه.

فأمر الملك أن يأتوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان حتّى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حدقتيه فصارتا مقلتين يُبصر بهما، فتعجب الملك.

فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتّى يصنع صنيعاً مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفاً؟

فقال الملك: ليس لي عنك سرّ، إنّ إلهنا الذي نعبده لا يضرّ ولا ينفع.

ثمّ قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به وبكما.

قالا: إلهنا قادر على كلّ شيء.

[ 169 ]

فقال الملك: إنّ هاهنا ميّتاً مات منذ سبعة أيّام لم ندفنه حتّى يرجع أبوه ـ وكان غائباً ـ فجاءوا بالميّت وقد تغيّر وأروح، فجعلا يدعوان ربّهما علانيةً، وجعل شمعون يدعو ربّه سرّاً، فقام الميّت وقال لهم: إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام، وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا اُحذّركم ممّا أنتم فيه، فآمنوا بالله فتعجّب الملك.

فلمّا علم شمعون أنّ قوله أثّر في الملك، دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون.

ونقل «العياشي» في تفسيره مثل هذه الرواية عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)مع بعض التفاوت(1).

 

ولكن بمطالعة الآيات السابقة، يبدو من المستبعد أنّ أهل تلك المدينة كانوا قد آمنوا، لأنّ القرآن الكريم يقول: (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون). ويمكن أن يكون هناك إشتباه في الرواية من جهة الراوي.

ومن الجدير بالملاحظة أيضاً أنّ التعبير بـ «المرسلون» في الآيات أعلاه يدلّل على أنّهما أنبياء مرسلون من الله تعالى، علاوةً على أنّ القرآن الكريم يقول: بأنّ أهالي تلك المدينة (قالوا ما أنتم إلاّ بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء)، ومثل هذه التعبيرات ترد في القرآن الكريم عادةً فيما يخصّ الأنبياء، وإن كان قد قيل بأنّ رسل الأنبياء هم رسل الله، ولكن هذا التوجيه يبدو بعيداً.

 

2 ـ ما نتعلّمه من هذه القصّة

نتعلّم من القصّة التي عرضتها الآيات السابقة اُموراً عديدة منها:

الف ـ أنّ المؤمنين لا يستوحشون أبداً من سلوك طريق الله سبحانه وتعالى منفردين كما هو حال المؤمن «حبيب النجّار» الذي لم ترهبه كثرة المشركين في مدينته.

________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلّد 4 (الجزء 8) ـ صفحة 419.

[ 170 ]

يقول أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام: «لا تستوحشوا من طريق الهدى لقلّة أهله»(1).

ب ـ المؤمن عاشق لهداية الناس، ويتألّم لضلالهم، وحتّى بعد شهادته يتمنّى أن يرى الآخرون مقامه ليكون سبباً في إيمانهم!

ج ـ محتوى دعوة الأنبياء بحدّ ذاتها دليل على هدايتهم وحقّانيتهم (وهم مهتدون).

د ـ الدعوة إلى الله يجب أن تكون خالية من أي ترقّب للأجر لكي تكون مؤثّرة.

هـ ـ تارةً يكون الضلال مكشوفاً وواضحاً، أي أنّه ضلال مبين، وعبادة الأوثان تعدّ مصداقاً واضحاً لـ «الضلال المبين».

و ـ أهل الحقّ يستندون إلى الواقعيات، والضالّون يستندون إلى أوهام وظنون.

ز ـ إذا كان هناك شؤم ونكبات فإنّ سببها نفس الإنسان وأعماله.

ح ـ الإسراف سبب لكثير من الإنحرافات والنكبات.

ط ـ وظيفة الأنبياء وأتباعهم «البلاغ المبين» والدعوة العلنية، سواء إستجاب الناس أو لم يستجيبوا.

ي ـ التجمّع والكثرة من العوامل المهمّة للنصرة والعزّة والقوّة (وعزّزناهما بثالث).

ك ـ إنّ الله لا يحتاج لتدمير أئمّة التمرّد والعصيان إلى تجنيد طاقات الأرض والسماء، بل تكفي الإشارة.

ل ـ لا فاصلة بين الشهادة والجنّة، والشهيد قبل أن يغادر الدنيا يقع في أحضان الحور العين(2).

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 201، صفحة 319.2 ـ ذكرنا رواية شريفة مفصّلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا المجال عند تفسير سورة (آل عمران) ذيل الآية169.

[ 171 ]

م ـ إنّ الله يطهّر الإنسان من الذنوب أوّلا ثمّ يقربه إلى جوار رحمته (بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرّمين).

ن ـ يجب على مريد الحقّ أن لا يستوحش من مخالفة الأعداء، لأنّ ذلك ديدنهم على مدى الدهور (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون).

وأي حسرة أكبر وأشدّ من أن يغلق الإنسان ـ لمجرّد تعصّبه وغروره ـ عينيه، فلا يبصر الشمس المضيئة الساطعة.

س ـ كان المستضعفون يؤمنون بالأنبياء قبل جميع الناس (وجاء من أقصى المدينة رجل ...).

ع ـ وهم الذين لم يتعبوا ولم يكلّوا من طريق الحقّ، ولم يكن لسعيهم وإجتهادهم حدّ. (يسعى).

ف ـ يجب تعلّم طريقة التبليغ والدعوة إلى الله من الرسل الإلهيين الذين استفادوا من جميع الأساليب والطرائق المؤثّرة لأجل النفوذ في قلوب الغافلين، وفي الآية أعلاه والروايات التي أدرجناها نموذج على ذلك.

 

3 ـ ثواب وعقاب البرزخ

ورد في الآيات الماضية أنّ (المؤمن حبيب النجّار) بعد شهادته دخل الجنّة وتمنّى أن لو يعلم قومه بمصيره. ومن المسلّم أنّ هذه الآيات ـ كما هو الحال في الآيات الاُخرى التي تتحدّث عن الشهداء ـ ليست مربوطة بالجنّة المقصودة بعد يوم القيامة والتي تكون بعد البعث والحساب في المحشر.

من هنا يتّضح أنّ وراءنا جنّة وجحيماً في البرزخ أيضاً، يتنعّم فيها الشهداء ويحترق فيها الطغاة من أمثال «آل فرعون» ومع الإلتفات إلى هذا المعنى، تنحلّ

[ 172 ]

كثير من الإشكالات فيما يخصّ الجنّة والنار، من أمثال ما ورد في روايات الإسراء والمعراج وأمثالها.

 

4 ـ قادة الاُمم

نقل في تفسير الثعلبي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «سبّاق الاُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصدّيقون وعلي أفضلهم»(1).

كما ورد هذا المعنى تقريباً في رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوردها صاحب تفسير «الدرّ المنثور» عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجّار مؤمن آل ياسين الذي قال: ياقوم اتّبعوا المرسلين، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم»(2).

 

* * *

________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج4، ص421 القرطبي ـ الميزان، نور الثقلين.2 ـ تفسير الدرّ المنثور، على ما نقله الميزان، المجلّد 17، صفحة 86.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337702

  • التاريخ : 29/03/2024 - 05:26

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net