00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة يس من آية 31 ـ 70 من ( ص 173 ـ 233 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 173 ]

 الآيتان

 أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ  لاَ يَرْجِعُونَ(31) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)

 التّفسير

الغفلة الدائمة:

تتحدّث هاتان الآيتان ـ إستناداً إلى ما مرّ في الآيات السابقة ـ عن الغفلة المستمرّة لمجموعة كبيرة من البشر في هذا العالم على مرّ العصور والقرون، فتقول الآية: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون)(1).

فهؤلاء الكفّار ليسوا بدعاً من الأمر، فقد كان قبلهم أقوام آخرون تمرّدوا على الحقّ مثلهم عاشوا في هذه الدنيا، ومصائرهم الأليمة التي ملأت صفحات التأريخ، والآثار المعبّرة التي بقيت في مدنهم المدمّرة، كلّها شاخصة أمام العيان، فهل يكفي ذلك المقدار لتحقّق العبرة والإعتبار؟

ولكن على من يعود ضمير الجمع في (ألم يروا

________________________________

1 ـ الإستفهام في الآية أعلاه إستفهام تقريري و «كم» خبرية، وهي هنا بمعنى الكثرة في محلّ مفعول به للفعل (يروا) و (من القرون) توضيح لذلك. و «قرون» كما ذكرنا سابقاً تأتي بمعنى العصور وهي جمع (قرن) = مائة سنة أو بمعنى (الجيل) الذي يعيش في زمان معيّن.

[ 174 ]

احتمل المفسّرون عدّة وجوه:

الأوّل: أنّه يعود على «أصحاب القرية» الذين تحدّثت الآيات السابقة حولهم.

والثاني: أنّه يعود على «أهل مكّة» الذين نزلت هذه الآيات لتنبيههم.

ولكن يُستدلّ من الآية السابقة (ياحسرة على العباد ...) على أنّ المقصود هو جميع البشر، إذ أنّ كلمة «العباد» في الآية المذكورة تشمل جميع البشر على طول التاريخ، الذين ما إن جاءهم الأنبياء حتّى هبّوا لمخالفتهم وتكذيبهم والإستهزاء بهم، وعلى كلّ حال فهي دعوة لجميع البشر بأن يتأمّلوا في تأريخ القدماء، ويعتبروا من آثارهم التي خلّفوها، بفتح قلوبهم وبصائرهم.

في آخر الآية يضيف تعالى: (أنّهم إليهم لا يرجعون)(1).

أي أنّ المصيبة الكبرى في إستحالة رجوعهم إلى هذه الدنيا لجبران ما فاتهم وتبديل ذنوبهم حسنات، لأنّهم دمّروا كلّ الجسور خلفهم، فلم يبق لهم سبيل للرجوع أبداً.

هذا التّفسير يشبه بالضبط ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) حينما تحدّث في أخذ العبرة من الموتى فقال: «لا عن قبيح يستطيعون إنتقالا ولا في حسن يستطيعون إزدياداً».(2)

وتضيف الآية التالية (وإن كلّ لمّا جميع لدينا محضرون)(3).

أي أنّ المسألة لا تنتهي بهلاكهم وعدم إستطاعتهم العودة إلى هذه الدنيا، كلاّ فانّ الموت في الحقيقة بداية الشوط وليس نهايته، فعاجلا سيحضر الجميع في

________________________________

1 ـ هذه الجملة بدل عن «كم أهلكنا» والتقدير «ألم يروا أنّهم إليهم لا يرجعون» البعض إحتمل أيضاً أنّ الجملة حالية (حال الهالكين).2 ـ نهج البلاغة، خطبة 188.3 ـ المعروف بين المفسّرين حول تركيب هذه الآية: «إنّ» نافية. والبعض قال: إنّها مخفّفة لذا فإنّها لا تنصب ما بعدها، و «لمّا» بمعنى «إلاّ»، بلحاظ أنّ ذلك ورد في كلام العرب، و (جميع) بمعنى «مجموع» خبر «كلّ» (تنوين كل) بدل عن مضاف إليه محذوف تقديره «هم» والأصل «كلّهم») و «محضرون» إمّا خبر بعد خبر، أو صفة  لـ «جميع» وعلى ذلك تكون الجملة في التقدير هكذا «وما كلّهم إلاّ مجموعون يوم القيامة محضرون لدينا».

[ 175 ]

عرصة المحشر للحساب، ثمّ العقاب الإلهي المتلاحق والمستمر في إنتظارهم.

إذا كانت الحال كذلك أفلا ينبغي عليهم الإعتبار من مصير هؤلاء السابقين لهم، والإستفادة من الفرصة قبل الفوت للإبتعاد عن مواجهة ذلك المصير المشؤوم.

نعم، فلو كان الموت خاتمة لكلّ شيء، لكان ممكناً أن يقولوا بأنّه بداية راحتهم، ولكن ياحسرة!! وكما يقول الشاعر:

ولو أنّا إذا متنا تركنا *** لكان الموت راحة كلّ حيٍّ

ولكنّا إذا متنا بعثنا *** ونسأل بعده عن كلّ شيء

 

* * *

[ 176 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَءَايَةٌ لَّهُمُ الاَْرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّـت مِّن نَّخِيل وَأَعْنَـب وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ  أَفَلاَ يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَـنَ الَّذِى خَلَقَ الاَْزْوَجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الاَْرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ (36)

 

التّفسير

آيات اُخرى!!

ممّا مرّ بحثه في الآيات السابقة حول جهاد الرسل ضدّ الشرك وعبادة الأوثان، وكذلك التعرّض إلى مسألة المعاد في الآية الأخيرة من المقطع السابق، توضّح الآيات ـ مورد البحث ـ مسألتي التوحيد والمعاد معاً لإيقاظ المنكرين لهاتين المسألتين ودفعهم إلى الإيمان.

تتعرّض الآية الاُولى إلى قضيّة إحياء الأرض الميتة والبركات التي تعود على الإنسان من ذلك فتقول: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبّاً فمنه

[ 177 ]

يأكلون)(1).

قضيّة الحياة والبقاء من أهمّ دلائل التوحيد، وهي قضيّة في واقعها معقّدة ومليئة بالألغاز وباعثة على الدهشة، إذ أنّها حيّرت عقول العلماء جميعاً، فبرغم التطور والتقدّم الحاصل في وسائل الدراسة وفي العلوم بشكل عام، لا زال الكثير من الأسرار تنتظر الحلّ! وحتّى الآن لم يُعلم تحت تأثير أي العوامل تتحوّل موجودات ميتة إلى خلايا حيّة؟

حتّى الآن، لم يعرف كيف تتكوّن طبقات خلايا البذور؟ وما هي القوانين المعقدّة التي تحكمها؟ بحيث أنّها بمجرد توفّر الشرائط المساعدة تبدأ بالتحرّك والنمو والرشد. وتستلّ من ذرّات التراب الميتة وجودها، وبهذا الطريق تتحوّل الموجودات الميتة إلى أنسجة موجودات حيّة فتعكس في كلّ يوم مظهراً مختلفاً من مظاهر حياتها ونموّها.

قضيّة الحياة في عالم النباتات والحيوانات وإحياء الأرض الميتة تعتبر من جانب دليلا على وجود معلومات وقوانين دقيقة سخّرت في خلق ذلك العالم، ومن جانب آخر تعتبر دليلا على البعث بعد الموت.

ومن الواضح أنّ الضمير في «لهم» يعود على كلمة «العباد» التي ورد ذكرها في الآيات السابقة، والمقصود من «العباد» هنا هم جميع الذين وقعوا في خطأً في تقدير مسألة المبدأ والمعاد، والذي عدّ القرآن الكريم وضعهم باعثاً على الحسرة والأسف.

تنكير «آية»، إشارة إلى عظمة وأهميّة ووضوح تلك الآية التوحيدية.

جملة (فمنه يأكلون) إشارة من جانب إلى أنّ الإنسان يستفيد من بعض بذور النباتات للتغذية، بينما بعضها غير قابل للأكل، ولكن له فوائد اُخرى كتغذية

________________________________

1 ـ وردت إحتمالات عديدة في إعراب الآية، ولكن أوضحها على ما يبدو، هو كون «آية لهم» خبر مقدّم و «الأرض الميتة» مبتدأ مؤخّر، و «أحيينا» جملة إستئنافية وهي توضيح وتفسير للجملة السابقة.

[ 178 ]

الحيوانات، وصناعة الأصباغ، والأدوية، والاُمور الاُخرى التي لها أهميّة في حياة الإنسان.

ومن جانب آخر فإنّ تقديم «منه» على «يأكلون» والذي يدلّ عادةً على الحصر، هو لبيان أنّ أكثر وأفضل تغذية للإنسان هي من المواد النباتية إلى درجة أنّه يمكن القول أنّ جميع غذاء الإنسان يتشكّل منها.

الآية التالية توضيح وشرح للآية الاُولى من هذه الآيات، فهي توضّح كيفية إحياء الأرض الميتة، فتقول: (وجعلنا فيها جنّات من نخيل وأعناب وفجّرنا فيها من العيون).

كان الحديث في الآية الاُولى عن الحبوب الغذائية، بينما الحديث هنا عن الفواكه المقوّية والمغذّية والتي يعدّ «التمر» و «العنب» أبرز وأهمّ نماذجها حيث يعتبر كلّ منهما غذاءً كاملا.

وكما أشرنا سابقاً فقد دلّت دراسات العلماء وبحوثهم على أنّ هاتين الفاكهتين تحتويان على الفيتامينات والمواد الحياتية المختلفة واللازمة لجسم الإنسان، إضافةً إلى أنّ هاتين الفاكهتين يمكن حفظهما وتناولهما طازجتين أو مجفّفتين على مدار العام.

«أعناب» جمع «عنب» و «النخيل» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ جمعه «نخل» ولكن بإختلاف بين الكلمتين، (فالعنب) يطلق على الثمرة نفسها، ومن النادر إطلاقه على شجرة العنب ولكن «النخل» اسم للشجرة، و (الثمره) يقال له «الرطب» أو «التمر».

يرى البعض بأنّ هذا الإختلاف في التعبير عن الفاكهتين بالإشارة إلى الشجرة مرّة وإلى الثمرة مرّة اُخرى، بسبب أنّ النخلة ـ وكما هو معروف ـ كلّها مفيدة وقابلة للإستفادة، جذعها وجريدها وسعفها وأخيراً ثمرها، في حين أنّ شجرة (الكرم) غالباً ما يستفاد من «عنبها» فقط، وأمّا ساقها وأوراقها فلا يستفاد منها إلاّ

[ 179 ]

قليلا.

وأمّا ما ورد من ذكر الإثنتين بصيغة الجمع، فيبدو أنّه إشارة إلى الأنواع المختلفة لكلّ منهما، إذ أنّ كلا منهما لها عشرات الأنواع تختلف في أشكالها وخصائصها ومذاقها.

والجدير بالملاحظة ـ أيضاً ـ أنّ الحديث في هذه الآية تعرّض إلى إحياء الأرض الميتة دون أن يقرن ذلك بذكر المطر الذي عادةً ما يذكر في مثل هذه المواضع، وورد الحديث هنا عن «العيون»، وذلك لأنّ المطر كاف لزراعة الكثير من المحاصيل والنباتات، في حين أنّ الأشجار المثمرة تحتاج إلى الماء الجاري أيضاً.

«فجّرنا» من مادّة «تفجير» وهو شقّ الشيء شقّاً واسعاً، ومن هنا إستخدمت الكلمة للتعبير عن العيون، لأنّها تشقّ الأرض وتدفع ماءها إلى سطح الأرض(1).

الآية التالية تشرح وتوضّح الهدف من خلق تلك الأشجار المباركة المثمرة فتقول: إنّ الغرض من خلقها لكي يأكلوا من ثمارها دون حاجة إلى بذل جهد في ذلك ودون تدخّل الإنسان في صناعتها .. (ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون).

نعم، ثمار على شكل غذاء كامل تظهر على أغصان أشجارها، قابلة للأكل بمجرّد جنيها من أغصانها، ولا تحتاج إلى طبخ أو أيّة تغييرات اُخرى، ذلك إشارة إلى غاية لطف الله بهذا الإنسان وكرمه.

حتّى أنّ ذلك الطعام الجاهز اللذيذ، يمكن تجميعه وتعليبه لكي يحفظ لمدّة طويلة بدون أن ينقص من قيمته الغذائية شيء، على خلاف الأغذية التي يصنعها الإنسان من المواد الطبيعية التي أعطاها الله له، فهي غالباً ما تكون سريعة التلف

________________________________

1 ـ من الجدير بالملاحظة أنّ الصيغة الثلاثية المجردة لها «فَجْر» بمعنى (الشقّ) وهنا إستخدمت على وزن «تفعيل» بمعنى التكثير والتشديد.

[ 180 ]

والفساد.

ويوجد تفسير آخر أيضاً لمعنى الآية، وهو جدير بالنظر، وذلك أنّ القرآن الكريم يريد الإشارة إلى الفواكه التي يمكن الإستفادة منها دون إدخال تغيير عليها، وكذلك إلى أنواع الأغذية المختلفة التي يمكن الحصول عليها من تلك الفواكه، بالقيام ببعض الاُمور (في التّفسير الأوّل تكون (ما) في الجملة نافية، بينما في التّفسير الثاني تكون موصولة).

وعلى كلّ حال، فالهدف هو تحريك حسّ تشخيص الحقّ، والشكر في الإنسان، لكي يضعوا أقدامهم على أوّل طريق معرفة الله عن طريق الشكر، لأنّ شكر المنعم أوّل قدم في طريق معرفته.

الآية الأخيرة من الآيات موضع البحث، تتحدّث عن تسبيح الله وتنزيهه، وتشجب شرك المشركين الذي ذكرته الآيات السابقة، وتوضّح طريق التوحيد وعبادة الأحد الصمد للجميع فتقول: (سبحان الذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون)(1).

نعم، فالله الذي خلق كلّ هذه الأزواج في هذا العالم الواسع، لا حدّ لعلمه وقدرته ومنزّه عن كلّ نقص وعيب، لذا فلا شريك ولا شبيه له، وإن عدّ بعض الناس الحجر والخشب الجامد الميّت نظائر له، فإنّ تلك النسبة الباطلة لا تنقص من مقام كبريائه شيئاً.

بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يسبّحه أحد، إنّما ذلك تعليم للعباد ومنهاج عملي من أجل طي طريق التكامل.

________________________________

1 ـ «سبحان» على قول جماعة من المفسّرين وعلماء الأدب هي «عَلَمٌ» للتسبيح، لأنّ العَلَم (الإسم الخاصّ) يكون أحياناً للأشخاص فيسمّى «علم الشخص»، وأحياناً للجنس فيسمّى «علم الجنس»، وأحياناً للمعنى فيسمّى «علم المعنى» بناءً على هذا فمفهوم «سبحان» هو تنزيه وتقديس الله من كلّ عيب ونقص، تنزيهاً يتناسب وعظمة الخالق، والعلم لا يُضاف إلاّ في «علم المعنى». قال البعض أيضاً أنّ «سبحان» لها معنى مصدري، ومفعول مطلق لفعل مقدّر، وفي أيّة صورة فهي تبيّن التنزيه الإلهي بأوكد وجه.

[ 181 ]

أمّا ما هو المقصود من «أزواج» هنا، فللمفسّرين أقوال كثيرة.

ما هو مسلّم به أنّ «أزواج» جمع «زوج» عادةً، تطلق على الذكر والاُنثى من أي نوع، سواء كان ذلك في عالم الحيوان أو في غيره، ثمّ شمل المعنى كلّ إثنين يقترنان مع بعضهما البعض أو حتّى إذا تضادّا، حتّى الغرفتين المتشابهتين في البيت يقال لهما زوج، ودفّتي الباب وهكذا، فالمتصوّر أنّ لكلّ مخلوق زوج.

على كلّ حال فليس من المستبعد أن يكون المعنى المقصود هنا هو المعنى الخاصّ، أي جنس المذكر والمؤنث، والقرآن الكريم يُخبر من خلال هذه الآية عن وجود ظاهرة الزوجية في جميع عوالم النبات والإنسان والموجودات الاُخرى التي لم يطّلع عليها البشر.

هذه الموجودات يمكن أن تكون النباتات التي لم تحدّد سعة دائرة الزوجية فيها حتّى الآن. أو إشارة إلى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار، وهذه الحقيقة لم تعرف سابقاً، وما عرف منها في العصر الحاضر إلاّ جانب يسير.

أو أنّها إشارة إلى موجودات اُخرى تقطن كواكب اُخرى في هذا الكون المترامي. أو موجودات حيّة لا ترى بالعين المجرّدة، وإن كان العلماء في وقتنا الحاضر يشيرون إلى أنّ ليس في تلك الموجودات الحيّة ذكر واُنثى، ولكن عالم هذه الموجودات الحيّة غامض ومعقّد إلى درجة أنّ العلم البشري حتّى الآن لم يلج كلّ غوامضها ومكنوناتها.

وحتّى وجود الزوجية في عالم النبات ـ كما قلنا ـ لم يكن معلوماً منها في عصر نزول القرآن سوى بعض الحالات المحدودة كما في النخل وأمثاله، وقد كشف القرآن الكريم الستار عن ذلك كلّه، وقد ثبت أخيراً من البحوث العلمية أنّ الزوجية قضيّة عامّة وشاملة في عالم النبات.

كذلك احتمل أيضاً أن تكون قضيّة الزوجية هنا إشارة إلى وجود البروتونات الموجبة والالكترونات السالبة في الذرّة التي تعتبر الأساس في تشكيل كلّ

[ 182 ]

الموجودات في عالم المادّة ولم يكن الإنسان مطّلعاً على هذه الحقيقة والزوجية قبل تفجير الذرّة، ولكن بعد ذلك ثبت علمياً وجود الأزواج السالبة والموجبة في نواة الذرّة والالكترونات التي تدور حولها.

البعض اعتبر «الزوجية» هنا إشارة إلى تركيب الأشياء من «مادّة» و «صورة» أو «جوهر» و «عرض»، والبعض الآخر قالوا: إنّها كناية عن «الأصناف والأنواع المختلفة» للنباتات والبشر والحيوانات وسائر موجودات العالم.

ولكن الواضح أنّه حينما نستطيع حمل هذه الألفاظ على المعنى الحقيقي (جنس المذكّر والمؤنّث) ولا نجد قرينة على خلاف ذلك، فلا داعي لأن نبحث بعد ذلك عن المعاني الكنائية، وكما لاحظنا فإنّ هناك عدّة تفاسير جميلة للزوجية بالمعنى الحقيقي لها.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآية واحدة من الآيات التي توضّح محدودية علم الإنسان، وتدلّل على أنّ هناك الكثير من الحقائق الخافية علينا وعن معلوماتنا حتّى الآن.

 

* * *

[ 183 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37)وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39) لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَك يَسْبَحُونَ (40)

 

التّفسير

هذه الآيات تتحدّث في قسم آخر من آثار عظمة الله في عالم الوجود، وحلقة اُخرى من حلقات التوحيد التي مرّ منها في الآيات السابقة ما يتعلّق بالمعاد وإحياء الأرض الميتة، ونمو النباتات والأشجار.

تقول الآية الكريمة الاُولى (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون).

«نسلخ» من مادّة (سلخ) وتعني في الأصل نزع جلد الحيوان، والتعبير في الآية تعبير لطيف، فكأنّ نور النهار لباس أبيض ألبسه جسد الليل، يُنزع عنه إذا حلّ الغروب ليبدو لونه الذاتي، والتأمّل في هذا التعبير يوضّح هذه الحقيقة، وهي أنّ الظلام هو الطبيعة الأصل للكرة الأرضية، وأنّ النور والإضاءة صفة عارضة عليها

[ 184 ]

تأتيها من مصدر آخر، فهو كاللباس الذي يرتدى، وحينما يُخلع ذلك الثوب، يظهر اللون الطبيعي للبدن(1).

هنا يشير القرآن الكريم إلى ظلمة الليل، وكأنّه يريد ـ بعد أن تعرّض إلى كيفية إحياء الأرض الميتة كآية من آيات الله في الآيات السابقة ـ أن يعرض نموذجاً عن الموت بعد الحياة من خلال مسألة تبديل النور بظلمة الليل.

على كلّ حال، فعندما يستغرق الإنسان في ظلمة الليل، ويتذكّر النور وبركاته ونشاطه ومنبعه يتعرّف ـ بتأمّل يسير ـ على خالق النور والظلام.

الآية التي بعدها تتعرّض إلى النور والإضاءة وتذكر الشمس فتقول: (والشمس تجري لمستقر لها)(2).

هذه الآية تبيّن بوضوح حركة الشمس بشكل مستمر، أمّا ما هو المقصود من تلك الحركة؟ فللمفسّرين أقوال متعدّدة:

قال بعضهم: إنّ ذلك إشارة إلى حركة الشمس الظاهرية حول الأرض، تلك الحركة التي ستستمر إلى آخر عمر العالم الذي هو نهاية عمر الشمس ذاتها.

وقال آخرون: إنّه إشارة إلى ميل الشمس في الصيف والشتاء نحو الشمال والجنوب على التوالي، لأنّنا نعلم بأنّ الشمس تميل عن خطّ إعتدالها في بدء الربيع بطرف الشمال، لتدخل في مدار (23) درجة شمالا، وتعود مع بدء الصيف قليلا قليلا حتّى تنتهي إلى خطّ إعتدالها عند بداية الخريف وتستمر على خطّ سيرها ذلك باتّجاه الجنوب حتّى بدء الشتاء، ومن بدء الشتاء تتحرّك باتّجاه خطّ

________________________________

1 ـ الراغب في «المفردات» يقول: السلخ نزع جلد الحيوان، يقال سلخته فانسلخ، وعنه استعير سلخت درعه نزعتها، وسلخ الشهر وانسلخ، ولكن بعض المفسّرين يقولون: إنّ ذلك في حالة تعدّي «سلخ» بحرف الجرّ «عن» وإذا تعدّى بالحرف «من» يكون بمعنى الإخراج، ولكن ليس من دليل واضح في كتب اللغة على هذا التفاوت ـ على ما نعلم ـ وإن كان «لسان العرب» يقول: «إنسلخ النهار من الليل خرج منه خروجاً» والظاهر أنّ هذا مأخوذ من المعنى الأوّل.2 ـ هذه الجملة لها إعرابان، فإمّا أن تكون معطوفة على «الليل» والتقدير «وآية لهم الشمس»، وإمّا أن تكون مبتدأ وخبر، فالشمس مبتدأ و (تجري) خبر، وقد اخترنا الإعراب الأوّل.

[ 185 ]

إعتدالها حتّى تبلغ ذلك عند بدء الربيع. وبديهي أنّ جميع تلك الحركات في الواقع ناجمة عن حركة الأرض حول الشمس وإنحرافها عن خطّ مدارها، وان كانت ظاهراً تبدو وكأنّها حركة الشمس.

وآخرون اعتبروا الآية إشارة إلى حركة الشمس الموضعية بالدوران حول نفسها، حيث أثبتت دراسات العلماء بشكل قطعي أنّ الشمس تدور حول نفسها(1).

وآخر وأحدث التفاسير التي ظهرت بخصوص هذه الآية، هو ما كشفه العلماء أخيراً من حركة الشمس مع منظومتها باتّجاه معيّن ضمن المجرة التي تكون المجموعة الشمسية جزءاً منها، وقيل أنّ حركتها باتّجاه نجم بعيد جدّاً أطلقوا عليه اسم «وجا».

كلّ هذه المعاني المشار إليها لا تتضارب فيما بينها، ويمكن أن تكون جملة «تجري» إشارة إلى جميع تلك المعاني ومعاني اُخرى لم يصل العلم إلى كشفها، وسوف يتمّ كشفها في المستقبل.

وعلى كلّ حال، فإنّ حركة كوكب الشمس الذي يعادل مليون ومائتي الف مرّة حجم الأرض، بحركة دقيقة ومنظمة في هذا الفضاء اللامتناهي، ليس مقدوراً لغير الله سبحانه الذي تفوق قدرته كلّ قدرة وبعلمه اللامتناهي، لذا فإنّ الآية تضيف في آخرها (ذلك تقدير العزيز العليم).

أمّا آخر ما قيل في تفسير هذه الآية فهو أنّ تعبير الآية يشير إلى نظام السنّة الشمسية الناشىء عن حركة الشمس عبر الأبراج المختلفة، ذلك النظام الذي يعطي لحياة الإنسان نظاماً وبرنامجاً معيّناً يؤدّي إلى تنظيم حياته من مختلف النواحي.

لذا فإنّ الآية التالية تتحدّث عن حركة القمر ومنازله التي تؤدّي إلى تنظيم أيّام

________________________________

1 ـ طبق هذا التّفسير فإنّ (اللام) في «لمستقر لها» بمعنى «في» ويكون التقدير «في مستقر لها».

[ 186 ]

الشهر، وذلك لأجل تكميل البحث السابق، فتقول الآية: (والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم).

المقصود بـ (المنازل) تلك المستويات الثمانية والعشرون التي يطويها القمر قبل الدخول في «المحاق» والظلام المطلق. لأنّ القمر يمكن رؤيته في السماء إلى اليوم الثامن والعشرين، ولكنّه يكون في ذلك اليوم هلالا ضعيفاً مائلا لونه إلى الإصفرار، ويكون نوره قليلا وشعاعه ضعيفاً جدّاً، وفي الليلتين الباقيتين من الثلاثين يوماً تنعدم رؤيته تماماً ويقال: إنّه في دور (المحاق)، ذلك إذا كان الشهر ثلاثين يوماً، أمّا إذا كان تسعة وعشرين يوماً، فإنّ نفس هذا الترتيب سيبدأ من الليلة السابعة والعشرين ليدخل بعدها القمر في (المحاق).

تلك المنازل محسوبة بدقّة كاملة، بحيث أنّ المنجّمين منذ مئات السنين يستطيعون أن يتوقّعوا تلك المنازل ضمن حساباتهم الدقيقة.

هذا النظام العجيب ينظّم حياة الإنسان من جهة، ومن جهة اُخرى فهو تقويم سماوي طبيعي لا يحتاج إلى تعلّم القراءة والكتابة لمتابعته. بحيث أنّ أيّ إنسان يستطيع بقليل من الدقّة والدراية في أوضاع القمر خلال الليالي المختلفة .. يستطيع بنظرة واحدة أن يحدّد بدقّة أو بشكل تقريبي أيّة ليلة هو فيها.

ففي الليلة الاُولى يظهر الهلال الضعيف وطرفاه إلى الأعلى، ويزداد حجمه ليلة بعد ليلة حتّى الليلة السابعة حيث تكتمل نصف دائرة القمر، ثمّ تستمر الزيادة حتّى تكتمل الدائرة الكاملة للقمر في الليلة الرابعة عشرة ويسمّى حينئذ «بدراً». ثمّ يبدأ بالتناقص تدريجياً حتّى الليلة الثامنة والعشرين حيث يصبح هلالا باهتاً يشير طرفاه إلى الأسفل.

نعم، فإنّ النظم يشكّل أساس حياة الإنسان، والنظم بدون التعيين الدقيق للزمن ليس ممكناً، لذا فإنّ الله سبحانه وتعالى قد وضع لنا هذا التقويم الدقيق للشهور والسنين في كبد السماء.

[ 187 ]

بعد إستعراضنا لأشكال القمر ومنازله يتّضح تماماً معنى الجملة التالية (حتّى عاد كالعرجون القديم)(1).

وفي الحقيقة فإنّ الشبه بين العرجون والهلال من جوانب عديدة: من ناحية الشكل الهلالي، ومن ناحية اللون الأصفر، والذبول، وإشارة الأطراف إلى الأسفل، وكونه في وسط دائرة مظلمة تكون في حالة العرجون منسوبة إلى سعف النخل الأخضر، وبالنسبة للهلال منسوبة إلى السماء المظلمة.

والوصف بـ (القديم) إشارة إلى كون العرجون عتيقاً، فكلّما مرّ عليه زمن وتقادم أكثر أصبح ضعيفاً وذابلا واصفّر لونه وأصبح يشبه الهلال كثيراً قبل دخوله المحاق.

وسبحان الله فقد تضمّن تعبير واحد قصير كلّ تلك الظرافة والجمال؟

الآية الأخيرة من هذه الآيات، تتحدّث عن ثبات ودوام ذلك النظم في السنين والشهور، والنهار والليل، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لها نظاماً وبرنامجاً لا يقع بسببه أدنى إضطراب أو إختلال في وضعها وحركتها، وبذا ثبت تاريخ البشر وإنتظم بشكل كامل، تقول الآية: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلّ في فلك يسبحون).

من المعلوم أنّ الشمس تطوي في دورانها خلال العام الأبراج الإثني عشر، في حين أنّ القمر يطوي منازله خلال شهر واحد، وعليه فحركة القمر أسرع من حركة الشمس في مدارها إثنتي عشرة مرّة، لذا فإنّ الآية تقول بأنّ الشمس بحركتها لا يمكنها أن تدرك القمر في حركته فتقطع في شهر واحد ما تقطعه في سنة واحدة. وبذا يختلّ النظام السنوي لها.

 

________________________________

1 ـ «عرجون» كما قال أغلب المفسّرين وأهل اللغة: من الإنعراج وهو الإعوجاج والإنعطاف، وعليه فالنون زائدة وهو على وزن فعلون، ويعتقد آخرون أنّه مأخوذ من «عرجن» فالنون ليست زائدة، وبمعنى: أصل عنقود الرطب المتّصل بالنخلة، وتوضيح ذلك أنّ الرطب يظهر على شكل عنقود من النخلة، وأصل ذلك العنقود يكون على شكل مقوّس أصفر اللون يبقى معلّقاً في النخلة، و «قديم»: بمعنى العتيق الذي مضى زمنه.

[ 188 ]

كما أنّ الليل لا يتقدّم على النهار، بحيث يدخل جزء منه في النهار، فيختلّ النظام الموجود، بل إنّهما ـ على مدى ملايين السنين ـ ثابتان على مسيرهما دون أدنى تغيير.

يتّضح ممّا قلنا أنّ المقصود من حركة الشمس في هذا البحث، هي الحركة بحسب حِسّنا بها، والملفت للنظر هنا، هو أنّ هذا التعبير عن حركة الشمس ظلّ يستعمل حتّى بعد أن ثبت للجميع بأنّ الشمس هي المركز الثابت لحركة الأرض حولها، فمثلا يقال: إنّ الشمس قد تحوّلت إلى برج الحمل، أو يقال: وصلت الشمس إلى دائرة نصف النهار، أو أنّ الشمس بلغت الميل الكامل (الميل الكامل هو بلوغ الشمس إلى أقصى نقطة إرتفاع لها في نصف الكرة الأرضية الشمالي في بداية الصيف أو بالعكس أدنى نقطة إنخفاض في بداية الشتاء).

هذه التعبيرات تدلّل دوماً على أنّه حتّى بعد أن تمّ الكشف عن دوران الأرض حول الشمس وثبات الأخيرة ظلّت تستخدم، لأنّ النظر الحسّي يستشعر حركة الشمس وثبات الأرض، ومن هنا تستعمل هذه التعبيرات، وعلى هذا أيضاً يكون قوله تعالى: (وكلّ في فلك يسبحون).

كذلك يحتمل أن يكون المقصود من (السباحة) هنا حركة الشمس في فلكها مع المنظومة الشمسية والمجرّة التي نحن فيها، حيث أنّ الثابت علمياً حالياً أنّ المنظومة الشمسية التي نعيش فيها جزء من مجرّة عظيمة هي بدورها في حالة دوران. إذ أنّ «فلك» كما يقول أرباب اللغة بمعنى: بروز وإستدارة ثدي البنت، ثمّ اُطلقت على القطعة المدوّرة من الأرض أو الأشياء المدوّرة الاُخرى أيضاً، ومنه اُطلق على مسير الكواكب الدوراني.

جملة (كلّ في فلك يسبحون) في إعتقاد الكثير من المفسّرين، إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والنجوم الاُخرى التي تتّخذ لنفسها مسارات ومدارات، وإن لم يرد ذكر النجوم في الآية، ولكن بملاحظة ذكر «الليل» وإقتران ذكر النجوم مع

[ 189 ]

القمر والشمس، لا يستبعد المعنى المذكور، خاصّة وأنّ «يسبّحون» ورد بصيغة الجمع.

وكذلك يحتمل أن تكون الجملة إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والليل والنهار، لأنّ كلا من الليل والنهار له مدار خاص، ويدور حول الأرض بدقّة، فالظلام يغطّي نصف الكرة الأرضية دوماً، والنور يغطّي النصف الآخر منها، وهما يتبادلان المواضع خلال أربع وعشرين ساعة ويتمّان دورة كاملة حول الأرض.

«يسبّحون» من مادة «سباحة» وهي كما يقول «الراغب» في المفردات: المرّ السريع في الماء والهواء. واستعير لحركة النجوم في الفلك والتسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المرّ السريع في عبادة الله!» ولذا فإنّها في الآية إشارة إلى الحركة السريعة للأجرام السماوية، والآية تشبهها بالموجودات العاقلة المستمرة في دورانها، وقد ثبت حالياً أنّ الأجرام السماوية تنطلق بسرعة هائلة في الفضاء.

* * *

 

بحوث

1 ـ حركة الشمس (الدورانية) و (الجريانية)

«الدوران» لغةً يطلق على الحركة المغزلية، في حال أنّ «الجريان» يطلق على الحركة الطولية، والملفت للنظر أنّ الآيات أعلاه، نسبت الحركتين إلى الشمس، فقالت: (والشمس تجري) ... و (كلّ في فلك يسبحون).

كانت المحافل العلمية أيّام نزول الآية متمسّكة بنظرية «بطليموس» التي كانت تقول بأنّ الأجرام السماوية ليس فيها حركة دورانية، بل إنّ باطن الأفلاك التي تتكوّن من أجسام بلّورية متراكمة على بعضها البعض كتراكم طبقات البصلة وثابتة، وحركتها تتبع حركة أفلاكها، وعليه فلم يكن في تلك الأيّام معنى لا لجريان الشمس ولا غيره.

[ 190 ]

أمّا بعد أن تداعت الاُسس التي تقوم عليها فرضية بطليموس في ضوء الإكتشافات الجديدة في القرون الأخيرة، وتحرّرت الأجرام السماوية من قيد الأفلاك البلورية، فقد قويت نظرية كون الشمس هي مركز المنظومة الشمسية، وهي ثابتة وجميع المنظومة الشمسية تدور حولها.

هنا أيضاً لم تكن تعبيرات الآيات أعلاه مفهومة فيما يتعلّق بحركة الشمس الطولية والدورانية حتّى أثبت العلم بتطوّره عدّة حركات للشمس في العقود الأخيرة. وهي:

حركة الشمس الموضعية حول نفسها.

حركة الشمس الطولية مع المنظومة الشمسية باتّجاه نقطة محدّدة في السماء.

وحركتها الدورانية مع المجرّة التي تتبعها وبذا ثبتت معجزة علمية اُخرى للقرآن.

ولتوضيح هذه المسألة نورد ما ورد في إحدى دوائر المعارف حول حركة الشمس:

للشمس حركة ظاهرية واُخرى واقعية، وتشترك الشمس في الحركة الظاهرية ـ اليومية ـ فهي تشرق من مشرق نصف الكرة الأرضي الذي نعيش فيه، وتمرّ في طرف الجنوب من نصف النهار ثمّ تغرب من المغرب، وعبورها من نصف النهار يشخّص الظهر الحقيقي ـ الزوال ـ .

وللشمس أيضاً حركة ظاهرية اُخرى ـ سنوية ـ حول الأرض بحيث أنّها تقترب من المشرق درجة واحدة كلّ يوم، وفي هذه الحركة تمرّ الشمس مقابل الأبراج مرّة واحدة كلّ عام، ومدار هذه الحركة يقع على صفحة «دائرة البروج» ولهذه الحركة أهميّة عظمى في علم الفلك، فظاهرة «الإعتدالين» و «الإنقلاب» و«الميل الكلّي» كلّها مرتبطة بهذا العلم، وعلى أساس ذلك يحسب العام الشمسي.

علاوةً على هذه الحركات الظاهرية فإنّ للشمس حركة دورانية في المجرّة،

[ 191 ]

فالشمس تنطلق بسرعة دورانية في الفضاء تعادل مليون ومائة وثلاثين ألف كيلومتر في الساعة!! وفي داخل المجرّة فهي ليست ثابتة أيضاً، بل إنّها أيضاً تدور بسرعة تقارب إثنين وسبعين الف كيلومتر في الساعة ضمن المجموعة النجمية المسمّاة «الجاثي على ركبتيه»(1).

وعدم علمنا بتلك الحركة السريعة للشمس هو بُعد الأجرام السماوية، والذي هو المانع من تشخيص تلك الحركة الموضعية أيضاً.

دورة الحركة الوضعية للشمس على محورها تستغرق حدود الخمسة وعشرين يوماً بلياليها(2).

 

2 ـ تعبير «تدرك» و «سابق»

إنّ التعبيرات القرآنية إستعملت بدقّة متناهية لا يمكن الإحاطة بجميع أبعادها. ففي الآيات أعلاه حينما تتحدّث عن الحركة الظاهرية للقمر والشمس خلال المسيرة الشهرية والسنوية تقول: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر). إذ أنّ القمر ينهي مسيرته في شهر واحد بينما الشمس في عام كامل.

أمّا حينما تحدّثت عن الليل والنهار قالت: (ولا الليل سابق النهار) لعدم وجود فاصلة بينهما ولتعاقبهما. فالتعابير غاية في الدقّة.

 

3 ـ نظام النور والظلام في حياة البشر:

تعرّضت الآيات أعلاه إلى موضوعين من أهمّ المواضيع المتعلّقة بحياة البشر.

________________________________

1 ـ «الجاثي على ركبتيه»: مجموعة من النجوم التي تتشاكل فيما بينها لترسم صورة شخص جاث على ركبتيه، ومنه اُخذت التسمية.2 ـ أي أنّ الشمس في كلّ خمس وعشرين يوماً من أيّامنا تدور دورة واحدة حول نفسها، وقد شُخصت هذه المسألة من مراقبة العلماء للبقع الموجودة على سطح الشمس، فقد لوحظ أنّها تتبادل مواقعها ثمّ تعود كما كانت خلال هذه المدّة.

[ 192 ]

على أنّهما آيتان من آيات الله وهما مسألة ظلمة الليل ومسألة الشمس ونورها.

قلنا سابقاً أنّ النور من ألطف وأكثر موجودات العالم المادّي بركة. وليس لإضاءتنا ومعيشتنا فقط فكلّ حركة ونشاط مرتبط بنور الشمس، نزول قطرات المطر، نمو النباتات، تفتّح البراعم، نضوج الثمار والفواكه، خرير الجداول، تلوين مائدة الطعام بأنواع المواد الغذائية، وحتّى حركة عجلة المصانع العظيمة، وتوليد الطاقة الكهربائية، وأنواع المنتجات الصناعية، كلّها تعود في أصلها إلى هذا المنبع العظيم للطاقة، أي نور الشمس.

وخلاصة القول فإنّ جميع الطاقات على سطح الكرة الأرضية ـ عدا الطاقة الناجمة عن تفجير الذرّة ـ جميعها تستمدّ وجودها من نور الشمس، ولولا الأخير لخيّم الصمت والموت على كلّ مكان.

ظلمة الليل مع أنّها تذكر بالموت والفناء، فإنّها تعدّ من الاُمور الحياتية الهامّة في حياة البشر، لأنّها تعدل نور الشمس وتؤثّر عميقاً في راحة جسم وروح الإنسان، والمنع من المخاطر الناجمة عن تسلّط أشعّة الشمس بشكل متواصل ومستمر، بحيث لو لم يكن الليل عقيب النهار لأرتفعت درجة الحرارة على سطح الأرض إلى درجة أنّ الأشياء جميعاً تأخذ بالإشتعال والإحتراق، كذلك في القمر حيث الليالي والأيّام طويلة (كلّ ليلة هناك تعادل حوالي خمسة عشر يوماً بلياليها على الأرض، كذلك الحال بالنسبة للنهار) فحرارة النهاره قاتلة، وبرودة مجمّدة.

وعليه فإنّ كلا من «النور والظلام» آية إلهية عظيمة.

ناهيك عن أنّ النظام المتناهي الدقّة الذي يحكمهما، أدّى إلى تنظيم تأريخ حياة البشر، ذلك التأريخ الذي لولا وجوده لتفتتت الروابط الإجتماعية، وأصبحت الحياة بالنسبة إلى البشر أشبه بالمستحيل، وبذا فإنّ كلا من «النور والظلام» آيتان إلهيتان من هذه الناحية أيضاً.

والملفت للنظر هنا هو قول القرآن الكريم: (ولا الليل سابق النهار). وهذا

[ 193 ]

التعبير يدلّل على أنّ النهار خلق قبل الليل، والليل بعده تماماً، فلو أنّ أحداً نظر من خارج الكرة الأرضية فسيرى موجودين أسود وأبيض يدوران بشكل مرتّب حول الأرض، وفي مثل هذه الحركة الدائرية لا يمكن تصوّر القبل والبعد فيها. ولكن إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ الأرض التي نعيش عليها كانت يوماً ما جزءاً من الشمس، وفي ذلك الوقت لم يكن سوى النهار، ولا وجود لليل، ثمّ بعد أن انفصلت الكرة الأرضية عن الشمس وإبتعدت تكون لها ظلّ مخروطي الشكل من الجهة المخالفة للشمس فكأنّ الليل، الليل الذي أصبحت حركته بعد النهار، نعم، لو توجّهنا لكلّ ذلك لاتّضحت دقّة ولطافة هذا التعبير.

وكما قلنا سابقاً فليس الشمس والقمر وحدهما يسبحان في هذا الفضاء المترامي، بل إنّ الليل والنهار أيضاً يسبحان حول الكرة الأرضية، وكلّ منهما له مدار ومسير دائري.

وقد ورد في روايات متعدّدة عن أهل البيت (عليهم السلام) التصريح بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق النهار قبل الليل. فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال جواباً على سؤال في حديث طويل: «نعم خلق النهار قبل الليل، والشمس والقمر والأرض قبل السماء»(1).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «فالنهار خلق قبل الليل وفي قوله تعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) أي قد سبقه النهار»(2).

وورد نفس المعنى عن الإمام الباقر (عليه السلام) حين قال: «إنّ الله عزّوجلّ خلق الشمس قبل القمر، وخلق النور قبل الظلمة»(3).

* * *

________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج4، ص387، ح55.2 ـ نور الثقلين، ج4، ص387، ح53.3 ـ نور الثقلين، ج4، ص387، ح54.

[ 194 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ  وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـعاً إِلَى حِين (44)

 

التّفسير

حركة السفن في البحار آية إلهيّة:

رغم أنّ بعض المفسّرين أمثال القرطبي اعتبر الآية الاُولى من هذه الآيات من أعقد وأصعب آيات هذه السورة، إلاّ أنّه وبتدقيق النظر في هذه الآيات وربطها بالآيات السابقة، يتّضح أن ليس هناك تعقيد في هذه الآيات، لأنّ الآيات السابقة تحدّثت عن دلالة قدرة الباري عزّوجلّ في خلق الشمس والقمر والليل والنهار وكذلك الأرض وبركاتها، وفي هذه الآيات التي أمامنا يتحدّث الباري عزّوجلّ عن البحار وقسم من بركات ونعم ومواهب البحار، يعني حركة السفن التجارية والسياحية على سطحها.

علاوةً على أنّ حركة السفن في خضمّ المحيطات ليست بعيدة في الشبه عن حركة الكواكب السماوية في خضمّ المحيط الفضائي.

[ 195 ]

لذا فإنّ الآيات الكريمة تقول أوّلا: (وآية لهم أنّا حملنا ذرّيتهم في الفلك المشحون).

الضمير «لهم» لا يعود فقط على مشركي مكّة، بل على جميع العباد الذين أشارت لهم الآيات السابقة.

«ذرّية»: كما يقول الراغب في مفرداته، أصلها الصغار من الأولاد، وإن كان يقع على الصغار والكبار معاً عرفاً، ويستعمل للواحد والجمع.

وما تذكره الآية من حمل ذريّاتهم وليس هم ربّما لأنّ الأولاد هم أكثر حاجة لركوب مثل ذلك المركب السريع، بلحاظ أنّ الكبار أكثر إستعداداً للسير على سواحل البحار وطي الطريق من هناك!!

فضلا عن أنّ هذا التعبير أنسب لتحريك عواطفهم.

«مشحون» أي مملوء، إشارة إلى أنّ السفن لا تحملهم هم فقط، بل أموالهم وتجارتهم وأمتعتهم وما أهمّهم أيضاً.

وما قاله البعض من أن «الفلك» إشارة إلى سفينة نوح، و «ذريّة» بمعنى الآباء من مادّة «ذرأ» بمعنى خلق، فيبدو بعيداً، إلاّ إذا كان من قبيل ذكر المصداق البارز.

على كلّ حال فإنّ حركة السفن والبواخر التي هي من أهمّ وأضخم وسائل الحمل والنقل البشري، وما يمكنها إنجازه يعادل آلاف الأضعاف لما تستطيعه المركّبات الاُخرى، كلّ ذلك ناجم عن خصائص الماء ووزن الأجسام التي تصنع منها السفن، والطاقة التي تحرّكها، سواء كانت الريح أو البخار أو الطاقة النووية. وكلّ هذه القوى والطاقات التي سخّرها الله للإنسان، كلّ واحدة منها وكلّها معاً آية من آيات الله سبحانه وتعالى.

ولكي لا يتوهّم أنّ المركّب الذي أعطاه الله للإنسان هو السفينة فقط، تضيف الآية التالية قائلة: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون).

المراكب التي تسير على الأرض، أو في الهواء وتحمّل البشر وأثقالهم.

[ 196 ]

ومع أنّ البعض فسّر هذه الآية بخصوص «الجمل» الذي لقّب بـ «سفينة الصحراء»، والبعض الآخر ذهب إلى شمولية الآية لجميع الحيوانات، والبعض فسّرها بالطائرات والسفن الفضائية التي اخترعت في عصرنا الحالي تعبير «خلقنا» يشملها بلحاظ أنّ موادّها ووسائل صنعها خلقت مسبقاً) ولكن إطلاق تعبير الآية يعطي مفهوماً واسعاً يشمل جميع ما ذكر وكثيراً غيره.

في بعض آيات القرآن الكريم ورد مراراً الإقتران بين «الأنعام» و «الفلك» مثل قوله تعالى: (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) زخرف ـ 12، وكذلك قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون) المؤمن ـ 80.

ولكن هذه الآيات أيضاً لا تنافي عمومية مفهوم الآية مورد البحث.

الآية التالية ـ لأجل توضيح هذه النعمة العظيمة ـ تتعرّض لذكر الحالة الناشئة من تغيير هذه النعمة فتقول: (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون).

فنصدّر أمرنا لموجة عظيمة فتقلب سفنهم، أو نأمر دوّامة بحرية واحدة ببلعهم، أو يتقاذفهم الطوفان بموجة في كلّ إتّجاه بأمرنا، وإذا أردنا فنستطيع بسلبنا خاصّية الماء ونظام هبوب الريح وهدوء البحر وغير ذلك أن نجعل الإضطراب صفة عامّة تؤدّي إلى تدمير كلّ شيء، ولكنّنا نحفظ هذا النظام الموجود ليستفيدوا منه. وإذا وقعت بين الحين والحين حوادث من هذا القبيل فإنّ ذلك لينتبهوا إلى أهميّة هذه النعمة الغامرة.

«صريخ» من مادّة «صرخ» بمعنى الصياح. و «ينقذون» من مادّة «نقذ» بمعنى التخليص من ورطة.

وأخيراً تضيف الآية لتكمل الحديث فتقول: (إلاّ رحمة منّا ومتاعاً إلى حين).

نعم فهم لا يستطيعون النجاة بأيّة وسيلة إلاّ برحمتنا ولطفنا بهم.

«حين» بمعنى «وقت» وهي في الآية أعلاه إشارة إلى نهاية حياة الإنسان وحلول أجله، وذهب البعض إلى أنّها تعني نهاية العالم بأسره.

[ 197 ]

نعم، فالأشخاص الذين ركبوا السفن أيّاً كان نوعها وحجمها يدركون عمق معنى هذه الآية، فإنّ أعظم السفن في العالم تكون كالقشّة حيال الأمواج البحرية الهائلة أو الطوفانات المفجعة للمحيطات، ولولا شمول الرحمة الإلهية فلا سبيل إلى نجاة أحد منهم إطلاقاً.

يريد الله سبحانه وتعالى بذلك الخيط الرفيع بين الموت والحياة أن يظهر قدرته العظيمة للإنسان، فلعلّ الضالّين عن سبيل الحقّ يعودون إلى الحقّ ويتوجّهون إلى الله ويسلكون هذا الطريق.

 

* * *

[ 198 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(45) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَة مِّنْ ءَايَـتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـل مُّبِين (47)

 

التّفسير

الإعراض عن جميع آيات الله:

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن الآيات الإلهيّة في عالم الوجود، تنتقل هذه الآيات لتتحدّث عن ردّ فعل الكفّار المعاندين في مواجهة هذه الآيات الإلهيّة، وكذلك توضّح دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم وإنذارهم بالعذاب الإلهي الأليم.

يفتتح هذا المقطع بالقول: (وإذا قيل لهم اتّقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلّكم ترحمون)(1).

________________________________

1 ـ «وإذا قيل لهم ...» جملة شرطية، وجزاؤها محذوف يستفاد من الآية اللاحقة، والتقدير: «وإذا قيل لهم اتّقوا ... أعرضوا عنه».

[ 199 ]

للمفسّرين أقوال عديدة حول ما هو معنى قوله: (ما بين أيديكم) و (ما خلفكم) منها: أنّ المقصود بـ «ما بين أيديكم» العقوبات الدنيوية التي أوردت الآيات السابقة نماذج منها، والمقصود بـ «ما خلفكم» عقوبات الآخرة، وكأنّه يراد القول بأنّها خلفهم ولم تأت إليهم وسوف تصل إليهم في يوم ما وتحيط بهم، والمقصود بـ «التقوى» من هذه العقوبات، هو عدم إيجاد العوامل التي تؤدّي إلى وقوع هذه العقوبات، والدليل على ذلك أنّ التعبير بـ «اتّقوا» يرد في القرآن إمّا عند ذكر الله سبحانه وتعالى أو عند ذكر يوم القيامة والعقوبات الإلهيّة، وهذان الذكران وجهان لحقيقة واحدة، إذن أنّ الإتّقاء من الله هو اتّقاءٌ من عقوباته.

وذلك دليل على أنّ الآية تشير إلى الإتقاء من عذاب الله ومجازاته في الدنيا وفي الآخرة.

ومن هذه التّفسيرات أيضاً عكس ما ورد في التّفسير الأوّل، وهو أنّ «ما بين أيديكم» تعني عقوبات الآخرة و «ما خلفكم» تعني عذاب الدنيا، لأنّ الآخرة أمامنا (وهذا التّفسير لا يختلف كثيراً عن الأوّل من حيث النتائج).

وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من «بين أيديكم» الذنوب التي إرتكبت سابقاً، فتكون التقوى منها بالتوبة وجبران ما تلف بواسطتها، و «ما خلفكم» الذنوب التي سترتكب لاحقاً.

والبعض يرى بأنّ «بين أيديهم» الذنوب الظاهرة، و «ما خلفكم» الذنوب الباطنة والخفيّة.

وقال البعض الآخر: «ما بين أيديكم» إشارة إلى أنواع العذاب في الدنيا، و «ما خلفكم» إشارة إلى الموت (والحال أنّ الموت ليس ممّا يتّقى منه!!).

والبعض ـ كصاحب تفسير «في ظلال القرآن» ـ اعتبر هذين التعبيرين كناية عن إحاطة موجبات الغضب والعذاب الإلهي التي تحيط بالكافر من كلّ جانب.

و «الآلوسي» في «روح المعاني» و «الفخر الرازي» في «التّفسير الكبير» كلّ

[ 200 ]

منهما ذكر إحتمالات متعدّدة، ذكرنا قسماً منها.

و «العلاّمة الطباطبائي» في «الميزان» يرى أنّ «ما بين أيديكم» الشرك والمعاصي في الحياة الدنيا، و «ما خلفكم» العذاب في الآخرة(1). في حين أنّ ظاهر الآية هو أنّ كلا الإثنين من جنس واحد، وليس بينهما سوى التفاوت الزمني، لا أنّ إحداهما إشارة إلى الشرك والذنوب، والاُخرى إشارة إلى العقوبات الواقعة نتيجة ذلك.

على كلّ حال فأحسن تفسير لهذه الجملة هو ما ذكرناه أوّلا، وآيات القرآن المختلفة شاهد على ذلك أيضاً، وهو أنّ المقصود من «ما بين أيديكم» هو عقوبات الدنيا و «ما خلفكم» عقوبا الآخرة.

الآية التالية تؤكّد نفس المعنى وتشير إلى لجاجة هؤلاء الكفّار وإعراضهم عن آيات الله وتعاليم الأنبياء، تقول الآية الكريمة: (وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين).

فلا الآيات الأنفسية تؤثّر فيهم، ولا الآفاقية، ولا التهديد والإنذار، ولا البشارة والتطمين بالرحمة الإلهيّة، لا يتقبّلون منطق العقل ولا أمر العواطف والفطرة، فهم مبتلون بالعمى الكلّي بحيث لا يتمكّنون حتّى من رؤية أقرب الأشياء إليهم، وحتّى أنّهم لا يفرّقون بين ظلمة الليل وشمس الظهيرة.

ثمّ يشخّص القرآن الكريم أحد الموارد المهمّة لعنادهم وإعراضهم فيقول: (وإذا قيل لهم أنفقوا ممّا رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلاّ في ضلال مبين).

ذلك المنطق الضعيف الذي يتمسّك به الأنانيون والبخلاء في كلّ عصر وزمان ويقولون: إنّ فلاناً أصبح فقيراً بسبب عمل إرتكبه وأدّى به إلى الفقر، مثلما أنّنا أغنياء بسبب عمل عملنا فشملنا لطف الله ورحمته، وعليه فليس فقره ولا غنانا

________________________________

1 ـ الميزان، المجلّد 17، الصفحة 96. (ذيل الآيات مورد البحث).

[ 201 ]

كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ الدنيا إنّما هي دار إمتحان وإبتلاء، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الإمتحان الغنى والفقر، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتّع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة، أم أنّه يطأ كلّ ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق ممّا تفضّل الله به عليه، أم لا؟

ورغم أنّ البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصّة كاليهود، أو المشركين في مكّة، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهيّة، ولكن يبدو أنّ للآية مفهوماً عامّاً يمكن أن تكون له مصاديق في كلّ عصر وزمان، وإن كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامّة يتشبّثون بها على مرّ العصور، وهي قولهم: إذا كان الله هو الرازق إذاً لماذا تريدون منّا أن نعطي الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلماذا تريدون منّا إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أنّ نظام التكوين قد يوجب شيئاً، ويوجب نظام التشريع شيئاً غيره.

فنظام التكوين ـ بإراة الله ـ أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها مسخّرة للبشر، وأن يعطى البشر حريّة إنتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم، وفي نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كلّ جانب.

ونظام التشريع أوجب قوانين خاصّة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس، وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق، وذلك الإنسان الذي لديه الأهلية والإستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض، إنّما يبلغ ذلك المقام الرفيع من هذا الطريق، فبالزكاة تطهر النفوس، وبالإنفاق ينتزع البخل من القلوب، ويتحقّق التكافؤ، وتقلّ الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد في المجتمعات.

وذلك تماماً كما يقول شخص: لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلّم غيرنا؟ فلو شاء الله

[ 202 ]

سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلّم! فهل يقبل ذلك عاقل(1)؟

جملة (قال الذين كفروا) والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر، في حين يمكن أن يكتفي بالضمير، إشارة إلى أنّ هذا المنطق الخرافي والتعلّل إنّما ينبع من الكفر!

ولسان حال المؤمنين بقولهم: (أنفقوا ممّا رزقكم الله) إشارة إلى أنّ المالك الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، وإن كانت تلك الأموال أمانة في أيدينا أو أيديكم لأيّام، ويا لهم من بخلاء اُولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!

أمّا جملة: (إن أنتم إلاّ في ضلال مبين) فلتفسيرها توجد إحتمالات ثلاثة:

الأوّل: أنّها تتمّة ما قاله الكفّار للمؤمنين.

الثاني: أنّه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفّار.

الثالث: أنّه تتمّة ما قاله المؤمنون للكفّار.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب، لأنّه يتّصل مباشرةً بحديث الكفّار السابق، وفي الحقيقة إنّهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.

 

* * *

________________________________

1 ـ بعض المفسّرين احتمل التّفسير التالي وهو: أنّ العرب كانوا مشهورين بالضيافة في ذلك الزمان، وما كانوا يمتنعون عن الإنفاق، وكان هدف الكفّار هو الإستهزاء بالمؤمنين الذين كانوا ينسبون الأشياء والاُمور جميعها إلى المشيئة الإلهية، فكانوا يقولون لهم: إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغني الفقراء فما الحاجة إلى إنفاقنا، ولكن يبدو أنّ التّفسير الذي أوردناه هو الأنسب (راجع التبيان، وتفسير القرطبي، وروح المعاني).

[ 203 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الاَْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَـوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـنُ وَصَدَقُ الْمُرْسَلُونَ (52) إن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)

 

التّفسير

صيحة النشور!

بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفّار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة، تتعرّض هذه الآيات إلى الحديث عن إستهزائهم بالقيامة، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافاً إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

[ 204 ]

تقول الآية الكريمة الاُولى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين). فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة، فمعنى هذا أنّكم لستم صادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى: (ما ينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصّمون).

فكلّ ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب، ليتخلّف وراءها صمت مطبق، وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.

وفي حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم»(1).

جملة «ما ينظرون» هنا بمعنى «ما ينتظرون»، فكما يقول (الراغب) في مفرداته «النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمّل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وهو الرويّة، والنظر الإنتظار».

«صيحة» صاح: رفع الصوت، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت، وصيح الثوب كذلك، ويقال: بأرض فلان شجر قد صاح، إذا طال فتبيّن للناظر لطوله، ودلّ على نفسه بصوته.

«يخصّمون» من مادّة «خصم» بمعنى النزاع.

________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج4، ص427. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير «القرطبي» و «روح المعاني» وغيرهما.

[ 205 ]

أمّا فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك، ولكن من الواضح أنّ المقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والاُمور المعيشية الاُخرى، ولكن البعض يرى: إنّه تخاصم في أمر «المعاد»، والمعنى الأوّل أنسب على ما يبدو، وإن كان إعتبار شمول الآية لكلا المعنيين، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الضمائر المتعدّدة في الآية جميعها تعود على مشركي مكّة الذين كانوا يشكّكون في أمر المعاد، ويستهزئون بذلك بقولهم: متى تقوم الساعة؟

ولكن المسلّم به أنّ الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء، بل نوعهم «نوع البشر الغافلين عن أمر المعاد» لأنّهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبداً «تأمّل بدقّة»!!

على كلّ حال، فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع، وهذا أوّلا. وأمّا ثانياً فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كلّ شيء وتنتهي الدنيا بأسرها.

لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا: (فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى أهلهم يرجعون).

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله، يحاول جاهداً أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله، ثمّ يقوم بإنجاز بعض الاُمور المعلّقة، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصيّة أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الاُمور الاُخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضاً فهل بقي أحد حيّاً ليستمع الوصيّة؟ أو يجتمع الأولاد مع اُمّهم على سرير الأب ـ مثلا ـ ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبداً، فلا إمكان لأي من هذه

[ 206 ]

الاُمور.

وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضاً.

 

ثمّ تشير الآيات إلى مرحلة اُخرى، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربّهم ينسلون).

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد، وتنتفض من القبر بشراً سويّاً، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة، وكما أنّهم ماتوا جميعاً بصيحة واحدة، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى، ولا حياتهم كذلك، تماماً كما هو الحال في جمع الجنود في الجيوش، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعاً من فرشهم ويخرجون من خيمهم، ويقفون في صفّ واحد، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.

«أجداث» جمع «جدث» وهو القبر، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديداً من نفس المواد السابقة.

واستخدم صيغة الماضي في الفعل «نفخ» إشارة إلى عدم وجود أدنى شكّ في وقوع مثل هذا الأمر، وكأنّه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.

«ينسلون» من مادّة «نسل» والنسل الإنفصال عن الشيء ـ كما يقول الراغب في المفردات ويضيف ـ يقال: نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان، و .. ومنه نسل إذا عدا، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.

وقوله تعالى: (ربّهم) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلّها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

وعلى كلّ حال، فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ نهاية هذا العالم وبداية

[ 207 ]

العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقّعة، وسوف نتعرّض إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (68) من سورة الزمر إن شاء الله.

تضيف الآية التالية: (قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا، هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون).

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلاّ من الإعتراف الواضح الصريح بالحقائق، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ففي البدء يستغربون إنبعاثهم ويتساءلون عمّن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنّهم يلتفتون بسرعة ويتذكّرون بأنّ أنبياء الله الصادقين، وعدوهم بمثل هذا اليوم، فيجيبون أنفسهم قائلين: (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) ولكن وا أسفاه إنّنا كنّا نستهزىء بكلّ ذلك!!

وعليه فإنّ هذه الجملة هي بقيّة حديث هؤلاء المتكبّرين الكفرة بالمعاد والبعث، ولكن البعض ذهب إلى أنّ حديث الملائكة أو المؤمنين، وذلك على ما يبدو خلاف ظاهر الآية، ولا داعي ولا ضرورة له، لأنّ إعتراف الكفّار والمنكرين للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية، ففي الآية (97) من سورة الأنبياء (واقترب الوعد الحقّ فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنّا في غفلة من هذا بل كنّا ظالمين).

وعلى كلّ حال، فإنّ التعبير بـ «مرقد»(1) يوضّح أنّهم في عالم البرزخ كانوا بحالة شبيهة بالنوم العميق، وكما ذكرنا في تفسير الآية (100) من سورة «المؤمنون»، فإنّ البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات

________________________________

1 ـ يأتي تارةً بمعنى اسم مكان، واُخرى اسم للنوم، أي مصدر ميمي.

[ 208 ]

الرفيعة، أو الكفّار الموغلين في الكفر والجحود فإنّ البرزخ بالنسبة إليهم عالم واضح المعالم، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.

احتمل بعضهم أيضاً أنّ هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أنّ العذاب في البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.

ثمّ تقول الآية لبيان سرعة النفخة: (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون).

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت، كما كان الأمر عند هلاكهم، فالصيحة الاُولى للموت، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

وإستخدام تعبير «الصيحة» والتأكيد عليها بـ «واحدة» وكذلك التعبير بـ «إذا» في مثل هذه الموارد، إنّما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقّع، والتعبير بـ (هم جميع لدينا محضرون) بصيغة الجملة الإسمية دليل على الوقوع السريع لهذا المقطع من القيامة.

واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب، وكأنّ هذه الصيحة تقول: ياأيّها الناس النائمون، أيّتها الأتربة المتناثرة، أيّتها العظام المهترئة! انهضوا .. انهضوا واستعدّوا للحساب والجزاء ... فما أجمل الآيات القرآنية، وما أروع إنذاراتها المعبّرة!!

 

* * *

[ 209 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54)إِنَّ أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُل فَـكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَجُهُمْ فِى ظِلَـل عَلَى الاَْرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَـكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ(57) سَلَـمٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيم (58)

 

التّفسير

أصحاب الجنّة فاكهون!

هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر، ثمّ ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفّار الطالحين، فتقول الآية الكريمة الاُولى: (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً).

فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئاً، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئاً، ولن يكون هنالك أدنى ظلم أو إضطهاد لأحد حتّى بمقدار رأس الإبرة.

ثمّ تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيّاً عليها فتقول: (ولا تجزون إلاّ ما كنتم تعملون).

إنّ ظاهر الآية ـ ومن دون تقدير مضمر ـ يهدف إلى القول بأنّ جزاءكم جميعاً

[ 210 ]

هو نفس أعمالكم، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!

وبعبارة اُخرى: فإنّ الأعمال الحسنة والسيّئة التي قمتم بها في هذه الدنيا سترافقكم في ذلك العالم أيضاً، ونفس تلك الأعمال ستتجسّد هناك وترافقكم في جميع مراحل الآخرة، في المحشر وبعد نهاية الحساب.

فهل أنّ تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟

وهل أنّ تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟

ومن هنا يتّضح أن لا معنى للظلم أساساً في مشهد يوم القيامة، وإذا كان يحدث في الدنيا بين البشر أن تتحقّق العدالة حيناً ويقع الظلم أحياناً كثيرة، فذلك لعدم إمكان ربط الأعمال بفاعليها.

جمع من المفسّرين تصوروا أنّ الجملة الأخيرة أعلاه تتحدّث عن الكفّار والمسيئين الذين سيرون عقاباً على قدر أعمالهم، دون أن تشمل المؤمنين، بلحاظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.

ولكن بملاحظة ما يلي ينحلّ هذا الإشتباه، وهو أنّ الحديث هنا هو حديث عن العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الإستحقاق، وهذا لا ينافي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله، فهذه مسألة «تفضل» وتلك مسألة «إستحقاق».

ثمّ تنتقل الآيات لتتعرّض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة، وقبل كلّ شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول: (إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شغل فاكهون).

«شغل»: ـ على وزن سرر ـ و «شغل» ـ على وزن لطف ـ : كليهما بمعنى العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه، سواء كان ممّا يبعث على المسرّة أو الحزن، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك، يمكن إستنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه

[ 211 ]

والمنصرف تماماً عن التفكير في أي قلق أو ترقّب، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه، وحتّى أنّه ينسى تماماً هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية، تلك المواقف التي لولا نسيانها فإنّها حتماً ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب، وبناءً على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على إنشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر(1).

وبعد التعرّض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاُخرى وشرط الإستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاُخرى، ينتقل إلى ذكر بقيّة النعم فيقول تعالى: (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون)(2).

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنّة، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

وأمّا ما احتمله البعض من أنّها بمعنى «النظائر» كما في الآية ـ 22 سورة الصافات (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) الآية فيبدو بعيداً. خصوصاً أنّ (أرائك) جمع «أريكة» وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة(3).

التعبير بـ «ظلال» إشارة إلى أنّ أشجار الجنّة تظلّل الأسرة والتخوت التي يجلس عليها المؤمنون في الجنّة، أو إشارة إلى ظلال قصورهم، وكلّ ذلك يدلّل على وجود الشمس هناك، ولكنّها ليست شمساً مؤذية، نعم فإنّ لهم في ذلك الظلّ الملائم لأشجار الجنّة سروراً ونشاطاً عظيمين.

________________________________

1 ـ يرى «الراغب» في مفرداته بأنّ «فاكهة» تطلق على كلّ أنواع الثمار والفواكه، و «فاكه» الحديث الذي يأنس به الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى «ابن منظور» في لسان العرب أنّ «فكاه» بمعنى المزاح، و «فاكه» يطلق على الإنسان المرح.2 ـ هناك إحتمالات عديدة في إعراب الجملة، وأفضلها أنّ «هم» مبتدأ، و «متكئون» خبر، و «على الأرائك» متعلّق به، و «في ظلال» متعلّق به أيضاً أو متعلّق بمحذوف.3 ـ لسان العرب ـ مفردات الراغب ـ مجمع البيان ـ القرطبي ـ روح المعاني ـ وتفاسير اُخرى.

[ 212 ]

إضافةً إلى ذلك فإنّ (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون).

يستفاد من آيات القرآن الاُخرى أنّ غذاء أهل الجنّة ليس الفاكهة فقط، ولكن تعبير الآية يدلّل على أنّ الفاكهة ـ وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيراً عن فاكهة الدنيا ـ هي أعلى غذاء لهم، كما أنّ الفاكهة في الدنيا ـ كما يقول المتخصّصون ـ أفضل وأعلى غذاء للإنسان.

«يدعون» أي يطلبون، والمعنى أنّ كلّ ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه، فما يتمّنوه من شيء يحصل ويتحقّق على الفور.

يقول العلاّمة «الطبرسي» في مجمع البيان: العرب يستخدمون هذا التعبير في حالة التمنّي، فيقول: «ادع عليّ ما شئت» أي تمنّ عليّ ما شئت ...

وعليه فإنّ كلّ ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ، والله عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كلّ ذلك، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها: (سلام قولا من ربٍّ رحيم)(1).

هذا النداء الذي تخفّ له الروح، فيملؤها بالنشاط، هذا النداء المملوء بمحبّة الله، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اُخرى. نعم فسماع نداء المحبوب، النداء الندي بالمحبّة، المعطّر باللطف، يغمر سكّان الجنّة بالحبور ... الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا، بل ويفيض عليه.

ففي رواية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال: السلام عليكم ياأهل الجنّة، وذلك قول الله تعالى: (سلام قولا من ربٍّ رحيم) قال فينظر إليهم وينظرون إليه

________________________________

1 ـ إختلف حول إعراب «قولا» وأنسب ما ذكر هو إعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره «يقول قولا».

[ 213 ]

فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم»(1).

نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب، ورؤية لطفه، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة، بل بالعالم أجمع، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام «لو حجبت عنه ساعة لمتّ»(2).

الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة، هو سلام مستقيم بلا واسطة، سلام منه تعالى، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه، ويا لها من نعمة عظيمة!!

* * *

 

ملاحظة

أنواع «السلام» المنثور على أهل الجنّة

الجنّة هي «دار السلام» كما ورد في الآية (25) من سورة يونس حيث نقرأ: (والله يدعو إلى دار السلام).

وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة (والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).(3)

________________________________

1 ـ تفسير روح المعاني، مجلّد 23، صفحة 35.2 ـ روح البيان، مجلّد 7، صفحة 416.3 ـ الرعد، 24.

[ 214 ]

ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم (ونادوا أصحاب الجنّة أن سلاماً عليكم).(1)

وعندما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.

وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت: (الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).(2)

ويسلّم بعضهم على بعض (تحيتهم فيها سلام).(3)

وأخيراً، أسمى وأعظم سلام هو سلام الله عزّوجلّ (سلام قولا من ربّ رحيم).

الخلاصة: (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلا سلاماً سلاماً).(4)

والسلام ليس لفظاً فحسب، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.

 

* * *

________________________________

1 ـ الأعراف، 46.2 ـ النحل، 32.3 ـ إبراهيم، 23.4 ـ الواقعة، 26.

[ 215 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَامْتَـزُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الُْمجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـبَنِى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَـنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)

 

التّفسير

لماذا عبدتم الشيطان؟!

مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنّة، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلا: يخاطبون في ذلك اليوم خطاباً تحقيرياً (وامتازوا اليوم أيّها المجرمون).

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلونتم بلونهم تارةً، واستفدتم من حيثيتهم وإعتبارهم، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

هذا في الحقيقة هو تحقّق للوعد الإلهي الوارد في الآية (28) من سورة ص حيث يقول الباري عزّوجلّ: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين

[ 216 ]

في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار).

وعلى كلّ حال، فظاهر الآية هو التمييز في العرض بين المجرمين والمؤمنين، وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل إحتمالات اُخرى من جملتها: تفريق صفوف المجرمين أنفسهم إلى مجموعات فيما بينهم، أو إنفصال المجرمين عن شفعائهم ومعبوداتهم، أو إنفصال المجرمين كلّ واحد عن الآخر، بحيث يكون ذلك العذاب الناتج عن الفراق مضافاً على عذاب الحريق في جهنّم.

ولكن شمولية الخطاب لجميع المجرمين، ومحتوى جملة «وامتازوا» تقوّي المعنى الأوّل الذي أشرنا إليه.

الآية التالية تشير إلى لوم الله تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلا: (ألم أعهد إليكم بابني آدم ألاّ تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوٌّ مبين).

إنّ هذا العهد الإلهي أُخذ على الإنسان من طرق مختلفة، وكرّر على مسمعه مرّات ومرّات: (يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنّه يريكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون)(1)

جرى هذا التحذير وبشكل متكرّر على لسان الأنبياء والرسل: (ولا يصدنّكم الشيطان إنّه لكم عدو مبين)(2)

وكذلك في الآية (168) من سورة البقرة نقرأ: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنّه لكم عدو مبين).

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد اُخذ على الإنسان في عالم التكوين، وبلسان إعطاء العقل له، إذ أنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن  لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنّة، وأقسم على إغواء

________________________________

1 ـ الأعراف، 27.2 ـ الزخرف، 62.

[ 217 ]

أبنائه من بعده.

ومن جانب ثالث فقد اُخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهيّة للناس على التوحيد، وإنحصار الطاعة في الله سبحانه، وبهذا لم تتحقّق التوصية الإلهية هذه بلسان واحد، بل بعدّة ألسنة وأساليب، واُمضي هذا العهد والميثاق.

والجدير بالملاحظة أيضاً أنّ «العبادة» الواردة الإشارة إليها في جملة (لا تعبدوا الشيطان) بمعنى «الطاعة»، لأنّ العبادة لا تنحصر بمعنى الركوع والسجود فقط، بل إنّ من مصاديقها الطاعة. كما ورد في الآية (47) من سورة «المؤمنون» (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) وفي الآية (31) من التوبة نقرأ: (اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً).

والجميل أنّه ورد في رواية عن الصادق (عليه السلام) تعليقاً على الآية بقوله: «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(1).

وعن الصادق (عليه السلام) أيضاً أنّه قال: «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده»(2).

وعن الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(3).

الآية التالية تأكيد أشدّ وبيان لوظيفة بني آدم، تقول الآية الكريمة: (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم).

اُخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه!؟.. هذا من جانب.

________________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج18، ص89، حديث1.2 ـ وسائل الشيعة، ج18، ص91، حديث8 و9.3 ـ المصدر السابق.

[ 218 ]

ومن جانب آخر، اُخذ عليه العهد بطاعة الله سبحانه وتعالى، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ لو كان في وسط صحراء قاحلة محرقة، وكانت حياته وحياة عياله في معرض خطر قطّاع الطرق والضواري، فأهمّ ما يفكّر به هو العثور على الطريق المستقيم الآمن الذي يؤدّي إلى المقصد، الطريق السريع والأسهل للوصول إلى منزل النجاة.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمناً بأنّ الدنيا ليست بدار القرار، إذ أنّ الطريق لا يُرسم لأحد إلاّ لمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى: (ولقد أضلّ منكم جبلاّ كثيراً أفلم تكونوا تعقلون).

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟ آثار مدنهم المدمّرة أمام أعينكم، والعاقبة المؤلمة التي وصلوا إليها واضحة لكل من يمتلك القليل من التعقّل والتفكّر.

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟  ولا زلتم تتّخذونه صديقاً بل قائداً ووليّاً وإماماً!!

«الجبلّ» الجماعة تشبيهاً بالجبل في العِظم (كما يقول الراغب في مفرداته).

و «كثيراً» للتأكيد على كثرة من اتّبع الشيطان من كافّة المستويات الإجتماعية في كلّ مجتمع.

ذكر بعضهم أنّ «الجبلّ» بحدود عشرة آلاف نفر، أو أكثر، وما دون ذلك  لا  يكون جبلاًّ(1)، ولكن البعض الآخر لم يلتزم بتلك الأرقام(2).

وعلى كلّ حال، فإنّ العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدّة من عدوٍّ

________________________________

1 ـ اُنظر روح المعاني والفخر الرازي.2 ـ المصدر السابق.

[ 219 ]

خطر كهذا، لا يتورّع عن أي شيء، ولا يرحم أي إنسان أبداً، وقرابينه في كلّ زاوية ومكان هلكى صرعى، فلا ينبغي له أن يغفل عنه طرفة عين أبداً، ولنقرأ ما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام:

«فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوّ الله، أن يعديكم بدائه، وأن يستفزّكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب، فقال: ربّ بما أغويتني لاُزينّن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين»(1).

 

* * *

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، خطبة 192 (القاصعة).

[ 220 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

هَـذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَـهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَـعُوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ (67) وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ (68)

 

التّفسير

يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!

تعرّضت الآيات السابقة، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهيّة وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.

هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضاً.

نعم، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنّم للمجرمين الكافرين يذكّرهم الله بوعده، والآية تشير إلى ذلك فتقول: (هذه جهنّم التي كنتم توعدون).

[ 221 ]

فقد بُعث إليكم الأنبياء واحداً بعد واحد، وحذّروكم من مثل هذا اليوم ومن مثل هذه النار، ولكنّكم لم تأخذوا أقوالهم إلاّ على محمل السخرية والإستهزاء (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون)(1).

ثمّ يشير تعالى إلى شهود يوم القيامة ... الشهود الذين هم جزء من جسد الإنسان، حيث لا مجال لإنكار شهادتهم، فيقول تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).

نعم ففي ذلك اليوم لا تكون أعضاء الإنسان طوع إرادته وميوله، فهي بأجمعها تتخلّى عن إمتثال أمره وتستسلم لأمر الله سبحانه، ويالها من محكمة عجيبة تلك المحكمة التي شهودها نفس أعضاء الإنسان. تلك الأعضاء التي كانت الوسائل لإرتكاب المعاصي والذنوب.

ويحتمل أن تكون شهادة الأعضاء، بسبب أنّ المجرمين حينما يرون بأنّهم سيصلون جهنّم جزاء أعمالهم، يميلون إلى إنكار ما ارتكبوا ظنّاً منهم أنّه يمكن الإفلات بإخفاء الحقائق والإنكار، إلاّ أنّ الأعضاء تبدأ هنا بالشهادة، الأمر الذي يثير عجب اُولئك المجرمين ووحشتهم ويغلق عليهم جميع طرق الفرار والخلاص.

أمّا عن كيفية نطق تلك الأعضاء، فثمّة تفسيرات وإحتمالات عديدة:

1 ـ انّ الله سبحانه وتعالى يجعل في كلّ واحد من تلك الأعضاء القدرة على التكلّم والشعور، وهي تقوم بنقل الحقيقة بصدق، وما هو العجب في ذلك؟ فمن جعل في قطعة من اللحم المسمّاة «لسان» أو «مخ الإنسان» القدرة على النطق، يستطيع أن يجعل هذه القدرة في سائر أعضاء البدن أيضاً.

2 ـ أنّ تلك الأعضاء لا تُعطى الإدراك والشعور، ولكن الله سبحانه وتعالى ينطقها، وفي الحقيقة فإنّ تلك الأعضاء ستكون محلا لظهور الكلام، وإنكشاف

________________________________

1 ـ «أصلوها» من (صلا) أصل الصَّلي إيقاد النار، ويقال صَلِيَ بالنار وبكذا، أي بُلي بها واصطلى بها.

[ 222 ]

الحقائق بإذن الله.

3 ـ أنّ أعضاء البدن الإنساني تحتفظ بآثار الأعمال التي قامت بها في الدنيا، إذ أنّ أي عمل في هذه الدنيا لا يفنى، بل إنّ آثاره ستبقى على كلّ عضو من البدن، وفي الفضاء المحيط بها، وفي ذلك اليوم الذي هو يوم الظهور والتجلّي، ستظهر هذه الآثار على اليد والقدم وسائر الأعضاء، وظهور تلك الآثار هو منزلة الشهادة. وهذا تماماً كما يرد في لغتنا المعاصرة حينما نقول: «عينك تشهد على سهرك»، أو «الجدران تبكي صاحب الدار».

وعلى كلّ حال، فإنّ من المسلّمات شهادة الأعضاء في يوم القيامة، ولكن هل أنّ كلّ عضو يكشف عن فعله فحسب، أو يكشف عن كلّ الأعمال؟ فلا شكّ أنّ الإحتمال الأوّل هو الأنسب، لذا فإنّ الآيات القرآنية الكريمة الاُخرى تذكر شهادة الاُذن والعين والجلد، كما في الآية (20) من سورة فصلت حين يقول تعالى: (حتّى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) أو ما ورد في الآية (24) من سورة النور من قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).

والجدير بالملاحظة أنّه تعالى في سورة النور يقول: (تشهد عليهم ألسنتهم)وفي الآية مورد البحث يقول: (اليوم نختم على أفواههم)، ومن الممكن أن يكون ما يحصل هناك هو أن يختم على فم المجرم أوّلا لتشهد أعضاؤه، وبعد أن يرى بنفسه شهادة أعضائه، يفتح لسانه، ولأنّه لا مجال للإنكار فإنّ لسانه أيضاً يقرّ بالحقيقة.

وكذلك يحتمل أن يكون المقصود من كلام اللسان هو الكلام الداخلي الذي ينبعث منه كما في سائر الأعضاء، وليس نطقه العادي.

آخر ما نريد قوله بخصوص موضوع تكلّم الأعضاء هو أنّ ذلك خاص بالمجرمين، وإلاّ فالمؤمنون حسابهم واضح، لذا ورد في الحديث عن الباقر (عليه السلام)

[ 223 ]

«ليست تشهد الجوارح على مؤمن، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عزّوجلّ: (فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا)(1).

الآية التالية تشير إلى أحد ألوان العذاب التي يمكن أن يبتلي الله تعالى بها المجرمين في هذه الدنيا، تقول الآية الكريمة: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم)(2).

وفي تلك الحالة التي يبلغ فيها الرعب الذروة عندهم: (فاستبقوا الصراط فأنّى يبصرون). فهم عاجزون حتّى عن العثور على الطريق إلى بيوتهم، ناهيك عن العثور على طريق الحقّ وسلوك الصراط المستقيم!

وعقوبة مؤلمة اُخرى لهم: انّنا لو أردنا لمسخناهم في مكانهم على شكل تماثيل حجرية فاقدة للروح والحركة، أو على أشكال الحيوانات بحيث لا يستطيعون التقدّم إلى الأمام، ولا الرجوع إلى الخلف: (لو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيّاً ولا يرجعون)(3).

«فاستبقوا الصراط» يمكن أن تكون بمعنى التسابق فيما بينهم للعثور على الطريق الذي يذهبون منه عادةً، أو بمعنى الإنحراف عن الطريق وعدم العثور عليه، على ضوء ما قاله بعض أرباب اللغة من أن «فاستبقوا الصراط» بمعنى «جاوزوه وتركوه حتّى ضلّوا»(4).

وعلى كلّ حال، فطبقاً للتفسير الذي قبل به أغلب المفسّرين الإسلاميين، فإنّ الآيتين أعلاه، تتحدّثان عن عذاب الدنيا، وعن تهديد الكفّار والمجرمين بأنّ الله

 

________________________________

1 ـ تفسير الصافي، مجلّد 4، صفحة 2582 ـ «طمسنا» من طمس ـ على وزن شمس ـ بمعنى إزالة الأثر بالمحو، هذه الإشارة إلى إزالة ضوء العين أو صورتها بشكل كلّي بحيث لا يبقى منها أثر.3 ـ «مكانتهم» بمعنى محل التوقّف، وهي إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخرجهم عن اْنسانيتهم في محل توقّفهم، يغيّر أشكالهم، ويفقدهم القدرة على الحركة، تماماً كالتمثال الخالي من الروح.4 ـ لسان العرب ـ قطر المحيط ـ المنجد «مادّة سبق».

[ 224 ]

سبحانه وتعالى قادر على تعريضهم لمثل هذا العذاب في الدنيا، ولكن للطفه ورحمته فإنّه يمتنع عن ذلك، فقد ينتبه هؤلاء المعاندين ويرجعوا عن غيّهم إلى طريق الحقّ.

ولكن يوجد إحتمال آخر أيضاً، وهو أنّ الآيات تشير إلى العقوبات الإلهيّة في يوم القيامة لا في الدنيا، وفي الحقيقة فهو تعالى بعد أن أشار إلى «الختم على أفواههم» في الآية السابقة، يشير هنا إلى نوعين آخرين من العقوبات التي لو شاء لأجراها عليهم:

الأوّل: الطمس على عيونهم بحيث لا يمكنهم رؤية «الصراط» أي طريق الجنّة.

الثاني: أنّ هؤلاء الأفراد بعد أن كانوا فاقدين للحركة في طريق السعادة فإنّهم يتحوّلون إلى تماثيل ميتة في ذلك اليوم ويظلّون حيارى في مشهد المحشر، وليس لهم طريق للتقدّم أو للتراجع، إنّ تناسب الآيات ـ طبعاً ـ يؤيّد هذا التّفسير الأخير، وإن كان أكثر المفسّرين قد اتّفقوا على قبول التّفسير السابق(1).

الآية الأخيرة من هذه المجموعة تشير إلى وضع الإنسان في آخر عمره من حيث الضعف والعجز العقلي والجسمي، لتكون إنذاراً لهم وليختاروا طريق الهداية عاجلا، ولتكون جواباً على الذين يلقون بمسؤولية تقصيرهم على قصر أعمارهم، وكذلك لتكون دليلا على قدرة الله سبحانه وتعالى، فالقادر على أن يعيد ذلك الإنسان القوي إلى ضعف وعجز الوليد الصغير .. قادر على مسألة المعاد بالضرورة، وعلى الطمس على عيون المجرمين ومنعهم عن الحركة، كذلك تقول الآية الكريمة: (ومن نعمّره ننكّسه في الخلق أفلا يعقلون).

«ننكّسه» من مادّة «تنكيس» وهو قلب الشيء على رأسه. وهي هنا كناية عن

________________________________

1 ـ ذكر صاحب تفسير «في ظلال القرآن» هذا التّفسير على انّه الوحيد، في حين انّ التّفسير السابق إختاره كلّ من تفسير: مجمع البيان ـ التبيان ـ الميزان ـ الصافي ـ روح المعاني ـ روح البيان ـ القرطبي ـ التّفسير الكبير.

[ 225 ]

الرجوع الكامل للإنسان إلى حالات الطفولة. فالإنسان منذ بدء خلقته ضعيف، ويتكامل تدريجيّاً ويرشد، وفي أطواره الجنينية يشهد في كلّ يوم طوراً جديداً ورشداً جديداً، وبعد الولادة ـ أيضاً ـ يستمرّ في مسيره التكاملي جسمياً وروحياً وبسرعة، وتبدأ القوى والإستعدادات التي أخفاها الله في أعماق وجوده بالظهور تدريجيّاً الواحدة تلو الاُخرى، في طور الشباب، ثمّ طور النضج، ليبلغ الإنسان أوج تكامله الجسمي والروحي.

وهنا تنفصل الروح عن الجسد في تكاملها ونموّها، فتستمر في تكاملها في حال أنّ الجسد يشرع بالنكوص، ولكن العقل في النهاية يبدأ هو الآخر بالتراجع أيضاً، فيعود تدريجيّاً ـ وأحياناً بسرعة ـ إلى مراحل الطفولة، ويتساوق ذلك مع الضعف البدني أيضاً، مع الفارق طبعاً، فالآثار التي تتركها حركات وروحيات الأطفال على النفس هي الراحة والجمال والأمل ولهذا فهي مقبولة منهم، ولكنّها من أهل الشيخوخة، قبيحة ومنفّرة، وفي بعض الأحيان قد تثير الشفقة والترحّم، فالشيخوخة أيّام عصيبة حقّاً، يصعب تصوّر عمق آلامها.

في الآية (5) سورة الحجّ أشار القرآن المجيد إلى هذا المعنى، قائلا: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً). لذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ من جاوز السبعين حيّاً فهو «أسير الله في الأرض»(1).

وعلى كلّ حال فإنّ جملة (أفلا يعقلون) تشعّ تنبيهاً عجيباً بهذا الخصوص، وتقول للبشر: إنّ هذه القدرة والقوّة التي عندكم لو لم تكن على سبيل «العارية» لما أخذت منكم بهذه البساطة. اعلموا أنّ فوقكم يد قدرة اُخرى قادرة على كلّ شيء، فقبل أن تصلوا إلى تلك المرحلة خلّصوا أنفسكم، وقبل أن يتبدّل هذا النشاط

________________________________

1 ـ ورد هذا الحديث في سفينة البحار مادّة (عمر).

[ 226 ]

والجمال إلى موت وذبول. اجمعوا الورد من هذا الروض، وتزوّدوا بالزاد من هذه الدنيا لطريق الآخرة البعيد، لأنّه لم يمكنكم أداء أي عمل ذي قيمة في وقت الشيب والضعف والمرض. ولذا فإنّ من ضمن ما أوصى به النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا ذرّ أنّه قال: «اغتنم خمساً: قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(1).

 

* * *

________________________________

1 ـ بحار الأنوار، مجلّد 77، صفحة 75، حديث ـ 3.

[ 227 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

وَمَا عَلَّمْنَـهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ(69) لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـفِرِينَ (70)

 

التّفسير

انّه ليس بشاعر .. بل نذير!!

قلنا أنّ في هذه السورة بحوثاً حيّة وجامعة حول اُصول الإعتقادات: التوحيد، والمعاد، والنبوّة، وتنتقل الآيات من بحث إلى آخر ضمن مقاطع مختلفة من الآيات.

طرحت في الآيات السابقة بحوث مختلفة حول التوحيد والمعاد، وتعود هاتان الآيتان إلى البحث في مسألة النبوّة، وقد أشارتا إلى أكثر الإتّهامات رواجاً والتي اُثيرت بوجه الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وردّت عليهم ردّاً قويّاً، منها اتّهام الرّسول بكونه شاعراً، فقالت: (وما علّمناه الشعر وما ينبغي له).

لماذا اتّهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الإتّهام مع أنّه لم يقل الشعر أبداً؟

كان ذلك بسبب الجاذبية الخاصّة للقرآن الكريم ونفوذه في القلوب، الأمر الذي كان محسوساً للجميع، بالإضافة إلى عدم إمكانية إنكار جمال ألفاظه

[ 228 ]

ومعانيه وفصاحته وبلاغته، وقد كانت جاذبية القرآن الكريم الخاصّة قد أثّرت حتّى في نفوس الكفّار الذين كانوا أحياناً يأتون إلى جوار منزل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بشكل خفي ليلا لكي يستمعوا إلى تلاوته للقرآن في عمق الليل.

وكم من الأشخاص الذين تولّعوا وعشقوا الإسلام لمجرّد سماعهم القرآن الكريم وأعلنوا إسلامهم في نفس المجلس الذي استمعوا فيه إلى بعض آياته.

وهنا حاول الكفّار من أجل تفسير هذه الظاهرة العظيمة، ولغرض إستغفال الناس وصرف أنظارهم من كون ذلك الكلام وحياً إلهيّاً، فأشاعوا تهمة الشعر في كلّ مكان، والتي كانت بحدّ ذاتها تمثّل إعترافاً ضمنياً بتميّز كلام القرآن الكريم.

وأمّا لماذا لا يليق بالرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون شاعراً، فلأنّ طبيعة الشعر تختلف تماماً عن الوحي الإلهي، للأسباب التالية:

1 ـ إنّ أساس الشعر ـ عادةً ـ هو الخيال والوهم، فالشاعر غالباً ما يحلّق بأجنحة الخيال، والحال أنّ الوحي يُستمدّ وجوده من مبدأ الوجود ويدور حول محور الحقيقة.

2 ـ الشعر يفيض من العواطف الإنسانية المتغيّرة، وهي في حال تغيّر وتبدّل مستمرين، أمّا الوحي الإلهي فمرآة الحقائق الكونية الثابتة.

3 ـ لطافة الشعر تنبع في الغالب من الإغراق في التمثيل والتشبيه والمبالغة، إلى درجة أن قيل «أحسن الشعر أكذبه»، أمّا الوحي فليس إلاّ الصدق.

4 ـ الشاعر في أغلب الموارد وجرياً وراء التزويق اللفظي يكون مجبراً على السعي وراء الألفاظ، ممّا يضيع الكثير من الحقائق في الأثناء.

5 ـ وأخيراً يقول أحد المفسّرين: إنّ الشعر مجموعة من الأشواق التي تحلّق منطلقة من الأرض باتّجاه السماء، بينما الوحي حقائق نازلة من السماء إلى الأرض، وهذان الإتّجاهان واضح تفاوتهما.

وهنا يجب أن لا ننسى تقدير مقام اُولئك الشعراء الذين يسلكون هذا الطريق

[ 229 ]

باتّجاه أهداف مقدّسة، ويصونون أشعارهم من كلّ ما لا يرضي الله، وعلى كلّ حال فإنّ طبيعة أغلب الشعراء كما أوردناه أعلاه.

لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في آخر سورة الشعراء: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنّهم في كلّ واد يهيمون وأنّهم يقولون ما لا يفعلون).(1)

طبعاً فإنّ نفس هذه الآيات تشير في آخرها إلى الشعراء المؤمنين الذين يسخّرون فنّهم في سبيل أهدافهم السامية، وهم مستثنون من ذلك التعميم ولهم حساب آخر.

ولكن على أيّة حال فإنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يكون شاعراً، وعندما يقول تعالى: (وما علّمناه الشعر) فمفهومه أنّه مجانب للشعر لأنّ جميع التعاليم النازلة إليه هي من الله تعالى.

والملفت للنظر أنّ التأريخ والروايات تنقل كثيراً من الأخبار التي تشير إلى أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يريد الإستشهاد ببيت من الشعر، فإنّه غالباً ما يقوله بطريقة منثورة.

فعن عائشة أنّها قالت: كان رسول الله يتمثّل ببيت أخي بني قيس فيقول:

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا *** ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار

فيقول أبو بكر: ليس هكذا يارسول الله فيقول: إنّي لست بشاعر وما ينبغي لي(2).

ثمّ يضيف تعالى في آخر الآية لنفي الشعر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين).

والهدف هو الإنذار وإتمام الحجّة: (لينذر من كان حيّاً ويحقّ القول على

________________________________

1 ـ الشعراء، 224 ـ 226.2 ـ مجمع البيان، ج4، ص433.

[ 230 ]

الكافرين)(1).

نعم، هذه الآيات «ذكر» ووسيلة تنبيه، هذه الآيات «قرآن مبين» يوضّح الحقّ بلا أدنى تغطية أو غمط، بل بقاطعية وصراحة، ولذا فهو عامل إنتباه وحياة وبقاء.

مرّة اُخرى نرى القرآن الكريم يجعل (الإيمان) هو (الحياة) و (المؤمنين) هم (الأحياء) و (الكفّار) هم «الموتى»، ففي جانب يذكر عنوان «حيّاً» وفي الطرف المقابل عنوان «الكافرون»، فهذه هي الحياة والموت المعنوي اللذان هما أعلى بمراتب من الموت والحياة الظاهريين. وآثارهما أوسع وأشمل، فإذا كانت الحياة والمعيشة بمعنى «التنفّس» و «أكل الطعام» و «الحركة»، فإنّ هذه الأعمال كلّها تقوم بها الحيوانات، فهذه ليست حياةً إنسانية، الحياة الإنسانية هي تفتّح أزهار العقل والفهم والملكات الرقيقة في روح الإنسان، وكذلك التقوى والإيثار والتضحية والتحكّم بالنفس، والتحلّي بالفضيلة والأخلاق، والقرآن ينمي هذه الحياة في وجود الإنسان.

والخلاصة: أنّ الناس ينقسمون حيال دعوة القرآن الكريم إلى مجموعتين: مجموعة حيّة يقظة تلبّي تلك الدعوة، وتلتفت إلى إنذاراتها، ومجموعة من الكفّار ذوي القلوب الميتة، الذين لا تؤمل منهم أيّة إستجابة أبداً، ولكن هذه الإنذارات سبب في إتمام الحجّة عليهم، وتحقّق أمر العذاب بحقّهم.

 

 

* * *

 

________________________________

1 ـ جملة «لينذر ...» متعلّقة بـ «ذكر» الواردة في الآية السابقة، والبعض اعتبرها متعلّقة بـ «علمنا» أو «نزّلنا» تقديراً، ولكن الإحتمال الأوّل هو الأنسب على ما يبدو.

[ 231 ]

بحث

حياة وموت القلوب:

في الإنسان أنواع من الحياة والموت:

الأوّل: الحياة والموت النباتي الذي مظهره النمو والرشد والتغذية والتوالد، وهو في هذا الشأن يشابه جميع النباتات.

الثاني: الحياة والموت الحيواني. وأبرز مظاهرها «الإحساس» و «الحركة»، وهو مشترك في هاتين الصفتين مع جميع الحيوانات.

أمّا النوع الثالث من الحياة الخاصّ بالإنسان فقط، فهو (الحياة الإنسانية والروحية). وهو ما قصدته الروايات بقولها «حياة القلوب». حيث أنّ المقصود بالقلب هنا «الروح والعقل والعواطف» الإنسانية.

ففي حديث أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حول القرآن يقول: «وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب»(1).

وفي حديث آخر له عليه أفضل الصلاة والسلام يقول عن الحكمة والتعلّم: «واعلموا أنّه ليس من شيء إلاّ ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلاّ الحياة، فإنّه لا يجد في الموت راحة، وإنّما ذلك بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميّت وبصر للعين العمياء»(2).

وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإنّ من البلاء الفاقة، وأشدّ من الفاقة مرض البدن، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب، ألا وإنّ من صحّة البدن تقوى القلوب»(3).

ويقول عليه الصلاة والسلام: «ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قلّ

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، خطبة 110، 133 وكلمات قصار 388.2 ـ المصدر السابق.3 ـ المصدر السابق.

[ 232 ]

حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه»(1).

ومن جهة اُخرى فإنّ القرآن الكريم يشخّص للإنسان نوعاً خاصّاً من الإبصار والسماع والإدراك والشعور، غير النظر والسماع والشعور الظاهري، ففي الآية (171) من سورة البقرة نقرأ: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون).

وفي موضع آخر يقول تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً).(2)

كذلك يقول سبحانه: (ثمّ قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة).(3)

وحول مجموعة من الكافرين يعبّر تعبيراً خاصاً فيقول تعالى: (اُولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم).(4)

وفي موضع أخر يقول تعالى: (إنّما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثمّ إليه ترجعون).(5)

من مجموع هذه التعبيرات وتعبيرات كثيرة اُخرى شبيهة لها يظهر بوضوح أنّ القرآن يعدّ محور الحياة والموت، هو ذلك المحور الإنساني والعقلاني، إذ أنّ قيمة الإنسان تكمن في هذا المحور.

وفي الحقيقة فإنّ الحياة والإدراك والإبصار والسماع وأمثالها، تتلخّص في هذا القسم من وجود الإنسان، وإن اعتبر بعض المفسّرين هذه التعبيرات مجازية، إذ أنّ ذلك لا ينسجم مع روح القرآن هنا، لأنّ الحقيقة في نظر القرآن هي هذه التي يذكرها، والحياة والموت الحيوانيان هما المجازيان لا غير.

إنّ أسباب الموت والحياة الروحية كثيرة جدّاً، ولكن القدر المسلّم به هو أنّ النفاق والكبر والغرور والعصبية والجهل والكبائر، كلّها تميت القلب، ففي مناجاة

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار كلمة 345.2 ـ البقرة ـ 10.3 ـ البقرة، 74.4 ـ المائدة، 41.5 ـ الأنعام، 36.

[ 233 ]

التائبين التي تروى عن الإمام السجّاد (عليه السلام) في الصحيفة السجادية ورد «وأمات قلبي عظيم جنايتي».

والآيات مورد البحث تأكيد على هذه الحقيقة.

فهل أنّ من يرضى من حياته فقط بأن يعيش غير عالم بشيء في هذه الدنيا، ويجري دائماً مدار العيش الرغيد الرتيب، لا يعبأ بظلامة المظلوم، ولا يلبّي نداء الحقّ، يفكّر في نفسه فقط، ويعتبر نفسه غريباً حتّى عن أقرب الأقرباء، هل يعتبر مثل هذا إنساناً حيّاً؟

وهل هي حياة تلك التي تكون حصيلتها كميّة من الغذاء المصروف، وإبلاء بعض الألبسة، والنوم والإستيقاظ المكرور؟ وإذا كانت تلك هي الحياة فما هو فرقها عن حياة الحيوان؟

إذاً يجب أن نقرّ ونعترف بأنّ وراء هذه الحياة الظاهرية يكمن عقل وحقيقة أكّد عليها القرآن وتحدّث عنها.

الجميل أنّ القرآن يعتبر الموتى الذين كان لموتهم آثار الحياة الإنسانية أحياءاً، ولكن الأحياء الذين ليس فيهم أي من آثار الحياة الإنسانية فانّهم في منطق القرآن الكريم أموات أذلاّء.

 

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335499

  • التاريخ : 28/03/2024 - 15:43

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net