00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الصافات من 111 ـ آخر السورة من ( ص 378 ـ 436 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 378 ]

 الآيات

 إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَـهُ بِإِسْحَـقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّــلِحِينَ(112) وَبَـرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَـقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

 

التّفسير

إبراهيم ذلك العبد المؤمن:

الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصّة إبراهيم وإبنه وتكملها، وفي الحقيقة إنّها دليل يوضّح ما مضى، وفي نفس الوقت هي نتيجة له.

في البداية تصف الآية القرآنية الكريمة إبراهيم (إنّه من عبادنا المؤمنين).

وفي الواقع إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كلّ وجوده وكيانه وحتّى إبنه العزيز البارّ، في صحن الإخلاص فداءً لربّه سبحانه وتعالى.

نعم كلّ هذه هي من ثمار الإيمان، وتجلّياته، وما أعجب هذه الثمار

[ 379 ]

والتجلّيات!!

هذا التعبير يعطي أبعاداً أوسع وأعمّ لما جرى لإبراهيم وإبنه، ويخرج هذه المجريات من بعدها الشخصي والخاص، ويوضّح أنّه أينما كان الإيمان كان هناك إيثار وحبّ وفداء وعفو، وأنّ إبراهيم كان يختار كلّ ما يختاره الله ويريد كلّ ما أراده الله، وكلّ مؤمن يستطيع أن يكون كذلك.

ثمّ تتناول هذه الآيات نعمة اُخرى من النعم التي وهبها الله تعالى لإبراهيم (وبشّرناه بإسحاق نبيّاً من الصالحين).

فبالإنتباه إلى الآية (فبشّرناه بغلام حليم) التي ذكرناها في مقدّمة هذه الأحداث، يتّضح بصورة جيّدة أنّ هاتين البشارتين تتعلّقان بولدين، وبما أنّ البشرى الأخيرة وفق ما جاء في الآية تخصّ (إسحاق)، فإنّ (الغلام الحليم) بالتأكيد هو (إسماعيل) فالذين يصرّون على أنّ الذبيح هو (إسحاق) عليهم أن يعرفوا أنّهم اعتبروا الآيتين تشيران إلى موضوع واحد مع هذا التفاوت، وهو أنّ الآية الاُولى بشّرت بالولد والآية الثانية بشّرت بالنبوّة، ولكن هذا المعنى مستبعد جدّاً، والآيات المذكورة أعلاه تبيّن بوضوح أنّ البشارتين تتعلّقان بولدين.

على أيّة حال فإنّ بشرى النبوّة تكشف عن أنّ إسحاق يجب أن يبقى حيّاً وأن يؤدّي تكاليف ومهمّة النبوّة، وهذا لا يتلاءم مع قضيّة الذبح.

مرّة اُخرى سنتطرّق إلى عظمة مرتبة الصالحين، إذ وصفت الآية الكريمة إسحاق بأنّه (يجب أن يصبح نبيّاً وأن يكون من الصالحين) فكم هي رفيعة مرتبة الصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟

الآية الأخيرة تتحدّث عن البركة التي أنزلها الباري جلّ وعلا على إبراهيم وإبنه إسحاق (وباركنا عليه وعلى إسحاق).

ولكن البركة في أي شيء؟ لم يرد بهذا الشأن أي توضيح، وكما هو معلوم فإنّ

[ 380 ]

الفعل عندما يأتي بصورة مطلقة ومن دون أي قيد أو شرط، فإنّه يعطي معنىً عاماً، فبهذا تكون البركة شاملة لكلّ شيء، في الحياة، في الأجيال القادمة، في التأريخ، والرسالة، وفي كلّ شيء.

فكلمة (بركة) مشتقّة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير، وعندما يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير).

وتدريجيّاً أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما، ولهذا يطلق على المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لمّا كان خيره باقياً وثابتاً مبارك.

ومن هنا يتّضح أنّ الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهيّة على إبراهيم وإسحاق وعلى اُسرتهم، وإحدى البركات التي أنعم الله بها على إبراهيم وإسحاق أن جعل كلّ أنبياء بني إسرائيل من ذريّة إسحاق، في حين أنّ نبي الإسلام العظيم هو من ذريّة إسماعيل.

وهذه البركات لا تشمل كلّ أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته، وإنّما تشمل ـ فقط ـ المؤمنين والمحسنين منهم، إذ تقول الآية في آخرها (ومن ذريّتهما محسن وظالم لنفسه مبين).

كلمة (محسن) جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله، وهل يتصوّر أنّ هناك إحسان وعمل حسن أرفع من هذا؟

و (ظالم) جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب.

وعبارة (لنفسه) إشارة إلى الكفر وإرتكاب الذنوب يعدّ أوّلا ظلم للنفس، الظلم الواضح والمكشوف.

فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء، وتقول لهم: إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للإفتخار، إن لم ترافقها

[ 381 ]

صلة في الفكر والإلتزام بالرسالة.

وكشاهد على هذا الكلام فقد ورد حديث لنبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب فيه بني هاشم «لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» أي أنّهم مرتبطون بي رسالياً وأنتم مرتبطون بي جسدياً(1).

 

* * *

________________________________

1 ـ روح البيان، المجلّد 7، الصفحة 479.

[ 382 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَـرُونَ (114) وَنَجَّيْنَـهُمَا وَقَوْمُهمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَـهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَـلِبِينَ (116)وَءَاتَيْنَـهُمَا الْكِتَـبَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَـهُمَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاَْخِرِينَ (119) سَلَـمٌ عَلَى مُوسَى وَهَـرُونَ(120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الُْمحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمنِينَ(122)

 

التّفسير

النعم التي منّ بها الله على موسى وهارون:

الآيات المباركة هذه تشير إلى جوانب من النعم الإلهيّة التي أغدقها الله جلّ شأنه على موسى وأخيه هارون، والبحث هنا ليتناغم ويتواءم مع البحوث السابقة بشأن نوح وإبراهيم في الآيات السابقة، فمحتوى الآيات يشابه بعضه البعض، ونفس الألفاظ تتكرّر في بعض الجوانب، وذلك لتوجد نظاماً تربوياً منسجماً للمؤمنين.

[ 383 ]

مرّة اُخرى إستخدم في هذه الآيات اُسلوب (الإجمال والتفصيل) الاُسلوب الذي استخدمه القرآن في نقل العديد من الحوادث.

الآية الاُولى تشير إلى قوله تعالى: (ولقد مننا على موسى وهارون).

«المنّة» في الأصل من «المنّ» ويعني الحجر الذي يستعمل للوزن، ثمّ أطلق على النعم الكبيرة والثقيلة، فلو كانت لها جنبة عملية وموضوعية فالمنّة جميلة ومحمودة، ولو إقتصرت على اللفظ والكلام فهي سلبية ومذمومة، والغالب إنّها تستعمل في المحاورات العرفية بالمعنى الثاني، وهذا هو السبب في تداعي المفهوم السلبي من هذه الآيات الكريمة، ولكن لابدّ من القول انّ هذه المفردة وردت في اللغة والآيات الكريمة بمعناها الواسع الذي يشمل المفهوم الأوّل منها. (أي منع النعم والمواهب الكبيرة).

وعلى كلّ حال فانّ الله سبحانه وتعالى أنعم على الأخوين موسى وهارون بنعمة عظيمة.

أمّا الآيات التي تلتها فتشرح سبعة من هذه النعم، وكلّ واحدة منها أفضل من اُختها.

ففي المرحلة الاُولى، يقول سبحانه وتعالى: (ونجّيناهما وقومهما من الكرب العظيم).

فهل هناك قلق أكثر من هذا، وهو أنّ بني إسرائيل يعيشون في قبضة الفراعنة المتجبّرين الطغاة؟ يذبحون أولادهم ويسخّرون نساءهم في خدمتهم، ويستعبدون رجالهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقّة.

أليس فقدان الحرية والإبتلاء بسلطان جائر لا يرحم الكبير ولا الصغير، حتّى يبلغ به طغيانه إلى أن يتلاعب بنواميس الناس وشرفهم، أليس هذا كرباً عظيماً، وألماً شديداً، إذن فإنقاذهم من قبضة فراعنة مصر المتجبّرين، كانت أوّل نعمة يغدقها الباري عزّوجلّ على بني إسرائيل.

[ 384 ]

وفي المرحلة الثانية، قال الباري عزّوجلّ: (ونصرناهم فكانوا هم الغالبين).

ففي ذلك اليوم كان جيش الفراعنة ذا قوّة عظيمة ويتقدّمه الطاغية فرعون، فيما كان بنو إسرائيل قوم ضعفاء وعاجزين يفتقدون لرجال الحرب وللسلاح أيضاً، إلاّ أنّ المدد الإلهي وصلهم في تلك اللحظات، وأغرق فرعون وجيشه وسط أمواج البحر، وأورث بني إسرائيل قصور وثروات وحدائق وكنوز الفراعنة.

وفي المرحلة الثالثة من مراحل إغداق النعم على بني إسرائيل وشمولهم بعنايته، جاء في محكم كتابه العزيز (وآتيناهما الكتاب المستبين).

نعم (التوراة) هو كتاب مستبين، أي يوضّح لهم المجهولات المبهمة، ويجيبهم على كلّ ما يحتاجونه في دينهم ودنياهم، كما أكّدت الآية (44) في سورة المائدة ذلك (إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور).

وفي المرحلة الرابعة أشار القرآن الكريم إلى نعمة معنوية اُخرى منّ بها جلّ شأنه على موسى وهارون، وهي هدايتهما إلى الصراط المستقيم، (وهديناهما الصراط المستقيم).

الطريق الصحيح الخالي من كلّ إعوجاج، ألا وهو طريق الأنبياء والأولياء، والذي لا يوجد فيه أي خطر من قبيل الإنحراف والضلال والسقوط.

وعندما نقرأ سورة الحمد في كلّ الصلوات ونطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، نقول: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين). أي إنّنا نطلب منه أن يهدينا إلى طريق الأنبياء والأولياء.

أمّا المرحلة الخامسة فإنّها أكّدت على إستمرار رسالتهما والثناء الجميل عليهما، إذ تقول الآية: (وتركنا عليهما في الآخرين).

وهذه العبارة نفسها وردت في الآيات السابقة بشأن إبراهيم ونوح، لأنّ كلّ الدعاة إلى الله السالكين لطريق الحقّ، يبقى إسمهم وتاريخهم خالداً على مرّ

[ 385 ]

الزمن، ويجب أن يبقى خالداً، لأنّهم لا يخصّون قوماً أو شعباً معيّن، وإنّما كلّ الإنسانية.

والمرحلة السادسة تستعرض التحيّة الطيّبة المباركة التي وردت إلى كلّ من موسى وهارون من عند الله (سلام على موسى وهارون).

سلام من عند الله العظيم والرحيم، السلام الذي هو رمز لسلامة الدين والإيمان والرسالة والإعتقاد والمذهب، السلام الذي يوضّح النجاة والأمن من العقاب والعذاب في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وفي المرحلة السابعة ـ الأخيرة ـ نصل إلى مرحلة الثواب والمكافأة الكبرى التي يقدّمها الباري عزّوجلّ إليهما (إنّا كذلك نجزي المحسنين).

نعم إنّ حصولهما على كلّ هذه المفاخر لم يكن من دون دليل أو سبب، إذ كانا من المحسنين والمؤمنين والمخلصين والطيّبين، فمثل هؤلاء جديرون بالثواب والمكافأة.

والملفت للنظر أنّ هذه الآية (إنّا كذلك نجزي المحسنين) تكرّرت في هذه السورة عدّة مرّات، إذ جاءت بحقّ نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس، وعبارة مشابهة لها بشأن يوسف وردت في سورة يوسف الآية (22) كما وردت في الآية (84) في سورة الأنعام عن أنبياء آخرين كان ثوابهم نفس الثواب، وكلّهم يُقرّون بأنّ كلّ من يريد أن تشمله العناية الإلهيّة عليه أوّلا أن ينضمّ إلى زمرة المحسنين كي تغدق عليه البركات الإلهيّة.

الآية الأخيرة في بحثنا تشير إلى نفس الدليل الذي ورد في قصّة نوح وإبراهيم من قبل (إنّهما من عبادنا المؤمنين).

فالإيمان هو الذي ينير روح الإنسان ويعطيه القوّة، ويدفعه إلى الطهارة والتقوى وعمل الإحسان والخير، الإحسان الذي يفتح أبواب الرحمة الإلهيّة على الإنسان، فتنزل عليه مختلف أشكال النعم.

* * *

[ 386 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ (124)أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَـلِقِينَ (125) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ الاَْوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَُمحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُـخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاَْخِرِينَ (129) سَلَـمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُـحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

 

التّفسير

النّبي إلياس ومواجهته للمشركين:

القصّة الرابعة في هذه السورة إستعرضت بصورة مختصرة حياة نبي الله (إلياس)، يقول تعالى: (وإنّ إلياس لمن المرسلين).

الحديث حول «إلياس» وخصوصياته ونسبه وحياته سيأتي لاحقاً في آخر هذه الآيات ـ إن شاء الله.

ثمّ تبدأ الآيات بالتفصيل بعد الإجمال وتقول: واذكر عندما أنذر قومه (إذ قال

[ 387 ]

لقومه ألا تتّقون).

أي اتّقوا الله واجتنبوا الشرك وعبادة الأصنام وإرتكاب الذنوب والمظالم، وكلّ ما يؤدّي بالإنسان إلى الباطل والفساد.

أمّا الآية التي تلتها فقد تحدّثت بصراحة أكثر (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين).

ومن هنا يتّضح أنّ قومه كانوا يعبدون صنماً إسمه (بعل) ويسجدون له، وأنّ هذا النّبي كان يدعوهم إلى ترك هذا العمل القبيح، والتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون العظيم وتوحيده وعبادته.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ إلياس كان مبعوثاً إلى مدينة «بعلبك» إحدى مدن بلاد الشام(1) لأنّ (بعل) هو اسم ذلك الصنم و (بك) تعني مدينة، ومن تركيب هاتين الكلمتين نحصل على كلمة (بعلبك) وقيل: إنّ الصنم (بعل) كان مصنوعاً من الذهب وطوله حوالي (20) ذراعاً وله أربعة أوجه، وخدمته كانوا (400) شخصاً(2).

ولكن البعض ذهبوا إلى أنّ (بعل) ليس إسماً لصنم معيّن، بل يطلق بصورة عامّة على الأصنام، فيما قال البعض الآخر: إنّها تعني (الربّ والمعبود). وقال (الراغب) في مفرداته: إنّ كلمة «بعل» تعني (الزوج) أمّا العرب فتطلقها على الأصنام التي تعبدها والتي بواسطتها يقربون إلى الله سبحانه وتعالى على حدّ زعمهم.

وعبارة (أحسن الخالقين) رغم أنّها تشير إلى أنّ الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون ولا يوجد خالق سواه، فهي تشير أيضاً حسب الظاهر إلى الأشياء المصنوعة، أي التي يصنعها الإنسان بعد أن يغيّر شكل المواد الطبيعية، ومن هنا سمّي بالخالق، رغم أنّه تعبير مجازي.

________________________________

1 ـ بعلبك اليوم جزء من لبنان وتقع قرب الحدود السورية.2 ـ «روح المعاني» ذيل الآيات الخاصّة بالبحث.

[ 388 ]

على أيّة حال، فقد عمد إلياس إلى توبيخ قومه بشدّة، وقال لهم: (الله ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين).

إذ أنّ الله مالككم ومربّيكم، وكلّ نعمة عندكم فهي منه، وأي مشكلة عندكم تتيسر بقدرته، فغيره، لا يعدّ مصدراً للخير والبركة، ولا يمكنه دفع الشرّ والبلاء عنكم.

الظاهر هنا أنّ المشركين في زمان إلياس، قالوا ـ كما قال المشركون في زمان نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إنّنا نتّبع سنن أجدادنا الأوّلين، فأجابهم إلياس (عليه السلام) بقوله: (الله ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين).

وإستخدام كلمة (ربّ) هنا أفضل منبّه للعقل والتفكير، لأنّ أهمّ قضيّة في حياة الإنسان هي أن يعرف من الذي خلقه؟ ومن هو مالكه ومربّيه وولي نعمته اليوم؟

إلاّ أنّ قومه اللجوجين والمتكبّرين لم يعطوا اُذناً صاغية لنصائحه ومواعظه، ولم يعبأوا بما يقوله لهدايتهم، وإنّما كذّبوه (فكذّبوه).

ومقابل تصرفاتهم هذه توعدهم الله سبحانه وتعالى بعذابه بعبارة قصيرة جاء فيها: إنّنا سنحضرهم إلى محكمة العدل الإلهي وسنعذّبهم في جهنّم (فإنّهم لمحضرون) لينالوا جزاء أعمالهم القبيحة والمنكرة.

ولكن يبدو أنّ هناك مجموعة من الأطهار المحسنين والمخلصين قد آمنوا بما جاء به إلياس، ولكي لا يضيع حقّ هؤلاء، قال تعالى مباشرةً بعد تلك الآية (إلاّ عباد الله المخلصين)(1).

الآيات الأخيرة من بحثنا إستعرضت نفس القضايا الأربعة التي وردت بحقّ الأنبياء الماضين (نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون) ولأهميّتها نستعرضها مرّة اُخرى.

________________________________

1 ـ وفقاً لما ذكرناه أعلاه فإنّ هذا الإستثناء هو استثناء متّصل من (الواو) في «كذّبوه»، وتعني أنّ كلّ قومه كذّبوه وابتلوا بالعذاب الإلهي، عدا عباد الله المخلصين.

[ 389 ]

قوله تعالى: (وتركنا عليهما في الآخرين) أي إنّ الاُمم القادمة سوف لن تنسى الجهود الكبيرة التي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خطّ التوحيد، وسقاية شجرة الإيمان، وما دامت الحياة موجودة في هذه الدنيا فإنّ رسالتهم ستبقى حيّة وخالدة.

وفي المرحلة الثانية أثنى الله سبحانه وتعالى وبعث بتحيّاته إلى آل ياسين، قال تعالى: (سلام على إل ياسين).

إستخدام عبارة (الياسين) بدلا عن (الياس) إمّا لكونها من الناحية اللغوية لفظاً لـ (إلياس) واللتين لهما نفس المعنى، أو أنّها إشارة إلى (إلياس) وأتباعه المؤمنين، فوردت بصورة الجمع(1).

وفي المرحلة الثالثة، قال تعالى: (إنّا كذلك نجزي المحسنين).

«الإحسان» هنا شمل، معنىً واسعاً وهو العمل بكلّ السنن والأوامر، ومن ثمّ الجهاد ضدّ كافّة أشكال الشرك والإنحراف والذنوب والفساد.

أمّا المرحلة الرابعة فتطرح الإيمان كأمر أساسي يجب أن يتوفّر في الأنبياء الذين إستعرضتهم هذه السورة المباركة فتقول الآية هنا: (إنّه من عبادنا المؤمنين).

«الإيمان» و «العبودية» لله هما مصدر الإحسان، والإحسان يؤدّي إلى إنضمام المحسن لصفوف المخلصين الذين يشملهم سلام الله.

 

* * *

________________________________

1 ـ في البداية كانت (إلياس) ثمّ نسبت إليها ياء فأصبحت (الياسيّ)، ثمّ جمعت فأصبحت، (الياسيين) وعند تخفيفها أضحت (الياسين).

[ 390 ]

بحثان

1 ـ من هو إلياس؟

لا يوجد أيّ شكّ في أنّ «إلياس» هو أحد أنبياء الله الكبار، وآيات بحثنا تصرّح بهذا الأمر، قال تعالى: (إنّ الياس لمن المرسلين).

اسم نبي الله (إلياس) جاء في آيتين من آيات القرآن المجيد، الاُولى في هذه السورة، أي سورة الصافات، والثانية في سورة الأنعام الآية (85) إذ ذكر إسمه مع مجموعة اُخرى من الأنبياء (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كلّ من الصالحين).

وأبدى المفسّرون وجهات نظر متعدّدة بشأن إلياس، إذ أنّ البعض تساءل هل أنّ إسم «إلياس» هو اسم ثان لنبي واحد، أم أنّه يتعلّق بنبي ليس له اسم ثان، وما هي صفات وخصائص هذا النبي؟

للإجابة على هذه التساؤلات نستعرض وجهات النظر المتعدّدة تلك:

أ ـ يعتقد البعض أنّ «إلياس» هو إدريس (لأنّ كلمة إدريس، تلفظ إدراس، وبعد أن طرأت عليها تغيّرات بسيطة أضحت إلياس).

ب ـ «إلياس» هو أحد أنبياء بني إسرائيل، وهو ابن (ياسين) أحد أحفاد هارون أخي نبي الله موسى (عليه السلام).

ج ـ مجموعة من المفسّرين إعتبرت «إلياس» هو الخضر.

في حين أعربت مجموعة اُخرى عن إعتقادها في أنّ إلياس هو صديق الخضر، وكلاهما ما زال حيّاً، وأنّ إلياس موكّل بالفيافي، والخضر موكّل بالبحار والجزر.

ومجموعة ثالثة أكّدت على أنّ إلياس موكّل بالصحاري والخضر موكّل بالجبال، ويقولون بخلود الإثنين.

والبعض يرى أنّ إلياس ابن (اليسع).

د ـ إلياس هو نفسه (إيليا) نبي بني إسرائيل الذي عاصر الملك (آجاب) والذي أرسله الباري عزّوجلّ لإنذار وهداية (آجاب) الطاغية المتجبّر.

[ 391 ]

وقال البعض: إنّه يحيى معمدان المسيح.

ولكن الذي يتناسب وظاهر آيات القرآن الكريم هو أنّ هذا الاسم اسم أحد أنبياء الله غير تلك الأسماء التي وردت في القرآن المجيد، وأنّه بعث لهداية قوم يعبدون الأصنام، فكذّبه أكثر القوم، عدا مجموعة من المؤمنين المخلصين الذين صدّقوه.

وكما أشرنا سابقاً فإنّ البعض يعتقد بأنّه بعث إلى بلاد الشام، إستناداً إلى اسم الصنم (بعل) الذي كان يعبده القوم الموجودون في تلك المنطقة، وهي «بعلبك» التي هي اليوم إحدى مدن لبنان وتقع قرب الحدود السورية.

على أيّة حال، فقد وردت قصص مختلفة في الكتب بشأن هذا النبي، ولأنّها غير معتمدة وموثوقة فقد صرف النظر عنها(1).

 

2 ـ من هم إل ياسين؟

المفسّرون والمؤرخون أبدوا وجهات نظر مختلفة بشأن (الياسين) منها:

أ ـ ذهب البعض إلى أنّ إلياس والياسين هما لغتان، كما هو شائع بالنسبة  لـ (ميكال) و (ميكائيل) إذ أنّهما لغتان في اسم واحد لأحد الملائكة، ولـ (سيناء) و (سينين) حيث تطلقان على مساحة من الأرض تقع بين مصر وفلسطين، و (إلياس) و (الياسين) هي أيضاً لغتان في اسم واحد لهذا النّبي الكبير(2).

ب ـ البعض الآخر يعتبرها جمعاً، وبهذا الشكل (إلياس) اُضيفت إليها (ياء) فأصبحت (الياسي)، وبعد ذلك جمعت بإضافة الياء والنون إليها فأصبحت (الياسيين) وبعد تخفيفها غدت (الياسين)، وطبقاً لهذا يفهم منها أنّها تخصّ كلّ

________________________________

1 ـ تفسير (مجمع البيان) وتفسير (الميزان) و (روح البيان) و (فخر الرازي) و (في ظلال) و (أعلام القرآن).2 ـ البيان في غريب إعراب القرآن، المجلّد 2، صفحة 308.

[ 392 ]

الذين أطاعوا الياس والتزموا بنهجه(1).

ج ـ (آلياسين) بالألف الممدودة، مركّبة من كلمتي (آل) و (ياسين) وقيل أنّ ياسين هو اسم والد (الياس)، ووفق رواية اُخرى فإنّه أحد أسماء نبيّنا الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبهذا فإنّ كلمة (آل ياسين) تعني عائلة نبي الإسلام أو عائلة ياسين والد الياس.

الدلائل الواضحة الموجودة في القرآن تؤيّد المعنى الأوّل، والذي يقول: إنّ المقصود من (الياسين) هو (الياس) لأنّ الآية التي تلي هذه الآية المباركة (سلام على إل ياسين) بآية تقول: (إنّه من عبادنا المؤمنين) وعودة الضمير المفرد على (الياسين) دليل على أنّه شخص واحد لا أكثر، وهو إلياس.

وهناك دليل آخر، هو أنّ الآيات الأربعة الأخيرة التي وردت في نهاية قصّة إلياس، هي نفس الآيات التي وردت في نهاية قصص نوح وإبراهيم وموسى وهارون، وعندما نضع هذه الآيات الواحدة إلى جنب الاُخرى نرى أنّ سلام الله في تلك الآيات مرسل إلى الأنبياء الذين تتطرّق إليهم الآيات المباركة، (سلام على نوح في العالمين ـ سلام على إبراهيم ـ سلام على موسى وهارون).

وطبقاً لذلك فإنّ (سلام على إل ياسين) تعني السلام على إلياس.

والنقطة التي ينبغي الإلتفات إليها، أنّ الكثير من التفاسير أوردت حديثاً بسند عن ابن عبّاس يصرّح بأنّ المراد من (آل ياسين) هم آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ أحد أسماء نبيّنا هو ياسين.

روى الشيخ الصدوق في كتابه (معاني الأخبار) في باب تفسير (آل ياسين) خمسة أحاديث بهذا الشأن، كلّها لا تنتهي من حيث السند إلى أهل البيت (عليهم السلام)

________________________________

1 ـ المصدر السابق.

[ 393 ]

سوى واحد، والراوي لهذا الحديث شخص يدعى (كادح) أو (قادح)(1) وهو مجهول ولا توجد ترجمته في كتب الرجال.

وعلى فرض ـ وفقاً لهذه الأخبار ـ أنّ الآية الآنفة تقرأ بصورة (سلام على آل ياسين) وبغضّ النظر عن عدم تناسب الآيات، ورأينا أنّ إسناد هذه الرّوايات أيضاً قابلة للنقاش، فمن الأفضل أن نتجنّب القضاء بخصوص هذه الرّوايات ونترك الحكم عليها لأهلها.

 

* * *

________________________________

1 ـ معاني الأخبار: ص 122.

[ 394 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَـهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَـبِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الاَْخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَـمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (138)

 

التّفسير

تدمير قوم لوط:

«لوط» هو خامس نبي يذكر إسمه في هذه السورة ضمن تسلسل الآيات التي تحدّثت بصورة مختصرة عن تأريخه لإستمداد العبر منه.

وطبقاً لما جاء في آيات القرآن بشأن لوط، يتّضح أنّه كان معاصراً لإبراهيم(عليه السلام)، وأنّه من أنبياء الله العظام، وذلك ما جاء في الآية (26) من سورة العنكبوت والآية (74) من سورة هود.

وقد ورد اسم «لوط» كثيراً في آيات القرآن الكريم، وتكرّر البحث في القرآن بشأنه هو وقومه عدّة مرّات، قومه المنحرفون الذين كشف القرآن الكريم (الآيات 167 إلى 173 من سورة الشعراء، وفي الآيات 70 إلى 83 من سورة هود، وفي الآيات 54 إلى 58 من سورة النمل وغيرها من السور) عن المصير الأليم الذي

[ 395 ]

حلّ بهم.

بحثنا يبدأ بقوله تعالى: (وإنّ لوطاً لمن المرسلين).

وبعد هذا البيان الإجمالي يعمد القرآن إلى التفصيل ويبيّن جوانب من قصّة لوط، حيث قال: تذكر تلك الفترة الزمنية التي أنقذنا فيها لوطاً وأهله (إذ نجّيناه وأهله أجمعين).

عدا زوجته العجوز التي جعلناها مع من بقي في العذاب (إلاّ عجوزاً في الغابرين)(1).

(ثمّ دمّرنا الآخرين).

الجمل القصيرة ـ التي وردت أعلاه ـ تشير إلى تأريخ قوم لوط المليء بالحوادث، والتي ورد شرحها في سور (هود) و (الشعراء) و (العنكبوت).

«لوط» كسائر الأنبياء بدأ دعوته بتوحيد الله، ثمّ عمد إلى الجهاد ضدّ الفساد الموجود في المجتمع المحيط به، خاصّة ذلك الإنحراف الخلقي المعروف باللواط، والذي ظلّ كوصمة عار لقوم لوط على طول التاريخ.

فهذا النّبي العظيم عانى المرارة مع قومه، وبذل كلّ ما يمتلك من جهد لإصلاح قومه المنحرفين، ومنعهم من الإستمرار في ممارسة عملهم القبيح، ولكن جهوده لم تسفر عن شيء. وعندما شاهد أنّ أفراد قلائل آمنوا به، قرّر إنقاذ نفسه وإنقاذهم من المحيط الفاسد الذي يعيشون فيه.

وفي نهاية الأمر فقد لوط الأمل في إصلاح قومه وعمد إلى الدعاء عليهم، حيث طلب من الله سبحانه وتعالى إنقاذه وعائلته، فإستجاب الباري عزّوجلّ لدعائه وأنقذه وعائلته مع تلك الصفوة القليلة التي آمنت به، عدا زوجته العجوز

________________________________

1 ـ (غابر) من مادّة (غبور) على وزن (عبور) وتعني بقايا الشيء، فعندما تتحرّك مجموعة من مكان ما ويبقى أحد أفرادها هناك يقال له (غابر) ولهذا السبب يقال لما يتبقّى من التراب (غبار)، ولما تبقّى من الحليب في الثدي (غبرة) على وزن (لقمة).

[ 396 ]

التي لم ترفض فقط التمسّك بالتعليمات التي جاء بها، وإنّما عمدت ـ أحياناً ـ إلى تقديم العون لأعدائه.

وقد عذّب الله قوم لوط بأشدّ العذاب، إذ خسف بهم الأرض ثمّ أمطر عليهم حجارة من سجّيل، ليهلكوا عن آخرهم، وتمحى أجسادهم من الوجود أيضاً.

وباعتبار أنّ هذه الآيات كانت مقدّمة لإيقاظ الغافلين والمغرورين، فقد أضاف القرآن الكريم (وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين). أي إنّكم تمرّون في كلّ صباح بجانب ديارهم الخربة من جرّاء العذاب.

كما تمرّون من هناك في الليل أفلا تعقلون؟ (وبالليل أفلا تعقلون).

هذه الآيات تخاطب قوافل أهل الحجاز التي كانت تذهب ليلا ونهاراً إلى بلاد الشام عبر مدن قوم لوط، وتقول: لو كان لهم آذان حيّة لسمعوا الصراخ المذهل والعويل المفزع لهؤلاء القوم المعذّبين.

لأنّ آثار ديار قوم لوط الخربة تحكي بصمت دروساً كبيرة لكلّ المارّين من هناك، وتحذر من الإبتلاء بمثل هذا العذاب.

نعم، إنّه درس ما أكثر العبر فيه، ولكن المعتبرين منه قليل «ما أكثر العبر وأقلّ الإعتبار»(1).

ونظير هذا المعنى موجود في الآية (76) من سورة الحجر، والتي تقول بعد بيان قصّة قوم لوط (وإنّها لبسبيل مقيم) أي إنّ آثارهم تقع دائماً في طريق القوافل والمشاة المارّين من هناك.

وفسّرت رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) الآية بشكل آخر، فعندما سأله أحد أصحابه عن معنى الآية (وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون)أجاب الإمام الصادق قائلا: «تمرّون عليهم في القرآن إذا قرأتم في القرآن

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 297.

[ 397 ]

فاقرؤوا ما قصّ الله عليكم من خبرهم»(1).

هذا التّفسير قد يكون إشارة إلى تفسير ثان، على أيّة حال فالجمع بين التّفسيرين لا ضرر فيه، لأنّ آثار قوم لوط الباقية شاخصة للأبصار، إضافةً إلى أنّ آيات القرآن الكريم تتطرّق لأخبار قوم لوط والعذاب الذي نزل عليهم.

 

* * *

________________________________

1 ـ روضة الكافي، نقلا عن نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 432.

[ 398 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(140)فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ(142) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَـهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِين (146) وَأَرْسَلْنَــهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ(147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَـهُمْ إِلَى حِين (148)

 

التّفسير

يونس في بوتقة الإمتحان:

الحديث هنا عن قصّة نبي الله «يونس» (عليه السلام) وقومه التائبين، والتي هي سادس وآخر قصّة تتناول قصص الأنبياء والاُمم السابقة، والذي يلفت النظر أنّ القصص الخمس التي تحدّثت عن قوم (نوح) و (إبراهيم) و (موسى وهارون) و (الياس) و (لوط) أشارت إلى أنّ تلك الأقوام لم تصغ لنصائح الأنبياء الذين بعثوا إليها وبقيت غارقة في نومها، فعمّها العذاب الإلهي، فيما أنقذ الله سبحانه وتعالى الأنبياء العظام

[ 399 ]

الذين أرسلهم إلى تلك الأقوام مع القلّة القليلة ممّن اتّبعهم.

إلاّ أنّ قضيّة نبي الله يونس تنتهي أحداثها بشكل معاكس لما إنتهت إليه تلك القصص، إذ أنّ قوم يونس صحوا من غفلتهم وتابوا إلى الله فور مشاهدتهم دلائل العذاب الإلهي الذي سيحلّ لهم إن لم يؤمنوا، وأنّ الله شملهم بلطفه وأنزل عليهم بركاته الماديّة والمعنوية، وفي المقابل فإنّ نبي الله يونس إبتلي ببعض الإبتلاءات والمشاكل لأنّه تعجّل في ترك قومه وهجره إيّاهم، حتّى أنّ القرآن المجيد أطلق عليه كلمة (أبق) والتي تعني هرب العبد من مولاه!

وهذه القصّة بمثابة خطاب موجّه لمشركي قريش، وإلى كلّ البشر على طول التأريخ، جاء فيه: هل تريدون أن تكونوا كالأقوام الخمسة الماضية، أم كقوم يونس؟ وهل ترغبون في أن تكون عاقبتكم الشؤم والألم؟ أما ترغبون في أن تنتهي عواقبكم بخير وسعادة؟ اعلموا أنّ ذلك مرتبط بما تعزمون عليه.

على أيّة حال، فإن ذكر هذا النّبي العظيم وقصّته مع قومه، وردت في سور متعدّدة من سور القرآن المجيد (منها سورة الانبياء، ويونس، والقلم، وفي هذه السورة أي الصافات) وعكست كلّ واحدة منها جوانب من أوضاعه وحياته، وسورة «الصافات» هذه تسلّط الأضواء أكثر على قضيّة هرب يونس وإبتلاءه، ومن ثمّ نجاته من بطن الحوت.

في البداية، وكما تعوّدنا في القصص السابقة، فإنّ الحديث يكون عن مقام رسالته، إذ تقول الآية: (وإنّ يونس لمن المرسلين).

نبي الله «يونس» (عليه السلام) كسائر الأنبياء العظام بدأ بالدعوة إلى توحيد الله ومجاهدة عبدة الأصنام، ومن ثمّ محاربة الأوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في مجتمعه آنذاك، إلاّ أنّ قومه المتعصّبين الذين كانوا يقلّدون أجدادهم الأوائل رفضوا الإستجابة لدعوته.

إستمرّ يونس (عليه السلام) بوعظ قومه بقلب حزين لأجلهم، مريداً لهم الخير وكأنّه أب

[ 400 ]

رحيم لهم، في حين كانوا يواجهون منطقه الحكيم بالسفسطة والمغالطة، عدا مجموعة قليلة منهم، يحتمل أن لا تتعدّى الشخصين (أحدهما يسمّى بالعابد والثاني بالعالم) آمنت برسالته.

وبعد فترة طويلة من دعوته إيّاهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام، يئس يونس من هدايتهم، وكما جاء في بعض الروايات، فإنّ يونس (عليه السلام) قرّر طبقاً لإقتراح الرجل العابد، مع ملاحظة أوضاع وأحوال قومه الضالّين، قرّر الدعاء عليهم(1).

وبالفعل فقد دعا عليهم، فنزل عليه الوحي وحدّد له وقت حلول العذاب الإلهي بهم، ومع حلول موعد نزول العذاب، رحل يونس ـ بمعيّته الرجل العابد ـ عن قومه وهو غاضب عليهم، ووصل إلى ساحل البحر، وشاهد سفينة عند الساحل غاصّة بالركاب فطلب منهم السماح له بالصعود إليها.

وهذا ما أشارت إليه الآية التالية، حيث قالت: (إذ أبق إلى الفلك المشحون).

كلمة «أبق» مشتقّة من (إباق) والتي تعني فرار العبد من سيّده، إنّها لعبارة عجيبة، إذ تبيّن أن ترك العمل بالاُولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع عند الله، مهما كان بسيطاً فإنّه يؤدّي إلى أن يتّخذ الباري عزّوجلّ موقفاً معاتباً ومؤنّباً للأنبياء، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيّه.

ومن دون أي شكّ فإنّ نبي الله يونس (عليه السلام)، معصوم عن الخطأ، ولكن كان الأجدر به أن يتحمّل آلاماً اُخرى من قومه، وأن يبقى معه حتّى اللحظات الأخيرة قبل نزول العذاب، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم ويتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى.

حقّاً إنّه دعا قومه إلى توحيد الله أربعين عاماً ـ وفق ما ورد في بعض الروايات ـ ولكن كان من الأجدر به أن يضيف عدّة أيّام أو عدّة ساعات إلى ذلك الوقت ببقائه معهم، لذلك فعندما ترك قومه وهجرهم شبهه القرآن بالعبد الآبق.

________________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلّد 4، صفحة 35.

[ 401 ]

ووفق ما ورد في الرّوايات، فقد صعد يونس (عليه السلام) إلى السفينة، ثمّ إنّ حوتاً ضخماً وقف أمام السفينة، فاتحاً فمه وكأنّه يطلب الطعام، فقال ركاب السفينة أنّ هناك شخصاً مذنباً معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت، ولم يجدوا سبيلا سوى الإقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت، وعندما إقترعوا خرج اسم يونس، وطبقاً للرواية فإنّهم اقترعوا ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة كان يخرج اسم يونس (عليه السلام)، فأمسكوا بيونس وقذفوه في فم الحوت العظيم، وقد أشار القرآن المجيد في آية قصيرة إلى هذه الحادثة، قال تعالى: (فساهم فكان من المدحضين).

«ساهم» في مادّة (سهم) وتعني إشتراكه في الإقتراع، فالإقتراع تمّ على ظهر السفينة بالشكل التالي، كتبوا اسم كلّ راكب على (سهم) ثمّ خلطوا الأسهم وسحبوا سهماً واحداً، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونس (عليه السلام).

(مدحض) مشتقّة من (دَحْض) وتعني إبطال مفعول الشيء أو إزالته أو التغلّب عليه، والمراد هنا أنّ إسمه ظهر في عملية الإقتراع من بين بقيّة الأسماء.

وورد بهذا الشأن تفسير آخر يقول: إنّ إعصاراً هبّ في البحر عرض السفينة ومن فيها من الركّاب للخطر بسبب ثقل حمولتها، ولم يكن لهم سبيل للنجاة سوى تخفيف وزن السفينة من خلال إلقاء بعض ركّابها في وسط البحر، وعندما اقترعوا على من يرمونه في الماء خرج اسم يونس، وبعد رميه في البحر إبتلعه حوت عظيم.

وقال القرآن الكريم: (فالتقمه الحوت وهو مليم) أي إنّ حوتاً عظيماً التقمه وهو مستحقّ للملامة.

«التقم» مشتقّة من (الإلتقام) وتعني (البلع).

(مليم) من مادّة (لوم) وتعني التوبيخ والعتب (وعندما تأتي بصفة الفعل فإنّها تعطي معنى إستحقاق الملامة).

ومن المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب إرتكابه ذنباً كبيراً أو صغيراً وإنّما

[ 402 ]

بسبب تركه العمل بالأولى، وإستعجاله في ترك قومه وهجرانهم.

وبعد بلعه من قبل الحوت أعطى الله سبحانه وتعالى أمراً تكوينياً إلى الحوت أن لا تلحق الأذى بيونس، إذ أنّ عليه أن يقضي فترة في السجن الذي لم يسبق له مثيل، كي يدرك تركه العمل بالأولى، ويسعى لإصلاحه.

وورد في إحدى الرّوايات أنّ «أوحى الله إلى الحوت: لا تكسر منه عظماً  ولا تقطع له وصلا»(1).

يونس (عليه السلام) إنتبه بسرعة للحادث، وتوجّه على الفور إلى الله سبحانه وتعالى وتكامل وجوده مستغفراً الله على تركه العمل بالأولى، وطالباً العفو منه.

ونقلت الآية (87) في سورة الأنبياء صورة توجّه يونس (عليه السلام) بالدعاء الذي يسمّيه أهل العرفان باليونسية، قال تعالى: (فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين).

أي إنّه نادى من بطن الحوت بأن لا معبود سواك، وأنّني كنت من الظالمين، إذ ظلمت نفسي وإبتعدت عن باب رحمتك.

إعتراف يونس الخالص بالظلم، وتسبيحه الله المرافق للندم أدّى مفعوله، إذ إستجاب الله له وأنقذه من الغمّ، كما جاء في الآية (88) من سورة الأنبياء، (فاستجبنا له ونجّيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين).

ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونس (عليه السلام)، قال تعالى: (فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) أي لو لم يكن من المسبّحين لأبقيناه في بطن الحوت حتّى يوم القيامة، ويعني تبديل سجنه المؤقّت إلى سجن دائم، ومن ثمّ تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له.

وبخصوص بقاء يونس في بطن الحوت حتّى يوم القيامة (على فرض أنّه ترك

________________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلّد 26، الصفحة 165، كما ورد نفس المعنى مع إختلاف بسيط في تفسير البرهان، المجلّد 4، الصفحة 37.

[ 403 ]

تسبيح الله والتوبة إليه) فهل أنّه يعني بقاءه حيّاً أم ميّتاً، المفسّرون ذكروا بهذا الشأن إحتمالات متعدّدة منها:

أوّلا: بقاء الإثنين ـ أي يونس والحوت ـ أحياء، ويونس يبقى إلى يوم القيامة مسجوناً في بطن الحوت.

ثانياً: وفاة يونس، وبقاء الحوت حيّاً بإعتباره قبراً متحركاً لجثّة يونس.

ثالثاً: وفاة الإثنين، وهنا يكون بطن الحوت قبراً ليونس، والأرض قبراً للحوت، حيث يدفن في قلب الحوت، والحوت يدفن في باطن الأرض إلى يوم القيامة.

الآية مورد البحث لا تدلّ على أي من الإحتمالات التي ذكرناها، فهناك آيات عديدة في القرآن الكريم تؤكّد موت الجميع في آخر الزمان، لذا فإنّ بقاء يونس أو الحوت أحياء حتّى يوم القيامة غير ممكن، وبهذا يعدّ الإحتمال الثالث أقرب الإحتمالات إلى الواقع(1).

وهناك إحتمال آخر يقول: إنّ هذه العبارة هي كناية عن طول المدّة، وتعني أنّه سيبقى لمدّة طويلة في هذا السجن.

ولا ننسى أنّ هذه الاُمور كان يمكن أن تتحقّق لو أنّه كان قد ترك تسبيح الله والتوبة إليه، ولكن الذي حدث أنّ تسبيحه وتوبته جعلاه مشمولا بالعفو الإلهي.

ويضيف القرآن، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتا، وهو مريض (فنبذناه بالعراء وهو سقيم).

فالحوت الضخم لفظ يونس ـ الذي لم يكن غذاءً صالحاً لذلك الحوت ـ على ساحل خال من الزرع والنبات، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثر على سلامة وصحّة جسم يونس، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

________________________________

1 ـ الملفت للنظر أنّ المفسّر الكبير العلاّمة (الطبرسي) الذي غالباً ما يجمع الآراء المختلفة في ذيل الآيات، إقتنع هنا بإيراد إحتمال واحد فقط، والذي يقول (لصار بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة).

[ 404 ]

إنّنا لا نعلم كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت، فمن المسلّم به أنّه لا يمكن تجنّب المؤثّرات هناك مهما كانت الفترة الزمنية التي قضاها في بطن الحوت، صحيح أنّ الأمر الإلهي كان قد صدر في أن لا يهضم يونس داخل بطن الحوت، ولكن هذا لا يعني أن لا يتأثّر بعض الشيء بمؤثّرات ذلك السجن، لذا فقد كتب بعض المفسّرون أنّ يونس خرج من بطن الحوت وكأنّه فرخ دجاجة ضعيف وهزيل جدّاً لا يمتلك القدرة على الحركة.

مرّة اُخرى شمله اللطف الإلهي، لأنّ جمسه كان مريضاً ومتعباً، وكلّ عضو من أعضاء جسمه كان مرهقاً وعاجزاً، وكانت حرارة الشمس تؤذيه، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين).

(اليقطين) تعني ـ كما قال أصحاب اللغة والتّفسير ـ كلّ نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكن الكثير من المفسّرين ورواة الحديث أعلنوا بأنّ المقصود من (اليقطين) هو (القرع)، والذي يجب الإلتفات إليه أنّ كلمة «الشجرة» في اللغة العربية تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان، وبعبارة اُخرى: تشمل كلّ الأشجار والنباتات، ونقلوا حديثاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالوا فيه: إنّ شخصاً سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّك تحبّ القرع؟ فأجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أجل هي شجرة أخي يونس»(1).

وقيل: إنّ أوراق شجرة القرع، إضافةً إلى أنّها كانت كبيرة ورطبة جدّاً ويمكن الإستفادة منها كظلّ جيّد، فإنّ الذباب لا يتجمّع حول هذه الأوراق، ولهذا فإنّ يونس (عليه السلام) التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشمس ومن الحشرات في

________________________________

1 ـ روح المعاني، المجلّد 7، الصفحة 489.

[ 405 ]

نفس الوقت، إذ أنّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدّى إلى أن يصبح جلده رقيقاً جدّاً وحسّاساً، بحيث يتألّم إن استقرّت عليه حشرة.

ويحتمل أنّ الباري عزّوجلّ يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه ليونس في بطن الحوت، إذ كان عليه أن يحسّ بتأثير حرارة الشمس على جلده الرقيق، كي يبذل جهداً وسعياً أكثر ـ عندما يتسلّم القيادة في المستقبل ـ لإنقاذ اُمّته من نار جهنّم، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعدّدة(1).

نترك الحديث عن يونس ونعود إلى قومه، فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجوداً في المدينة، واتّخاذه قائداً لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.

وورد في روايات اُخرى أنّهم خرجوا إلى الصحراء، وفرّقوا بين المرأة وطفلها، وحتّى بين الحيوانات وأطفالها، وجلسوا يبكون وينتحبون بأعلى أصواتهم، داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي الله يونس.

وهنا أزاح الله عنهم سُحُب العذاب وأنزلها على الجبال، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف الله(2).

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ليرى ماذا صنع بهم العذاب الإلهي؟ ولكن ما إن عاد إلى قومه حتّى فوجىء بأمر أثار عنده الدهشة والعجب، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام، وهم اليوم يوحّدون الله سبحانه.

القرآن يقول هنا: (وأرسلناه إلى مائة الف أو يزيدون) كانوا قد آمنوا بالله،

________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 436، الحديث 116.2 ـ نقل صاحب تفسير البرهان، وفي المجلّد 4، الصفحة 35 هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام).

[ 406 ]

واُغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة، (فآمنوا فمتّعناهم إلى حين).

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتّعون بإيمان بسيط، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره.

ويتبيّن من آيات القرآن الكريم أنّ يونس (عليه السلام) بعث من جديد إلى قومه السابقين، أمّا الذين قالوا: إنّه بعث إلى قوم آخرين، فقولهم لا يتناسب مع ظاهر الآيات.

لأنّنا نقرأ من جهة قوله تعالى: (فآمنوا فمتّعناهم إلى حين) يعني أنّ القوم الذين بعثنا إليهم يونس كانوا قوماً مؤمنين، وأنّنا قد أغدقنا عليهم النعم لمدّة محدودة. ومن جهة اُخرى، فقد ورد نفس هذا التعبير في سورة يونس بشأن قومه السابقين، وذلك في الآية (98) (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتّعناهم إلى حين).

ومن هنا يتّضح أنّ المراد من (إلى حين) هو لفترة معيّنة، أي إلى نهاية حياتهم وحلول أجلهم الطبيعي.

سؤال يطرح نفسه: لماذا قالت الآية المذكورة أعلاه: (مائة ألف أو يزيدون)؟ وما المقصود من يزيدون أي عدد بعد المئة ألف؟ المفسّرون أعطوا تفسيرات مختلفة لها، ولكن الظاهر أنّ مثل هذه العبارات تأتي لتأكيد شيء ما، وإعطائه هالة من العظمة، وليس لخلق حالة من الترديد والشكّ(1).

 

* * *

 

________________________________

1 ـ لهذا فإنّ (أو) هنا تأتي بمعنى، (بل).

[ 407 ]

بحوث

1 ـ عرض موجز لحياة يونس

(عليه السلام)

(يونس) بن (متى) ويلقّب بـ (ذي النون) أي صاحب الحوت، وقد اُعطي هذا اللقب لأنّ قصّته إرتبطت بالحوت، وهو من المعروفين، وعلى الظاهر أنّه ولد بعد موسى وهارون.

وقال البعض: إنّه من أولاد (هود) وقد كلّف من قبل الباري عزّوجلّ بهداية من تبقّى من قوم ثمود.

والمنطقة التي بعث إليها كانت إحدى مناطق العراق وتسمّى (نينوى)(1).

وقال البعض: إنّ بعثته كانت قبل ولادة المسيح (عليه السلام) بحوالي (825) عاماً، وحالياً هناك قبر قرب مدينة الكوفة على ضعاف النهر يعرف بقبر (يونس).

وجاء في بعض الكتب أنّ يونس كان من أبناء بني إسرائيل وبعث إلى أهل نينوى بعد سليمان. وقد شرح كتاب (يوناه) أحد كتب التوراة العهد القديم في بحوث مفصّلة حياة النّبي يونس وتحت عنوان (يوناه بن متى). وطبقاً لما جاء في هذا الكتاب، فإنّ يونس كان مكلّفاً بالذهاب إلى مدينة (نينوى) الكبيرة، ومجابهة شرور الطغاة هناك.

ثمّ تذكر التوراة حوادث اُخرى، تشبه كثيراً ما جاء في القرآن، مع وجود إختلاف، وهو أنّ الروايات الإسلامية تقول: إنّ يونس دعا قومه إلى التوحيد ونفّذ ما أُوكل إليه في هذا المجال، وبعد أن رفض قومه دعوته دعا عليهم وتركهم وحصل له ما حصل في حادثة السفينة والحوت، ولكن التوراة ذكرت عبارة غير مقبولة، إذ قالت: إنّ يونس طلب قبل بعثه إلى قومه أن يعفى من هذه المهمّة، ولهذا

________________________________

1 ـ نينوى، اسم عدّة مناطق; الاُولى: مدينة قرب الموصل، والاُخرى في ضواحي الكوفة في جهة كربلاء، ومدينة في آسيا الصغرى، عاصمة مملكة آشور وتقع عاى ضفاف نهر دجلة (دائرة المعارف ده خدا) والبعض الآخر قال: إنّ نينوى هي أكبر مدن مملكة آشور الواقعة في الضفّة الشرقية لنهر دجلة وقد بنيت مقابل الموصل (معجم قصص القرآن).

[ 408 ]

توقّف عن الدعوة وإنهزم وحصلت له حادثة السفينة والحوت.

والذي يثير العجب أكثر أنّ التوراة تقول: إنّ يونس تألّم وغضب كثيراً عندما أزال الله سبحانه وتعالى العذاب عن قومه بعد ما أعلنوا توبتهم(1).

 

وجاء في أحد فصول التوراة ـ أيضاً ـ أنّ يونس بعث مرّتين، إمتنع في الاُولى وابتلي بذلك المصير المؤلم، وفي المرّة الثانية بعث أيضاً إلى المدينة (نينوى) نفسها، وكان أهلها قد تيقّظوا من غفلتهم وآمنوا بالله، وتابوا إليه وشملهم العفو الإلهي، ذلك العفو الذي لم يفرح قلب يونس.

وبمقارنة ما جاء في القرآن المجيد والروايات الإسلامية مع ما جاء في كتاب التوراة الحالي يتّضح إلى أي درجة تحطّ (التوراة المحرّفة) من شأن نبي الله يونس، فأحياناً ينسب إليه عدم قبوله حمل الرسالة التي كلّف بها، وأحياناً غضبه وسخطه على قرار الله سبحانه وتعالى بشمول قومه التائبين بالعفو والرحمة. وهذا يدلّ على أنّ التوراة الحالية كتاب لا يمكن الإعتماد عليه بأي شكل من الأشكال.

على أيّة حال، فإنّ يونس من الأنبياء الكبار الذين ذكرهم القرآن بأحسن وأفضل الذكر.

 

2 ـ كيف بقي يونس حيّاً في بطن الحوت؟

قلنا: إنّه ليس هناك دليل واضح يبيّن كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت؟ هل أنّها كانت عدّة ساعات أم عدّة أيّام أم عدّة أسابيع؟

فقد ورد في بعض الروايات أنّه أمضى (9) ساعات في بطن الحوت، فيما قالت روايات اُخرى: إنّه أمضى ثلاثة أيّام، وأكّدت اُخرى أنّه أمضى أكثر، حتّى أنّ البعض قال: إنّه أمضى (40) يوماً في بطن الحوت.

________________________________

1 ـ (التوراة) كتاب (النّبي يوناه) الفصل الأوّل والثاني والثالث والرابع.

[ 409 ]

ولكن لا يوجد لدينا دليل ثابت على أي من هذه الأقوال.

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم نقلا عن حديث لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أنّ يونس أمضى (9) ساعات في بطن الحوت(1).

وقال بعض المفسّرين من أهل السنّة: إنّ المدّة التي أمضاها يونس في بطن الحوت كانت ساعة واحدة فقط(2).

وكم كانت المدّة؟ فإنّ مثل هذا الأمر ـ من دون أي شكّ ـ يعدّ أمراً غير عادي، حيث أنّ الإنسان لا يستطيع أن يبقى حيّاً لعدّة دقائق في محيط فارغ من الهواء، وإذا رأينا أنّ الجنين يعيش عدّة أشهر في بطن اُمّه حيّاً، فإنّما ذلك بسبب عدم عمل أجهزته التنفسّية وحصوله على الأوكسجين اللازم عن طريق دم والدته.

ووفقاً لهذا فإنّ ما جرى ليونس إنّما هو معجزة من دون أي شكّ، وهذه ليست المعجزة الاُولى التي نصادفها في القرآن المجيد، فالباري عزّوجلّ ـ الذي حفظ إبراهيم (عليه السلام) في وسط النار، وأنقذ موسى وبني إسرائيل من الغرق بعد أن أوجد لهم طريقاً يابساً وسط البحر، وخلّص نوحاً من الطوفان العظيم بواسطة سفينة بسيطة ليهبط من بعد على الأرض اليابسة بسلام ـ قادر على حفظ عبد من عباده المخلصين مدّة من الزمن في بطن الحوت.

وبالطبع فإنّ وجود مثل تلك الحيتان الكبيرة في الماضي والحاضر لا يعدّ أمراً عجيباً، إذ يوجد حالياً نوع من أنواع الحيتان يطلق عليه اسم (بالن) طوله أكثر من (30) متراً ويعدّ أكبر حيوان على وجه الأرض، وقلبه يزن طنّاً واحداً.

في هذه السورة طالعنا قصص الأنبياء السابقين الذين نجوا بإعجاز من قبضة البلاء، ويونس كان آخرهم في هذه السلسلة.

________________________________

1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، وفقاً لما ورد في نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 436.2 ـ تفسير القرطبي، المجلّد 8، الصفحة 567.

[ 410 ]

3 ـ دروس وعبر كبيرة في قصص صغيرة:

وكما نعرف، فإنّ إستعراض القرآن لهذه القصص يهدف إلى تربية الإنسان، لأنّ القرآن ليس كتاب قصص وإنّما هو كتاب هدفه بناء الإنسان وتربيته.

من هذه القصّة العجيبة يمكن إستخلاص الكثير من المواعظ والعبر:

أ ـ ترك النّبي للعمل بالأولى يعدّ أمراً مهمّاً عند الله، ويؤدّي إلى مجازاة ذلك النبي، لأنّ مرتبة الأنبياء عالية جدّاً، وأبسط غفلة منهم تعادل ذنباً كبيراً يرتكبه عوام الناس، ولهذا السبب أطلق الله سبحانه وتعالى تسمية (الآبق) على عبده يونس في هذه الآية، والتي تعني العبد الهارب.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ ركّاب السفينة كانوا يقولون: هناك شخص عاص بيننا!

وعاقبة الأمر أنّ الباري عزّوجلّ إبتلاه بسجن رهيب، ثمّ أنقذه منه بعد أن تاب وعاد إلى الله، وكان منهار القوى مريضاً.

ذلك ليعرف الجميع أنّ التواني غير مقبول من أي أحد، فعظمة مرتبة أنبياء وأولياء الله إنّما يحصلون عليها من طاعتهم الخالصة لأوامر الله سبحانه وتعالى، وإلاّ فالله لا تربطه صلة قربى مع أي أحد، وإنّ الموقف الحازم الذي اتّخذه الله تجاه عبده يونس يوضّح عظمة مرتبة هذا النّبي الكبير.

ب ـ أحداث هذه القصّة (وخاصّة ما ورد في الآية (87) من سورة الأنبياء) كشفت عن سبيل نجاة المومنين من الغمّ والحزن والإبتلاءات والمشاكل، وهو نفس السبيل الذي إنتهجه يونس، وهو إعترافه بخطئه أمام الله وتسبيحه الله وتنزيهه والعودة إليه.

ج ـ هذه القصّة توضّح كيف أنّ قوماً مذنبين مستحقّين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التأريخية، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهيّة، وإنقاذ أنفسهم من العذاب، وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الأوان،

[ 411 ]

وإنتخاب شخص «عالم» قائداً لهم.

د ـ هذه الحادثة تبيّن أنّ الإيمان بالله والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية وتجعلها في إختيار الإنسان، وتوجد حالة من العمران والبناء، وتطيل الأعمار، ونظير هذا المعنى ورد أيضاً في قصّة نوح (عليه السلام) والذي سنقرأ شرحه بعون الله في تفسير سورة نوح.

هـ ـ أخيراً فإنّ مجريات هذه القصّة تستعرض قدرة الباري عزّوجلّ العظيمة التي لا يقف أمامها شيء ولا يصعب عليها شيء، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي، وإخراجه سالماً من هناك، هذا الأمر يبيّن أنّ كلّ ما هو موجود في هذا الكون هو أداة بيده تعالى ومسخّر لأوامره.

 

4 ـ الجواب على سؤال:

هنا يطرح هذا السؤال: عند بيان قصص الأقوام الاُخرى في القرآن المجيد، نلاحظ أنّه عند نزول العذاب عليهم (عذاب الإستئصال الذي كان ينال كلّ الأقوام الطاغية والمتجبّرة) لا تكون التوبة مقبولة والإنابة مؤثّرة، فكيف استثني قوم يونس من هذا الأمر؟

هناك إجابتان على هذا السؤال:

الاُولى: هي أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم، لأنّهم بمجرّد أن شاهدوا دلائل بسيطة تنذر بالعذاب، استغلّوا هذه الفرصة وآمنوا بالله وتابوا إليه قبل حلول البلاء.

الثانية: أنّ عذابهم لم يكن لإهلاكهم، وإنّما كان بمثابة تنبيه وتأديب لهم قبل نزول العذاب المهلك، وهو الاُسلوب الذي كان يتّبع مع الأقوام السابقة، أي تظهر لهم بعض دلائل العذاب كآخر فرصة لهم، فإن آمنوا كفّ الله عنهم العذاب، وإن بقوا على طغيانهم أنزل الله العذاب عليهم ليهلكهم عن آخرهم، كما عذّب قوم فرعون بمختلف أنواع العذاب قبل أن يغرقهم الله في البحر.

[ 412 ]

5 ـ القرعة ومشروعيتها في الإسلام:

وردت أحاديث متعدّدة بشأن القرعة ومشروعيتها في الإسلام، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) «أي قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله، أليس الله عزّوجلّ يقول: (فساهم فكان من المدحضين)»(1).

وهذا إشارة إلى أنّ القرعة هي طريق الحلّ الصحيح في حالة إستعصاء أمر ما وعدم وجود طريق آخر لحلّه، وتفويض الأمر لله كما جاء في قصّة يونس حيث إنطبقت تماماً مع الواقع.

وهذا المعنى ورد بصراحة في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال فيه: «ليس من قوم تنازعوا (تقارعوا) ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلاّ خرج لهم المحقّ»(2).

ومن يريد الإطلاع أكثر على هذه المسألة فليراجع كتاب القواعد الفقهيّة (للمؤلّف).

 

* * *

________________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلّد 4، الصفحة 37 الحديث 6.2 ـ (الوسائل) كتاب القضاء، المجلّد 18، باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة في أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى (الباب 13) الحديث (5).

[ 413 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَئِكَةَ إِنَثاً وَهُمْ شَـهِدُونَ (150) أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَـنٌ مُّبِينٌ(156)فَأْتُوا بِكِتَـبِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُـحْضَرُونَ (158) سُبْحَـنَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُـخْلَصِينَ (160)

 

التّفسير

التهم القبيحة:

بعد إستعراض ستّ قصص من قصص الأنبياء السابقين، وإستخلاص الدروس التربوية منها، يغيّر القرآن موضوع الحديث، ويتناول موضوعاً آخر يرتبط بمشركي مكّة آنذاك، ويستعرض لنا أنماطاً مختلفة من شركهم ويحاكمهم بشدّة، ثمّ يدحض بالأدلّة القاطعة أفكارهم الخرافية.

[ 414 ]

والقضيّة هي أنّ مجموعة من المشركين العرب وبسبب جهلهم وسطحيّة تفكيرهم كانوا يقيسون الله عزّوجلّ بأنفسهم، ويقولون: إنّ لله عزّوجلّ أولاداً، وأحياناً يقولون: إنّ له زوجة.

قبائل (جهينة) و (سليم) و (خزاعة) و (بني مليح) كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هي بنات الله عزّوجلّ، ومجموعة اُخرى من المشركين كانت تعتقد أنّ (الجنّ) هم أولاد الله عزّوجلّ، فيما قال البعض الآخر: إنّ (الجنّ) هم زوجات الله عزّوجلّ.

الأوهام الخرافية هذه، كانت السبب الرئيسي لإنحرافهم عن طريق الحقّ بصورة زالت معها كلّ آثار التوحيد والإعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى من قلوبهم.

وقد ورد في أحد الأحاديث أنّ النمل يتصوّر أنّ لخالقه قرنين إثنين مثلما هي تمتلك.

نعم، العقل الناقص للإنسان يدفعه إلى المقارنة، المقارنة بين الخالق والمخلوق، وهذه المقارنة من أسوأ الأسباب التي تؤدّي بالإنسان إلى الضلال عن معرفة الله.

على أيّة حال، فالقرآن الكريم يردّ على الذين يتصوّرون أنّ الملائكة هي بنات الله بثلاث طرق، أحدها تجريبي، والآخر عقلي، والثالث نقلي، وفي البداية يقول، اسألهم هل أنّ الله تعالى خصّ نفسه بالبنات، وخصّهم بالبنين، (فاستفتهم ألربّك البنات ولهم البنون).

وكيف تنسبون ما لا تقبلون به لأنفسكم إلى الله، حيث أنّهم طبق عقائدهم الباطلة كانوا يكرهون البنات بشدّة ويحبّون الأولاد كثيراً، فالأولاد كان لهم دوراً مؤثّراً خلال الحرب والإغارة على بقيّة القبائل، في حين أنّ البنات عاجزات عن تقديم مثل هذه المساعدة.

ومن دون أي شكّ فإنّ الولد والبنت من حيث وجهة النظر الإنسانية، ومن حيث التقييم عند الله سبحانه وتعالى متساوون، وميزان شخصيتهم هو التقوى

[ 415 ]

والطهارة، وإستدلال القرآن هنا إنّما يأتي من باب (ذكر مسلّمات الخصم) ومن ثمّ ردّها عليه. وشبيه هذا المعنى ورد في سور اُخرى من سور القرآن، ومنها ما جاء في الآية (21 و22) من سورة النجم (ألكم الذكر وله الاُنثى. تلك إذاً قسمة ضيزى)!.

ثمّ ينتقل الحديث إلى عرض دليل حسّي على المسألة هذه، وبشكل إستفهام إستنكاري، قال تعالى: (أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون).

ومن دون أي شكّ فإنّ جوابهم في هذا المجال سلبي، إذ لم يستطع أحداً منهم الإدّعاء بأنّه كان موجوداً أثناء خلق الملائكة.

مرّة اُخرى يطرح القرآن الدليل العقلي المقتبس من مسلّماتهم الذهنية ويقول: (ألا إنّهم من إفكهم ليقولون. ولد الله وإنّهم لكاذبون. إصطفى البنات على البنين).

هل تدركون ما تقولون وكيف تحكمون: (ما لكم كيف تحكمون

ألم يحن الوقت الذي تتركون فيه هذه الخرافات والأوهام القبيحة والتافهة؟ (أفلا تذكرون

إذن أنّ هذا الكلام باطل من الأساس بحيث لو أنّ أي إنسان له ذرّة من عقل ودراية، ويتفكّر في الأمر جيّداً، لأدرك بطلان هذه المزاعم.

بعد إثبات بطلان إدّعاءاتهم الخرافية بدليل تجريبي وآخر عقلي، ننتقل إلى الدليل الثالث وهو الدليل النقلي، حيث يقول القرآن الكريم مخاطباً إيّاهم: لو كان ما تزعمونه صحيحاً لذكرته الكتب السابقة، فهل يوجد لديكم دليل واضح عليه، (أم لكم سلطان مبين).

وإذا كنتم صادقين في قولكم فأتوا بذلك الكتاب (فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين).

هذا الإدّعاء في أي كتاب موجود؟ وفي أي وحي مذكور؟ وعلى أي رسول نزل؟

[ 416 ]

هذا القول يشبه بقيّة الأقوال التي يخاطب بها القرآن عبدة الأصنام (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً اشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون. أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون).

كلاّ، إنّها لم ترد في الكتب السماوية، بل انّها خرافات إنتقلت من جيل إلى جيل ومن جهلة إلى آخرين، وإنّها دعاوي مرفوضة ولا أساس لها، كما اُشير إليها في نهاية الآيات المذكورة أعلاه (أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون).

الآية اللاحقة تطرّقت إلى خرافة اُخرى من خرافات مشركي العرب، والتي تزعم بوجود نسبة بين الله عزّوجلّ والجنّ، فالآية هنا لا تخاطبهم بصورة مباشرة وإنّما تخاطبهم بضمير الغائب، لأنّهم اُناس تافهون، ولا تتوفّر فيهم الكفاءة واللياقة للردّ على زعمهم (وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً).

فما هي النسبة الموجودة بين الله والجن؟

وردت عدّة تفاسير مختلفة لهذا السؤال، منها:

قال البعض: إنّهم كانوا ثنويين، ويعتقدون (نعوذ بالله) أنّ الله والشيطان إخوة، الله خالق المحبّة، والشيطان خالق الشرور.

وهذا التّفسير مستبعد، لأنّ المذهب الثنوي لم يكن معروفاً عند العرب، بل كان منتشراً في إيران خلال عهد الساسانيين.

واعتبر البعض الآخر الجنّ هم نفس الملائكة، لأنّ الجنّ موجودات لا تدركها الأبصار، والملائكة كذلك، ولذلك أطلقوا كلمة «الجنّ» عليها. إذاً، فالمراد من النسبة هي النسبة التي كان يدّعيها عرب الجاهلية من أنّ الملائكة بنات الله.

ويرد على هذا التّفسير أنّ ظاهر آيات بحثنا انّها تبحث في موضوعين، إضافةً إلى أنّ إطلاق كلمة (الجنّ) على الملائكة غير وارد وخاصّة في القرآن الكريم.

وهناك تفسير ثالث يقول: إنّهم كانوا يعتبرون (الجنّ) زوجات الله، فيما

[ 417 ]

يعتبرون الملائكة بناته.

وهذا التّفسير مستبعد أيضاً، لأنّ إطلاق كلمة «نسب» على الزوجة غير وارد.

والتّفسير الذي يعدّ أنسب من الجميع، هو أنّ المراد من كلمة (نسب) كلّ أشكال الرابطة والعلاقة، حتّى ولو لم يكن هناك أي صلة للقرابة فيها، وكما نعلم فإنّ مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجنّ ويزعمون أنّها شركاء لله، ولهذا كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين الله.

على أيّة حال، فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدّة، ويقول: إنّ الجنّ الذين كان المشركون يعبدونها ويقولون بوجود نسبة بينها وبين الله، يعلمون جيّداً أنّ المشركين سيحضرون في محكمة العدل الإلهي وسيحاسبون ويجزون (ولقد علمت الجنّة إنّهم لمحضرون).

والبعض الآخر احتمل أن يكون تفسير الآية بالشكل التالي: إنّ الجنّ الذين يغوون الناس يعلمون أنّهم يوم القيامة سيحضرون في محكمة العدل الإلهي ليحاسبوا وينالوا جزاءهم.

ولكن التّفسير الأوّل يعدّ أنسب(1).

ونزّه الله تعالى نفسه عمّا قاله اُولئك الضالّون في صفاته تعالى، قائلا: (سبحان الله عمّا يصفون). وإستثنى وصف عباده المخلصين (الذين وصفوه عن علم ومعرفة ودراية) حيث وصفوه بما يليق بذاته المقدّسة، قال تعالى: (إلاّ عباد الله المخلصين).

وبهذا الشكل فإنّ من النادر أن نسمع اُناساً عاديين يصفون الله سبحانه وتعالى وصفاً لائقاً، كما يصفه عباده المخلصون، العباد الخالصون من كلّ أشكال الشرك وهوى النفس والجهل والضلال، والذين لا يصفون الباري عزّوجلّ إلاّ بما سمح

________________________________

1 ـ الضمير (هم) يعود في الحالة الاُولى على المشركين، وفي الحالة الثانية على (الجنّ).

[ 418 ]

لهم به(1).

وحول عبارة (عباد الله المخلصين) فقد كان لنا بحث في نهاية الآية (128) من هذه السورة.

نعم، فلمعرفة الله لا ينبغي اتّباع الخرافات الواردة عن أقوام الجاهلية التي يخجل الإنسان من ذكرها، بل يجب اتّباع العباد المخلصين الذين يتحدّثون بأحاديث تجعل روح الإنسان محلّقة في عنان السماء، وتذيبها في أنوار الوحدانية، وتطهّر القلب من كلّ شائبة شرك، وتمحو كلّ تجسيم وتشبيه لله من ذهن الإنسان.

ينبغي لنا مراجعة كلمات الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) في صحيفته، كي نستنير بضياء وصفهم له جلّ وعلا.

فأمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول في إحدى كلماته: «لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى الله عمّا يقوله المشبهون والجاحدون له علوّاً كبيراً»(2).

وفي مكان آخر يصف الله عزّوجلّ بالقول: «لا تناله الأوهام فتقدّره، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره، ولا تدركه الحواس فتحسّه، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه، ولا يتغيّر بحال، ولا يتبدّل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيّام، ولا يغيّره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال له حدّ ولا نهاية، ولا إنقطاع

________________________________

1 ـ وفقاً لهذا التّفسير، فإنّ عبارة (إلاّ عباد الله) إستثناء منقطع من ضمير (يصفون)، والبعض قال: إنّه إستثناء منقطع من ضمير (محضرون) كما ذكروا آراء مختلفة اُخرى، ولكن الرأي الأوّل أنسب. وعلى كلّ حال فهو إستثناء منقطع.2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 49.

[ 419 ]

 ولا غاية»(1).

وفي مكان ثالث يقول: «ومن قال فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال علام؟ فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة»(2).

أمّا الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، فقد قال في صحيفته السجّادية: «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين»(3).

نعم، فلمعرفة الله جيّداً علينا مراجعة نهج هؤلاء (عباد الله المخلصين) ودراسة علوم معرفة الله في مدارسهم.

* * *

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 186.2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 1.3 ـ الدعاء الأوّل في الصحيفة السجّادية.

[ 420 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَـتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ(167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الاَْوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُـخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(170)

 

التّفسير

الإدّعاءات الكاذبة:

الآيات السابقة تحدّثت عن الآلهة المختلفة التي كان المشركون يعبدونها، أمّا الآيات ـ التي هي مورد بحثنا الآن ـ فتتابع ذلك الموضوع، حيث توضّح في كلّ بضع آيات موضوعاً يتعلّق بهذا الأمر.

بداية البحث تؤكّد الآيات على أنّ وساوس عبدة الأصنام لا تؤثّر على الطاهرين والمحسنين، وإنّما ـ قلوبكم المريضة وأرواحكم الخبيثة هي التي تستسلم لتلك الوساوس، قال تعالى: (فإنّكم وما تعبدون).

نعم، أنتم وما تعبدون لا تستطيعون خداع أحد بوسائل الفتنة والفساد عن

[ 421 ]

الطريق المؤدّي إلى الله (ما أنتم عليه بفاتنين)(1) إلاّ اُولئك الذين يريدون أن يحترقوا في نار جهنّم (إلاّ من هو صالّ الجحيم).

هذه الآيات ـ خلافاً لما يتصوّره أتباع مذهب الجبر ـ دليل ضدّ هذا المذهب، وهي إشارة إلى أنّه لا يعذر أي أحد إنحرف عن الطريق المستقيم، مدّعياً أنّه قد خدع، وإنحرافه وعبادته للأوثان بسبب هذه الوساوس، ولذا تقول الآيات المباركة، أنتم ـ المشركون ـ لا قدرة لديكم على إضلال الأشخاص وخداعهم، إلاّ إذا كان اُولئك يتّجهون بإرادتهم نحو صراط الجحيم.

وعبارة (صالّ الجحيم) شاهد على الكلام المذكور أعلاه، لأنّ كلمة (صالي) جاءت بصيغة اسم الفاعل، وعندما تستخدم أي كلمة بصيغة اسم الفاعل بشأن موجود عاقل فإنّها تعطي مفهوم تنفيذ العمل بإرادته وإختياره، مثل (قاتل) و (جالس) و (ضارب)، إذن فإنّ (صالّ الجحيم) تعني رغبة الشخص في الإحتراق بنار جهنّم، وبهذا تغلق كافّة طرق الأعذار أمام كلّ المنحرفين.

والذي يثير العجب أنّ بعض المفسّرين المعروفين فسّروا الآية بالمعنى التالي: (إنّكم لا تستطيعون خداع أحد، إن لم يكن مقدّراً له الإحتراق بنار جهنّم).

إن كان حقّاً هذا هو معنى الآية، فلِمَ يبعث الأنبياء؟ ولأي سبب تنزل الكتب السماوية؟ وما معنى محاسبة ولوم وتوبيخ عبدة الأوثان يوم القيامة التي نصّت عليها الآيات القرآنية؟ وأين ذهب عدل الباري عزّوجلّ؟

نعم، يجب قبول هذه الحقيقة، وهي انّ الإقرار بمبدأ الجبر ضدّ مبدأ الأنبياء

________________________________

1 ـ التركيب النحوي لهذه الآية والتي تسبقها والاُخرى التي تأتي بعدها، وكما هو مشهور كذلك، (ما) في جملة (ما تعبدون) هي (ما) الموصولة معطوفة على اسم أنّ، وجملة (ما أنتم عليه بفاتنين) خبرها. و (ما) في (ما أنتم) نافية، وضمير (عليه) يعود على الله سبحانه وتعالى، وفي مجموعها نحصل على ما يلي (إنّكم وآلهتكم التي تعبدونها لا تقدرون على إضلال أحد على الله بسببها إلاّ من يحترق بنار الجحيم بسوء إختياره).والبعض الآخر إعتبر الآية (إنّكم وما تعبدون) كلاماً تامّاً مستقلا وتعني أنّكم وآلهتكم، ثمّ تقول في الآية التالية: ما أنتم بحاملين على عبادة ما تعبدونه إلاّ من هو صالّ الجحيم.

[ 422 ]

تماماً، ويمسخ كلّ المفاهيم التي بعثوا من أجل ترسيخها، ويقضي على كلّ القيم الإلهية والإنسانية.

ومن الضروري الإلتفات إلى هذه النقطة وهي أنّ (صالي) مشتقّة من (صلى) وتعني إشعال النار والدخول فيها أو الإحتراق بها و (فاتن) إسم فاعل مشتقّة من (فتنة) وتعني الذي يثير الفتن والذي يضلّ الآخرين.

بعد إنتهاء بحثنا حول الآيات الثلاث السابقة التي وضّحت مسألة إختيار الإنسان في مقابل فتن وإغراءات عبدة الأصنام، نواصل بحثنا حول الآيات الثلاث التالية والتي تتناول المرتبة العالية لملائكة الله، وتقول مخاطبة عبدة الأصنام: إنّ الملائكة التي كنتم تزعمون أنّها بنات الله لها مقام معيّن، والجميل في هذه العبارة أنّ الملائكة هي التي تتحدّث عن نفسها (وما منّا إلاّ له مقام معلوم)(1).

وتضيف ملائكة الرحمن: وإنّنا جميعاً مصطفون عند الله في إنتظار أوامره، (وإنّا لنحن الصافّون).

وإنّنا جميعاً نسبّحه، وننزّه عمّا لا يليق بساحة كبريائه (وإنّا لنحن المسبّحون).

نعم، نحن عباد الله، وقد وضعنا أرواحنا على الأكف بإنتظار سماع أوامره، إنّنا لسنا أبناء الله، إنّنا ننزّه الباري عزّوجلّ من تلك المزاعم الكاذبة والقبيحة وإنّنا منزعجين ومشمئزّين من خرافات وأوهام المشركين.

في الحقيقة، إنّ الآيات المذكورة أعلاه أشارت إلى ثلاث صفات من صفات الملائكة.

الاُولى: هي أنّ لكلّ واحد منهم مقام معيّن ومشخّص ليس له أن يتعدّاه.

________________________________

1 ـ نقرأ في بعض الرّوايات التي نقلت عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الأئمّة المعصومين هم المقصودون في هذه الآية، ومن الممكن أن يكون هذا التّفسير من قبيل تشبيه مقام الأئمّة بالملائكة، أي كما أنّ للملائكة مقاماً وتكليفاً معيّناً، فإنّ لنا مقاماً وتكليفاً معيّناً أيضاً.

[ 423 ]

والثانية: هي أنّهم مستعدّون دائماً لإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها في عالم الوجود، وهذا الشيء مشابه لما ورد في الآيتين (26) و (27) من سورة الأنبياء (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون).

والثالثة: أنّهم يسبّحون الله دائماً وينزّهونه عمّا لا يليق بساحة كبريائه.

الآيتان (إنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون) تعطيان مفهوم الحصر في الأدب العربي، وبعض المفسّرين قالوا في تفسير هاتين الآيتين: إنّ الملائكة تريد أن تقول: نحن فقط المطيعون لأوامر الله والمسبّحون الحقيقيون له، وهذه إشارة إلى أنّ طاعة الإنسان لله تعالى وتسبيحه يعدّ لا شيء بالنسبة لطاعة وتسبيح الملائكة لله، ولا يمكن المقارنة بينهما.

والذي يلفت الإنتباه أنّ مجموعة من المفسّرين نقلوا في نهاية هذه الآيات حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال فيه: «ما في السموات موضع شبر إلاّ وعليه ملك يصلّي ويسبّح»(1).

وجاء في رواية اُخرى: «ما في السماء موضع قدم إلاّ عليه ملك ساجد أو قائم»(2).

وفي رواية ثالثة ورد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالساً مع مجموعة من أصحابه، فقال لهم: «أطت السماء وحقّ لها أن تأط! ليس فيها موضع قدم إلاّ عليه ملك راكع أو ساجد، ثمّ قرأ: (وإنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون)»(3).

العبارات المختلفة كناية لطيفة عن أنّ عالم الوجود مكتّظ بالمطيعين لأوامر الله والمسبّحين له.

الآيات الأربع الأخيرة من هذا البحث تشير إلى أحد الأعذار الواهية التي

________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، المجلّد 8، الصفحة 581.2 ـ المصدر السابق.3 ـ (الدرّ المنثور) نقلا عن تفسير الميزان المجلّد (17) الصفحة 188.

[ 424 ]

تذرّع بها المشركون فيما يخصّ هذه القضيّة وعبادتهم للأصنام، وتجيب عليهم قائلة: (وإن كانوا ليقولون)(1).

(لو أنّ عندنا ذكراً من الأوّلين) (لكنّا عباد الله المخلصين).

يقول المشركون: لا تتحدّثوا كثيراً عن عباد الله المخلصين الذين أخلصهم الله لنفسه، وعن الأنبياء العظام أمثال نوح وإبراهيم وموسى، لأنّه لو كان الله قد شملنا بلطفه وأنزل علينا أحد كتبه السماوية لكنّا في زمرة عباده المخلصين.

وهذا مشابه لما يقوله الطلاب الكسالى الراسبون في دروسهم، من أجل التغطية على كسلهم وعدم مثابرتهم، لو كان لدينا معلّم واُستاذ جيّد لكنّا من الطلبة الأوائل.

الآية التالية تقول: لقد تحقّق ما كانوا يأملونه، إذ أنزل عليهم القرآن المجيد الذي هو أكبر وأعظم الكتب السماوية، إلاّ أنّ هؤلاء الكاذبين في إدّعاءاتهم كفروا به، ولم يفوا بما قالوا، واتّخذوا موقفاً معادياً إزاءه، فسيعلمون وبال كفرهم (فكفروا به فسوف يعلمون)(2).

كفاكم كذباً وإدّعاءً، ولا تعتقدوا أنّكم أكفّاء للإنضمام إلى صفوف عباد الله المخلصين، فكذبكم واضح، وإدّعاءاتكم غير صادقة، فليس هناك كتاب خير من القرآن المجيد، ولا يوجد هناك نهج تربوي خير من نهج الإسلام، فكيف كان موقفكم من هذا الكتاب السماوي؟ فانتظروا العواقب الأليمة لكفركم وعدم إيمانكم.

 

* * *

________________________________

1 ـ (إن) مخفّفة من الثقيلة وتقديرها (وإنّهم كانوا ليقولون).2 ـ في الكلام حذف تقديره (فلمّا آتاهم الكتاب وهو القرآن كفروا به فسوف يعلمون عاقبة كفرهم).

[ 425 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ(172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـلِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ(177)

 

 

التّفسير

حزب الله هو المنتصر:

لا زلنا نتابع البحث في آيات هذه السورة المباركة، والتي شارفت على الإنتهاء، بعد أن إستعرضنا في الأبحاث السابقة جهاد الأنبياء العظام والمصاعب والعراقيل التي أثارها وأوجدها المشركون.

ففي آيات بحثنا الحالي سنتطرّق لأهمّ القضايا الواردة في هذه السورة، والتي تصوّر الخاتمة بأفضل صورة، إذ زفّت البشرى للمؤمنين بإنتصار جيش الحقّ على جيش الشيطان، الوعد الإلهي الكبير هذا إنّما جاء لبعث الأمل في صفوف المؤمنين في صدر الإسلام الذين كانوا لحظة نزول هذه الآيات يرزحون تحت ضغوط أعداء الإسلام في مكّة، ولكلّ المؤمنين والمحرومين في كلّ زمان ومكان،

[ 426 ]

ولكي يكون حافزاً لهم يدفعهم على نفض غبار اليأس عنهم، والإستعداد لجهاد ومقاومة جيوش الباطل (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنّهم لهم المنصورون).

(وإنّ جندنا لهم الغالبون)، إنّها لعبارة واضحة وصريحة، وإنّه لوعد يقوّي الروح ويبعث على الأمل.

نعم، فإنتصار جيوش الحقّ على الباطل، وغلبة جند الله، وتقديم الله سبحانه وتعالى العون لعباده المرسلين والمخلصين، هي وعود مسلّم بها وسنن قطعيّة، وذلك ما أكّدته الآية المذكورة أعلاه بعنوان (سبقت كلمتنا) أي إنّ هذا الوعد وهذه السنّة كانت موجودة منذ البداية.

نظائر كثيرة لهذا الموضوع وردت في آيات عديدة اُخرى من آيات القرآن المجيد، إذ جاء في الآية (47) من سورة الروم (وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين).

وفي الآية (40) من سورة الحجّ (ولينصرنّ الله من ينصره).

وفي الآية (51) من سورة غافر (إنّنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

وأخيراً في الآية (21) من سورة المجادلة (كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي).

وبديهي أنّ الله قادر على كلّ شيء، وليس بمخلف للوعود، ولم يكن يوماً ما ليخلف وعده، وقادر على أن يفي بهذا الوعد الكبير، كما أنزل في السابق نصره على المؤمنين به.

الوعد الإلهي من أهمّ الاُمور التي ينتظرها السائرون في طريق الحقّ بإشتياق، حيث يستمدّون منه القوى الروحية والمعنوية، ويسترفدون منه نشاطاً جديداً كلّما أحسّوا بالكلل، فتسري دماء جديدة في شرايينهم.

* * *

 

[ 427 ]

سؤال مهمّ:

وهنا يطرح السؤال التالي، وهو: إن كانت مشيئة الباري عزّوجلّ وإرادته تقضي بتقديم يد العون للأنبياء ونصرة المؤمنين، فلِمَ نشاهد إستشهاد الأنبياء على طول تأريخ الحوادث البشرية، وإنهزام المؤمنين في بعض الأحيان؟ فإن كانت هذه سنّة إلهيّة لا تقبل الخطأ، فلِمَ هذه الإستثناءات؟

ونجيب على هذا السؤال بالقول:

أوّلا: إنّ الإنتصار له معان واسعة، ولا يعطي في كلّ الأحيان معنى الإنتصار الظاهري والجسماني على العدو، فأحياناً يعني إنتصار المبدأ، وهذا هو أهمّ إنتصار، فلو فرضنا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد استشهد في إحدى الغزوات، وشريعته عمّت العالم كلّه، فهل يمكن أن نعبّر عن هذه الشهادة بالهزيمة.

وهناك مثال أوضح وهو الحسين (عليه السلام) وأصحابه الكرام حيث استشهدوا على أرض كربلاء، وكان هدفهم العمل على فضح بني اُميّة، الذين ادّعوا أنّهم خلفاء الرّسول، وكانوا في حقيقة الأمر يعملون ويسعون إلى إعادة المجتمع الإسلامي إلى عصر الجاهلية، وقد تحقّق هذا الهدف الكبير، وأدّى إستشهادهم إلى توعية المسلمين إزاء خطر بني اُميّة وإنقاذ الإسلام من خطر السقوط والضياع، فهل يمكن هنا القول بأنّ الحسين (عليه السلام) وأصحابه الكرام خسروا المعركة في كربلاء؟

المهمّ هنا أنّ الأنبياء وجنود الله ـ أي المؤمنون ـ تمكّنوا من نشر أهدافهم في الدنيا واتّبعهم اُناس كثيرون، وما زالوا يواصلون نشر مبادئهم وأفكارهم رغم الجهود المستمرّة والمنسقّة لأعداء الحقّ ضدّهم.

وهناك نوع آخر من الإنتصار، وهو الإنتصار المرحلي على العدو، والذي قد يتحقّق بعد قرون من بدء الصراع، فأحياناً يدخل جيل معركة ما ولا يحقّق فيها أي إنتصار، فتأتي الأجيال من بعده وتواصل القتال فتنتصر، كالإنتصار الذي حقّقه المسلمون في النهاية على الصليبيين في المعارك التي دامت قرابة القرنين، وهذا

[ 428 ]

النصر يحسب لجميع المسلمين.

ثانياً: يجب أن لا ننسى أنّ وعد الله سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين وعد مشروط وليس بمطلق، وأنّ الكثير من الأخطاء مصدرها عدم التوجّه إلى هذه الحقيقة، وكلمات (عبادنا) و (جندنا) التي وردت في آيات بحثنا، وغيرها من العبارات والكلمات المشابهة في هذا المجال في القرآن الكريم كعبارة (حزب الله) و (الذين جاهدوا فينا) و (لينصرنّ الله من ينصره) وأمثالها، توضّح بسهولة شروط النصر.

نحن لا نريد أن نكون مؤمنين ولا مجاهدين ولا جنوداً مخلصين، ونريد أن ننتصر على أعداء الحقّ والعدالة ونحن على هذه الحالة!

نحن نريد أن نتقدّم إلى الإمام في مسيرنا إلى الله ولكن بأفكار شيطانية، ثمّ نعجب من إنتصار الأعداء علينا، فهل وفينا نحن بوعدنا حتّى نطلب من الله سبحانه وتعالى الوفاء بوعوده.

في معركة اُحد وعد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بالنصر، وقد إنتصروا فعلا في المرحلة الاُولى من المعركة، إلاّ أنّ مخالفة البعض لأوامر الرّسول وتركهم لمواقعهم لهثاً وراء الغنائم، وسعي البعض الآخر لبثّ الفُرقة والنفاق في صفوف المقاتلين، أدّى بهم إلى الفشل في الحفاظ على النصر الذي حقّقوه في المرحلة الاُولى، وهذا ما أدّى إلى خسرانهم المعركة في نهاية الأمر.

وبعد إنتهاء المعركة جاءت مجموعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخاطبته بلهجة خاصّة: ماذا عن الوعد بالنصر والغلبة، فأجابهم القرآن الكريم بصورة لطيفة يمكنها أن تكون شاهداً لحديثنا، وهي قوله تعالى في سورة آل عمران الآية (152): (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسّونهم بإذنه حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين).

[ 429 ]

عبارات (فشلتم) و (تنازعتم) و (عصيتم) التي وردت في الآية المذكورة أعلاه، وضّحت بصورة جيّدة أنّ المسلمين في يوم اُحد تخلّوا عن شروط النصر الإلهي، لذا فشلوا في الوصول إلى أهدافهم.

نعم، فالباري عزّوجلّ لم يعد كلّ من يدّعي الإسلام وانّه من جند الله وحزب الله بأن ينصره دائماً على أعدائه. الوعد الإلهي مقطوع لمن يرجو من أعماق قلبه وروحه رضى الله سبحانه وتعالى، ويسير في النهج الذي وضعه الله، ويتحلّى بالتقوى والأمانة.

ولقد تقدّم نظير لهذا السؤال فيما يخصّ (الدعاء) و (الوعد الإلهي بالإستجابة) وتطرّقنا للإجابة عليه فيما مضى(1).

ولمواساة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وللتأكيد على أنّ النصر النهائي سيكون حليفهم، وفي نفس الوقت لتهديد المشركين، جاءت الآية التالية لتقول: (فتولّ عنهم حتّى حين).

نعم، إنّه تهديد مفعم بالمعاني ورهيب في نفس الوقت، ويمكن أن يكون مصدر إطمئنان للمؤمنين في أنّ النصر النهائي سيكون حليفهم، خاصّة أنّ عبارة (حتّى حين) جاءت بصورة غامضة.

فإلى أي مدّة تشير هذه العبارة؟ إلى زمان الهجرة؟ أم إلى حين معركة بدر؟ أم حتّى فتح مكّة؟ أم أنّها تشير إلى الزمان الذي تتوفّر فيه شروط الإنتفاضة النهائية والواسعة للمسلمين ضدّ الطغاة والمتجبّرين؟

بالضبط لا أحد يدري ..

وآيات اُخرى وردت في القرآن الكريم تحمل نفس المعنى، كالآية (81) من سورة النساء التي تقول: (فاعرض عنهم وتوكّل على الله)، والآية (91) من سورة الأنعام، قوله تعالى: (قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون).

________________________________

1 ـ راجع ذيل الآية (186) من سورة البقرة.

[ 430 ]

ويؤكّد القرآن الكريم التهديد الأوّل بتهديد آخر جاء في الآية التي تلتها، إذ تقول: انظر إلى لجاجتهم وكذبهم وإعتقادهم بالخرافات، إضافةً إلى حمقهم.

فإنّهم سيرون جزاء أعمالهم القبيحة عن قريب (وأبصرهم فسوف يبصرون)وسوف ترى في القريب العاجل إنتصارك وإنتصار المؤمنين وإنكسار وهزيمة المشركين المذلّة في الدنيا.

وعن تكرار اُولئك الحمقى لهذا السؤال على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أين العذاب الإلهي الذي واعدتنا به؟ وإن كنت صادقاً، فلِمَ هذا التأخير؟

يردّ القرآن الكريم عليهم بلهجة شديدة مرافقة بالتهديد، قائلا: اُولئك الذين يستعجلون العذاب وأحياناً يتساءلون (متى هذا الوعد) وأحياناً اُخرى يقولون متسائلين (متى هذا الفتح) (أفبعذابنا يستعجلون)؟

فعندما ينزل عذابنا عليهم، ونحيل صباحهم إلى ظلام حالك، فإنّهم في ذلك الوقت سيفهمون كم كان صباح المنذرين سيّئاً وخطيراً (فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين)(1).

إستخدام عبارة (ساحة) والتي تعني فناء البيت أو الفضاء الموجود في وسط البيت، جاء ليجسّم لهم نزول العذاب في وسط حياتهم، وكيف أنّ حياتهم الطبيعيّة ستتحوّل إلى حياة موحشة ومضطربة.

عبارة (صباح المنذرين) تشير إلى أنّ العذاب الإلهي سينزل صباحاً على هؤلاء القوم اللجوجين والمتجبّرين، كما نزل صباحاً على الأقوام السابقة، أو أنّها تعطي هذا المعنى، وهو أنّ كلّ الناس ينتظرون أن يبدأ صباحهم بالخير والإحسان، إلاّ أنّ هؤلاء ينتظرهم صباح حالك الظلمة. أو أنّها تعني وقت الإستيقاظ في الصباح، أي إنّهم يستيقظون في وقت لم يبق لهم فيه أي طريق للنجاة من العذاب، وأنّ كلّ شيء قد إنتهى.

* * *

________________________________

1 ـ في الكلام حذف تقديره (فساء الصباح صباح المنذرين).

[ 431 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (176)سُبْحَـنَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَـمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (182) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ (183)

 

التّفسير

تولّ عنهم!

كما قلنا، فإنّ الآيات الأخيرة النازلة في هذه السورة جاءت لمواساة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الحقيقيين، ولتهديد الكافرين اللجوجين.

الآيتان الأوّليان في بحثنا هذا، تشبهان الآيات التي وردت في البحث السابق، وتكرارها هنا إنّما جاء للتأكيد، إذ تقول بلغة شديدة مرفقة بالتهديد: تولّ عنهم واتركهم في شأنهم لمدّة معيّنة (وتولّ عنهم حتّى حين).

وانظر إلى لجاجة اُولئك الكافرين وكذبهم وممارساتهم العدائية ونكرانهم لوجود الله، الذين سينالون جزاء أعمالهم عمّا قريب (وأبصر فسوف يبصرون).

التكرار ـ كما قلنا ـ جاء للتأكيد، وذلك ليدرك اُولئك الكافرون أنّ جزاءهم وهزيمتهم وخيبتهم أمر قطعي لابدّ منه وسيكون ذلك عمّا قريب، وسيبتلون

[ 432 ]

بالنتائج المريرة لأعمالهم، كما أنّ إنتصار المؤمنين هو أمر قطعي ومسلّم به أيضاً.

أو أنّه هدّدهم في المرّة الاُولى بالعذاب الدنيوي، وفي المرّة الثانية بجزاء وعقاب الله لهم يوم القيامة.

ثمّ تختتم السورة بثلاثة آيات ذات عمق في المعنى بشأن (الله) و (الرسل) و (العالمين)، إذ تنزّه الله ربّ العزّة والقدرة من الأوصاف التي يصفه بها المشركون والجاهلون (سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون).

فأحياناً يصفون الملائكة بأنّها بنات الله، وأحياناً يقولون بوجود نسبة بين الله والجنّ، وأحياناً اُخرى يجعلون مصنوعات لا قيمة لها من الحجر والخشب بمرتبة الباري عزّوجلّ.

ومجيء كلمة (العزّة) ـ أي ذو القدرة المطلقة والذي لا يمكن التغلّب عليه ـ هنا تعطي معنى بطلان وعدم فائدة كلّ تلك المعبودات المزيّفة والخرافية التي يعبدها المشركون.

فآيات سورة الصافات تحدّثت أحياناً عن تسبيح وتنزيه (عباد الله المخلصين)وأحياناً عن تسبيح الملائكة، وهنا تتحدّث عن تسبيح وتنزيه الباري عزّوجلّ لذاته المقدّسة.

وفي الآية الثانية شمل الباري عزّوجلّ كافّة أنبيائه بلطفه غير المحدود، وقال: (وسلام على المرسلين). السلام الذي يوضّح السلامة والعافية من كلّ أنواع العذاب والعقاب في يوم القيامة، السلام الذي هو صمّام الأمان أمام الهزائم ودليل للإنتصار على الأعداء.

وممّا يذكر أنّ الله سبحانه وتعالى أرسل في آيات هذه السورة سلاماً إلى كثير من أنبيائه وبصورة منفصلة، قال تعالى في الآية (79) (سلام على نوح في العالمين)، وفي الآية (109) (سلام على إبراهيم)، وفي الآية (سلام على موسى وهارون)، وفي الآية (130) (سلام على آل ياسين).

[ 433 ]

وقد جمعها هنا في سلام واحد موجّه لكلّ المرسلين، قال تعالى: (وسلام على المرسلين).

وأخيراً إختتمت السورة بآية تحمد الله (والحمد لله ربّ العالمين).

الآيات الثلاث الأخيرة يمكن أن تكون إشارة وإستعراضاً مختصراً لكلّ القضايا والاُمور الموجودة في هذه السورة، لأنّ الجزء الأكبر منها كان بشأن التوحيد والجهاد ضدّ مختلف أنواع الشرك، فالآية الاُولى تعيد ما جاء بشأن تسبيح وتنزيه الله عزّوجلّ عن الصفات التي وصف بها من قبل المشركين، والقسم الآخر من السورة يبيّن جوانب من أوضاع سبع أنبياء كبار أشارت إليها هنا الآية الثانية.

والآية الثالثة إستعرضت جزءاً آخر من النعم الإلهية، وبالخصوص أنواع النعم الموجودة في الجنّة، وإنتصار جند الله على جنود الكفر، والحمد والثناء الذي جاء في الآية الأخيرة، فيه إشارة لكلّ تلك الاُمور.

المفسّرون الآخرون ذكروا تحليلات اُخرى بخصوص الآيات الثلاث الواردة في آخر هذه السورة، وقالوا: إنّ من أهمّ واجبات الإنسان العاقل معرفة أحوال ثلاثة:

الاُولى: معرفة الله تعالى بالمقدار الممكن للبشر، وآخر ما يستطيعه الإنسان في هذا المجال هو ثلاثة اُمور: تنزيهه وتقديسه عن كلّ ما لا يليق بصفات الاُلوهية، والتي وضّحتها لفظة (سبحان).

ووصفه بكلّ ما يليق بصفات الاُلوهية والكمال، وكلمة (ربّ) إشارة دالّة على حكمته ورحمته ومالكيّته لكلّ الأشياء وتربيته للموجودات.

وكونه منزّهاً في الاُلوهية عن الشريك والنظير، والتي جاءت في عبارة (عمّا يصفون).

والقضيّة الثانية المهمّة في حياة الإنسان هي تكميل الإنسان لنواقصه، والذي

[ 434 ]

 لا  يمكن أن يتمّ دون وجود الأنبياء (عليهم السلام)، وجملة (سلام على المرسلين) إشارة إلى هذه القضيّة.

والقضيّة الثالثة المهمّة في حياة الإنسان هي أن يعرف أنّه كيف يكون حاله بعد الموت؟ والإنتباه إلى نعم ربّ العالمين ومقام غناه ورحمته ولطفه يعطي للإنسان نوعاً من الإطمئنان (والحمد لله ربّ العالمين)(1).

* * *

 

ملاحظة

التفكّر في نهاية كلّ عمل:

جاء في روايات عديدة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) «من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى (من الأجر يوم القيامة) فليكن آخر كلامه في مجلسه: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين»(2).

نعم، فلنختتم مجالسنا بتنزيه ذات الله، وإرسال السلام والتحيّات إلى رسله، وحمد وشكر الله على نعمه، كي تمحى الأعمال غير الصالحة أو الكلمات المحرّمة التي جاءت في ذلك المجلس.

وقد جاء في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق، أنّ أحد علماء الشام حضر عند الإمام الباقر (عليه السلام)، فقال: جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحداً يفسّرها لي، وقد سألت ثلاثة أصناف من الناس، فقال كلّ صنف غير ما قال الآخر.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): «وما ذلك»؟

فقال: أسألك ما أوّل ما خلق الله عزّوجلّ من خلقه؟ فإنّ بعض من سألته قال:

________________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلّد 26، الصفحة 173.2 ـ مجمع البيان، ذيل آيات البحث، واُصول الكافي، ومن لا يحضره الفقيه نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 440.

[ 435 ]

القدرة. وقال بعضهم: العلم. وقال بعضهم: الروح؟

فقال أبو جعفر (عليه السلام): «ما قالوا شيئاً، أخبرك أنّ الله علا ذكره كان ولا شيء غيره، وكان عزيزاً ولا عزّ، لأنّه كان قبل عزّه، وذلك قوله تعالى: (سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون)(1) وكان خالقاً ولا مخلوق» والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (وهو إشارة إلى انّ ما قاله لك اُولئك النفر لا يخلو من شرك وهو مشمول لهذه الآية، فإنّ الله عزّوجلّ كان قادراً وعالماً وعزيزاً منذ الأزل).

 

نهاية سورة الصافات

* * *

________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 440.

[ 436 ]




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338429

  • التاريخ : 29/03/2024 - 10:50

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net