00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الدخان من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 113 ـ 179 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[113]

سُورَة الدُّخان

مكيّة

وَعَدَدُ آياتِها تسعٌ وَخَمسُونَ آية

 

 

[115]

 

 

 

«سورة الدخان»

 

محتوى سورة الدّخان:

هذه السورة هي خامس الحواميم السبعة، ولما كانت من السور المكية، فإنّها تتضمن الأبحاث العامة لتلك السور، أي البحث حول المبدأ والمعاد والقرآن بصورة تامّة. وقد نُسجت آياتها ونظمت في هذا الباب تنظيماً تنزل معه ضرباتها الحاسمة المفزعة على القلوب الغافلة الذاهلة عن ربها، وتدعوها إلى الإِيمان والتقوى، والحق والعدالة.

ويمكن تلخيص فصول هذه السورة في سبعة:

1 ـ بداية السورة بالحروف المتقطعة، ثمّ بيان عظمة القرآن، مع تبيان نزوله في ليلة القدر أوّل مرة.

2 ـ وتتحدث في الفصل الثّاني عن التوحيد ووحدانية الله سبحانه، وبيان بعض مظاهر عظمته في عالم الوجود.

3 ـ ويتحدث قسم مهم منها عن مصير الكفار وعاقبتهم، وأنواع العقوبات الأليمة التي نزلت وستنزل بهم.

4 ـ وتتحدث السورة في فصل آخر عن قصة موسى(عليه السلام) وبني إسرائيل مع قوم فرعون، وهزيمة قوم فرعون وهلاكهم وفنائهم، من أجل إيقاظ هؤلاء الغافلين.

5 ـ وتشكل مسألة القيامة وأنواع العذاب الأليم الذي سينال أصحاب الجحيم، والمثوبات العظيمة التي تسر الروح، والتي سينالها المتقون، فصلا آخر من آيات هذه السورة.

[116]

6 ـ ومن المواضيع الأُخرى التي طرحت في هذه السورة موضوع الغاية من الخلق، وعدم كون خلق السماء والأرض عبثاً.

7 ـ وأخيراً تنتهي السورة ببيان عظمة القرآن الكريم كما بدأت بذلك.

ولما كان الكلام في الآية العاشرة من هذه السورة عن «الدخان المبين»، فقد سميت بسورة الدخان.

 

فضل تلاوة هذه السورة

جاء في حديث عن نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة ويوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنّة»(1)

و روي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك»(2).

وفي حديث آخر عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام الباقر(عليه السلام): «من قرأ سورة الدخان في فرائضه ونوافله بعثه الله من الآمنين يوم القيامة، وأظله تحت ظل عرشه، وحاسبه حساباً يسيراً، وأُعطي كتابه بيمينه»(3).

 

* * *

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، بداية سورة الدخان.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

[117]

الآيات

حم( 1 ) وَالْكِتَـبِ الْمُبِينِ( 2 ) إِنَّا أَنزَلْنَـهُ فِى لَيْلَة مُّبَـرَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم( 4 ) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ( 5 ) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( 6 ) رَبِّ السَّمَـواتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ( 7 ) لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمْ الاَْوَّلِينَ( 8 )

 

التّفسير

نزول القرآن في الليلة المباركة:

نلاحظ في بداية هذه السورة ـ وكالسور الأربعة السابقة، والسورتين الآتيتين، والتي يكون مجموعها سبع سور هي سور الحواميم ـ الحروف المقعطة (حم)، وقد بحثنا كثيراً فيما مضى حول الحروف المقطعة في القرآن بصورة عامة(1)، وبحثت حروف (حم) خاصة في بداية أوّل سورة من الحواميم (سورة المؤمن) وفي بداية سورة فصلت.

____________________________________

1 ـ راجع تفسير بداية سورة البقرة، بداية سورة آل عمران، بداية سورة الأعراف.

[118]

وجدير بالإِنتباه أن بعض المفسّرين فسّر (حم) هنا بالقسم، فيصبح في الآية قَسمان متتابعان: قَسَم بحروف الهجاء كـ (حم)، وَقَسَم بهذا الكتاب المقدس الذي يكون من هذه الحروف.

وكما قلنا، فإن الآية الثانية أقسمت بالقرآن الكريم، حيث تقول: (والكتاب المبين) ذلك الكتاب الواضح محتواه، والبينة معارفه... الحية تعليماته، البناءة أحكامه، الدقيقة برامجه وخططه، وهو الكتاب الذي يدل بنفسه على كونه حقّاً، كما أن بزوغ الشمس دليل على الشمس.(1)

لكن لنَر الآن ما هو القصد من وراء ذكر هذا القسم؟

الآية التالية توضح هذا الأمر، فتقول: (إنّا أنزلناه في ليلة مباركة).

«المبارك» من مادة بركة، وهي الربح والمنفعة والخلود والدوام، فأي ليلة هذه التي تكون مبدأ الخيرات، ومنبع الإحسان والعطايا الدائمة؟

لقد فسّرها أغلب المفسّرين بليلة القدر، تلك الليلة العظيمة التي تغيرت فيها مقدرات البشر بنزول القرآن الكريم... تلك الليلة التي تقدر فيها مصائر الخلائق... نعم، لقد نزل القرآن على قلب النّبي المطهر في ليلة حاسمة مصيرية.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ظاهر الآية هو أنّ القرآن كله قد نزل في ليلة القدر.

أمّا ما هو الهدف الأساس من نزوله؟ نهاية الآية أشارت إليه إذ قالت: (إنّا كنّا منذرين) فإن سنتنا الدائمة هي إرسال الرسل لإنذار الظالمين والمشركين، وكان إرسال نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الكتاب المبين آخر حلقة من هذه السلسلة المباركة المقدسة.

صحيح أنّ الأنبياء(عليهم السلام) ينذرون من جانب، ويبشرون من جانب آخر، لكن لما كان أساس دعوتهم هو مواجهة الظالمين والمجرمين ومحاربتهم، كان أغلب

____________________________________

1 ـ سنبحث حول فلسفة الأيمان والقسم في القرآن، والهدف الأساسي منها، في تفسير الجزء الأخير من القرآن الكريم، في ذيل الآيات الكثيرة التي يلاحظ القسم فيها مكرراً. إن شاء الله تعالى.

[119]

كلامهم عن الإِنذار والتخويف.

 

نزول القرآن الدفعي والتدريجي:

1 ـ نحن نعلم أن القرآن الكريم نزل على مدى ثلاث و عشرين سنة ـ وهي فترة نبوةّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إضافة إلى أن لمحتوى القرآن ارتباطاً وعلاقة بالحوادث المختلفة التي وقعت في حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين طوال هذه الـ (23) سنة، بحيث أنها إذا فصلت عن القرآن الكريم فسيكون غير مفهوم، وإذا كان الحال كذلك فكيف نزل القرآن الكريم كاملاً في ليلة القدر؟

وفي معرض الإِجابة على هذا السؤال، ذهب البعض هذا المعنى ببداية نزول القرآن، وبناء على هذا فلا مانع من أن تكون بداية نزوله في ليلة القدر، وينزل الباقي خلال (23) سنة.

غير أن هذا التّفسير ـ و كما قلنا ـ لا ينسجم مع ظاهر الآية مورد البحث، ومع آيات أخرى في القرآن المجيد.

وللاجابة على هذا السؤال يجب الانتباه إلى أننا نقرأ في هذا الآية (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) من جهة، ومن جهة أخرى جاء في الآية (185) من سورة البقرة (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) ومن جهة ثاًلثة نقرأ في سورة القدر (إنا أنزلناه في ليلة القدر) فيستفاد جيداً من مجموع هذه الآيات أن الليلة المباركة في هذه الآية إشارة إلى ليلة القدر التي هي من ليالي شهر رمضان المبارك.

وإضافة إلى ما مر، فإنه يستفاد من آيات عديدة أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان عالماً بالقرآن قبل نزوله التدريجي، كالآية (114) من سورة طه (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه).

وجاء في الآية (6) من سورة القيامة (لا تحرك به لسانك لتعجل به).

من مجموع هذه الآيات يمكن الإستنتاج أنه كان للقرآن نزولان:

[120]

الأوّل: نزوله دفعة واحدة، حيث نزل من الله سبحانه على قلب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الطاهر في ليلة القدر من شهر رمضان.

والثّاني: النّزول التدريجي، حيث نزل على مدى (23) سنة بحسب الظروف والحوادث والإِحتياجات.

والشاهد الآخر لهذا الكلام أن بعض الروايات قد عبرت بالإنزال، و بعضها الآخر بالنّزول، والذي يفهم من متون اللغة أن التنزيل يستعمل في الموارد التي ينزل فيها الشيء تدريجياً ومتفرقاً، أما الإِنزال فله معنى واسع يشمل النّزول التدريجي والنّزول دفعة واحدة.(1)

والطريف أنّ كل الآيات المذكورة التي تتحدث عن نزول القرآن في ليلة القدر و شهر رمضان قد عبرت بالإِنزال، وهو يتوافق مع النّزول دفعة واحدة، في حين عُبر بالتنزيل فقط في الموارد التي دار الكلام فيها حول النّزول التدريجي للقرآن.

لكن، كيف كان هذا النّزول جملة على قلب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هل كان على هئية هذا القرآن الذي بين أيدينا بآياته وسورة المختلفة، أم أنّ مفاهيمه وحقائقه قد نزلت بصورة مختصرة جامعة؟

ليس الأمر واضحاً بدقّة، بل القدر المتيقن الذي نفهمه من القرائن ـ أعلاه ـ أن هذا القرآن قد نزل دفعة واحدة في ليلة واحدة على قلب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة، ونزل على مدى (23) سنة بصورة تدريجية مرّة أخرى.

والشاهد الآخر لهذا الكلام، أنّ للتعبير بالقرآن ـ في الآية أعلاه ـ ظهوراً في مجموع القرآن.

صحيح أنّ كلمة القرآن تطلق على كل القرآن وجزئه، لكن لا يمكن إنكار أن ظاهر هذه الكلمة هو مجموع القرآن عند عدم وجود قرينة أخرى معها. والتي فسر بها البعض هذه الآية بأنها بداية نزول القرآن، وقالوا: إنّ أوّل آيات القرآن نزلت

____________________________________

1 ـ تراجع مفردات الراغب، مادة نزل.

[121]

في شهر رمضان و ليلة القدر، الأمر الذي يخالف ظاهر الآيات.

وأضعف منه قول القائل: لما كانت سورة الحمد ـ التي هي خلاصة لمجموع القرآن ـ قد نزلت في ليلة القدر، فقد عُبر بـ (إنّا أنزلناه في ليلة القدر).

إن كل هذه الاحتمالات مخالفة لظاهر الآيات، لأن ظاهرها أن كل القرآن قد نزل في ليلة القدر.

الشيء الوحيد الذي يبقى هنا هو ما نقرؤه في روايات عديدة رويت في تفسير علي بن إبراهيم. عن الإِمام الباقر والصادق وأبي الحسن موسى بن جعفر(عليهم السلام) أنّهم قالوا في تفسير (إنا أنزلناه في ليلة المباركة): «هي ليلة القدر، أنزل الله عزَّوجلَّ القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثمّ نزل من البيت المعمور على رسول الله في طول عشرين سنة».(1)

(التفتوا جيداً إلى أن الرواية قد عبرت عن النّزول جملة واحدة بـ (أنزل) وعن النّزول التدريجي بـ (نزل).

وأين هو «البيت المعمور»؟ صرحت روايات عديدة ـ سيأتي تفصيلها في ذيل الآية (4) من سورة الطور، إن شاء الله تعالى ـ بأنه بيت في السماوات بمحاذاة الكعبة، وهو محل عبادة الملائكة، ويحج إليه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.

لكن في أي سماء هو؟ الرّوايات مختلفة، ففي كثير منها أنه في السماء الرابعة، وفي بعضها أنه في السماء الأولى ـ السماء الدنيا ـ وجاء في بعضها أنه في السماء السابعة.

ونطالع في الحديث الذي نقله العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة الطور عن علي(عليه السلام): «هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة، تعمره

____________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد 4، ص 620. وقد ذكر هذا الحديث أن القرآن نزل تدريجياً في عشرين سنة، في حين أننا نعلم فترة النبوة التي نزل فيها القرآن كانت (23) سنة، ولعله هذا القول اشتباه من الراوي، أو غلط في نسخ الحديث.

[122]

الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة، ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه أبداً»(1).

وعلى أية حال، فإنّ نزول القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور في ليلة القدر لا ينافي علم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) به مطلقاً، فإنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لا سبيل له إلى اللوح المحفوظ الذي هو مكنون علم الله، إلاّ أنّه عالم بالعوالم الأُخرى.

وبتعبير آخر، فإن ما استفدناه و فهمناه من الآيات السابقة، بأن القرآن نزل على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرتين: نزولا دفعياً في ليلة القدر، ونزولا تدريجياً طوال (23) عاماً،  لا ينافي الحديث المذكور الذي يقول: إنّه نزل في ليلة القدر إلى البيت المعمور، لأن قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مطلع على البيت المعمور.

وقد اتضح من خلال ما قيل في الجواب عن هذا السؤال، الإجابة عن سؤال آخر يقول: إذا كان القرآن نزل في ليلة القدر، فكيف كانت بداية بعثة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في السابع والعشرين من شهر رجب طبقاً للروايات المشهورة؟ حيث كان لنزوله في رمضان صفة الجمع والكلية، في حين أن أوّل آياته نزلت في (27) رجب، كبداية للنزول التدريجي، وبذلك فلا مشكلة من هذه الناحية.

والآية التالية وصف وتوضيح لليلة القدر، حيث تقول: (فيها يفرق كل أمر حكيم).

التعبير بـ (يفرق) إشارة إلى أن كل الأُمور والمسائل المصيرية تقدر في تلك الليلة، والتعبير بـ «الحكيم» بيان لاستحكام هذا التقدير، وعدم تغيره، وكونه حكيماً. غاية ما في الباب أن هذه الصفة تذكر عادة لله سبحانه، ووصف الأُمور الأُخرى بها من باب التأكيد.(2)

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 163. وقد جمع العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار، المجلد 58، صفحة 55 وما بعدها، الروايات المتعلقة بالبيت المعمور.

2 ـ ذكر في تفسير الميزان تفسير آخر لهذه الآية، خلاصته، إن الأُمور هذا العالم مرحلتين: مرحلة الإِجمال والإِبهام، والتي عبر عنها بـ (حكيم)، ومرحلة التفصيل والكثرة، والتي عبر عنها بـ (يفرق) المجلد 18، صفحة 140.

[123]

وهذا البيان ينسجم مع الرّوايات الكثيرة التي تقول: إنّ مقدرات كل بني آدم لمدّة سنة تقدر في ليلة القدر، وكذلك تفرق الأرزاق والآجال والأُمور الأُخرى في تلك الليلة.

وسيأتي تفصيل الكلام في هذا البحث والمسائل الأُخرى التي ترتبط بليلة القدر، وعدم التناقض بين هذا التقدير، وبين حرية البشر، في تفسير سورة القدر، إن شاء الله تعالى.

وتقول الآية الأُخرى لتأكيد أنّ القرآن منزل من قبل الله تعالى: (أمراً من عندنا إن كنا مرسلين).(1)

ولأجل تبيان العلة الأساسية لنزول القرآن وإرسال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكون المقدرات في ليلة القدر، تضيف الآية: (رحمة من ربّك).(2)

نعم، فإن رحمته التي لا تُحدُّ توجب أن لا يترك العباد وشأنهم، بل يجب أن ترسل إليهم التعليمات اللازمة لترشدهم في سيرهم إلى الله عبر ذلك المسير التكاملي المليء بالإِلتواءات والتعرجات، فإن كل عالم الوجود يصدر عن رحمته الواسعة وينبع منها، والبشر أكثر تنعماً بهذه الرحمة من كل الموجودات.

وتذكر نهاية هذه الآية ـ والآيات التالية ـ سبع صفات لله سبحانه، وكلها تبين توحيده ووحدانيته، فتقول: (إنّه هو السميع العليم) فهو يسمع طلبات العباد، وهو عليم بأسرار قلوبهم.

ثمّ تقول مبينة للصفة الثالثة (ربّ السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم

____________________________________

1 ـ هناك احتمالات مختلفة في محل جملة (أمراً من عندنا...) من الإعراب، وإلى أي من بحوث الآيات السابقة تنظر؟ وأنسب هذه الإحتمالات أن تكون جملة (أمراً من عندنا) حالا لضمير مفعول (إنا أنزلناه)، أي: إنِّا أرسلنا القرآن، وكان ذلك أمراً من عندنا. وهذا الإِحتمال ينسجم في هذه الصورة تماماً مع جملة (إنّا كنّا مرسلين) والتي تتحدث عن إرسال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

ويحتمل أيضاً أن يكون توضيحاً بـ (كل أمر حكيم) ونصبها على الاختصاص، فيكون المعنى: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا.

2 ـ (رحمة من ربّك) مفعول لأجله بـ (إنّا أنزلناه)، أو لـ (يفرق كل أمر حكيم)، أو لكليهما.

[124]

مؤقنين)(1)(2)

لمّا كان كثير من المشركين يعتقدون بوجود آلهة وأرباب عديدين، وكانوا يظنون أن لكل موجود من الموجودات إله. ولمّا كان التعبير بـ (ربّك) في الآية السابقة يمكن أن يوهم أن ربّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) غير ربّ الموجودات الأُخرى، فإن هذه الآية أبطلت كل هذه الأوهام بجملة (ربّ السماوات والأرض وما بينهما)وأثبتت أن ربّ كل موجودات العالم واحد.

وجملة (إن كنتم موقنين) التي وردت هنا بصيغة الجملة الشرطية، تبعث على التساؤل: هل أن كون ربّ العالم ربّاً، مشروط بمثل هذا الشرط؟

الظاهر أن المراد من ذكر هذه الجملة هو بيان أحد معنيين أو كليهما:

الأوّل: إذا كنتم طلاب يقين، فإنّ السبيل إلى ذلك هو أن تتفكروا في ربوبية الله المطلقة.

والآخر: إذا كنتم من أهل اليقين فإن أفضل مورد لتحصيل هذا اليقين هو أن تتفكروا في آثار رحمة الله، فإنّكم إذا نظرتم إلى الآثار في كل عالم الوجود دلتكم على أن الله ربّ كل شيء، وإذا فلقتم قلب كل ذرّة رأيتم فيه دلالة على هذه الربوبية، ثمّ إذا لم توقنوا بعد هذا بكونه تعالى رباً، فبأي شيء في هذا العالم يمكن أن توقنوا وتؤمنوا؟

وتقول في الصفة الرابعة والخامسة والسادسة (لا إله إلاّ هو يحيى ويميت)(3)فحياتكم ومماتكم بيده، وهو سبحانه ربكم ورب العالمين، وعلى هذا فلا إله سواه، أو يكون من ليس له مقام الربوبية ولا أهليتها، ولا يملك الحياة والموت ربّاً

____________________________________

1 ـ كلمة (ربّ) في هذه الآية بدل من (ربّ) في الآية السابقة.

2 ـ جزاء الجملة الشرطية (إن كنتم موقنين) محذوف، وتقدير الكلام: إن كنتم من أهل اليقين، أو في طلب اليقين، علمتم أن الله ربّ السماوات والأرض وما بينهما.

3 ـ يمكن أن تكون جملة (لا إله إلا هو) استئنافية، أو خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: هو لا إله إلا هو. إلا أن الإحتمال الأول هو الأنسب.

[125]

ومبعوداً؟!

وتضيف في الصفة السابعة (ورب آبائكم الأولين) فإذا قلتم: إنّكم إنّما تعبدون الأصنام، لأنّ الأصنام، لأن آباءكم كانوا يعبدونها، فاعلموا أن ربّهم هو الله الواحد الأحد أيضاً، وعلاقتكم بآبائكم وارتباطكم بهم يوجب عليكم أن لا تعبدوا إلاّ الله، وأن لا تخضعوا إلاّ له، وإذا كان سبيلهم غير هذا السبيل فقد كانوا على خطأ بلا ريب.

من الواضح أنّ مسألة الحياة والموت من شؤون الله وتدبيره، وإذا كانت الآية قد ذكرتها بالخصوص، فلأن لها أهمية فائقة من جهة، ولأنّها إشارة ضمنية إلى مسألة المعاد من جهة أخرى، وليست هذه هي المرة الأولى التي يؤكّد فيها القرآن على مسألة الحياة والموت، بل بيّنها مراراً على أنّها من الأفعال المختصة بالله تعالى، لأن مسألة الحياة والموت أكثر المسائل تأثيراً في حياة البشر ومصائرهم، وهي في الوقت نفسه أعقد مسائل عالم الوجود، وأوضح دليل على قدرة الله تعالى.

* * *

 

ملاحظة

علاقة القرآن بليلة القدر:

ممّا يجدر الإِنتباه إليه أنه ورد في هذه الآيات تلميحاً، وفي آيات سورة القدر تصريحاً، أن القرآن نزل في ليلة القدر، وكم هو عميق هذا الكلام؟! ففي تلك الليلة التي تقدر فيها مقدرات العباد وأرزاقهم، ينزل القرآن الكريم على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الطاهر، ألا يدل هذا على أن هناك علاقة صميمية بين مقدراتكم ومصائركم و بين محتوى هذا الكتاب السماوي؟

ألا يعني هذا الكلام أن هناك علاقة لا تقبل الانفصال بين القرآن وبين حياتكم

[126]

المعنوية، بل وحتى حياتكم المادية؟ فقد أدّى الى انتصاركم على الأعداء، وشموخكم وحريتكم واستقلالكم، وعمران مدنكم ورقيكم.

أجل، في تلك الليلة التي كانت تقدر فيها المقدرات، أُنزل القرآن أيضاً.

 

* * *

[127]

الآيات

بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ( 9 ) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَان مُّبِين( 10 ) يَغْشَى النَّاسَ هَـذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ( 11 ) رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ( 12 ) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ( 13 ) ثمّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ( 14 ) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ( 15 ) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ( 16 )

 

التّفسير

الدّخان القاتل:

لما كان الكلام في الآيات السابقة في أنّ هؤلاء إن كانوا طلاّب يقين، فإنّ سبل تحصيله كثيرة، وتضيف أوّل آية من هذه الآيات (بل هم في شك يلعبون) فإنّ شك هؤلاء في حقانية هذا الكتاب السماوي وفي نبوّتك، ليس نابعاً من كون المسألة معقدة صعبة، بل من عدم جديتهم في التعامل معها، فهم يتعاملون معها بهزل، فيستهزئون ويسخرون تارة، ويصفون أنفسهم بعدم الاطلاع والإلمام وبالجهل

[128]

تارة أخرى، ويشغلون أنفسهم كل يوم بأُسلوب لعب جديد.

«يلعبون» من مادة اللعاب ـ على قول الراغب ـ و هو البزاق السائل، ولما لم يكن للإنسان هدف مهم من اللعب، فقد شبه بالبزاق الذي يبصقه الفرد لا إرادياً.

ومهما كان، فإن الحقيقة هي أن التعامل الجدي مع المسائل يعين الإنسان في معرفة الحقائق، أمّا التعامل الهازل الفارغ فإنّه يلقي الحجب عليها ويمنعه من الوصول إليها.

ثمّ انتقلت الآية التالية إلى تهديد هؤلاء المنكرين المعاندين المتعصبين، في الوقت الذي وجهت الخطاب إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم).

عند ذلك سيعم الخوف والاضطراب كل وجودهم، وتزول الحجب من أمام أعينهم، فيقفون على خطئهم الكبير، ويتجهون إلى الله تعالى بالقول: (ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون).

إلاّ أنّ الله عزَّوجلّ يرفض طلب هؤلاء ويقول: (أنّى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين) رسول كان واضحاً في نفسه وتعليماته وبرامجه وآياته ومعجزاته، ومبيناً لها جميعاً.

غير أنّ هؤلاء بدل أن يذعنوا له، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد، ويتقبلوا أوامره بكل وجودهم، أعرضوا عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (ثمّ تولوا عنه وقالوا معلم مجنون).

فكانوا يقولون تارة: إنّ غلاماً رومياً سمع قصص الأنبياء وأخبارهم يعلمه إياها، وهذه الآيات من اختراعه وإملائه على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)(1)

ويقولون تارة أُخرى: إنّه مصاب بالاختلال الفكري والعقلي، وهذه الكلمات وليدة فقدانه التوازن الفكري.

____________________________________

1 ـ النحل، الآية 103.

[129]

ثمّ تضيف الآية التالية: (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) ومن هنا يتّضح أنّهم عندما يقعون في قبضة العذاب، يندمون على ما بدر منهم من أفعال، ويصممون على تعديل سلوكهم وإصلاحه، إلاّ أن هذا الموقف الجديد مؤقت وسريع الزوال، فما أن تهدأ عاصفة الأحداث حتى يعودوا لما كانوا عليه من قبل.

ويقول سبحانه في آخر آية من هذه الآيات (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون).(1)

«البطش» هو تناول الشيء بصولة، وهنا بمعنى الأخذ للإِنتقام الشديد، ووصف البطشة بالكبرى إشارة إلى العقوبة الشديدة التي تنتظر هذه الفئة.

والخلاصة: أنّه على فرض تخفيف العقوبات المؤقتة في حق هؤلاء، فإن العقوبات النهائية العسيرة تنتظرهم، ولا مفرّ لهم منها.

«منتقمون» من مادة الانتقام، وكما قلنا سابقاً فإنّها تعني العقوبة والجزاء، وإن كانت كلمة الإنتقام تعطي معنى آخر في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر، حيث تعني العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال وحب الإنتقام، إلاّ أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة.

* * *

 

ملاحظة

ما المراد من الدخان المبين؟

هناك أقوال بين المفسّرين حول المراد من الدخان الذي ذكر في هذه الآيات كتعبير عن العذاب الإِلهي، وتوجد هنا نظريتان أساسيتان:

____________________________________

1 ـ احتمل المفسّرون في تركيب هذه الجملة احتمالات كثيرة، وأكثرها قبولا من قبل المفسّرين، وهو المناسب أيضاً لسياق الآية: إن (يوم) متعلق بفعل (ننتقم) الذي يفهم من جملة (إنا منتقمون) وعلى هذا يكون التقدير: ننتقم منهم يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون.

[130]

1 ـ إنّه إشارة إلى العقاب والعذاب الذي ابتلي به كفار قريش في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه لعنهم ودعا عليهم قال: «اللهم سنين كسني يوسف». وبعد ذلك أصاب مكّة قحط شديد، حتى أنّهم كانوا يرون كأن بين السماء والأرض عموداً من الدخان من شدة الجوع والعطش، وعسر الأمر عليهم حتى أكلوا الميتة وعظام الحيوانات الميتة.

فأتوا إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: يا محمّد، تأمرنا بصلة الرحم وقد هلك قومك! لئن رفع عنا العذاب لنؤمنن. فدعا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فارتفع العذاب وعم الخير والنعمة الوفيرة، لكنّهم لم يعتبروا بذلك، بل عادوا إلى الكفر مرة أخرى.(1)

طبقاً لهذا التّفسير فقد اعتبرت غزوة بدر هي البطشة الكبرى ـ أي العقوبة الشديدة ـ لأن المشركين تلقوا من المسلمين في بدر ضربات مهلكة ماحقة.

وطبقاً لهذا التّفسير لم يكن للدخان وجود في الحقيقة، بل إن السماء قد بدت للناس العطاشى الجائعين كعمود الدخان، وعلى هذا فذكر الدخان هنا من باب المجاز، وهو يشير إلى تلك الحالة الصعبة المؤلمة.

وقال البعض: إنّ الدخان يستعمل عادة في كلام العرب كناية عن الشر والبلاء الذي يعم ويغلب.(2)

ويعتقد بعض آخر أنّه حين القحط وقلّة المطر تغطي السماء عادة أعمدة الغبار، وقد عُبر هنا عن هذه الحالة بالدخان، لأن المطر يُنزل بالغبار إلى الأرض فيصفو الأفق.(3)

ومع كل هذه الصفات، فإنّ استعمال كلمة الدخان هنا مجازاً طبقاً لهذا التّفسير.

2 ـ إن المراد من «الدخان المبين» هو ذلك الدخان الغليظ الذي سيغطي السماء

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 62، ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ يقول الفخر الرازي: إنّ العرب يسمّون الشر الغالب بالدخان. المجلد 27، صفحة 242.

3 ـ روح المعاني،المجلد 25، ص 107.

[131]

في نهاية العالم، وعلى أعتاب القيامة، فهو علامة لحلول اللحظات الأخيرة لهذه الدنيا، وبداية عذاب الله أليم للظالمين والمفسدين.

عند ذلك سينتبه هؤلاء الظالمون من نوم غفلتهم، ويطلبون رفع العذاب والرجوع إلى الحياة الدنيوية العادية، لكن أيديهم ترد في أفواههم.

وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ الدخان معناه الحقيقي، ويكون مضمون هذه الآيات هو نفس ما ورد في آيات القرآن الأُخرى، وهو أنّ المجرمين والكافرين يرجون وهم على أعتاب القيامة أو فيها ـ رفع العذاب عنهم، والرجوع إلى الدنيا، لكن ذلك لا يقبل منهم ولا يحقق رجاؤهم.(1)

الإِشكال الوحيد الذي يرد على هذا التّفسير أنّه لا ينسجم مع جملة (إنّا كاشفوا العذاب قليلا إنّكم عائدون) لأنّ العذاب الإِلهي لا يخفف عند انتهاء الدنيا أو في القيامة ليعود الناس إلى حالة الكفر والمعصية.

أما إذا اعتبرنا هذه الجملة قضية شرطية ـ وإن كان ذلك يخالف الظاهر ـ فسيرتفع الإشكال حينئذ، لأن معنى الآية يصبح: كلما كشفنا عنهم قليلا من العذاب فإنّهم يعودون إلى طريقتهم الأولى، وهذا في الواقع شبيه بالآية (28) من سورة الأنعام (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه).

اضافة إلى أنّ تفسير «البطشة الكبرى» بأحداث يوم بدر، يبدو بعيداً عن الصواب، لكن تفسيرها بعقوبات القيامة(2) مع الآية تماماً.

والشاهد الآخر للتفسير الثّاني هو الروايات الواردة عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)والتي تفسّر الدخان بالدخان الذي سيملا العالم على أعتاب قيام القيامة، كالرواية التي يرويها حذيفة بن اليمان عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه ذكر أربع علامات لاقتراب القيامة: الأولى ظهور الدجال، والأُخرى نزول عيسى(عليه السلام)، والثالثة النّار التي تظهر

____________________________________

1 ـ تراجع الآيات 27 ـ 30، من سورة الأنعام.

2 ـ يقول الراغب في المفردات، البطش: هو تناول الشيء بصولة، وهو مقدمة العقوبة عادة.

[132]

من أرض عدن، والدّخان.

فسأل حذيفة: يا رسول الله، وما الدّخان؟ فتلا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوماً وليلة، أمّا المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأمّا الكافر فبمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره»(1).

وجاء في حديث آخر عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ ربّكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ منه المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال»(2)

وقد قدمنا توضيحاً كافياً حول دابة الأرض في ذيل الآية (82) من سورة النمل.

وروي شبيه هذا المعنى حول الدخان عن أبي سعيد الحذري عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).(3)

ويلاحظ نظير هذه التعبيرات، بصورة أكثر تفصيلا، في الروايات الواردة عن طرق أهل البيت(عليهم السلام)، ومن جملتها ما نقرأه في رواية عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «عشر قبل الساعة لابدّ منها: السفياني، والدجال، والدخان، والدّابة، وخروج القائم، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر».(4)

ومن مجموع ما قيل، نستنتج أن التّفسير الثّاني هو الأنسب.

* * *

____________________________________

1 ـ تفسير الدر المنثور، الجزء 6، صفحة 29.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ بحارالأنوار، المجلد 52، صفحة 209.

[133]

الآيات

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ( 17 ) أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ( 18 ) وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَـن مُّبِين( 19 ) وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ( 20 ) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ( 21 )

 

التّفسير

إذا لم تؤمنوا فلا تصدّوا الآخرين عن الإِيمان:

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول تمرد مشركي العرب وعدم إذعانهم للحق، تشير هذه الآيات إلى نموذج من الأمم الماضية التي سارت في نفس هذا المسير، وابتليت أخيراً بالعذاب الأليم والهزيمة النكراء، ليكون ذلك تسلية للمؤمنين، وتحذيراً للمنكرين المعاندين. وذلك النموذج هو قصّة موسى وفرعون، حيث تقول الآية: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون).

«فتنّا» من مادة فتنة، وهي في الأصل تعني وضع الذهب في فرن النّار لتخليصه من الشوائب، ثمّ أطلقت على كل امتحان واختبار يجري لمعرفة نسبة خلوص

[134]

البشر... ذلك الاختبار الذي يعم كل حياة الإِنسان والمجتمعات البشرية، وبتعبير آخر، فإن كل مراحل حياة الإِنسان في هذه الدنيا تطوى في هذه الإِختبارات، فإن هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء.

لقد كان قوم فرعون يعيشون أوج قوتهم وعظمتهم بامتلاكهم حكومة قوية، وثروات ضخمة، وإمكانيات واسعة، فغرتهم هذه القدرة العظيمة، وتلوثوا بأنواع المعاصي والظلم والجور.

ثمّ تضيف الآية (وجاءهم رسول كريم) فهو كريم من ناحية الخلق والطبيعة، وكريم من ناحية العظمة والمنزلة عند الله، وكريم من ناحية الأصل والنسب، ولم يكن هذا الرّسول إلا موسى بن عمران(عليه السلام).(1)

لقد خاطبهم موسى(عليه السلام) بأُسلوبه المؤدب جدّاً، المليء بالود والمحبة، فقال: (أن أدوا إليّ عباد الله).(2)

وطبقاً لهذا التّفسير، فإنّ (عباد الله) بحكم المخاطب، والمراد منهم الفراعنة، وبالرغم من أنّ هذا التعبير يستعمل في آيات القرآن في شأن العباد الصالحين، إلا أنّه أطلق أيضاً في موارد عديدة على الكفار والمجرمين، من أجل تحريك وجدانهم، وجذب قلوبهم نحو الحق(3).

بناء على هذا، فإنّ المراد من (أدّوا) إطاعة أمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.

وقد ذكر جماعة من المفسّرين تفسيراً آخر لهذه الجملة، فقالوا: المراد من (عبادالله) بنو إسرائيل، ومن (أدّوا) إيداعهم بيد موسى، ورفع الذلة والعبودية

____________________________________

1 ـ يقول الراغب في المفردات: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه، نحو قوله: (إن ربّي غني كريم) وإذا وصف ربّه الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه.

ولقد ورد هذا الوصف لأمور أخرى أيضاً القرآن المجيد، مثل: كتاب كريم، كل زوج كريم، رزق كريم مقام كريم، أجر كريم.

2 ـ «أن» في جملة: (أن أدوا إليّ عباد الله) تفسير لفعل مقدر يفهم من الكلام السابق، والتقدير: (جئتكم أن أدّوا إليّ عبادالله).

3 ـ كالآية 17 ـ الفرقان، و 13 ـ سبأ، و 58 ـ الفرقان، وغيرها.

[135]

عنهم، كما جاء في الآية (17) من سورة الإِسراء (أن أرسل معنا بني إسرائيل)وورد نظير هذا المعنى في الآية 105 ـ الأعراف، و 47 ـ طه أيضاً.

والأمر الذي لا ينسجم مع هذا التّفسير، هو أن جملة (أدّوا) تستعمل عادة في أداء الأموال والأمانات والتكاليف، لا في مورد إيداع الأشخاص، ويتّضح هذا الموضوع جيداً بملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة.

وعلى أية حال، فإنّه يضيف في بقية الآية (إنّي لكم رسول أمين) وذلك لنفي كل اتهام عن نفسه.

إنّ هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ داحض للإتهامات الباطلة التي ألصقها به الفراعنة، كالسحر، والسعي إلى التفوق واستلام الحكم في أرض مصر، وطرد أصحابها الأصليين، والتي أشير إليها في الآيات المختلفة.

ثمّ يقول لهم موسى(عليه السلام) بعد أن دعاهم إلى طاعة الله سبحانه، أو إطلاق سراح بني إسرائيل وتحريرهم: إنّ مهمّتي الأُخرى أن أقول لكم: (وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين) معجزاته بينة، وأدلته منطقية واضحة.

والمراد من عدم العلو على الله سبحانه، هو عدم القيام بأي عمل لا ينسجم مع أصول العبودية، من المخالفة والتمرد، وحتى إيذاء رسل الله، أو ادعاء الألوهية وأمثال ذلك.

ولما كان المستكبرون وعبيد الدنيا لا يدعون أي تهمة وافتراء، إلاّ وألصقوهما بمن يرونه مخالفاً لمنافعهم ومصالحهم اللامشروعة بل لا يتورعون حتى عن قتله وإعدامه، لذا فإنّ موسى(عليه السلام) يضيف للحد من مسلكهم هذا (وإنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون).

إنّ هذا التعبير لعله إشارة إلى أنّي لا أخاف تهديداتكم، وسأصمد حتى آخر نفس، والله حافظي وحارسي، وكانت مثل هذه التعبيرات تمنح القادة الإِلهيين حزماً أكبر في دعوتهم، وتزيد في انهيار إرادة الأعداء ومعنوياتهم، وتزيد من

[136]

جانب آخر ثبات المحبين والمؤمنين واستقامتهم، لأنّهم يعلمون أن إمامهم وقائدهم يقاوم حتى اللحظات الأخيرة.

وربّما كان التأكيد على مسألة الرجم من جهة أن كثيراً من رسل الله قبل موسى(عليه السلام) قد هددوا بالرجم، ومن جملتهم نوح(عليه السلام) (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين)(1)

وكذلك الحال بالنسبة إلى إبراهيم(عليه السلام) لما هدده آزر وقال له: (لئن لم تنته لأرجمنك)(2)، وشعيب لما هدده الوثنيون قالوا له: (ولو لا رهطك لرجمناك)(3)

أمّا اختيار الرجم من بين أنواع القتل، فلأنّه أشدّها جميعاً. وعلى قول بعض أرباب اللغة فإن هذه الكلمة جاءت بمعنى مطلق القتل أيضاً.(4)

واحتمل كثير من المفسّرين أن يكون الرجم بمعنى الإِتهام وإساءة الكلام، لأن هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى أيضاً. وكانت هذه الإستعاذة في الحقيقة مانعاً من تأثير التهم التي اتهموا بها موسى فيما بعد.

ويمكن أن تكون هذه الكلمة قد استعملت في معناها الواسع الذي يشمل كلا المعنيين.

وتخاطب الآية الأخيرة هؤلاء القوم فتقول: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) لأن موسى(عليه السلام)كان واثقاً من نفوذه بين أوساط الناس، ومختلف طبقاتهم، بامتلاكه تلك المعجزات الباهرات، والأدلة القوية، والسلطان المبين، وأن ثورته ستؤتي أكلها بعد حين، ولذلك كان يرضى من هؤلاء القوم أن يتنحوا عن طريقه ولا يكونوا حاجزاً بينه و بين الناس.

لكن، هل يمكن أن يهدأ هؤلاء الجبابرة المغرورون وهم يرون الخطر يهدد

____________________________________

1 ـ الشعراء، الآية 116.

2 ـ مريم، الآية 46.

3 ـ هود، الآية 91.

4 ـ لسان العرب، ماده رجم.

[137]

مصالحهم وثرواتهم اللامشروعة، ويقبلوا مثل هذا الاقتراح ويدعوا موسى وشأنه؟

الآيات الآتية كفيلة بأن تبيّن تتمة هذه الأحاديث.

 

* * *

[138]

الآيات

فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هـؤُلاَءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ( 22 ) فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ( 23 ) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ( 24 ) كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّات وَعُيُون( 25 ) وَزُرُوع وَمَقَام كَرِيم( 26 ) وَنَعْمَة كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ( 27 ) كَذلِكَ وَأَوْرَثْنَـهَا قَوْماً آخَرِينَ( 28 ) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالاَْرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ( 29 )

 

التّفسير

تركوا القصور والبساتين والكنوز وارتحلوا!

لقد استخدم موسى (عليه السلام) كلّ وسائل الهداية للنفوذ إلى قلوب هؤلاء المجرمين الظلمة، إلاّ أنّها لم تؤثر فيهم أدنى تأثير، وطرق كلّ باب ما من مجيب.

لذلك يئس منهم، ولم ير لهم علاجاً إلاّ لعنهم والدعاء عليهم، لأنّ الفاسدين الذين لا أمل في هدايتهم لا يستحقون الحياة في قانون الخلقة، بل يجب أن ينزل عليهم عذاب الله ويجتثهم ويطهر الأرض من دنسهم، لذلك تقول الآية الأولى من هذه الآيات: (فدعا ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون).

[139]

انظر إلى أدب الدعاء، إنّه لا يقول: اللّهم افعل كذا وكذا، بل يكتفي بأنّ يقول: اللّهمَّ إن هؤلاء قوم مجرمون لا أمل في هدايتهم وحسب!

وقد استجاب الله سبحانه دعاءه، وكمقدمة لنزول العذاب على الفراعنة، ونجاة بني إسرائيل منهم، أمر موسى(عليه السلام) أنّ (فأسر بعبادي ليلاً إنّكم متبعون) لكن لا تقلق من ذلك، فيجب أن يتبعكم هؤلاء ليلاقوا المصير الذي ينتظرهم.

إنّ موسى(عليه السلام) مأمور بأنّ يتحرك ليلاً بصحبة عباد الله المؤمنين، أي بني إسرائيل، وجماعة من أهل مصر الذين مالت قلوبهم إلى الإيمان ولبّت دعوة موسى، وأن يأتي النيل، ويعبره بطريقة إعجازية، ثمّ يسير إلى الأرض الموعودة، «فلسطين».

صحيح أنّ حركة موسى وأنصاره قد تمّت ليلاً، إلاّ أنّ من المحتم أنّ لا تبقى حركة جماعية عظيمة كهذه خافية عن أنظار الفراعنة مدة طويلة، وربّما لم تمض عدّة ساعات حتى أوصل جواسيس فرعون هذا الخبر المهول ـ أو قل فرار العبيد الجماعي ـ إلى مسامعه، فأمر بمطاردتهم بجيش جرار.

والطريف أنّ كلّ هذه الأُمور التي حدثت جاءت ضمن إشارة موجزة في الآيات أعلاه ( إنّكم متبعون).

إن ما حذف هنا من أجل الاختصار وُضِّح في آيات أُخرى من القرآن بعبارات موجزة، فمثلاً نقرأ في الآية (77) من سورة طه (ولقد أوحينا إلى موسى أنّ أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى).

ثمّ تضيف الآية التي بعدها: عندما تصل إلى الساحل الآخر عليك أن تترك البحر بهدوء (واترك البحر رهواً) والمراد من البحر في هذه الآيات هو نهر النيل العظيم.

لقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة معنيين للرهو: هما الهدوء، والسعة والإنفتاح، ولا مانع هنا من اجتماعهما.

[140]

لكن لماذا صدر مثل هذا الأمر لموسى(عليه السلام)؟

من الطبيعي أنّ موسى(عليه السلام) وبني إسرائيل كانوا راغبين في أن يجتازوا البحر حتى تتصل المياه مرّة أُخرى وتملأ هذا الفراغ، ويبتعدوا بسرعة عن منطقة الخطر، ويتجهوا بسلامة إلى الوطن الموعود، إلاّ أنّهم أُمروا أنّ لا يعجلوا أثناء عبورهم نهر النيل، بل ليدعوا فرعون وآخر جندي من جنوده يردون النيل، فإنّ أمر إهلاكهم وإماتتهم قد صدر إلى أمواج النيل المتلاطمة الغاضبة، ولذلك تقول الآية في ختامها (إنّهم جند مغرقون).

هذا هو أمر الله عزَّوجلَّ الحتمي الصادر بحق هؤلاء القوم، بأنّهم يجب أن يغرقوا جميعاً في نهر النيل العظيم، الذي كان أساس ثروتهم وقوّتهم! و بأمر إلهي واحد تحول هذاالنهر الذي كان عصب حياتهم إلى أداة فنائهم وموتهم.

نعم، عندما وصل فرعون وجنوده إلى شاطئ النيل كان بنو إسرائيل قد خرجوا من الجانب الآخر، وكان ظهور مثل ذلك الطريق اليابس وسط النيل كافياً وحده لأن يلفت نظر حتى الطفل الساذج إلى تحقق إعجاز إلهي عظيم في البحر، إلاّ أنّ كبر أُولئك الحمقى وغرورهم لم يسمح لهم بإدراك هذه الحقيقة الواضحة فيقفوا على اشتباهاتهم وأخطائهم، ويتوجهوا إلى الله سبحانه!

ربّما كانوا يظنون أنّ هذا التغير الذي طرأ على النيل قد تمّ بأمر فرعون أيضاً! وربّما قال هذا الكلام لجنوده، ثمّ ورد بنفسه ذلك الطريق فتبعه جنوده حتى الجندي الأخير!

لكن، أمواج النيل تلاطمت فجأةً وانهالت عليهم كبناء شاهق انهدمت قواعده فانهار إلى الأرض، فغرقوا جميعاً.

والنكتة التي تلفت النظر في هذه الآيات، هي اختصارها الفائق، وكونها بليغة ومعبرة في الوقت نفسه، فقد ذكرت قصة مفصلة في ثلاث آيات ـ أو جمل ـ بحذف الجمل الإضافية التي تفهم من القرائن أو الجمل الأُخرى، ونراها اكتفت بالقول:

[141]

(فدعاه ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون. فأسر بعبادي ليلاً إنّكم متبعون، واترك البحر رهواً إنّهم جند مغرقون).

إنّ التعبير بـ«مغرقون» مع أنّهم لم يكونوا قد غرقوا بعدُ إشارة إلى أنّ هذا الأمر الإلهي حتمي وقطعي.

ولنر الآن ماذا جرى من الحوادث التي تدعو إلى الاعتبار بها، بعد غرق فرعون والفراعنة.

يبيّن القرآن الكريم في الآيات التالية تركة الفراعنة العظيمة التي ورثها بنو إسرائيل، ضمن خمسة مواضيع تكون الفهرس العام لكلّ حياة الفراعنة، فيقول أوّلاً: (كم تركوا من جنات وعيون).

لقد كانت البساتين والعيون ثروتين من أهم وأروع ثروات هؤلاء، لأنّ مصر كانت أرضاً خصبة مليئة بالبساتين بوجود نهر النيل. وهذه العيون يمكن أن تكون إشارة الى العيون التي كانت تنبع هنا وهناك، أو أنّها جداول كانت تستمد مياهها من النيل، وتمر في بساتين أولئك وحدائقهم الغناء الخضراء، وليس بعيداً إطلاق العين على هذه الجداول.

ثمّ يضيف القرآن الكريم (وزروع ومقام كريم) وكانت هاتان ثروتين مهمتين أخريين، فمن جهة كانت الزراعة العظيمة التي تعتمد على النيل، حيث أنواع المواد الزراعية الغذائية وغيرها، والمحصولات التي امتدت في جميع أنحاء مصر، وكانوا يستخدمونها غذاءاً لهم ويصدرون الفائض منها إلى الخارج، ومن جهة اُخرى كانت القصور والمساكن العامرة، حيث أنّ من أهم مستلزمات حياة الإنسان هو المسكن المناسب.

لاشك أنّ هذه القصور كريمة من الناحية الظاهرية، ومن وجهة نظر هؤلاء أنفسهم، وإلاّ فإنّ مساكن الطواغيت المزينة هذه، والتي تسبب الغفلة عن الله، لا قيمة لها في منطق القرآن.

[142]

واحتمل البعض أن يكون المراد من المقام الكريم مجالس الأنس والطرب، أو المنابر التي كان يرتقيها المدّاحون والشعراء للثناء على فرعون.

لكن، الظاهر أنّ المعنى الأوّل أنسب من الجميع.

ولما كان هؤلاء يمتلكون وسائل رفاه كثيرة غير الأُمور الأربعة المهمّة التي مرَّ ذكرها، فقد أشار القرآن إليها جميعاً في جملة مقتضبة، فقال: (ونعمة كانوا فيها فاكهين)(1)(2).

ثمّ يضيف (كذلك وأورثناها قوماً آخرين)(3).

والمراد من (قوماً آخرين) هم بنو إسرائيل، حيث صرّح بذلك في الآية (95) من سورة الشعراء. والتعبير بالإرث إشارة إلى أنّهم حصلوا على كلّ هذه الأموال والثروات من دون أن يبذلوا أدنى جهد، أو يتحملوا أقل تعب ومشقّة، كما يحصل الإنسان على الإرث دون أن يشقى ويجهد في تحصيله.

والجدير بالإنتباه أنّ الآية المذكورة ونظيرتها في سورة الشعراء توحيان بأنّ بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر بعد غرق الفراعنة وورثوا ميراثهم، وحكموا هناك، وسير الحوادث يقتضي ـ أيضاً ـ أنّ لا يدع موسى(عليه السلام) مصر تعيش فراغاً سياسياً بعد انهيار دعائم حكومة الفراعنة فيها.

لكن هذا الكلام لا ينافي ما ورد في آيات القرآن الكريم من أنّ بني إسرائيل قد ساروا إلى الأرض الموعودة، أرض فلسطين، بعد خلاصهم من قبضة الفراعنة، والذي جاء مفصلاً في القرآن، فمن الممكن أن تكون جماعة منهم قد أقاموا في

____________________________________

1 ـ «نعمة» بفتح النون تعني التنعم، وبكسرها تعني الإنعام، وقد صرح جماعة من المفسّرين وأرباب اللغة بهذا المعنى، في حين يعتقد جمع آخر أنّ للإثنين معنى واحداً يشمل كلّ المنافع التي تستحق الإلتفات والنظر.

2 ـ فسّرت كلمة «فاكهين» بالإستمتاع بالفواكه تارة، وأخر بالأحاديث الفكاهية السارة، وثالثة بالتنعم والتلذذ، والمعنى الأخير أجمع من الجميع.

3 ـ «كذلك» خبر لمبتدأمحذوف والتقدير: الأمر كذلك، ويستعمل هذا التعبير للتأكيد. واحتمل البعض احتمالات أُخرى في تركيبها.

[143]

مصر بعد استيلائهم عليها كوكلاء لموسى (عليه السلام)، وسار القسم الأعظم إلى فلسطين.

ولمزيد من الإيضاح حول هذا الكلام انظر ذيل الآية (59) من سورة الشعراء.

وتقول الآية الأخيرة من هذه الآيات (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين).

إنّ عدم بكاء السماء والأرض ربّما كان كناية عن حقارتهم، وعدم وجود ولي ولا نصير لهم ليحزن عليهم ويبكيهم، ومن المتعارف بين العرب أنّهم إذا أرادوا تبيان أهمية مكانة الميت، يقولون: بكت عليه السماء والأرض، وأظلمت الشمس والقمر لفقده.

واحتمل أيضاً أنّ المراد بكاء أهل السماوات والأرض، لأنّهم يبكون المؤمنين المقربين عند الله، لا الجبابرة والطواغيت وأمثاله.

وقال البعض: إنّ بكاء السماء والأرض بكاء حقيقي، حيث تُظهر احمراراً خاصاً غير احمرار الغروب والطلوع، كما نقرأ في رواية: «لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرة أطرافها»(1).

وفي رواية أُخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام): «بكت السماء على يحيى بن زكريا وعلى الحسين بن علي (عليهما السلام) أربعين صباحاً، ولم تبك إلاّ عليهما» قلت: وما بكاؤها؟ قال: «كانت تطلع حمراء، وتغيب حمراء»(2).

غير أننا نقرأ في حديث روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما من مؤمن إلاّ وله باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه»(3).

ولا منافاة بين هذه الرّوايات، حيث كان لشهادة الحسين (عليه السلام) ويحيى بن زكريا(عليه السلام) صفة العموم في كلّ السماء، ولما ورد في الرّوايات الأخيرة صفة

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 65 ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

[144]

الخصوص(1).

على أي حال، فلا تضاد بين هذه التفاسير، ويمكن جمعها في معنى الآية.

نعم لم تبك السماء لموت هؤلاء الضالين الظالمين، ولم تحزن عليهم الأرض، فقد كانوا موجودات خبيثة، وكأنّما لم تكن لهم أدنى علاقة بعالم الوجود ودنيا البشرية، فلما طرد هؤلاء الأجانب من العالم لم يحس أحد بخلو مكانهم منهم، ولم يشعر أحد بفقدهم، لا على وجه الأرض، ولا في أطراف السماء، ولا في أعماق قلوب البشر، ولذلك لم تذرف عين أحد دمعة لموتهم.

وننهي الكلام في هذه الآيات بذكر رواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام).

فقد ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) لما مرّ على المدائن، ورأى آثار كسرى مشرفة على السقوط والإنهيار، أنشد أحد أصحابه الذين كانوا معه:

جرت الرياح على رسومهم فكأنّهم كانوا على ميعاد!

فقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «أفلا قلت (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين... فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانو منظرين)»(2).

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ روي في الدر المنثور حديث في باب الجمع بين هذه الروايات. الدر المنثور، طبقاً لنقل الميزان، المجلد 18، صفحة 151.

2 ـ سفينة البحار، ج2، ص531 (مادة مدن).

[145]

الآيات

وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ( 30 ) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ( 31 ) وَلَقَدِ اخْتَرْنَـهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى الْعَـلَمِينَ( 32 ) وَآتَيْنَـهُم مِنَ الآيَـتِ مَا فِيهِ بَلـؤٌ مُبِينٌ( 33 )

 

التّفسير

بنو إسرائيل في بوتقة الاختبار:

كان الكلام في الآيات السابقة عن غرق الفراعنة وهلاكهم، وانكسار شوكتهم وانتهاء حكومتهم، وانتقالها إلى الآخرين. وتتحدث هذه الآيات في النقطة المقابلة لذلك أي نجاة بني إسرائيل وخلاصهم، فتقول: (ولقد نجيّنا بني إسرائيل من العذاب المهين) من العذاب الجسمي والروحي الشاق، والذي نفذ إلى أعماق أرواحهم.. من ذبح الأطفال الذكور، واستحياء البنات للخدمة وقضاء المآرب، من السخرة والأعمال الشاقة جدّاً، وأمثال ذلك.

فكم هو مؤلم أن يكون مصير أُمة بيد هكذا عدوّ دموي شيطاني، وأن تبتلى بهكذا ظلمة لا يعرفون الرحمة ولا الإنسانية؟

نعم، لقد نجّى الله سبحانه هذه الأمّة المظلومة من قبضة هؤلاء الظالمين، أعظم

[146]

سفاكي الدماء في التأريخ، في ظل ثورة موسى بن عمران(عليه السلام) الرّبانية، لذلك تضيف الآية (من فرعون إنّه كان عالياً من المسرفين).

ليس المراد من «عالياً» هنا علو المنزلة، بل هو إشارة إلى استشعاره العلو، وإنّما علوه في الإسراف والتعدي، كما جاء ذلك أيضاً في الآية (4) من سورة القصص (إنّ فرعون علا في الأرض) حتى أنّه ادعى الألوهية، وسمى نفسه الرب الأعلى.

و«المسرف» من مادة «إسراف»، أي كلّ تجاوز للحدود، سواء في الأقوال أم الأفعال، ولذلك استعملت كلمة المسرف في آيات القرآن المختلفة في شأن المجرمين الذين يتعدون الحدود في ظلمهم وفسادهم، وكذلك أطلقت على العصاة المسرفين، كما نقرأ ذلك في الآية (53) من سورة الزمر (قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).

وتشير الآية التالية إلى نعمة أُخرى من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل، فتقول: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) إلاّ أنّهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة، فكفروا وعوقبوا.

وعلى هذا فإنّهم كانوا الأمة المختارة في عصرهم، لأنّ المراد من العالمين البشر في ذلك العصر والزمان لا في كلّ القرون والأعصار، لأنّ القرآن يخاطب الأمة الإسلامية بصراحة في الآية (110) من سورة آل عمران ويقول: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس).

وكذلك الحال بالنسبة إلى الأراضي التي ورثها بنو إسرائيل، إذ يقول القرآن الكريم في الآية (137) من سورة الأعراف (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) في حين أنّ بني إسرائيل لم يرثوا كلّ الأرض، والمراد شرق منطقتهم وغربها.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان لبني إسرائيل بعض الميزات التي كانت منحصرة فيهم على مرّ التأريخ، ومن جملتها كثرة الأنبياء، إذ لم يظهر في أي قوم

[147]

هذا العدد من الأنبياء.

إلاّ أنّ هذا الكلام، إضافة إلى أنّه لا يثبت مزيتهم المطلقة هذه، فإنّه يدل على أنّها ليست مزية أساساً، فربَّما كانت كثرة الأنبياء فيهم دليلاً على غاية تمرد هؤلاء القوم وقمة عصيانهم، كما بيّنت الحوادث المختلفة بعد ظهور موسى(عليه السلام)أنّهم لم يتركوا شيئاً سيئاً لم يفعلوه ضد هذا النّبي العظيم.

وعلى أية حال، فإنّ ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية، هو المقبول من قبل كثير من المفسّرين في شأن أهلية بني إسرائيل النسبية.

غير أنّ هؤلاء القوم المعاندين كانوا يؤذون أنبياءهم دائماً ـ حسب ما يذكره القرآن ـ وكانوا يقفون أمام أحكام الله سبحانه بكلّ تصلب وعناد، بل إنّهم بمجرّد أنّ نجوا من النيل وأهواله طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها! وهذا يدلنا على إمكانية أن يكون الهدف من الآية ليس بيان خصيصة لبني إسرائيل، بل بيان حقيقة أُخرى. وعليه يصبح معنى الآية: مع أننا نعلم أنّ هؤلاء سيسيئون استغلال نعم الله ومواهبه، فقد منحناهم التفوق لنختبرهم.

كما يستفاد من الآية التالية ـ أيضاً ـ أنّ الله سبحانه قد منحهم مواهب اُخرى ليبلوهم.

ولذا فإنّ هذا الاختبار الإلهي لا يدل على كونه مزية لهؤلاء، وليس هذا وحسب، بل هو ذم ضمني أيضاً، لأنّهم لم يشكروا هذه النعمة، ولم يؤدّوا حقها، ولم ينجحوا في الامتحان.

وتشير آخر آية من هذه الآيات إلى بعض المواهب الأُخرى التي منحهم الله إيّاها، فتقول: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين)فمرة ظللنا عليهم الغمام في صحراء سيناء، وفي وادي التيه وأُخرى أنزلنا عليهم مائدة خاصة من المن والسلوى، وثالثة أجرينا لهم العيون من الصخور الصماء، ومنحناهم أحياناً نعماً مادية ومعنوية أُخرى. إلاّ أنّ كلّ ذلك كان لغرض الابتلاء والامتحان، لأنّ الله

[148]

سبحانه يختبر قوماً بالمصيبة، وآخرين بالنعمة، كما نقرأ ذلك في الآية (168) من سورة الأعراف: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون).

وربّما كان الهدف من ذكر قصة بني إسرائيل للمسلمين الأوائل، هو أنّ لا يخافوا من كثرة الأعداء وتعاظم قوّتهم، وليطمئنوا بأنّ الله الذي أهلك الفراعنة ودمرهم، وأورث بني إسرائيل ملكهم وحكومتهم، سيمنّ عليهم في القريب العاجل بمثل هذا النصر، وكما اختبر أُولئك بهذه المواهب، فإنّكم ستوضعون أيضاً في بوتقة الامتحان والاختبار، ليتّضح ماذا ستفعلون بعد الانتصار وتقلد الحكم؟

وهذا تحذير لكلّ الأُمم والأقوام فيما يتعلق بالانتصارات والمواهب التي يحصلون عليها بفضل الله ولطفه، فإنّ الامتحان عندئذ عسير.

 

* * *

 

[149]

الآيات

إِنَّ هـؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ( 34 ) إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ( 35 ) فَأْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ( 36 )

 

التّفسير

لا شيء بعد الموت!

بعد أنّ جسدت الآيات السابقة مشهداً من حياة فرعون والفراعنة، وعاقبة كفرهم وإنكارهم، تكرر الكلام عن المشركين مرّة أُخرى، وأعادت هذه الآيات مسألة شكهم في مسألة المعاد ـ والتي مرّت في بداية السورة ـ بصورة أُخرى، فقالت: (إنّ هؤلاء ليقولون إن هي إلاّ موتتنا الأولى) وسوف لا نعود إلى الحياة اطلاقاً(1) وما يقوله محمّد عن المعاد والحياة بعد الموت والثواب والعقاب، والجنّة والنّار لا حقيقة له، فلا حشر ولا نشر أبداً!

وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: لماذا يؤكّد المشركون على الموتة الأولى فقط،

____________________________________

1 ـ هنا اختلاف في مرجع ضمير (هي) فأرجعه بعض المفسّرين الى (الموتة)، وهو المستفاد من سياق الكلام، وبناء على هذا يكون المعنى: ما الموتة إلاّ موتتنا الأولى (تفسير التبيان ومجمع البيان والكشاف).

في حين اعتبر البعض الآخر مرجع الضمير هو العاقبة والنهاية، وعلى هذا يكون المعنى: ما عاقبة أمرنا إلاّ الموتة الأولى (روح المعاني والميزان) وليس بينهما من تفاوت كثير من ناحية النتيجة.

[150]

والتي تعني عدم وجود موت آخر بعد هذا الموت، في حين أنّ مرادهم نفي الحياة بعد الموت، لا إنكار الموت الثاني وبتعبير آخر فإنّ الأنبياء كانوا يخبرون بالحياة بعد الموت، لا بالموت مرة ثانية.

ونقول في الإجابة: إنّ مرادهم عدم وجود حالة أُخرى بعد الموت، أي إنّنا نموت مرّة واحدة وينتهي كلّ شيء، وبعد ذلك لا توجد هناك حياة أُخرى ولا موت آخر، فكل ما هو موجود هذا الموت لا غير. (فتأمل!)(1).

وهذا يشبه كثيراً ما ورد في الآية (29) من سورة الأنعام، حيث تقول: (وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين)!

ثمّ تنقل كلام هؤلاء الذين تشبثوا بدليل واه لإثبات مدعاهم، إذا قالوا: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين).

قال البعض: إنّ هذا كان كلام أبي جهل، حيث أنّه التفت إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: إن كنت صادقاً فابعث جدك قصي بن كلاب، فإنّه كان رجلاً صادقاً لنسأله عمّا يكون بعد الموت(2).

من البديهي أنّ كلّ ذلك كان تذرعاً، ومع أنّ سنّة الله لم تقم على أن يحيي الأموات في هذه الدنيا ليأتوا بأخبار ذلك العالم إلى هذا العالم، لكن على فرض أن يتمّ هذا العمل من قبل الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فسيعزف هؤلاء المتذرعون نغمة جديدة، ويضربون على وتر آخر، فيسمون ذلك الفعل سحراً مثلاً، كما طلبوا المعاجز عدّة مرات، فلما أتاهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بها أنكروها أشد إنكار.

* * *

 

____________________________________

1 ـ ذكر المفسّرون احتمالات أُخرى في تفسير هذه الجملة، وتبدو جميعاً بعيدة، ومن جملتها: أنّهم فسّروا الموتة الأولى بالموت قبل الحياة في هذه الدنيا، وبناء على هذا يكون معنى الآية: إنّ الموت الذي تكون بعده حياة هو الموت الذي متنا من قبل، أمّا الموت الثّاني فلا حياة بعده أبداً.

2 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 66، وبعض التفاسير الأُخرى.

[151]

ملاحظة

عقيدة المشركين في المعاد:

لم يكن للمشركين بعامة ـ ومشركي العرب بخاصة ـ مسلك متحد في مسائلهم العقائدية، بل إنّهم كانوا متفاوتين فيما بينهم مع أنّهم يشتركون في الأصل في عقيدة الشرك.

فبعضهم لم يكن يعترف بالله ولا بالمعاد، وهم الذين يتحدث القرآن عنهم بأنّهم كانوا يقولون: (ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر)(1)

وبعضهم الآخر كانوا يعتقدون بالله عزّوجلّ، ويعتقدون أيضاً أنّ الأصنام شفعاؤهم عند الله، إلاّ أنّهم كانوا ينكرون المعاد، وهم الذين كانوا يقولون: (من يحيي العظام وهي رميم)(2)، فأُولئك كانوا يحجون إلى الأصنام، ويقدمون القرابين لها، وكانوا يعتقدون بالحلال والحرام، وكان أكثر مشركي العرب من هذه الفئة.

لكن هناك شواهد تدل على أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون ببقاء الروح بشكل ما، سواء على هيئة التناسخ وانتقال الأرواح إلى الأبدان جديدة أم بشكل آخر(3).

واعتقادهم بطير اسمه (هامة) معروف، فقد ورد في قصص العرب أنّه كان من بين العرب من يعتقد بأنّ روح الإنسان طائر انبسط في جسمه، وعندما يرحل الإنسان عن هذه الدنيا أو يقتل، يخرج هذا الطائر من جسمه ويدور حول جسده بصورة مرعبة، وينوح عند قبره.

وكانوا يعتقدون ـ أيضاً ـ أنّ هذا الطائر يكون صغيراً في البداية ثمّ يكبر حتى يصبح بحجم البوم، وهو يعيش دائماً في خوف واضطراب، ويسكن الديار الخالية، والخرائب، والقبور ومصارع القتلى!

____________________________________

1 ـ الجاثية، الآية 24.

2 ـ سورة يس، الآية 78.

3 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، المجلد 1، صفحة 117.

[152]

وكذلك كانوا يعتقدون أنّ شخصاً إذا قتل ستصيح هامة على قبره: اسقوني فإني صدية أي عطشانة(1).

لقد أبطل الإسلام كلّ هذه المعتقدات الخرافية، ولذلك روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: «لا هامة»(2).

وعلى أية حال، فيبدو أنّ هؤلاء وإن لم يكونوا يعتقدون بالمعاد وحياة الإنسان بعد موته، إلاّ أنّهم كانوا يقولون بالتناسخ وبقاء الأرواح بشكل ما.

أمّا المعاد الجسماني على الهيئة التي يذكرها القرآن الكريم، بأنّ تراب الإنسان يجمع مرة أخرى، ويعود إلى الحياة من جديد، وأن لكلا الجسم والروح معاداً مشتركاً، فإنّهم كانوا ينكرونه تماماً، ولا ينكرونه فحسب، بل كانوا يخافونه. وقد أوضحه لهم القرآن بأساليب مختلفة وأثبته لهم.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ بلوغ الأرب، المجلد 2، صفحة 311.

2 ـ المصدر السابق.

[153]

الآيات

أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّع وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَـهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ( 37 )وَ مَا خَلَقْنَا السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَابَيْنَهُمَا لـَعِبِينَ( 38 ) مَا خَلَقْنَـهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ  لاَ يَعْلَمُونَ( 39 )

 

التّفسير

قوم تبع:

لقد كانت أرض اليمن ـ الواقعة في جنوب الجزيرة العربية ـ من الأراضي العامرة الغنية، وكانت في الماضي مهد الحضارة والتمدن، وكان يحكمها ملوك يسمّون «تبّعاً» ـ وجمعها تبابعة ـ لأنّ قومهم كانوا يتبعونهم، أو لأنّ أحدهم كان يخلف الآخر ويتبعه في الحكم.

ومهما يكن، فقد كان قوم تبع يشكلون مجتمعاً قوياً في عدته وعدده، ولهم حكومتهم الواسعة المترامية الأطراف.

وهذه الآيات تواصل البحث الذي ورد حول مشركي مكّة وعنادهم وإنكارهم

[154]

للمعاد ـ فتهدد أُولئك المشركين من خلال الإشارة إلى قصة قوم تبع، بأنّ ما ينتظركم ليس العذاب الإلهي في القيامة وحسب، بل سوف تلاقون في هذه الدنيا أيضاً مصيراً كمصير قوم تبّع المجرمين الكافرين، فتقول: (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنّهم كانوا مجرمين).

من المعلوم أنّ سكان الحجاز كانوا مطلعين على قصة قوم تبع الذين كانوا يعيشون في جوارهم، ولذلك لم تفصل الآية كثيراً في أحوالهم، بل اكتفت بالقول: أنّ احذروا أن تلاقوا نفس المصير الذي لاقاه أولئك الأقوام الآخرون الذين كانوا يعيشون قربكم وحواليكم، وفي مسيركم إلى الشام، وفي أرض مصر. فعلى فرض أن بإمكانكم إنكار القيامة، فهل تستطيعون أن تنكروا العذاب الذي نزل بساحة هؤلاء القوم المجرمين العاصين؟

والمراد من (الذين من قبلهم) أمثال قوم نوح وعاد وثمود.

وسنبحث المراد من قوم تبع، في ما يأتي، إن شاء الله تعالى.

ثمّ تعود الآية التي بعدها إلى مسألة المعاد مرّة أُخرى، وتثبت هذه الحقيقة باستدلال رائع، فتقول: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)(1).

نعم، فإنّ لهذا الخلق العظيم الواسع هدفاً، فإذا كان الموت بزعمكم نقطة النهاية بعد أيام من المأكل والمشرب والمنام وقضاء الشهوات الحيوانية، وبعد ذلك ينتهي كلّ شيء بالموت، فسيكون هذا الخلق لعباً ولهواً وعبثاً، لا فائدة من ورائه ولا هدف.

ولا يمكن التصديق بأنّ الله القادر الحكيم قد خلق هذا النظام والخلق العظيم من أجل عدّة أيّام سريعة الإنقضاء لا هدف من ورائها، مع ما تقترن به أيّام الحياة هذه من أنواع الآلام والمصائب والمصاعب، أفينتهي كلّ شيء بانتهائها!؟ إنّ هذا

____________________________________

1 ـ «لاعب» من مادة (لعب)، ويقول الراغب في المفردات: لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً. والتثنية في (ما بينهما) من أجل أنّ المراد جنس السماء والأرض.

[155]

الأمر لا ينسجم مطلقاً مع حكمة الله.

بناءً على هذا، فإنّ مشاهدة وضع هذا العالم وتنظيمه، تلزمنا التصديق بأنّه مدخل وممر إلى عالم أعظم أبدي، فلماذا لا تتفكرون في ذلك؟

لقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مراراً في سور المختلفة، فيقول في الآية (16) من سورة الأنبياء: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين).

ويقول في الآية (62) من سورة الواقعة : (ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون).

وعلى أية حال، فإنّ هنالك غاية وراء خلق هذا العالم، وهناك عالماً آخر يتبعه، في حين أنّ المذاهب الإلحادية والمنكرة للمعاد ترى بأنّ هذا الخلق عبث لا فائدة من ورائه ولا هدف.

ثمّ تضيف الآية التي بعدها لتأكيد الكلام: (ما خلقناهما إلاّ بالحق).

إن كون هذا الخلق حقاً يوجب أن يكون له هدف عقلائي، وذلك الهدف لا يتحقق إلاّ بوجود عالم آخر. إضافة إلى أنّ كونه حقاً يقضي بأنّ لا يتساوى المحسنون والمسيئون، ولما كنا نرى كل واحد من هاتين الفئتين قلّما يرى جزاء عمله في هذه الدنيا، فلا بد من وجود عالم آخر يجري فيه الحساب والثواب والعقاب، ليتلقى كل إنسان جزاء عمله، خيراً أم شراً.

وخلاصة القول، فإنّ الحق في هذه الآية إشارة إلى الهدفية في الخلق، واختبار البشر وقانون التكامل، وكذلك تنفيذ أصول العدالة: (ولكن أكثرهم لا يعلمون)لأنهم لا يعملون الفكر في التوصل إلى الحقائق، وإلاّ فإنّ أدلة المبدأ والمعاد واضحة بينة.

 

* * *

 

[156]

بحث

من هم قوم تبّع؟

لقد وردت كلمة (تبّع) في القرآن الكريم مرتين فقط: مرة في الآيات مورد البحث، وأخرى في الآية 14 من سورة (ق) حيث تقول: (وأصحاب الأيكة وقوم تبّع كل كذب الرسل فحق وعيد).

وكما أشرنا من قبل، فإنّ «تبعاً» كان لقباً عاماً لملوك اليمن، ككسرى لسلاطين إيران، وخاقان لملوك الترك، وفرعون لملوك مصر، وقيصر لسلاطين الروم.

وكانت كلمة (تبع) تطلق على ملوك اليمن من جهة أنّهم كانوا يدعون الناس إلى اتباعهم، أو لأنّ أحدهم كان يتبع الآخر في الحكم.

لكن يبدو أنّ القرآن الكريم يتحدث عن أحد ملوك اليمن خاصة ـ كما أنّ فرعون المعاصر لموسى(عليه السلام)، والذي يتحدث عنه القرآن كان معيناً ومحدداً ـ وورد في بعض الرّوايات أنّ اسمه «أسعد أبا كرب».

ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان رجلاً مؤمناً، واعتبروا تعبير «قوم تبّع» الذي ورد في آيتين من القرآن دليلاً على ذلك، حيث أنّه لم يُذَمّ في هاتين الآيتين، بل ذُم قومه، والرّواية المروية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شاهدة على ذلك، ففي هذه الرواية أنّه قال: «لاتسبّوا تبّعاً فإنّه كان قد أسلم»(1).

وجاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إن تبّعاً قال للأوس والخزرج: كونوا ها هنا حتى يخرج هذا النبي، أمّا لو أدركته لخدمته وخرجت معه»(2).

وورد في رواية أُخرى: إنّ تبعاً لما قدم المدينة ـ من أحد أسفاره ـ ونزل بفنائها، بعث إلى أحبار اليهود الذين كانوا يسكنونها فقال: إنّي مخرب هذا البلد

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 66 ذيل الآية مورد البحث، وأورد نظير هذا المعنى في تفسير الدر المنثور، وكذلك ورد في روح المعاني، المجلد 25، صفحة 116.

2 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

[157]

حتى لا تقوم به يهودية، ويرجع الأمر إلى دين العرب.

فقال له شامول اليهودي ـ وهو يومئذ أعلمهم ـ. أيها الملك إنّ هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده بمكّة اسمه أحمد. ثمّ ذكروا له بعض شمائل نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال تبّع ـ وكأنّه كان عالماً بالأمر ـ: ما إلى هذا البلد من سبيل، وما كان ليكون خرابها على يدي(1).

بل ورد في رواية في ذيل تلك القصة أنّه قال لمن كان معه من الأوس والخزرج: أقيموا بهذا البلد، فإنّ خرج النّبي الموعود فآزروه وانصروه، وأوصوا بذلك أولادكم، حتى أنّه كتب رسالة أودعهم إياها ذكر فيها إيمانه بالرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

ويروي صاحب أعلام القرآن أنّ تبّعاً كان أحد ملوك اليمن الذين فتحوا العالم، فقد سار بجيشه إلى الهند واستولى على بلدان تلك المنطقة. وقاد جيشاً إلى مكّة، وكان يريد هدم الكعبة، فأصابه مرض عضال عجز الأطباء عن علاجه.

وكان من بين حاشيته جمع من العلماء، كان رئيسهم حكيماً يدعى شامول، فقال له: إنّ مرضك بسبب سوء نيتك في شأن الكعبة، وستشفى إذا صرفت ذهنك عن هذه الفكرة واستغفرت، فرجع تبع عما أراد ونذر أن يحترم الكعبة، فلما تحسن حاله كسا الكعبة ببرد يماني.

وقد وردت قصّة كسوة الكعبة في تواريخ أُخرى حتى بلغت حد التواتر. وكان تحرك الجيش هذا، ومسألة كسوة الكعبة في القرن الخامس الميلادي، ويوجد اليوم في مكّة مكان يسمى «دار التبابعة»(3).

وعلى أية حال، فإنّ القسم الأعظم من تأريخ ملوك التبابعة في اليمن لا يخلو

____________________________________

1 ـ روح المعاني، المجلد الأوّل 25، صفحة 118.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ اعلام القرآن، ص257 ـ 259 (بتلخيص).

[158]

من الغموض من الناحية التاريخية، حيث لا نعلم كثيراً عن عددهم، ومدّة حكومتهم، وربّما نواجه في هذا الباب روايات متناقضة، وأكثر ما ورد في الكتب الإسلامية ـ سواء كتب التّفسير أو التأريخ أو الحديث ـ يتعلق بذلك الملك الذي أشار إليه القرآن في موضعين.

 

* * *

 

[159]

الآيات

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَـتُهُمْ أَجْمَعِينَ( 40 ) يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ( 41 ) إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ( 42 )

 

التّفسير

يوم الفصل!

تمثل هذه الآيات في الحقيقة نتيجة الآيات السابقة التي بحثت مسألة المعاد، والتي استدل بها عن طريق حكمة خلق هذا العالم على وجود البعث والحياة الأُخرى.

فتستنتج الآية الأولى من هذا الإستدلال: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين).

كم هو جميل هذا التعبير عن يوم القيامة بيوم الفصل! ذلك اليوم الذي يفصل فيه الحق عن الباطل، وتمتاز صفوف المحسنين عن المسيئين، ويعتزل فيه الإنسان أعزّ أصدقائه وأقرب أخلائه.. نعم، إنّه موعد كلّ المجرمين(1).

____________________________________

1 ـ احتمل المفسّرون احتمالات عديدة في مرجع الضمير في (ميقاتهم) فالبعض أرجعه إلى كلّ البشر، والبعض خصوص الأقوام الذين أشير إليهم في الآيات السابقة، أي قوم تبع والعصاة من قبلهم. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأصح.

[160]

ثمّ ذكرت الآية التالية شرحاً موجزاً ليوم الفصل هذا، فقالت: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون).

أجل، ذلك اليوم هو يوم الفصل والافتراق، يوم يفارق الإنسان فيه كلّ شيء إلاّ عمله، ولا يملك المولى ـ بأي معنى كان، الصاحب، الولي، ولي النعمة، القريب، الجار، الناصر وأمثال ذلك ـ القدرة على حل أصغر مشكلة من مشاكل القيامة.

«المولى» من مادة ولاء، وهي في الأصل تعني الإتصال بين شيئين بحيث لا يوجد بينهما حاجز، وله مصاديق كثيرة وردت في كتب اللغة كمعان مختلفة، تشترك جميعاً في معناها الأصلي وجذرها(1).

في ذلك اليوم لا يجيب الرفيق رفيقه، وترى الأقارب لا يحل بعضهم مشكلة بعض، بل وتتبخر كلّ الخطط وتتقطع جميع الأواصر الدنيوية كما نقرأ هذه الصورة في الآية (46) من سورة الطور: (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون).

أمّا ما هو الفرق بين «لا يغني» وبين «لا هم ينصرون»؟ فإنّ أحسن ما يقال هو: أنّ الأوّل إشارة إلى أنّ أي فرد لا يقدر في ذلك اليوم على حل مشكلة فرد آخر بصورة إنفرادية مستقلة، والثّاني إشارة إلى أنّهم عاجزون عن حل المشاكل حتى وإنْ تعاونوا فيما بينهم، لأنّ النصرة تقال في موضع يهبّ فيه شخص لمعونة آخر ومساندته حتى ينصره على المشاكل.

لكن هناك جماعة واحدة مستثناة فقط، وهي التي أشارت إليها الآية التالية، فقالت: (إلاّ من رحم الله إنّه هو العزيز الرحيم).

لا شك أنّ هذه الرحمة الإلهية لا تُمنح اعتباطاً، بل تشمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقط، وإذا كانوا قد بدر منهم زلل ومعصية، فإنّها لا تبلغ حدّاً تقطع فيه

____________________________________

1 ـ لقد ذكرت للمولى معان كثيرة في اللغة، وعدها البعض سبعة وعشرين معنى: 1 ـ الرب 2 ـ العم 3 ـ ابن العم 4 ـ الابن 5 ـ ابن الأخت 6 ـ المعتِق 7 ـ المعتَق 8 ـ العبد 9 ـ المالك 10 ـ التابع 11 ـ المنعَم عليه 12 ـ الشريك 13 ـ الحليف 14 ـ الصاحب 15 ـ الجار 16 ـ النزيل 17 ـ الصهر 18 ـ القريب 19 ـ المنعِم 20 ـ الفقيد 21 ـ الولي 22 ـ الأولى بالشيء 23 ـ السيد غير المالك والمعتق 24 ـ المحبّ 25 ـ الناصر 26 ـ المتصرف في الأمر 27 ـ المتولي في الأمر. (الغدير، المجلد 1، صفحة 362).

[161]

علاقتهم بالله سبحانه، فهم يرفعون أكفهم إلى الله ويرجون رحمته، فيتنعمون بها، ويرتوون منها، ويتمتعون بشفاعة أوليائه.

من هنا يتّضح أنّ نفي وجود صديق وولي ونصير في ذلك اليوم لا ينافي مسألة الشفاعة، لأنّ الشفاعة أيضاً لا تحصل إلاّ بإذن الله تعالى.

والطريف أنّ الآية قرنت وصفه سبحانه بكونه عزيزاً ورحيماً، والأوّل إشارة إلى قدرته اللامتناهية التي لا تعرف الهزيمة والضعف، والثّاني إشارة إلى رحمته التي لا حدود لها، والمهم أن تكون رحمته عين قدرته.

وقد روي في بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام) أنّ المراد من جملة: (إلاّ من رحم الله) وصي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين علي(عليه السلام)وشيعته(1).

ولا يخفى أنّ الهدف منها هو بيان المصداق الواضح.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 629.

[162]

الآيات

إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ( 43 ) طَعَامُ الاَْثِيمِ( 44 ) كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ ( 45 ) كَغَلْىِ الْحَمِيمِ( 46 ) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ( 47 ) ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ( 48 ) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ( 49 ) إِنَّ هـذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ( 50 )

 

التّفسير

شجرة الزقوم!

تصف هذه الآيات أنواعاً من عذاب الجحيم وصفاً مرعباً يهز الأعماق، وهي تكمل البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول يوم الفصل والقيامة، فتقول: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) فهؤلاء المجرمون هم الذين يأكلون هذا النبات المر القاتل، والخبيث الطعام النتن الرائحة.

«الزّقوم» كما قلنا في تفسير الآية (62) من سورة الصافات ـ على قول المفسّرين وأهل اللغة، اسم شجرة لها أوراق صغيرة وثمرة مرّة خشنة اللمس منتنة الرائحة، تنبت في أرض تهامة من جزيرة العرب، كان المشركون يعرفونها، وهي

[163]

شجرة عصيرها مرّ، وإذا أصابت البدن تورّم(1).

ويعتقد البعض أنّ الزقوم في الأصل يعني الإبتلاع(2)، ويقول البعض: إنّها كلّ طعام خبيث في النّار(3).

وجاء في حديث أنّ هذه الكلمة لما نزلت في القرآن قال كفار قريش: ما نعرف هذه الشجرة، فأيّكم يعرف معنى الزقوم؟ وكان هناك رجل من أفريقية قال: هي عندنا التمر والزبد ـ وربَّما قال ذلك استهزاء ـ فلما سمع أبو جهل ذلك قال مستهزئاً: يا جارية زقمينا، فأتته الجارية بتمر وزبد، فقال لأصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمّد(4).

وينبغي الالتفات إلى أنّ «الشجرة» تأتي في لغة العرب والاستعمالات القرآنية بمعنى الشجرة أحياناً، وبمعنى مطلق النبات أحياناً.

و«الأثيم» من مادة إثم، وهو المقيم على الذنب، والمراد هنا الكفار المعاندون المعتدون، المصرون على الذنوب والمعاصي المكثرون منها.

ثمّ تضيف الآية: (كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم).

«المهل» ـ على قول كثير من المفسّرين وأرباب اللغة ـ الفلز المذاب، وعلى قول آخرين ـ كالراغب في المفردات ـ هو دُرْدِيُّ الزيت، وهو ما يترسب في الإناء، وهو شيء مرغوب فيه جداً، لكن يبدو أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

«والحميم» هو الماء الحار المغلي، وتطلق أحياناً على الصديق الوثيق العلاقة والصداقة، والمراد هنا هو المعنى الأول.

على أي حال، فعندما يدخل الزقوم بطون هؤلاء، فإنّه يولد حرارة عالية  لا تطاق، ويغلي كما يغلي الماء، وبدل أن يمنحهم هذا الغذاء القوة والطاقة فإنّه

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، تفسير روح البيان، تفسير روح المعاني.

2 ـ لسان العرب مادة «زقم».

3 ـ مفردات الراغب مادة (زقم).

4 ـ تفسير القرطبي، المجلد 8، صفحة 5529 ذيل الآية (62) من سورة الصافات.

[164]

يهبهم الشقاء والعذاب والألم والمشقة.

ثمّ يخاطب سبحانه خزنة النّار، فيقول: (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم).

«فاعتلوه» من مادة العَتْل، وهي الأخذ والسحب والإلقاء. وهو ما يفعله حماة القانون والشرطة مع المجرمين المتمردين، الذي لا يخضعون لأي قانون ولا يطبقونه.

«سواء» بمعنى الوسط، لأنّ المسافة إلى جميع الأطراف متساوية، وأخذ أمثال هؤلاء الأشخاص وإلقاؤهم في وسط جهنم باعتبار أنّ الحرارة أقوى ما تكون في الوسط، والنّار تحيط بهم من كلّ جانب.

ثمّ تشير الآية التالية إلى نوع آخر من أنواع العقاب الأليم الذي يناله هؤلاء، فتقول: (ثمّ صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم)(1) وبهذا فإنّهم يحترقون من الداخل، وتحيط النّار بكلّ وجودهم من الخارج، وإضافة إلى ذلك يصب على رؤوسهم الماء المغلي في وسط الجحيم.

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (19) من سورة الحج حيث تقول: (يصب من فوق رؤوسهم الحميم).

وبعد كلّ أنواع العذاب الجسمي هذه، تبدأ العقوبات الروحية والنفسية، فيقال لهذا المجرم المتمرد العاصي الكافر: (ذق إنّك أنت العزيز الكريم) فأنت الذي كنت قد قيدت البؤساء فباتوا في قبضتك تظلمهم كيف شئت، وتعذبهم حسبما تشتهي، وكنت تظن أنّك قوي لا تقهر، وعزيز لا يمكن أنّ تُهان ويجب على الجميع احترامك وتقديرك.

نعم، أنت الذي ركبك الغرور فلم تدع ذنباً لم ترتكبه، ولا موبقة لم تأتها، فذق الآن نتيجة أعمالك التي تجسدت أمامك، وكما أحرقت أجسام الناس وآلمت

____________________________________

1 ـ عذاب الحميم من قبيل الإضافة البيانية، أي إنّ هذا الماء المحرق عذاب يصب على هؤلاء.

[165]

أرواحهم، فليحترق الآن داخلك وخارجك بنار غضب الله والماء المغلي الذي يصهر ما في بطونهم والجلود.

وجاء في حديث أنّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ يوماً بيد أبي جهل وقال: «أولى لك فأولى» فغضب أبو جهل وجرَّ يده وقال: بأي شيء تهددني؟ ما تستطيع أنت وصاحبك أن تفعلا بي شيئاً، إنّي لمن أعز هذا الوادي وأكرمه.

والآية ناظرة إلى هذا المعنى، فتقول: عندما يلقونه في جهنم يقولون له: ذق يا عزيز مكّة وكريمها(1).

ويضيف القرآن الكريم في آخر آية ـ من الآيات مورد البحث ـ مخاطباً إيّاهم: (إن هذا ما كنتم به تمترون) فكم ذكّرناكم بحقّانية هذا اليوم وحقيقته في مختلف آيات القرآن وبمختلف الأدلة؟!

ألم نقل لكم: (وكذلك الخروج)؟(2).

ألم نقل: (وكذلك النشور)؟(3).

ألم نقل: (وذلك على الله يسير)؟(4).

ألم نقل: (أفعيينا بالخلق الأول)؟(5).

وخلاصة القول: قد قلنا لكم الحقيقة وأوضحناها بطرق مختلفة، لكن لم تكن لكم آذان تسمعون بها.

* * *

 

____________________________________

1 ـ تفسير المراغي، المجلد 25، صفحة 135 ذيل الآيات مورد البحث، وتفسير روح المعاني، والتّفسير الكبير للفخر الرازي.

2 ـ سورة ق، الآية 11.

3 ـ سورة فاطر، الآية 9.

4 ـ سورة التغابن، الآية 7.

5 ـ سورة ق، الآية 15.

[166]

بحث

العقوبات الجسمية والروحية:

نحن نعلم، وطبقاً لصريح القرآن، أنّ للمعاد جانباً جسمياً، وآخر روحياً، وعلى ذلك فمن الطبيعي أن تكون العقوبات والمثوبات متصفتين بهما كذلك، ولذلك أشير في آيات القرآن الكريم والرّوايات الإسلامية إلى كلا القسمين، غاية ما في الأمر أنّ إنتباه الناس وإحساسهم لمّا كان منصباً على الاُمور الجسمية غالباً، لذلك يلاحظ أنّ التفصيل في العقوبات والمثوبات المادية أكثر، لكن لا يعني هذا أن الإشارة إلى المثوبات والعقوبات المعنوية قليلة.

وقد رأينا في الآيات أعلاه نموذجاً لهذا المطلب، فمع ذكر عدّة أقسام من العقوبات الجسمية الأليمة، هناك إشارة وجيزة عميقة المحتوى إلى الجزاء الروحي الذي سينال المستكبرين.

وتلاحظ في آيات أُخرى من القرآن الإشارة إلى المثوبات الروحية أيضاً، فيقول الله تعالى في موضع: (ورضوان من الله أكبر)(1).

ويقول في موضع آخر: (سلام قولاً من ربّ رحيم)(2).

وأخيراً يقول في موضع ثالث: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين)(3).

ولا يخفى أنّه لا يمكن وصف اللذائذ المعنوية غالباً وخاصّة في ذلك العالم الواسع، ولذلك فقد أشير إليها في القرآن إشارة غامضة عادة، أمّا العقوبات الروحية التي تكون بالتحقير والإهانة، التوبيخ والتقريع، والأسف والهم والحزن، فقد وصفتها الآيات وأوضحتها، وقد قرأنا نماذج منها في الآيات أعلاه.

* * *

____________________________________

1 ـ سورة التوبة، الآية 72.

2 ـ سورة يس، الآية 58.

3 ـ سورة الحجر، الآية 47.

[167]

الآيات

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَام أَمِين( 51 ) فِى جَنَّـت وَعُيُون( 52 ) يَلْبَسُونَ مِن سُندُس وَإِسْتَبْرَق مُتَقَـبِلِينَ( 53 ) كَذلِكَ وَزَوَّجْنَـهُم بِحُور عِين( 54 ) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـكِهَة آمِنِينَ( 55 ) لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاُْولَى وَوَقَـهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ( 56 ) فَضْلاً مِن رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( 57 )

 

التّفسير

المتقون ومختلف نعم الجنّة:

لما كان الكلام في الآيات السابقة عن العقوبات الأليمة لأهل النّار، فإنّ هذه الآيات تذكر المواهب والنعم المعدة لأهل الجنّة، لتتضح أهمية كلّ منهما من خلال المقارنة بينهما.

وقد لخصت هذه المواهب في سبعة أقسام:

الأولى: هي (إن المتقين في مقام أمين)(1) على هذا فلا يصيبهم أي إزعاج أو

____________________________________

1 ـ ممّا يستحق الإنتباه أنّ (أمين) قد ذكر وصفاً للمقام، فكأن مقام أهل الجنّة أمين بنفسه ولا يخون أهل الجنّة مطلقاً، ومثل هذه التعبيرات تأتي عادة للتأكيد والمبالغة.

[168]

خوف، بل هم في أمن كامل من الآفات والبلايا، من الغم والأحزان، ومن الشياطين والطواغيت.

ثمّ تطرقت الآيات إلى النعمة الثانية فقال: (في جنات وعيون).

إن التعبير بالجنات يمكن أن يكون إشارة إلى تعدد الحدائق والبساتين التي يتمتع بها كلّ فرد من أهل الجنّة، فهي تحت تصرفه، أو تكون إشارة إلى مقاماتهم المختلفة ودرجاتهم المتفاوتة، لأنّ حدائق الجنّة وبساتينها غير متساوية، بل تختلف باختلاف درجات أصحاب الجنّة.

وتشير الثالثة إلى ملابسهم الجميلة، فتقول: (يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين).

«السندس» يقال للأقمشة الحريرية الناعمة الرقيقة، وأضاف البعض قيد كونها مذهَّبة.

و«الإستبرق» هي الأقمشة الحريرية السميكة، ويعتقد بعض المفسّرين وأهل اللغة أنها معربة من الكلمة الفارسية (أستبر) أو (ستبر) أي السميك. ويحتمل أن يكون أصلها عربياً مأخوذاً من البرق أي التلألؤ، حيث أنّ لهذه الأقمشة بريقاً خاصّاً.

طبعاً، ليس في الجنّة حرّ شديد أو برد قارص ليتوقاه أهل الجنّة بارتداء هذا الملابس، بل هذه إشارة إلى الألبسة المتنوعة المعدة لهم.

وكما قلنا سابقاً، فإنّ كلماتنا وألفاظنا ـ هذه التي وضعت لرفع حاجات الحياة اليومية في دنيانا ـ عاجزة عن وصف مسائل ذلك العالم الكامل العظيم، بل هي قادرة على الإشارة إليها وحسب.

واعتقد البعض أنّ اختلاف هذه الألبسة إشارة إلى تفاوت مقامات القرب بين أصحاب النعيم.

[169]

ثمّ إنّ كون أهل الجنّة متقابلين مع بعضهم البعض، وزوال أي تفاوت وتكبر لأحد على آخر، إشارة إلى روح الأُنس والأخوة التي تسود مجالسهم، تلك المجالس والحلقات التي لا يرى فيها إلاّ الصفاء والمودّة وتسامي الروح.

وتصل النوبة في النعمة الرابعة إلى أزواجهم، فتقول: (كذلك وزوجناهم بحور عين).

«الحور» جمع حوراء وأحور، وتقال لمن اشتد سواد عينه، واشتد بياض بياضها. و«العين» جمع أعين وعيناء، أي أوسع العين، ولما كان أكثر جمال الإنسان في عينيه، فإنّ الآية تصف عيون الحور العِين الجميلة الساحرة. وقد ذكرت محاسنهن الأُخرى بأسلوب رائع في آيات أُخرى من القرآن.

ثمّ تناولت الآية الأُخرى النعمة الخامسة لأصحاب الجنّة فقالت: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) فلا توجد في الجنّة تلك هنا المشكلات والصعوبات التي كانوا يعانونها في تناول فاكهة الدنيا، فإنّها قريبة منهم وفي متناولهم، وعلى هذا فليس هناك بذل جهد لاقتطاف الأثمار من الأشجار العالية، إذ (قطوفها دانية)(1).

وإليهم يرجع اختيار الفاكهة التي يشتهونها: (وفاكهة مما يتخيرون)(2).

ولا أثر هنا للأمراض والإضطرابات التي قد تحدث في هذه الدنيا على أثر تناول الفواكه، وكذلك لا خوف من فسادها وقلتها، فهم في راحة وأمن واطمئنان من الجهات.

وعلى أية حال، فإذا كان الزقوم طعام أهل النّار الذي يغلي في بطونهم كغلي الحميم، فإنّ طعام الجنّة هي الفواكه اللذيذة الخالية من كلّ أذى وإزعاج.

خلود الجنّة ونعمها هي النعمة السادسة من نعم الله سبحانه على المتقين، لأنّ الذي يقلق فكر الإنسان عند الوصال واللقاء هو خوف الفراق، ولذلك تقول الآية:

____________________________________

1 ـ سورة الحاقة، الآية 23.

2 ـ سورة الواقعة، الآية 20.

[170]

(لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى).

والطريف أنّ القرآن الكريم قد بيّن كون نعم الجنّة خالدة بتعابير مختلفة، فيقول تارة: (خالدين فيها)(1) ويقول أُخرى: (عطاء غير مجذوذ)(2)

أمّا لماذا عُبر بـ (الموتة الأولى) فسيأتي بيانه في التأملات، إن شاء الله تعالى.

وأخيراً يبيّن القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها، فيقول: (ووقاهم عذاب الجحيم)فإنّ كمال هذه النعم إنما يتم عندما يخلو فكر أصحاب الجنّة من احتمال العذاب، وعدم انشغالهم به، لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ.

وهذا التعبير يشير إلى أنّ المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات، فإنّ الله سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه، ويطمئنهم بأنّ لا يدعوا للخوف إلى أنفسهم سبيلاً. وبتعبير آخر، فإنّ غير المعصومين مبتلون بالهفوات شاؤوا أم أبوا، وهم في خوف وقلق منها ماداموا غير مطمئنين بشمول العفو الإلهي لهم، وهذه الآية تمنحهم الإطمئنان والراحة والأمان من هذه الجهة.

وهنا يطرح سؤال، وهو: إنّ بعض المؤمنين يقضون مدّة في الجحيم بذنوب اقترفوها، ليتطهروا منها، ثمّ يدخلون الجنّة، فهل تشملهم الآية المذكورة؟

ويمكن القول في معرض الإجابة عن هذا السؤال، بأنّ الآية تتحدث عن المتقين ذوي الدرجات السامية، والذين يردون الجنّة من أوّل وهلة، أما الفئة الأُخرى فهي ساكتة عنهم.

ويحتمل أيضاً أنّ هؤلاء عندما يدخلون الجنّة فلن يخشوا بعد ذلك العودة إلى النّار، بل يبقون من الأمن الدائم، وهذا يعني أنّ الآية أعلاه ترسم صورة هؤلاء وحالهم بعد دخولهم الجنّة.

وأشارت آخر آية ـ من هذه الآيات ـ إلى جميع النعم السبعة، وكنتيجة لما مر

____________________________________

1 ـ ورد هذا التعبير في آيات كثير من القرآن، ومن جملتها: آل عمران ـ 15، 136، النساء ـ 13، 122، المائدة ـ 85، وغيرها.

2 ـ سورة هود، الآية 110.

[171]

تقول: (فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم)(1).

صحيح، إنّ المتقين قد عملوا الكثير من الصالحات والحسنات، إلاّ أنّ من المسلّم أن تلك الأعمال جميعا لا تستحق كلّ هذه النعم الخالدة، بل هي فضل من الله سبحانه، إذ جعل كلّ هذه النعم والعطايا تحت تصرفهم ووهبهم إيّاها.

هذا إضافة إلى أنّ هؤلاء لم يكونوا قادرين على كسب كلّ هذه الحسنات ولا على فعل الحسنات لو لم يشملهم فضل الله وتوفيقه ولطفه، فهو الذي منحهم العقل والعلم، وهو الذي أرسل الأنبياء والكتب السماوية، وهو الذي غمرهم بتوفيق الهداية والعمل.

نعم، إنّ استغلال هذه المنح العظمى، والوصول إلى كلّ تلك العطايا والثواب، إنّما تمّ بفضله سبحانه إذ وهبهم إيّاها، ولم يكن هذا الفوز العظيم ليحصل إلاّ في ظل لطفه وكرمه.

* * *

 

بحث

ما هي الموتة الأولى؟

قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ أصحاب الجنّة لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى، وهنا تطرح أسئلة ثلاثة:

الأول: ما المراد من الموتة الأولى؟ فإنّ كان المراد الموت الذي تنتهي به الحياة الدنيا، فلما تقول الآية: (لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى) في حين أنّهم قد ذاقوها، وعليه يجب أن يأتي الفعل بصيغة الماضي لا المضارع؟

وللإجابة عن هذا السؤال اعتبر البعض (إلاّ) في جملة (إلاّ الموتة الأولى)

____________________________________

1 ـ احتملت عدّة احتمالات في إعراب (فضلاً): أحدها: إنّها مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: فضلهم فضلاً، والآخر: أنّه مفعول لأجله، أو أنّها حال.

[172]

بمعنى (بعد)، وقالوا: إنّ معنى الآية هو أنّهم لا يذوقون موتاً بعد موتتهم الأولى.

وقدّر البعض الآخر تقديراً في الكلام فقالوا: إنّ التقدير هو: إلاّ الموتة الأولى التي ذاقوها(1).

الثاني: هو: لماذا ورد الكلام عن الموتة الأولى فقط، في حين أننا نعلم أنّ الإنسان يذوق الموت مرّتين: مرّة عند انتهاء حياته، وأخرى بعد حياة البرزخ؟

وقد ذكروا للإجابة على هذا السؤال عدة إجابات كلها غير مرضية، فآثرنا عدم ذكرها لعدم استحقاقها الذكر.

والأفضل أن يقال: إنّ الحياة والموت في البرزخ لا يشبهان أبداً الحياة والموت العاديين، بل إنّ حياة القيامة تشبه الحياة الدنيا من وجوه عديدة بمقتضى المعاد الجسماني، غاية ما هناك أنّها في مستوى أعلى وأسمى، ولذلك يقال لأصحاب الجنّة: لا موتة بعد الموتة الأولى التي ذقتموها، ولما كانت الحياة والموت في البرزخ لا شباهة لهما بحياة الدنيا وموتها لذا لم يرد الكلام حولهما(2).

السؤال الثّالث هو: إنّ عدم وجود الموت في القيامة لا ينحصر بأصحاب الجنّة، بل أصحاب النّار لا يموتون أيضاً، فلماذا أكّدت الآية على أصحاب الجنّة؟

للمرحوم الطبرسي جواب رائع عن ذلك، فهو يقول: إنّ ذلك بشارة لأهل الجنّة، بأن لهم حياة خالدة هنيئة، أما أصحاب النّار الذين يعتبر كلّ لحظة من لحظات حياتهم موتاً، وكأنّهم يحيون ويموتون دائماً، فلا معنى لهذا الكلام في حقهم.

وعلى أية حال، فإنّ التعبير هنا بـ(لا يذوقون) إشارة إلى أنّ أصحاب الجنّة لا يرون ولا يعانون أدنى أثر من آثار الموت.

وجميلٌ أنّ نقرأ في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّ الله تعالى يقول لبعض أهل

____________________________________

1 ـ بناءً على هذا فإنّ الإستثناء أعلاه منقطع أيضاً لأنّ أصحاب الجنّة لا يذوقون مثل هذا الموت، بل ذاقوه من قبل (فتأمل!).

2 ـ الحياة والموت في البرزخ في ذيل الآية (11) من سورة المؤمن.

[173]

الجنّة: «وعزتي وجلالي، وعلوي وارتفاع مكاني لأنحلنّ لهم اليوم خمسة أشياء: ألا إنّهم شباب لا يهرمون، وأصحاء لا يسقمون، وأغنياء لا يفتقرون، وفرحون لا يحزنون، وأحياء لا يموتون» ثمّ تلا هذه الآية: (لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى)(1).

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ أصول الكافي، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 634.

[174]

الآيتان

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ( 58 ) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُرْتَقِبُونَ( 59 )

 

التّفسير

ارتقب فإنهم مرتقبون!

قلنا: إنّ سورة الدخان بدأت ببيان عظمة القرآن وعمقه، وتنتهي بهذه الآيات التي تبيّن كذلك التأثير العميق لآيات القرآن الكريم، لتنسجم بذلك بداية السورة مع نهايتها، وما هو مبيَّن أيضاً بين البداية والنهاية هو التأكيد على مواعظ القرآن ونصحه.

تقول الآية الأولى: (فإنّما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكّرون) فمع أنّ محتواه عميق جداً، وأبعاده مترامية، لكنه بسيط واضح، يفهمه الجميع، وتقتبس من أنواره كلّ الطبقات، أمثاله جميلة رائعة، وتشبيهاته واقعية بليغة، وقصصه حقيقية تربوية، دلائله واضحة محكمة، وبيانه مع عمقه بسيط سهل، مختصر عميق المحتوى، وهو في الوقت نفسه ذو حلاوة وجاذبية، ينفذ إلى أعماق قلوب البشر، فينبه الغافلين،

[175]

ويعلم الجاهلين، ويذكر من كان له قلب.

وقد ذكر بعض المفسّرين تفسيراً آخر لهذه الآية، يكون معنى الآية طبقاً له: إنّك وإن كنت أُميّاً لم تدرس وتتعلم، لكنك تستطيع أن تقرأ بكلّ يسر وسهولة هذه الآيات العميقة الغنية المحتوى، والتي تبين الوحي والإعجاز الإلهي. غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وهذه الآية ـ في الواقع ـ شبيهة بالآية التي تكررت عدّة مرات في سورة القمر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)؟!

لكن لما كان هناك جماعة لم يذعنوا لأمر الله، ولم يسلموا ويستسلموا رغم ذكر كل هذه الأوصاف، فقد هددتهم الآية الأخيرة وحذرتهم فقالت: (فارتقب إنّهم مرتقبون)فانتظر ما وعدك الله بالنصر على الكفار، ولينتظروا الهزيمة والخسران..

انتظر نزول عذاب الله الأليم على هؤلاء المعاندين الظالمين، ودعهم ينتظرون هزيمتك وعدم تحقق أهدافك السامية، ليعلم أي الإنتظارين هو الصحيح؟

بناء على هذا، ينبغي أنّ لا يستفاد أبداً من الآية أنّ الله سبحانه يأمر نبيّه أن يكف كلياً عن إبلاغهم رسالته، وينهي نشاطه وفعالياته وجهاده، ويكتفي بأنّ يكون منتظراً للنتيجة، وإنّما هو نوع تهديد لأُولئك المتعصبين عسى أن يستيقظوا من سباتهم، وينتبهوا من غفلتهم.

* * *

 

ملاحظات

1 ـ «ارتقب» في الأصل مأخوذة من الرقبة، ولما كان من ينتظر شيئاً يمد رقبته نحوه دائماً، فقد جاءت بمعنى انتظار الشيء ومراقبته.

[176]

2 ـ إنّ الآيات أعلاء تبين بوضوح أنّ القرآن الكريم لا يختص بطبقة خاصّة أو قوم معينين، بل هو لإفهام الجميع وتذكيرهم وإثارة تفكرهم، وعلى هذا، فإنّ أُولئك الذين يجعلون القرآن مجموعة من المفاهيم المبهمة الألغاز المحيرة التي لا  يفهمها ولا يعلمها إلاّ طبقة خاصّة، بل وحتى هذه الطبقة لا تفهم منه شيئا ولا تدرك أبعاده، غافلون في الحقيقة عن روح القرآن.

إنّ القرآن يجب أن يحيا بين الناس ويحضر بينهم حيثما كانوا، في المدينة والقرية، في الخلاء والملأ، في المدار الإبتدائية والجامعات، في المسجد وميادين الحرب، وفي كلّ مكان يوجد فيه إنسان، لأنّ الله سبحانه قد يسَّره ليتذكر الجميع ويقتبسوا من أنواره ما يضيؤون به حياتهم.

وكذلك قضت هذه الآية ببطلان أفكار أُولئك الذين حبسوا القرآن في إطار طريقة تلاوته وقواعد تجويده وتعقيداتها، وأصبح همهم الوحيد أداء ألفاظه من مخارجها، ومراعاة آداب الوقف والوصل فتقول لهم: إنّ كلّ ذلك من أجل التذكر الذي يكون عامل حركة وباعثاً على العمل في الحياة، فإنّ رعاية ظواهر الألفاظ صحيح في محله، إلاّ أنّه ليس الهدف النهائي، بل الهدف هو فهم معاني القرآن لا ألفاظه.

3 ـ ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): «لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يتلفظ بحرف من القرآن، وأنى لهم ذلك وهو كلام من لم يزل ولا يزال»(1).

اللّهمَّ اجعلنا ممن يتعظ بالقرآن العظيم، ويتذكر ويتدبر فيه، ويجعل حياته في جميع أبعادها تبعاً لمفاهيمه وأحكامه.

اللّهمَّ امنحنا من ذلك الأمن الذي وهبته المتقين، فجعلتهم مطمئنين موقنين

____________________________________

1 ـ تفسير روح البيان، المجلد 8، صفحة 433.

[177]

أمام عواصف الأحداث والمصاعب الجمة التي تعترضهم.

إلهنا.. إنّ مواهبك لا تحصى، ورحمتك لا تحد، وعذابك أليم، وليست أعمالنا بالتي تجعلنا مؤهلين لنيل رحمتك والنجاة من عذابك.

اللّهمَّ فانشر علينا من رحمتك، وأفض علينا من فضلك الذي وعدت به المتقين من عبادك، وإلاّ فلا سبيل لنا إلى جنتك الخالدة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الدخان




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335200

  • التاريخ : 28/03/2024 - 14:39

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net