• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : تَارِيخ القُرآنِ ، تأليف : الدكتور محمد حسين علي الصغير .
                    • الموضوع : الفصل الرابع : قراءات القرآن .

الفصل الرابع : قراءات القرآن

الفصل الرابع
قراءات القرآن

 

(93)


(94)

(95)
     هناك اتجاهان رئيسيان في شأن نشوء القراءات القرآنية ومصادرها .
     الأول : أن المصحف العثماني قد كتب مجردا عن الشكل والنقط والإعجام ، فبدا محتمل النطق بأحد الحروف المتشابهة في وجوه مختلفة ، فنشأت نتيجة ذلك القراءات المتعددة للوصول إلى حقيقة التلفظ بتلك الألفاظ المكتوبة ، ضبطا لقراءة القرآن على وجه الصحة وكما نزل . وفي هذا الضوء تكون القراءات القرآنية اجتهادية فيما احتمل موافقته للصحة من جهة الرسم القرآني أو العربية ، وقد تكون روائية في إيصال النص القرآني مشافهة عن طريق الإسناد ، فيصحح الرسم القرآني في ضوء الإسناد الروائي .
     الثاني : أن منشأ ذلك هو التوصل بالرواية المسندة القطعية المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كيفية القراءة القرآنية إلى النطق بآيات القرآن الكريم كما نطقها ، وكما نزلت عليه وحيا من الله تعالى ، بغض النظر عن كتابة المصحف الشريف ، وفي هذا الضوء فهي الطرق المؤدية بأسانيدها المختلفة حتى تتصل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا كان الأمر كذلك ، وتحققت هذه الطرق بالأسانيد الصحيحة الثابتة ، فالقراءات متواترة وليس اجتهادية .
     وقد ادعى المستشرق المجري جولد تسهير أن نشأة القراءات كانت بسبب تجرد الخط العربي من علامات الحركات ، وخلوه من نقط الإعجام (1) .
(1) ظ : جولد تسهير ، مذاهب التفسير الإسلامي : 8 وما بعدها .
(96)
     وتابعه على هذا المستشرق الألماني الأستاذ كارل بروكلمان فقال :
     « حقا فتحت الكتابة التي لم تكن قد وصلت بعد إلى درجة الكمال ، مجالا لبعض الاختلاف في القراءة ، لا سيما إذا كانت غير كاملة النقط ، ولا مشتملة على رسوم الحركات ، فاشتغل القراء على هذا الأساس بتصحيح القراءات واختلافها » (1) .
     وقد أكد بروكلمان هذا المعنى فيما بعد وقال : « جمع عثمان المسلمين على نص قرآني موحد ، وهذا النص الذي لم يكن كاملا في شكله ونقطه ، كان سببا في إيجاد اختلافات كثيرة ، ولذلك ظهرت عدة مدارس في بعض مدن الدولة الإسلامية ، وبخاصة في مكة والمدينة والبصرة والكوفة ، استمرت كل منها في رواية طريقة للقراءة والنطق ، معتمدة في ذلك على أحد الشيوخ ... ولقد تبين على مر الزمن أن الدقة في الرواية الشفوية ، التي كانت مرعية في بادىء الأمر ، لا يمكن اتباعها دائما بسبب عدد من الأشياء الصغيرة التي وجب المحافظة عليها » (2) .
     ومع أن هذا الرأي قد لقي نقدا وتجريحا من قبل بعض الدارسين العرب (3) . إلا أنه لقي بالوقت نفسه تأييدا من قبل آخرين أمثال الدكتور جواد علي والدكتور صلاح الدين المنجد (4) . لما يحمله في طياته من بعض وجوه الصحة .
     لقد كان الاختلاف في القراءة شائعا ، فأراد النص التدويني للمصحف العثماني ، قطع ذلك الاختلاف ، فكان سبيلا إلى التوحيد ، وهذا لا يمانع أن ينشأ بعد هذا التوحيد بعض الخلاف الذي جاء اجتهادا في أصول الخط المكتوب ، فنشأ عنه قسم من القراءات .
     إن ما يستدل به حول تفنيد موقع الكتابة المصحفية من نشوء بعض
(1) بروكلمان ، تاريخ الأدب العربي : 1 | 140 .
(2) المصدر نفسه : 4 | 1 وما بعدها .
(3) ظ : عبد الوهاب حمودة ، القراءات واللهجات + عبد الصبور شاهين ، تأريخ القرآن : .
(4) ظ : جواد علي ، لهجة القرآن : الكريم ، مجلة المجمع العلمي العراقي : 1955 + صلاح الدين المنجد ، دراسات في تأريخ الخط العربي : 42 .

(97)
القراءات يكاد ينحصر بالاستدلال بحديث : ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرأوا ما تيسر منه ) (1) ليقال بأن الاختلاف روائي وليس كتابيا ، والحق أن المسلمين إلى اليوم لم يصلوا إلى مؤدى هذه الرواية ، ولا يمكن أن يحتج بغير الواضح ، فما زال الخلاف قائما في معنى هذا الحديث وترجمته ، على أنه معارض ـ كما سترى ـ بحديث إنزال القرآن على حرف واحد . على أنه لا دلالة في هذه الحروف السبعة على القراءات السبعة إطلاقا ، وإذا كان القرآن قد نزل على سبعة أحرف . فالإنزال ـ حينئذ ـ توقيفي ، ووجب على الله تعالى حفظه وصيانته ، لأنه ذكر ، والذكر قرآن ، والقرآن مصان لقوله تعالى : ( إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (2) .
     ولقائل أن يتساءل : أين هذه الأحرف السبعة في القرآن ، وهلا يدلنا أحد عليها ، ولم يتفق المفسرون بل المسلمون على المعنى المراد من هذه الأحرف ، ولا يصح الاحتجاج بما لا يفهم معناه ، ولا يقطع بمؤداه ، إذ هو احتجاج بما لا يعرف ، وأخذ بما لا يراد ، واعتماد على ما لا يبين ، والالتزام بهذا باطل دون ريب .
     وإذا كانت الأحرف السبعة منزلة من قبل الله تعالى بواسطة الوحي الذي أوحاه الروح الأمين جبرائيل عليه السلام ، فمعنى ذلك أنها من القرآن الإلهي ، وإلا فمن التشريع الإلهي الذي لا يرد ولا ينقض إلا أن ينسخ ، وما ادعى أحد بنسخ ذلك من القائلين به .
     وقد يقال ـ مع عدم وضوح الدلالة ـ أن هذه الأحرف مما خفف به عن الأمة لوجود الشيخ والصبي والعجوز وما إلى ذلك كما في بعض الروايات (3) .
     وإذا كان ذلك مما خفف به عن الأمة ، فكيف يجوز لأحد أن يشدد عليها ، وإذا كان ذلك للرحمة فكيف صح لعثمان ( رض ) أن يتجاوز هذه
(1) ظ : الطبري ، جامع البيان : 1 | 11 ـ 20 + البخاري ، الجامع الصحيح 6 | 227 .
(2) الحجر : 9 .
(3) ظ : أبو شامة ، المرشد الوجيز : 77 ـ 89 .

(98)
الرحمة ، ويجمع المسلمين على حرف واحد ، ثم ما عدا مما بدا ؟ فإن كان في المسلمين الأوائل من يعجز عن تلاوة القرآن حق تلاوته ، أو أن ينطق به كما نزل فتجوّز بالأحرف السبعة تيسيرا ، وهم أبلغ العرب ، فما بال المسلمين في عصر عثمان ، وما ذنبنا نحن في هذا العصر الذي انطمست به خصائص العربية حتى شدد علينا في حرف واحد .
     ولسنا بصدد دفع هذا الحديث الآن ، ولكننا بصدد رد دعوى من لا يرى للخط المصحفي أي أثر في تعدد القراءات واختلافها ، إذ لو كان الأمر كذلك لما كانت موافقة خط المصحف أساسا لقراءات عدة ، وميزانا للرضا والقبول والاعتبار ، وما ذلك إلا لتحكم الخط بالقراءة . ولا نريد أن نتطرف فنحكم بأن الخط المصحفي هو السبب الأول والأخير في تفرع القراءات القرآنية ، ولكن نرى أن جزءا كبيرا من اختلاف القراءات قد نشأ عن الخط المصحفي القديم ، باعتباره محتملا للنطق بوجوه متعددة .
     قال القسطلاني ( ت : 923 هـ ) مشيرا إلى ذلك : « ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم ، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته ، وفاقا لبدعتهم ... رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للأغنياء بشأن القرآن العظيم » (1) .
     وتابعه على هذا الدمياطي البنا ( ت : 1117 هـ ) وصرح بالأسباب ذاتها (2) .
     فقد كان لاحتمال الرسم ، ما تطاول به أهل البدع فيقرؤون بما لا تحل تلاوته ، ولا تصح قراءته ، ومعنى هذا أن قراءات ما قد نشأت عن هذا الملحظ ، فاحتاط المسلمون لأنفسهم بقراءات أئمة ثقات لدفع القراءات المبتدعة .
     وقد يقال : بأن الاختلاف في القراءات مما شاع في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره ، وأن هذه القراءات السبع أو العشر أو الأكثر إنما تبرز بالمشافهة تلك
(1) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 66 .
(2) الدمياطي ، اتحاف فضلاء البشر : 5 .

(99)
القراءات كما كانت في عهد الرسول الأعظم ، ونحن وإن كنا لا ننكر جزءا ضئيلا من هذا ، إلا أن الواقع المرير لتلك الروايات القائلة باختلاف القراءات في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تستند إلى حقيقة تأريخية معينة يصرح فيها بنوعية هذا الاختلاف في القراءة ، ولا تعطينا نماذج مقنعة بكيفية هذه القراءات المختلفة ، بل تذهب مذاهب التعميم الفضفاض الذي لا يقره المنهج العلمي ، وذلك أن الاختلاف المدعي في القراءات بعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض بروايات ، تنقصها الدقة والوضوح والتحديد ، فتارة يطلق فيها التجوز بالأحرف السبعة بما لا دلالة فيه كما تقدم ، وتارة تنسب الاختلاف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه مصدر من مصادر الفرقة في القراءات بينما العكس هو الصحيح لما رأيناه ـ فيما سبق ـ أن الاختلاف في القراءات جر المسلمين إلى صراع داخلي ونزاع هامشي تحسس الصحابة إلى خطره على القرآن فجمعوهم على قراءة واحدة (1) .
     وتارة تدعي هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرأ هذا بقراءة ، وغيره بقراءة أخرى ، وحينا يدعى بأن أحد الصحابة قد سمع من صحابي مثله قراءة ما ، لسورة ما ، تختلف عما سمعه هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تحاكموا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فصحح القراءتين ، أما : ما هي هذه السورة المختلفة الحروف ، وما هو عدد آياتها المتعددة القراءة ، وما هي كيفية هذا الاختلاف ونوعية فروقه ، فلم يصرح بجميع ذلك ، مما يجعلها روايات قابلة للشك ، ومع حسن الظن بالرواة فإن رواياتهم تلك قد تعبر عن السهو والاشتباه .
     إننا لا ننكر الاختلاف في القراءات بعهد مبكر ، فباستعراض تأريخ الموضوع يبدو أن تمايز القراءات كان موجودا قبل توحيد القراءة زمن عثمان ، فقد أشير إلى كثرة الاختلاف بعهده ، حتى قال الناس : قراءة ابن مسعود ، وقراءة أبي وقراءة سالم (2) .
     ولكننا نبقى مصرين أن وجهة التعميم في الروايات تبقى هي المسيطرة ، وعدم وضوح الرؤية يظل مخيما ، إذ أننا نحتاج بمثل هذا
(1) ظ : فيما سبق ، جمع القرآن : .
(2) ظ : مقدمتان في علوم القرآن : 44 .

(100)

الموضوع الخطير إلى الجزئيات والدقائق لنضع النقاط على الحروف ، لهذا نرفض جملة هذه الروايات ، ونتهم أصحابها ، كما اتهمهم من سبقنا إلى الموضوع .
     أورد أبو شامة عن زيد بن أرقم قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد ، وأقرأنيها أُبيّ بن كعب ، فاختلفت قراءتهم ، بقراءة أيهم آخذ ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : وعلي عليه السلام إلى جنبه ، فقال علي : ليقرأ كل إنسان كما علم ، كل حسن جميل .. » (1) .
     وقد ذكر الطبري هذه الرواية ، وتعقبه الأستاذ أحمد محمد شاكر في تعليقه فقال :
     « هذا حديث لا أصل له ، رواه رجل كذاب ، هو عيسى بن قرطاس ، قال فيه ابن معين : ليس بشيء لا يحل لأحد أن يروي عنه . وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الثقات ، لا يحل الاحتجاج به . وقد اخترع هذا الكذاب شيخا له روى عنه وسماه : زيد القصار ، ولم نجد لهذا الشيخ ترجمة ولا ذكرا في شيء من المراجع .. » (2)
     وبعد هذا ، فليس هناك مسوغ على الإطلاق أن نأخذ بكل رواية على علاتها دون تمحيص ، ودون تجويز الافتراء على الضعفاء من الرواة .
     قال الإمام محمد الباقر عليه السلام : « إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة » (3) .
     وفي شأن الحروف السبعة المدعاة ، وإن كان لا علاقة لها بالقراءات ، إلا أن البعض حملها على ذلك ، بينما ورد عن الفضل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام ( يعني الإمام جعفر الصادق ) : إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : كذبوا ، أعداء الله ،


(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 85 .
(2) الطبري ، جامع البيان : 1 | 24 الهامش .
(3) الكليني ، أصول الكافي : 2 | 630 .

(101)

ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد » (1) .
     وقد يقال بأن مصدر القراءات هو اللهجات ، ولا علاقة لها إذن بصحة السند ، وموافقة كتابة المصحف ، بل الأساس ارتباطها ببعض العرب في لغاتهم القبلية ، وإلى هذا المعنى يشير السيوطي بما أورده أبو شامة عن بعضهم :
     « أنزل القرآن بلسان قريش ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والأعراب » (2) .
     وقد سبق بذلك ابن قتيبة بما تحدث به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فكان من تيسيره أن أمره الله بأن يقرىء كل قوم بلغتهم ، وما جرت عليه عادتهم ... ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا ، لاشتد ذلك عليه ، وعظمت المحنة فيه » (3) .
     وقد تبنى هذا الرأي الدكتور طه حسين ، فاعتبر اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته قريش ، اعتبر ذلك اساسا لاختلاف القراءات ، فقرأته هذه القبائل كما كانت تتكلم ، فأمالت حيث لم تكن تميل قريش ، ومرت حيث لم تكن تمر ، وقصرت حيث لم تكن تقصر ، وسكنت ، وأدغمت ، وأخفت ، ونقلت (4) .
     وهو بهذا يريد أن ينتهي إلى أن اللهجات هي مصدر القراءات ، وهو ينكر تواترها ، وينعى على من رتب أحكاما عريضة على نكرانها ، فيقول : « وهنا وقفة لا بد منها ، ذلك أن قوما من رجال الدين فهموا أن هذه القراءات السبع متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل بها جبريل على قلبه ، فمنكرها كافر من غير شك ولا ريبة ... والحق أن ليست هذه القراءات السبع من


(1) المصدر نفسه : 2 | 630 .
(2) السيوطي ، الاتقان : 1 | 47 .
(3) ابن قتيبة ، تأويل القرآن : 30 .
(4) ظ : طه حسين ، في الأدب الجاهلي : 95 .


(102)

الوحي في قليل ولا كثير ، وليس منكرها كافرا ، ولا فاسقا ، ولا مغتمزا في دينه ، وإنما هي : قراءات مصدرها اللهجات واختلافها ... فأنت ترى أن هذه القراءات إنما هي مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات » (1) .
     ولقد جهد المحققون منذ القرن الأول للهجرة حتى عهد ابن مجاهد ( ت : 324 هـ ) وهو موحد القراءات أو مسبعها إن صح التعبير ، في دراسة ظواهر القراءات القرآنية ، متواترها ، ومشهورها ، وشاذها ، فارجعوا جزءا من الاختلاف في القراءة إلى مظهر من مظاهر اللهجات العربية المختلفة ، وعادوا بجملة من الألفاظ إلى استعمال جملة من القبائل ، ذلك مما يؤيد وجهة النظر في عامل اللهجات ، والاستئناس به عاملا مساعدا في تعدد القراءات ، وللسبب ذاته فإن تلاشى اللهجات وتوحيدها بلهجة قريش ، قد ساعد أيضا على تلاشي واضمحلال كثير من جزئيات هذه القراءات وعدم إساغتها منذ عهد مبكر ، بل إن توحيد القرآن للغة العرب على لغة قريش ، وقصرهم عليها كان أساسا جوهريا في إذابة ما عداها من لغات ، مما أزاح تراكما لغويا يبتعد عن الفصحى ابتعادا كليا ، فلا تجد بعد ذلك عنعنة تميم ، ولا عجرمية قيس ، ولا كشكشة أسد ، ولا ثلثلة نهراء ، ولا كسكسة ربيعة ، ولا إمالة أسد وقيس ، ولا طمطمانية حمير .
     وفي ضوء ما تقدم يمكننا أن نخرج برأي جديد نخالف فيه من سبقنا إلى الموضوع ، فنعتبر كلا من شكل المصحف ، وطريق الرواية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتعدد اللهجات العربية ، قضايا ذات أهمية متكافئة باعتبارها مصادر من مصادر القراءات ، كلا لا يتجزأ ، وإلا فهي ـ على الأقل ـ أسباب عريضة في نشوء القراءات ومناهج اختلافها .
     وللتدليل على صحة هذا لا بد لنا من الوقوف عند أدلته وقفة مقنعة ، إن لم تكن دامغة .
     لا شك أن اختلاف مصاحف الأمصار في الرسم ، وما نشأ عنه من اختلاف أهل المدينة وأهل الكوفة ، وأهل البصرة ، وأهل الشام في القراءة ،


(1) طه حسين ، في الأدب الجاهلي : 95 ـ 96 .


(103)

إنما كان مصدره الشكل المصحفي الذي استنسخ عن المصحف الإمام . وهي اختلافات لا نقطع بمصدرها الكتابي ، بل نرجحه ، لما ثبت تأريخيا من تواتر نقله ، وقد أحصى أبو داود ذلك في كتاب المصاحف إحصاء دقيقا (1) .
     وقد أيد هذا الرأي محمد بن جرير الطبري ( في 310 هـ ) بما نقله عنه أبو شامة فقال :
     « لما خلت تلك المصاحف من الشكل والإعجام وحصر الحروف المحتملة على أحد الوجوه ، وكان أهل كل ناحية من النواحي التي وجهت إليها المصاحف ، قد كان لهم في مصرهم ذلك من الصحابة معلمون ... فانتقلوا عما بان لهم أنهم أمروا بالانتقال عنه مما كان بأيديهم ، وثبتوا على ما لم يكن في المصاحف الموجهة إليهم ، مما يستدلون به على انتقالهم عنه » (2) .
     وما دامت الروايات مختلفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما يقولون ـ فما المانع أن يكون الحدب على وصول هذه الروايات من مختلف الأسانيد سببا من تعدد هذه القراءات ، سواء أكانت تلك الروايات صحيحة أم ضعيفة ، وقد أورد من هذا القبيل أبو شامة شواهد على الموضوع ، يتحمل عهدتها (3) . وقد سبقه ابن عطية فأورد عدة روايات تؤكد كثرة الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على علاتها ، وانتهى فيها إلى القول :
     « ثم إن هذه الروايات الكثيرة لما انتشرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وافترق الصحابة في البلدان ، وجاء الخلف ، وقرأ كثير من غير العرب ، ووقع بين أهل الشام وأهل العراق ما ذكر حذيفة ... فقرأت كل طائفة بما روي لها » (4) .
     وما دام للعرب لهجات ولغات ، فلا ينتفي أن تكون هذه اللغات سببا


(1) ظ : ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : 39 ـ 49 .
(2) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 149 وما بعدها .
(3) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 86 وما بعدها .
(4) ابن عطية ، مقدمته ، ضمن مقدمتان في علوم القرآن : 271 .


(104)

مباشرا في جزء من هذه القراءات ، وقد قال عمر بن الخطاب ( رض ) مشيرا إلى قراءة أبيّ بن كعب : « إنا لنرغب عن كثير من لحن أُبيّ » (1) .
     وقد أورد أبو شامة عن ابن جرير الطبري في (310 هـ ) ما يؤيد فيه هذا العامل فقال :
     « فإن قيل : فما تقولون في هذه القراءات السبع التي ألفت بالكتب ؟ قلنا : إنما أرسل أمير المؤمنين المصاحف إلى الأمصار الخمسة بعد أن كتبت بلغة قريش ، فإن القرآن إنما نزل بلغتها ، ثم أذن رحمة من الله تعالى ، لكل طائفة من العرب أن تقرأ بلغتها على قدر استطاعتها ، فلما صارت المصاحف في الآفاق غير مضبوطة ولا معجمة قرأها الناس فما أنفذوه منها نفذ ، وما احتمل وجهين طلبوا فيه السماع حتى وجدوه » (2) .
     والطريف في رأي الطبري ، وهو من قدامى المفسرين ، أن يجمع هذه العوامل الثلاثة ، فينص على اختلاف اللهجات ، ويشير إلى شكل المصحف وإعجامه ، ويؤكد جانب السماع في الروايات التي توصلوا فيها إلى نطق القرآن .
     وعامل اللهجات ، وإن محصّ متأخرا ، وتمحض له الدكتور طه حسين ، إلا أنه عامل جدير بالتلبث والترصد والاستقراء في إثرائه جانب القراءات ، ومواكبته لمسيرتها اللغوية . فما من شك أن القرآن قد نزل بلغة قريش ، وهي أفصح لغات العرب ، وحينما اختار الله تعالى لكتابه اللغة العربية ، فلا ريب ان يقع الاختيار على الأفصح ، والأفصح لغة قريش ، وهو الموروث اللغوي المقروء في القرآن ، ويؤيده وصية عثمان للرهط القرشيين لدى استنساخ المصحف : « إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت بشيء من القرآن ، فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم » (3) .
     وفي هذا الضوء يبدو أن عبد الله بن مسعود ( رض ) كان يقرىء الناس


(1) ابن ابي داود ، كتاب المصاحف : 32 .
(2) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 150 .
(3) البخاري ، الجامع الصحيح : 6 | 224 .


(105)


بلغة قومه ، وهم هذيل ، وقد نهاه عمر ( رض ) عن ذلك بما ذكره أبو داود في سننه : « إن عمر كتب إلى ابن مسعود : أما بعد ، فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرىء الناس بلغة قريش ، ولا تقرئهم بلغة هذيل » (1) .
     ويبدو أن مسألة اللهجات متسالم على أثرها في نشوء القراءات ، ولكن سرعان ما توحدت هذه اللهجات بلغة القرآن ، وهذا من بركات القرآن في الوحدة .
     وتعدد القراءات أنى كان مصدره ، مهما كان مقياسه صحة أو شذوذا ، فقد حدده الشيخ محمد بن الهيصم ، وقال : « أما القراءات فإنها على ثلاثة أوجه :
     1 ـ أن يغلط القارىء فيقرأ على خلاف ما هو الخف ، وذلك ما لا يجوز أن يعتد به في قراءات القرآن ، وإنما يرجع لومه على الغالط به ...
     2 ـ أن يكون القرآن قد نزل على لغة ، ثم خرج بعض القراء فيه إلى لغة من لغات العرب مما لا يقع فيه خلاف في المعنى ، ترك النكير عليه تيسيرا وتوسعة ، فنقل ذلك ، وقرأ به بعض القراء ...
     3 ـ والوجه الثالث من القراءات هو ما اختلف باختلاف النزول بما كان يعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن على جبريل في كل شهر رمضان ... فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلقفون منه حروف كل عرض ، فمنهم من يقرأ على حرف ، ومنهم من يقرأ على آخر ، إلى أن لطف الله عز وجل بهم ، فجمعهم على آخر العرض ، أو على ما تأخر من عرضين أو ثلاثة ، حتى لم يقع في ذلك اختلاف إلا في أحرف قليلة ، وألفاظ متقاربة » (2) .
     والوجه الثالث لا دلالة فيه إذ معارضة القرآن تعني تدقيقه وتوثيقه ، وقد سبق في هذا الفصل رأينا في الحروف التي ادعى نزول القرآن عليها .


(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 101 .
(2) مقدمتان في علوم القرآن : 170 وما بعدها .


(106)

     ومما لا شك فيه أن الاختلاف في جملة القراءات كان في الأقل ، وأن الاتفاق كان في الأعم الأكثر ، والنظر في المصاحف الأولى تجد يؤيد الاختلاف في قلة معدودة من الكلمات ، نطقا وإمالة وحركات ، وقد جمعت في كتاب المباني محدودة : « اختلف مصحفا أهل المدينة والعراق في إثنى عشر حرفا ، ومصحفا أهل الشام وأهل العراق في نحو أربعين حرفا ، ومصحفا أهل الكوفة والبصرة في خمسة حروف » (1) .
     فإذا كان بعض الخلاف في القراءات مصدره اختلاف مصاحف الأمصار ، فالاختلافات ضيقة النطاق ، وتظل القضية قضية تأريخية فحسب ، إذ القرآن المعاصر الذي أجمع عليه العالم الإسلامي ـ وهو ذات القرآن الذي نزل به الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ مرقوم برواية حفص لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي ، باستثناء المغرب العربي الذي اعتمد قراءة نافع المدني برواية ورش .
     وتبقى المسألة بعد هذا أثرية العطاء ، نعم قد تبدو الهوة سحيقة فيما يدعى من خلافات لا طائل معها ، ولكن النظرة العلمية الفاحصة تخفف من حدتها ، فما من شك أن عاملا متشابكا وراء تلك الخطوط المتناثرة هنا وهناك ، ذلك هو المناخ الإقليمي السائد آنذاك في الأفق العلمي ، فهو مما يجب الوقوف عنده ، ألا وهو النزاع القائم بين مدرستي الكوفة والبصرة ، وما نشأ عنه من تعصب إقليمي حينا ، واختلاف تقليدي حينا آخر ، ومزيج من هذا وذاك بعض الأحايين ، فدرج جيل يصوب رأي الكوفيين ، وآخر يؤيد نظر البصريين ، مما طبع أثره على جملة من شؤون التراث ، والقراءات جزء من ذلك التراث ، وأفرغ كثيرا من الإسراف في التجريح والتعديل ، فعاد صراعا عشوائيا يوثق به الضعفاء ، ويضعف به الثقات في كثير من المظاهر ، وقد لا يكون لكل ذلك أصل ، فطالما حمل البصريون أو من شايعهم على الكوفيين وبالعكس ، وطالما تعصب لمذهب من القراءة جيل من الناس ، وجانب قراءة جيل آخر ، دون العودة إلى قاعدة متأصلة .
     وهذا الملحظ الدقيق جدير بالتمحيص والترصد بغية الوصول إلى


(1) المصدر نفسه : 117 .


(107)

مقياس علمي أصيل تزان في ضوئه حقائق القراءات .

*      *      *

     وكما اختلف في مصادر القراءات ومنابعها ، فقد اختلف في القراء وعددهم ، وتضاربت الآراء في منزلتهم وشهرتهم ، فكان منهم السبعة ، والعشرة ، والأربعة عشر ، وكان اعتبارهم يتردد بين الأقاليم تارة ، وبين الشهرة تارة أخرى ، وبينهما في أغلب الأحيان ، وقد تحل المنزلة العلمية مكان الشهرة حينا ، وقد يكون العكس هو المطرد ، وقد تتحقق الشهرة عند باحث ، وتنتفي عند باحث غيره ، وهكذا ...
     وقد كان مشاهير القراء قبل ابن مجاهد ( ت : 324 هـ ) على النحو الآتي :
     1 ـ عبد الله اليحصبي ، المعروف بابن عامر ( شامي ) ( ت : 118 هـ ) .
     2 ـ عاصم بن أبي النجود ( كوفي ) ، ( ت : 127 هـ ) .
     3 ـ عبد الله بن كثير الداري ( مكي ) ، ( ت : 129 هـ ) .
     4 ـ أبو عمرو بن العلاء ( بصري ) ، ( ت : 154 هـ ) .
     5 ـ نافع عبد الرحمن بن أبي نعيم ( مدني ) ، ( ت : 169 هـ ) .
     6 ـ حمزة بن حبيب الزيات ( كوفي ) ، ( ت : 188 هـ ) .
     7 ـ يعقوب بن أبي إسحاق الحضرمي ( بصري ) ، ( ت : 205 هـ ) .
     وقد حذف ابن مجاهد يعقوب من السبعة وأثبت مكانه علي بن حمزة ( الكسائي الكوفي ) ( ت : 189 هـ ) واعتبره من القراء السبعة . وهكذا كان .
     أما من عد القراء عشرة ، فأضاف لهم زيادة على تسبيع ابن مجاهد وتعيينه لهم ، يزيد بن القعقاع ( ت : 130 هـ ) ويعقوب الحضرمي ( ت : 205 هـ ) وحلف بن هشام ( ت : 229 هـ ) .
     ويبدو أن الكسائي ( ت : 189 هـ ) لم يكن معدودا من القراء السبعة ، وإنما ألحقه ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها بدل يعقوب الحضرمي


(108)

وقد كان السابع (1) .
     وفي هذا الضوء نجد القراء عند ابن مجاهد ، هم : نافع ، ابن كثير ، عاصم ، حمزة بن حبيب ، الكسائي ، أو عمرو بن العلاء ، عبد الله بن عامر .
     وقد عقب ابن مجاهد على ذلك بقوله :
     « فهؤلاء سبعة نفر ، من أهل الحجاز ، والعراق ، والشام ، خلفوا في القراءة التابعين ، وأجمعت على قراءتهم العوام من أهل كل مصر من هذه الأمصار التي سميت وغيرها من البلدان التي تقرب من هذه الأمصار » (2) .
     وواضح أن تقسيم ابن مجاهد تقسيم إقليمي نظر فيه إلى اعتبار الأمصار التي وجهت إليها المصاحف في عهد عثمان ( رض ) لا باعتبار تعصب إقليمي من قبله .
     وابن مجاهد أول من اقتصر على هؤلاء السبعة ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها علم النبوة ، من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة الظاهرة وسائر العلوم الدينية (3) .
     وقد تبعه الفضل بن الحسن الطبرسي ( ت : 548 هـ ) بتصنيف القراء في ضوء الأقاليم الإسلامية ، ولكنه اختلف معه بالتعيين ، فأسماء القراء المشهورين عنده باعتبار الأمصار كالآتي :
     1 ـ أبو جعفر يزيد بن القعقاع ، مدني وليس من السبعة .
     2 ـ عبد الله بن كثير ، مكي من السبعة .
     3 ـ عاصم بن أبي النجود ، كوفي من السبعة .
     4 ـ حمزة بن حبيب ، كوفي من السبعة .


(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 153 .
(2) ابن مجاهد ، كتاب السبعة : 87 .
(3) ظ : القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 86 .


(109)

     5 ـ علي بن حمزة الكسائي ، كوفي من السبعة .
     6 ـ خلف بن هشام ، كوفي ، وليس من السبعة وله اختيار .
     7 ـ أبو عمرو بن العلاء ، بصري من السبعة .
     8 ـ يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، بصري وليس من السبعة .
     9 ـ ابو حاتم سهل بن محمد السجستاني بصري ، وليس من السبعة .
     10 ـ عبد الله بن عامر ، شامي من السبعة (1) .
     فالطبرسي عد من القراء السبعة ؛ عبد الله بن كثير ، وعاصم ، وحمزة بن حبيب ، والكسائي ، وأبو عمرو بن العلاء ، وعبد الله بن عامر ، بينما أسقط نافع بن عبد الرحمن ، قارىء أهل المدينة .
     وعد من غيرهم : يزيد بن القعقاع ، وخلف بن هشام ، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي ، وسهل بن محمد السجستاني .
     فعدة القراء المشهورين عنده عشرة . وقد عقب على تعيينه لهؤلاء بما يلي :
     « وإنما اجتمع الناس على قراءة هؤلاء واقتدوا بهم فيها لسببين :
     أحدهما : أنهم تجردوا لقراءة القرآن ، واشتدت بذلك عنايتهم مع كثرة علمهم . ومن كان قبلهم أو في أزمتهم ممن نسب إليه القراءة من العلماء ، وعدت قراءتهم في الشواذ ، لم يتجرد لذلك تجردهم ، وكان الغالب على أولئك الفقه والحديث أو غير ذلك من العلوم .
     والآخر : أن قراءتهم وجدت مسندة لفظا أو سماعا حرفا حرفا من أول القرآن إلى آخره مع ما عرف من فضائلهم ، وكثرة علمهم بوجوه القرآن » (2) .
     والحق أن القراء الذين ذكرت قراءاتهم فيما ألف من كتب القراءات


(1) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 1 | 11 وما بعدها .
(2) المصدر نفسه : 1 | 12 .


(110)

يزيد على هذا العدد كثيرا ، وفيهم من هو أسبق منهم تأريخا . فقد تتبع الدكتور الفضلي من ألف في القراءات قبل اختيار ابن مجاهد للقراء السبعة ، فبلغت عدتهم عنده أربعة وأربعين مؤلفا ، ابتداء من يحيى بن يعمر ( ت : 90 هـ ) وانتهاء بأبي بكر محمد بن أحمد الداجوني ( ت : 324 هـ ) (1) .
     وكان نتيجة لهذا الإحصاء الدقيق أن ظهر أن هذه المؤلفات لم تختص بالقراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة ، وقراء تلك القراءات بل اتضح من خلال العرض والتحليل أن فيها من هو متقدم على بعض القراء المشهورين تأريخا ، حتى إذا جاء ابن مجاهد التميمي البغدادي ( ت : 324 هـ ) فاختار من الجميع أولئك .
     وقد علل مكي بن أبي طالب ( ت : 437 هـ ) وجه الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم فقال :
     « إن الرواة من الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد ، كثيرا في الاختلاف ، فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه ، وتنضبط القراءة به ، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة ، وحسن الدين ، وكمال العلم ، فقد طال عمره ، واشتهر أمره ، وأجمع أهل عصره على عدالته فيما نقل ، وثقته فيما روى ، وعلمه بما يقرأ ، فلم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم ، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا ، إماما هذه صفته ، وقراءته على مصحف ذلك المصر » (2) .
     وقد أيد ذلك من المتأخرين السيد محمد الجواد العاملي النجفي ( ت : 1226 هـ ) فتحدث عن وجهة نظره في تحديد القراءات بالسبع والقراء بالسبعة ، وقال :
     « وحيث تقاصرت الهمم عن ضبط الرواة لكثرتهم غاية الكثرة ،


(1) ظ : عبد الهادي الفضلي ، القراءات القرآنية : 27 ـ 32 .
(2) مكي ، الإبانة : 47 ـ 48 .

(111)

اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه ، وتنضبط القراءة به ، فعمدوا إلى من اشتهر بالضبط والأمانة وطول العمر في الملازمة للقراءة ، والاتفاق على الأخذ عنه ، فأفردوا إماما من هؤلاء في كل مصر من الأمصار المذكورة ، وهم : نافع وابن كثير وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي » (1) .
     وبملاحظة ما حققه ابن مجاهد من جمعه للقراءات ، وبيان وجوه الاختلاف فيها ، يتجلى أن الاختلاف ليس من العسر بمكان بحيث قد يؤدي إلى تشويه النص ، أو تغيير الأحكام ، أو اضطراب القراءة ، بل نجد الأعم الأغلب منه إنما يرجع إلى أصول الأداء ، وطريقة التلفظ ، وتحقيق النطق مدغما أو ممالا ، منقوطا أو غير منقوط ، إمدادا وإشماما ، وهو اختلاف لا يضفي على النص القرآني أي مردود معقد لا يمكن معه الوصول إلى الحقيقة القرآنية ، مما يقرب إلينا القول بأن هذه القراءات إنما اشتبكت وتظاهرت وتفاوتت اجتهادا في كيفية أداء النطق تارة ، وطريقة تلفظه تارة أخرى ، ومردود اللهجات عليها بين ذلك .
     وهذا إنما يجري في القراءات المتواترة رواية مرفوعة ، أو دراية من أصحابها ، ولا ينطبق على القراءات الشاذة التي أصبحت فيما بعد عرضة لزلل الأهواء .
     « ولا مرية أنه كما يتعبد بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده ، يتعبد بتصحيح ألفاظه ، وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة . عن أئمة القراء ، ومشايخ الأقراء ، المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية ، التي لا يجوز مخالفتها ، ولا العدول عنها (2) .
     وقد بلغت القراءات السبع حد الرضا والقبول عند المسلمين وعلمائهم ، فلم يؤثّر عليها تعدد القراءات ، ولم يؤثّروا عليها سواها .
     وكان إلى جنب القراءات اختيار في القراءات قد تشمل هذه القراءات


(1) العاملي ، مفتاح الكرامة : 2 | 391 + القراءات القرآنية .
(2) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 209 .


(112)

ـ كما سيأتي ـ وقد لا تشملها ، وهي لا تحمل الطابع الشخصي لأصحابها ، بل هي ضمن قواعد قد تتسم بالطابع الشمولي العام .
     قال مكي بن أبي طالب : « وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذ اجتمع فيه ثلاثة أشياء :
     قوة وجهه في العربية .
     وموافقته للمصحف .
     واجتماع العامة عليه .
     والعامة ـ عندهم ـ ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة ، فلذلك عندهم حجة قوية ، فوجب الاختيار .
     وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين .
     وربما جعلوا الاختيار على ما اتفق عليه نافع وعاصم ، فقراءة هذين الإمامين أوثق القراءات وأصحها سندا ، وأفصحها في العربية ، ويتلوهما في الفصاحة خاصة : قراءة أبي عمرو والكسائي رحمهم الله » (1) .
     ويبدو مضافا إلى ما تقدم ، أن لأئمة الإقراء أنفسهم تصرفا يقوم على حسن النظر وأصول الاستنباط ، يتمثل باختيارهم للقراءة التي تنسب إليهم ، فهم يتدارسون القراءات على يد نخبة من التابعين ، ومن ثم يقارنون بين هذه القراءات التي اخذوها ، ويحكمون مداركهم في أسانيدها وأصولها ومصادرها ، فيؤلفون القراءة التي يختارونها بناء على كثرة الموافقات عند أغلب الشيوخ المقرئين . فقد قال نافع بن أبي نعيم ( ت : 169 هـ ) وهو يتحدث عن مشايخه في الإقراء :
     « أدركت هؤلاء الخمسة وغيرهم ... فنظرت إلى ما أجمع عليه إثنان منهم فأخذته ، وما شذ فيه واحد تركته ، حتى ألفت هذه القراءة » (2) .
     وربما كان المقرىء مخالفا لأستاذه في اختياره للقراءة ، ناظرا في


(1) مكي ، الإبانة في معاني القراءات : 48 وما بعدها .
(2) ابن مجاهد ، كتاب السبعة : 62 .


(113)

وجوه القراءات الأخرى ، كما هي الحال عند الكسائي حينما اختار من قراءة حمزة وقراءة من سواه ، وأسس لنفسه بذلك اختيارا (1) .
     قال ابن النديم : « وكان الكسائي من قراء مدينة السلام ، وكان أولا يقرأ الناس بقراءة حمزة ، ثم اختار لنفسه قراءة ، فاقرأ بها الناس » (2) .
     وقد كان لأبي عمرو بن العلاء اختيار من قراءة ابن كثير ، وهو شيخه ، ومن قراءة غيره ، وأسس بذلك لنفسه قراءة تنسب إليه (3) .
     وقد شجعت ظاهرة الاختيار في القراءة على القضاء على النزعة الإقليمية التي انتشرت في نسبه القراءات للأمصار ، إذا امتزجت هذه القراءات في الأغلب نتيجة للاختيار ، فتداخلت قراءة أهل المدينة بقراءة أهل الكوفة ، وقراءة الشام بقراءة العراق ، فلم تعد القراءة فيما بعد إقليمية المظهر ، بقدر ما هي علمية المصدر ، وفي هذا الضوء وجدنا القراء السبعة يمثلون خلاصة التجارب الماضية للقرنين الأول والثاني في العطاء العلمي المشترك بين الأقاليم ، لما في ظاهرة الاختيار لدى أئمة الأقراء من عناصر مختلف القراءات ، حتى وحدت ونسبت منفردة إلى عاصم ، أو نافع ، أو الكسائي ، وهي عصارة قراءة لمصرين ، أو قراءات لأمصار ، تتفق مع قراءة بوجه ، وتختلف مع قراءة بوجه آخر ، وتجمع بين هذين بما ألف قراءة منظورة متميزة ، تعني تجارب السابقين ، وعطاء المتخصصين . حتى وقف الاختيار على أعتاب القرن الرابع ، حيث بدأ ابن مجاهد في حفظ القراءات والاختيارات ، دون التفكير بتجديد ظاهرة الاختيار التي لم تعد من هموم هؤلاء الأعلام أمثال ابن مجاهد ، بل اتجهت هممهم إلى صيانة تلك القراءات ، لا إلى الاختيار .
     فقد روى الذهبي عن عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم ، وهو تلميذ ابن مجاهد ، قال :
     « سأل رجل ابن مجاهد ، لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفا يحمل عليه ؟


(1) ظ : المصدر نفسه : 78 .
(2) ابن النديم ، الفهرست : 30 .
(3) ظ : ابن الجزري ، غاية النهاية : 2 | 376 .


(114)

فقال : نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا ، أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا » (1) .
     وفي ضوء ما تقدم يبدو لنا أن الاختيار عبارة عن استنباط القراءة من خلال النظر الاجتهادي في القراءات السابقة ، والموازنة فيما بينها على أساس السند في الرواية ، أو الوثاقة في العربية ، أو المطابقة في الرسم المصحفي ، أو إجماع العامة ، من أهل الحرمين أو العراقين ، أو الموافقة بين مقرئين ، ومن خلال ذلك نشأت القراءات المختارة .
     يقول القرطبي : « وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء ، وذلك أن كل واحد منهم اختار مما روي وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى ، والتزم طريقه ورواه ، وأقرأ به ، واشتهر عنه وعرف به » (2) .
     ويرى الدكتور الفضلي : « أن اجتهاد القراء لم يكن في وضع القراءات ـ كما توهم البعض ـ وإنما في اختيار الرواية ، وفرق بين الاجتهاد في اختيار الرواية والاجتهاد في وضع القراءة » (3) .
     فإضافة القراءة لصاحبها إضافة اختيار لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد (4) .
     ومما يؤيده ما أورد أبو شامة باعتبار القراءة سنة ، والسنة لا مورد فيها للاجتهاد بالمعنى المشار إليه : « ألا ترى أن الذين أخذت عنهم القراءة إنما تلقوها سماعا ، وأخذوها مشافهة ، وإنما القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول ، ولا يلتفت في ذلك إلى الصحف ، ولا إلى ما جاء من وراء وراء » (5) .


(1) الحافظ الذهبي ، معرفة القراءة : 1 | 171 .
(2) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : 15 | 40 .
(3) الفضلي ، القراءات القرآنية : 106 .
(4) ابن الجزري ، النشر : 1 | 52 .
(5) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 132 .


(115)

     وإلى جانب الحيطة في الاختيار ، كانت الحيطة للقراءة نفسها ، فلم يأخذوا بكل قراءة ، بل وضعوا بعض المقاييس النقدية الاحترازية لقبول القراءة أو رفضها ، مما ينصح معه مدى عناية القوم بالقراءة المختارة ، بعد أن عسر الضبط ، وظهر التخليط ، واشتبه الأمر . قال القسطلاني نقلا عن الكواشي : « فمن ثم وضع الأئمة لذلك ميزانا يرجع إليه ، ومعيارا يعول عليه ؛ وهو السند والرسم والعربية ، فكل ما صح سنده ، واستقام وجهه في العربية ، ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة ، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف ، ومتى فقد شرط من هذه الثلاثة فهو شاذ » (1) .
     والشاذ لا يعمل به في القراءات ولا يقاس عليه ، « وقد أجمع الأصوليون والفقهاء وغيرهم ، على أن الشاذ ليس بقرآن ، لعدم صدق حد القرآن عليه ، أو شرطه وهو التواتر » (2) .
     وكأن ابن الجزري قد أدخل جانب الاحتمال في بعض الشروط ، وصنف القراءة المعتبرة والباطلة فقال :
     « كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا ، وصح سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ، ولا يحل إنكارها ..
     ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو باطلة ، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم . هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف » (3) .
     وتكاد أن تتلاقى كلمات الأعلام في مقياس القراءة الصحيحة ، وتتداعى الخوطر . في صياغة ألفاظها ، فقد اشترط مكي بن أبي طالب ( ت : 437 هـ ) في وجه صحتها ما يلي :


(1) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 67 .
(2) المصدر نفسه : 1 | 72 .
(3) السيوطي ، الاتقان : 1 | 210 .


(116)

     « أن ينقل عن الثقات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعا ، ويكون موافقا لخط المصحف » (1) .
     ومع هذا نجد الداني جديا في مسألة القراءة ، إذ يعتبرها سنة لا تخضع لمقاييس لغوية ، وإنما تعتمد الأثر والرواية فحسب ، فلا يردها قياس ، ولا يقرّبها استعمال فيقول :
     « وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة ، والأقيس في العربية ، بل على الأثبت في الأثر ، والأصح في النقل وإذا ثبتت الرواية لم يردّها قياس عربية ، ولا فشو لغة ، لأن القراءة سنة متبعة ، يلزم قبولها والمصير إليها » (2) .
     وما أبداه الداني لا يخلو من نظر أصيل ، إذ القراءة إذا كانت متواترة صحيحة السند ، فهي تفيد القطع ، ولا معنى لتقييد القطع بقياس أو عربية ، فالعربية إنما تصحح في ضوء القرآن ، ولا يصحح القرآن في ضوء العربية ، ومع هذا فإن الإجماع القرائي يكاد أن يكون متوافرا على اشتراط صحة السند ، ومطابقة الرسم المصحفي ، وموافقة اللغة العربية ؛ لهذا تختلف النظرة بالنسبة للقراءة في ضوء تحقق هذه الشروط أو عدمه ، وقد نتج عنه تقسيم القراءات إلى صحيحة وشاذة ، فما اجتمعت فيه من القراءات هذه الشروط فهو الصحيح ، وما نقص عنه فهو الشاذ .
     وفي هذا الضوء ولد ـ في عهد ابن مجاهد ـ مقياسان آخران ، وماتا في مهدهما ، لعدم تلقي المسلمين لهما بالقبول ، ولرفضهم لهما ، وهما :
     مقياس ابن شنبوذ ( ت : 327 هـ ) الذي اكتفى فيه بصحة السند وموافقة العربية .
     ومقياس ابن مقسم ( ت : 354 هـ ) الذي اكتفى فيه بمطابقة المصحف وموافقة العربية (3) .
     وقد تحرر للسيوطي مع المقارنة فيما كتبه ابن الجزري في النشر ، أن القراءات أنواع :


(1) مكي ، الإبانة : 18 .
(2) السيوطي ، الاتقان : 1 | 211 .
(3) ظ : الفضلي ، القراءات القرآنية : 39 وانظر مصدره .


(117)

     الأول : المتواتر ، وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب ، عن مثلهم إلى منتهاه ، وغالب القراءات كذلك .
     الثاني : المشهور ، وهو ما صح سنده ، ولم يبلغ درجة التواتر ، ووافق العربية والرسم واشتهر عند القراء .
     الثالث : الآحاد ، وهو ما صح سنده ، وخالف الرسم أو العربية ، أو لم يشتهر بالاشتهار المذكور ، ولا يقرأ به .
     الرابع : الشاذ ، وهو ما لم يصح سنده .
     الخامس : الموضوع ، [ وهو ما لا أصل له ] .
     السادس : ما زيد في القراءات على وجه التفسير (1) .
     وهذا التقسيم الذي استخرجه السيوطي مما أفاضه ابن الجزري جدير بالأهمية إذ هو جامع مانع كما يقول المناطقة .
     وتبقى النظرة إلى هذه القراءات متأرجحة بين التقديس والمناقشة ، فمن يقدسها يعتبرها قرآنا ، ومن يناقشها يعتبرها علما بكيفية أداء كلمات القرآن ، وفرق بين القرآن وأداء القرآن .
     فالباقلاني يذهب : « أن القراءات قرآن منزل من عند الله تعالى ، وأنها تنقل خلفا عن سلف ، وأنهم أخذوها من طريق الرواية ، لا من جهة الاجتهاد ، لأن المتواتر المشهور أن القراء السبعة إنما أخذوا القرآن رواية ، لأنهم يمتنعون من القراءة بما لم يسمعوه » (2) .
     بينما خالفه الزركشي في هذه الملحظ ، واعتبر القرآن حقيقة ، والقراءات حقيقة أخرى فقال :
     « والقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان ، فالقرآن : هو الوحي المنزل على محمد للبيان والإعجاز ، والقراءات : اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما » (3) .


(1) ظ : السيوطي ، الاتقان : 1 | 216 .
(2) الباقلاني ، نكت الانتصار لنقل القرآن : 415 .
(3) الزركشي ، البرهان : في علوم القرآن : 1 | 318 .


(118)

     والحق أن رأي الزركشي يتفق مع تعريف القراءات المتداول عند أئمة التحقيق ، فقد ذهبوا إلى أن علم القراءات : هو علم يعرف منه إتفاق الناقلين لكتاب الله واختلافهم في اللغة والأعراب ، والحذف والإثبات والتحريك والإسكان ، والفصل والإتصال ، وغير ذلك من هيئة النطق ، والإبدال من حيث السماع (1) .
     والحق أن لا علاقة بين حقيقة القرآن وحقيقة القراءات ، فالقرآن هو النص الإلهي المحفوظ ، والقراءات أداء نطق ذلك النص إتفاقا أو اختلافا ، والقرآن ذاته لا اختلاف في حقيقته إطلاقا .
     وقد استظهر الزركشي تواتر القراءات عن القراء السبعة : « أما تواترها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففيه نظر ، فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد ، ولم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة ، وهذا شيء موجود في كتبهم ، وقد أشار الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه « المرشد الوجيز » إلى شيء من ذلك » (2) .
     وقد وافقه من المتأخرين السيد الخوئي وازداد عليه حيث قال : « إنها غير متواترة ، بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارىء وبين ما هو منقول بخبر الواحد » (3) .
     وقد حشد لهذا الرأي جملة من الأدلة خلص منها إلى عدم تواتر القراءات ، وأنها نقلت بأخبار الآحاد (4) .
     ويكاد أن ينعقد إجماع المسلمين على حجية هذه القراءات وتواترها ـ سواء أكان تواترها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن أصحابها ـ وعلى جواز القراءة بها في الصلاة وغيرها .


(1) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 170 .
(2) الزركشي ، البرهان : 1 | 319 .
(3) الخوئي ، البيان : 123 .
(4) ظ : الخوئي البيان : 151 وما بعدها .


( 119 )

     فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال : « إقرأوا كما علّمتم » (1) .
     وقال الشيخ الطوسي ( ت : 460 هـ ) وهو يتحدث عن رأي الإمامية في الموضوع :
     « واعلموا أن العرف من مذهب أصحابنا ، والشائع من أخبارهم ورواياتهم أن القرآن نزل بحرف واحد ، على نبي واحد ، غير أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء ، وأن الإنسان مخير بأي قراءة شاء قرأ ، وكرهوا تجريد قراءة بعينها ، بل أجازوا القراءة بالمجاز الذي يجوز بين القراء ، ولم يبلغوا بذلك حد التحريم والحظر » (2).
     وقد حكى الطبرسي ( ت : 548 هـ ) الإجماع عليه فقال :
     « إعلم أن الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما تتداوله القراء بينهم من القراءات ، إلا أنهم اختاروا القراءة بما جاز بين القراء ، وكرهوا تجريد قراءة مفردة » (3) .
     وذهب الشهيد الأول : ( ت : 786 هـ ) من الإمامية إلى أن القراءات متواترة ، ومجمع على جواز القراءة بها ، وتابعه الخوانساري في ذلك ، ونفى الخلاف في حجية السبع منهم مطلقا ، والثلاث المكملة للعشر في الجملة ، بل اعتبر تواترها بوجوهها السبعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قاطبة أهل الإسلام (4) .
     وقد انتهى العاملي إلى الإجماع على تواتر القراءات ونعتها به وحكاه عن المنتهى والتحرير والتذكرة والذكرى ، والموجز الحاوي ، وغيرها من أمهات كتب الإمامية مما يقطع معه بتواترها حرفا حرفا ، وحركة حركة (5) .


(1) الكليني ، أصول الكافي : 2 | 631 .
(2) الطوسي ، التبيان : 1 | 7 .
(3) الطبرسي ، مجمع البيان : 1 | 12 .
(4) ظ : الخوانساري ، روضات الجنات : 263 .
(5) ظ : العاملي ، مفتاح الكرامة : 2 | 290 .


(120)

     وقد فصل الخوئي في القول ، فذهب إلى عدم حجية هذه القراءات ، فلا يستدل بها على الحكم الشرعي ، إذ لم يتضح عنده كون القراءات رواية ، فلعلها اجتهادات في القراءة ، ولكنه جوز بها الصلاة نظرا لتقرير المعصومين لها ، وذلك عنده يشمل كل قراءة متعارفة زمن أهل البيت عليهم السلام إلا الشاذة فلا يشملها التقرير (1) .


(1) ظ : الخوئي ، البيان في تفسير القرآن : 164 ـ 167 .


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=101
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19