• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الرابع) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة الاعراف من ( آية 33 ـ 59) .

سورة الاعراف من ( آية 33 ـ 59)

قوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ماظهر منها ومابطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون(33)

آية بلاخلاف.

لما أنكر تعالى على من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وذكر أنه أباح ذلك للمؤمنين في دار الدنيا بين عقيب ذلك ماحرمه عليهم، فقال " قل " يامحمد " إنما حرم ربي الفواحش " ومعناه لم يحرم ربي إلا الفواحش، لانا قد بيناأن (إنما) تدل على تحقيق ماذكر، ونفي مالم يذكر. والتحريم هو المنع من الفعل باقامة الدليل على وجوب تجنبه، وضده التحليل، وهو الاطلاق في الفعل بالبيان عن جواز تناوله.

وأصل التحريم المنع من قولهم: حرم فلان الرزق، فهو محروم حرمانا، وحرم الرجل اذا لج في الشئ بالامتناع منه، وحرمه تحريما، وأحرم بالحج إحراما وتحرم بطعامه تحرما، واستحرمت الشاة اذا طلبت الفحل، لانها تتبعه كماتتبع الحرمة البعل، والحرم مكة وماحولها مماهو معروف، وأشهر الحرم ذو القعدة وذو

[390]

الحجة والمحرم ورجب، والمحرم القرابة التي لايحل تزوجها، وحريم الدار ماكان من حقوقها، والمحرم السوط الذي لايلين لانه حرام أن يضرب به حتى يلين. والفواحش جمع فاحشة، وهي أقبح القبائح. وهي الكبائر.

وقوله " ماظهر منها وبطن " يعني ماعلن وماخفي. وقد قدمنا اختلاف المفسرين في ذلك، وانما ذكر مع الفواحش هذه القبائح، وهي داخلة فيهالاحد أمرين: أحدهما - للبيان عن التفصيل، كأنه قيل الفواحش التي منها الاثم، ومنها البغي، ومنها الاشراك بالله. والثاني - ان الفواحش - هاهنا - الزنا وهوالذي بطن، والتعري في الطواف، وهوالذي ظهر - في قول مجاهد - وقال قوم: الاثم هو الخمر، وماظهر الزنا، ومابطن هونكاح امرأة الاب، والاثم يعم جميع المعاصى، وأنشد ابن الانباري في أن الاثم هو الخمر:

شربت الاثم حتى ضل عقلي *** كذاك الاثم يصنع بالعقول(1)

وقال الفراء: الاثم مادون الحد، والبغي هو الاستطاعة على الناس، وحده طلب الترأس بالقهر من غير حق. وأصل البغي الطلب، تقول: هذه بغيتي أي طلبتي، وأبتغي كذا ابتغاء. وماتبغي؟ أي ماتطلب، وينبغي كذا أي هو الاولى أن يطلب.

وقوله " مالم ينزل به سلطانا " السلطان الحجة - في قول الحسن وغيره - ومثله البرهان والبيان والفرقان، وحدودها تختلف، فالبيان إظهار المعنى للنفس كاظهار نقيضه، والبرهان إظهار صحة المعنى وفساد نقيضه، والفرقان إظهار تميز المعنى مما التبس به. والسلطان إظهار مايتسلط به على نقيض المعنى بالابطال.

___________________________________

(1) اللسان . (أثم).

[391]

و " أن تقولوا على الله مالاتعلمون " أي وحرم عليكم ذلك، وذلك يدل على بطلان التقليد، لان المقلد لا يعلم صحة ماقلد فيه.

قوله تعالى: ولكل أمة أجل فاذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون(34)

آية بلاخلاف.

قيل الفرق بين أن تقول: ولكل أمة أجل، وبين ولكل أحد أجل من وجهين: أحدهما - أن ذكر الامة يقتضي تقارب أعمار أهل العصر. والثاني - أنه يقتضي إهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم باتيان الرسل. والامة الجماعة التي يعمها معنى. وأصله أمه يؤمه إذا قصده، فالامة الجماعة التي على مقصد واحد. والاجل الوقت المضروب لانقضاء المهل، لان بين العقد الاول الذي يضرب لنفس الاجل، وبين الوقت الاخر مهلا، مثل أجل الدين، وأجل الوعد، وأجل العمر.

وقال أبوعلي الجبائي: في الاية دلالة على أن الاجل واحد، لانه لايجوز أن يكون الظالم بقتل الانسان قد اقتطعه عن أجله.

وقال أبوبكر ابن الاخشيد: ليس الامر على ذلك لانها قد دلت أنه غير هذا على الاجلين.

وقوله " فاذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون " معنى لايستأخرون، لايتأخرون، وإنما قيل لا يستأخرون من أجل أنهم لايطلبون التأخر، فهو أبلغ في المعنى من لايتأخرون، لان الاستئخار طلب التأخر وقوله " ولا يستقدمون " معناه لايتقدمون، والمعنى اذا قرب أجلهم لايطلبون التقدم ولا التأخر، لان بعد حضور الاجل ونزول الاملاك يستحيل منهم طلب ذلك، كمايقال جاء الشتاء وجاء الصيف إذا قارب وقته لانه متوقع كتوقعه.

[392]

قوله تعالى: يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلاخوف عليهم ولاهم يحزنون(35)

آية بلاخلاف.

هذاخطاب من الله تعالى لجميع بني آدم المكلفين منهم أنه يبعث إليهم رسلا منهم يقصون عليهم آيات الله وحججه وبراهينه، وهو ماأنزله عليهم من كتبه ونصب لهم من أدلته.

وقوله " إما " أصله (إن) حرف الشرط دخلت عليه (ما) ولدخولها دخلت النون الثقيلة في (يأتينكم) ولو قال: إن يأتينكم، لم يجز، وإنما كان كذلك، لان (ما) جعلته في حكم غير الواجب، لانه ينزل منزلة ماهو غير كائن حتى احتيج معه إلى القسم مع خفاء أمره من جهة المستقبل، ولم يجز دخول النون على الواجب في مثل هو، هون، لان هذه النون تؤذن بأن مادخلت عليه قد احتاج إلى التأكيد لخفاء أمره من جهة المستقبل. وانه غير واجب لخفاء أمره من هاتين الجهتين، لاجله احتاج إلى نون التأكيد.

وإنما قال " رسل منكم " بلفظ الجمع، وإنما أتى هؤلاء رسول منهم لانه على تقدير يأتين لكل أمة، فصار كأنه خطاب لجميع المكلفين.

وجواب (إن) يحتمل أن يكون أحد أمرين: أحدهما - أن يكون قوله " فمن اتقى " منكم " وأصلح " لان التفصيل يقتضي منكم. الثاني - أن يكون محذوفا يدل الكلام عليه كأنه قال فأطيعوهم.

وقوله " يقصون " فالقصص وصل الحديث بالحديث في وصل الحديث الممتنع بحديث مثله.

[393]

وقوله " فمن اتقى وأصلح " معناه فمن اتقى منكم وأصلح " فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون " وظاهر الاية يدل على أن من اتقى معاصي الله واجتنبها، وأصلح بأن فعل الصالحات، لاخوف عليهم في الاخرة - وهوقول الجبائي - وقال أبوبكر بن الاخشيد: لايدل على ذلك، لان الله تعالى قال في وصفه يوم القيامة " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى "(1) وإنماهو كقول الطبيب للمريض لابأس علكى، ولاخوف عليك، ومعناه أن أمره يؤل إلى السلامة والعافية.

والاول أقوى، لانه الظاهر غير أن ذلك يكون لمن اتقى جميع معاصي الله، فأما من جمع بين الطاعات والمعاصي فان خوفه من عقاب الله على معاصيه لابد منه، لانا لانقطع على أن الله تعالى يغفر له لامحالة، ولانقول بالاحباط فنقول ثواب إيمانه أحبط عقاب معاصيه، فاذا اجتمعا فلابد من أن يخاف من وصول العقاب اليه.

ومن قال لفظة " اتقى " لا تطلق إلا للمؤمن من أهل الثواب، لانها صفة مدح، فلابد من أن يكون مشروطا بالخلوص مما يحبطه، فماذكروه أولا صحيح نحن نعتبره، لان المتقي لايكون إلا مؤمنا مستحقا للثواب، غير أنه ليس من شرطه ألا يكون معه شئ من العقاب، بل عندنا يجتمعان، فلا يستمر ماقالوه.

قوله تعالى: والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(36)

آية

أخبر الله تعالى أن الذين كذبوا بحججه وبراهينه -، ولم يصدقوه، واستكبروا عنها - انهم أصحاب النار الملازمون لهاعلى وجه الخلود والتأبيد. والتكذيب هو تنزيل الخبر على أنه كذب. والتصديق تنزيل الخبر على

___________________________________

(1) سورة 22 الحج آية 2.

[394]

انه صدق، فالتكذيب بآيات الله كفر، والتكذيب بالطاغوت إيمان، فذلك توعد على التكذيب بآيات الله بعقاب الابد. والاستكبار طلب الترفع بالباطل، ولفظة " مستكبر " صفة ذم في جميع الخلق، والخلود هو لزوم الشئ على ماهو فيه. ومعنى " أخلد إلى الارض "(1) لزوم الركون اليها. والصاحب والقرين متقاربان غير أن القرين فيه معنى النظير، وليس ذلك في الصاحب فلذلك قيل: أصحاب رسول الله، ولم يقل قرناؤه.

ولفظة (الذين) مبنية على هذه الصيغة في جميع الاحوال: الرفع، والنصب، والجر، وإنما تثبت مع بعدها بالجمع عن الحرف، لان العلة التي لها هي التي موجودة فيه، وهي نقصانه عن سائر الاسماء حتى تأتي صلته فتتمه، وليس هذا كالشبيه العارض الذي يزول على وجه.

فأما من قال: الذون والذين فانه اعتد بتبعيد الجمع، فجعله على طريقة المعرف، ولان هذه الطريقة لمالم تكن اعرابا تاما لم يمنعوه لماوقع بعده من شبه الحرف بالجمع.

قوله تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاء‌تهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ماكنتم تدعون من دون الله قالوا ضلّوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين(37)

آية بلاخلاف

قوله " فمن أظلم " صورته صورة الاستفهام، والمراد به الاخبار عن عظم جرم من يفتري على الله كذبا أو يكذب بآيات الله، لا أنه أحد أظلم لنفسه منه. وانما أوردهذا الخبر بلفظ الاستفهام، لانه ابلغ برد المخاطب

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 175.

[395]

إلى نفسه في جوابه مع تحريك النفس له بطريق السؤال. وقد بينا فيما مضى من الكتاب حقيقة الظلم، وأن أجود ماحدبه أن قيل: هوالضرر المحض الذي لانفع فيه يوفى عليه، ولا دفع ضرر أعظم من دفعه، لاعاجلا ولا آجلا، ولايكون مستحقا ولاواقعا على وجه المدافعة.

وقد حد الرماني الظلم بأنه الضرر القبيح من جهة بخس الحق به، وهذا ينتقض بالالم الذي يدفع به ألم مثله، لما قلناه.

وقوله " أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب " فالنيل هووصول النفع إلى العبد إذا أطلق، فان قيد وقع على الضرر، لان أصله الوصول إلى الشئ من نلت النخلة أنالها نيلا، قال امرؤ القيس:

سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا *** ونائل ذا اذا صحا واذا سكر(1)

والبخل منع النائل لمشقة الاعطاء.

وقيل في معنى " ينالهم نصيبهم من الكتاب " أقوال: أحدها - قال الزجاج والفراء: هو ماذكره الله تعالى من أنواع العذاب للكفار مثل قوله " فانذرتكم نارا تلظى لايصلاها إلا الاشقى الذي كذب وتولى "(2) وقوله " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد ايمانكم "(3) وغير ذلك مماكتب الله في اللوح المحفوظ.

الثاني - قال الربيع وابن زيد: من الرزق والعمر، والعمل: من الخير والشر في الدنيا.

الثالث - قال مجاهد: جميع ماكتب لهم وعليهم، وهو قول عطية.

وقال بعضهم معناه ينالهم نصيبهم من خير أو شر في الدنيا، لانه قال " حتى إذا جاء‌تهم رسلنا يتوفونهم " وهي الانتهاء. والاجوبة الاولى أقوى

___________________________________

(1) ديوانه: 86. من قصيدة يمدح بها سعدبن الصباب ويهجو هانئ بن مسعود.

(2) سورة 92 الليل آية 14 - 16.

(3) سورة 3 آل عمران آية 106.

[396]

لان الاظهار فيما يقتضيه عظم الظلم في الفحش الوعيد والعذاب الابدي.

وقال سيبويه والزجاج: لاتجوز إمالة (حتى) لانها حرف لايتصرف، والامالة ضرب من التصريف، وكذلك (إما، وايا، والا، ولا). و (أينما) كتبت بالياء مع امتناع إمالتها تشبيها ب‍ (حبلى) من جهة أن الالف رابعة، ولم يجز مثل ذلك في (إلا) لان (إلا) تشبه إلى. ولا في (اما) التي للتخيير، لانها بمنزلة (إن ما) التي للجزاء..

وقوله " حتى إذا جاء‌تهم رسلنا يتوفونهم " يعني الملائكة التي تنزل عليهم لقبض أرواحهم.

وقيل في معنى الوفاة - ههنا - قولان: احدها - الحشر إلى النار يوم القيامة بعدالحشر الثاني، وفات الموت الذي يوبخهم عنده الملائكة - في قول أبي علي - والوجه في مسألة الملك لمن يتوفاه: التبكيت لمن لم يقم حجته، والبشارة لمن قام بحجته. وفي الاخبار عن ذلك مصلحة السامع اذاتصور الحال فيه.

وقوله " قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله " حكاية سؤال الملائكة لهم وتوبيخهم أن الذين كانوا يدعونهم من دون الله من الاوثان والاصنام لم ينفعوهم في هذه الحال، بل ضروهم.

وقوله " قالوا ضلوا عنا " حكاية عن جواب الكفار للملائكة أنهم يقولون: ضل من كنا ندعوه من دون الله عنا " وشهدوا على أنفسهم " يعني الكفار أقروا على أنفسهم " أنهم كانوا كافرين " جاحدين بالله، وكافرين لنعمه بعبادتهم الانداد من دون الله.

[397]

قوله تعالى: قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والانس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادّاركوا فيها جميعا قالت أخريهم لاوليهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لاتعلمون(38)

آية واحدة بلاخلاف.

هذا حكاية عن قول الله تعالى للكفار يوم القيامة وأمره لهم بالدخول في جملة الامم الذين تبعوا من قبلهم من جملة الجن والانس وهم في النار. ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن جعله إياهم في جملة اولئك في النار، من غير أن يكون هناك قول، كما قال " كونوا قردة خاسئين "(1) والمراد أنه جعلهم كذلك.

ومعنى الخلو انتفاء الشئ عن مكانه فكل ماانتفى من مكانه، فقد خلا منه، وكذلك (خلت) بمعنى مضت، لانها إذا مضت بالهلاك، فقد خلا مكانها منها.

والجن جنس من الحيوان مستترون عن أعين البشر لرقتهم، يغلب عليهم التمرد في أفعالهم، لان الملك أيضا مستتر لكن غلب عليه أفعال الخير. وعند قوم: أنهم أجمع رسل الله.

والانس جنس من الحيوان يتميز بالصورة الانسانية.

وقوله " كلما دخلت أمة لعنت أختها " يعني في دينها لافي نسبها، فأما قوله " والى مدين أخاهم شعبيا "(2) يعني أنه منهم في النسب.

وقوله " حتى اذا اداركوا فيها جميعا " فوزن اداركوا (تفاعلوا) فأدغمت التاء في الدال واجتلبت ألف الوصل ليمكن النطق بالساكن الذي بعده، ومعناه تلاحقوا.

وقوله " قالت أخراهم لاولاهم " يعني الفرقة المتأخرة التابعة تقول للامة المتقدمة المتبوعة، وتشير اليها " هؤلاء أضلونا " عن طريق الحق وأغوونا

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 65 وسورة 7 الاعراف آية 165.

(2) سورة 7 الاعراف آية 84 وسورة هود آية 83 وسورة 29 العنكبوت آية 36.

[398]

" فآتهم عذابا ضعفا من النار " دعاء‌منهم عليهم أن يجعل عذابهم ضعفا، فقال الله تعالى " لكل ضعف ولكن لا تعلمون " والضعف المثل الزائد على مثله، فاذا قال القائل: اضعف هذا الدرهم معناه أجعل معه درهما آخر، لادينارا، وكذلك اضعف الاثنين أي اجعلهما أربعة. وحكي أن المضعف في كلام العرب ماكان ضعفين، والمضاعف ماكان أكثر من ذلك.

وروي عن عبدالله بن مسعود أن الضعف أفاعي وحيات. واستعمل الضعف بمعنى المثل، ومنه قوله " يضاعف لها العذاب ضعفين(3) يعني مثلين.

وقرأ أبوبكر عن عاصم " ولكن لا يعلمون " بالياء. الباقون بالتاء.

ومن قرأ بالتاء، فتقديره لاتعلمون أيها المخاطبون مالكل فريق منهم.

ومن قرأبالياء تقديره لكن لا يعلم كل فريق ماعلى الاخر من العقاب.

قوله تعالى: وقالت أوليهم لاخريهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون(39)

آية بلاخلاف.

هذا حكاية عن جواب قول الامة الاولى المتبوعة للاخرى التابعة حين سمعت دعاء‌ها عليهم بأن يؤتيهم ضعفا من العذاب " فماكان لكم علينا من فضل " وقيل في معناه قولان: أحدهما - ماكان لكم علينامن فضل في ترك الضلال، وهو قول أبي مخلد والسدي. وقال الجبائي: لمساواتكم لنافي الكفر.

الثاني - من فضل في التأويل فتطالبونا بتضييع حقه.

ولفظة (أفعل) على ثلاثة أوجه: أحدها - مافيه معنى يزيد كذا على كذا، فهذا لايجوز فيه التأنيث والتذكير والتثنية والجمع مضافا كان أو على طريقة (أفعل من كذا) كقولك

___________________________________

(3) سورة 33 الاحزاب آية 30.

[399]

أفضل من زيد وأفضل القوم لتضمنه معنى الفعل، والمصدر كقولك أفضل القوم بمعنى يزيد فضله على فضلهم.

الثاني - مالم يقصد فيه معنى يزيد كذا على كذا، فهذا يجوز فيه كل ذلك كقولك: الاكبر والكبرى والاكابر.

الثالث - (أفعل) من الالوان والعيوب الظاهرة للحاسة، فهذا يجئ على (أفعل، وفعلاء) وجمعه (فعل) نحو أحمر، وحمراء وحمر. وأعرج وعرجاء وعرج.

وأما (أفعل) إذا كان اسم جنس، فانه يثنى ويجمع ولا يؤنث، وكذلك اذاكان علما نحو أفكل وأفاكل وأحمد وأحامد.

فاما ابطح وأباطح وأجزع واجازع، فأجري هذا المجرى، لانه استعمل على طريقة إسم الجنس وأصله الوصف، ولايجوز في (أفعل) الفعول إلا بالتعريف لايذان معنى (أفعل) معنى أفعل من كذا، قال سيبويه: لايجوز نسوة صغر ولاكبر حتى تعرفه فتقول: النسوة الصغر والكبر.

الآية: 40 - 59

قوله تعالى: إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لاتفتّح لهم أبواب السماء ولايدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخِياط وكذلك نجزي المجرمين(40)

آية بلاخلاف.

قرأ حمزة والكسائي وخلف " لايفتح " بالياء والتخفيف، وقرأ أبو عمرو بالتاء والتخفيف. الباقون بالتاء، والتشديد. من شدد ذهب إلى التكثير. والمعنى أنهم ليسوا كحال المؤمن في التفتيح مرة بعد أخرى.

ومن قرأ بالتاء، فلان الابواب جماعة فأنث تأنيث الجماعة.

ومن قرأ بالياء، فلان التأنيث غير حقيقي، وذهب إلى معنى الجمع.

[400]

أخبر الله تعالى في هذه الاية " إن الذين كذبوا " بآيات الله وجحدوها، واستكبروا عنها بمعنى طلبوا التكبر والترفع عن الانقياد لها " لاتفتح لهم أبواب السماء " هوانا لهم واستخفافا، بهم فان فتحت فتحت عليهم بالعذاب.

وقال ابن عباس والسدي: لانها تفتح لروح المؤمن، ولاتفتح لروح الكافر، وفي رواية أخرى عن ابن عباس، ومجاهد، وابراهيم: لا تفتح لدعائهم، ولاأعمالهم.

وقال أبوجعفر (ع) أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء، فتفتح لهم أبوابها. وأما الكافر، فيصعد بعمله وروحه حتى اذا بلغ السماء نادى مناد: اهبطوا بعمله إلى سجين، وهوواد بحضر موت يقال له: برهوت.

وقال الحسن لاتفتح لدعائهم.

وقال ابن جريج: لاتفتح لارواحهم ولاأعمالهم.

وقال أبوعلي: لاتفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة، لان الجنة في السماء.

ثم قال " ولايدخلون الجنة " يعني هؤلاء المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها سواء كانوا معاندين في ذلك أو غير عالمين بذلك. وإنما تساويا في ذلك، لان من ليس بعالم قد ازيحت علته باقامة الحجة، ونصب الادلة على تصديق آيات الله، وترك الاستكبار عنها.

وقوله " حتى يلج الجمل في سم الخياط " إنما علق الجائز، وهو دخولهم الجنة بمحال، وهودخول الجمل في سم الخياط، لانه لايكون، كما قال الشاعر:

إذ شاب الغراب أتيت أهلي *** وصار القار كاللبن الحليب(1)

والاخر أنه مضمر بما لايمكن من قلب الدليل، والجمل هوالبعير - ههنا - في قول عبدالله والحسن ومجاهد والسدي وعكرمة وأكثر المفسرين.

والسم الثقب. ومنه فيل: السم القاتل لاه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى

___________________________________

(1) تفسير الخازن 2 / 87.

[401]

يصل إلى القلب فتنتقض بنيته، وكل ثقب في البدن لطيف فهو سم وسم بضم السين وفتحها وجمعه سموم، وقال الفرزدق:

فنفست عن سميه حتى ينفسا *** وقلت له لاتخش شيئا ورائيا(2)

يعني بسميه ثقبي أنفه، ويجمع السم القاتل سماما.

والخياط والمخيط الابرة.

وقيل خياط ومخيط، كماقيل لحاف وملحف، وقناع ومقنع، وإزار ومئزر، وقرام ومقرم - ذكره الفراء -.

قوله تعالى: لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين(41)

آية بلاخلاف.

أخبرالله تعالى أن لهؤلاء الكفار الذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها لهم من جهنم مهاد، و (جهنم) في موضع جر ب‍ (من) لكن فتح لانه لاينصرف لاجتماع التأنيث والتعريف فيه، واشتقاقه من الجهومة، وهي الغلظ، رجل جهم الوجه غليظه، فسميت بهذا لغلظ أمرها في العذاب، نعوذ بالله منها.

والمهاد الوطأ الذي يفترش. ومنه مهد الصبي، ومهدت له لامر اذا وطأته له، وإنما قيل: مهاد من جهنم أي موضع المهاد، كما قال تعالى " فبشرهم بعذاب اليم "(3) وقال الحسن مهاد " فراش من نار، و " غواش " ظلل منها.

وقوله " ومن فوقهم غواش " فالغواش لباس مجلل، ومنه غاشية السرج، وفلان يغشى فلانا أي يأتيه ويلابسه. ومنه غشي المرض، والغشاوة التي تكون على الولد.

وقال محمدبن كعب: الغواشي هي اللحف، وهي أزر الليل محشوة كانت أو غير محشوة، ذكره الازهري، وروى الطبري مثله.

___________________________________

(2) تفسير الخازن 2 / 87.

(3) سورة 3 آل عمران آية 21 وسورة 9 التوبة آية 35 وسورة 84 الانشقاق آية 24.

[402]

وقيل في دخول التنوين على (غواش) مع أنه على (فواعل) وهو لاينصرف قولان: أحدهما - قال سيبويه: إن التنوين عوض من الياء المحذوفة وليس بتنوين الصرف. الثاني - أنه تنوين الصرف عند حذف الياء لالتقاء الساكنين في التقدير.

وقوله " وكذلك نجزي الظالمين " أي مثل مانجزي هؤلاء المكذبين بآيات الله المستكبرين عنها نجزي كل ظالم وكل كافر. والوصف ب‍ (ظالم) يقتضي لحوق الذم به في العرف.

قوله تعالى: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لانكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون(42)

آية.

لماأخبر الله تعالى بصفة المكذبين المستكبرين عن آياته، وماأعدلهم من أنواع العذاب والخلود في النيران، أخبر بعده بما أعده للمؤمنين، العاملين بالاعمال الصالحات، فقال " والذين آمنوا " يعني الذين صدقوا بآيات الله واعترفوا بها، ولم يستكبروا عنها. ثم أضافوا إلى ذلك الاعمال الصالحات. وهو ماأوجبه الله عليهم أو ندبهم اليه.

وقوله " لانكلف نفسا إلا وسعها " فالتكليف من الله هو إرادة مافيه المشقة، وقال قوم: هو اعلام وجوب مافيه المشقة اوندبه. والارادة شرط.

وقال قوم: التكليف هو تحميل مايشق في الامر والنهي، ومنه الكلفة، وهي المشقة.

وتكلف القول أي تحمل مافيه المشقة حتى أتى على ما ينافره العقل.

أخبر الله تعالى أنه لايلزم نفسا إلا قدر طاقتها ومادونها، لان الوسع دون الطاقة.

وفي ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة: من أن الله تعالى كلف العبد مالاقدرة له عليه ولايطيقه.

[403]

وموضع " لايكلف نفسا إلا وسعها " قيل فيه قولان: أحدهما - ان يكون رفعا بأنه الخبر على حذف العائد، كأنه قيل: منهم، ولا من غيرهم، وحذف لانه معلوم.

والاخر - ألا يكون له موضع من الاعراب، لانه اعتراض، والخبر الجملة في (أولئك) لان قوله " والذين آمنوا " مبتدأ، وقوله " أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " خبر بأن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ملازمون الجنة مخلدون لنعمتها.

قوله تعالى: ونزعنا مافي صدورهم من غل تجري من تحتهم الانهار وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدينا الله لقد جاء‌ت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون(43)

اية بلاخلاف.

نزع الغل في الجنة تصفية الطباع، وإسقاط الوساوس، وإعطاء كل نفس مناها، ولايتمنى أحد مالغيره. قرأ ابن عامر " ماكنا لنهتدي " بلاواو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. الباقون باثباتها. وجه الاستغناء عن الواو أن الجملة متصلة بماقبلها فأغنى التباسها بها عن حرف العطف.

ومثله " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم " فاستغنى عن حرف العطف بالالتباس من احدى الجملتين بالاخرى. ومن أثبت الواو فلعطفه جملة على جملة. في هذه الاية إخبار عما يفعله بالمؤمنين في الجنة بعد أن يخلدهم فيها، بأن ينزع مافي صدورهم من غل، فالنزع رفع الشئ عن مكانه المتمكن فيه،

[404]

إما بتحويله، وإما باعدامه. ومعنى نزع الغل - ههنا - إبطاله.

وقيل في ماينزع الغل من قلوبهم قولان: أحدهما - قال أبوعلي: بلطف الله لهم في التوبة حتى تذهب صفة العداوة. الثاني - بخلوص المودة حتى يصير منافيا لغل الطباع.

والثاني أقوى، لان قوله " تجري من تحتهم الانهار " حال لنزع الغل، وكأنه قال: ونزعنا مافي صدورهم من غل في حال تجري من تحتهم الانهار وعلى الاولى يكون " تجري من تحتهم الانهار " مستأنفا.

والغل: الحقد الذي ينقل بلطفه إلى صميم القلب، ومنه الغلول، وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة، ومنه الغل الذي يجمع اليدين والعنق بانغلاله فيها.

والصدر: مايصدر من جهته التدبير والرأي، ومنه قيل للرئيس: صدر، وقيل صدر المجلس.

وقوله " تجري من تحتهم الانهار " فالجريان انحدار المائع، فالماء يجري، والدم يجري، وكذلك كل مايصح أن يجري، فهومائع، وجرى الفرس في عدوه مشبه بجري الماء في لينه وسرعته.

وقوله " تجري من تحتهم الانهار " فالنهر المجرى الواسع من مجاري الماء، ومنه النهار لاتساع ضيائه، وانهار الدم لاتساع مخرجه.

وقوله " وقالوا الحمدلله الذى هدانا لهذا وماكنا لنتهدي لولا أن هدانا الله " إخبار عن قول أهل الجنة واعترافهم بالشكر لله تعالى الذي عرضهم له بتكليفه إياهم مايستحقون به الثواب.

وقيل: معنى " هدانا لهذا " يعني لنزع الغل من صدورنا.

وقيل: هدنا لثبات الايمان في قلوبنا.

وقيل: هدنا لجواز الصراط.

وقوله " لقد جاء‌ت رسل ربنا بالحق " إقرار من أهل الجنة واعتراف بأن ماجاء‌ت به الرسل اليهم من جهة الله أنه حق لا شبهة فيه، ولامرية في صحته.

[405]

وقوله " ونودوا ان تلكم الجنة أورثتموها بماكنتم تعملون " فالنداء الدعاء بطريقة يافلان كأنه قيل لهم: أيها المؤمنون " أن تلكم الجنة أورثتموها بماكنتم تعملون " جزاء لكم على ذلك، على وجه التهنئة لهم بها. و (أن) مخففة من الثقيلة و (الهاء) مضمرة، والتقدير ونودوا بأنه تلكم الجنة.

وقال الزجاج " أن تلكم " تفسير للنداء، والمعنى قيل لكم: تلكم الجنة.

وإنما قال " تلكم " لانهم وعدوا بها في الدنيا، وكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها.

ويجوز أن يكونوا عاينوها، فقيل لهم - قبل أن يدخلوها - إشارة اليها " تلكم الجنة ".

ومن أدغم، فلان الثاء والتاء مهموستان متقاربتان فاستحسن الادغام.

ومن ترك الادغام في " أورثتموها " وهو ابن كثير، ونافع وعاصم وابن عامر - فلتباين المخرجين، وأن الحرفين في حكم الانفصال، وإن كانا في كلمة واحدة، كمالم يدغموا " ولوشاء الله مااقتتلوا "(1) وإن كانا مثلين لايلزمان لان تاء (افتعل) قد يقع بعدها غير التاء، فكذلك أورث، قد يقع بعدها غير التاء، فلايجب الادغام.

واستدل الجبائي بذلك على ان الثواب يستحق بأعمال الطاعات، ولايستحق من جهة الاصلح، لان الله تعالى بين انهم اورثوها جزاء بما عملوه من طاعته (عزوجل).

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 253

[406]

قوله تعالى: ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذّن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين(44)

آية

قرأ حمزة، والكسائي وابن كثير في رواية شبل (ان) مشددة النون. الباقون خفيفة.

وكذلك ابن كثير في رواية قنبل بتخفيف النو؟ سكونها ورفع (لعنة). الباقون بتشديد النون ونصب (لعنة).

وقر أ الكسائي وحده " قالوا نعم " بكسر العين.

وفي الشعراء " قال نعم " وفي الصافات " قل نعم " بفتح النون.

قال ابوالحسن الاخفش: نعم ونعم لغتان، فالكسر لغة كنانة وهذيل، والفتح لغة باقي العرب، وفي القراء‌ة الفتح.

وقال سيبويه (نعم) عدة وتصديق فاذا استفهمت اجبت ب‍ (نعم).

ولم يحك سيبويه الكسر، ومعنى قوله: عدة وتصديق انه يستعمل عدة ويستعمل تصديقا، ولايريد أن العدة تجتمع مع التصديق ألا ترى انه اذا قال قائل: اتعطيني، فقال: نعم، كان عدة، ولاتصديق في ذلك، واذا قال: قد كان كذا وكذا، فقلت نعم، فقد صدقته، ولاعدة في هذا.

وقوله " فأذن مؤذن " بمنزلة اعلم معلم، قال سيبويه: أذن اعلام بصوت، فالتي تقع بعد العلم. و (أن) إنما هي الشددة او المخفضة عنها والتقدير اعلم معلم ان لعنة الله.

ومن خفف (ان) كان على اضمار القصة والحديث، فتقديره انه لعنة الله، ومثل ذلك قوله " وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين "(1) والتقدير (انه) ولاتخفف (ان) الا مع اضمار الحديث فالقصة ترادمعها.

ومن ثقل نصب ب‍ (ان) مابعدها، كما ينصب بالمشددة المكسورة.

والمكسورة اذا خففت لايكون مابعدها على اضمار القصة والحديث، كما تكون المفتوحة كذلك.

والفرق بينهما ان المفتوحة موصولة، والموصولة تقتضي صلتها، فصارت لاقتضائها الصلة اشد اتصالا بمابعدها من المكسورة، فقدر بعدها الضمير الذي هو من جملة صلتها، وليست المكسورة كذلك، لان (ان) المفتوحة

___________________________________

(1) سورة 10 يونس آية 10

[407]

بمعنى المصدر، فلا بدلها من اسم وخبر، لانها تلتغي بأن يكون دخولها كخروجها، وليس كذلك (ان)، ومن المفتوحة قول الاعشى:

في فتية كسيوف الهند قد علموا *** ان هالك كل من يخفى وينتعل(2)

وأما قراء‌تهم في النور " ان غضب الله "(3) فان(1) في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، واما قراء‌ة نافع " ان غضب الله " فحسن، وهو بمنزلة قوله و " آخر دعواهم ان الحمدلله "(4) وليس لاحد ان يقول: هذا لايستحسن لان المخففة من الشديدة لايقع بعدها الفعل حتى يقع عوض من حذف (ان) ومن أنها تولى مايليها من الفعل، يدل على ذلك " علم أن سيكون منكم "(5) وقوله " لئلا يعلم اهل الكتاب ان لايقدرون على شئ "(6) وذلك انهم استجازوا ذلك وان لم يدخل معه شئ من هذه الحروف، لانه دعاء، وليس شئ من هذه الحروف يحتمل الدخول معه، ونظير هذا في انه لماكان دعاء لم يلزمه العوض قوله " نودي ان بورك من في النار ومن حولها "(7) فولي قوله " بورك " (ان) وان لم يدخل معها عوض، كما لم يدخل في قراء‌ة نافع " ان غضب الله عليها "(8) والدعاء قد استجيز معه مالم يستجز مع غيره ألا ترى انهم قالوا: (اما ان جزاك الله خيرامن) حمله سيبويه على اضمار القصة في (ان) المكسورة ولم يضمر القصة مع المكسورة الافى هذا الموضع.

وقوله " ونادى اصحاب الجنة اصحاب النار " معناه وقال اصحاب الجنة ياأصحاب النار بعد دخول هؤلاء الجنة ودخول هؤلاء النار. والصاحب هوالمقارن للشئ على نية طول المدة، والصحبة والمقارنة نظائر، الا ان في الصحبة الارادة. ومنه قيل اصحاب الصحراء.

___________________________________

(2) ديوانه: 45 وتفسير الطبري 12 / 444 وغيرهما وسيأتي في 5 / 396.

(3) سورة 24 النور آية 9.

(4) سورة 10 يونس آية 10.

(5) سورة 73 المزمل آية 20.

(6) سورة 57 الحديد آية 29.

(7) سورة 27 النمل آية 8.

(8) سورة 24 النور آية 9

[408]

وقوله " ان قد وجدنا ماوعدنا ربنا حقا " معناه وجدنا ماوعدنا الله على لسان رسله من الثواب على الايمان وعمل الطاعات " فهل وجدتم ماوعدكم ربكم " على السنتهم " حقا " جزاء على الكفر من العقاب وعلى معاصيه من أليم العذاب، فأجابهم اهل النار: بأن " قالوا نعم " والغرض بهذا النداء تبكيت الكفار وتوبيخهم، وان الله تعالى صدق فيما وعد به على لسان نبيه ليحزن الكفار بذلك ويتحسروا عليه.

والوجدان على ضربين: احدهما بمعنى العلم فهو يتعدى إلى مفعولين. والاخر بمعنى الاحساس يتعدى إلى واحد. وانما كان كذلك، لان الذي بمعنى العلم يتعلق بمعنى الجملة، والذي يتعلق بالاحساس يتعلق بمعنى المفرد من حيث ان الاحساس لايتعلق بالشئ الامن وجه واحد. وجواب الايجاب يكون (نعم) وجواب النفي (بلى)، لان (نعم) تحقق معنى الخبر المذكورة في الاستفهام و (بلى) تحققه باسقاط حرف النفي.

وقوله " فأذن مؤذن بينهم " معناه نادى مناد نداء أسمع الفريقين " أن لعنة الله على الظالمين " ولعنة الله غضبه وسخطه وعقوبته على من كفر به فيسر بذلك اهل الجنة ويغتم اهل النار.

وقال الاخفش والزجاج: يجوز ان تكون (ان) بمعنى اي " قدوجدنا " ولايجب ان تكون (أن) بمعنى أي (قد وجدنا). ونادوهم مشرفين عليهم من السماء في الجنة، لان الجنة في السماء، والنار في الارض.

وقوله " وجدنا ماوعدنا ربنا حقا " إنما أضافوا الوعد بالجنة إلى نفوسهم، لان الكفار ماوعدهم الله بالجنة والثواب إلا بشرط أن يؤمنوا، فلما لم يؤمنوا فكأنهم لم يوعدوا، وكذلك قوله " ماوعدربكم " يعنون من العقاب لان المؤمنين لماكانوا مطيعين مستحقين للثواب فكأنهم لم يوعدوا بالعقاب، وانما خص الكفار.

[409]

قوله تعالى: ألذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون(45)

آية بلاخلاف.

" الذين " في موضع جر، لانه صفة للظالمين، والتقدير ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وذلك يبين ان المراد بالظالمين الكفار، لان ماذكرهم به من اوصاف الكفار. والصدهو العدول عن الشئ عن قلى، والصد والاعراض بمعنى واحد، إلا ان الصد يجوز ان يتعدى تقول: صده عن الحق يصده صدا، وصد هو عنه أيضا، والاعراض لايتعدى.

وقوله " عن سبيل الله " يعني الحق الذي دعا الله اليه ونصب عليه الادلة وبعث به رسله.

وقيل: هو دين الله.

وقيل: الطريق الذي دل الله على انه يؤدي إلى الجنة والمعنى متقارب.

وقوله " يبغونها عوجا " معنى يبغونها يطلبون لها العوج بالشبه التي يلبسون بها ويوهمون انها تقدح فيها، وانها معوجة عن الحق بتناقضها.

و (العوج) بالكسر يكون في الطريق وفي الدين، وبالفتح يكون في الخلقة كقولك: في ساقه عوج بفتح العين، قال الشاعر:

قفا نسأل منازل آل ليلى *** على عوج اليها وانثناء(1)

بكسر العين، ويحتمل نصب عوجا أمرين: احدهما - ان يكون مفعولا به كقولك ببغون لهاالعوج. الثاني - ان يكون نصبا على المصدر، وكأنه قال: يطلبونها هذا الضرب من الطلب، كماتقول: رجع القهقرى أي هذا الضرب من الرجوع اي طلب الاعوجاج.

___________________________________

(1) اللسان . (عوج) وتفسير الطبري 12 / 448

[410]

قوله تعالى: وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاّ بسيميهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون(46)

آية بلاخلاف

قوله " وبينهما " يعني بين أصحاب الجنة واصحاب النار " حجاب " والحجاب هو الحاجز المانع من الادراك، ومنه قيل للضرير: محجوب، وحاجب الامير، وحاجب العين. وحجبه عنه أي منعه من الوصول اليه.

وقوله " وعلى الاعراف رجال " فالاعراف المكان المرتفع أخذ من عرف الفرس ومنه عرف الديك، وكل مرتفع من الارض يسمى عرفا، لانه بظهوره أعرف مما انخفض، قال الشماخ:

وظلت بأعراف تغالي كأنها *** رماح نحاها وجهة الرمح راكز(1)

وقال آخر:

كل كناز لحمه نياف *** كالعلم الموفى على الاعراف(2)

يعني بنشوز من الارض، وقيل: هو سور بين الجنة والنار، كماقال تعالى " فضرب بينهم بسورله باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب "(3) وهوقول مجاهد والسدي. واختلفوا في الذين هم على الاعراف على أربعة اقوال:

___________________________________

(1) ديوانه: 53 ومجاز القرآن 1 / 215، وروايتهما .

(وظلت تغالي باليفاع كأنها) وفي الطبري 12 / 449 مثل هنا تماما.

(2) مجاز القرآن 1 / 215 واللسان .

(نوف) والطبري 12 / 450.

(الكنار) المجتمع . (والنياف) الطويل. و . (العلم) الجبل.

(3) سورة 57 الحديد آية 13

[411]

احدها - أنهم فضلاء المؤمنين - في قول الحسن ومجاهد - قال ابو علي الجبائي هم الشهداء، وهم عدول الاخرة، وقال ابوجعفر (ع) هم الائمة، ومنهم النبي صلى الله عليه وآله.

وقال ابوعبدالله (ع) الاعراف كثبان بين الجنة والنار، فيوقف عليها كل نبي وكل خليفة نبي مع المذنبين من اهل زمانه، كما يوقف قائد الجيش مع الضعفاء من جنده، وقد سبق المحسنون إلى الجنة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه انظروا إلى اخوانكم المحسنين، قدسبقوا إلى الجنة فيسلم المذنبون عليهم. وذلك قوله " ونادوا أصحاب الجنة ان سلام عليكم ".

ثم اخبر تعالى " انهم لم يدخلوها وهم يطمعون " يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة، وهم يظمعون ان يدخلهم الله اياها بشفاعة النبي ولامام، وينظر هؤلاء المذنبون إلى اهل النار، فيقولون " ربما لاتجعلنا فتنة للقوم الظالمين ". ثم ينادي اصحاب الاعراف، وهم الانبياء والخلفاء اهل النار مقرعين لهم " ماأغنى عنكم جمعكم... أهؤلاء الذين اقسمتم " يعني هؤلاء المستضعفين الذين كنتم تحتقرونهم وتستطيلون بدنياكم عليهم. ثم يقولون لهؤلاء المستضعفين عن أمر الله لهم بذلك " ادخلوا الجنة لاخوف عليكم ولاأنتم تحزنون "(1).

ويؤكد ذلك مارواه عمربن شيبة وغيره: ان عليا (ع) قسيم الجنة والنار، فروى بن شيبة بأسناده عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (ياعلي كأني بك يوم القيامة وبيدك عصامن عوسج تسوق قوما إلى الجنة وآخرين إلى النار).

الثاني - قال ابومجلز: هم ملائكة يرون في صورة الرجال.

الثالث - قال حذيفة:، هم قوم تبطئ بهم صغائرهم إلى آخر الناس.

الرابع - قال الفراء والزجاج وغيرهما: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فأدخلهم الله تعالى الجنة متفضلا عليهم.

___________________________________

(1) سورة الاعراف آية 47 - 48

[412]

وطعن الرماني والجبائي على هذا الوجه بأن قالا: الاجماع منعقد على انه لايدخل الجنة من المكلفين الا المطيع الله. وهذا الذي ذكروه ليس بصحيح، لان هذا الاجماع دعوى ليس على صحته دليل، بل من قال ماحكيناه لايسلم ذلك، واكثر المرجئة أيضا لايسلمون ذلك.

وقوله " يعرفون كلا بسيماهم " يعني هؤلاء الرجال الذين هم على الاعراف يعرفون جميع الخلق بسيماهم اهل الجنة بسيما المطيعين واهل النا ر بسيما العصاة. والسيماء العلامة، وهي في اهل النار سواد الوجوه ورزقة العيون، وفي اهل الجنة بياض الوجوه وحسن العيون - في قول الحسن وغيره - وقيل في وزن سيما قولان: احدهما - انه (فعلى) من سام ابله يسومها اذا أرسلها في المرعى، وهي السائمة. الثاني - ان وزنه وزن (فعلى)، وهو من وسمت، فقلبت الواوالى موضع العين، كما قالوا له جاه في الناس أي وجه، وقالوا: اضمحل وامضحل وارض خامة أي وخيمة، وفيها ثلاث لغات القصر والمد.

وسيماء، قال الشاعر:

غلام رماه الله بالحسن يافعا *** له سيماء لاتشق على البصر(1)

على زنة (كبرياء).

وقوله " ونادوا اصحاب الجنة " يعني هؤلاء الذين على الاعراف ينادون ياأصحاب الجنة " سلام عليكم، لم يدخلوها وهم يطمعون " قيل في الطامعين قولان: احدهما - قال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة انهم اصحاب الاعراف.

وقال أبومجلز: هم اهل الجنة الذين مادخلوها بعد. والطمع -

___________________________________

(1) قائله سدير بن عنقاء الفزاري. الاغاني 17 / 117، والكامل 1 / 14 ومعجم الشعراء: 159، 323 وامالي القالي 1 / 237 والحماسة 4 / 68.

[413]

ههنا - هو يقين بلاشك، لانهم عالمون بذلك ضرورة. وهو مثل قول ابراهيم " والذي اطمع ان يغفرلي خطيئتي يوم الدين(2) ولم يكن ابراهيم (ع) شاكا في ذلك بل كان عالما قاطعا، وانماحسن ذلك لعظم شأن المتوقع في جلالة النعمة به، وهو قول الحسن وابي علي الجبائي واكثر المفسرين.

قوله تعالى: وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لاتجعلنا مع القوم الظالمين(47)

آية بلاخلاف.

هذا اخبار من الله تعالى عن أحوال هؤلاء الذين على الاعراف انه اذا صرف ابصارهم. والصرف هوالعدول بالشئ من جهة إلى جهة. والتلقاء جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، ولذلك كان ظرفا من ظروف المكان تقول: هو تلقاك، كقولك هو حذاك.

والابصار جمع بصر، وهوالحاسة التي يدرك بها المبصر وقد يستعمل بمعنى المصدر، فيقال له: بصر بالاشياء أي علم بها، وهو بصير بالامور اي عالم.

" واصحاب النار " هم اهل النار وانما يفيد " اصحاب " انهم ملازمون لها.

والاصل يقتضي المناسبة فيهم لسبب لازم، كالنسيب، كما يقال اهل البلد.

وحد الرماني (النار) بأن يقال: جسم لطيف فيه الحرارة والضياء، وزيد فيه ومن شأنه الاحراق.

وقوله " قالوا ربنا لاتجعلنا مع القوم الظالمين " أي لاتجمعنا واياهم في النار وانما حسنت المسألة مع علمهم الضروري بأن الله لايفعل بهم ذلك، لمالهم في ذلك من السرور بموقف الخاضع لله في دعائه الشاكر بخضوعه لربه، وكما يجوز ان يريدوا من الله النعيم كذلك يجوز ان يسألوا السلامة من العذاب مع العلم بهما.

ونظير ذلك قوله تعالى " يوم لايخزي الله النبي والذين آمنوا معه

___________________________________

(2) سورة 26 الشعراء آية 82

[414]

نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون: ربنا اتمم لنا نورنا واغفرلنا(1) وان كان النبي ومن معه من المؤمنين يعلمون ذلك.

قوله تعالى: ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيميهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وماكنتم وتستكبرون(48)

آية بلاخلاف.

قوله " ونادى اصحاب الاعراف " معناه سينادي، وانما جاز ان يذكر الماضي بمعنى المستقبل، لامرين: احدهما - لتحقيق المعنى كأنه قدكان. والثاني - على وجه الحكاية والحذف. التقدير اذاكان يوم القيامة " نادى أصحاب الاعراف ". ونادى معناه دعا، غير ان في (نادى) معنى امتداد الصوت ورفعه، لانه مشتق من النداء يقال: صوت نداء أي يمتد وينصرف خلاف الواقف، وليس كذلك (دعا) لانه قد يكون بعلامة كالاشارة من غير صوت ولا كلام، ولكن اشارة تنبئ عن معنى يقال.

في هذه الاية اخبار وحكاية من الله تعالى ان اصحاب الاعراف ينادون قوما يعرفونهم من الكفار بسيماهم من سواد الوجوه وزرقة العين وضروب من تشويه الخلق يبينون به من اهل الجنة وغيرهم " ماأغنى عنكم جمعكم " معناه مانفعكم ذلك.

وقيل في معنى (الجمع) قولان: احدهما - جماعتكم التي استندتم اليها. الثاني - جمعكم الاموال والعددفي الدنيا.

قوله " وماكنتم تستكبرون " معناه ولانفعكم تكبركم وتجبركم في دار الدنيا عن الانقياد لانبياء الله واتباع امره.

___________________________________

(1) سورة 66 التحريم 8.

[415]

قوله تعالى: أهؤلاء الذين أقسمتم لاينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولاأنتم تحزنون(49)

آية بلاخلاف.

قيل في القائل لهذا القول الذي هو " أهؤلاء الذين أقسمتم " قولان: احدهما - قال الحسن وابومجلز والجبائي واكثر المفسرين: انهم اصحاب الاعراف يقولون للكفار مشيرين إلى اهل الجنة " أهؤلاء الذين اقسمتم لاينالهم الله برحمة " وهذايدل على ان الواقفين على الاعراف هم ذووا المنازل الرفيعة والمراتب السنية. الثاني - انه من قول الله تعالى في اصحاب الاعراف.

وقوله " أهؤلاء " مبتدأ وخبره " الذين اقسمتم " ولايجوز ان يكون (الذين) صفة لهؤلاء من وجهين: احدهما - ان المبهم لايوصف الا بالجنس. والاخر - انه يبقى المبتدأ بلاخبر. ويجوز نصب (هؤلاء) بالفعل في " أهؤلاء الذين " اقسمتم " ولايجوز مع " الذين اقسمتم " لان مابعد الموصول لا يعمل فيما قبله، لانه من تمام الاسم. والاقسام تأكيد الخبر تقول: والله وتالله، للقطع عليه او ليدخل في قسم مايقطع به العمل عليه.

وقوله " لاينالهم الله برحمة " فالنيل هو لحوق البر. واصله اللحوق، تقول: نلت الحائط اناله نيلا اذا لحقته.

وقوله " ادخلوا الجنة " أمر بدخول الجنة للمؤمنين.

وقوله " لاخوف عليكم " فالخوف هو توقع المكروه، وضده الامن وهو الثقة بانتفاء المكروه و " لاانتم تحزنون " معناه ادخلوا الجنة، لاخائفين ولا محزونين، وفائدة الاية تقريع الزارئين على ضعفاء المؤمنين حتى حلفوا أنهم لاخير لهم عندالله، فقيل لهم " ادخلوا الجنة " على اكمل سرور وأتم كرامة.

[416]

قوله تعالى: ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين(50)

آية بلا خلاف.

في هذه الاية حكاية ان اصحاب النار يوم القيامة ينادون اصحاب الجنة واصحاب النار هو المخلدون في عذابها، لا جميع من فيها، لان فيها الزبانية الموكلون بعذاب اهلها. وانما توعد الله بالعقاب بالنار دون اختراع لالام او غيره من الاسباب، لانه أهول في النفس واعظم في الزجر، لما يتصور من الحال فيه، وما تقدم من ادراك البصر له، وانهم يسألونهم ان يفيضوا عليهم شيئا من الماء. والافاضة اجراء المائع من عل، ومنه قولهم: افاضوا في الحديث أي اخذوه بينهم من أوله لانه بمنزلة اعلاه. وافاضوا من عرفات إلى مزدلفة معناه صاروا اليها.

قال الرماني: حد الماء جسم سيال يروي العطشان من غير غذاء الحيوان، وهو جوهر عظيم الرطوبة يزيد على جميع المائعات في كثرة المنفعة.

وقوله " او مما رزقكم الله " قال ابن زيد والسدي: طلبوا مع الماء شيئا من الطعام.

وقال ابوعلي: طلبوا شيئا من نعيم الجنة، فأجابهم اهل الجنة بتحريم المنع، لا تحريم العبادة، فقالوا: " ان الله حرمها على الكافرين " وانما جاز ان يطلبوا شيئا من نعيم الجنة مع اليأس منه، لانهم لايخلون من الكلام به او السكوت عنه، وكلاهما لا فرج لهم فيه. وانما لم يدرك اهل الجنة - مع خيريتهم - رقة على اهل النار، لان من الخيرية القسوة على اعداء الله واعدائهم، وذلك من تهذيب طباعهم كما يبغض المسئ ويحب المحسن، وذلك دلالة على ان الله تعالى بنى هذه الجملة بنية لاتستغني عن الغذاء، لان اهل النار مع ما هم عليه من العذاب يطلبون الطعام والشراب.

[417]

قوله تعالى: الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيوة الدنيا فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون(51)

آية بلاخلاف.

يحتمل قوله " الذين اتخذوا دينهم " أن يكون في موضع جر بأن يكون صفة للكافرين، ويكون ذلك من قول أهل الجنة، وتقديره " إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ". ويحتمل أن يكون رفعا بالابتداء ويكون إخبارا من الله تعالى على وجه الذم لهم.

و (اتخذوا) وزنه وزن (افتعلوا) والاتخاذ الافتعال، وهو أخذ الشئ باعداد الامر من الامور، فهؤلاء أعدوا الدين للهو واللعب. ومعنى الدين - ههنا - ماأمرهم الله تعالى به ورغبهم فيه مما يستحق به الجزاء.

واصل الدين الجزاء، ومنه قوله " ملك يوم الدين " واللهو طلب صرف الهم بما لايحسن أن يطلب به، فهؤلاء طلبوا صرف الهم بالتهزئ بالدين وعيب المؤمنين، واللعب طلب المدح بما لايحسن ان يطلب به مثل حال الصبي في اللعب واشتقاقه من اللعاب وهو المرور على غير استواء.

وأصل اللهو الانصراف عن الشئ ومنه قوله (إذا استأثر الله بشئ لاه عنه) أي انصرف عنه.

وقوله " وغرتهم الحياة الدنيا " فمعنى الغرور تزيين الباطل للوقوع فيه، غره يغره غرورا. وإنما اغتروا هم بالدنيافي الحقيقة فصارت وكأنها غرتهم. والدنياهي النشأة الاولى. والاخرة النشأة الاخرى، وسميت الدنيا دنيا لدنوها من الحال، وهماكرتان، فالكرة الاولى الدنيا، والكرة الثانية هي الاخرة.

وقوله " فاليوم ننساهم " قيل في معناه قولان: أحدهما - نتركهم من رحمتنا بأن نجعلهم في النار - في قول ابن عباس

[418]

والحسن ومجاهد والسدي - فسمى الجزاء على تركهم طاعة الله نسيانا، كما قال " وجزاء سيئة سيئة مثلها "(1) والجزاء ليس سيئة.

الثاني - أنه يعاملهم معاملة المنسيين في النار، لانه لايجاب لهم دعوة ولايرحم لهم عبرة - في قول الجبائي - " كما نسوالقاء يومهم " معناه كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم، هذا على القول الاول.

وعلى الثاني - كما نسوا في أنهم لم يعملوا به مثل الناسين لذلك لانجيب لهم دعوة، لانهم نسوا.

وقوله " وما كانوا بآياتنا يجحدون " فالجحد إنكار معنى الخبر. واما إنكار المنكر، فبكل مايصرف عن فعله إلى تركه. و (ما) في الموضعين مع مابعدها بمنزلة المصدر، والتقدير كنسيانهم لقاء يومهم هذا، وكونهم جاحدين لاياتنا.

قوله تعالى: ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون(52)

آية بلاخلاف.

هذا إخبار من الله تعالى أنه أتى هؤلاء الكفار بكتاب، المجئ نقل الشئ إلى حضرة المذكور، جئته بكذا ضد ذهبت به عنه، لان ذلك نقل اليه، وهذا نقل عنه. والكتاب المراد به القرآن.

وأهل الكتاب صحيفة فيهاكتابة، والكتابة حروف مسطورة تدل بتأليفها على معان مفهومة.

وقوله " فصلناه " معناه ميزنا معانيه على وجه يزول معه اللبس، والتفصيل والتبيين والتقسيم نظائر.

وقوله " على علم " معناه فصلناه، ونحن عالمون به، لانه لماكانت صفة (عالم) مأخوذة من العلم جاز أن يذكر ليدل به على العالم، كما أن الوجودفي صفة الموجود كذلك.

___________________________________

(1) سورة 42 الشورى آية 40.

[419]

وقوله " هدى ورحمة لقوم يؤمنون " إنما جعل القرآن نعمة على المؤمن دون غيره مع أنه نعمة على جميع المكلفين من حيث أنهم عرضوا به للهداية، غير أن المؤمن لمااهتدى به كانت النعمة بذلك عليه أعظم فأضيف اليه، وغير المؤمن لم يتعرض للهداية فلم يهتد، فالمؤمنون على صفة زائدة.

وقوله " هدى ورحمة " يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب: النصب من وجهين: الحال، والمفعول له، وبه القراء‌ة. والرفع على الاستئناف، والجر على البدل. وإنما لم يوصف القرآن بأنه هدى للكفار لئلا يتوهم أنهم اهتدوا به وإن كان هداية لهم بمعنى أنه دلالة لهم وحجة.

قوله تعالى: هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاء‌ت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ماكانوا يفترون(53)

آية بلاخلاف.

قوله " هل ينظرون " معناه هل ينتظرون. لان النظر قد يكون بمعنى الانتظار، قال أبوعلي: معناه هل ينتظر بهم أو هل ينتظر المؤمنون بهم إلا ذلك. وإنما أضافة اليهم مجازا، لانهم كانوا جاحدين لذلك غير متوقعين، وإنما كان ينتظر بهم المؤمنون، لايمانهم بذلك واعترافهم به.

والانتظار هو الاقبال على مايأتي بالتوقع له.

وأصله الاقبال على الشئ بوجه من الوجوه.

وإنما قيل لهم: ينتظرون وإن كانوا جاحدين، لانهم في منزلة المنتظر أي كأنهم ينتظرون ذلك، لانه يأتيهم لا محالة إتيان المنتظر. والتأويل معناه مايؤل اليه حال الشئ تقول: أوله تأويلا، وتأوله تأولا، وآل اليه أمره يؤل أولا، وقيل " تأويله " عاقبته من الجزاء به - في

[420]

قول الحسن وقتادة ومجاهد - وقال أبوعلي " تأويله " ماوعدوا به من البعث والنشور والحساب والعقاب.

وقوله " يقول الذين نسوه من قبل " قيل في معناه قولان: أحدهما - قال مجاهد: أعرضوا عنه فصار كالمنسي. الثاني - قال الزجاج: يقول الذين تركوا العمل به.

وقوله " قد جاء‌ت رسل ربنا بالحق " إخبار عن اعتراف الكفار الذين أعرضواعن حجج الله وبيناته والاقرار بتوحيده ونبوة أنبيائه، وإقرار منهم بأن ماجاء‌ت به الرسل كان حقا. والحق ماشهد بصحته العقل، وضده الباطل، وهو مايشهد بفساده العقل.

وقوله " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا " والشفيع هو السائل لصاحبه اسقاط العقاب عن المشفع فيه، والعفو عن خطيئته فيتمنون ذلك مع يأسهم منه - في قول أبي علي - وقوله " فيشفعوا لنا " في موضع نصب، لانه جواب التمني بالفاء " أو نرد " عطف بالرفع على تأويل هل يشفع لناشافع " أو نرد " ولونصب " أو نرد " كان جائزا. ومعناه فيشفعوا لنا إلا أن نرد، وماقرئ به.

وقوله " فنعمل غير الذي كنا نعمل " إخبار من الكفار وتمنيهم أن يردوا إلى الدنيا حتى يعملوا غير ماعملوه من الكفر والضلال. فأخبر الله تعالى عند ذلك، فقال " قد خسروا أنفسهم " أي أهلكوها بالكفر والمعاصي " وضل عنهم ماكانوا يفترون ". وفى الاية دلالة على فساد مذهب المجبرة من وجهين: أحدهما - أنهم كانوا قادرين على الايمان في الدنيا فلذلك طلبوا تلك الحال، ولو لم يكونوا قادرين لماطلبوا الرد إلى الدنيا والى مثل حالهم الاولى. والاخر - بطلان مذهب المجبرة في تكليف أهل الاخرة، قال أبوعلى: وهو مذهب الحسين النجار وهو خلاف القرآن والاجماع، ولو كانوا مكلفين لما طلبوا الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا بل كانوا يؤمنون في الحال.

[421]

ومعنى " خسروا أنفسهم " أي منعوا من الانتفاع بها، ومن منع الانتفاع بنفسه فقد خسرها " وضل عنهم ماكانوا يفترون " معناه ضل عنهم ماكانوا يدعون أنهم شركاء لله وآلهة معه، وهذا كان افتراؤهم على الله.

قوله تعالى: إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين(54)

آية بلاخلاف.

قرأ اهل الكوفة الا حفصا ويعقوب " يغشي الليل " بالتشديد، وكذلك في الرعد.

وقرأ ابن عامر " والشمس والقمر والنجوم مسخرات " بالرفع فيهن.

الباقون بالنصب.

هذا خطاب من الله تعالى لجميع الخلق وإعلام لهم بأن ربهم الذي أحدثهم وأنشأهم هو الله تعالى " الذي خلق " بمعنى اخترع " السماوات والارض " فابتدعهما وأوجدهما لامن شئ، ولا على مثال " في ستة أيام " وقيل: إن هذه الستة أيام هي الاحد والاثنين والثلاثاء والاربعاء والخميس والجمعة. فاجتمع له الخلق في يوم الجمعة، فلذلك سميت: جمعة - في قول مجاهد - و (السماوات) إنما جمعت بالواو، لانه رد إلى أصله، لان أصله سماوة، وليس مثل ذلك (قراء‌ة) لان أصلها الهمزة، ولذلك قيل في الجمع قراء‌ات.

والوجه في خلقه إياهما " في ستة أيام " مع أنه قادر على إنشائهما دفعة واحدة قيل فيه وجوه: أحدها - أن تدبير الحوادث على إنشاء شئ بعد شئ على ترتيب،

[422]

أدل على كون فاعله عالما قديرا يصرفه على اختياره ويجريه على مشيئته.

وقال أبوعلي: ذلك لاعتبار الملائكة بخلق شئ بعد شئ.

وقال الرماني: يجوز أن يكون الاعتبار بتصور الحال في الاخبار، ومعناه إذا أخبر الله تعالى بأنه " خلق السماوات والارض في ستة أيام " كان فيه لطف للمكلفين، وكان ذلك وجه حسنه.

وقوله " ثم استوى على العرش " قيل في معناه قولان: أحدهما - أنه استولى كما قال البغيث:

ثم استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق(1)

يريد بشر بن مروان.

الثاني - قال الحسن: استوى أمره.

وقيل في معنى " ثم استوى " ثلاثة أقوال: أحدها - قال أبوعلي: ثم رفع العرش بأن استولى عليه ليرفع.

الثاني - ثم بين أنه مستوي على العرش.

الثالث - ثم صح الوصف بأنه مستوي على العرش، لانه لم يكن عرشا قبل وجوده.

وقوله " يغشى الليل النهار " معناه يجلل الليل النهار أي يدخل عليه.

وقال الازهري: أقبل عليه.

والاغشاء هو إلباس الشئ مارق بما يجلله، ومنه غاشية السرج، والغشاوة التي تخرج على الولد، وغشي على الرجل اذا غشيه ما يزيل عقله من عارض علة. ومن شدد العين، فلانه يدل على الكثرة.

وغشى فعل يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله " وتغشى وجوههم النار "(2) فاذا نقلته بالهمزة أو التضعيف تعدى إلى مفعولين، وقد ورد القرآن بهما قال الله تعالى " فأغشيناهم فهم

___________________________________

(1) مرهذا البيت في 1 / 125 و 2 / 396، وسيأتي في 5 / 386.

(2) سورة 14 ابراهيم آية 50.

[423]

لايبصرون "(3) فالمفعول الثاني محذوف، وتقديره فأغشيناهم العمى، وفقد الرؤية. وبالتضعيف نحو قوله " فغشاها ماغشى "(4) (ما) في موضع نصب بأنه مفعول ثان.

ومن خفف، فلانه يحتمل القليل. والكثير، والليل هو الذي يلبس النهار في هذا الموضع، لانه منقول من غشي الليل النهار.

وقوله " يطلبه حثيثا " معناه أنه يستمر على منهاج واحد وطريقة واحدة من غير فتور يوجب الاضطراب، كما يكون في السوق الحثيث.

وقيل: إن معنى الحثيث السريع بالسوق.

وقوله " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " عطف على " خلق السماوات " كأنه قال وخلق " الشمس والقمر والنجوم مسخرات " وهي نصب على الحال، ومن رفع استأنف وأخبر عنها بأنها مسخرة.

وقوله " ألا له الخلق والامر " إنما فصل الخلق من الامر، لان فائدتهما مختلفة " لان له الخلق " يفيد أن له الاختراع، " وله الامر " معناه له أن يأمر فيه بماأحب فأفاد الثاني مالم يفده الاول. فمن استدل بذلك على أن كلام الله قديم، فقد تجاهل لمابينا، ولو كان معناهما واحدا لجاز أيضا مع اختلاف اللفظين، كما قالوا: كذب ومين وأشباهه.

وقوله " تبارك الله رب العالمين " معناه تبارك تعالى بالوحدانية فيما لم يزل ولايزال وأصله الثبات من قول الشاعر:

ولاينجي من الغمرات إلا *** براكاء القتال أو الفرار(1)

فهو بمعنى تعالى بدوام الثبات. ويحتمل تعالى بالبركة في ذكر اسمه. وقيل في معنى (العرش) قولان:

___________________________________

(3) سورة 36 يس آية 9.

(4) سورة 53 النجم آية 54.

(1) قائله بشر بن ابي خازم. اللسان .

(برك). البراكاء: الثبات في الحرب والمقاتلة بجد.

[424]

أحدهما - أنه سرير تعبدالله تعالى الملائكة بحمله.

وقيل: المراد به الملك.

قوله تعالى: أدعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لايحب المعتدين(55)

آية قرأ أبوبكر " خفية " بكسر الخاء - ههنا - وفي الانعام. الباقون بضمهما، وهما لغتان.

أمر الله تعالى عباده المكلفين أن يدعوه والدعاء، طلب الفعل بطريقة (اللهم افعل) وقد يجئ بطريقة غفر الله له، فهذه صيغة الخبر، والاول صيغة الامر غير أنه إنما يسمى أمرا اذا كان المقول له دون القائل، وإن كان فوقه سمي دعاء وطلبا.

وأماقول القائل: يالله يارحمن يارحيم ياغفور ياقدير ياسميع وماأشبه ذلك من اسماء الله، فانما هو على جهة النداء ومعناه التعظيم.

وقوله " تضرعا " فالتضرع التذلل، وهو اظهار الذل الذي في النفس، ومثله الخشع ومنه الطلب لامر من الامور. وأصل التضرع الميل في الجهات ذلا من قولهم: ضرع الرجل يضرع ضرعا إذا مال بأصبعه يمينا وشمالا، ذلا وخوفا. ومنه ضرع.

ومنه ضرع الشاة، لان اللبن يميل.

ومنه المضارعة للمشابهة لانها تميل إلى شبهه بمعنى المقاربة، والضريع نبت لايسمن ولايغني من جوع، لانه يميل مع كل داء.

وقوله " وخفية " فالخفية خلاف العلانية.

قال ابن عباس: الخفية هي السر، وبه قال الحسن.

وقال أبوعلي: إنما ذاك لئلا يشوب الدعاء معنى الرياء، وحد الاخفاء خلاف حد الاظهار، والاظهار اخراج الشئ إلى حيث يقع عليه الادراك. والاخفاء إغماضه بحيث لايقع عليه الادراك.

وقوله " إنه لايحب المعتدين " فالمحبة من الله تعالى للعبد إرادة الثواب، ولذلك يحب المؤمن ولايحب الكافر، ويحب الصلاح ولايحب الفساد.

[425]

والاعتداء تجاوز حد الحق أي لا تتجاوز واحد الحق في الدعاء فتطلبوا منازل الانبياء ومالايجوز أن يعمل في الدنيا - في قول أبي مجلز - وقال ابن جريج يكره الصياح في الدعاء و " تضرعا وخفية " مصدر ان في موضع الحال، وتقديره ادعوا الله متضرعين في حال السر والعلانية.

والخفية والاخفاء، والخيفة والخوف والرهبة نظائر.

والهمزة في الاخفاء منقلبة عن الياء بدلالة الخفية والاخفاء، ضد الاعلان.

ويقال أحفيت الشئ اذا أظهرته قال الشاعر: يحفى التراب بأظلاف ثمانية(1)

قوله تعالى: ولاتفسدوا في الارض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين(56)

آية بلاخلاف.

نهى الله تعالى في هذه الاية عن الفساد في الارض وهو الاضرار بما تمنع الحكمة منه يقال: أفسد الحر التفاحة اذا أخرجها إلى حال الضرر بالتغيير. والاصلاح النفع بما تدعو اليه الحكمة ولذلك لم تكن الالام في النار إصلاحا لاهلها، لانه لانفع لهم فيها.

وقال الحسن: إفساد الارض بالقتل للمؤمنين والاعتداء عليهم.

وقيل: إفساد الارض العمل فيها بمعاصي الله، وإصلاحها العمل فيها بطاعة الله.

وقوله " وادعوه خوفا وطمعا " أمر من الله تعالى لهم أن يدعوه خوفا وطمعا، وهما منصوبان على المصدر، وهما في موضع الحال. وتقديره ادعوا ربكم خائفين من عقابه طامعين في ثوابه.

والخوف هوالانزعاج بمالايؤمن، والامن سكون النفس إلى انتفاء المضار، والخوف يكون بالعصيان. والايمن بالايمان. والطمع توقع المحبوب، ونقيضه اليأس وهو القطع بانتفاء المحبوب.

___________________________________

(1) مر في 2 / 71 كاملا.

[426]

وقوله " إن رحمة الله قريب من المحسنين " إخبار منه تعالى أن رحمته قريبة واصلة إلى المحسن.

والاحسان هو النفع الذي يستحق به الحمد.

والاساء‌ة هي الضرر الذي يستحق به الذم.

وقيل: المراد بالمحسنين من تكون أفعاله كلها حسنة وهذا لايقتضيه الظاهر، بل الذي يفيده أن رحمة الله قريب إلى من فعل الاحسان، وليس فيها أنها لاتصل إلى من جمع بين الحسن والقبيح بل ذلك موقوف على الدليل.

وقال الفراء: إنما لم يؤنث قوله " قريب " وهو وصف ل‍ (رحمة) لانه ذهب مذهب المكان، ومايكون كذلك لايثنى ولايجمع ولايؤنث.

ولو ذهب به مذهب النسب أنث وثني وجمع قال عروة بن حزام:

عشية لاعفراء منك قريبة *** فتدنوا ولاعفراء منك بعيد(1)

وقال الزجاج هذا غلط بل كل ما قرب من مكان أونسب فهو جائز عليه التأنيث والتذكير. وجعله الاخفش من باب الصيحة والصياح، لان الرحمة والاحسان والانعام من الله واحد.

وقال بعضهم المراد بالرحمة هاهنا المطر فلذلك ذكر.

___________________________________

(1) ديوانه: 48، ومعاني القرآن للفراء 1 / 381 وتفسير الطبري 12 / 488 والبكري في شرح الامالي 401 وتفسيرأبي حيان 4 / 313 وقد روي:

عشية لاعفراء منك بعيدة *** فتسلو ولاعفراء منك قريب

[427]

قوله تعالى: وهو الذي يرسل الرياح بُشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فانزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون(57)

آية بلاخلاف.

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائى وخلف " الريح " على التوحيد، ههنا وفي النمل، والثانى من الروم وفي فاطر وقرأ عاصم " بشرا " بالباء وضمها وسكون الشين.

وقرأه نافع بالنون وضمها وضم الشين وهم أهل الحجاز والبصرة، وكذلك الخلاف في الفرقان، والنمل.

قال أبوعلي (الريح) إسم على وزن (فعل)، والعين منه واوفا نقلبت ياء في الواحد للكسرة وصحت في الجمع القليل، لانه لاشئ يوجب الاعلال ألا ترى أن الفتحة لاتوجب اعلال هذه الواو في مثل يوم وقول وعون قال ذو الرمة:

اذا هبت الارواح من نحو جانب *** به آل مي هاج شوقي هبوبها(1)

وليس ذلك كعيد وأعياد، لان هذا بدل لازم وليس البدل في الريح كذلك.

فاما في الجمع الكثير فرياح انقلبت الواو بالكسرة التي قبلها كما انقلبت في نحو ديمة وديم، وحيلة وحيل، وفي رياح أجدر، لوقوع الالف بعدها، والالف تشبه الياء، والياء إذا تأخرت عن الواو وجب فيها الاعلال فكذلك الالف لشبهها بها، والريح على لفظ الواحد، ويجوز ان يراد بها الكثرة، لقولهم: كثير الدرهم والدينار، وقوله " إن الانسان لفي خسر " ثم قال " إلا الذين آمنوا "(2) فكذلك من قرأ " الريح بشرا " فأفرد، ووصفه بالجمع، فانه حملها على المعنى.

وقد أجاز أبوالحسن ذلك وقال الشاعر: فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا(3)

___________________________________

(1) تفسير ابن حيان 4: 316.

(2) سورة 103 العصر آية 2 - 3.

(3) قائله عنترة وتمام البيت:

فيها اثنتان وأربعون حلوبة *** سودا كخافية الغراب الاسحم

[428]

ومن نصب جاء قوله على المعنى، لان المفرد يراد به الجمع، وهذا وجه قراء‌ة ابن كثير لانه أفرد (الريح) ووصفه بالجمع، فلايكون (الريح) على هذا اسم جنس وقول من جمع الريح اذا وصفها بالجمع أحسن إذ الحمل على المعنى أقل من الحمل على اللفظ، ويؤكد ذلك قوله " الرياح مبشرات "(4) فلما وصفت بالجمع جمع الموصوف أيضا.

فأما ماجاء في الحديث من أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقول اذا هبت ريح: (اللهم اجعلها رياحا ولاتجعلها ريحا) فلان عامة ماجاء بلفظ الرياح السقيا والرحمة، كقوله " وأرسلنا الرياح لواقح "(5) وقوله " ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات "(6) وقوله " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء "(7).

وماجاء بخلاف ذلك جاء على الافراد كقوله " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم "(8) وقوله " وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر "(9) وقوله " بل هو ما استعجلتم به ريح فيهاعذاب اليم "(10).

قال أبوعبيدة " نشرا " أي متفرقة من كل جانب، وقال أبوزيد: انشر الله الموتى إنشارا اذا بعثها وأنشر الله الريح مثل أحياها، فنشرت الجنوب وأحييت، والدليل على ذلك قول المراد الفقسي:

وهبت له ريح الجنوب واحييت *** له ريدة يحيي المياه نسيمها(1)

والريدة والريدانة الريح، قال الشاعر:

___________________________________

(4) سورة 30 الروم آية 46.

(5) سورة 15 الحجر آية 22.

(6) سورة 30 الروم آية 46.

(7) سورة 30 الروم آية 48.

(8) سورة 51 الذاريات آية 41.

(9) سورة 69 الحاقة آية 6.

(10) سورة 46 الاحقاف آية 24.

(1) اللسان . (ريد) وتفسير ابي حيان 4 / 316، ورواية اللسان . (الممات) بدل . (المياه).

[429]

إني لارجو أن تموت الريح *** فأقعد اليوم واستريح(2)

ومن قرأ " نشرا " بضم النون والشين يحتمل ضربين: جمع ريح، ريح نشور وريح ناشر، ويكون على معنى النسب فاذا جعله جمع نشور احتمل أمرين: أحدهما - أن يكون النشور بمعنى المنشر كما أن الركوب بمنزلة المركوب كان المعنى ريح أو رياح منشرة، ويجوز أن يكون نشرا جمع نشور يريد به الفاعل مثل طهور ونحوه من الصفات. ويحتمل أن يكون نشر جمع ناشر كشاهد وشهد ونازل ونزل وقايل وقيل، قال الاعشى: إنا لامثالكم ياقومنا قيل(3) وقول ابن عامر (بشرا) يحتمل الوجهين: أن يكون جمع فعول وفاعل فخفف العين، كما خفف في كتب ورسل، ويكون جمع فاعل كبارك وبرك وغايظ وغيظ.

ومن فتح النون وسكون الشين فانه يحتمل ضربين: أحدهما - أن يكون المصدر حالا من الريح فذا جعلته حالا منها احتمل أمرين أحدهما - أن يكون النشر الذي هو خلاف الطبي، كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية، ويجوز على تأويل أبي عبيدة أن تكون متفرقة في وجوهها. والاخر - أن يكون النشر الذي هو الحياة من قوله:

حتى يقول الناس مما رأوا *** ياعجبا للميت الناشر(4)

فاذا حملته على ذلك - وهو الوجه - كان المصدر يرادبه الفاعل، كماتقول أتافا ركضا أي راكضا، ويجوز أن يكون المصدر يراد به المفعول كأنه يرسل الرياح انشارا أي محياة فحذف الزوائد من المصدر، كما يقال عمرك الله.

___________________________________

(2) اللسان . (نشر) وتفسير أبي حيان 4 / 316.

(3) ديوانه: 47 قصيدة 6 وروايته . (قتل) بدل .

(قيل) وصدره: * كلا زعمتم بأنا لانقاتلكم *

(4) تفسير أبي حيان 4 / 316 واللسان . (نشر).

[430]

وكما يقال: فان يهلك فذلك كان قدري أي تقديري.

والضرب الاخر - أن يكون " نشرا " على هذه القراء‌ة ينصب انتصاب المصادرمن باب " صنع الله "(5) لانه إذا قال يرسل الرياح دل هذا الكلام على تنشير الريح نشرا.

وقراء‌ة عاصم " بشرا " بالباء فهو جمع بشير وبشر من قوله " يرسل الرياح مبشرات "(6) أي تبشر بالمطر والرحمة وجمع بشير) على (بشر) ككتاب وكتب.

لما أخبر الله تعالى في الاية الاولى أنه الذي خلق السماوات والارض وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات، وأنه الذي يجلل الليل النهار، عطف على ذلك بأن قال " وهوالذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " تعدادا لنعمه على خلقه.

والارسال هو الاطلاق بتحميل معنى، كما تقول: أرسلت فلانا أي حملته رسالة، فلما أطلق الله الرياح كان ذلك بمنزلة المطوي في الامتناع من الادراك ثم صارت تدرك في الافاق، كانت كنشر الثوب بعد طيه في الادراك قال امرؤ القيس:

كان المدام وصوب الغمام *** وريح الخزامي ونشر القطر(7)

وقال الفراء: النشر من الرياح: الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب، والسحاب الغيم الجاري في السماء مشتقا من الاسحاب، يقال: سحبه سحبا وأسحب إسحابا وتسحب تسحبا.

وقوله " بين يدي رحمته " معناه قدام رحمته، كمايقدم الشئ بين يدي

___________________________________

(5) سورة 27 النمل آية 88.

(6) سورة 30 الروم آية 46.

(7) ديوانه: 79 واللسان . (نشر) وتفسير الطبري 12 / 490 يصف صاحبته بأن ريح فمها ذا نكهة طيبة عند قيامها من النوم. والقطر: عود طيب الرائحة.

[431]

الانسان، كما قال " لما خلقت بيدي "(8) أي توليت خلقه، كما يقول الانسان: عملت بيدي، والرحمة يراد بها - ههنا - الغيث.

وقوله " حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " فلاقلال حمل الشئ بأسره حتى يقل في طاقة الحامل له بقوة جسمه، يقال: استقل بحمله استقلالا. وأقله إقلالا، والثقال جمع ثقيل والثقيل مافيه الاعتماد الكثير سفلا.

وقال قوم: هو ماتجمع أجزاؤه كالذهب والحجر، وقد يكون بكثرة ماحمل كالسحاب الذي يثقل بالماء.

وقوله " سقناه لبلد ميت " أي إلى بلد، فالسوق حث الشئ في السير حتى يقع الاسراع فيه، ساقه يسوقه سوقا، واستاقه استياقا، وساوقه مساوقة، وتساوقوا تساوقا، وتسوق تسوقا، وانساق انسياقا، وسوقه تسويقا. (والبلد الميت) هوالذي اندرست مشاربه وتعفت مزارعه.

وقوله " فأنزلنابه الماء " الهاء في (به) راجعة إلى البلد. ويحتمل أن تكون راجعة إلى السحاب.

وقوله " فأخرجنا به من الثواب " فالهاء في (به) يحتمل أن تكون راجعة إلى البلد، ويكون التقدير أخرجنا بهذاالبلد. ويحتمل أن تكون راجعة إلى الماء، فكأنه قال فأخرجنا بهذا الماء من كل الثمرات. ويحتمل أن تكون (من) للتبعيض. ويحتمل أن تكون لتبيين الجنس.

وقوله " كذلك نخرج الموتى " معناه كما أخرجنا الثمرات. كذلك نخرج الموتى بعد موتها بأن نحييها " لعلكم تذكرون " معناه لكي تتذكروا، وتتفكروا وتعتبروا بأن من قدر على انشاء الاشجار والثمار في البلد الذي لاماء فيه ولازرع، فانه يقدر على أن يحيي الاموات بأن يعيدهاالى ماكانت عليه بأن يخلق فيها الحياة والقدرة.

واستدل البلخي بهذه الاية على أن كثيرا من الاشياء تكون بالطبع.

___________________________________

(8) سورة 38 ص آية 75.

[432]

قال: لان الله تعالى بين انه يخرج الثمرات بالماء الذي ينزله من السماء، قال: ولاينبغي أن ينكر ذلك وإنما ينكر قول من يقول بقدم الطبائع أو قول من يقول: إن الجمادات تفعل.

فأما من قال: إن الله تعالى يفعل هذه الاشياء غير أنه يفعلها تارة مخترعة بلا وسائط وتارة بوسائط، فلا كراهة في ذلك كماتقول في السبب والمسبب، وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لانه إن اشار بالطبع إلى رطوبات مخصوصة ويبوسات مخصوصة، فلاخلاف في ذلك غير أن هذه الاشياء لا تتولد عنها ذوات أخر، بل مايحصل عندها الله تعالى يفعلها مبتدأ، وليس كذلك السبب والمسبب، لان السبب الذي يفعل الفعل بهاوهو الاعتماد والمجاوزة يوجب التأليف، وما عدا ذلك فليس فيه شئ تولد أصلا، وإن أراد بالطبع غير هذا المعقول فليس في الاية دلالة على صحته بحال.

قوله تعالى: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لايخرج إلا نكدا كذلك نصرّف الايات لقوم يشكرون(58)

آية بلاخلاف.

قرأ أبوجعفر " نكدا " بفتح الكاف. الباقون بكسرها، والوجه في ذلك أنهما لغتان. وحكى الزجاج (نكدا) بضم النون وسكون الكاف. ولايقرأبه.

وقال الفراء: يقتضي القياس أيضا (نكدا) بضم الكاف، وفتح النون، غير أني لم أسمعه مثل دنف ودنف وحذر وحذر، ويقظ ويقظ ويقظ، بالفتح والضم والكسر.

قوله " والبلد الطيب " فالبلد هو الارض التي تجمع الخلق الكثير، وتنفصل بمالهم فيها من العمل، واا.

والبلدة خلاف الفلاة، والصحراء، وأما البادية فكالبلد للاعراب ونحوهم من الاكراد والاتراك.

[433]

والطيب مافيه أسباب التلذذ، وضده الخبيث، وهومافيه أسباب النكرة.

وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي: هذا مثل، ضربه الله للمؤمنين فشبه المؤمن - ومايفعله من الطاعات والافعال، والانتفاع بماأمره الله ونهاه عنه - بالارض العذبة التربة التي تخرج الثمرة الطيبة بماينزله الله عليها من الماء العذب، والكافر - ومايفعله من الكفر والمعاصي - بالارض السبخة الملحة التي لاينتفع بنزول المطر عليها، فينزع عنها البركة.

وقوله " يخرج نباته باذن ربه " فالاخراج نقل الشئ من محيط به إلى غيره، فهذا النبات كأنه كان في باطن الارض فخرج منه، (والاذن) هو الاطلاق في الفعل برفع المنعة فيه، فكذلك منزلة هذا البلد، كأنه قد أطلق في اخراج النبت الكريم. ووجه ضرب المثل بالارض الطيبة والارض الخبيثة مع أنهما من فعل الله وكلاهما حكمة وصواب، والطاعات والمعاصي أحدهما بأمر الله والاخر بخلاف أمره، هو أن الله تعالى لما جعل المنفعة بأحدهما والمضرة بالاخر مثل بذلك الانتفاع بالعمل الصالح والاستضرار بالمعاصي والقبائح.

وقوله " والذي خبث لايخرج إلا نكدا " فالنكد العسر بشدته الممتنع من إعطاء الخير على وجه البخل تقول: نكد ينكد نكدا، فهو نكد ونكد. وقد نكد إذا سئل فبخل، ونكد ينكد نكدا، قال الشاعر:

لاتنجز الوعد إن وعدت وإن *** أعطيت أعطيت تافها نكدا(1)

وقال الاخر:

واعط ما أعطيته طيبا *** لاخير في المنكود والناكد(2)

وقال السدي: النكد القليل الذي لاينتفع به.

وقوله " كذلك نصرف الايات لقوم يشكرون " فالتصريف توجيه الشئ في جهتين فصاعدا، فلما

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1 / 217 واللسان . (تفه) وتفسير الطبري 12 / 495.

(2) اللسان . (نكد) وتفسير الطبري 12 / 495.

[434]

كان معنى الاية يوجه في الدلالات المختلفة كانت الاية متصرفة، فالنشأة الثانية مصرفة بأنها كاحياء الارض بالماء للبنات، وبأنها كالخارج من الارض في الاختلاف، فمنه طيب، ومنه خبيث، وبأنها في حال المؤمن المؤمن والكافر، كحال الارض في الطيب والخبث.

والمعنى أنه تعالى يبين لهم آية بعد آية، وحجة بعد أخرى، ويضرب مثلا بعد مثل " لقوم يشكرون " الله على إنعامه عليهم هدايته إياهم لما فيه نجاتهم وتبصيرهم سبيل أهل الضلال وأمره إياهم تجنب ذلك والعدول عنه.

قوله تعالى: لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم(59)

آية واحدة بلاخلاف.

قرأ أبوجعفر والكسائي " من إله غيره " - بخفض الراء وكسر الهاء ووصلها - بناء في اللفظ حيث وقع. الباقون بضم الراء وضم الهاء وإشباعها بالواو، قال الكسائي تقديره مالكم غيره من إله. في قراء‌ة نافع.

قال أبوعلي الفارسي: من جر جعل (غير) صفة ل‍ (إله) على اللفظ وجعل (لكم) مستقرا أوغير مستقر، وأضمر الخبر، والخبر مالكم في الوجود أو في العالم ونحو ذلك لابد من هذا الاضمار إذا لم يجعل (لكم) مستقرا، لان الصفة.

والموصوف لايستقل بهما الكلام.

ومن رفع حجته قوله " ومامن إله إلا الله "(1) فكما أن قوله " إلا الله " بدل من قوله " من إله " كذلك قوله " غيره " يكون بدلا من قوله " من إله " و (غير) يكون بمنزلة الاسم الذي بعد (إلا)، وهذا الذي ذكرناه أولى

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 62.

[435]

أن يحمل عليه من أن يجعل (غير) صفة ل‍ (إله) على الموضع. فان قلت ماينكر أن يكون " إلا الله " صفة ل‍ (إله)؟ قيل: إن (الا) بكونها استثناء أعرف وأكثر من كونها صفة.

وإنما جعلت صفة على التشبيه بغير، فاذا كان الاستثناء أولى حملنا " هل من خالق غير الله "(2) على الاستثناء من النفي في المعنى، لان قوله " هل من خالق غير الله " بمنزلة مامن خالق غير الله، ولابد من اضمار الخبر، كأنه قال: مامن خالق للعالم غير الله، ويؤكد ذلك قوله " لا إله الا الله "(3) فهذا استثناء من منفي مثل لا أجد في الدار إلا زيدا.

فأما حمزة والكسائي فانهما جعلا (غير) صفة لخالق وأضمرا الخبر، كما تقدم. والباقون جعلوه استثناء بدلا من النفي، وهو أولى لماتقدم من الاستشهاد عليه من قوله " ومامن إله إلا الله "(4). أخبر الله تعالى وأقسم على خبره - لان اللام في قوله " لقد " لام القسم - بأنه أرسل نوحا (ع) إلى قومه وإرساله اياه هو تكليفه القيام بالرسالة وهي منزلة جليلة شريفة يستحق بهاالرسول بتقلبه إياها والقيام باعبائها أن يعظم أعلى تعظيم البشر، وأخبر أن نوحا قال لقومه " ياقوم اعبدوا الله " والعبادة هي الخضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع يعظم به من له أعظم النعم، فلذلك لايستحق العبادة غير الله، وأخبر أنه أمرهم بأن تكون عبادتهم لله وحده، لانه لاإله لهم غيره، ولامعبود لهم سواه.

وقال لهم " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " يريد به يوم القيامة، والعذاب هو الالم الجاري على استمرار، وقديكون غير عقاب، إلا أن المراد به - ههنا - العقاب. والعقاب الامل على ماكان من المعاصي. ولم يجعل خوفه عليهم على وجه الشك، بل أخبرهم أن هذا العذاب سيحل بهم إن لم يقبلوا

___________________________________

(2) سورد 35 فاطر آية 3.

(3) سورة 37 الصفات آية 35. وسورة 47 محمد آية 19.

(4) سورة 3 آل عمران آية 62.

[436]

ماأتاهم به، لان الخوف قد يكون مع اليقين كما يكون مع الشك ألا ترى أن الانسان يخاف من الموت، ولايشك في كونه.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1242
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19