• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الأول ) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص ( 394 ـ إلى آخر الجزء الأول ) .

من ص ( 394 ـ إلى آخر الجزء الأول )

(بيان)

 الآيات متحدة متسقة ذات نظم واحد - وهي تذكر التوحيد - وتقيم عليه البرهان وتذكر الشرك وما ينتهي إليه أمره. قوله تعالى: وإلهكم إله واحد، قد مر معنى الاله في الكلام على البسملة من سورة الحمد في أول الكتاب، وأما الوحدة فمفهومها من المفاهيم البديهية التي لا نحتاج في تصورها إلى معرف يدلنا عليها، والشئ ربما يتصف بالوحدة من حيث وصف من أوصافه، كرجل واحد، وعالم واحد، وشاعر واحد، فيدل به على أن الصفة التي فيه لا تقبل الشركة ولا تعرضها الكثرة، فان الرجولية التي في زيد مثلا - وهو رجل واحد ليست منقسمة بينه وبين غيره، بخلاف ما في زيد وعمرو مثلا - وهما رجلان - فانه منقسم بين اثنين كثير بهما، فزيد من جهة هذه الصفة - وهي الرجولية - واحد لا يقبل الكثرة، وإن كان من جهة هذه الصفة وغيرها من الصفات كعلمه، وقدرته، وحيوته، ونحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة، والله سبحانه واحد، من جهة أن

[ 394 ]

الصفة التي لا يشاركه فيها غيره، كالالوهية فهو واحد في الالوهية، لا يشاركه فيها غيره تعالى، والعلم و القدرة والحيوة، فله علم لا كالعلوم وقدرة وحيوة لا كقدرة غيره وحيوته، وواحد من جهة أن الصفات التي له لا تتكثر ولا تتعدد إلا مفهوما فقط، فعلمه وقدرته وحيوته جميعها شئ واحد هو ذاته، ليس شئ منها غير الآخر بل هو تعالى يعلم بقدرته ويقدر بحيوته وحي بعلمه، لا كمثل غيره في تعدد الصفات عينا ومفهوما، وربما يتصف الشئ بالوحدة من جهة ذاته، وهو عدم التكثر والتجزي في الذات بذاته، فلا تتجزى إلى جزء وجزء، وإلى ذات واسم وهكذا، وهذه الوحدة هي المسماة بأحديه الذات، ويدل على هذا المعنى بلفظ أحد، الذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالاضافة إلا إذا وقع في حيز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جائني أحد، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحدا أو كثيرا، لان الوحدة مإخوذه في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا: ما جائني واحد فان هذا القول لا يكذب بمجئ اثنين أو أزيد لان الوحدة مأخوذة في صفة الجائى وهو الرجولية في رجل واحد مثلا فاحتفظ بهذا الاجمال حتى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى: (قل هو الله أحد) الاخلاص - 1، إنشاء الله تعالى. وبالجملة فقوله: وإلهكم إله واحد، تفيد بجملته اختصاص الالوهية بالله عزاسمه، ووحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك وتعالى، وذلك أن لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدل على أزيد من مفهوم الوحدة العامة التي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلا بعضها فهناك وحدة عددية ووحدة نوعيه ووحدة جنسية وغير ذلك، فيذهب وهم كل من المخاطبين إلى ما يعتقده ويراه من المعنى، ولو كان قيل: والله إله واحد، لم يكن فيه توحيد لان أرباب الشرك يرون أنه تعالى إله واحد، كما أن كل واحد من آلهتهم إله واحد، ولو كان قيل: وإلهكم واحد لم يكن فيه نص على التوحيد، لامكان أن يذهب الوهم إلى أنه واحد في النوع، وهو لالوهية، نظير ما يقال في تعداد أنواع الحيوان: الفرس واحد، والبغل واحد، مع كون كل منهما متعددا في العدد، لكن لما قيل: وإلهكم إله واحد فأثبت معنى إله واحد - وهو في مقابل الهين إثنين وآلهة كثيرة - على قوله: إلهكم كان نصا في التوحيد بقصر أصل الالوهية على واحد من الالهي التى اعتقدوا بها.

[ 395 ]

قوله تعالى: لا إله إلا هو، جئ به لتأكيد نصوصية الجملة السابقة في التوحيد ونفي كل توهم أو تأويل يمكن أن يتعلق بها، والنفي فيه نفي الجنس، والمراد بالاله ما يصدق عليه الاله حقيقة وواقعا، وحينئذ فيصح أن يكون الخبر المحذوف هو موجود أو كائن، أو نحوهما، والتقدير لا إله بالحقيقة والحق بموجود، وحيث كان لفظة الجلالة مرفوعا لا منصوبا فلفظ إلا ليس للاستثناء، بل وصف بمعنى غير، والمعنى لا إله غير الله بموجود. فقد تبين أن الجملة أعني قوله: لا أله إلا هو، مسوقة لنفي غير الله من الآلهة الموهومة المتخيلة لا لنفي غير الله وإثبات وجود الله سبحانه، كما توهمه كثيرون، ويشهد بذلك أن المقام إنما يحتاج إلى النفي فقط، ليكون تثبيتا لوحدته في الالوهية لا الاثبات والنفي معا، على أن القرآن الشريف يعد أصل وجوده تبارك وتعالى بديهيا لا يتوقف في التصديق العقلي به، وإنما يعني عنايته بإثبات الصفات، كالوحدة، والفاطرية، والعلم، والقدرة، وغير ذلك. وربما يستشكل تقدير الخبر لفظ الموجود أو ما بمعناه أنه يثبت نفي وجود إله غير الله لا نفي إمكانه، فيجاب عنه بأنه لا معنى لفرض موجود ممكن مساوى الوجود والعدم ينتهي إليه وجود جميع الموجودات بالفعل وجميع شئونها، وربما يجاب عنه بتقدير حق، والمعنى لا معبود حق إلا هو. قوله تعالى: الرحمن الرحيم، قد مر الكلام في معناهما في تفسير البسملة من سورة الفاتحة وبذكر الاسمين يتم معنى الربوبية، فإليه، تعالى ينتهي كل عطية عامة، بمقتضى رحمانيته، وكل عطية خاصة واقعة في طريق الهداية والسعادة الاخروية بمقتضى رحيميته. قوله تعالى: أن في خلق السموات والارض إلى آخر الآية، السياق كما مر في أول البيان يدل على أن الآية مسوقة للدلالة والبرهنة على ما تضمنته الآية السابقة أعني قوله تعالى: وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الآية، فإن الآية تنحل بحسب المعنى إلى أن لكل شئ من هذه الاشياء إلها، وأن إله الجميع واحد وأن هذا الاله الواحد هو إلهكم، وأنه رحمن مفيض للرحمة العامة، وأنه رحيم يسوق إلى سعادة

[ 396 ]

الغاية - وهي سعادة الآخرة - فهذه حقائق حقة، وفي خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار إلى آخر ما ذكر في الآية آيات دالة عليها عند قوم يعقلون. ولو كان المراد إقامة الحجة على وجود إله الانسان أو أن اله الانسان واحد لما كان الجميع إلا آية واحدة دالة على ذلك من طريق اتصال التدبير، ولكان حق الكلام في الآية السابقة أن يقال: وإلهكم واحد لا إله إلا هو، فالآية مسوق للدلالة على الحجة على وجود الاله وعلى وحدته بمعنى أن إله غير الانسان من النظام الكبير واحد وأن ذلك بعينه إله الانسان. وإجمال الدلالة أن هذه السموات التي قد علتنا وأظلتنا على ما فيها من بدائع الخلقة، والارض التي قد أقلمنا وحملنا مع عجيب أمرها وسائر ما فيها من غرائب بالتحولات والتقلبات كاختلاف الليل والنهار، والفلك الجارية، والامطار النازلة، والرياح المرفة، والسحب المسخرة امور مفتقرة في نفسها إلى صانع موجد، فلكل منها إله موجد (وهذا هو الحجة الاولى). ثم إن هذه الاجرام الجوية المختلفة بالصغر والكبر واللبعد والقرب (وقد وجد الواحد في الصغر على ما بلغة الفحص العلمي ما يعادل: 33.... ر. من سانتيمتر مكعب والواحد في الكبر ما يعادل الملابين من حجم الارض وهو كرة يعادل قطرها 9000 ميلا تقريبا، واكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية، والسنة النورية من المسافة تعدل 365 + 24 + 60 + 60 + 300000 كيلومتر تقريبا)، فانظر إلى هذه الارقام التي تدهش اللب وتبهت الفكر واقبض ما أنت قاض في غرابة الامر وبداعتة تفعل البعض منها في البعض، وتيفعل البعض منها عن البعض أينما كانت وكيفما كانت بالجاذبة العامة، وإفاضة النور والجرارة وتحيي بذلك سنة الحركة العامة والزمان العمومي، وهذا نظام عام دائم تحت قانون ثابت، حتى أن النسبتة العمومية القاصية بالتغير في قونانين الحركة في العالم الجسماني لا تتجافى عن الاعتراف بأن التغيير العمومي أيضا محكوم قانون آخر ثابت في التغير والتحول، ثم إن هذه الحركة والتحول العمومي تتصور في كل جزء من أجزاء العالم بصورة خاصة كما بين الشمس التي

[ 397 ]

لعالمنا مع منظومتها ثم تزيدضيقا في الدائرة كما في أرضنا مع ما يختص بها من الحوادث والاجرام، كالقمر والليل والنهار، والرياح والسحب والامطار، ثم تتضيق الدائرة، كما في المكونات الارضية: من المعادن والنبات والحيوان وساير التراكيب، ثم في كل نوع من أنواعها، ثم تتضيق الدائرة حتى تصل النوبة إلى العناصر، ثم إلى الذرات، ثم إلى أجزاء الذرات حتى تصل إلى آخر ما انتهى الفحص العلمي الميسور للانسان إلى هذا اليوم، وهي الالكترون، والبروتون، ويوجد هناك نظير المنظومات الشمسية جرم مركزي وأشياء يدور حولها دوران الكواكب على مداراتها التي حول شمسها وسبحها في أفلاكها. ففي أي موقف من هذه المواقف وقف الانسان شاهد نظاما عجيبا ذا تحولات وتغيرات، يحفظ بها أصل عالمه، وتحيى بها سنة إلهية لا تنفد عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، لا استثناء في جريها وإن كان واحدا، ولا اتفاق في طيها وإن كان نادرا شاردا، لا يدرك ساحلها ولا يقطع مراحلها، وكلما ركبت عدة منها أخذا من الدقيق إلى الجليل وجدتها لا تزيد على عالم واحد ذا نظام واحد، وتدبير متصل حتى ينتهي الامر إلى ما انتهى إليه توسع العلم إلى اليوم بالحس المسلح والارصاد الدقيقة، وكلما حللتها وجزيتها راجعا من الكل إلى الجزء حتى تنتهي إلى مثل المليكول وجدته لا تفقد من العالم الواحد شيئا ذا نظام واحد وتدبير متصل، على أن كل اثنين من هذه الموجودات متغاير الواحدين ذاتا وحكما شخصا. فالعالم شئ واحد والتدبير متصل، وجميع الاجزاء مسخرة تحت نظام واحد وإن كثرت واختلفت أحكامها، وعنت الوجوه للحي القيوم، فإله العالم الموجد له والمدبر لامره واحد (وهذا هو البرهان الثاني. ثم إن الانسان الذي هو موجود أرضي يحيى في الارض ويعيش في الارض ثم يموت ويرجع إلى الارض لا يفتقر في شئ من وجوده وبقائه إلى أزيد من هذا النظام الكلي الذي لمجموع هذا العالم المتصل تدبيره، الواحد نظامه، فهذه الاجرام العلوية في إنارتها وتسخينها، وهذه الارض في اختلاف ليلها ونهارها ورياحها وسحبها وأمطارها ومنافعها التي تجري من قطر إلى قطر من رزق ومتاع هي التي يحتاج إليها الانسان في

[ 398 ]

حاجته المادية وتدبير وجوده وبقائه - والله من ورائهم محيط - فإلهها الموجد لها المدبر لامرها هو إله الانسان الموجد له والمدبر لامره (وهذا هو البرهان الثالث). ثم ان هذا الاله هو الذي يعطي كلا ما يحتاج إليه في سعادته الوجودية وما يحتاج إليه في سعادته في غايته وآخرته لو كان له سعادة اخروية غائية فإن الآخرة عقبى هذه الدار، وكيف يمكن أن يدبر عاقبة الامر غير الذي يدبر نفس الامر ؟ (وهذا هو البرهان على الاسمين الرحمن الرحيم). وعند هذا تم تعليل الآية الاولى بالثانية وفي تصدير الآية بلفظة، إن، الدالة على التعليل إشارة إلى ذلك - والله العالم -. فقوله تعالى: إن في خلق السموات والارض، اشارة إلى ذوات الاجرام العلوية والارض بما تشتمل عليه تراكيبها من بدائع الخلق وعجائب الصنع، من صور تقوم بها أسماؤها، ومواد تتألف منها ذواتها، وتحول بعضها إلى بعض، ونقص أو زيادة تطرئها وتركب أو تحلل يعرضها، كما قال: (أو لم يروا أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها) الرعد - 41، وقال: (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي) الانبياء - 30. قوله تعالى: واختلاف الليل والنهار، وهو النقيصة والزيادة والطول والقصر العارضان لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطبيعية، وهي الحركة اليومية التي للارض على مركزها وهي ترسم الليل والنهار بمواجهة نصف الكرة وأزيد بقليل دائما مع الشمس فتكتسب النور وتمص الحرارة، ويسمى النهار، واستتار الشمس عن النصف الآخر وأنقص بقليل فيدخل تحت الظل المخروطي وتبقى مظلما وتسمى الليل، ولا يزالان يدوران حول الارض، والعامل الآخر ميل سطح الدائرة الاستوائية أو المعدل عن سطح المدار الارضي في الحركة الانتقالية إلى الشمال والجنوب، وهو الذي يوجب ميل الشمس من المعدل إلى الشمال أو الجنوب الراسم للفصول، وهذا يوجب استواء الليل والنهار في منطقة خط الاستواء وفي القطبين، أما القطبان فلهما في كل سنة شمسية تامة يوم وليلة واحدة كل منهما يعدل نصف السنة، و الليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب وبالعكس، وأما النقطة الاستوائية فلها في كل سنة شمسية ثلاثمائة وخمس وستون ليلا ونهارا تقريبا، والنهار والليل فيها متساويان، وأما بقية المناطق

[ 399 ]

فيختلف النهار والليل فيها عددا وفي الطول والقصر بحسب القرب من النقطة الاستوائية ومن القطبين، وهذا كله مشروح مبين في العلوم المربوطة بها. وهذا الاختلاف هو الموجب لاختلاف ورود الضوء والحرارة، وهو الموجب لاختلاف العوامل الموجبة لاختلاف حدوث التراكيب الارضية والتحولات في كينونتها مما ينتفع باختلافها الانسان انتفاعات مختلفة. قوله تعالى: والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، والفلك هو السفينة يطلق على الواحد والجمع، والفلك والفلكة كالتمر والتمرة والمراد بما ينفع الناس المتاع والرزق تنقلها من ساحل إلى ساحل ومن قطر من أقطار الارض إلى قطر آخر. وفي عد الفلك في طي الموجودات والحوادث الطبيعية التي لا دخل لاختيار الانسان فيها كالسماء والارض واختلاف الليل والنهار دلالة على أنها أيضا تنتهي مثلها إلى صنع الله سبحانه في الطبيعة فان نسبة الفعل إلى الانسان بحسب الدقة لا تزيد على نسبة الفعل إلى سبب من الاسباب الطبيعية، والاختيار الذي يتبجح به الانسان لا يجعله سببا تاما مستقلا غير مفتقر إلى إرادة الله سبحانه ولا يجعله أقل احتياجا إليه تعالى بالنسبة إلى سائر الاسباب الطبيعية، فلا فرق من حيث الاحتياج إلى إرادة الله سبحانه بين أن يفعل قوة طبيعية في مادة فتوجد بالفعل و الانفعال والتحريك والتركيب والتحليل صورة من الصور كصورة الحجارة مثلا، وبين أن يفعل الانسان بالتحريك والتقريب والتبعيد في المادة صورة من الصور كصورة السفينة مثلا في أن الجميع تنتهي إلى صنع الله وايجاده لا يستقل شئ مستغنيا عنه تعالى في ذاته وفعله. فالفلك أيضا مثل سائر الموجودات الطبيعية تفتقر إلى الاله في وجودها وتفتقر إلى إلاله في تدبير أمرها من غير فرق، وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات - 96، حيث حكاه من إبراهيم فيما قاله لقومه في خصوص الاصنام التي اتخذوها آلهة فان من المعلوم أن الصنم ليس إلا موجودا صناعيا كالفلك التي تجري في البحر، وقال تعالى: (وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام) الرحمن - 24، فعدها ملكا لنفسه، وقال تعالى: (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) إبراهيم - 32، فعد تدبير أمرها راجعا إليه.

[ 400 ]

(كلام في استناد مصنوعات الانسان إلى الله سبحانه) فما أغفل هؤلاء الذين يعدون الصناعيات من الاشياء التي يعملها الانسان مصنوعة مخلوقة للانسان مقطوعة النسبة عن إله العالم عز اسمه مستندين إلى أنها مخلوقة لارادة الانسان واختياره. فطائفة منهم - وهم أصحاب المادة من المنكرين لوجود الصانع - زعموا أن حجة الملليين في إثبات الصانع: أنهم وجدوا في الطبيعة حوادث وموجودات جهلوا عللها المادية ولزمهم من جهة القول بعموم قانون العلية والمعلولية في الاشياء والحوادث أن يحكموا بوجود عللها - وهي مجهولة لهم بعد - فأنتج ذلك القول بأن لهذه الحوادث المجهولة العلة علة مجهولة الكنه هي وراء عالم الطبيعة، وهو الله سبحانه، فالقول بأن الصانع موجود فرضية أوجب افتراضها ما وجده الانسان الاولى من الحوادث المادية المجهولة العلل كالحوادث الجوية وكثير من الحوادث الارضية المجهولة العلل، وما وجده من الحوادث والخواص الروحية التي لم يكشف العلوم عن عللها الماديي حتى اليوم. قالوا: وقد وفق العلوم في تقدمها الحديث لحل المشكل في الحوادث المادية وكشفت عن عللها فأبطلت من هذه الفرضية أحد ركنيها وهو احتياج الحوادث المادية المجهولة العلل إلى علل ورائها، وبقي الركن الآخر وهو احتياج الحوادث الروحية إلى عللها، وانتهائها إلى علة مجردة، وتقدم البحث في الكيمياء الالي جديدا يعدنا وعدا حسنا أن سيطلع الانسان على علل الروح ويقدر على صنعة الجراثيم الحيوية وتركيب أي موجود روحي وإيجاد أي خاصة روحية، وعند ذلك ينهدم أساس الفرضية المذكورة ويخلق الانسان في الطبيعة أي موجود شاء من الروحيات كما يخلق اليوم أي شئ شاء من الطبيعيات، وقد كان قبل اليوم لا يرضى أن ينسب الخلق إلا إلى علة مفروضة فيما وراء الطبيعة، حمله على افتراضها الجهل بعلل الحوادث، هذا ما ذكروه. وهؤلاء المساكين لو أفاقوا قليلا من سكرة الغفلة والغرور لرأوا أن الالهيين من أول ما أذعنوا بوجود إله للعالم - ولن يوجد له أول - أثبتوا هذه العلة الموجدة لجميع العالم، وبين اجزائه حوادث معلومة العلل - وفيها حوادث مجهولة العلل -

[ 401 ]

والمجموع من حيث المجموع مفتقر عندهم إلى علة خارجة، فما يثبته أولئك غير ما ينفيه هؤلاء. فالمثبتون - ولم يقدر البحث والتاريخ على تعيين مبدء لظهورهم في تاريخ حيوة النوع الانساني - أثبتوا لجميع العالم صانعا واحدا أو كثيرا (وان كان القرآن يثبت تقدم دين التوحيد على الوثنية، وقد بين ذلك الدكتور ماكس موللر الالماني المستشرق صاحب التقدم في حل الرموز السنسكريتية) وهم حتى الانسان الاولى منهم يشاهدون العلل في بعض الحوادث المادية، فإثباتهم، إلها صانعا لجميع العالم استنادا إلى قانون العلية العام ليس لاجل أن يستريحوا في مورد الحوادث المجهولة العلل حتى ينتج ذلك القول باحتياج بعض العالم إلى الاله واستغناء البعض الآخر عنه، بل لاذعانهم بأن هذا العالم المؤلف من سلسلة علل ومعلولات طبيعية بمجموعها ووحدانيتها لا يستغني عن الحاجة إلى علة فوق العلل تتكي عليها جميع التأثيرات والتأثرات الجارية بين اجزائه، فإثبات هذه العلة العالية لا يبطل قانون العلية العام الجاري بين اجزاء العالم أنفسها، ولا وجود العلل المادية في موارد المعلولات المادية تغني عن استنادها الجميع إلى علة عالية خارجة من سلسلتها، وليس معنى الخروج وقوف العلة في رأس السلسلة، بل إحاطتها بها من كل جهة مفروضة. ومن عجيب المناقضة في كلام هؤلاء أنهم قائلون في الحوادث - ومن جملتها الافعال الانسانية - بالجبر المطلق فما من فعل ولا حادث غيره إلا وهو معلول جبري لعلل عندهم، وهم مع ذلك يزعمون أن الانسان لو خلق إنسانا آخر كان غير منته إلى علة العالم لو فرض له علة. وهذا المعنى الذي قلنا - على لطفة ودقته وإن لم يقدر على تقريره الفهم العامي الساذج لكنه موجود على الاجمال في أذهانهم حيث قالوا باستناد جميع العالم بأجمعه إلى الاله الصانع - وفيه العلل والمعلولات فهذا - أولا. ثم إن البراهين العقلية التي أقامتها الالهيون من الحكماء الباحثين أقاموها بعد إثبات عموم العلية وبنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علة واجبة الوجود، واستمروا على هذا السلك من البحث منذ الوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى

[ 402 ]

يومنا هذا، ولم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لاجل الجهل بالعلة الطبيعية، وفي المعلولات المجهولة العلل كما يتوهمه هؤلاء، وهذا ثانيا. ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الاله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم، وتسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به، وتصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك، فإنه يسند الافعال الطبيعية إلى موضوعاتها وفواعلها الطبيعية وينسب إلى الانسان أفعاله الاختيارية في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها، ثم ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء، قال تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر - 62، وقال تعالى: (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو) المؤمن - 62، وقال تعالى: (ألا له الخلق والامر) الاعراف - 54، وقال تعالى: (له ما في السموات وما في الارض) طه - 5، فكل ما صدق عليه اسم شئ فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه وكماله، وقد جمع في آيات أخر بين الاثباتين جميعا فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله سبحانه معا كقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات - 96، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى، وقال تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الانفال - 17، فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك. ومن هذا الباب آيات أخر تجمع بين الاثباتين بطريق عام كقوله تعالى: (وخلق كل شئ فقدره تقديرا) الفرقان - 2، وقال تعالى: (إنا كل شئ خلقناه بقدر - إلى أن قال - وكل صغير وكبير مستطر) القمر - 53، وقال تعالى: (قد جعل الله لكل شئ قدرا) الطلاق - 3، وقال تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر - 21، فإن تقدير كل شئ هو جعله محدودا بحدود العلل المادية والشرائط الزمانية والمكانية. وبالجملة فكون إثبات وجود الاله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية والمعلولية بين جميع أجزاء العالم، ثم استناد الجميع إلى الاله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك ولا ريب لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله وإسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة، وهذا ثالثا.

[ 403 ]

نعم حملهم على هذا الزعم ما تلقوة: من جمع من أرباب النحل الباحثين عن هذه المسألة وأمثالها في فلسفة عامية كانت تنشرها الكنيسة في القرون الوسطى. أو يعتمد عليها الضعفاء من متكلمي الاديان الاخرى وكانت مؤلفة من مسائل محرفة ما هي بالمسائل، واحتجاجات واستدلالات واهية فاقدة لاستقامة النظر. فهؤلاء لما أرادوا بيان دعويهم الحق (الذي يقضي بصحته إجمالا عقولهم) ونقله من الاجمال إلى التفصيل دفعهم ضعف التعقل والفكر إلى غير الطريق فعمموا الدعوى، وتوسعوا في الدليل، فحكموا باستناد كل معلول مجهول العلة إلى الله سبحانه من غير واسطة، ونفوا حاجة الافعال الاختيارية إلى علة موجبه، أو احتياج الانسان في صدور فعله الاختياري إلى الاله تعالى، واستقلاله في فعله، وقد مر البحث عن قولهم في الكلام على قوله تعالى: (وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة - 26، ونورد هيهنا بعض ما فيه من الكلام. وطائفة منهم - وهم بعض المحدثين والمتكلمين من ظاهريي المسلمين وجمع من غيرهم - لم يقدروا أن يتعقلوا معنى صحيحا لاسناد أفعال الانسان الاختيارية إلى الله سبحانه على ما يليق بالمقام الربوبي فنفوا استناد مصنوعات الانسان إليه سبحانه، وبالخصوص فيما وضعه للمعصية خاصة كالخمر وآلات اللهوو القمار وغير ذلك، وقد قال تعالى: (إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) المائدة - 90، ومعلوم أن ما عده الله سبحانه عملا للشيطان لا يجوز أن ينسب إليه. وقد مر فيما تقدم ما يظهر به بطلان هذا التوهم نقلا وعقلا، فالافعال الاختيارية كما أن لها انتسابا إلى الله سبحانه على ما يليق به تعالى كذلك نتائجها وهي الامور الصناعية التي يصنعها الانسان لداعي رفع الحوائج الحيوية. على أن النصاب الواقعة في الآية السابقة هي الاصنام والتماثيل المنصوبة المعبودة التي ذكر الله سبحانه أنها مخلوقة له في قوله: (والله خلقكم وما تعملون الآية، ومن هيهنا يظهر أن فيها جهات مختلفة من النسب ينسب من بعضها إلى الله سبحانه وهي طبيعة وجودها مع قطع النظر عن وصف المعصية المتعلق بها، فإن الصنم ليس بحسب الحقيقة إلا حجرا أو فلزا عليه شكل خاص وليس فيه ما يوجب نفي انتسابه إلى موجد كل شئ، واما أنه صنم معبود دون الله سبحانه فهذه هي الجهة التي يجب

[ 404 ]

نفيها عنه تعالى ونسبتها إلى عمل غيره من شيطان أو إنسان، وكذا حكم غيره من حيث انتسابه إليه تعالى وإلى غيره. فقد تبين من جميع ما مر أن الامور الصناعية منتسبة إلى الخلقة كاستناد الامور الطبيعية من غير فرق، نعم يدور الامر في الانتساب إلى الخلقة مدار حظ الشئ من الوجود فافهم ذلك. قوله تعالى: وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، فان حقيقته عناصر مختلفة يحملها ماء البحار وغيره ثم يتكاثف بخارا متصاعدا حاملا للحرارة حتى ينتهي إلى زمهرير الهواء فيتبدل ماء متقاطرا على صورة المطر أو يجمد ثانيا فيصير ثلجا أو بردا فينزل لثقله إلى الارض فتشربه وتحيي به أو تحزنه فيخرج على صورة ينابيع في الارض بها حيوة كل شئ فالماء النازل من السماء حادث من الحوادث الوجودية جار على نظام متقن غاية الاتقان من غير انتقاض واستثناء ويستند إليه انتشاء النبات وتكون الحيوان من كل نوع. وهو من جهة تحدده بما يحفه من حوادث العالم طولا وعرضا تصير معها جميعا شيئا واحدا لا يستغني عن موجد يوجده وعلة تظهره فله إله واحد ومن جهة أنه مما يستند إليه وجود الانسان حدوثا وبقاء يدل على كون إلهه هو إله الانسان. قوله تعالى: وتصريف الرياح، وهو توجيهها من جانب إلى جانب بعوامل طبيعية مختلفة، والاغلب فيها أن الاشعة النورية الواقعة على الهواء من الشمس تتبدل حرارة فيه فيعرضه اللطافة والخفة لان الحرارة من عواملها فلا يقدر على حمل ما يعلوه أو يجاوره من الهواء البارد الثقيل فينحدر عليه فيدفعه بشدة فيجري الهواء اللطيف إلى خلاف سمت الدفع وهو الريح، ومن منافعه تلقيح النبات ودفع الكثافات البخارية والعفونات المتصاعدة، وسوق السحب الماطرة وغيرها، ففيه حيوة النبات والحيوان والانسان. وهو في وجوده يدل على الاله وفي التيامه مع سائر الموجودات واتحاده معها كما مر يدل على إله واحد للعالم، وفي وقوعه طريقا إلى وجود الانسان وبقائه يدل على أن

[ 405 ]

إله الانسان وغيره واحد. قوله تعالى: والسحاب المسخر بين السماء والارض، السحاب البخار المتكاثف الذي منه الامطار وهو ضباب بالفتح ما لم ينفصل من الارض فإذا انفصل وعلا سمي سحابا وغيما وغماما وغير ذلك، والتسخير قهر الشئ وتذليله في عمله، والسحاب مسخر مقهور في سيره وإمطاره بالريح والبرودة وغيرهما المسلطة عليه بإذن الله، والكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره مما عد معه. واعلم: أن اختلاف الليل والنهار والماء النازل من السماء والرياح المصرفة والسحاب المسخر جمل الحوادث العامة التي منها يتألف نظام التكوين في الارضيات من المركبات النباتية والحيوانية وغيرهما فهذه الآية كالتفصيل بوجه لاجمال قوله تعالى: (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) فصلت - 10. قوله تعالى: لآيات لقوم يعقلون، العقل - وهو مصدر عقل يعقل - إدراك الشئ وفهمه التام، ومنه العقل اسم لما يميز به الانسان بين الصلاح والفساد وبين الحق و الباطل والصدق والكذب وهو نفس الانسان المدرك وليس بقوة من قواة التى هي كالفروع للنفس كالقوة الحافظة و الباصرة وغيرهما. قوله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا، الند كالمثل وزنا ومعنى، ولم يقل من يتخذ لله أندادا كما عبر بذلك في سائر الموارد كقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا) البقرة - 22، وقوله تعالى: (وجعلوا لله أندادا) إبراهيم - 30، وغير ذلك لان المقام مسبوق بالحصر في قوله: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الآية، فكان من اتخذ لله أندادا قد نقض الحصر من غير مجوز واتخذ من يعلم أنه ليس بأله إلها اتباعا للهوى وتهوينا لحكم عقله ولذلك نكره تحقيرا لشأنه، فقال ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا. قوله تعالى: يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله، وفي التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالانداد ليس هو الاصنام فقط بل يشمل الملائكه، وأفرادا من الانسان الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بل يعم كل مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله: (إذ تبرا الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) البقرة - 166، وكما قال تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا

[ 406 ]

أربابا من دون الله) آل عمران - 64، وقال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة - 31، وفي الاية دليل على أن الحب يتعلق بالله تعالى حقيقة خلافا لمن قال: أن الحب وهو وصف شهواني، يتعلق بالاجسام والجسمانيات، ولا يتعلق به سبحانه حقيقة وأن معنى ما ورد من الحب له الاطاعة بالايتمار بالامر والانتهاء عن النهي تجوزا كقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) آل عمران - 31. والاية حجة عليهم فإن قوله تعالى: أشد حبا لله يدل على أن حبه تعالى يقبل الاشتداد، وهو في المؤمنين أشد منه في المتخذين لله اندادا، ولو كان المراد بالحب هو الاطاعة مجازا كان المعنى والذين آمنوا أطوع لله ولم يستقم معنى التفضيل لان طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه فالمراد بالحب معناه الحقيقي. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (قل إن كان آبائكم وابنائكم - إلى قوله - أحب إليكم من الله ورسوله) التوبة - 25، فإنه ظاهر في أن الحب المتعلق بالله والحب المتعلق برسوله والحب المتعلق بالآباء والابناء والاموال وغيرها جميعا من سنخ واحد لمكان قوله أحب إليكم، وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى واختلافهما من حيث الزيادة والنقصان. ثم ان الآية ذم المتخذين للانداد بقوله: يحبونهم كحب الله ثم مدح المؤمنين بأنهم أشد حبا لله سبحانه فدل التقابل بين الفريقين على أن ذمهم أنما هو لتوزيعهم المحبة الالهية بين الله وبين الانداد الذين اتخذوهم أندادا. وهذا وإن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنهم لو وضعوا له سبحانه سهما أكثر لم يذموا على ذلك لكن ذيل الاية ينفي ذلك فإن قوله: إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا، وقوله: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأ وا العذاب وتقطعت بهم الاسباب، وقوله: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، يشهد بأن الذم لم يتوجه إلى الحب من حيث أنه حب بل من جهة لازمه الذي هو الاتباع وكان هذا الاتباع منهم لهم لزعمهم ان لهم قوة يتقوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك إتباع الحق من أصله أو في بعض الامر، وليس من اتبع الله في بعض أمره دون بعض بمتبع له وحينئذ يندفع الاستشعار المذكور، ويظهر أن هذا الحب يجب أن لا يكون لله فيه سهيم وإلا فهو الشرك، واشتداد هذا الحب ملازم لانحصار التبعية من امر الله، ولذلك مدح المؤمنين

[ 407 ]

بذلك في قوله والذين آمنوا أشد حبا لله. وإذ كان هذا المدح والذم متعلقا بالحب من جهة أثره الذي هو الاتباع فلو كان الحب للغير بتعقيب إطاعة الله تعالى في أمره ونهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى - ليس له شأن دون ذلك - لم يتوجه إليه ذم البته كما قال تعالى: (قل إن كان آبائكم وابناؤكم - إلى قوله - أحب اليكم من الله ورسوله) التوبة - 24، فقرر لرسوله حبا كما قرره لنفسه لان حبه عليه السلام حب الله تعالى فإن أثره وهو الاتباع عين اتباع، الله تعالى: فإن الله سبحانه هو الداعي إلى اطاعة رسوله والآمر باتباعه، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله) النساء - 64، وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وكذلك اتباع كل من يهتدي إلى الله باتباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته وقرآن يقرب بقرائته ونحو ذلك فإنها كلها محبوبة بحب الله واتباعها طاعة تعد مقربة إليه. فقد بان بهذا البيان أن من أحب شيئا من دون الله ابتغاء قوة فيه فاتبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتبعه بإطاعته في شئ لم يأمر الله به فقد اتخذ من دون الله اندادا وسيريهم الله اعمالهم حسرات عليهم، وأن المؤمنين هم الذين لا يحبون إلا الله ولا يبتغون قوة إلا من عند الله ولا يتبعون غير ما هو من أمر الله ونهيه فأولئك هم المخلصون لله دينا. وبان ايضا أن حب من حبه من حب الله واتباعه اتباع الله كالنبي وآله والعلماء بالله، وكتاب الله وسنة نبيه وكل ما يذكر الله بوجه إخلاص لله ليس من الشرك المذموم في شئ، والتقرب بحبه واتباعه تقرب إلى الله، وتعظيمه بما يعد تعظيما من تقوى الله، قال تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) الحج - 32، والشعائر هي العلامات الدالة، ولم يقيد بشئ مثل الصفا والمروة وغير ذلك، فكل ما هو من شعائر الله وآياته وعلاماته المذكرة له فتعظيمه من تقوى الله ويشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى. نعم لا يخفى لذي مسكة أن إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر والايات في قبال الله واعتقاد أنها تملك لنفسها أو غيرها نفعا أو ضرا أو موتا أو حيوة أو نشورا إخراج لها

[ 408 ]

عن كونها شعائر وآيات وإدخال لها في حظيرة الالوهية وشرك بالله العظيم، والعياذ بالله تعالى. قوله تعالى: ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العقاب، ظاهر السياق أن قوله: إذ مفعول يرى، وان قوله: أن القوة لله إلى آخر الاية، بيان للعذاب، ولو للتمني. والمعنى ليتهم يرون في الدنيا يوما يشاهدون فيه العذاب فيشاهدون أن القوة لله جميعا وقد اخطأوا في إعطاء شئ منه لاندادهم وأن الله شديد في عذابه، واذاقته عاقبة هذا الخطأ فالمراد بالعذاب في الآية - على ما يبينه ما يتلوه - مشاهدتهم الخطأ في إتخاذهم اندادا يتوهم قوة فيه ومشاهدة عاقبة هذا الخطأ ويؤيده الآيتان التاليتان: إذ تبرأ الذين إتبعوا من الذين اتبعوا فلم يصل من المتبوعين إلى تابعيهم نفع كانوا يتوقعونه ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب فلم يبق تأثير لشئ دون الله، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة، وهو تمني الرجوع إلى الدنيا فنتبرأ منهم أي من الانداد المتبوعين في الدنيا كما تبرأوا منا في الاخرة، كذلك يريهم الله أي الذين ظلموا باتخاذ الانداد أعمالهم، وهي حبهم واتباعهم لهم في الدنيا حالكونها حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار. قوله تعالى: وما هم بخارجين من النار، فيه حجة على القائلين بانقطاع العذاب من طريق الظواهر.

(بحث روائي)

 في الخصال والتوحيد والمعاني عن شريح بن هاني قال: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد ؟ قال فحمل الناس عليه، فقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين دعوه فإن الذي يريده الاعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: عليه السلام يا أعرابي، إن القول: في أن الله واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله تعالى، ووجهان يثبتان فيه فأما اللذان لا يجوزان عليه - فقول القائل واحد يقصد به باب الاعداد فهذا لا يجوز لان ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد، أما ترى أنه كفر من قال انه ثالث ثلثه ؟ وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لانه تشبيه وجل ربنا وتعالى عن ذلك، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه

[ 409 ]

فقول القائل هو واحد ليس له في الاشياء شبه كذلك ربنا، وقول القائل إنه عز وجل أحدي المعنى يعني به: أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا. اقول: والوجهان اللذان أثبتهما عليه السلام كما ترى منطبق على ما ذكرناه في بيان قوله تعالى وإلهكم إله واحد الآية. وقد تكرر في الخطب المروية عن علي عليه السلام والرضا عليه السلام وغيرهما من أئمة أهل البيت: قولهم: إنه واحد لا بالعدد الخطبة، وهو ما مر من معنى صرافة ذاته الآبية عن العدد، وفي دعاء الصحيفة الكاملة لك وحدانية العدد الدعاء، ويحمل على الملكية أي أنت تملك وحدانية العدد دون الاتصاف فإن العقل والنقل ناهضان على أن وجوده سبحانه صرف لا يتثنى ولا يتكرر بذاته وحقيقته. وفي الكافي والاختصاص وتفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: في قوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا الآية) - في حديث - قال: هم والله يا جابر أئمة الظلمة وأشياعهم، وفي رواية العياشي: والله يا جابر هم أئمة الظلم وأشياعهم. أقول: وقد اتضح معناه بما مر من البيان وتعبيره عليه السلام بأئمة الظلم لمكان قوله تعالى: ولو يرى الذين ظلموا، فعد التابعين المتخذين للانداد ظلمة فيكون متبوعوهم أئمه الظلمة وأئمة الظلم. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم الآية، قال: هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل في طاعة الله أو في معصية الله فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة - وقد كان المال له - وإن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله. اقول: وروي هذا المعنى العياشي والصدوق والمفيد والطبرسي عن الباقر والصادق عليهما اسلام وهو ناظر إلى التوسعة في معنى الانداد وهو كذلك كما تقدم.

(بحث فلسفي)

 من المعاني الوجدانية التي عندنا معنى نسميه بالحب كما في موارد حب الغذاء

[ 410 ]

والحب النساء وحب المال وحب الجاه وحب العلم، هذه مصاديق خمسة لا نشك في وجودها فينا، ولا نشك أنا نستعمل لفظ الحب فيها بمعنى واحد على سبيل الاشتراك المعنوي دون اللفظي، ولا شك أن المصاديق مختلفة، فهل هو اختلاف نوعي أو غير ذلك ؟ إذا دققنا النظر في حب ما هو غذاء كالفاكهة مثلا وجدناه محبوبا عندنا لتعلقه بفعل القوة الغاذية، ولو لا فعل هذه القوة وما يحوزه الانسان بها من الاستكمال البدني لم يكن محبوبا ولا تحقق حب، فالحب بحسب الحقيقة بين القوة الغاذية وبين فعلها، وما تجده عند الفعل من اللذة، ولسنا نعني باللذة لذة الذائقة فإنها من خوادم الغاذية وليست نفسها، بل الرضى الخاص الذي تجده القوة بفعلها، ثم إذا اختبرنا حال حب النساء وجدنا الحب فيها يتعلق بالحقيقة بالوقاع، وتعلقه بهن ثانيا وبالتبع، كما كان حب الغذاء متعلقا بنفس الغذاء ثانيا وبالتبع، والوقاع أثر القوة المودعة في الحيوان، كما كان التغذي كذلك أثرا لقوة فيه، ومن هنا يعلم أن هذين الحبين يرجعان إلى مرجع واحد وهو تعلق وجودي بين هاتين القوتين وبين فعلهما أي كمالهما الفعلي. ومن المحتمل حينئذ أن يكون الحب هو التعلق الخاص بهذين الموردين ولا يوجد في غير موردهما لكن الاختبار بالآثار يدفع ذلك، فإن لهذا التعلق المسمى حبا أثرا في المتعلق (اسم فاعل) وهو حركة القوة وانجذابها نحو الفعل إذا فقدته وتحرجها عن تركه إذا وجدته، وهاتان الخاصتان أو الخاصة الواحدة نجدها موجودة في مورد جميع القوى الادراكية التي لنا وأفعالها وإن قوتنا الباصرة والسامعة والحافظة والمتخيلة وغيرها من القوى والحواس الظاهرية والباطنية جميعها - سواء كانت فاعلة أو منفعلة - على هذه الصفة فجميعها تحب فعلها وتنجذب إليها وليس إلا لكون أفعالها كمالات لها يتم بها نقصها وحاجتها الطبيعية، وعند ذلك يتضح الامر في حب المال وحب الجاه وحب العلم فإن الانسان يستكمل نوع استكمال بالمال والجاه والعلم. ومن هنا يستنتج أن الحب تعلق خاص وانجذاب مخصوص شعوري بين الانسان وبين كماله، وقد أفاد التجارب الدقيق بالآثار والخواص أنه يوجد في الحيوان غير الانسان، وقد تبين أن ذلك لكون المحب فاعلا أو منفعلا عما يحبه من الفعل والاثر ومتعلقا بتبعه بكل ما يتعلق به كما مر في حديث الاكل و الفاكهة، وغير الحيوان أيضا

[ 411 ]

كالحيوان إذا كان هناك استكمال أو إفاضة لكمال مع الشعور. ومن جهة أخرى لما كان الحب تعلقا وجوديا بين المحب و المحبوب كانت رابطة قائمة بينهما فلو كان المعلول الذي يتعلق به حب علته موجودا ذا شعور وجد حب علته في نفسه لو كان له نفس واستقلال جوهري. ويستنتج من جميع ما مر: اولا أن اللحب تعلق وجودي وانجذاب خاص بين العلة المكملة أو ما يشبهها وبين المعلول المستكمل أو ما يشبهه، ومن هنا كنا نحب أفعالنا لاستكمالنا بها ونحب ما يتعلق به أفعالنا كغذاء نتغذى بها، أو زوج نتمتع بها، أو مال نتصرف فيه، أو جاه نستفيد به، أو منعم ينعم علينا، أو معلم يعلمنا، أو هاد يهدينا أو ناصر ينصرنا، أو متعلم يتعلم منا، أو خادم يخدمنا أو أي مطيع يطيعنا وينقاد لنا، وهذه أقسام من الحب بعضها طبيعي وبعضها خيالي وبعضها عقلي. وثانيا: أن الحب ذو مراتب مختلفة من الشدة والضعف فإنه رابطة وجودية - والوجود مشكك في مراتبه - ومن المعلوم أن التعلق الوجودي بين العلة التامة ومعلولها ليس كالتعلق الكائن بين العلل الناقصة ومعلولاتها، وأن الكمال الذي يتعلق بواسطته الحب مختلف من حيث كونه ضروريا أو غير ضروري، ومن حيث كونه ماديا كالتغذي أو غير مادي كالعلم، وبه يظهر بطلان القول باختصاصه بالماديات حتى ذكر بعضهم: أن أصله حب الغذاء، وغيره ينحل إليه، وذكر آخرون: أن الاصل في بابه حب الوقاع، وغيره راجع إليه. وثالثا: أن الله سبحانه أهل للحب بأي جهة فرضت فإنه تعالى في نفسه موجود ذو كمال غير متناه وأي كمال فرض غيره فهو متناه، والمتناهي متعلق الوجود بغير المتنا هي وهذا حب ذاتي مستحيل الارتفاع، وهو تعالى خالق لنا منعم علينا بنعم غير متناهية العدة والمدة فنحبه كما نحب كل منعم لانعامه. ورابعا: أن الحب لما كانت رابطة وجودية - والروابط الوجودية غير خارجة الوجود عن وجود موضوعها ومن تنزلاته - أنتج ذلك أن كل شئ فهو يحب ذاته، وقد مر أنه يحب ما يتعلق بما يحبه فيحب آثار وجوده، ومن هنا يظهر أن الله سبحانه يحب خلقه لحب ذاته، ويحب خلقه لقبولهم إنعامه عليهم، ويحب خلقه لقبولهم هدايته.

[ 412 ]

وخامسا: أن لزوم الشعور والعلم في مورد الحب إنما هو بحسب المصداق وإلا فالتعلق الوجودي الذي هو حقيقة الحب لا يتوقف عليه من حيث هو، ومن هنا يظهر أن القوى والمبادي الطبيعية غير الشاعرة لها حب بآثارها وأفعالها. وسادسا: يستنتج مما مر أن الحب حقيقة سارية في الموجودات.

(بحث فلسفي آخر)

 مسألة انقطاع العذاب والخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي ومن جهة الظواهر اللفظية. والذي يمكن أن يقال: أما من جهة الظواهر، فالكتاب نص في الخلود، قال تعالى: (وما هم بخارجين من النار الآية) والسنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه، وقد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع ونفى الخلود، وهي مطروحة بمخالفة الكتاب. وأما من جهة العقل فقد ذكرنا فيما تقدم من البحث في ذيل قوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) البقرة - 48، أن الاستدلال على خصوصيات ما جاء به الشرع في المعاد بالمقدمات الكلية العقلية غير مقدور لنا لان العقل لا ينال الجزئيات، والسبيل فيه تصديق ما جاء به النبي الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه. وأما النعمة والعذاب العقليان الطارئان على النفس من جهة تجردها وتخلقها بأخلاق وملكات فاضلة أو ردية أو اكتسائها وتلبسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أن هذه الاحوال والملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعم بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة وتعذب بما هي قبيحة مشوهة منها، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقية. وأن ما كانت من هذه الصور صورا غير راسخة للنفس وغير ملائمة لذاتها فإنها ستزول لان القسر لا يكون دائميا ولا أكثريا، وهذه النفس هي النفس السعيدة ذاتا وعليها هيآت شقية ردية ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة، وهذا كله ظاهر.

[ 413 ]

واما الهيآت الردية التي رسخت في النفس حتى صارت صورا أو كالصور الجديدة تعطي للشئ نوعية جديدة كالانسان البخيل الذي صار البخل صورة لانسانيتة كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعا جديدا تحت الحيوان فالانسان البخيل ايضا نوع جديد تحت الانسان، فمن المعلوم ان هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود، وجميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذب به ويذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلا أنها لما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر، ومثل هذا الانسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه مثل من إبتلى بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمر فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها وهو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر ولو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو وإن لم تكن متألما من حيث إنتهاء الصدور إليه نفسه لكنه معذب بها من حيث أن العذاب ما يفر منه الانسان إذا لم يبتل به بعد ويحب التخلص عنه إذا ابتلى به وهذا الحد يصدق على الامور المشوهة والصور غير الجميلة التي تستقبل الانسان الشقي في دار آخرته، فقد بان أن العذاب خالد غير منقطع عن الانسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة. وقد استشكل هيهنا بإشكالات واضحة السقوط بينة الفساد: مثل أن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شئ ؟ ومثل أن العذاب إنما يكون عذابا إذا لم يلائم الطبع فيكون قسرا ولا معنى للقسر الدائم فكيف يصح وجود عذاب دائم ؟. ومثل أن العبد لم يذنب إلا ذنبا منقطع الاخر فكيف يجازى بعذاب دائم ؟ ومثل أن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة ولولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد ؟ ومثل أن العذاب للمتخلف عن أوامر الله ونواهيه انتقام ولا يكون الانتقام إلا لجبر النقص الذي أورده العاصي الظالم على المنتقم المقتدر، ولا يجوز ذلك على الله تعالى فهو الغني المطلق فكيف يجوز منه العذاب وخاصة العذاب المخلد ؟.

[ 414 ]

فهذه وأمثالها وجوه من الاشكال اوردوها على خلود العذاب وعدم انقطاعه. وأنت بالاحاطة بما بيناه من معنى خلود العذاب تعرف أنها ساقطة من رأس، فإن العذاب الخالد أثر وخاصة لصورة الشقاء الذي لزمت الانسان الشقي فتصور ذاته بها بعد تمامية الاستعداد الشديد الذي حصل في ذاته القابلة لها بواسطة الاحوال العارضة لها المنتهية إلى اختياره، واشتداد الاستعداد التام هو الذي يوجب في جميع الحوادث إفاضة الصورة المناسبة لسنخ الاستعداد، فكما لا يجوز السؤال عن علة تحقق الافعال الانسانية بعد ورود الصورة الانسانية على المادة لوجود العلة التي هي الصورة الانسانية كذلك لا معنى للسؤال عن لمية ترتب آثار الشقاء اللازم، ومنها العذاب المخلد بعد تحقق صورة الشقاء اللازم، المنتهية إلى الاختيار فإنها آثارها وخواصها فبطلت السؤالات جميعا، فهذا هو الجواب الاجمالي عنها. وأما تفصيلا: فالجواب عن الاول: أن الرحمة فيه تعالى ليس بمعنى رقة القلب والاشفاق والتاثر الباطني فإنها تستلزم المادة - تعالى عن ذلك -، بل معناها العطية والافاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل، فإن المستعد بالاستعداد التام الشديد يحب ما يستعد له ويطلبه ويسئله بلسان استعداده فيفاض عليه ما يطلبه ويسئله، والرحمة رحمتان: رحمة عامة، وهي أعطاء ما يستعد له الشئ ويشتاقه في صراط الوجود والكينونة، ورحمة خاصة، وهي إعطاء ما يستعد الشئ في صراط الهداية إلى التوحيد وسعادة القرب وإعطاء صورة الشقاء اللازم الذي أثره العذاب الدائم للانسان المستعد له باستعداده الشديد لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها، وأما الرحمة الخاصة فلا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها، فقول القائل: إن العذاب الدائم ينافي الرحمة إن أراد به الرحمة العامه فليس كذلك بل هو من الرحمة العامة، وإن إراد به الرحمة الخاصة فليس كذلك لكونه ليس موردا لها، على أن الاشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضا حتى أنواع العذاب الدنيوي، وهو ظاهر. والجواب عن الثاني: أنه ينبغي أن يحرر معنى عدم ملائمة الطبع فإنه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع والاثر الموجود عنده وهو الفعل القسري الذي يصدر

[ 415 ]

عن قسر القاسر ويقابله الاثر الملائم الذي يصدر عن طبع الشئ إذا اقترن به آفات ثم رسخت فيه فصارت صورة في الشئ وعاد الشئ يطلبه بهذا الوجود وهو في عين الحال لا يحبه كما مثلنا فيه من مثال الماليخوليائي فهذه الاثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث والآثار الصادرة عن الطباع ملائمة، وهي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها لكون الشئ لا يرتضيها فهي غير مرضية من حيث الذوق والوجدان في عين كونها مرضية من حيث الصدور. والجواب عن الثالث: أن العذاب في الحقيقة ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة، وهو صورة الشقاء فهذا الاثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة، وهي المخالفات المحدودة، وليس معلولا لتلك العلل المعدة المحدودة حتى يلزم تأثير المتناهي أثرا غير متناه وهو محال ونظيره أن عللا معدة ومقربات معدودة محدودة أوجبت أن تتصور المادة بالصورة الانسانية فيصير إنسانا يصدر عنه آثار الانسانية المعلولة للصورة المذكورة، ولا معنى لان يسئل ويقال: أن الآثار الانسانية الصادرة عن الانسان بعد الموت صدورا دائميا سرمديا لحصول معدات محدودة مقطوعة الامر للمادة فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سببا لصدور الآثار المذكورة وبقائها مع الانسان دائما لان علتها الفاعلة - وهي الصورة الانسانية موجودة معها دائما على الفرض، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضا. والجواب عن الرابع: أن الخدمة والعبودية أيضا مثل الرحمة على قسمين: عبودية عامة، وهو الخضوع والانفعال الوجودي عن مبدء الوجود، وعبودية خاصة وهو الخضوع والانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد، ولكل من القسمين جزاء يناسبه وأثر يترتب عليه ويخصه من الرحمة، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزائه الرحمة العامة، والنعمة الدائمة والعذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة، والعبودية الخاصة جزائه الرحمة الخاصة، وهي النعمة والجنة وهو ظاهر، على أن هذا الاشكال لو تم لورد في مورد العذاب المنقطع الاخروي بل الدنيوي أيضا. والجواب عن الخامس: أن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الانسان كما عرفت، وإلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقال: في كل موجود: إنه مستند إليه تعالى لا بمعنى الانتقام وتشفي الصدر المستحيل عليه تعالى، نعم الانتقام بمعنى

[ 416 ]

الجزاء الشاق والاثر السيئ الذي يجزي به المولى عبده في مقابل تعديه عن طور العبودية، وخروجه عن ساحة الانقياد إلى عرصة التمرد والمخالفة مما يصدق فيه تعالى لكن لا يستلزم كون العذاب انتقاما بهذا المعنى إشكالا ألبتة. على أن هذا الاشكال أيضا لو تم لورد في مورد العذاب الموقت المنقطع في الآخرة بل في الدنيا أيضا.

(بحث قرآني وروائي متمم للبحث السابق)

 إعلم أن هذا الطريق من الاستدلال على رد الشبهة المذكورة مما استعمل في الكتاب والسنة أيضا، قال تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) اسرى - 20، فالآية كما ترى يجعل العذاب والشكر كليهما من العطية والرحمة وتجعل تحقق كل منهما مرتبطة بارادة العبد وسعيه وهذا بعينه الطريق الذي سلكناه في أصل المسألة ودفع الاشكالات عنها وهناك آيات أخر في هذا المعنى سنتكلم فيها في مواردها، إنشاء الله تعالى. يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين - 168. إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون - 169. وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أو لو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون - 170. ومثل الذين

[ 417 ]

كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء وندآء صم بكم عمي فهم لا يعقلون - 171.

(بيان)

 قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا إلى آخر الآيتين، الحلال مقابل الحرام الممنوع اقتحامه، والحل مقابل الحرمة، والحل مقابل حرم، والحل مقابل العقد، وهو في جميع موارد استعماله يعطي معنى حرية الشئ في فعله وأثره، والطيب - مقابل الخبيث - ما يلائم النفس والشئ، كالطيب من القول لملائمتة السمع، والطيب من العطر يلائم الشامة، والطيب من المكان يلائم حال المتمكن فيه. والخطوات بضمتين جمع خطوة، وهي ما بين القدمين للماشي، وقرء خطوات بفتحتين وهي جمع خطوة، وهي المرة، وخطوات الشيطان هي الامور التي نسبته إلى غرض الشيطان - وهو الاغواء بالشرك - نسبة خطوات الماشي إلى مقصده وغرضه، فهي الامور التي هي مقدمات للشرك والبعد من الله سبحانه، والامر هو تحميل الآمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده، والامر من الشيطان وسوسته وتحميله ما يريده من الانسان عليه باخطاره في قلبه وتزيينه في نظره والسوء ما ينافره الانسان ويستقبحه بنظر الاجتماع فإذا جاوز حده وتعدى طوره كان فحشاء ولذلك سمي الزنا بالفحشاء وهو مصدر كالسراء والضراء. وقد عمم تعالى الخطاب لجميع الناس لان الحكم الذي يقرعه سمعهم ويبينه لهم مما يبتلي به الكل، أما المشركون: فقد كان عندهم امور مما حرموه على أنفسهم افتراء على الله كما روي أن ثقيفا وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والانعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، هذا في العرب، وفي غيرهم أيضا يوجد أشياء كثيرة من هذا القبيل، وأما المؤمنون: فربما كان يبقى بعد الاسلام بينهم امور خرافية طبق ناموس توارث الاخلاق والآداب القومية والسنن المنسوخة بنواسخ غير تدريجية كالاديان والقوانين وغيرهما فان كل طريقة جديدة دينية

[ 418 ]

أو دنيوية إذا نزلت بدار قوم فانما تتوجه أول ما تتوجه إلى اصول الطريقة القديمة وأعراقها فتقطعه فان دامت على حيوتها وقوتها - وذلك بحسن التربية وحسن القبول - أماتت الفروع وقطعت الاذناب وإلا فاختلطت بقايا من القديمة بالحديثة والتئمت بها وصارت كالمركب النباتي، ما هو بهذا ولاذاك. فأمر تعالى الناس أن يأكلوا مما في الارض، والاكل هو البلع عن مضغ وربما يكنى بالاكل عن مطلق التصرف في الاموال لكون الاكل هو الاصل في أفعال الانسان والركن في حيوته كما قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض) النساء - 29، والآية لا تأبى الحمل على هذا المعنى الوسيع لاطلاقها، والمعنى كلوا وتصرفوا وتمتعوا مما في الارض من النعم الالهية التي هيأته لكم طبيعة الارض باذن الله وتسخيره أكلا حلالا طيبا، أي لا يمنعكم عن أكله أو التصرف فيه مانع من قبل طبائعكم وطبيعة الارض، كالذي لا يقبل بطبعه الاكل، أو الطبع لا يقبل أكله، ولا تنفر طبائعكم عن أكله مما يقبل الطبع أكله لكن ينافره ويأبى عنه السليقة كالاكل الذي توسل إليه بوسيلة غير جائزة. فقوله تعالى: كلوا مما في الارض حلالا طيبا، يفيد الاباحة العامة من غير تقييد واشتراط فيه إلا أن قوله ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إلخ يفيد: أن هيهنا امورا تسمى خطوات الشيطان - متعلقة بهذا الاكل الحلال الطيب - إما كف عن الاكل اتباعا للشيطان، وإما إقدام عليه اتباعا للشيطان، ثم ذكر ضابط ما يتبع فيه الشيطان بأنه سوء وفحشاء، وقول ما لا يعلم على الله سبحانه وإذا كان الكف غير جائز إلا برضى من الله تعالى فالفعل أيضا كذلك فليس الاكل مما في األرض حلالا طيبا إلا أن يأذن الله تعالى ويشرعه وقد شرعه بهذه الآية ونظائرها ولا يمنع عنه بنهي أو ردع كما سيأتي من قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم الآية) فرجع معنى الآية - والله اعلم - إلي نحو قولنا كلوا مما في الارض من نعم الله المخلوقة لكم فقد جعله الله لكم حلالا طيبا ولا تتركوا بعضا منها كفا وامتناعا فيكون سوء وفحشاء وقولا بغير علم أي تشريعا ليس لكم ذلك وهو اتباع خطوات الشيطان. فالآية تدل أولا: على عموم الحلية في جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل فان لله سبحانه المنع فيما له الاذن فيه.

[ 419 ]

وثانيا: على أن الامتناع مما أحله الله من غير دليل علمي تشريع محرم. وثالثا: على أن المراد من اتباع خطوات الشيطان التعبد لله بما لم يأذن في التعبد بذلك فانه لم ينه عن المشي والسلوك لكن عن المشي الذي يضع فيه الانسان قدمه موضع قدم الشيطان فينطبق مشيته على مشيته فيكون متبعا لخطواته، ومن هنا يعلم أن عموم التعليل، وهو قوله إنما يأمركم (الخ) وإن اقتضى المنع عن الاقتحام في فعل بغير علم كما يقتضي المنع عن الامتناع بغير علم لكنه ليس بمراد في الخطاب فانه ليس من اتباع خطوات الشيطان وإن كان اتباعا للشيطان. قوله تعالى: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون، السوء والفحشاء يكونان في الفعل، وفي مقابلة القول، وبذلك يظهر: أن ما يأمر به الشيطان ينحصر في الفعل الذي هو سوء وفحشاء، والقول الذي هو قول بغير علم. قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا، الالفاء الوجدان أي وجدنا عليه آبائنا، والآية تشهد بما استفدناه من الآية السابقة في معنى خطوات الشيطان. قوله تعالى: أو لو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، جواب عن قولهم، وبيانه أنه قول بغير علم ولا تبين، وينافيه صريح العقل فان قولهم: بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا قول مطلق أي نتبع آبائنا على أي حال وعلى أي وصف كانوا، حتى لو لم يعلموا شيئا ولم يهتدوا ونقول ما فعلوه حق، وهذا هو القول بغير علم، ويؤدي إلى القول بما لا يقول به عاقل لو تنبه له ولو كانوا اتبعوا آبائهم فيما علموه واهتدوا فيه وهم يعلمون: إنهم علموا واهتدوا فيه لم يكن من قبيل الاهتداء بغير علم. ومن هنا يعلم: أن قوله تعالى: لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، ليس واردا مورد المبالغة نظرا إلى أن سلب مطلق العلم عن آبائهم مع كونهم يعلمون أشياء كثيرة في حيوتهم لا يحتمل إلا المبالغة. وذلك أن الكلام مسوق سوق الفرض بإبداء تقدير لا يقول بجواز الا تباع فيه قائل ليبطل به إطلاق قولهم نتبع ما ألفينا عليه آبائنا وهو ظاهر. قوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء،

[ 420 ]

المثل هو الكلام السائر والمثل هو الوصف كقوله تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) الفرقان - 9، والنعيق صوت الراعي لغنمه زجرا يقال: نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا، والنداء مصدر نادى ينادي مناداه وهو أخص من الدعاء ففيه معنى الجهر بالصوت ونحوه بخلاف الدعاء، والمعنى - والله أعلم - ومثلك في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلا دعاء ونداء ما، فينزجر بمجرد قرع الصوت سمعه من غير أن يعقل شيئا فهم صم لا يسمعون كلاما يفيدهم، وبكم لا يتكلمون بما يفيد معنى، وعمى لا يبصرون شيئا فهم لا يعقلون شيئا لان الطرق المؤدية إلى التعقل مسدودة عليهم. ومن ذلك يظهر إن في الكلام قلبا أو عناية أخرى يعود إليه فإن المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى إلا أن الاوصاف الثلاثة التي استنتج واستخرج من المثل وذكرت بعده، وهي قوله: صم بكم عمى فهم لا يعقلون، لما كانت أو صافا للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحق استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذيكفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب.

(بحث روائي)

 في تهذيب عن عبد الرحمن، قال: سئلت أبا عبد الله عن رجل حلف أن ينحر ولده قال: ذلك من خطوات الشيطان. وعن منصور بن حازم أيضا قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام - أما سمعت بطارق إن طارقا كان نخاسا بالمدينة فأتى أبا جعفر فقال يا أبا جعفر أني حلفت بالطلاق والعتاق والنذر ؟ فقال له يا طارق إن هذا من خطوات الشيطان. وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام قال: كل يمين بغير الله فهو من خطوات الشيطان. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: إذا حلف الرجل على شئ - والذي حلف

[ 421 ]

عليه اتيانه خير من تركه: فليأت الذي هو خير ولا كفارة له، وإنما ذلك من خطوات الشيطان. اقول: والاحاديث كما ترى مبنية على كون المراد من خطوات الشيطان الاعمال التي يتقرب بها وليست بمقربة لعدم العبرة بها شرعا كما ذكرناه في البيان السابق نعم في خصوص الطلاق ونحوه وجه آخر للبطلان وهو التعليق المنافي للانشاء، والمسألة فقهية، والمراد باليمين بغير الله هو اليمين الذي يترتب عليه أثر اليمين الشرعي أو القسم بما لم يقسم به الله ولم يثبت له كرامة شيئا. وفي المجمع عن الباقرفي قوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق الآية قال: أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الايمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم وإنما تسمع الصوت

(بحث اخلاقي واجتماعي)

 الآراء والعقائد التي يتخذها الانسان أما نظرية لا تعلق لها بالعمل من غير واسطة كالمسائل المتعلقة بالرياضيات والطبيعيات، وما وراء الطبيعة، وأما عملية متعلقة بالعمل بلا واسطة كالمسائل المتعلقة بما ينبغي فعله وما لا ينبغي، والسبيل في القسم الاول هو اتباع العلم واليقين المنتهي إلى برهان أو حس، وفي القسم الثاني اتباع ما يوصل إلى الخير الذي فيه سعادة الانسان أو النافع فيها، وإجتناب ما ينتهي إلى شقائه أو يضره في سعادته، وأما الاعتقاد بما لا علم له بكونه حقا في القسم الاول، والاعتقاد بما لا يعلم كونه خيرا أو شرا فهو اعتقاد خرافي. والانسان لما كانت آرائه منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن علل الاشياء والطبيعة الباعثة له إلى الاستكمال بما هو كماله حقيقة فإنه لا تخضع نفسه إلى الرأى الخرافي المأخوذ على العمياء وجهلا إلا أن العواطف النفسانية والاحساسات الباطنية التي تثيرها الخيال - وعمدتها الخوف والرجاء - ربما أوجبت له القول بالخرافة من جهة أن الخيال يصور له صورا يستصحب خوفا أو رجاء فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء، ولا يدعها تغيب عن النفس الخائفة أو الراجية، كما أن الانسان إذا أحل

[ 422 ]

واديا - وهو وحده بلا أنيس والليل داج مظلم والبصر حاسر عن الادراك - فلا مؤمن يؤمنه بتميز المخاطر من غيرها بضياء ونحوه فترى أن خياله يصور له كل شبح يترائى له غولا مهيبا يقصده بالاهلاك أو روحا من الارواح، وربما صور له حركة وذهابا وإيابا وصعودا في السماء ونزولا إلى الارض، وأشكالا وتماثيل ثم لا يزال الخيال يكرر له هذا الشبه المجعول كلما ذكره وحاله حاله من الخوف، ثم ربما نقله لغيره فأوجد فيه حالا نظير حاله ولا يزال ينتشر - وهو موضوع خرافي لا ينتهي إلى حقيقة -. وربما هيج الخيال حسن الدفاع من الانسان أن يضع أعمالا لدفع شر هذا الموجود الموهوم ويحث غيره على العمل بها للامن من شره فيذهب سنه خرافية. ولم يزل الانسان منذ أقدم أعصار حيوته مبتلى بآراء خرافية حتى اليوم وليس كما يظن من أنها من خصائص الشرقيين فهي موجودة بين الغربيين مثلهم لو لم يكونوا أحرص عليها منهم. ولا يزال الخواص من الانسان - وهم العلماء - يحتالون في إمحاء رسوم هذه الخرافات المتمكنة في نفوس العامة من الناس بلطائف حيلهم التي توجب تنبه العامة وتيقظهم في أمرها، وقد أعيا الداء الطبيب فإن الانسان لا يخلو من التقليد والاتباع في الآراء النظرية والمعلومات الحقيقية من جانب ومن الاحساسات والعواطف النفسانية من جانب آخر، وناهيك في ذلك أن العلاج لم ينجح إلى اليوم. وأعجب من الجميع ما يراه في ذلك إهل الحضارة وعلماء الطبيعة اليوم ! فقد ذكروا أن العلم اليوم يبني أساسه على الحس والتجربة ويدفع ما دون ذلك، والمدنية والحضارة تبني أساسه على استكمال الاجتماع في كل كمال ميسور ما استيسر، وبنوا التربية على ذلك. مع أن ذلك - وهو عجيب - نفسه من اتباع الخرافة فإن علوم الطبيعة إنما تبحث عن خواص الطبيعة وتثبتها لموضوعاتها، وبعبارة أخرى هذه العلوم المادية إنما تكشف دائما عن خبايا خواص المادة، وأما ما وراء ذلك فلا سبيل لها إلى نفيه وإبطاله فالاعتقاد بانتفاء ما لا تناله الحس والتجربة من غير دليل من أظهر الخرافات. وكذلك بناء المدنية على استكمال الاجتماع المذكور فإن هذا الاستكمال والنيل

[ 423 ]

بالسعادة الاجتماعية ربما يستلزم حرمان بعض الافراد من سعادته الحيوية الفردية كتحمل القتل والتفدية في الدفاع عن الوطن أو القانون أو المرام، والمحرومية من سعادة الشخص لاجل وقاية حريم الاجتماع فهذه الحرمانات لا يقدم فيها الانسان إلا عن عقيدة الاستكمال، وأن يراها كمالات - وليست كمالات لنفسه - بل عدم وحرمان لها، وإنما هي كمالات - لو كانت كمالات - للمجتمع من حيث هو مجتمع وإنما يريد الانسان الاجتماع لاجل نفسه لا نفسه لاجل الاجتماع، ولذلك كله ما احتالت هذه الاجتماعات لافرادها فلقنوهم أن الانسان يكتسب بالتفدية ذكرا جميلا واسما باقيا على الفخر دائما وهو الحيوة الدائمة، وهذه خرافة، وأي حيوة بعد البطلان والفناء غير أنا نسميه حيوة، تسمية ليس ورائها شئ. ومثلها القول: إن الانسان يجب له تحمل مر القانون والصبر على الحرمان في بعض ما يشتهيه نفسه ليتحفظ به الاجتماع فينال كماله في الباقي فيعتقد أن كمال الاجتماع كماله، وهذه خرافة، فإن كمال الاجتماع إنما هو كماله فيما يتطابق الكمالان وأما غير ذلك فلا، فأي موجب على فرد بالنسبة إلى كماله، أو اجتماع قوم بالنسبة إلى اجتماع الدنيا إذا قدر على نيل ما يبتغيه من آماله ولو بالجور وفاق في القوة والاستطاعة من غير مقاوم يقاومه أن يعتقد أن كمال الاجتماع كماله والذكر الجميل فخاره ؟ كما أن أقوياء الامم لا يزالون على الانتفاع من حيوة الامم الضعيفة، فلا يجدون منهم موطئا إلا وطئوة، ولا منالا إلا نالوه، ولا نسمة إلا استرقوه واستعبدوه، وهل ذلك إلا علاجا لمزمن الداء بالافناء. وأما ما سلكه القرآن في ذلك فهو أمره باتباع ما أنزل الله والنهي عن القول بغير علم، هذا في النظر، وأما في العمل فأمره بابتغاء ما عند الله فيه فإن كان مطابقا لما يشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا والآخرة وإن كان فيه حرمانها، فعند الله عظيم الاجر، وما عند الله خير وأبقى. والذي يقوله أصحاب الحس: أن اتباع الدين تقليد يمنع عنه العلم وأنه من خرافات العهد الثاني من العهود الاربعة المارة على نوع الانسان (وهي عهد الاساطير وعهد المذهب وعهد الفلسفة وعهد العلم، وهو الذي عليه البشر اليوم من اتباع العلم ورفض الخرافات) فهو قول بغير علم ورأي خرافي.

[ 424 ]

أما أن اتباع الدين تقليد فيبطله: أن الدين مجموع مركب من معارف المبدء و المعاد، ومن قوانين اجتماعية من العبادات والمعاملات مأخوذه من طريق الوحي والنبوة الثابت صدقه بالبرهان والمجموعة من الاخبار التي أخبر بها الصادق صادقة واتباعها اتباع للعلم لان المفروض العلم بصدق مخبرها بالبرهان، وقد مر في البحث التالي لقوله تعالى (وإذ قال موسى لقومه أن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) البقرة - 67، كلام في التقليد فارجع. ومن العجيب أن هذا القول قول من ليس بيده في أصول الحيوة وسنن الاجتماع: من مأكله ومشربه وملبسه ومنكحه ومسكنه وغير ذلك إلا التقليد على العمى واتباع الهوى من غير تثبت وتبين، نعم اختلقوا للتقليد اسما آخر وهو اتباع السنة الذي ترتضيه الدنيا الراقية فصار التقليد بذلك ممحو الاسم ثابت الرسم، مهجور اللفظ، مأنوس المعني، وكان (ألق دلوك في الدلاء) شعارا علميا ورقيا مدنيا وعاد (ولا تتبع الهوى فيضلك) تقليدا دينيا وقولا خرافيا. وأما تقسيمهم سير الحيوة الانسانية إلى أربعة عهود فما بأيدينا من تاريخ الدين والفلسفة يكذبه فإن طلوع دين إبراهيم إنما كان بعد عهد الفلسفة بالهند ومصر وكلدان ودين عيسى بعد فلسفة يونان وكذا دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم - وهو الاسلام - كان بعد فلسفة يونان وإسكندرية، وبالجملة غاية أوج الفلسفة كانت قبل بلوغ الدين أوجه. وقد مر فيما مر أن دين التوحيد يتقدم في عهده على جميع الاديان الاخر. والذي يرتضيه القرآن من تقسيم تاريخ الانسان هو تقسيمه إلى عهد السذاجة ووحدة الامم وعهد الحس والمادة، وسيجئ بيانه في الكلام على قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) البقرة - 213. يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون - 172. إنما حرم عليكم الميته والدم

[ 425 ]

ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم - 173، إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم - 174. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار - 175. ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد - 176.

(بيان)

 قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، خطاب خاص بالمؤمنين بعد الخطاب السابق للناس فهو من قبيل انتزاع الخطاب من الخطاب، كأنه انصراف عن خطاب جماعة ممن لا يقبل النصح ولا يصغي إلى القول، والتفات إلى من يستجيب الداعي لايمانه به والتفاوت الموجود بين الخطابين ناش من تفاوت المخاطبين، فان المؤمنين بالله لما كان يتوقع منهم القبول بدل قوله: ما في الارض حلالا طيبا من قوله: طيبات ما رزقناكم، وكان ذلك وسيلة إلى أن يطلب منهم الشكر لله وحده لكونهم موحدين لا يعبدون إلا الله سبحانه، ولذلك بعينه قيل: ما رزقناكم ولم يقل: ما رزقتم أو ما في الارض ونحوه، لما فيه من الايماء أو الدلالة على كونه تعالى معروفا لهم قريبا منهم حنينا رؤوفا بهم، والظاهر أن يكون قوله: من طيبات ما رزقناكم، من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف لا من قبيل قيام الصفة مقام الموصوف فان المعنى على الاول كلوا من رزقنا الذي كله طيب، وهو المناسب لمعنى التقرب والتحنن الذي يلوح من المقام، والمعنى على الثاني كلوا من طيب الرزق لا من خبيثه، وهو بعيد المناسبة عن المقام الذي هو مقام رفع الحظر، والنهي عن الامتناع عن بعض ما رزقهم الله سبحانه

[ 426 ]

تشريعا من عند أنفسهم وقولا بغير علم. قوله تعالى: واشكروا لله أن كنتم إياه تعبدون، لم يقل واشكروا لنا بل اشكرو الله ليكون أدل على الامر بالتوحيد ولذلك أيضا قيل: إن كنتم أياه تعبدون فدل على الحصر والقصر ولم يقل إن كنتم تعبدونه. قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله الاهلال لغير الله هو الذبح لغيره كالاصنام. قوله تعالى: فمن اضطر غير باغ ولا عاد، أي غير ظالم ولا متجاوز حده، وهما حالان عاملهما الاضطرار فيكون المعنى فمن اضطر إلى أكل شئ مما ذكر من المنهيات اضطرارا في حال عدم بغيه وعدم عدوه فلا ذنب له في الاكل، وأما لو اضطر في حال البغي والعدو كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار فلا يجوز له ذلك، وقوله تعالى: إن الله غفور رحيم، دليل على أن التجوز تخفيف ورخصة منه تعالى للمؤمنين وإلا فمناط النهي موجود في صورة الاضطرار أيضا. قله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، تعريض لاهل الكتاب إذ عندهم شئ كثير من المحللات الطيبة التي حرمها كبرائهم ورؤسائهم في العبادات وغيرها - وعندهم الكتاب الذي لا يقضي فيه بالتحريم - ولم يكتموا ما كتموه إلا حفظا لما يدر عليهم من رزق الرئاسة وابهة المقام والجاه والمال. وفي الآية من الدلالة على تجسم الاعمال وتحقق نتائجها ما لا يخفى فإنه تعالى ذكر أولا أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النار في بطونهم ثم بدل اختيار الكتمان وأخذ الثمن على بيان ما أنزل الله في الآية التاليه من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة ثم ختمها بقوله: فما أصبرهم على النار، والذي كان منهم ظاهرا هو الادامة للكتمان والبقاء عليها فافهم.

(بحث روائي)

 في الكافي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد الآية، قال:

[ 427 ]

الباغي باغي الصيد، والعادي السارق ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين وليس لهما أن يقصرا في الصلوة. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال الباغي الظالم، والعادي الغاصب. وعن حماد عنه عليه السلام قال: الباغي الخارج على الامام والعادي اللص. وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام وأبى عبد الله عليه السلام: غير باغ على إمام المسلمين ولا عاد بالمعصية طريق المحقين. أقول: والجميع من قبيل عد المصاديق، وهي تؤيد المعنى الذي استفدناه من ظاهر اللفظ. وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: فما أصبرهم على النار الآية. قال: ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار. وفي المجمع عن علي بن ابراهيم عن الصادق عليه السلام قال: ما أجرأهم على النار. وعن الصادق عليه السلام: ما أعملهم بأعمال أهل النار. اقول: والروايات قريبة المعاني ففي الاولى تفسير الصبر على النار بالصبر على سبب النار، وفي الثانية تفسير الصبر على النار بالجرئة عليها وهي لازمة للصبر، وفي الثالثة تفسير الصبر على النار بالعمل بما يعمل به أهل النار ومرجعه إلى معنى الرواية الاولى. ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وآتى الزكوة والموفون بعهدهم إذا

[ 428 ]

عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون - 177.

(بيان)

 قيل: كثر الجدال والخصام بين الناس بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وطالت المشاجرة فنزلت الآية. قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، البر بالكسر التوسع من الخير والاحسان، والبر بالفتح صفة مشبهة منه، والقبل بالكسر فالفتح الجهة ومنه القبلة وهي النوع من الجهة، وذووا القربى الاقرباء، واليتامى جمع يتيم وهو الذي لا والد له، والمساكين جمع مسكين وهو أسوأ حالا من الفقير، وابن السبيل المنقطع عن أهله، والرقاب جمع رقبة وهي رقبة العبد، والبأساء مصدر كالبؤس وهو الشدة والفقر، والضراء مصدر كالضر وهو أن يتضرر الانسان بمرض أو جرح أو ذهاب مال أو موت ولد، والبأس شده الحرب. قوله تعالى: ولكن البر من آمن بالله، عدل عن تعريف البر بالكسر إلى تعريف البر بالفتح ليكون بيانا وتعريفا للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم وإيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق ولا فضل فيه، وهذا دأب القرآن في جميع بياناته فانه يبين المقامات ويشرح الاحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب. وبالجملة قوله ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، تعريف للابرار وبيان لحقيقة حالهم، وقد عرفهم أولا في جميع المراتب الثلاث من الاعتقاد والاعمال والاخلاق بقوله: (من آمن بالله) وثانيا بقوله: (أولئك الذين صدقوا) وثالثا بقوله: (وأولئك هم المتقون). فأما ما عرفهم به أولا فابتدء فيه بقوله تعالى: من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وهذا جامع لجميع المعارف الحقة التي يريد الله سبحانه من عباده الايمان بها، والمراد بهذا الايمان الايمان التام الذي لا يتخلف عنه أثره، لا

[ 429 ]

في القلب بعروض شك أو اضطراب أو اعتراض أو سخط في شئ مما يصيبه مما لا ترتضيه النفس، ولا في خلق ولا في عمل، والدليل على أن المراد به ذلك قوله في ذيل الايه (أولئك الذين صدقوا) فقد أطلق الصدق ولم يقيده بشئ من أعمال القلب والجوارح فهم مؤمنون حقا صادقون في إيمانهم كما قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء - 68، وحينئذ ينطبق حالهم على المرتبة الربعة من مراتب الايمان التي مر بيانها في ذيل قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت) البقرة - 131. ثم ذكر تعالى نبذا من أعمالهم بقوله: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وآتى الزكوة، فذكر الصلوة - وهي حكم عبادي - وقد قال تعالى: (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت - 45، وقال: (وأقم الصلوة لذكرى) طه - 14، وذكر الزكوة - وهي حكم مالي فيه صلاح المعاش - وذكر قبلهما إيتاء المال وهو بث الخير ونشر الاحسان غير الواجب لرفع حوائج المحتاجين وإقامة صلبهم. ثم ذكر سبحانه نبذا من جمل أخلاقهم بقوله: والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، فالعهد هو الالتزام بشئ والعقد له - وقد أطلقه تعالى - وهو مع ذلك لا يشمل الايمان والالتزام بأحكامه كما توهمه بعضهم - لمكان قوله إذا عاهدوا، فان الالتزام بالايمان ولوازمه لا يقبل التقيد بوقت دون وقت - كما هو ظاهر - ولكنه يشتمل بإطلاقه كل وعد وعده الانسان وكل قول قاله التزاما كقولنا: لافعلن كذا ولاتركن وكل عقد عقد به في المعاملات والمعاشرات و نحوها، والصبر هو الثبات على الشدائد حين تهاجم المصائب أو مقارعة الاقران، وهذان الخلقان وإن لم يستوفيا جميع الاخلاق الفاضلة غير أنهما إذا تحققا تحقق ما دونهما، والوفاء بالعهد والصبر عند الشدائد خلقان يتعلق أحدهما بالسكون والاخر بالحركة وهو الوفاء فالاتيان بهذين الوصفين من أوصافهم بمنزلة أن يقال: إنهم إذا قالوا قولا أقدموا عليه ولم يتجافوا عنه بالزوال. وأما ما عرفهم به ثانيا بقوله: أولئك الذين صدقوا، فهو وصف جامع لجمل فضائل العلم والعمل فان الصدق خلق يصاحب جميع الاخلاق من العفة والشجاعة

[ 430 ]

والحكمة والعدالة وفروعها فان الانسان ليس له إلا الاعتقاد والقول والعمل، وإذا صدق تطابقت الثلاثة فلا يفعل إلا ما يقول ولا يقول إلا ما يعتقد، والانسان مفطور على قبول الحق والخضوع له باطنا وإن أظهر خلافه ظاهرا فإذا أذعن بالحق وصدق فيه قال ما يعتقده وفعل ما يقوله وعند ذلك تم له الايمان الخالص والخلق الفاضل والعمل الصالح، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) التوبة - 120، والحصر في قوله أولئك الذين صدقوا، يؤكد التعريف وبيان الحد، والمعنى - والله أعلم - إذا أردت الذين صدقوا فاولئك هم الابرار. وأما ما عرفهم به ثالثا بقوله: وأولئك هم المتقون، الحصر لبيان الكمال فان البر والصدق لو لم يتما لم يتم التقوى. والذى بينه تعالى في هذه الآية من الاوصاف الابرار هي التي ذكرها في غيرها. قال تعالى: (إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله - إلى أن قال - وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) الدهر - 12، فقد ذكر فيها الايمان بالله واليوم الآخر والانفاق لوجه الله والوفاء بالعهد والصبر، وقال تعالى أيضا: (كلا إن كتاب الابرار لفى عليين وما أدريك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون. إن الابرار لفي نعيم - إلى أن قال - يسقون من رحيق مختوم - إلى أن قال - عينا يشرب بها المقربون) المطففين - 28، بالتطبيق بين هذه الآيات والآيات السابقة عليها يظهر حقيقة وصفهم ومآل أمرهم إذا تدبرت فيها، وقد وصفتهم الآيات بأنهم عباد الله وأنهم المقربون، وقد وصف الله سبحانه عباده فيما وصف بقوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) الحجر - 42، ووصف المقربين بقوله: (والسابقون السابقون. أولئك المقربون في جنات النعيم) الواقعة - 12، فهؤلاء هم السابقون في الدنيا إلى ربهم السابقون في الآخرة إلى نعيمه، ولو أدمت البحث عن حالهم فيما تعطيه الآيات لوجدت عجبا. وقد بان مما مر أن الابرار أهل المرتبة العالية من الايمان، وهي المرتبة الرابعة على ما مر بيانه سابقا، قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) الانعام - 82.

[ 431 ]

وقوله تعالى: والصابرين في البأساء، منصوب على المدح إعظاما لامر الصبر، وقد قيل إن الكلام إذا طال بذكر الوصف بعد الوصف فمذهبهم ان يعترضوا بين الاوصاف بالمدح والذم، واختلاف الاعراب بالرفع والنصب. (بحث روائي) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من عمل بهذه الآية فقد استكمل الايمان. أقول: ووجهه واضح بما بيناه، وقد نقل عن الزجاج والفراء إنهما قالا: إن الآية مخصوصة بالانبياء المعصومين لان هذه الاشياء لا يأتيها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الانبياء انتهي، وهو ناش من عدم التدبر فيما تفيده الت يات والخلط بين المقامات المعنوية، وقد أنزلت آيات سورة الدهر في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماهم الله فيها أبرار وليسوا بأنبياء. نعم خطرهم عظيم، وقد وصف الله حال اولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض، ثم ذكر مسألتهم أن يلحقهم الله بالابرار، قال: (وتوفنا مع الابرار) آل عمران - 193. وفي الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي عن أبي عامر الاشعري قال: قلت: يا رسول الله ما تمام البر، قال أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية. وفي المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام: ذوي القربي قرابع النبي. اقول: وكأنه من قبيل عد المصداق بالنظر إلى آية القربى. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام الفقير الذي لا يسأل الناس والمسكين أجهد منه والبائس أجدهم. وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام: ابن السبيل، المنقطع به. وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته وقد أدى بعضها، قال عليه السلام: يؤدي عنه من مال الصدقة فإن الله عز وجل يقول: وفي الرقاب. وفي تفسير القمي: في قوله: (والصابرين في البأساء والضراء قال: عليه السلام في الجوع والعطش والخوف، وفي قوله وحين البأس قال: قال عليه السلام، عند القتال.

[ 432 ]

يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى با لانثى فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم - 178. ولكم في القصاص حيوة يا أولي الالباب لعلكم تتقون - 179.

(بيان)

 قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، في توجيه الخطاب إلى المؤمنين خاصة إشارة إلى كون الحكم خاصا بالمسلمين، وأما غيرهم من أهل الذمة وغيرهم فالآية ساكتة عن ذلك. ونسبة هذه الآية إلى قوله تعالى: (أن النفس بالنفس) المائدة - 48، نسبة التفسير، فلا وجه لما ربما يقال، إن هذه الآية ناسخة لتلك الآية فلا يقتل حر بعبد ولا رجل بمرأة. وبالجملة القصاص مصدر، قاص يقاص، من قص أثره إذا تبعه ومنه القصاص لمن يحدث بالآثار والحكايات كأنه يتبع آثار الماضين فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنايته فيوقع عليه مثل ما اوقعه على غيره. قوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شئ، المراد بالموصول القاتل، والعفو للقاتل إنما يكون في حق القصاص فالمراد بالشئ هو الحق، وفي تنكيره تعميم للحكم أي أي حق كان سواء كان تمام الحق أو بعضه كما إذا تعدد أولياء الدم فعفى بعضهم حقه للقاتل فلا قصاص حينئذ بل الدية، وفي التعبير عن ولي الدم بالاخ إثارة لحس المحبة والرأفة وتلويح إلى أن العفو أحب.

[ 433 ]

قوله تعالى: فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، مبتدء خبره محذوف أي فعليه أن يتبع القاتل في مطالبة الدية بمصاحبة المعروف، من الاتباع و پعلى القاتل أن يؤدي الدية إلى أخيه ولي الدم بالاحسان من غير مماطلة فيها إيذائه. قوله تعالى: ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، أي الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم فلا يتغير فليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو فيكون اعتداء فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم. قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب لعلكم تتقون، إشارة إلى حكمة التشريع، ودفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو والدية وبيان المزية والمصلحة التي في العفو وهو نشر الرحمة وإيثار الرأفة ان العفو اقرب إلى مصلحة الناس، وحاصله أن العفو ولو كان فيه ما فيه من التخفيف والرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بالقصاص فإن الحيوة لا يضمنها إلا القصاص دون العفو والدية ولا كل شئ مما عداهما، يحكم بذلك الانسان إذا كان ذا لب وقوله لعلكم تتقون، أي القتل وهو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص. وقد ذكروا: أن الجملة أعني قوله تعالى: ولكم في القصاص حيوة الآية على اختصارها وإيجازها وقلة حروفها وسلاسة لفظها وصفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها، وأسماها في بلاغتها فهي جامعة بين قوة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه، ورقة الدلالة وظهور المدلول، وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص تعجبهم بلاغتها وجزالة اسلوبها ونظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع وقولهم: أكثروا القتل ليقل القتل، وأعجب من الجميع عندهم قولهم: القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع ونفت الكل: ولكم في القصاص حيوة فإن الآية أقل حروفا واسهل في التلفظ، وفيها تعريف القصاص وتنكير الحيوة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص وأعظم وهي مشتملة على بيان النتيجة وعلى بيان حقيقة المصلحة وهي الحيوة، وهي متضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحيوة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدوانا ليس يؤدي إلى الحيوة، وهي مشتملة على أشياء اخر غير

[ 434 ]

القتل يؤدي إلى الحيوة وهي أقسام القصاص في غير القتل، وهي مشتملة على معنى زائد آخر، وهو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، وهي مع ذلك متضمنة للحث والترغيب فإنها تدل على حيوة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول: لك في مكان كذا أو عند فلان مالا وثروة، وهي ذلك تشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلا حفظ منافعهم ورعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال: ولكم. فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، وربما ذكر بعضهم وجوها اخرى يعثر عليه المراجع غير أن الآية كلما زدت فيه تدبرا زادتك في تجلياتها بجمالها وغلبتك بهور نورها - وكلمة الله هي العليا.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى الحر بالحر، قال: لا يقتل الحر بالعبد ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم دية العبد وإن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أولياء الرجل. وفي الكافي عن الحلبي عن الصادق عليه السلام: قال سألته عن قوله الله عز وجل فمن تصدق به فهو كفارة له، قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفي، وسألته عن قوله عز وجل: فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، قال: ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية وينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أداه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدي إليه بإحسان، وسئلته عن قول الله عز وجل: فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، قال: هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل كما قال الله عز وجل. اقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة.

(بحث علمي)

 كانت العرب أوان نزول آية القصاص وقبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد وإنما يتبع ذلك قوة القبائل وضعفها فربما قتل الرجل بالرجل والمرأة

[ 435 ]

بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي وربما قتل العشرة بالواحد والحر بالعبد والرئيس بالمرؤوس وربما أبادت قبيلة قبيلة اخرى لواحد قتل منها. وكانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي والعشرين والثاني والعشرين من الخروج والخامس والثلاثين من العدد، وقد حكاه القرآن حيث قال تعالى: (وكتبنا لهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) المائدة - 45. وكانت النصاري على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو والدية، وسائر الشعوب والامم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة وإن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الاخيرة. والاسلام سلك في ذلك مسلكا وسطا بين الالغاء والاثبات فأثبت القصاص وألغى تعينه بل أجاز العفو والدية ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل والمقتول، فالحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى. وقد اعترض على القصاص مطلقا وعلى القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها وإجرائها بين البشر اليوم. قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الانسان وينفر عنه طبعه ويمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة وخدمة للانسانية، وقالوا: إذا كان القتل الاول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد، وقالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة وحب الانتقام، وهذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة ويؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربيه، وذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن والاعمال الشاقة، وقالوا: إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية ويعالج فيها، وقالوا إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع اموجود، ولما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للابد حتى الاجتماعات الراقيه اليوم، ومن اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر، ومن الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة والنتيجة كحبس الابد أو حبس مدة سنين وفيه الجمع

[ 436 ]

بين حقين حق المجتمع وحق أولياء الدم، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل. وقد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، وهي قوله تعالى: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) المائدة - 32. بيان ذلك: أن القوانين الجارية بين أفراد الانسان وإن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الانساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الانسانية الداعية إلى تكميل نقصها ورفع حوائجها التكوينية، وهذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الانسان ولا الهيئة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الانساني بل هي الانسان وطبيعته، وليس بين الواحد من الانسان والالوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان ووزن الواحد والجميع واحد من حيث الوجود. وهذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى وأدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود، وتطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت وإلى أي غاية بلغت حتى القتل والاعدام، ولذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله ولا ينتهي عنه إلا به، وهذه الامم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم وحريتهم وقوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، ويدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل ويتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا وهلاك الحرث والنسل ولا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات وآخرون يتجهزون بما يجاوبهم، وليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع وحفظا لحياته وليس الاجتماع إلا صنيعة من صنايع الطبيعة فما بال الطبيعة يجوز القتل الذريع والافناء والابادة لحفظ صنيعة من صنائعها، وهي الاجتماع المدني ولا تجوزها لحفظ حيوة نفسها ؟ وما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل ولم يفعل ولا تجوزه فيمن هم وفعل ؟ وما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقايع التاريخية، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال

[ 437 ]

ذرة شرا يره ولكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما وتنقض حكم نفسها. على أن الاسلام لا يرى في الدنيا قيمة للانسان يقوم بها ولا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الانساني ووزن الموحد الواحد عنده سيان، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه وهتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية، وأما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين ولو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها - فضلا عن التفوق - الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك. على أن الاسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص وامة معينة، والملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها وحسن صنيع حكوماتها ودلالة الاحصاء في مورد الجنايات والفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة وأن الامة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل والفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ وإذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، والاسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية وأثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق. ويلوح إليه قوله تعالى: في آية القصاص فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، فاللسان لسان التربية وإذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام. وأما غير هؤلاء الامم فالامر فيها على خلاف ذلك والدليل عليه ما نشاهده من حال الناس وأرباب الفجيعة والفساد فلا يخوفهم حبس ولا عمل شاق ولا بصدهم وعظ ونصح، وما لهم من همة ولا ثبات على حق إنساني، والحيوة المعدة لهم في السجون أرفق وأعلى وأسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم ولا ذم، ولا يدهشهم سجن ولا ضرب، وما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الاحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين - والاغلب منهما الثاني - لا يكون إلا القصاص وجواز العفو فلو رقت الامة وربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو (وإلاسلام لا يألو جهده في التربية) ولو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها

[ 438 ]

وفسقت، أخذ فيهم بالقصاص ويجوز معه العفو. وأما ما ذكروه من حديث الرحمة والرأفة بالانسانية فما كل رأفة بمحمودة ولا كل رحمة فضيلة، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القسي والعاصي المتخلف المتمرد والمتعدي على النفس والعرض جفاء على صالح الافراد، وفي استعمالها المطلق إختلال النظام وهلاك الانسانية وإبطال الفضيلة. وأما ما ذكروه أنه من القسوة وحب الانتقام فالقول فيه كسابقة، فالانتقام للمظلوم من ظالمه استظهارا للعدل والحق ليس بمذموم قبيح، ولا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة وسد باب الفساد. وأما ما ذكروه من كون جناية القتل من الامراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الاعذار (ونعم العذر) الموجبة لشيوع القتل والفحشاء ونماء الجناية في الجامعة الانسانية وأي إنسان منا يحب القتل والفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي وعذر مسموع يجب على الحكومة أن يعالجه بعناية ورأفة وأن القوة الحاكمة والتنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل. وأما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الاعمال الاجبارية، ونحوها مع حبسهم ومنعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الاعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الامم ؟ وليس ذلك إلا للاهمية التي يرونها للاعدام في موارده، وقد مر أن الفرد والمجتمع في نظر الطبيعة من حيث الاهمية متساويان. كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين - 180. فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم - 181.

[ 439 ]

فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم - 182.

(بيان)

 قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية، لسان الآية لسان الوجوب فإن الكتابة يستعمل في القرآن في مورد القطع واللزوم ويؤيده ما في آخر الآية من قوله حقا، فإن الحق أيضا كالكتابة يقتضي معنى اللزوم لكن تقييد الحق بقوله على المتقين، مما يوهن الدلالة على الوجوب والعزيمة فإن الانسب بالوجوب أن يقال: حقا على المؤمنين، وكيف كان فقد قيل إن الآية منسوخة بآية الارث، ولو كان كذلك فالمنسوخ هو الفرض دون الندب وأصل المحبوبية، ولعل تقييد الحق بالمتقين في الآية لافادة هذا الغرض. والمراد بالخير المال، وكأنه المال المعتد به، دون اليسير الذي لا يعبأ به والمراد بالمعروف هو المعروف المتداول من الصنيعة والاحسان. قوله تعالى: فمن بدله بعد ما سمعه فانما إثمه على الذين يبدلونه، ضمير إثمه راجع إلى التبديل، والباقي من الضمائر إلى الوصية بالمعروف، وهي مصدر يجوز فيه الوجهان وإنما قال على الذين يبدلونه، ولم يقل عليهم ليكون فيه دلالة على سبب الاثم وهو تبديل الوصية بالمعروف وليستقيم تفريع الآية التالية عليه. قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه، الجنف هو الميل و الانحراف، وقيل: هو ميل القدمين إلى الخارج كما أن الحنف بالحاء المهملة انحرافهما إلى الداخل، والمراد على أي حال الميل إلى الاثم بقرينة الاثم، والآية تفريع على الآية السابقة عليها، والمعنى (والله أعلم) فإنما إثم التبديل على الذين يبدلون الوصية بالمعروف، ويتفرع عليه: ان من خاف من وصية الموصي أن يكون وصيته بالاثم أو مائلا إليه فأصلح بينهم برده إلى ما لا إثم فيه فلا إثم عليه لانه لم يبدل وصيته بالمعروف بل إنما بدل ما فيه إثم أو جنف.

[ 440 ]

(بحث روائي)

 وفي الكافي والتهذيب وتفسير العياشي - واللفظ للاخير - عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام: سئلته عن الوصية تجوز للوارث ؟ قال نعم ثم تلا هذه الآية إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين. وفي تفسير العياشي عن الصادق عن أبيه عن علي عليه السلام قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية. وفي تفسير العياشي أيضا عن الصادق عليه السلام: في الآية قال: حق جعله الله في أموال الناس لصاحب هذا الامر، قال قلت: لذلك حد محدود، قال: نعم، قلت: كم ؟ قال: أدناه السدس وأكثره الثلث. اقول: وروي هذا المعنى الصدوق أيضا في الفقيه عنه عليه السلام وهو استفادة لطيفة من الآية بضم قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) الاحزاب - 6، فإن الآية هي الناسخة لحكم التوارث بالاخوة الذي كان في صدر الاسلام فقد نفت التوارث بالاخوة وأثبتته للقرابة ثم استثنى ما فعل من معروف في حق الاولياء، وقد عدت النبي وليا والطاهرين من ذريته أولياء لهم، وهذا المعروف المستثنى مورد قوله تعالى: إن ترك خيرا الوصية الآية - وهم قربى - فافهم. وفي تفسير العياشي عن أحدهما عليهما السلام: في قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر الآية، قال عليه السلام هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث. اقول: مقتضى الجمع بين الروايات السابقة وبين هذه الرواية أن المنسوخ من الآية. وفي تفسير العياشي عن أحدهما عليهما السلام: في قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر الآية، قال عليه السلام هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث. اقول: مقتضى الجمع بين الروايات السابقة وبين هذه الرواية أن المنسوخ من الآية. هو الوجوب فقط فيبقى الاستحباب على حاله. وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله فمن خاف من موص جنفا أو إثما الاية، قال الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز. وفي تفسير القمي قال الصادق عليه السلام: إذا الرجل أوصى بوصيته فلا يجوز للوصي

[ 441 ]

أن يغير وصية يوصيها بل يمضيعا على ما أوصى إلا أن يوصي بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية ويظلم، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته ويحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق وهو قوله جنفا أو إثما، والجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض والاثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران واتخاذ المسكر فيحل للوصي أن لا يعمل بشئ من ذلك. أقول: وبما في الرواية من معنى الجنف يظهر معنى قوله تعالى فأصلح بينهم فالمراد الاصلاح بين االورثة لوقوع النزاع بينهم من جهة جنف الموصي. وفي الكافي عن محمد بن سوقة قال: سئلت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، قال نسختها التي بعدها قوله: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه، قال: يعني الموصي إليه أن خاف جنفا من الموصي في ولده فيما أوصى به إليه فيما لا يرضي الله به من خلاف الحق فلا إثم عليه أي على الموصى إليه أن يبدله إلى الحق وإلى ما يرضى الله به من سبيل الحق. أقول: هذا من تفسير الآية بالآية فإطلاق النسخ عليه ليس على الاصطلاح وقد مر أن النسخ في كلامهم ربما يطلق على غير ما اصطلح عليه الاصوليون.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2024
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19