• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : تَارِيخ القُرآنِ ، تأليف : الدكتور محمد حسين علي الصغير .
                    • الموضوع : الفصل الاول : وحي القرآن .

الفصل الاول : وحي القرآن

الفصل الاول

وحي القرآن

ما برحت حياة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم موضع عناية الدارسين من أبعاد مختلفة ، وبقدر ما عبىء للموضوع من أهبة واستعداد ، ومنهجية في أغلب الأحيان ، فما تزال هناك بقية للبحث ، فقد تنقصنا كثير من الوثائق عن حياته الروحية قبل البعثة ، وصلتها بحياته العامة والخاصة بعد البعثة .
     هناك شذرات متناثرة في كتب السيرة والتأريخ والآثار ، تتعلق بحياة النبي صلى الله عليه واله وسلم هامشيا ، تتخذ مجال الثناء والأطراء حينا ، وتتسم بطابع الحب والتقديس حينا آخر ، وهي مظاهر لا تزيد من منزلة النبي صلى الله عليه واله وسلم الذاتية ، ولا تكشف عن مكنونات مثله العليا ، ذلك باستثناء الإجماع على عزلته في عبادته وتحنثه ، والاقتناع بصدقه وأمانته ، وهي شذرات غير غريبة في أصالة النبي صلى الله عليه واله وسلم الكريمة ، وتقويمه الخلقي الرصين .
     وتطالعنا ـ احيانا ـ أحداث في تأريخ النبي صلى الله عليه واله وسلم قبل البعثة ، لها مداليل من وثاقة ، ورجاحة من عقل ، كالمشاركة الفاعلة في حلف الفضول ، وتميزه بالدفاع عن ذوي الحقوق المهتضمة ، وكاللفتة البارعة في رفع الحجر الأسود ، ووضعه بموضعه من الكعبة اليوم ، بما أطفأ به نائرة ، وأخمد فتنة .
     وهناك انفراده عن شباب عصره بالحشمة والاتزان ، وهو في شرخ الصبا وعنفوان العمر ، والتأكيد على الخلوة الروحية بين جبال مكة وشعابها ، وفي غار حراء بخاصة ، والحديث عن تجواله في سفرتين تجاريتين ، لا يفصح كثيرا عن ثمرة تجربتهما النفسية ، ولا يعرف صدى مشاهداتهما روحيا واجتماعيا .


(12)
     في حياته العائلية قبل البعثة نجده يتيما يسترضع في بني سعد ، ويفقد أبويه تباعا ، ويحتضنه جده عبد المطلب حضانة العزيز المتمكن ، وبوفاته يوصي به لأبي طالب ، ويتزوج وهو فتى في الخامسة والعشرين من عمره من السيدة العربية خديجة بنت خويلد ، وكان زواجا ناجحا في حياة عائلية سعيدة ، تكّد وتكدح في تجارة تتأرجح بين الربح والخسران ، وفجأة الوحي الحق ، والتجأ إلى خديجة ، تزمله آنا ، وتدثره آنا آخر .
     وينهض النبي صلى الله عليه واله وسلم في دعوته ، فتجد الدعوة مكذبين ومصدقين ، وتقف قريش بكبريائها وجبروتها في صدر الدعوة ، ويلقى الأذى والعنت من قومه وعشيرته الأقربين ، وفي حمأة الأحداث يموت كافله وزوجته في عام واحد ، فيكون عليه عام الأحزان ، فلا اليد التي قدمت المال للرسالة ، ولا الساعد الذي آوى وحامى ، ويوحى إليه بالهجرة ، فتمثل حدثا عالميا فيما بعد .
     هذه لمحات يذكرها كل من يترجم للنبي صلى الله عليه واله وسلم يطيل بها البعض ، ويوجز البعض الآخر ، وليست كل شيء في حياة النبي ، فقد تكون غيضا من فيض .
     ولست في صدد تأريخية هذه الأحداث ، ولا بسبيل برمجتها ، لألقي عليها ظلالا مكثفة من البحث ، ولكنها لمسات تمهيدية تستدعي الإشارة فحسب .
     ومهما يكن من أمر ، فقد تبقى طريقة النبي صلى الله عليه واله وسلم المنهجية في التوفيق بين واجباته الروحية ومهماته القيادية من جهة ، وبين حياته العامة ومساره الدنيوي من جهة ثانية ، لا تجد تأريخا يمثل بدقة ووضوح تأمين المنهج الرئيسي الذي اختطه لنفسه هذا القائد العظيم وهو في مكة المكرمة .
     في المدينة المنورة حيث العدد والعدة ، والنصرة والفداء ، نلمس إيحاء قرآنيا بنقطتين مهمتين :
     الأولى : مواجهته للمنافقين وتحركهم جهرة وخفاء ، وتذبذبهم إزاء الرسالة بين الشك المتمادي ، والتصديق الكاذب ، يصافحون أهل الكتاب تارة ، ويوالون مشركي مكة تارة أخرى ، حتى ضاق بهم ذرعا ، ونهاهم


(13)
     القرآن الكريم عن التردي في هذه الهاوية مرارا وتكرارا ، وهددهم بالاستئصال والتصفية بعض الأحيان ، ولم ينقطع كيدهم ، فمثلوا ثورة مضادة داخلية ، تفتك بالصفوف وتفرق الجموع ، لولا الوقوف في نهاية الأمر بوجه ترددهم الخائف ، وهزائمهم المتلاحقة ، إثر ما حققه الإسلام من انتصارات في غزواته وحروبه الدفاعية ، إلا أن جذوتهم بقيت نارا تحت رماد ، وعاصفة بين الضلوع ، تخمد تارة وتهب أخرى .
     الثانية : مجابهته للفضوليين ، الذين كانوا يأخذون عليه راحته ، ويزاحمونه وهو في رحاب بيته ، بين أفراد عائلته وزوجاته ، فينادونه باسمه المجرد ، ويطلبون لقاءه دون موعد مسبق ، بما عبر عنه القرآن بصراحة :
     ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ) (1) .
     واستأثر البعض من هؤلاء وغيرهم بوقت القائد ، فكانت الثرثرة والهذر ، وكان التساؤل والتنطع ، دون تقدير لملكية هذا الوقت ، وعائدية هذه الشخصية ، فحد القرآن من هذه الظاهرة ، واعتبرها ضربا من الفوضى ، وعالجها بوجوب دفع ضريبة مالية تسبق هذا التساؤل أو ذاك الخطاب ، فكانت آية النجوى :
     ( يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم *) (2) .
     وكان لهذه الآية وقع كبير ، فامتنع الأكثرون عن النجوى ، وتصدق من تصدق فسأل ووعى وعلم ، وانتظم المناخ العقلي بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم فكف الفضول ، وتحددت الأسئلة ، ليتفرغ النبي صلى الله عليه واله وسلم للمسؤولية القيادية .
     ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية ، وبلغ الله منها أمره ، نسّخ حكمها ورُفع ، وخفف الله عن المسلمين بعد شدة مؤدبة ، وفريضة رادعة ، وتأنيب في آية النسخ :
(1) الحجرات : 4 .
(2) المجادلة : 12 .

(14)
     ( ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعلمون * ) (1) .
     كان هذا وذاك يستدعي الوقوف فترة زمنية عند رعاية الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التوفيق بين واجباته القيادية ، وحياته الاعتيادية ، فأمام المنافقين نجد الحذر واليقظة يتبعهما الإنذار النهائي باغرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم ، وعند الحادثتين التاليتين نجد الوحي حاضرا في اللحظة الحاسمة ، فيسليه في الأولى بأن أكثر هؤلاء لايعقلون . ويعظمه في الثانية بجعل مقامه متميزا ، فلا يخاطب إلا بصدقة ، ولايسأل إلا بزكاة .
     وما زلنا في هذا الصدد فإننا نجد الوحي رفيقا أمينا لهذا القائد الموحى إليه ، من هذه الزاوية التوفيقية بين التفرغ لنفسه ، والتفرغ لمسؤولياته ، وهذا أهم جانب يجب أن يكشف في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والكشف عنه إنما يتم بدراسة حياة النبي الخاصة مرتبطة بهذه الظاهرة ، وهي ظاهرة الوحي الإلهي ، ومدى الاتصال والانفصال بينها وبين النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وحاجته الملحّة إلى هذا الشعاع الهادي ، منذ البدء وحتى النهاية .
     لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعا من الرسل ، ولم يختص بالوحي دونهم ، بل العكس هو الصحيح ، فقد شاركهم هذه الظاهرة ، وقد أوحي إليه كما أوحي إليهم من ذي قبل ، قال تعالى :
     ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وءاتينا داوود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) (2) .
     فقد هدفت الآية وما بعدها إلى بيان حقيقة الوحي الشاملة للأنبياء عليهم السلام كافة ، ممن اقتص خبرهم وممن لم يقتص ، وإيثار موسى بالمكالمة وحده .
     ويبقى التساؤل قائما : بماذا تفسر هذه الظاهرة ، وكيف تعلل نفسيا ؟ وكيف تنطبق كونيا ، وكيف عولجت قرآنيا ؟ وهل هي حقيقة تنطلق من ذات
(1) المجادلة : 13 .
(2) النساء : 163 ـ 164 .

(15)
النبي صلى الله عليه واله وسلم ؟ أم هي ظاهرة منفصلة عنه تماما ؟ وما هو سبيل معرفتها جوهريا عند النبي صلى الله عليه واله وسلم ؟ وعند الناس ؟ وكيف آمن به بكل قوة ويقين وآمن بها من حوله ؟
     وللإجابة عن هذه الافتراضات ، لا بد من رصد جديد لهذه الأبعاد كافة ، وقد يرى ذلك غريبا في تأريخ القرآن ، ولكن نظرة تمحيصية خاطفة ، تؤصل حقيقة هذا المناخ ، وتؤكد ضرورة هذا المنهج ، لأن الوحي يشكل بعدا زمنيا معنيا يقترن بنزول القرآن ، وذلك أول تأريخ القرآن ، ويستمر معه بوحي القرآن متكاملا ، وذلك تفصيلات تأريخ القرآن في عهد الرسالة ، وهو الجزء المهم والأساس في هذا التأريخ .
     وباستعراض هذه الافتراضات سوف نلمس النبي صلى الله عليه واله وسلم عبدا مأمورا محتسبا ، يُنفّذ ولا يسأل ، ويبلغ ولا يضيف ، مهمته التلقي والأداء ، مستقلا بذاته ، ومنفصلا عن ظاهرته ، ويبقى الجمع بين حياته العامة والخاصة من اختصاصه بتوجيه من الله تعالى ، وبعناية من وحيه ، فلا تعارض بينهما ، فيرتفع بذلك ما أثرناه مسبقا ، ويتلاشى الإشكال بهذا الملحظ ، مع أننا نلمس بشكل جدي أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قد وهب حياته للوحي ، مبلغا أمينا ، ورسولا كريما ، إلا أن شخصيته حقيقة ، والوحي حقيقة أخرى ، وهذا ما ندأب إلى إثباته علميا .
*      *      *
     أن ما يذهب إليه بعض الدارسين من أن ظاهرة الوحي ، قد يراد بها المكاشفة ، وقد يعبر عنها بالوحي النفسي تارة ، أو الإلهام المطلق تارة أخرى ، دون تحديد مميز ، لا يتوافق مبدئيا مع دراسة النهج الموضوعي لظاهرة الوحي .
     إن كلمة الإلهام ليس لها أي مدلول نفسي محدد ، مع أنها مستخدمة عموما لكي ترد معنى الوحي إلى ميدان علم النفس .
     والوحي النفسي يدور حول معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير ، والوحي الإلهي يجب أن يأخذ معنى المعرفة التلقائية والمطلقة لموضوع لا يشغل التفكير ، وأيضا غير قابل للتفكير .


(16)
والمكاشفة لا تنتج عند صاحبها يقينا كاملا ، ويقين النبي صلى الله عليه واله وسلم بالوحي قد كان كاملا ، مع وثوقه بأن المعرفة الموحى بها غير شخصية ، وطارئة ، وخارجة عن ذاته (1) .
     والوحي الإلهي هو الفصل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله (2).
     وإذا كان الوحي فعلا متميزا ، فهو صادر عن فاعل مريد ، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى ، وليس الإلهام والكشف كذلك ، وهذا ما يميز الوحي عن المكاشفة ، والوحي النفسي ، والإلهام ، إذ أن مردّ الإلهام يعود عادة إلى الميدان التجريبي لعلم النفس ، ونزعة الوحي النفسي في انقداحها تعتمد على التفكر في الاستنباط ، والمكاشفة تتأرجح بين الشك واليقين .
     أما الوحي فحالة فريدة مخالفة لا تخضع إلى التجربة أو التفكير ، ومتيقنة لا مجال معها للشك . مضافا إلى أن حالات الكشف والإلهام والإيحاء النفسي حالات لا شعورية ولا إرادية ، والوحي ظاهرة شعورية تتسم بالوعي والإدراك التأمين .
     والوحي بالمعنى المشار إليه يختص بالأنبياء ، وليس الإلهام أو الكشف كذلك ، فهما عامان وشائعان بين الناس .
     ولقد فرّق المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولدكه ( 1836 ـ 1930م ) بين الوحي والإلهام تفريقا فيه مزيج بين الواقع والصوفية ، فاعتبر الوحي خاصا بالأنبياء ، والإلهام خاصا بالأولياء إذ لا يوحى إليهم (3).
     ويتجلى الفرق بين الإلهام والوحي بتعبير آخر ، وبتصور متغاير ، أن مصدر الإلهام باطني ، وأن مصدر الوحي خارجي بل الإلهام من الكشف المعنوي ، والوحي من الواقع الشهودي ، لأن الوحي إنما يتحصل بشهود الملك وسماع كلامه ، أما الإلهام فيشرق على الإنسان من غير واسطة
(1) ظ : مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 167 وما بعدها .
(2) ظ : د . جميل صليبا ، المعجم الفلسفي : 2 | 570 .
(3) ظ : نولدكه ، دائرة المعارف الإسلامية : مجلد 9 مادة : الدين .

(17)
ملك ، فالإلهام أعم من الوحي ، لأن الوحي مشروط بالتبليغ ، ولا يشترط ذلك في الإلهام .
     والإلهام ليس سببا يحصل به العلم لعامة الخلق ، ويصلح للبرهان والإلزام ، وإنما هو كشف باطني ، أو حدس ، يحصل به العلم للإنسان في حق نفسه لا على وجه اليقين والقطع ، كما هي الحالة في الوحي ، بل على أساس الاحتمال الإقناعي (1) .
     ولهذا فلا اعتبار بما حاوله الأستاذ محمد عبده : بجعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس ، وحسبان ذلك طريقا لإمكان الوحي (2).
     إن طريق الوحي هو التلقي ، وطريق هذا التلقي هو الملك وفي ضوئه نجد عبد القاهر الجرجاني ( في 471 هـ ) حديا بتمثل الوحي متفردا بما ألقاه جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وأن القول بأنه : « قد كان على سبيل الإلهام ، وكالشيء يلقى في نفس الإنسان ، ويهدى له من طريق الخاطر والهاجس الذي يهجس في القلب ، فذلك مما يستعاذ بالله منه ، فإنه تطرق للإلحاد » (3).
     ولقد تطرق بعض الباحثين الكهنوتيين فادعى بأن الوحي : « هو حلول روح الله في روح الكتّاب الملهمين لاطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية ، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب بالوحي شيئا من شخصياتهم ، فلكل منهم نمطه في التأليف ، وأسلوبه في التعبير » (4).
     وهذا التعبير عن الوحي بهذا الفهم ، يختلف جذريا عن المفهوم القرآني للوحي ، ويضفي مناخا باطنيا في الحلول والاتحاد ، يدفعه الإسلام ، وهو سبيل مختصر إلى تقمص الصفاء الروحي وادعائه من قبل من لم يحصل عليه ، وفيه استهواء للدجل الاجتماعي عند الكهنة والكذبة ، وبعد
(1) ظ : د . جميل صليبا ، المعجم الفلسفي : 1 | 131.
(2) ظ : محمد عبده ، رسالة التوحيد : 108 .
(3) عبد القاهر ، الرسالة الشافية ، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن : 156 .
(4) جورج بوست ، قاموس الكتاب المقدس ، وانظر : صبحي الصالح مباحث في علوم القرآن : 25 .

(18)
هذا : فهو مغاير لمفهوم الوحي وطريقته اللذين خاطب الله بهما رسله ، وعلمهم من خلالهما ، مع استقلال في شخصية الوحي ، بعيدة عن مراتب الفراسة والتجانس الروحي ، واستقلال في المتلقي بعيد عن الاستنتاج الذاتي ، أو التعبير المطلق بكل صوره .
     إن عملية الوحي الإلهي إنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين : « ذات متكلمة آمرة معطية ، وذات مخاطبة مأمورة متلقية » (1).
     ولم تتشاكل في مظهر من مظاهر الوحي وظاهرته ، الذات المتكلمة ، والذات المخاطبة في قالب واحد ، ولم يتحدا في صورة واحدة على الإطلاق ، فهما متغايران .
     إن ظاهرة الوحي الإلهي ظاهرة مرئية ومسموعة ، ولكنها خاصة بالنبي صلى الله عليه واله وسلم وحده ، فما اتفق ولو مرة واحدة ، أن سمع أصحابه صوت الوحي ، ولا حدث أن رأوا هذا الكائن الموحي ، ومع هذا فقد أدركوا صحة ما نزل عليه ، وصدق ما أوحي إليه ، بدلائل الإعجاز ، وقرائن الأهوال ، واعتبارات الاختصاص ، فالنفس الإنسانية ، وإن كانت واحدة في الأصل والجوهر ، ولكنها تختلف شفافية كما تختلف تخويلا من قبل الله تعالى ، فالنبي صلى الله عليه واله وسلم يرى ويسمع ويعي ما حوله من الظاهرة بيقين مرئي مشاهد ، ومن حوله لا يرون ولا يسمعون ولكنهم يصدقون ويؤمنون .
     وربما قيل أن ما يتلقاه النبي صلى الله عليه واله وسلم من الروح الأمين وهو رسول الوحي : « هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة ، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية ، فكان صلى الله عليه واله وسلم يرى ويسمع حينما يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع ... فكان صلى الله عليه واله وسلم يرى الشخص ، ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين كما نستخدمهما ، ولو كانت رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره ، فكان سائر الناس يرون ما يراه ، ويسمعون ما يسمع ، والنقل القطعي يكذب
(1) ظ : مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 194 + صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : 27 .
(19)
ذلك ، فكثيرا ما كانت تأخذه برحاء الوحي ، وهو بين الناس ، فيوحى إليه ، ومن حوله لا يشعرون بشيء ، ولا يشاهدون شخصا يكلمه » (1).
     وقد يفسر هذا بأنه ظاهرة ذاتية ، ولكن عمى الألوان (2) ـ مثلا ـ يقدم لنا حالة نموذجية ، لا يمكن في ضوئها أن ترى بعض الألوان بالنسبة لكل العيون .
     « هناك مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر ، وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا ، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون ، فلقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية أمام تلك الأشعة ، كما يحدث في حالة الخلية الضوئية الكهربية » (3).
     وهذا مطرد بالنسبة للبصر المادي المتفاوت ، أما على التفسير الأول ، فينتفي الأشكال جملة وتفصيلا ، فهو من باب الأولى .
     ولقد توصل النبي صلى الله عليه واله وسلم إلى اليقين القطعي بصدق الرؤية والسمع عند حدوث ظاهرة الوحي طيلة ثلاثة وعشرين عاما ، وكان لذلك إمارات خارجية تبدو على وجهه وعينه وجبينه ، من شجوب أو احتقان أو تصبب عرق ، وقد يرافق ذلك دوي بجسمه أو أصداء أو أصوات كما تقول الروايات (4).
     ولكن هذه المظاهر لم تمتلك عليه وعيه الكامل ، وإحساسه اليقظ ، لأنها إمارات خارجية لا تغير من حقيقة شعوره على الإطلاق ، فقسمات الوجه ، وتعرق الجبين ، وشحوب المحيا لا تدل في حالة اعتيادية على تغير في الوعي ، أو انعدام للذاكرة ، أو فقدان للشعور ، وما هي إلا طوارىء عارضة لا تمس الجوهر بشيء .
(1) الطباطبائي ، الميزان : 15 | 317 وما بعدها .
(2) عمى الألوان قسمان : كلي وجزئي ، فالكلي هو العجز عن التمييز بين الألوان مع بقاء الإحساس البصري سليما من الاضطراب ، والجزئي هو العجز عن إدراك لون بعينه ، أو عن تمييز ذلك اللون عن غيره . ( ط : المعجم الفلسفي : 2 | 108 ) .
(3) مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 178 .
(4) ظ : ابن سعد ، الطبقات الكبرى : 1 | 197 + البخاري ، الجامع الصحيح : 1 | 4 + الفتح الرباني : 20 | 212 + فتح الباري : 1 | 21 .

(20)

     ولقد تعجل بعض النقاد من المستشرقين ، حين ألموا بهذه الدلائل النفسية ، والإمارات الشكلية الخارجية التي لا تنتاب الوعي إطلاقا ، ولا تؤثر على الإدراك في حال ، فاعتبروها ـ مخطئين ـ أعراضا للتشنج تارة ، وللإغماظ تارة أخرى . « وهذا الرأي يشمل خطأ مزدوجا حين يتخذ من هذه الأغراض الخارجية مقياسا يحكم به على الظاهرة القرآنية بمجموعها ، ولكن من الضروري أن نأخذ في اعتبارنا قبل كل شيء الواقع النفسي المصاحب ، الذي لا يمكن أن يفسر أي تعليل مرضي ... فإذا نظرنا الى حالة النبي صلى الله عليه واله وسلم وجدنا أن الوجه وحده هو الذي يحتقن ؛ بينما يتمتع الرجل بحالة عادية ، وبحرية عقلية ملحوظة من الوجهة النفسية ، بحيث يستخدم ذاكرته استخداما كاملا خلال الأزمة نفسها ، على حين يمحى وعي المتشنج وذاكرته خلال الأزمة ، فالحالة ـ إذن ـ ليست حالة تشنج .
     هذا التلازم الملحوظ بين ظاهرة نفسية في أساسها ، وحالة معينة ، هو الطابع الخارجي المميّز للوحي » (1).
     وهكذا كان لظاهرة الوحي عند بعض المستشرقين تفسيرات خاطئة أملاها حقد ودجل وافتراء ، فقد كان الوحي على حد زعمهم أثرا لنوبات الصرع التي تعتري الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم فكان يغيب عن صوابه ، ويسيل منه العرق ، وتعتريه التشنجات ، وتخرج من فيه الرغوة ، فإذا أفاق من نوبته ذكر أنه أوحي إليه ، وتلا على المؤمنين به ما يزعم أنه وحي من ربه (2).
     ومع ما في هذا الزعم من الكذب المضحك ، والغض المتعمد من منزلة النبي صلى الله عليه واله وسلم الرسالية ، فالطريف أن ينبري له المستشرقون أنفسهم ، لا سيما هنري لامنس ، وفون هامر ، وأمثالهما ، للرد عليه ، إلا أن في طليعة هؤلاء جميعا السير وليم موير ( 1819 م | 1905 م ) (3).
     لقد فند هذا الباحث المحايد في كتابه ( حياة محمد ) مزاعم الجهلة الحاقدين ، وعقب على ظاهرة الوحي وأعراضها الخارجية بقوله : « وتصوير


(1) مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 182 .
(2) ظ : بكري أمين ، التعبير الفني في القرآن : 18 .
(3) .(Sir William Muir , life of Mohammad , p . ( 14-29


(21)

ما كان يبدو عل محمد في ساعات الوحي على هذا النحو الخاطىء من الناحية العلمية أفحش الخطأ . فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها ، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسيانا تاما ، ولا يذكر شيئا مما صنع أو حل به خلالها ، لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام العطل . هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم ، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي صلى الله عليه واله وسلم العربي أثناء الوحي ، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به ، يذكر بدقة ـ غاية الدقة ـ ما يتلقاه ، وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه ، ثم نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الحسية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه ، بل كثيرا ما يحدث والنبي صلى الله عليه واله وسلم في تمام يقظته العادية » (1).
     وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نرصد في ظاهرة الوحي عملية إرسال واستقبال بوقت واحد ، إرسال بوساطة الملك المؤتمن ، واستقبال من قبل النبي صلى الله عليه واله وسلم المصطفى صلى الله عليه واله وسلم ، يتم ذلك في حالة إدراك متماسكة ، يسيطر فيها الوعي والشعور والإحساس ، كما لو كان أمرا عاديا في يقظة حقيقية ، قبل الوحي ، وأثناء الوحي ، وبعد الوحي ، مهما صاحب عملية الوحي من شدة ووطأة ومفاجئة . فالوحي حقيقة خارجية مستقلة عن كيان النبي صلى الله عليه واله وسلم النفسي ، ولكنها لا تغير ذلك الواقع النفسي ، بل تزيده جلاء وفطنة وذاكرة ، ويمثل فيها النبي صلى الله عليه واله وسلم دور المتلقي الواعي من جهة ، ودور المبلغ الأمين من جهة أخرى ، لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يغير ولا يقترح ، ولا يفتر ولا يتكاسل .
     ولقد كان ذلك بحق :
     « استقبالا من النبي صلى الله عليه واله وسلم لحقيقة ذاتية مستقلة ، خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي ، وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي » (2).
     وليس من الضروري أن تتوافق هذه الظاهرة مع رغبات النبي صلى الله عليه واله وسلم الآنية ، أو تطلعاته النفسية الملحة ، فقد ينقطع عنه الوحي ، وقد يتقاطر


(1) ظ : بكري أمين ، التعبير الفني في القرآن : 19 .
(2) المصدر السابق ، نفس الصفحة .


(22)

عليه ، ولكنه لا يعدو الوقت المناسب في تقدير الله عز وجل ، وما تحويل القبلة إلى الكعبة ، وإبطاء الوحي في حادثة الإفك ، وفترة الوحي حينا ، والتلبث في قصة أهل الكهف ، إلا شواهد تطبيقية على ما نقول ، وأدلة مثبتة : أن الوحي خاج عن إرادته ، ومستقل عن ذاته .
     ولا شك أن النبي صلى الله عليه واله وسلم آمن منذ اللحظة الأولى ـ بقناعة شخصية متوازنة ـ بأن ما يوحى إليه ليس من جنس الأحلام وأضغاثها ، ولا من سنخ الرياضيات ومسالكها ، ولا من باب الأحاسيس القائمة على أساس من الذكاء والفطنة ، ولا من قبيل التخيلات المستنبطة من الحدس والفراسة ، وإنما كان بإيمان نفسي محض بأنه نبي يوحى إليه من قبل الله تعالى ، وما الروايات والإسرائيليات القائلة بشكه في الظاهرة إلا ضرب من الأخيلة التي لا يدعمها دليل .
     « والحق أن وحي النبوة والرسالة يلازم اليقين من النبي صلى الله عليه واله وسلم والرسول بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام » (1).
     ويوحي الله عز وجل لملك الوحي ، ما يوحيه الملك إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم عن الله ، ويتسلم النبي صلى الله عليه واله وسلم الوحي ، فالوحي واحد هنا مع تقاسم المسؤولية ، وهو عام بالنسبة لكل الأنبياء ، وخاص بالنسبة لوحي القرآن ايضا ، فالملك يؤدي عن الله لمحمد ، ومحمد يتلقى ذلك الوحي من الملك ، ويؤدي ما يوحي به إليه إلى الناس ، وكان ذلك طريق الوحي القرآني فحسب ، وقد صرح به القرآن الكريم بقوله تعالى :
     ( وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * ) (2).
     والروح الأمين هو جبرائيل عليه السلام بإجماع الأمة والروايات ؛ قال طبرسي ( ت : 548 هـ ) : « يعني جبرائيل عليه السلام ، وهو أمين الله لا يغيره ، ولا يبدله ... لأن الله تعالى يُسمِعه جبرائيل عليه السلام فيحفظه ، وينزل به على الرسول


(1) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 20 | 328 .
(2) الشعراء : 192 ـ 194 .


(23)

ويقرأه عليه ، فيعيه ويحفظه بقلبه ، فكأنه نزل به على قلبه » (1).
     وهذا صريح بكيفية تلقي النبي صلى الله عليه واله وسلم للقرآن من جبرائيل عليه السلام ، على قلبه تثبيتا وحفظا ورعاية ، والقلب أشرف الأعضاء للتدبر والتفكر إن أريد به هذا الجهاز العضلي ، وإلا فهو الإدراكات النفسية الخاصة لدى النبي صلى الله عليه واله وسلم المستعدة للتلقي والصيانة والاستيعاب دون ريب .
     وكان ما نزل به جبرائيل عليه السلام بإيحاء من الله تعالى هو النص الصريح من الوحي القرآني دون زيادة أو نقصان ، بألفاظه المدونة في المصحف من ألفه إلى يائه .
     ولما كان الأمر كذلك ، فقد تحدث هذا النص المحفوظ بين الدفتين عن ظاهرة الوحي بوحي القرآن وسواه ، وطرقها ، وكيفيتها ، وأقسامها . ومن الضروري حقا استعراض مختلف أنشطة الموضوع من القرآن نفسه ، مع الاستعانة باللغة حينا ، وبالتبادر العربي العام حينا آخر ، لأن القرآن عربي ، والتبادر علامة الحقيقة .
     صرّحت الآية التالية :
     ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآئ حجاب أو يرسل رسولا فيوحِيَ بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم ) (2) .
     بطرق الوحي الإلهي ، وحددت كيفية هذا الوحي ، ومراتب إيصاله على النحو التالي :
     1 ـ الوحي ، وأصل الوحي هو : الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض ، وما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به (3).
     وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء (4).


(1) الطبرسي ، مجمع البيان : 4 | 204 .
(2) الشورى : 51 .
(3) قارن في ذلك بين : الراغب ، المفردات : 515 + الطبرسي ، مجمع البيان : 5 | 37 .
(4) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : 20 | 258 .


(24)

     ومؤدى التعريفات واحد فيما يبدو ، إذ الإشارة السريعة ، إعلام عن طريق الرمز ، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين .
     ومن ثم قيل « للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وحي » (1) باعتبار إسرارها إليهم من قبل ملك الوحي ، واختصاصها بهم دون سائر الناس .
     قال ابن الأنباري : سمي الوحي وحيا لأن الملك أسرّه على الخلق وخص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2).
     ومن هنا يبدو أن التعريف الشرعي متحدر عن الأصل اللغوي في خصوصية الإسرار والإعلام السريع ، وما يصاحب ذلك من الإشارة والرمز اللذين يخفيان على الآخرين .
     وقد عبر الأستاذ محمد عبده عن ذلك بما يقارب هذا المؤدى فقال : « بأنه عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة ، أو بغير واسطة ، والأول بصوت يتمثل لسمعه ، أو بغير صوت » (3).
     ولعل المراد بما يتلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العرفان اليقيني بغير صوت هو الإلقاء في الروع ، وذلك بأن ينفث الله في روع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يشاء من أمر ، أو ينفث روح القدس ما أوحي إليه بتبليغه إياه ، فيكون ذلك من الوحي بوجه من الوجوه .
     وقد يؤيد هذا الملحظ ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « إن روح القدس نفث في روعي » (4) .
     2 ـ سماع كلام الله تعالى مباشرة من وراء حجاب دون معاينة أو رؤية ، لامتناع ذلك عقلا وشرعا ، كما كلم الله موسى بن عمران عليه السلام : ( وكلم الله موسى تكليما ) (5) . وكان ذلك من وراء حجاب « وهو


(1) الراغب الأصبهاني ، المفردات : 515 .
(2) ابن منظور ، لسان العرب : 20 | 258 .
(3) ظ : محمد رشيد رضا ، الوحي المحمدي : 28 .
(4) ظ : الحديث في الاتقان للسيوطي : 1 | 129 + المفردات للراغب : 515 .
(5) النساء : 164 .


(25)

أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى عليه السلام لأنه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا عن موسى عليه السلام وحده ، لأن الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام المحدودة » (1) .
     3 ـ أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، كما في تبليغ جبرائيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورة معينة ، أو صور متعددة ، وحي القرآن الكريم عن الله ، من غير أن يكلم الله نبيه على النحو الذي كلم به موسى عليه السلام .
     هذه الأصناف والمراتب في الإيحاء حددتها الآية الكريمة السابقة فيما يتعلق بوحي الأنبياء عليهم السلام كما يبدو ، إلا أننا من متابعة هذه الظاهرة في القرآن الكريم ، لاحظنا بعض الدلالات الإيحائية لهذا التعبير قد تختلف عما تقدم ، ويمكن الإشارة إلى أهمها بما يلي :
     أ ـ الإلهام ، وهو أن يلقي الله تعالى في النفس أمرا يبعث على الفصل أو الترك ، وهو نوع من الوحي ، يخص به الله من يشاء من عباده ، غير قابل للتفكير به ، أو التخطيط له مسبقا ، ليفرق بينه وبين الحالات اللاشعورية من جهة ، والسلوك الكسبي من جهة أخرى ، كما يدل على ذلك قوله تعالى : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ... ) (2) . وقوله تعالى : ( إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ) (3) .
     ب ـ التسخير ، وهو أن يسخر الله تعالى بعض مخلوقاته إلى عمل ما ، بهديه وإشاءته وتسخيره ، بشكل من الأشكال التي لا تستوعبها بعض مداركنا أحيانا ، ويستيقنها الذين آمنوا دون أدنى شبهة ، كما يدل على هذا النوع قوله تعالى :
     ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ... ) (4) .
     ج ـ الرؤيا الصادقة ، وهي وحي إلهي بالنسبة للأنبياء عليهم السلام خاصة ،


(1) الطبرسي ، مجمع البيان : 5 | 37 .
(2) القصص : 7 .
(3) طه : 38 .
(4) النحل : 68 .


(26)

يتلقون فيها الأوامر ، ويتسلمون التعليمات من السماء ، كما دل على ذلك قوله تعالى ـ فيما اقتص الله من خبر إبراهيم عليه السلام مع ولده ـ :
     ( فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتلّه للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ) (1) .
     فأشارت الآيات إلى الرؤيا الصادقة في المنام ، وإلى استفادة إبراهيم عليه السلام وولده عليهما السلام ، الأمر الإلهي فيها ، للدلالة على أنها وحي يستلزم العمل به ، بدليل تعقيب ذلك من قبل الله في خطاب إبراهيم عليه السلام بتصديق الرؤيا وجزاء المحسنين .
     وقد تكون الرؤيا في جزء من هذا الملحظ تمهيدا للوحي المباشر ، وقد يعبر عنها بالصادقة أو الصالحة ، كما حصل هذا المعنى بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول بدء الوحي ، كما في رواية أم المؤمنين عائشة :
     « أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ( الصالحة ) في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح » (2) .
     وقد تكون الرؤيا نوعا من الوعد الحق الذي يقطعه الله لنبيه عليه السلام كما هو الحال في شأن فتح مكة ، قال تعالى :
     ( لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين ... ) (3) .
     وقد دل على جميع ما تقدم مضافا لللالات القرآنية ما يروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم :
     « انقطع الوحي ، وبقيت المبشرات : رؤيا المؤمن ، فالإلهام ، والتسخير والمنام » (4) .


(1) الصافات : 102 ـ 105 .
(2) البخاري ، الجامع الصحيح : 1 | 7 .
(3) الفتح : 27 .
(4) الراغب ، المفردات : 516 .


(27)

     وفيه ـ إذا صح ـ تفريق بين الوحي المباشر ، وهو جبرائيل عليه السلام ، وبين ما أشار إليه من المبشرات التي يبدو أنها غير الوحي الذي يريده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث .
     وقد يكون الوحي بملحظ آخر عاما بين جميع الأنبياء والرسل ، وقد يكون خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فما كان عاما يكون مشتركا بينه وبين الأنبياء والمرسلين لأنه أحدهم بل سيدهم ، وما كان خاصا ينفرد به وحده .
     فالأول : كقوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (1) .
     ويبدو أن هذا الوحي يشتمل على جميع أقسام الوحي وكيفياته ، ولا يختص بالايحاء بمعناه الدقيق ، لأن الإيمان بالوحدانية فطرة إنسانية تحتمها طبيعة العقل السوي ، والأنبياء بعامة يتمتعون بهذه الفطرة نفسيا وعقليا .
     قال الراغب الأصبهاني ( ت : 502 هـ ) : « فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه ، وذلك أن معرفة وحدانية الله تعالى ، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولي العزم من الرسل ، بل يعرف ذلك بالعقل والإلهام كما يعرف بالسمع ، فإذن المقصود من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية الله ، ووجوب عبادته » (2) .
     والثاني : ما هو مختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده ، كالأمر له في قوله تعالى : ( اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو ... ) (3) .
     وكأخباره عن نفسه ، محكيا بقوله تعالى :
     ( إن أتبع إلا ما يوحى إليّ وما أنا إلا نذير مبين ) (4) وكالطلب إليه بقوله تعالى :


(1) الأنبياء : 25 .
(2) الراغب ، المفردات : 516 .
(3) الأنعام : 106 .
(4) الاحقاف : 9 .


(28)

     ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد ...) (1) .
     وفي هذا الضوء ، فإن ما يوحى به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخلو : إما أن يكون تعليمات يؤمر بإشاعة مفاهيمها بين الناس بحال من الأحوال ، وإما أن يكون كلاما يؤمر بتدوينه ، ويثبته الله في قلبه ، ويتلوه بلسانه ، فيكون كتابا فيما بعد ، وإلى هذا أشار الزهري بقوله :
     « ما يوحي الله به إلى نبي من الأنبياء فيثبته في قلبه ، فيتكلم به ويكتبه ، وهو كلام الله . ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ، ولا يأمر بكتابته ، ولكنه يحدث الناس به حديثا ، ويبين لهم أن الله أمره ، أن يبينه للناس ويبلغهم إياه » (2) .
     والقرآن الكريم من النوع الذي ثبت في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكلم به وأمر بكتابته وتدوينه ، بعد إنزاله وحيا من قبله .
     وقد أورد الزركشي عن السمرقندي ثلاثة أقوال في المنزل من القرآن :
     1 ـ أنه اللفظ والمعنى ، وأن جبرائيل عليه السلام حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به .
     2 ـ إن جبرائيل عليه السلام إنما نزل بالمعاني الخاصة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم تلك المعاني ، وعبر عنه بلغة العرب .
     3 ـ إن جبرائيل عليه السلام ، إنما ألقي إليه المعنى ، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب (3) .
     والأول هو الصحيح دون ريب ، لأن جبرائيل عليه السلام وصف بالروح الأمين لأمانته المتناهية ، فلا يضيف ولا يغير ، ولا يبدل ولا ينسى ، ولا يخوّل ولا يتجوز ، كيف لا وهو روح القدس بقوله تعالى : ( قل نزله روح القدس من ربك ... ) (4) .


(1) الكهف : 110 .
(2) السيوطي ، الاتقان : 1 | 128 .
(3) الزركشي ، البرهان : 1 | 229 + السيوطي ، الاتقان : 1 | 126 .
(4) النحل : 102 .


(29)

     والقرآن نازل من عند الله بألفاظه نفسها ، وما مهمة جبرائيل عليه السلام إلا تبليغ الوحي كما تسلمه ، وهو آيات الكتاب الكريم بنصوصها خالصة بدلالة قوله تعالى : ( تلك ءايات الله نتلوها عليك ... ) (1) .
     وقد اختار السيوطي ذلك تعبدا بلفظ القرآن إعجازا ، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه ، وإن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة ، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه (2) .
     وخصوصية القرآن التعبد بتلاوته لأن ألفاظه نازلة من الله تعالى فلا تدانيها خصوصية أخرى ، لأن هناك ما هو نازل من السماء كالأحاديث القدسية ، ولكنها ليست بقرآن ، فلا خصوصية للتعبد بتلاوتها . وإن أخذنا بمضامينها حرفيا ، ولكنها لم تنزل بألفاظها المخصوصة لها كما هو شأن القرآن .
     والحديث النبوي نتعبد به أمرا ونهيا ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرسل الحديث ويقوله ، ويتبع ذلك أهله وأصحابه ، ثم يتلو القرآن ويقرؤه ، فما اتفق يوما أن تشاكل النصان ، أو تشابه القولان ، ولو كان معنى القرآن ينقل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيا ، أو وحيه ينقل إليه معنى ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوغه بلفظه ، ويعبر عنه بكلامه ، لاشتبه القرآن بالحديث ، والحديث بالقرآن ، من وجهة نظر بلاغية على الأقل ، بينما العكس هو الصحيح ، فالخصائص الأسلوبية في القرآن تدل عليه ، وخصائص الحديث تدل عليه ، فكل له أسلوبه المتميز ، ومنهجه الخاص حتى عرف ذلك القاصي والداني ، ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وممن جحدهما ، فالقرآن كلام الله ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينقله كما سمعه ، بلفظه الدال على معناه ، وبمعناه الذي نطق به لفظه ، لا شيء من محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا النقل الأمين ، والحديث كلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتفوه به فيشرع ويحكم ، لأنه المصدر الثاني بعد القرآن للشريعة الإسلامية ، قال تعالى : ( وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ... ) (3) .


(1) آل عمران : 108 .
(2) ظ : السيوطي ، الاتقان : 1 | 128 .
(3) الحشر : 7 .


(30)

     وثمت دليل قرآني آخر في توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعبارة « قل » في القرآن الكريم ، وتكرارها فيه أكثر من ثلاثمائة مرة ، تصريح وأي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « لا دخل له في الوحي ، فلا يصوغه بلفظه ، ولا يلقيه بكلامه ، وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاء ، فهو مخاطب لا متكلم ، حاك لما يسمعه ، لا معبر عن شيء يجول في نفسه » (1) .
     لهذا كان إذا نزلت عليه آية أو سورة ، بل وجزء من آية ، يدعو كتبته لتدوينها على الفور نصا .

*      *      *

     ولقد بهت العرب أمام ظاهرة الوحي القرآني ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وأئمة البيان والفن القولي ، وتذرعوا للتشكيك فيها بمختلف الوسائل ، فأثاروا الشبهات ، وتعلقوا بالأوهام ، فوصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالضلال ، والقرآن من ورائهم يناديهم بقوله : ( والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) (2) .
     وتداعوا مرة أخرى إلى افتراضات متناقضة ، فقالوا : أضغاث أحلام ، وقد أيقنوا بصحوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقظته ، وردوه إلى الكذب والاختلاق ، وهم أنفسهم وصفوه من ذي قبل بالصادق الأمين ونسبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشعر ، وقد علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته ، وما ترك في هذا المجال أثرا يركن إليه بهذه السمة ، وقد عبر القرآن عن ذلك :
     ( بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر ... ) (3) .
     وما استقامت لهم الدعوى في شيء ، ووصموه بالجنون :
     ( وقالوا يأيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون ) (4) .


(1) صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : 30 .
(2) النجم : 1 ـ 4 .
(3) الأنبياء : 5 .
(4) الحجر : 6 .


 

(31)

     ( ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ) (1) .
     وقد دلت الأحداث الاستقرائية ، والسيرة الذاتية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجاحة عقله ، واتزانه في تصرفاته ، وتأكد لهم افتراؤهم بما شاهدوه من مجريات الأمور ، وقد لبث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم حقبا طويلة قبل البعثة ، فما مسكوا زلة ، ولا أدركوا غفلة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه النكتة الدقيقة بقوله :
     ( فقد لبثت فيكم عُمُرا من قبله أفلا تعقلون ) (2) .
     وترددوا بقول الكهانة من بعد الجنون ، فرد افتراءهم القرآن بما أمره به : ( فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون ) (3) .
     فما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بشيرا ونذيرا ، وما كان الوحي إلا ذكرا للعالمين ، فأين هو من الكهانة ( ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ) (4) .
     وحينما أعيتهم الحيلة ، ووقف بهم المنطق السليم ، انطلقوا إلى القول : ( إن هذا إلا سحر يؤثر ) (5) شأنهم في هذا شأن من تقدمهم من الأمم مع أنبيائهم ورسائلهم ، حذو القذة بالقذة ، من الادعاءات ، قال تعالى : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) (6) وقد علموا جديا ، أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في أصالته العقلية ، أبعد ما يكون عن السحر والشعبذة والتمويه من قبل ومن بعد .
     وتمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت ، فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم معلما من البشر ، وهو غلام رومي يمتهن صناعة السيوف بمكة ، فألقمهم القرآن حجرا بردهم ردا فطريا : ( لسان الذي يُلحدون إليه


(1) الدخان : 14 .
(2) يونس : 16 .
(3) الطور : 29 .
(4) الحاقة : 42 .
(5) المدثر : 24 .
(6) الذاريات : 52 .


(32)

أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) (1) .
     وأغلقت السبل كافة في الوجوه والألسن والأقاويل ، فرجموا بالغيب ، وتشبثوا بالطحلب ، وحسبوا وجدان الضالة : فقالوا بما حكى الله عنهم ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) (2) .
     وتمادى بهم القول ، ففصلوا بعد الإجمال ، وأبانوا بعد الإبهام : ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) (3) .
     وهكذا تبدو الحيرة مترددة بين عدة ادعاءات وافتراءات ، هم أنفسهم يعلمون بمجانبتها للواقع المشهود ، إذ لم يؤيدها نص إستقرائي واحد في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
     ويبقى الوحي وحيا رغم كل هذا الأراجيف : ( وكذلك أوحينا إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها ... ) (4) .
     ويبقى القرآن قرآنا مقترنا بظاهرة الوحي الإلهي .


(1) النحل : 103 .
(2) الأنعام : 25 .
(3) الفرقان : 5 .
(4) الشورى : 7 .

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=98
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28