• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : الترجمة .
                    • الموضوع : درجات ومراحل تعلّم القرآن الكريم والاستئناس به (القسم الثاني) .

درجات ومراحل تعلّم القرآن الكريم والاستئناس به (القسم الثاني)

ترجمة دار السيّدة رقيّة (ع) للقرآن الكريم

آداب القراءة

ذكرت الآيات الكريمة والروايات آداباً لابدّ لقارئ القرآن أن يراعيها عند تلاوة القرآن الكريم، ومن هذه الآداب:

1-      الطهارة

فلابدّ لقارئ القرآن أن يكون بعيداً عن النجاسة والرجاسة حين تلاوته للآيات الكريمة، كما لا يجوز مسّ آيات القرآن الكريم بدون طهارة؛ إذ لا يمكن الوصول إلى علومه ومعارفه بدون ذلك. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].

ذهب بعض المفسّرين ومن خلال ما فهموه من الروايات الشريفة إلى أنّ المقصود من هذه الآية هو أنه لا يجوز للجنب والحائض والمحدث أن يمسوا القرآن. وقال البعض الآخر إنّ هذه الآية تُشير إلى الملائكة المطهّرين الذين لديهم معرفة بالقرآن الكريم أو كانوا واسطة في نزول الوحي على قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله)، والذين كانوا في النقطة المخالفة للمشركين الذين كانوا يعتقدون بأنّ هذه الكلمات قد اُنزلت من قبل الشياطين. واعتقد البعض الآخر أنّ علوم القرآن ومفاهيمه لا يدركها إلا المطهّرون.

وعرّف الله سبحانه وتعالى المتطهّرين الذين وصلوا إلى كنه معاني الآيات القرآنية وعلومها في كتابه العزيز بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الاحزاب: 33].

فقد حصر بعض المفسّرين معنى الطهارة بأهل بيت العصمة (عليهم السلام) مستندين إلى اُمور منها:

التعبير بكلمة (إنّما) التي تأتي عادةً للحصر، فدلّت على الحصر والاختصاص بأهل البيت (عليهم السلام).

وتُشير كلمة (يُريد) إلى الإرادة التكوينية للباري عزّ وجلّ؛ إذ إنّ الطهارة التشريعية ووجوب التطهير لا يختصّ بأهل البيت (عليهم السلام)؛ بل هو أمر عام يشمل جميع الناس ولابدّ من تطهير الأنفس من الذنوب. وقد يقول قائل: إنّ الإرادة التكوينية فيها نوع من الجبر، فنقول: إنّ الأئمّة الهُداة (عليهم السلام) هم أهل الفضائل المكتسبة والتي اكتسبوها بأعمالهم، إضافة إلى الفضائل والمواهب التي منّ الله بها عليهم، ليكونوا هداةً وقادةً يُقتدى بهم، وبعبارة اُخرى: إنّ المعصومين (عليهم السلام) بسبب التسديد الإلهي وأعمالهم الحسنة مع أنّهم كانوا مختارين وكان بإمكانهم ارتكاب المعاصي، إلا أنّهم تنزّهوا عن ذلك، فمثلهم مثل العاقل الذي لا يضع في فمه قطعة من جمر أبداً؛ لأنّ هذا الأمر مودع في فطرة الإنسان ونابع عن معرفة، ولا دخل للجبر والإكراه في هذا الموضوع.

أمّا بخصوص الرجس فيقول أحد المفسّرين إنّ الرجس اسم مصدر وهو الرجس المعنوي والنجاسة الباطنية والنفسية، ويعني إذهاب الرجس إزالة كلّ أنواع النقص والنجاسة الباطنية والقذارة الروحية والذنوب والأفكار الباطلة.

ويُشير الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) إلى ضرورة طهارة فم الإنسان عند قراءة القرآن، فيقول: (طيّبوا أفواهكم فإنّ أفواهكم طريق القرآن) [كنز العمال، ج 1، ص 603]، وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه: (لقارئ القرآن بكل حرف يقرؤه في الصلاة قائماً مائة حسنة، وقاعداً خمسون حسنة، ومتطهّراً في غير الصلاة خمس وعشرون حسنة، وغير متطهّر عشر حسنات) [عدّة الداعي: ص211].

إذاً، يمكننا أن نتوصّل إلى هذه النتيجة: أنّنا لابدّ لنا من تطهير أجسادنا من النجاسات قبل تلاوة القرآن، ثمّ نطهّر أنفسنا وأرواحنا من الأفكار الباطلة حتى يمكننا استماع كلام الله سبحانه وتعالى بصورة لائقة.

2-      الاستعاذة

وعلى الإنسان أيضاً قبل البدء بتلاوة القرآن والاتصال بمصدر النور أن يستعيذ بالله من شرّ الشيطان الرجيم ويطهّر نفسه من وساوسه، حيث قال الله في كتابه العزيز: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): (اغلقوا أبواب المعصية بالاستعاذة، وافتحوا أبواب الطاعة بالتسمية) [الدعوات لقطب الدين الراوندي: ص52].

يقول الشيخ الطبرسي: (والاستعاذة: استدفاع الأدنى بالأعلى على وجه الخضوع والتذلّل، وتأويله: استعذ بالله من وسوسة الشيطان عند قراءتك، لتسلم في التلاوة من الزلل، وفي التأويل من الخطل، والاستعاذة عند التلاوة مستحبّة غير واجبة بلا خلاف، في الصلاة، وخارج الصلاة) [التبيان: ج 6، ص 198].

ويقول السيد الطباطبائي: (الاستعاذة طلب المعاذ والمعنى إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه أن يعيذك من الشيطان الرجيم أن يغويك، فالاستعاذة المأمور بها حال نفس القارئ ما دام يقرأ وقد اُمر أن يوجدها لنفسه ما دام يقرأ وأمّا قول القارئ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أو ما يشابهه من اللّفظ فهو سبب لإيجاد معنى الاستعاذة في النفس وليس بنفسها إلا بنوع من المجاز وقد قال سبحانه استعذ بالله ولم يقل قل أعوذ بالله) [تفسير الميزان، ج 12، ص 344].

والفيض الكاشاني يقول: (الاستعاذة تطهير اللّسان عمّا جرى عليه من غير ذكر الله ليستعدّ لذكر الله والتلاوة وتنظيف للقلب من تلوّث الوسوسة، ليتهيّأ للحضور لدى المذكور ويجد الحلاوة) [التفسير الصافي، ج 1، ص 97].

3-      الترتيل في القراءة

الترتيل في القراءة من أحبّ الطرق المحبّذة لتلاوة القرآن عند الله سبحانه وتعالى؛ إذ يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً} [الزمر: 4].

يقول العلامة الطباطبائي بخصوص معنى الترتيل: (ترتيل القرآن تلاوته بتبيين حروفه على تواليها) [تفسير الميزان، ج20، ص61].

أمّا الشيخ الطبرسي فيقول: (الترتيل هو أن تقرأ على نظمه وتواليه، ولا تغيّر لفظاً، ولا تقدّم مؤخّراً، وهو مأخوذ من ترتّل الأسنان إذا استوت وحسن انتظامها، وثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية، لا تفاوت فيها) [مجمع البيان، ج 10، ص 162].

يرى بعض المفسّرين أنّ التأنّي والترتيل في القراءة من الأسباب المؤدّية إلى التفكّر في الآيات القرآنية وبالنتيجة سيكون سبباً مؤثّراً في الكمال والنموّ المعنوي.

يقول الشيخ ناصر مكارم شيرازي: (إنّ القرآن الكريم يعتبر من أفضل الوسائل لتعزيز الإيمان والتقوى وتهذيب النفوس، والتعبير بكلمة الترتيل والتي هي في الأصل تعني التنظيم والترتيب الموزون المقصود منها قراءة القرآن بتأنّي وتدبّر ونظم وأداء صحيح للحروف وتبيين الكلمات والتدقيق والتفكّر في معاني الآيات، ومن الطبيعي مثل هكذا قراءة تساعد الإنسان على النموّ المعنوي والتقوى والأخلاق).

يقول إمام العارفين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بخصوص معنى الترتيل: (بيّنه بياناً ولا تهذّه هذّ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل) [بحار الأنوار، ج 82، ص 7]، وفي بيان آخر يقول (عليه السلام) في معنى الترتيل: (حفظ الوقوف وأداء الحروف) [بحار الأنوار، ج 64، ص‌323]

القراءة الحسنة

يرى المعصومون (عليهم السلام) أنّ القراءة الحسنة حلية القرآن، يقول الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله): (لكلّ شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن) [الكافي، ج 2، ص 615].

ويرى أحد الباحثين المهتمّين بالشأن القرآني أنّ الصوت الحسن يختلف عن الصوت الجميل، فالصوت الحسن هو الصوت الذي يُحدث عند الإنسان الخشوع والخضوع أمام الباري عزّ وجلّ، ويضيف: قد يكون هناك صوت جميل، إلا أنّه لا يصدق عليه الصوت الحسن الذي يراه الرسول الكريم مناسباً ولائقاً بتلاوة كلام الله سبحانه وتعالى.

ويوجد تعريف خاص للصوت الحسن في تلاوة القرآن؛ وهو أنّ القارئ صاحب الصوت له الدور الأساس والمحوري قبل الصوت، لذلك نرى أنّ أهل البيت (عليهم السلام) يؤكّدون على قارئ القرآن أن يستشعر حالة الاُنس بالقرآن الكريم في قراءته، فنرى الإمام الكاظم (عليه السلام) ترتعد فرائصه حين تلاوته للقرآن الكريم وكأنّه يخاطب شخصاً أمامه بكلّ أدب واحترام وتواضع وخشوع.

مقدار القراءة

يقول الله تعالى في مقدار قراءة القرآن الكريم: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} [المزمل: 20]. يقول الشيخ الطبرسي في تفسير هذه الآية: (الظاهر أنّ معنى ما تيسر مقدار ما أردتم وأحببتم). [تفسير مجمع البيان، ج10، ص 169]

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية) [الكافي: ج2، ص609].

فيمكن أن نفهم من هذا كلّه، أنّ المقدار المطلوب قراءته في كل يوم 50 آية على الأقل.

دراسة القرآن

تُعدّ دراسة القرآن مرحلة اُخرى من مراحل الاستئناس بالقرآن الكريم؛ لأنّ الدرس يعني تكرار الشيء؛ يُقال: درس الكتاب إذا كرّر قراءته، ودرس المنزل: إذا تكرّر عليه مرور الأمطار والرياح حتى يُمحى أثره. قال الله تعالى: {... أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ...} [سورة الأعراف: 169]؛ أي: تدارسوا، فيكون المقصود أنّ تدارس القرآن وتكرار قراءته يؤدّي إلى الاستئناس به.

حفظ القرآن

المرحلة الاُخرى من مراحل الاستئناس بالقرآن الكريم هي حفظه، ففي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيها: (إنّ الذي يعالج القرآن ويحفظه بمشقة منه وقلة حفظ له أجران) [الكافي ج2 ص606]. فما أجمل حفظ القرآن الكريم حينما يكون طريقاً للاستئناس به!

وهناك رواية رائعة عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، يقول فيها: (عدد درج الجنة عدد آي القرآن، فإذا دخل صاحب القرآن الجنة قيل له: ارقأ واقرأ لكل آية درجة فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة) [بحار الأنوار، ج 89، ص 22].

التدبّر في القرآن

القراءة الخالية من التمعّن في فهم المعاني والنظر في الآيات، قد تكون حسنة وتكتب للقارئ حسنات وتُعدّ من العبادات أيضاً، إلا أنّ الهدف من نزول هذا الكتاب السماوي لم يكن مجرّد قراءته وحسب، ولم يُنزل الله سبحانه وتعالى هذا الكتاب حتى يكتفي الإنسان بقراءته فقط؛ بل ينبغي أن تكون القراءة مقدّمة لفهم المعاني ثمّ العمل بها والتي يكون مؤدّاها القرب الإلهي، إذاً تُعدّ مرتبة التدبّر في الآيات القرآنية أعلى من مرتبة القراءة المجرّدة في مراتب الاستئناس بالقرآن الكريم.

فالقرآن الكريم هو آخر كتاب سماوي، وقد ضمّ بين دفّتيه جميع متطلّبات البشر، حتى يستفيد الإنسان من هذه العلوم باستخدام قواه الفكرية، وتكون استفادته بقدر ما يحمله من مؤهّلات، فكلّما زادت المؤهّلات كلّما زادت الاستفادة.

وقد دعا الله سبحانه وتعالى المعاندين والكفار إلى التدبّر في آيات القرآن، ولفت الأنظار إلى هذه الحقيقة؛ ألا وهي أنّ هذا القرآن هو من عند الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

فينبغي على الإنسان المسلم أن يستفيد من القرآن استفادة تامّة من خلال التدبّر في الآيات ويتّعظ بمواعظه ويعتبر بعبره، كما يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (تدّبروا آيات القرآن واعتبروا به، فإنه أبلغ العبر) [غرر الحكم، 4493].

وقد عدّ إمام العارفين ومولى الموحّدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) التدبّر في آيات الذكر الحكيم من صفات المتّقين، والتي ستكون مقدّمة للعمل بالقرآن بقوله: (... أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً. يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنها نصب أعينهم. وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنّوا أنّ زفير جهنم وشهيقها في اُصول آذانهم) [نهج البلاغة، خطبة في وصف المتقين].

والتدبّر في اللغة هو النظر في عواقب الاُمور، لكي يتمّ التوصّل إلى الصورة الواقعية للاُمور، فالبحث في باطن الاُمور والنظر في عواقبها خصوصيّتين بارزتين للتدبّر، أمّا التفكّر فهو التأمّل في الاُمور ظواهرها وبواطنها على حدٍّ سواء، وكذلك التأمّل في علل وأسباب وعواقب الاُمور، والتفكّر ناظر إلى كشف المجهول أيضاً.

يقول أبو هلال العسكري في الفرق بين التدبّر والتفكّر: (التدبّر: تصرّف القلب بالنظر في عواقب الاُمور. والتفكّر: تصرّف القلب بالنظر في الدلائل) [الفروق اللغوية، ص 121].

قال تعالى: {... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ...} [سورة البقرة: 219-220] أي: التفكّر في أسباب الاُمور وعواقبها وظاهرها وباطنها.

التفكّر في القرآن

إنَّ التفكّر في القرآن هو مرحلة من مراحل الاستئناس بالقرآن أيضاً، وقد أشارت آيات كثيرة إلى هذا المعنى، من جملتها الآية الثانية من سورة يوسف: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وكذلك الآية الرابعة والأربعون من سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وأيضاً الآية الثالثة من سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وفي بعض هذه الآيات يقول الله سبحانه وتعالى: إنّ الهدف من نزول القرآن هو التفكّر، والروايات الشريفة المرويّة عن أهل بيت العصمة (ع) تدعونا أيضاً إلى التفكّر في الآيات القرآنيّة.

العمل والتمسّك بالقرآن

بعد التدبّر في الآيات القرآنيّة ومعرفة شرعيّة وأحقّية القرآن الكريم المُنزل من السماء على قلب الرسول الأعظم (ص)، يأتي دور العمل بأحكامه ومواعظه السماويّة والتمسّك بذلك قدر المستطاع.

وعليه، فعلى المسلمين أن يستلهموا من الآيات القرآنيّة ويسيروا في طريق الحقِّ، ويأخذوا بما جاء به من تعاليم وأحكام ويطبّقوها في حياتهم اليوميّة؛ إذ إنّ معرفة معاني الآيات ثمّ العمل بها يُعدّ من أهمّ أهداف النزول التدريجي للقرآن الكريم خلال 23 عاماً.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106].

ويقول العلاّمة الطباطبائي (قُدّس سرّه) بخصوص أهمّيّة نزول القرآن التدريجي: (ونزول الآيات القرآنيّة نجوماً مفرّقة سورة سورة وآية آية بحسب بلوغ الناس في استعداد تلقّي المعارف الأصليّة للاعتقاد والأحكام الفرعيّة للعمل واقتضاء المصالح؛ ذلك ليقارن العلم العمل، ولا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه وأحكامه واحداً بعد واحد كما لو نزل دفعة، وقد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقّها اليهود بالقبول إلاّ بعد نتق الجبل فوقهم كأنّه ظلّة) [تفسير الميزان 13/ 221].

يؤكّد بعض المفسّرين على الجانب العملي للآيات القرآنيّة، ويرون أنّ القرآن ـ بغضّ النظر عن بُعده التعليمي ـ هو كتاب يجب العمل بما جاء فيه بدقّة، فحينما تنزل آية يجب أن يُعمل بها حتّى تنزل الآية الاُخرى، فإذا نزل القرآن كاملاً فلا بدّ حينئذٍ من العمل بجميع ما جاء فيه من آيات، وهذا أمر مستحيل؛ لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد في يوم واحد غير ممكن؛ لذلك نرى أنّ القرآن الكريم قد نزل تدريجيّاً، حتّى يُطبَّق بشكل كامل ولا يكون هناك أيّ خلل ولكي يتسنّى للناس تقبّله بشكل جيّد.

هناك آية اُخرى تؤكّد على موضوع التمسّك بالقرآن الكريم، وهي {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف/ 43].

في حديث شريف يُوصي فيه الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بالعمل بأحكام القرآن الكريم، قال: (وتمسّك بحبل القرآن وانتصحه، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه) [نهج البلاغة، الكتاب رقم 69].

وأوجب الله سبحانه وتعالى على الناس العمل بالقرآن بعد أن فرضه على رسوله المنتجب، فقال عزَّ من قائل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} [القصص: 85].

يذكر العلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائي لكلمة (فرض) أقوال: (الفرض ـ على ما ذكره ـ بمعنى الإيجاب، فمعنى {فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ} أي أوجب عليك العمل به، أي بما فيه من الأحكام، وفيه مجاز في النسبة. وأحسن منه قول بعضهم: إنّ المعنى أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به) [تفسير الميزان: 16/ 86].

وينبغي على المسلمين أن يجعلوا القرآن نصب أعينهم ويفكّروا فيما جاء فيه ويتّعظوا بمواعظه؛ لذلك نرى الإمام الصادق (ع) يقول: (عليكم بالقرآن، فما وجدتم آية نجا بها مَن كان قبلكم فاعملوا به، وما وجدتموه هلك مَن كان قبلكم فاجتنبوه) [تفسير العياشي: 1/ 5]. وقد مدح الأئمّة الهداة (ع) اُولئك القرّاء الذين يتدبّرون في آيات القرآن الكريم ويعملون بأحكامه مع تلاوتهم لآياته الشريفة؛ حيث يقول الإمام الباقر (ع): (قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتّخذه بضاعة واستدرّ به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه؛ فأسهر به ليله، وأظمأ به نهاره، وقام به في مساجده، وتجافى به عن فراشه، فباُولئك يدفع الله العزيز الجبّار البلاء، وباُولئك يديل الله (عزّ وجلّ) من الأعداء، وباُولئك ينزل الله (عزّ وجلّ) الغيث من السماء. فوالله لَهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر) [الخصال: 142].

إذاً، اتّضح لنا جليّاً أنّ قراءة القرآن الكريم تُعدّ مرحلة متقدّمة وتمهيديّة لمرحلة اُخرى؛ وهي مرحلة التدبّر والتفكّر في آيات الذكر الحكيم، وبعد ذلك إلى مرحلة أعلى وهي مرحلة العمل الصالح الذي دعا إليه القرآن.

التفسير والتأويل والوصول إلى باطن القرآن

يُعدّ تفسير القرآن الكريم من مراحل الاستئناس به، (والتفسير: البيان. فَسَّر الشيءَ يفسِرُه، بالكَسر، وتَفْسُرُه، بالضم، فَسْراً، وفَسَّرَهُ: أَبانه، والتَّفْسيرُ مثله ... الفَسْرُ: كشف المُغَطّى، والتَّفْسير: كَشف المُراد عن اللفظ المُشْكل، واسْتَفْسَرْتُه كذا أَي سأَلته أَن يُفَسِّره لي ... وكلّ شيء يُعرف به تفسير الشيء ومعناه، فهو تَفْسِرَتُه) [لسان العرب ـ مادة فسر].

هناك نقطة في غاية الأهمّية فيما يخصّ تفسير القرآن الكريم، وهي ضرورة تجنّب التفسير بالرأي؛ أي: التفسير الذي يعتمد على اُسس خاطئة غير معتمَدة من قِبل الشريعة، والذي يُعدّ من الاُمور المحرّمة؛ إذ لا يجوز للمفسّرين أن يفسّروا القرآن بما تهوى أنفسهم، بل لا بدَّ للمفسّر أن يكون مطّلعاً ومحيطاً بجميع المباني الشرعيّة للتفسير والتي اُقرّت من قِبل الشرع.

ويُعدّ تأويل القرآن أيضاً مرحلة من مراحل الاستئناس والمعرفة بالقرآن الكريم؛ بل هو في الواقع مرحلة من مراحل الفهم العميق للقرآن.

قال بعض المفسّرين: إنّ التأويل هو التفسير، وقال البعض الآخر: هو المعنى المخالف لظاهر الكلمات، وذهب آخرون إلى أنّ التأويل هو تبرير الآيات المتشابهة، ويرى العلامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي (أنّه الحقيقة الواقعيّة التي تستند إليها البيانات القرآنيّة من حكم أو موعظة أو حكمة، وأنّه موجود لجميع الآيات القرآنيّة).

المقالة مقتبسة من مجلة (استاد) الفصليّة (بالفارسيّة)، التابعة لجامعة المصطفى (ص) العالميّة ـ العدد 2 ـ 1390 هـ ش. ترجمة دار السيّدة رقيّة (ع) للقرآن الكريم


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1669
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 06 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29