• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : الأخلاق في القرآن الكریم (3) .

الأخلاق في القرآن الكریم (3)

 القرآن الكریم و الطریق نحو الكمال

أية الله العظمى الشيخ محمد تقي مصباح الیزدي"دام ظله"

‌‌‌قـلنا:‌ إنّ جمیع النظریّات الاخلاقیـّة ـ فضلاً عن الانظمة الاخلاقیـّة والتربویّة ـ تبتنی علی‌ مبادئ‌ عـامّة،‌ هـي

أولاً: مـبدأ حریّة إرادة الانسان. وقد أسلفنا موقف القرآن الكریم من هذا المبدأ‌ في الحلقة الاُولی.

ثانیاً: مـبدأ وجود مثل أعلی أو كمال نهائي وراء‌ كلّ عمل إرادي یصدر‌ من‌ الانسان. وإذا كان وراء كلّ سـلوك إرادی داع یحرّك الانسان لاتیانه وأمـكن تـحلیل هذا الداعي بداع أعلی لتسلسلَ التعلیلُ حتّی ینتهی إلی داع لیس وراءه داع آخر، وذلك الداعي النهائي هو‌ المثل الاعلی والهدف الاقصی للانسان، ویكون مطلوباً بالفطرة ومُراداً ذاتیّاً للانسان بحیث یكون طلبه بدیهیّاً لا یحوجه إلی تجشّم اسـتدلال أو تفسیر. وهذا مبدأ تعترف به الانظمة والنظریات الاخلاقـیّة لا محالة.‌ وإن‌ اختلفت في تفسیر ما ینبغي أن یكون هو الهدف الاقصی. وقد أوضح القرآن الكریم موقفه من هذا المبدأ حیث علّل كلّ سـلوك وفـسّره بتفسیر ینتهي به إلی الفوز والفلاح أو‌ السعادة.‌ ولم یتعرّض لتعلیل الحاجة إلی الفوز أو السعادة. وهذا ما أوضحناه في الحلقة الثانیة من هذه المجموعة.

ثالثاً: والان نستعرض ثالث المبادئ العامّة والاُصول المشتركة بین جمیع النـظریّات‌ والانـظمة‌ الاخلاقـیّة مستهدفین استعلام موقف القرآن الكریم منه.

إنّ هذا المبدأ یتمحور حول ضرورة وجود طریق نحو الكمال اللائق بالانسان. وقد صرّح القرآن الكریم بأنّ مصیر الانسان أو الكمال‌ الذي‌ ینبغي‌ أن یـصیر إلیـه الانسان رهین‌ بعمل‌ الانسان.‌ فالعمل الاختیاري للانسان أو سلوكه وسعیه هو الذي یصنع له مصیره لا غیر.

ویتضمّن هذا المبدأ ما یلي:

1 ـ إنّ‌ سعي الانسان لا یذهب سُدیً بل له ناتج‌ وثمرة.

2 ـ إنّ نتیجة هـذا السـعي تـعود لنفس الانسان قبل كلّ شـيء.

3 ـ إنـّ الفـوز أو‌ الفلاح‌ لا‌ یمكن تحصیله من دون توسّط عمل الانسان الذي یصدر عنه‌ باختیاره.

4 ـ لا توجد أیـّة علّة اُخری لتحصیل الفلاح والسعادة إلاّ عمل الانسان نفسه.

إذاً‌ لا‌ یـؤثّر‌ عـمل الاخـرین علی المصیر الواقعي للانسان.

لاحظ الایات التي تـربُط‌ بـین‌ العمل والجزاء، أو الكسب والجزاء، أو الفعل والعاقبة، أو تشیر إلی أنواع السلوك من إحسان وإساءة،‌ أو‌ إبصار‌ وعمایة، أو شكر وكفران، أو تزكیة للنفس وإهـمال لهـا، أو قـبول للهدایة‌ ورفض‌ لها.‌ فإنّها جمیعاً تشیر بوضوح إلی موقف القرآن الكـریم من هذا المبدأ بشتّی فروعه.

قال‌ تعالی:‌ 1ـ ﴿فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّة خَیْراً یَرَه * وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّة شَرّاً یَرَه﴾

إذاً لا بـدّ لاي عـمل للانسان من أثر وإنّ هذا الاثر یعود إلیه‌ «إن‌ خیراً‌ فـخیر وإن شـرّاً فشر».

2 ـ ﴿مَنْ یَعْمَلْ سُوءاً یُجْزَ بِه﴾. فجزاء العمل السیّئ‌ یعود‌ لنفس الانسان.

3 ـ ﴿وَافْعَلُوا الْخَیْرَ لَعَلّكمْ تُفْلِحُون﴾. والفـلاح یـترتّب عـلی فعل‌ الخیر،‌ والفلاح‌ إنّما هو لفاعل الخیر

4 ـ ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إلاّ بِما كنْتُمْ تـَكسِبُون﴾

5 ـ ﴿جـَزاءً بـِما كانُوا یَكسِبُون﴾. فالجزاء هو نفس الاعمال المكتسبة أو هو مجموع‌ نتائج‌ الاعمال.

6 ـ ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحـْسَنْتُمْ لانـْفُسِكمْ وَإنـْ أسَأتُمْ فَلَها﴾

7 ـ ﴿فَمَنْ أبْصَرَ‌ فَلِنَفْسِهِ‌ وَمَنْ‌ عَمِیَ فَعَلَیْها﴾

8 ـ ﴿مَن اهْتَدی فَإنّما یَهْتَدی لِنَفْسِه﴾

9 ـ ﴿وَمـَنْ یـَشْكر فَإنّما یَشْكر لِنَفْسِه﴾

10ـ ﴿وَمَنْ تَزَكی فَإنّما یَتَزَكی لِنَفْسِه﴾

11ـ ﴿مَنْ عَمِلَ‌ صَالِحاً‌ فَلِنَفْسِهِ وَمـَنْ أسـَاءَ فـَعَلَیْها﴾

12ـ ﴿ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْری﴾

إذاً‌ الطریق الوحید ـ لكلّ انسان ـ للوصول‌ إلی‌ المصیر‌ الذی یبتغیه والكمال الذي ینشده أو ینبغي‌ له‌ أن یـنشده إنّما هو عمله فحسب، وإرادته التي تتجلّی في سلوكه لاغیر.

ومن‌ هنا سـوف یـتّضح دور النـیّة‌ في‌ مصیر الانسان‌ أیضاً،‌ وكیف‌ یكون نوع النوعیّة دخیلاً في نوع‌ المصیر‌ الذي یصل إلیه الانـسان.

شـبهات وحلول

إذا كان المصیر الواقعي‌ للانسان‌ رهیناً بعمل الانسان نفسه، ولا یمكن‌ لایّ أحـد أن یـتدخّل‌ فـی‌ مصیر الاخرین، وكانت هذه قاعدة‌ شاملة‌ لا یشذّ عنها مورد كما صرّح القرآن الكریم قائلاً: ﴿وَأن لَیـْسَ لِلانـْسانِ إلاّ‌ مَا‌ سَعَی﴾. وقال: ﴿ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ‌ وِزْرَ‌ اُخْری.

فهنا قد‌ یورد‌ للنقض علی كلّیة هـذه‌ القـاعدة‌ العامّة عدّة موارد جاءت في القرآن الكریم نفسه:

1 ـ لقد أقرّ القرآن‌ الكریم‌ مبدأ الشفاعة في الاخـرة.

ووجـه‌ النقض‌ أنّ الشفیع‌ یتدخّل‌ لانقاذ‌ الانسان من ورطته، وإذاً‌ وُجد عنصر آخر دخـیل فـي مصیر الانسان غیر عمل نفسه

2 ـ قال تـعالی:‌ ﴿مـَنْ‌ جـَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِها﴾.

فإذا‌ تفضّل‌ اللّه سـبحانه‌ بإثابة الحسنة بعشر‌ أمثالها،‌ فإذاً تسعة أمثالها من باب التفضّل الذي یزید علی عـمل الانـسان نفسه، ولیس العمل هو وحـده‌ الدخـیل‌ في‌ حـصول هـذا المـصیر.

3 ـ إنّ‌ مبدأ‌ المغفرة‌ من‌ اللّه‌ سـبحانه‌ وتـكفیر السیّئات أیضاً مبدأ یبتني علی التفضّل واللطف الالهیین، فلا دخل لفعل الانـسان فـیه.

4 ـ صرّح القرآن الكریم بأنّ الذین یـُضلّون الاخرین ویكونون سبباً فـي‌ غـوایتهم فإنّهم سوف یتحمّلون أوزار أنفسهم وأوزار الذیـن یـضلّونهم. وهذا معناه أنّ الانسان قد یتحمّل تبعة الاخرین، فإنّ الذي یَضلّ إنّما یضلّ بـحسب إرادتـه واختیاره، فلماذا یتحمّل غیرُه وزرَهـ‌ أیـضاً‌ وقـد قال تعالی: ﴿ألاّ تـَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخـْری﴾

وعلی هذا فكیف یـمكن إقـرار كلیّة هذا المبدأ الثالث وشمولیّته بحیث یكون عمل الانسان هو الطریق الوحید لتحقّق مـصیره؟

والجـواب‌ عن النقض بالشفاعة أن یقال: إنّ الشـفاعة وإن لم تـكن بمعنی التـجاوز عـن الذنـب أو التقصیر بدل عمل اخـتیاري، ولكن استحقاق الفرد للشفاعة‌ لا‌ یكون إلاّ بعمل اختیاري یقوم‌ به‌ الذي یتوقّع الشفاعة لیستحق الشفاعة، ولهذا لم یـُدّعَ بـأنّ الشفاعة تشمل كلّ إنسان بل لا بـدّ مـن تـحقّق مـواصفات خـاصّة یحصل علیها الفـرد خـلال‌ عمله‌ وسلوكه الارادي، قال تعالی:‌ ﴿وَلا‌ یَشْفَعُونَ إلاّ لِمَن ارْتَضی﴾

وأمّا الجواب عن النقض بتعویض الحسنة بعشر أمـثالها بـل أكـثر من هذا قوله تعالی: ﴿وَاللّهُ یُضاعِفُ لِمـَنْ یـَشاءُ﴾ أو قـوله: ﴿إنـّما یـُوفّی الصـّابِرونَ أجْرَهُمْ بِغَیْرِ‌ حِساب﴾‌ فكلّ هذه الموارد تبتنی علی نفس المبدأ الشامل حیث أنّ هذه الاثابة مشروطة بإتیان الحسنة أو الصبر أو أي عمل إرادی آخر. ولیس هذا التعویض من بـاب التعویض بلا استحقاق،‌ بل‌ الاستحقاق إنّما‌ یحصل علیه الفرد بعد القیام بعمل خاصّ یستدعی ویستتبع مثل هذا الجزاء.

وأمّا تكفیر السیّئات والمغفرة‌ فإنّ مثل قوله تعالی: ﴿إنّ الحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السـیّئاتِ ذَلِك ذِكری لِلذّاكرین﴾‌ یرشدنا‌ إلی‌ أنّ المغفرة والتكفیر إنّما یحصلان بالقیام بعمل إرادي یستدعي أو یستلزم محو السیئة، قال رسول اللّه صلّی ‌‌اللّه‌ علیه وآله: «إذا عملت سیئة فأتبعها بحسنة تمحها».

وأمّا حمل المـضلّین أوزار‌ الضـالّین‌ فإنّ‌ التأمّل في الایة یرشد إلی جوابها حیث یقول: ﴿لِیَحْمِلُوا أوْزارَهُمْ كامِلَةً یَوْمَ القِیامَةِ وَمِنْ أوْزارِ‌ الّذینَ یُضِلّونَهُمْ بِغَیْرِ عِلْم ألا سَاءَ ما یَزِرون﴾ فإنّ الایـة لا تـقول: إنّهم‌ یحملون كلّ أوزار الضالّین‌ بـل‌ تـقول: ﴿وَمِنْ أوْزارِ الّذینَ یُضِلّونَهُم﴾ وهذا یعني أن الضالّ یتحمّل تبعة ضلاله الاختیاري، والمضلّ إنّما یتحمّل من وزره بمقدار ما یكون دخیلاً في ضلاله وغوایتِه. وكأنّ هذا المـقدار هـو النتیجة الطبیعیّة‌ لعمله وإضـلاله، فـالانسان یحصل علی كل نتائج عمله المباشرة وغیر المباشرة بلا استثناء

إذاً لم تبطل كلیّة هذا المبدأ الثالث، بل الایات تؤكد أن مصیر الانسان رهین بعمله لاغیر

وهكذا‌ یتّضح لنا أن العمل الارادي لاي إنسان هـو طـریقه الطبیعي للحصول علی مصیره الذي یترتّب علی مجموع أعماله. فلا یمكن الحصول علی الكمال اللائق بالانسان إلاّ عن طریق العمل والسّلوك‌ الذی‌ یصلح لمثل هذا الهدف الاقصی

ومن هنا كان الایمان والعمل الصـالح شـرطین أساسیین لبـلوغ هذه الغایة كما سوف یأتی توضیحه إن شاء اللّه تعالی. ومن هنا نعرف كیف‌ أنّ‌ العاقل لا یتّكل علی المـُنی ولا یتواكل فی أمر مصیره وإنّما یكدح ویجتهد طوال حیاته لانـّه لا یـجنی إلاّ ثـمار عـمله، ولا سعادة من دون دلیل كما لا شقاء‌ من‌ دون‌ سبب. فعلی العاقل أن یبحث‌ عمّا‌ یؤدّی‌ إلی السعادة وعمّا یؤدّی إلی الشـقاء ‌ ‌بـعد أن اتّضح انّ العمل هو الطریق فحسب.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2159
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 07 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20