• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : عاشوراء والأربعين .
                    • الموضوع : العباس بن علي رائد الكرامة والفداء في الاسلام .

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء في الاسلام

الشيخ باقر شريف القرشي

ان بطولات أبي الفضل كانت ولا تزال حديث الناس في مختلف العصور، فلم يشاهدوا رجلاً واحداً مثقلاً بالهموم والنكبات يحمل على جيش مكثّف مدعّم بجميع آلات الحرب قد ضمّ عشرات الآلاف من المشاة وغيرهم فيلحق بهم أفدح الخسائر من معداتهم وجنودهم، ويقول المؤرخون عن بسالته ـ يوم الطف ـ إنه كلما حمل على كتيبة تفرّ منهزمة من بين يديه يسحق بعضها بعضاً قد خيّم عليها الموت، واستولى عليها الفزع والذعر قد خلعت منها الأفئدة والقلوب، ولم تغن عنها كثرتها شيئاً.

انّ شجاعة أبي الفضل وسائر مواهبه ومزاياه مما تدعو إلى الاعتزاز والفخر ليس له وللمسلمين فحسب، وإنما لكل إنسان يدين لإنسانيته، ويخضع لقيمها الكريمة.

وبالإضافة إلى ما يتمتّع به أبو الفضل العباس (عليه ‌السلام) من البطولات الرائعة فانّه كان مثالاً للصفات الشريفة، والنزعات العظيمة، فقد تجسّدت فيه الشهامة والنبل والوفاء والمواساة، فقد واسى أخاه أبا الأحرار الإمام الحسين (عليه ‌السلام) في أيام محنته الكبرى، ففداه بنفسه ووقاه بمهجته، ومن المقطوع به أن تلك المواساة لا يقدر عليها إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان، وزاده هدى.

ومثَّل أبو الفضل العباس (عليه ‌السلام) في سلوكه مع أخيه الإمام الحسين (عليه ‌السلام) حقيقة الأخوّة الإسلامية الصادقة، وأبرز جميع قيمها ومثلها، فلم يبق لون من ألوان الأدب، والبرّ والإحسان إلاّ قدّمه له، وكان من أروع ما قام به في ميادين المواساة له، انه حينما استولى على الماء يوم الطفّ تناول منه غرفة ليشرب، وكان قلبه الزاكي كصالية الغضا من شدّة الظمأ، فتذكّر في تلك اللحظات الرهيبة عطش أخيه الإمام الحسين وعطش الصبية من أهل البيت (عليهم ‌السلام)، فدفعه شرف النفس، وسموّ الذات إلى رمي الماء من يده، ومواساتهم في هذه المحنة الحازبة، تصفّحوا في تاريخ الأمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الأخوّة الصادقة؟!! انظروا في سجلاّت نبلاء الدنيا فهل ترون مثل هذا النبل، ومثل هذا الإيثار؟!

ولادته ونشأتهُ ونسبه الوضّاح

ليس في دنيا الأنساب نسبٌ أسمى، ولا أرفع من نسب أبي الفضل فهو من صميم الأسرة العلوية، التي هي من أجلّ وأشرف الأسر التي عرفتها الإنسانية في جميع أدوارها، تلك الأسرة العريقة في الشرف والمجد، التي أمدّت العالم العربي والإسلامي بعناصر الفضيلة، والتضحية في سبيل الخير، وما ينفع الناس، وأضاءت الحياة العامة بروح التقوى، والإيمان، وهذا عرض موجز للأصول الكريمة التي تفرّع قمر بني هاشم، وفخر عدنان منها.

الأب:

أمّا الأب الكريم لسيّدنا العباس (عليه ‌السلام) فهو الإمام أمير المؤمنين (عليه ‌السلام).

الاُم:

أمّا الأم الجليلة المكرّمة لأبي الفضل العباس (عليه ‌السلام) فهي السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد ..، وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب، ومن الشخصيات النابهة في السخاء والشجاعة وقرى الأضياف، وأما أسرتها فهي من أجلّ الأسر العربية، وقد عُرفت بالنجدة والشهامة.

الوليد العظيم:

وكان أوّل مولود زكيّ للسيّدة أمّ البنين هو سيّدنا المعظّم أبو الفضل العباس (عليه ‌السلام)، وقد ازدهرت يثرب، وأشرقت الدنيا بولادته وسرت موجات من الفرح والسرور بين أفراد الأسرة العلوية، فقد ولد قمرهم المشرق الذي أضاء سماء الدنيا بفضائله ومآثره، وأضاف إلى الهاشميين مجداً خالداً وذكراً نديّاً عاطراً.

وحينما بُشِّر الإمام أمير المؤمنين (عليه ‌السلام) بهذا المولود المبارك سارع إلى الدار فتناوله، وأوسعه تقبيلاً، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، لقد كان أوّل صوت قد اخترق سمعه صوت أبيه رائد الإيمان والتقوى في الأرض، وأنشودة ذلك الصوت.

«الله أكبر ... ».

«لا إله إلاّ الله ».

وارتسمت هذه الكلمات العظيمة التي هي رسالة الأنبياء، وأنشودة المتّقين في أعماق أبي الفضل، وانطبعت في دخائل ذاته، حتى صارت من أبرز عناصره، فتبنى الدعوة إليها في مستقبل حياته، وتقطّعت أوصاله في سبيلها.

وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل (عليه ‌السلام)، قام الإمام أمير المؤمنين (عليه ‌السلام) بحلق شعره، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين (عليهما ‌السلام) عملاً بالسنّة الإسلامية.

تسميته:

سمّى الإمام أمير المؤمنين (عليه ‌السلام) وليده المبارك (بالعباس) وقد استشفّ من وراء الغيب انه سيكون بطلاً من أبطال الإسلام، وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل، ومنطلق البسمات في وجه الخير، وكان كما تنبّأ فقد كان عبوساً في ميادين الحروب التي أثارتها القوى المعادية لأهل البيت (عليهم ‌السلام)، فقد دمّر كتائبها وجندل أبطالها، وخيّم الموت على جميع قطعات الجيش في يوم كربلاء، ويقول الشاعر فيه:

عبست وجوه القوم خوف الموت *** والعبّاس فيهـم ضاحـك متبسّم

انطباعات عن شخصيّته

واحتلّ أبو الفضل (عليه ‌السلام) قلوب العظماء ومشاعرهم، وصار أنشودة الأحرار في كلّ زمان ومكان، وذلك لما قام به من عظيم التضحية تجاه أخيه سيّد الشهداء، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان، وبنى للمسلمين عزّاً شامخاً، ومجداً خالداً.

وفيما يلي بعض الكلمات القيّمة التي أدلى بها بعض الشخصيات الرفيعة في حقّ أبي الفضل (عليه ‌السلام).

1 ـ الإمام زين العابدين (عليه السلام):

أمّا الإمام زين العابدين فهو من المؤسسين للتقوى والفضيلة في الإسلام، وكان هذا الإمام العظيم يترحّم ـ دوماً ـ على عمّه العبّاس ويذكر بمزيد من الإجلال والإكبار تضحياته الهائلة لأخيه الحسين وكان مما قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة:

رحم الله عمّي العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قُطعت يداه، فأبدله الله بجناحين، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وان للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة .. » [الخصال 1: 35]

وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه ‌السلام)، فقد أبدى في سبيله من ضروب الإيثار وصنوف التضحية ما يفوق حدّ الوصف، وما كان به مضرب المثل على امتداد التاريخ، فقد قطعت يداه الكريمتان يوم الطفّ في سبيله، وظلّ يقاوم عنه حتى هوى إلى الأرض صريعاً، وان لهذه التضحيات الهائلة عند الله منزلة كريمة، فقد منحه من الثواب العظيم، والأجر الجزيل ما يغبطه عليه جميع شهداء الحقّ والفضيلة في دنيا الإسلام وغيره.

2 ـ الإمام الصادق (عليه السلام):

أمّا الإمام الصادق (عليه ‌السلام) فهو العقل المبدع والمفكّر في الإسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطولية يوم الطفّ، وكان مما قاله في حقّه:

«كان عمّي العبّاس بن علي (عليه ‌السلام) نافذ البصيرة، صُلب الإيمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً .. » [ذخيرة الدارين: 123 نقلاً عن عمدة الطالب].

3 ـ الإمام الحجّة (عليه السلام):

وأدلى الإمام المصلح العظيم بقيّة الله في الأرض قائم آل محمد (صلّى ‌الله ‌عليه ‌وآله) بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس (عليه ‌السلام) جاء فيها:

«السلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد، وحكيم بن الطفيل الطائي ...» [مزار محمد بن المشهدي من أعلام القرن السادس: 553].

وأشاد بقيّة الله في الأرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان، وهي:

1 ـ مواساته لأخيه سيّد الشهداء (عليه ‌السلام)، فقد واساه في أحلك الظروف، وأشدّها محنة وقسوة، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ.

2 ـ تقديمه أفضل الزاد لآخرته، وذلك بتقواه، وشدّة تحرّجه في الدين، ونصرته لإمام الهدى.

3 ـ تقديم نفسه، واخوته، وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه ‌السلام).

4 ـ وقايته لأخيه المظلوم بمهجته.

5 ـ سعيه لأخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ (صلّى ‌الله ‌عليه ‌وآله).

كان سيّدنا العباس (عليه ‌السلام) دنيا من الفضائل والمآثر، فما من صفة كريمة أو نزعة رفيعة إلاّ وهي من عناصره وذاتياته، وحسبه فخراً أنّه نجل الإمام أمير المؤمنين الذي حوى جميع فضائل الدنيا، وقد ورث أبو الفضل فضائل أبيه وخصائصه، حتى صار عند المسلمين رمزاً لكل فضيلة، وعنواناً لجميع القيم الرفيعة، ونلمح ـ بإيجاز ـ لبعض صفاته.

1 ـ الشجاعة:

أمّا الشجاعة فهي من أسمى صفات الرجولة لأنها تنمّ عن قوة الشخصية وصلابتها، وتماسكها أمام الأحداث، وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الإمام أمير المؤمنين (عليه ‌السلام) الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود، كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميّزوا بهذه الظاهرة، وعرفوا بها من بين سائر الأحياء العربية.

2 ـ الإيمان بالله:

أمّا قوّة الإيمان بالله، وصلابته فإنها من أبرز العناصر في شخصية أبي الفضل (عليه ‌السلام)، ومن أوليات صفاته، فقد تربّى في حجور الإيمان ومراكز التقوى، ومعاهد الطاعة والعبادة لله تعالى، فقد غذّاه أبوه زعيم الموحّدين، وسيّد المتّقين بجوهر الإيمان، وواقع التوحيد، لقد غذّاه بالإيمان الناشئ عن الوعي، والتدبّر في حقائق الكون، وأسرار الطبيعة، ذلك الإيمان الذي اعلنه الإمام (عليه ‌السلام) بقوله: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» وقد تفاعل هذا الإيمان العميق في أعماق قلب أبي الفضل وفي دخائل ذاته حتى صار من عمالقة المتقين والموحّدين، وكان من عظيم إيمانه الذي لا يحد أنّه قدم نفسه واخوته وبعض أبنائه قرابين خالصة لوجه الله تعالى.

3 ـ الإباء:

لقد مثّل أبو الفضل (عليه ‌السلام) يوم الطفّ الإباء بجميع رحابه ومفاهيمه فقد منّاه الأمويون بإمارة الجيش، وإسناد القيادة العامة له أن تخلّى عن أخيه سيّد شباب أهل الجنّة، فهزأ منهم وجعل إمارة جيشهم تحت حذائه، واندفع بشوق وإخلاص إلى ميادين الحرب يجندل الأبطال ويحصد الرؤوس دفاعاً عن حرّيته ودينه وكرامته.

4 ـ الصبر:

ومن خصائص أبي الفضل (عليه ‌السلام) ومميّزاته الصبر على محن الزمان، ونوائب الدهر، فقد ألمّت به يوم الطف من المصائب والمحن التي تذوب من هولها الجبال، فلم يجزع، ولم يفه بأيّ كلمة تدلّ على سخطه، وعدم رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته، وانّما سلّم أمره إلى الخالق العظيم، مقتدياً بأخيه سيّد الشهداء (عليه ‌السلام) الذي لو وزن صبره بالجبال الرواسي لرجح عليها.

5 ـ الوفاء:

ومن خصائص أبي الفضل (عليه ‌السلام) الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة وبلغ أسمى حدّ لها.

6ـ الرأفة والرحمة:

وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين، والمضطهدين وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الأمويين حوض الفرات لحرمان أهل البيت من الماء حتى يموتوا أو يستسلموا لهم ...

والتاع أبو الفضل العبّاس كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء، وأخذه بالقوة، وقد صحب معه ثلاثين فارساً، وعشرين راجلاً، وحملوا معهم عشرين قربة، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الامام الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء وقد اعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع:

«ما جاء بك؟ .. ».

«جئنا لنشرب الماء الذي حلأتمونا عنه ..».

«اشرب هنيئاً .. ».

«أفأشرب والحسين عطشان، ومن ترى من أصحابه؟.».

«لا سبيل إلى سقي هؤلاء، انّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء .. ».

ولم يعن به الأبطال من أصحاب الإمام، وسخروا من كلامه، فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم منه، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج ومعه مفرزة من جنوده، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل، ونافع بن هلال، ودارت بينهم معركة إلاّ انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين، وعاد أصحاب الامام بقيادة أبي الفضل، وقد ملأوا قربهم من الماء.

لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت، وانقذهم من الظمأ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب (السقاء) وهو من أشهر ألقابه، وأكثرها ذيوعاً بين الناس كما أنّه من أحبّ الألقاب وأعزّها عنده [أنساب الأشراف 3: 181].

العباس مع أخوته:

وانبرى بطل كربلاء إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت (عليهم ‌السلام) فقال لهم:

«تقدّموا يا بني أمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله، فانه لا ولد لكم ...» [الارشاد: 269].

لقد طلب من اخوانه الممجدين أن يقدموا نفوسهم قرابين لدين الله، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره، والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبد الله فقال له:

«تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً، واحتسبك ..» [مقاتل الطالبيين: 82].

واستجابت الفتية إلى نداء الحق فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين (عليه ‌السلام).

مصرع أبي الفضل:

ولما رأى أبو الفضل (عليه ‌السلام) وحدة أخيه، وقتل أصحابه، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الإمام، وقال له بصوت حزين النبرات:

«أنت صاحب لوائي ..».

لقد كان الإمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه، ويردّ عنه كيد المعتدين، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً:

«لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، وأريد أن آخذ ثأري منهم ..».

لقد ضاق صدره، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته، وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء فتحرّق شوقاً للأخذ بثأرهم والالتحاق بهم.

وطلب الإمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة، فجعل يعظهم، ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته، ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد:

«يا بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله (صلّى ‌الله ‌عليه ‌وآله) قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء، قد احرق الظمأ قلوبهم، وهو مع ذلك يقول: «دعوني أذهب إلى الروم أو الهند، وأخلّي لكم الحجاز والعراق..».

وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد، ووجم الكثيرون، وودّوا أن الأرض تسيخ بهم، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً:

يا بن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كلّه ماءً، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد ...

لقد بلغت الخسّة، ولؤم العنصر، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار ... وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم، وسمع فخر عدنان صراخ الأطفال، وهم يستغيثون، وينادون:

« العطش العطش ..».

ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم، وتغيّرت ألوانهم، وأشرفوا على الهلاك، من شدّة العطش، وفزع أبو الفضل، وسرى الألم العاصف في محيّاه، واندفع ببسالة لإغاثتهم، فركب فرسه، وأخذ معه القربة، فاقتحم الفرات، فانهزم الجيش من بين يديه، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء، فاحتلّه، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه، إلاّ أنه تذكّر عطش أخيه، ومن معه من النساء والأطفال، فرمى الماء من يده، وامتنع أن يروي غليله، وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعين

تالله ما هذا فعال ديني

ان الإنسانية بكل إجلال واحترام لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والإسلام وهي تلقي على الأجيال أروع الدروس عن الكرامة الإنسانية.

ان هذا الإيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيات في خلق سيّدنا أبي الفضل، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله، فأي إيثار أنبل أو أصدق من هذا الإيثار، ... واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخيم بعدما ملأ القربة، وهي عنده أثمن من حياته، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ (صلّى‌ الله ‌عليه ‌وآله)، وأشاع فيهم القتل والدمار، وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب، فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر، ومحطّم فلول الشرك، إلاّ ان وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة، ولم يستقبله بوجهه، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها، لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها، وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت (عليهم ‌السلام) وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وألم الجراح، وشدّة العطش، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الإنسانية من الشرف والوفاء والرحمة ... وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأريق ماؤها، ووقف البطل حزيناً، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته، وهوى إلى الأرض، وهو يؤدّي تحيّته، ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً:

«عليك منّي السلام أبا عبد الله ...».

وحمل الأثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه، ومزّقت أحشاءه، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل، واقتحم جيوش الأعداء، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه، وجعل يضمخه بدموع عينيه، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً:

«الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدويّ ...».

وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه، وقد انهارت قواه، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله، وودّ أن الموت قد وافاه قبله.

فسلام على العباس حين ولد وحين استشهد وحين يبعث حيّاً


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2404
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 09 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29