• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 81 ـ في تفسير سورة التكوير .

81 ـ في تفسير سورة التكوير

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)﴾

  1. ـ إنّ ذكر القيامة جاء في موارد عديدة بصيغة الماضي كقوله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ و﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ [سورة الواقعة، ]، فالمستقبل الذي يُخبر عنه ربّ العالمين بمثابة الماضي في تحقّق الوقوع، ومن المعلوم أنّ ذِكر المستقبل المحقّق أكثر نفعاً من ذِكر الماضي؛ لأنّ هناك مجالاً للتدارك، والاستعداد لتغيير الماضي المظلم إلى حاضر مشرق.

إنّ الله تعالى عندما يذكر أهوال القيامة، يذكر الظواهر الكونية المتماسكة: كالشمس والنجوم وكذلك الجبال الساكنة المستقرّة، كل ذلك من أجل إفهام العبد أنّه لا ثابت ولا متماسك في هذا الوجود إلى الأبد، فكلّها في طريقها إلى الانكدار ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ والانطفاء ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾، فالذي يُعوَّلُ عليه هو ما له من الثبات في الذات والصفات، أوَليس هو المجيب الوحيد لنداء ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [سورة غافر، 16] قائلاً: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [سورة غافر، 16].

إنّ الناقة العشراء ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ هي من النفائس عند العرب ـ وقت التنزيل ـ وهي الناقة الحامل التي أتت عليها عشرة أشهر، وأمّا تعطيلها فيعني إهمالها في عرصات القيامة، فأهوالها تُشغِل العباد عن النفائس!.. ولو انشغل قلب العبد وهو في الدنيا بأهوال ذلك اليوم ـ كما في خطبة المتقين لعلي (ع) ـ فإنّه سيلهو أيضاً عن نفائس أهل الدنيا؛ لأنّه لا يعود نفيساً عنده، لانقلاب موازين التثمين لديه.

اختلفت التفاسير في حشر الوحوش، وكيف تُحشر وهي غير مكلّفة بشيء؟! [انظر: التبيان، ج10، ص281. مجمع البيان، ج10، ص673. الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص214]، فقيل بأنّها تُحشر بمقدار ما تدرك من ظلمها لغيرها من الحيوان، ويؤيّد ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [سورة الأنعام، 38] ومن لوازم المشابهة بين أمّة الطير والدواب وبين البشر هو الاشتراك في المهمّات، والمتمثّلة بالنهايات، أعني الحشر على صعيد واحد.

وعليه، ينبغي للعبد أن يلتفت إلى كل تقصير وقع بعلمه، ما دام هذا العلم بإجماله يوجب حشر الحيوان ومحاسبته حتى قيل أنّه: «يُقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء؛ تنطحها» [معالم التنزيل في تفسير القرآن، ج5، ص203].

إنّ البحار تشتمل على مادّتين سريعتي الاشتعال والتفجير، ولكن الله تعالى ألّف بينهما فجعلهما بتفاعلهما، برداً وسلاماً على العباد!.. فبالماء تُطفأ النيران، وجُزءاه مصدران لكل نار عندما يُفصل بينهما وإذا بـ﴿الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾.

وعليه، فإنّ الربّ الذي يخلق من طبيعتين ناريّتين طبيعة ثالثة هي رمز للبرد والسلام؛ يمكنه أيضاً أن يؤلّف بين الأمزجة النارية في الأسرة فيبعث فيها المودّة والرحمة، وفي المجتمع فيؤلّف بين أفرادها كما ألّف بين المسلمين الأوائل، الذين ما كانت لتأتلف قلوبهم، لولا أنّ الله تعالى ألّف بينهم ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [سورة الأنفال، 63].

إنّ النفوس تكتسب قابلية السكنى في الجنّة أو اللّبث في النار وهي في الحياة الدنيا، فكأنّها مخطوبة للحور العين، أو مقرونة بمردة الشياطين، ويبقى التزويج فعلاً في ذلك اليوم الموعود الذي يقول عنه تعالى: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾.

فذلك اليوم هو يوم عرس المؤمنين الطيّبين، لذا تليق بهم الطيّبات من الحور العين، وغيرهم هم الخبيثون؛ فتليق بهم الخبيثات من الشياطين القرينة!

إنّ وأد البنت من مصاديق قطع الرحم بل إزهاق الرحم، والحال بأنّ المقتولة لا تتعدّى كونها بحكم الجنين الذي لا يعلم حاله لو عاش في هذه الدنيا، ولكن جريمة الذين قطعوا قربى رسول الله (ص) وقتلوا ذرّيته أبشع وأكبر من جريمة وأد البنات!

ومن هنا، فإنّ من أوّل محاكمات التاريخ يوم القيامة قبل سؤال الموؤدة عن سبب قتلها ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ﴾ هو السؤال عن سبب قتل الحسين (ع) وخيار أصحابه.

إنّ النفوس عندما تنحرف عن دائرة الهدى فإنّها تخرج عن دائرة الفطرة السليمة، فترى الأمّ والتي هي مظهر الحنان والشفقة تدفن ابنتها وهي حيّة؛ كما كانت تفعل المرأة في الجاهلية عندما يحين وقت ولادتها، إذ كانت تحفر حفرة وتقعد على رأسها؛ فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماً حبسته‏!

وهذه الظاهرة وإن انتفت في الجاهلية الحديثة، إلا أنّ هناك صوراً اُخرى للوأد؛ متمثّلة في قتل أرواح الأبناء بالإجهاض تارةً، وتعريضهم لصور الفساد والإفساد تارةً اُخرى.. وهناك روايات تشير إلى صورة مختلفة من الوأد وذلك عندما سئل الإمام الباقر (ع) عن معنى الآية فقال: «من قُتل في مودّتنا وولايتنا» [مجمع البيان، ج10، ص275] وهم كثيرون طول التاريخ!

إنّ بعض أهل المعاصي يستترون عند ارتكاب المعاصي؛ خوفاً من الفضيحة بين بعض العباد، وقد لا يكون الرقيب ممّن يُعتد به، بل قد يكون الرقيب طفلاً لم يبلغ الحلم!.. والحال أنّ يوم القيامة يُفتضح فيه العصاة على رؤوس الأشهاد، فصحف الأعمال المطويّة في دار الدنيا وإذا بها قد ﴿نُشِرَتْ﴾.

ومن أعظم ما يوجب الخجل ـ بعد اطلاع الله تعالى على الأعمال ـ هو اطلاع النبي الخاتم (ص) على أعمال عصاة أمّته في محضر الأنبياء السابقين!

إنّ من الخصائص المهمّة ليوم القيامة هو ارتفاع الحجب عن أعين العباد، فقد عُبّر عن السماء التي كانت تحُول بين أهل الأرض وبين أهل السماء، بأنّها ﴿كُشِطَتْ﴾؛ أي: رفع الغطاء عنها بعد التصاقه بها، ومن الواضح أن يرى الناظر بعدها ما كان محجوباً عنه من الجنة والنار بل الملائكة، وقد صرّحت الآية بهذا الحدث العظيم وذلك بتعبير آخر، وهو تشقّق السماء وما يصاحبه من نزول الملائكة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ونُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ [سورة الفرقان، 25].

وهنا نقول: كم حريّ بأصحاب الهمم العالية في الحياة الدنيا، السعي لكشف حجاب الغفلة عن قلوبهم بالمراقبة المستمرّة والذكر الغالب، ليروا في هذه النشأة ما سيرونه في النشأة الاُخرى، ما دام الأمر في النشأتين ضمن دائرة الممكنات.

إنّ الرجل إذا كان ذا مكانة بين الخلق فإنّ العروس تُزفّ إليه وتتزلّف إليه بنفسها؛ وذلك تعظيماً لشأنه، وكذلك العكس!.. فالجنّة يومئذٍ كالعروس التي تُزفّ إلى الزوج ذي الشأن الكبير، ولهذا قال الباري عزّ وجلّ في شأن جنّته: ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ فالجنّة بحورها وقصورها كأنّها هي التي تقترب من أهلها شوقاً إليهم؛ إذ إنّهم الهدف الغائي من خلقتها.

ويُستفاد من الآيات بأنّ الجنّة والنار محيطتان بأهل الدنيا، ولكن حجاب المادّة مانع من رؤيتهما، كما يُستفاد من الروايات أنّ الحور الآن في كمال الشوق للقاء أزواجهن من أهل الدنيا، وكم هو الفرق بين الجنّة المُزلفة لأهلها، وبين الجحيم المخلوقة قبل نشأة الآخرة، حيث تُهيج نارها ﴿سُعِّرَتْ﴾ استعداداً لبلع أهلها بعد اشتداد لهبها.

إنّ هذه السورة من السور المتميّزة بكثرة الشروط فيها؛ حيث بلغت الشروط فيها اثنى عشر شرطاً، وكلها تنتهي بجواب واحد ألا وهو ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ ممّا يدلّ على عِظم أمر المراقبة في الدنيا حذراً من مفاجأة العبد بما لا يسرّه في العقبى، فلو أنّ عبداً رأى تجسّم عمله من جهة الآثار في الدنيا ـ خيراً كان أو شرّاً ـ لانضبط في كثير من سلوكه ولم يحتج إلى كثير موعظة؛ لأنّه بكل عمل صالح أو طالح يحقّق زاداً في دار الدنيا يحضر معه في ذلك اليوم.

 ومن هنا صار (العلم) موصوفاً بعلم اليقين ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ [سورة التكاثر، 5] وصار (العمل) موصوفاً بالوجدان إذ قد ﴿وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ [سورة الكهف، 49].

إنّ هذه الحالة من وجدان حضور الأعمال إنّما هي للجميع ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ [سورة آل عمران، 30] وهي تعمّ جهة الخير والشر، ولا يُستبعد أن يرى العبد أعماله في ذلك اليوم بشكل يغاير صورتها الملكية في الدنيا، بل يراها بصورتها الملكوتية، إذ إنّ تلك الدار دار انكشاف ومعاينة، ومن هنا فقد يتجلّى أكل مال اليتيم، بالصورة التي ذكرها القرآن الكريم قائلاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [سورة النساء، 10].

بل يمكن أن يقال: إنّه لو صفَت الحواس في دار الدنيا، فمن الممكن أن تتجلّى هذه الصورة فيها أيضاً، فقد روي عن الصادق (ع) أنّه قال: «إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما» [الكافي، ج2، ص130] ومن لوازم هذا السمو، أن تتكشّف له بعض الحقائق الغيبية وهو في دار الدنيا.

إنّ الآيات التي فيها نفي للقَسَم ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ فُسِّرت بعِدّة وجوه، والأوجه بينها: هو أنّ الله تعالى يريد أن يبيّن أنّ الأمر بمثابة من الوضوح لا يحتاج إلى قَسَم في البين، وإنّه إن كان ولا بُدّ من القَسَم فإنّه يقْسِم بهذه المذكورات.

وهذا جارٍ في العرف أيضاً، حيث يقول الأب: إنّي لا أريد القَسَم بولدي فإنّ الأمر كذا وكذا؛ بمعنى أنّه لو أردت قَسَماً لأقسمت به، وهذا خير من دعوى الزيادة في أداة القَسَم!

إنّ العديد من آيات القرآن الكريم تشير إلى الكواكب والنجوم بشكل ملفت للنظر ـ سواءً بصيغة القَسَم أو غيرها ـ ومنها ما في هذه السورة من ﴿الْجَوارِ الْكُنَّسِ﴾ والتي يلفّها شيء من الإبهام والغموض من جهة تبيين خنسها ﴿بِالْخُنَّسِ﴾؛ أي: اختفاؤها وجريانها إلى موضع استقرارها ﴿الْجَوارِ﴾ كاستقرار الحيوان في (كناسه) وهو بيته الذي يأوي إليه ﴿الْكُنَّسِ﴾ ففي هذه الآية صور تشبيهية لما لا تناله أيدينا من الكواكب المتحرّكة المُفسَّرة بالأنجم الخمسة.

وبالجملة فإنّ مثل هذه الآيات تريد من العبد أن يلتفت إلى ملكوت السماوات وما فيها من الآيات، وحيث إنّها أكبر من خلق البشر؛ فإنّ في الالتفات إليها صعوداً إلى عالم أوسع في أفق التفكير، بدلاً من التثاقل إلى الأرض.

إنّ قوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ﴾ يُشعر بأنّ النهار مرحلة جديدة من النشاط بعد سكون اللّيل، فكأنّ النهار كان في ضيق أثناء اللّيل، وبمجرّد انبلاج عمود الصبح تنفّس الصعداء تخلّصاً ﴿مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ [سورة الفلق، 3]! ولكن هذا المعنى إنّما هو لنهار كان له ليل، أمّا الذين قلَبوا ليلهم نهاراً؛ فقد لا يعيشون حقيقة هذا الانفراج ببزوغ الفجر.

إنّ الأقسام المتكرّرة في هذه السورة ـ بناءً على القسَميّة الصريحة أو المجازية ـ جاءت لتؤكّد على حقيقة الأمانة عند جبرائيل (ع) ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ ويلازمه صدق القرآن الكريم، بل صدق كل ما نزل به الملك الكريم من الوحي، ولا ريب أنّ تأسيس هذا الأصل ـ أي: أمانة حامل الوحي ـ هو أساس لتصحيح الشريعة برمّتها وإسنادها إلى الله تعالى، ومن المعلوم إنّ التشكيك بهذا الأصل، يوجب عدم حجّية ما أُلقي على النبي (ص) من الوحي لاحتمال تسرّب الخطأ إليه.

إذا كان الرسول المُتمثّل بجبرائيل (ع) بهذه المزايا التي ذكرتها الآية من: الكرامة، والقوّة، والمكانة، والطاعة، والأمانة؛ فكيف بمَن أُرسلوا من الأنبياء والمرسلين؟! حيث كان أبوهم آدم (ع) مسجوداً له.

ومن هنا نقول: إنّ الوصي إذا كان امتداداً للرسول، فلا بُدّ وأن يكون فيه الكثير من مزايا الرسول لتتحقّق المسانخة بينهما، وهذه المسانخة فيما بينهما أولى من المسانخة بين الرسول وسفير الوحي!

لو جعلنا الصفات المذكورة متعلّقة بالنبي (ص) كما ذهب إليه البعض ـ ومنها صفة المطاعية ـ فإنّ هذا يدلّ على أنّ النبي (ص) مكرّم عند الله تعالى إلى درجة تكون أوامره مطاعة، ومقتضى إطلاق ذلك أنّه يعمّ عالم التكوين والتشريع معاً، إذْ بلغ الأوج في طاعة الله تعالى، وقد نُقل في بعض الكتب أنّ عمه أبا طالب (ع) قال له: «ما أطوع ربُّك لك يا محمد»!.. فقال (ص) له: «وأنت يا عم لو أطعته أطاعك»! [تفسير روح المعاني، ج10، ص352]

إنّ قوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ لتدلّ على سفاهة كثير من الخلق، حيث وصفوا أعقل مَن في الوجود بالجنون!.. ومع ذلك فإنّ القرآن جاراهم في ذلك، فنفى هذه الصفة عن رسوله، وإن كان هؤلاء القوم دون مستوى أن يحدّثهم ربّ العالمين في مثل هذا الافتراء العظيم، ويترقّى الأمر إلى درجة يُعبّر القرآن الكريم بوصف الصحبة في العلاقة بين النبي (ص) وبين هؤلاء القوم الظالمين قائلاً: ﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ﴾.

ومن الممكن أن يُقال: إنّ وصف الصحبة ليس من باب تقريب القوم إلى نبيّه (ص) بل للتنبيه على أنّ هؤلاء عاشروا النبي معاشرة الصاحب لصاحبه، ورأوا منه كمال العقل؛ فكيف تجرّأوا على هذه النسبة؟!

إنّ آية ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ تدلّ على كرامة المتلاقيين:

فمن جهةٍ شُرِّف جبرائيل (ع) بأنّه رأى النبي (ص) وهذه الرؤية لم تكن رؤية مجرّدة ولقاءً عابراً، بل كان يغلب عليها الأنس والمحادثة.

ومن ناحية اُخرى فإنّ النبي (ص) رأى جبرائيل بالأفق المبين، والمذكور في آية اُخرى في سورة (النجم) بأنّه ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ [سورة النجم، 7].

فالفخر أن يصل بشر إلى ذلك الأفق الذي لا يصل إليه بشر بطبيعته البشرية، بل هو مختصّ بمَن لا يخضع لتأثيرات عالم المادّة كالملائكة المقرّبين.

إنّ النبي (ص) كريم في عطائه المادّي كما هو كريم في عطائه المعنوي ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾.. وعليه فإنّه يلزم المتأسّين به ـ كما هو المأمور به شرعاً ـ أن يكونوا كرماء في البُعدين معاً، فمَن فتح الله تعالى له باباً من العلم والحكمة؛ عليه أن يشكر حقّ هذه النعمة ببثّها في أهلها لئلا يظلم الحكمة، وهذا بخلاف ما صار إليه أهل الرهبانية، حيث حبسوا آثار الرهبانية على أنفسهم، فصاروا بعيدين عن مواطن التأثير في الآخرين.

إنّ التائهين في صحراء الحيرة والضلالة ينادَون بـ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾؟! فمَثل الذين انحرفوا عن جادّة الهدى كقوم تاهوا في ظلمات الحيرة، ومن المعلوم أنّ سرعة السير لا تزيدهم إلا بعداً!

أضف إلى أنّ التائه لا يستقرّ على مسير بعينه، بل يغيّر سبيله مرحلة بعد مرحلة، وهذه هي حالة المنحرفين فكرياً كما هو مشاهد خارجاً.

إنّ القرآن الكريم ـ رغم ما فيه من اللّطائف والإشارات التي لا يفهمها إلا أهلها ـ هو ذكر للعالمين أيضاً ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ فلا يعتذر أحد بأنّ كتاب الله تعالى فوق مستوى فهم عامّة البشر.

ومن هنا وردت الآيات المختلفة الدالّة على أنّه: بيان للناس، وأنّه أُرسل للتدبّر، وأنّه كتاب مبين، وأنّه آيات بيّنات.

إنّ القرآن الكريم ذِكرٌ لمَن شاء الاستقامة ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ فليست آياته بمثابة الماء الذي يُطفئ النار بمجرّد الصبّ عليه، بل يحتاج الأمر إلى: عزم الإنسان لتلقّي معارفه، والعمل بما تلقّاه، والاستقامة على ذلك العمل، ولكن هذه المشيئة أيضاً مرتبطة بمشيئة الله تعالى، فهو الذي إذا أراد الخير لأحدهم شرح الله تعالى صدره أوّلاً، فأراد العبد الاستقامة ثانياً، فصار القرآن له مذكِّراً ثالثاً.

وهذه خلاصة الآيات الأخيرة، إذ إنّ جوهرها بيان الأمر بين الأمرين؛ فمن ناحية:

جُعلت المشيئة للعبد لئلا يحتجّ بعدم الاختيار، إذ تقبح معاقبة المكرَه.

ومن ناحية اُخرى: لم يجعل لهذه المشيئة استقلالية تامّة في قبال مشيئة الله تعالى، لئلا ينقطع سلطانه عن الوجود، وهو ما عبّر عنه أمير المؤمنين (ع) بقوله: «عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود» [نهج البلاغة، الحكمة ٢٥٠].

إنّه من الممكن القول في جميع موارد ربط مشيئة العبد بمشيئة المولى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أنّ المشيئة الإلهية هي المشيئة القاهرة في الوجود بمقتضى الخالقية، ولكنّها من جهة اُخرى تابعة لمشيئة العبد؛ بمعنى أنّ العبد إذا أراد الهداية وأمثالها فإنّ الله تعالى بناؤه على إمضاء هذه المشيئة وتحقيق آثارها.

 ومن هنا زاد الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [سورة محمد، 17] وهو الذي يهدي ﴿لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة النور، 35] وهو الذي ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة البقرة، 269] ﴿وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة المائدة، 40].


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2465
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 03 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18