ما المقصود بالتفسير بالرأي؟

السؤال :

جاء في رويات عديدة أنه لا يحق لأي شخص تفسير القرآن برأيه؛ وإلا فليتبوأ مقعده من النار. ما المراد بالتفسير بالرأي؟



الجواب :

أطبق المفسرون وعلماء المسلمين كافة على أنه لا يحق لأي فرد تفسير الآيات القرآنية وفقاً لرأيه وأهوائه، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المضمون، ننقل لكم نماذج منها:

1-  قال رسول الله (ص): "مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّا مقْعَدَهُ مِنَ النّار" [1].

2- "مَنْ قالَ فِى الْقُرآن بِرَأْيِهِ [2] فَلْيَتَبَوَّا مقْعَدَهُ مِنَ النّار" [3].

3- "مَنْ فسَّرَ الْقُرآنَ وَ آَصابَ الْحَقّ فَقَدْ اَخْطَأَ" [4].

هذا جزء من الأحاديث الواردة في هذا المضمار. والآن علينا أن نتبين المراد من التفسير بالرأي أو التفسير من دون علم!

ذكر المفسرون المحترمون ثلاثة وجوه للتفسير بالرأي، وسنشير الى كل واحد منها إجمالاً:

1- يقدم المفسر على تفسير اللفظ الذي يحتمل معنيين ولا قرينة على تعيين أحدهما، أو الآية المجملة من ناحية المعنى والهدف والتي ينبغي رفع إجمالها عن طريق الآيات الأخرى، يقدم على تفسيرها بما يتلاءم وعقيدته المسبقة. وبعبارة أخرى: تتسبب العقائد المسبقة الموجودة في ذهن المفسر في تفسيره للآية المفتقرة الى القرينة والشاهد مطابقاً لاعتقاده الموجود سلفاً في ذهنه؛ فبدل أن يجعل القرآن هادياً ودليلاً له يقوم بتطبيقه على عقائده. بحيث إنه لا يفسر الآية بهذا التفسير أبداً لولا العقيدة المسبقة المتواجدة في ذهنه [5].

وتلاحظ نماذج كثيرة من هذا التفسير في كتب بعض الطوائف والمذاهب الخاصة نحو "المعتزلة" و"الأشاعرة" و"الصوفية" و"الباطنية"؛ فمن ارتضى المذهب المعتزلي أو الأشعري بصورة تامة ورؤيته بشأن أفعال الله والعباد، لما يصل الى آيات تخالف- ظاهراً- معتقداته في هذا المجال يبادر الى تفسيرها وفقاً لعقائده الموجودة سلفاً في ذهنه والمتوائمة مع المذهب الذي يعتنق؛ فبدلاً من عرض معتقداته على القرآن الكريم يعرض القرآن على عقائده الشخصية ويتلاعب بآيات الله تعالى حسب أهوائه.

وكتاب "الكشاف" [6] للزمخشري مثال بارز لتفسير القرآن على أساس مذهب الاعتزال؛ كما أن كتاب "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي نموذج صارخ للتفسير على وفق المذهب الأشعري. فكل واحد من هذين المفسرين بذل جهوداً كبيرة لإثبات عقائده السابقة في ضوء الآيات القرآنية، ولم يحاولا التخلص من قبلياتهما، ومن ثم تفسير الآيات القرآنية الواردة في صفات الله وأفعال عباده بتجرد وحيادية.

وعلى مرّ التاريخ كان هناك مفسرون وفلاسفة من الفرق الباطينة والصوفية يفسرون بعض الآيات المتصلة بالمعارف العقلية طبقاً للنظريات السالفة لهم؛ فعلى سبيل المثال قام الملا عبد الرزاق الكاشي بكتابة تفسيره على أساس العقائد الباطنية، فيما فسر ابن العربي [7]المعارف الالهية للقرآن طبقاً لآراء المتصوفة.

وعلى فرض أن هذا النوع من التفاسير التي دونت لتأسيس مذهب خاص (مؤسسه ليس بالشخص المعصوم من الخطأ) تنطوي على آراء صحيحة؛ لكنها إجمالاً لا تخلو من التفسير بالرأي.

في أواخر القرن الهجري الثالث عشر وبداية القران الرابع عشر ازدهرت الأفكار المادية الى حدّ بعيد، وهيمنت الاختراعات الجديدة في مجال التكنولوجيا على سائر مناحي الحياة مقصية باقي العلوم الى الهامش؛ وعلى هذا الأساس تبلور نوع خاص من التفسير بالرأي في أوساط بعض المفسرين، وبالتالي تمّ تفسير الآيات المتصلة بعالم الغيب والميتافيزيقيا كالروح والملائكة وإعجاز الأنبياء بشكل خاص بما يتلاءم والوضع السائد؛ وذلك من أجل جلب أنظار العلماء الطبيعيين والماديين من جهة، ومنح الآيات القرآنية –بزعم هؤلاء المفسرين – طراوة وحيوية أكثر من جهة أخرى، ويتضح صدق هذا الكلام بمراجعة تفسير "المنار" وأمثاله (ومن الجدير بالذكر أن بعض هذه التفاسير كتفسير "المنار" يتضمن إيجابيات ونقاط قوة كثيرة حريّة بالتأمل والتدبر).

فبما أن هؤلاء العلماء والمفسرين تأثروا بالتطور الهائل على صعيد العلوم المادية والطبيبعية، حاولوا تطبيق الحقائق القرآنية المرتبطة بعالم الغيب وما وراء الطبيعة بقوام المادة والطبيعة التي ركز عليها العلم إذ ذاك، الى درجة أن بعض هؤلاء ذهب الى أن الملائكة هم القوى الكامنة في زوايا الطبيعة.

وفي المجال الأخلاقي عمد بعض علماء الأخلاق الى صبّ جلّ اهتمامهم بالمسائل الأخلاقية وتزكية النفس، وآل بهم المطاف الى تفسير بعض الآيات تفسيراً بالرأي، حتى فسروا الشيطان بالنفس الأمارة بالسوء وأنكروا وجود شيء مستقل باسم "الشيطان"!

كما أن البعض ذهب في تفسير قوله تعالى: (اِذْهَبْ اِلى فِرْعَونَ اِنَّهُ طَغى) [طه: 24] الى أن المراد من فرعون فيها نفس الانسان المعتدي، فيقول: الآية تتعلق بإصلاح النفس وتهذيبها وتنقية الروح لا مقارعة فرعون خاص [8]!

كل هذه التفاسير ونظائرها تقع في خانة التفسير بالرأي الناتج عن إصدار الأحكام وفقاً لترسبات ذهنية سابقة أو التأثر بالأجواء السائدة، ما يؤدي الى رفع اليد عن ظاهرالآية والتماس معنى جديد لها مخالف لذلك الظاهر.

****************

2- المعنى الثاني للتفسير بالرأي هو الأخذ بالمعنى الابتدائي للآية دون الأخذ بنظر الاعتبار الأدلة القطعية أو الآيات الأخرى الواردة في هذا المجال؛ نحو غضّ الطرف عن الأدلة العلمية والآيات القرآنية الدالة على نفي الجسمية عن الله تبارك وتعالى بصورة واضحة والاستدلال ببعض ظواهر الآيات التي هي من باب المجاز والكناية على أن له جسماً والعياذ بالله، فيقال مثلاً يدل قوله تعالى: (يَدُ اللهِ فَوقَ أيديهم) [الفتح: 10] على أن له يداً! بينما لايراد من اليد هنا اليد المتعارفة قطعاً، وإنما المراد بها الكناية عن القدرة والسلطة.

***************

3- المعنى الثالث للتفسر بالرأي هو الاستعانة بغير القرآن في تفسير القرآن؛ لأن باستطاعة مجموع آيات القرآن –باستثناء آيات الأحكام- رفع الإجمال والغموض في باقي الآيات؛ فلا حاجة في تفسير القرآن الى فهم الصحابة والتابعين [9].

هذا وقد ذهب صاحب كتاب "كشف الظنون" [10]الى وجود خمسة أنواع من التفسير بالرأي، لكن أصولها ترجع الى الأقسام المذكورة.

وتجدر الاشارة هنا الى نقطة هامة وهي أنه من بين المعاني المختلفة المذكورة  للتفسير بالرأي لم يقل أي واحد من المفسرين الاسلاميين  أن مراد النبي (ص) منه التفسير بالعقل، لكي نشن عليهم هجوماً ونقول: "إنما قالوا ذلك لكي لا يفهم الناس القرآن، كالقساوسة الذين استحوذوا على التوراة والانجيل في القرون الوسطى؛ فهؤلاء يرومون احتكار كتاب الله لهم، وبمنع التفكر والتعقل في القرآن الكريم يطمحون الى جعل جسده بين الناس وروحه مجهولة وظهوره بصورة ألفاظ وأوراد وألحان مقدسة وغامضة وألغاز غير مفهومة".

إن المفسرين الذي تطرقوا الى معنى التفسير بالرأي لم يفسروا الأحاديث المذكورة بهذ المعنى؛ بل ذهب علماء الاسلام -والمذهب الشيعي على وجه التحديد - الى أن العقل يمثل أحد مصادر الحجج الالهية والأدلة القاطعة حتى جعلوه مساوقاً للكتاب والسنة والاجماع.

أنى لهؤلاء حمل لفظ "الرأي" الوارد في حديث رسول الله (ص) على العقل؛ في حين أن المعاجم العربية الموضوعة لتفسير الألفاظ القرآنية والسنة النبوية أكدت على أن هذه المفردة تعني الظن والحدس والتخمين [11].

واذا كانت طائفة الاخباريين لا تعمل بظواهر الآيات المتعلقة بالفروع والأحكام العلمية فليس من باب أنها تقول: لا يجب تفسير القرآن بالعقل، بل من ناحية أن هذه الآيات تشتمل على ناسخ ومنسوخ وعام وخاص ومطلق ومقيد، ولا يتسنى لنا معرفة ذلك من دون الرجوع الى الأئمة المعصومين (ع)؛ لذا فهم لا يعملون بهذه المجموعة من الآيات القرآنية.

أضف الى ذلك، لو فرضنا أن شخصاً أو شخصين من مغموري هؤلاء تحدثوا بمثل هذا الحديث الباطل، فهل يصح نسبة هذا الادعاء العاري عن الصحة بشكل يوحي أن علماء الاسلام طيلة القرون المتمادية قد حالوا دون فهم عموم الناس للقرآن الكريم؛ في حين أن هؤلاء العلماء والمفسرين دونوا مئات التفاسير لكتاب الله المجيد بمختلف اللغات العالمية الحية؟ ولمعرفة عدد التفاسير المكتوبة للقرآن الكريم فليرجع الى كتابي "كشف الظنون" و"الذريعة" [12].

إن كان مقصود أولئك من هذا الكلام هو بقاء القرآن الكريم بيد ثلة منهم كما هو الحال في التوراة والانجيل حيث ظلت بيد الأحبار والرهبان، فلمَ دُونت كل هذه التفاسير للقرآن بلغات عالمية عديدة بُحث فيها عن كافة خصوصيات آياته من حيث العقل والنقل؟

والخطأ الآخر الذي وقع فيه قائل هذا الكلام هو أنه ترجم (التبوء) في حديث النبي (ص) "من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" ب" الملء"، في حين أن مادة "تبوء" التي أخذ منها لفظ "فليتبوأ" لم ترد بمعنى "الملء"، بل تعني التجهز لأخذ المكان المناسب.

وفضلاً عن ذلك، فانه فسر كلمة "مقعد" الواردة في الحديث الآنف بالموضع الخاص، والحال أنه ليس كذلك إذ المراد منه في هذا الحديث المكان بشكل عام لا الموضع الخاص، والدليل على ذلك أن كلا اللفظين وردا في الآية التالية وفسرا بما ذكر، قال تعالى" (تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) [آل عمران: 121] [13].

وعليه فالمعنى الصحيح للحديث المذكور هو: "من فسر القرآن برأيه الخاص عليه أن يختار له مكاناً من جهنم أويهيئه له"، فيثبت أن من فسره بغير هذا المعنى لا اطلاع لديه على الأدب العربي.


 

(1) روي هذا الحديث في أغلب الكتب العلمية عن النبي الكريم (ص).

(2) ورد في تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن": 1/32. كلمة "برأي" بدل "برأيه"؛ وفي تفسير "مجمع البيان": 1/9 وردت بدلاً عن كلمة "برأيه"عبارة "بغير علم" أي الظن ونحوه.

(3) "جامع البيان": 3/32.

(4) التبيان: 1/3. وقد وردت روايات في هذا المجال، ولمزيد من الاطلاع على ذلك يرجى الرجوع الى "تفسير البرهان": 1/18 و19.

(5) "مجمع البيان": 1/12؛ الجامع لأحكام القرآن: 1/4؛ آيات الأحكام للمحقق الأردبيلي: 12؛ التفسير الصافي: المقدمة الخامسة، ص9؛ رسائل الشيخ الأنصاري: 35. وبما أن كلمة "رأي" في اللغة العربية تعني الظن والتخمين، يتضح أن الآراء السابقة الموجودة في ذهن المفسر ليست آراء قطعية، بل هي سلسلة من التوقعات والظنون التي لا يقطع المفسر نفسه بصحتها واستقامتها.

(6) إن توجيه النقد لنمط تفسير هذا الكتاب للآيات المتصلة بالمسائل الخلافية بين المعتزلة والأشاعرة لا يقلل من قيمته في إبراز جانب الفصاحة والبلاغة الرائعة التي لا تدانى للقرآن الكريم؛ لأن براعة الكشاف في هذا المجال لا تقبل الإنكار.

(7) ذهب جمع من المحققين الى أن التفسير المنسوب الى محيي الدين بن العربي ليس من تأليفه، بل هو من مؤلفات أحد تلامذته.

(8) براهين القرآن: 55.

(9) الميزان: 3/85 -86.

(10) مقدمة مجمع البيان: 6.

(11) قال الراغب الاصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن"، مادة "رأى": "والرأي: اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن، وعلى هذا قوله تعالى:( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) [آل عمران: 13]، أي: يظنونهم بحسب مقتضى مشاهدة العين مثليهم".

(12) أنظر: كتاب "كشف الظنون": 1/302 -316؛ "الذريعة" للعلامة المرحوم المتبحر أقا بزرك الطهراني: 4/ 231 -345.

(13) "مجمع البيان": 5/ 495؛ مفردات ألفاظ القرآن للراغب: 69؛ وانظر أيضاً: تفسير الآية 56 من سورة يوسف.

 

منقول من موقع الشيخ مكارم الشيرازي

http://www.makaremshirazi.org/arabic/


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/question/index.php?id=316