كيف لنا أن نوفّق بين قوله تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ..} وبين ما ثبت من العلم التامّ للنبي وآله الطاهرين؟

السؤال :

دلّت آيات وروايات كثيرة على العلم التامّ الكامل لمحمّد وآله الأطهار (ص)، فكيف لنا أن نوفّق بين قول الله سبحانه في حقّ المنافقين: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ..} [التوبة: 101] وقوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ..} [الشورى: 52] وبين هذه الروايات.



الجواب :

إنّ الذي يعلم الغيب بالذات (بالأصالة والاستقلال) هو الله سبحانه وتعالى لا سواه, فهو مختصّ به سبحانه لا يطلق على غيره كما دلّت على ذلك آيات كثيرة كقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثونَ} [النمل: 65], ولكن هذا لا يمنع أن يطلع غيره على الغيب ويعلمه به، فيكون لديه علم بالغيب اكتسابي غير ذلك العلم الذاتي الثابت لله؛ بل هو علم بالغير لا بالاستقلال ثابت للممكن الذي يرتضيه الله من الرسل والأنبياء والملائكة وغيرهم وبالتبع سوف يختلف هذا العلم المعطى من الله بينهم سعةً وضيقاً حسب مقام ورتبة المعطى له.

  ولكن مهما كانت سعة هذا العلم لا يعني أنّه سوف يعلم كلّ الغيب لأنّ بعضه مختصّ بالله لا يطلعه على أحد كعلم الساعة هذا أوّلاً, ولا يكون نفس ذلك العلم الثابت لله بالأصالة والاستقلال وإنّما يكون علمه بالتبع وبالغير هذا ثانياً، فالقاعدة أنّه مهما ثبت من سعة علم رسول الله (ص) والأئمّة (ع) يبقى هذا العلم تعلّم من ذي علم إن شاء علّمهم وإن شاء حجبهم، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188], أي: بالاستقلال وهذا العلم لا يكون إلا لله تعالى.

  ولكن في المقابل نجد آيات أخبرت أنّ الله يظهر علمه لفئة خاصة قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً, إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26, 27], وقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179], وهذه الآية بالخصوص تدلّ على أنّ الله لا يدع الاُمّة مختلطة ويجب أن يميز الطيّب من الخبيث ولا يطلع أحداً على ذلك إلا من اجتبى من رسله فإنّه يطلعهم على شؤون المؤمنين والمنافقين ليعرفوهم ويميّزوا بينهم وهذا مقتضى الشهادة يوم القيامة, ويفهم منه أنّ رسول الله (ص) كان مطّلعاً وعارفاً بالمنافقين ويؤيّده خبر حذيفة ليلة العقبة, ولكن ربّما يُتوهّم المعارضة من قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101], مع أنّ الآية لا تدلّ على عدم علم النبي (ص) بالمنافقين في المدينة إلا في ظرف خاص هو ظرف نزول الآية لا مطلقاً، فهي لا تنفي علم النبي (ص) بكلّ المنافقين إلى آخر عمره، إذ هناك آيات اُخر تبيّن صفات المنافقين الذين يمكن تشخيصهم من خلالها كسيماهم وأنّهم كالخشب المسنّدة ويأتون الصلاة وهم كسالى وغيرها، بل هناك آية تأمر النبي (ص) بعدم الطاعة للمنافقين: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 48], فكيف لا يطيعهم وهو لا يعرفهم؟ بل إنّه نُهي عن الصلاة عليهم: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 84], مع أنّ السنّة النبويّة تؤكّد على أنّه (ص) كان يعرف المنافقين خاصّة أصحاب العقبة وأخبر بهم حذيفة.

 الآية {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} [الشورى: من الآية52], دلالة على ذلك فإنّه تعلّم ذلك من الروح التي بعثها الله سبحانه إليه وليس معناه أنّه لم يكن مؤمناً وإنّما علّمه الروح الكتاب والشرائع والعقيدة التي يعلّمها للناس.

المجيب مركز الأبحاث العقائدية بتصرف


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/question/index.php?id=353