القرآن و يوم الغدير
إنما يقوم القرآن في إظهار آية الكمال و الاتمام و النعمة و الرضا في يوم شديد الحر ووهج الصحراء تتصاعد منها الحمم و الناس على أهبة الرجوع إلى أوطانهم يريدون وداع منقذ الإنسانية فإذا بالوحي ينزل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) (بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) إنه تحذير عجيب و تخويف غريب بعد ذلك القيام و الجهاد المتواصل هل يستحق هذا كله و كأنه يوضع في صفحة المهملات؟ و هل إن اللّه يبطل تلك الأعمال الجبارة فيحسبها سرابا لا وجود لها؟ و ما هي المهمة التي سوف يمارسها هذا الحبيب ليأتي بالمطلوب الحقيقي أو بالجزء المكمل لعلة حتى تسير العلة متكاملة و التشريع يأخذ في مجراه من غير تلاطم في الأمواج و لا تضارب في الأجواء و ذلك تنصيب علي (عليه السلام) إماما وهاديا بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) فيأخذ بيده الرسول (صلى الله عليه وآله) ملوحا و ينصبه علما على كافة الناس و يأمر الناس بمبايعته و لا يتخلف عنه من الجمع أي أحد و بعد ذلك تنزل الآية الكريمة (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا).(1)
ثم إن ما أشار أليه القرآن في الأمر بالتبليغ و إن لم يفعل فما بلغ رسالته دلالة على عظم الموقف و أهمية الحدث فقال له سبحانه (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و اللّه يعصمك من الناس) إن مثل هذا الموقف الذي ربما يسبب ردة فعل منعكسة من قبل المسلمين حيث انقادوا للإسلام اما طوعا و اما كرها وإما طمعا فهم بين طوائف و مجتمعات متضاربة قد غطاهم الإسلام تحت كلمة لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه و لكن لم يرفع تلك الأحقاد و الضغائن في النفوس إلا من صقله الإسلام و دخل في قلبه حب الإيمان عن معرفة و دراية.
فأقدم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) على الإعلان الرسمي في خلافة علي (عليه السلام) وجعله وصيا رسميا بعد خطبة مستوعبة و الكشف عن حقيقة الإمام علي (عليه السلام) الذي هو الثقل الثاني بعد الكتاب و أن عليا مع القرآن و القرآن مع علي لايفترقان حتى يردا عليه الحوض.(2)
و قول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) : (أنا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به فحث على كتاب اللّه ورغب فيه ثم قال و أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي) رواه صحيح مسلم و قال أيضا قال (صلى الله عليه وآله) : (ألا و إني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب اللّه عز و جل هو حبل اللّه من اتبعه كان على الهدى و من تركه كان على ضلالة)(3)
فإذا درسنا شخصية علي (عليه السلام) و ما يحمله من طاقات تكون مثارا للدهشة ومثارا للفتنة رجل متوسط الخلقة في جسمه كيف يفتح باب خبير و يصارع أكبر رجالات العالم و يخرق جميع التحديات البشرية في جميع طاقاتهم و إذا تأملناه في فصاحته لا يدانيه أي فصيح ما عدا الرسول (صلى الله عليه وآله) و القرآن فهو أمير الفصحاء و البلغاء على وجه الكرة الأرضية و إذا تابعنا مناهجه العلمية فإنه ينطلق كالأبحر الزاخرة و الأمواج المتلاطمة يركع له كل رائد في الفكر و عملاق في القوة و إذا شاهدناه في عبادته فهو الذي يقول : (ما عبدتك خوفا من نارك و لاطمعا في جنتك و لكن وجدتك أهلاً للعبادة) فعبدتك فكانت عبادته عبادة الأحرار لاعبادة التجار و لا عبادة العبيد يذوب في العبادة ويفنى في ذات اللّه قد طلق الحياة ثلاثا كل ذلك لأجل القرب إلى ساحة المعبود الحقيقي.
فإذا كان هذا المثل الرائع يحمله هذا الوجود فكيف ابتعدت الأمة عن وجود هذا النور و القبس المتأجج من الوحي الالهي و سارت بركاب الآخرين لم تخضع للنسخة الثانية بعد النبوة و انقادت تحت السلطة الدنيوية استئثارا للمصالح المزعومة تحسبا بانها تسير نحو الطريق المستقيم و ما علمت أن ما يسير عليه نهج علي (عليه السلام) هو نهج القرآن و أنهما لايفترقان إلى أن يصلا إلى الحوض و هو كناية عن الاستقامة و الموازنة بين خط عليٍّ و خط القرآن.
و لنتأمل لماذا يكرر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) و أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم في أهل بيتي لابد أن يكون لأجل التنبيه و اليقظة إليّ وجود هذا الثقل الذي يضارع ثقل القرآن و لم يكن أمرا عاديا ولم يكن عن عاطفةٍ لايناسب مقام منقذ الإنسانية.
المصادر:
ـــــــــــــــ
1 ـ المائدة/ 3. شهادة الصحابة لما قام به النبي صلىاللهعليهوآله في تنصيب علي عليهالسلام ـ راجع بذلك أسد الغابة فيمعرفة الصحابة لعز الدين أبي الحسن علي بن محمد المتوفى 630 ط بدون ص 6 ج 5.
وورد أيضا في صحيح مسلم ط الأولى عام 1956 م تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي إلا أنه لم يعوّل على رواية مالك بن أنس لأنه كاتم للشهادة في يوم الغدير ـ و راجع الصواعق المحرقة ص 122 ط 2 سنة 1965 م و مقال صاحب الصواعق أن من رواهُ عن النبي صلىاللهعليهوآله ثلاثون صحابيا و أن كثيرا من طرقه صحيح أو حسن ـ و أيضا راجع المناقب للخوارزمي ط 1965 م ص 79 ـ راجع ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى لمحب الدين أحمد بن عبداللّه الطبري ص 67 ط 1974.
2 ـ نور الأبصار ص 89 لمؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجي ط 1978 م.
3 ـ صحيح مسلم حديث 2408 ـ تسلسل 39ـ37.
المصدر : بحث الشيخ الخاقاني تحقيق الدكتور الشيخ سجاد الشمري