00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الفاتحة 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الاول)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

التبيان في تفسير القرآن

تأليف

شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

385 - 460 ه‍.

تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي

المجلد الاول

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

الحمدلله اعترافا بتوحيده، واخلاصا لربوبيته، واقرارا بجزيل نعمته، وإذعانا لعظيم منته، وشكرا على جميع مواهبه، وكريم فواضله، وصلى الله على خيرته من خلقه محمد صلى الله عليه وآله، والطاهرين من عترته، والطيبين من أرومته، وسلم تسليما.

أما بعد، فان الذي حملنى على الشروع في عمل هذا الكتاب اني لم أجد أحدا من أصحابنا - قديما وحديثا - من عمل كتابا يحتوي على تفسير جميع القران، ويشتمل على فنون معانيه وانما سلك جماعة منهم في جميع ما رواه ونقله وانتهى اليه في الكتب المرويه في الحديث، ولم يتعرض أحد منهم لاستيفاء ذلك، وتفسير ما يحتاج اليه.

فوجدت من شرع في تفسير القرآن من علماء الامة، بين مطيل في جميع معانيه، واستيعاب ما قيل فيه من فنونه - كالطبري وغيره - وبين مقصر اقتصر على ذكر غريبه، ومعاني ألفاظه. وسلك الباقون المتوسطون في ذلك مسلك ما قويت فيه منتهم(1) وتركوا مالا معرفة لهم به فان الزجاج والفراء ومن اشبههما من والنحويين، أفرغوا وسعهم فيما يتعلق بالاعراب والتصريف. ومفضل بن سلمة وغيره - استكثروا من علم اللغة، واشتقاق الالفاظ. والمتكلمين - كأبي علي الجبائي وغيره - صرفوا همتهم إلى ما يتعلق بالمعاني الكلامية.

ومنهم من أضاف إلى ذلك، الكلام في فنون علمه، فادخل فيه ما لايليق به، من بسط فروع الفقه، واختلاف الفقهاء - كالبلخي وغيره - وأصلح من سلك في ذلك مسلكا جميلا مقتصدا، محمد ابن بحر، أبومسلم الاصفهاني، وعلي بن عيسى الرماني، فان كتابيهما أصلح

___________________________________

(1) المنة: القوة والكلمة من الاضداد.

[2]

ما صنف في هذا المعنى، غير أنهما أطالا الخطب فيه، وأوردا فيه كثيرا مما لا يحتاج وسمعت جماعة من اصحابنا قديما وحديثا، يرغبون في كتاب مقتصد يجتمع على جميع فنون علم القرآن، من القراء‌ة، والمعاني والاعراب، والكلام على المتشابه، والجواب عن مطاعن الملحدين فيه، وأنواع المبطلين، كالمجبرة، والمشبههة والمجسمة وغيرهم، وذكر ما يختص اصحابنا به من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحة مذاهبهم في اصول الديانات وفروعها وأنا ان شاء الله تعالى، أشرع في ذلك على وجه الايجاز والاختصار لكل فن من فنونه، ولا أطيل فيمله الناظر فيه، ولا اختصر اختصارا يقصر فهمه عن معانيه وأقدم امام ذلك، فصلا يشتمل على ذكر جمل لابد من معرفتها دون استيفائها، فان لاستيفاء الكلام فيها مواضع هي أليق به ومن الله استمد المعونة، وأستهديه إلى طريق الرشاد، بمنه وقدرته ان شاء الله تعالى

[3]

فصل في ذكر جمل لابد من معرفتها قبل الشروع في تفسير القرآن

إعلم ان القرآن معجزة عظيمة على صدق النبي عليه السلام، بل هو من أكبر المعجزات وأشهرها. غير أن الكلام في إعجازه، وجهة إعجازه، واختلاف الناس فيه، لا يليق بهذا الكتاب، لانه يتعلق بالكلام في الاصول. وقد ذكره علماء أهل التوحيد، وأطنبوا فيه، واستوفوه غاية الاستيفاء.

وقد ذكرنا منه طرفا صالحا في شرح الجمل، لايليق بهذا الموضع، لان استيفاء‌ه يخرج به عن الغرض واختصاره لايأتي على المطلوب، فالاحالة عليه أولى والمقصود من هذا الكتاب علم معانيه، وفنون أغراضه وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لايليق به ايضا، لان الزيادة فيه مجمع على بطلانها والنقصان منه، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه، وهو الاليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى (ره)، وهو الظاهر في الروايات غير أنه رويت روايات كثيره، من جهة الخاصة والعامة، بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شئ منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لاتوجب علما ولا عملا، والاولى الاعراض عنها، وترك التشاغل بها، لانه يمكن تأويلها ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين، فان ذلك معلوم صحته، لايعترضه احد من الامة ولايدفعه ورواياتنا متناصرة بالحث على قراء‌ته والتمسك بما فيه، ورد ما يرد من اختلاف الاخبار في الفروع اليه.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله رواية لا يدفعها احد، انه قال: (اني مخلف فيكم الثقلين، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وهذا يدل على

[4]

انه موجود في كل عصر، لانه لايجوز ان يأمر بالتمسك بما لا نقدر على التمسك به.

كما أن اهل البيت، ومن يجب اتباع قوله حاصل في كل وقت. واذا كان الموجود بيننا مجمعا على صحته، فينبغي ان نتشاغل بتفسيره، وبيان معانيه ونترك ما سواه واعلم ان الرواية ظاهرة في اخبار اصحابنا بأن تفسير القرآن لايجوز إلا بالاثر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن الائمة عليهم السلام، الذين قولهم حجة كقول النبي صلى الله عليه وآله، وان القول فيه بالرأي لايجوز.

وروى العامة ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (من فسرالقرآن برأيه وأصاب الحق، وفقد اخطأ) وكره جماعة من التابعين وفقهاء المدينة القول في القرآن بالرأي: كسعيد بن المسيب وعبيدة السلماني، ونافع، ومحمد بن القاسم، وسالم بن عبدالله، وغيرهم وروي عن عائشة أنها قالت: لم يكن النبي " ص " يفسر القرآن إلا بعد أن يأتي به جبرائيل (ع) والذي نقول في ذلك: إنه لايجوزان يكون في كلام الله تعالى وكلام نبيه تناقض وتضاد وقد قال الله تعالى: " انا جعلناه قرآنا عربيا "(1) وقال: " بلسان عربي مبين "(2) وقال " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه "(3) وقال: " فيه تبيان كل شئ " وقال: " ما فرطنا في الكتاب من شئ "(4) فكيف يجوز ان يصفه بانه عربي مبين، وانه بلسان قومه، وانه بيان للناس ولا يفهم بظاهره شئ؟ وهل ذلك إلا وصف له باللغز والمعمى الذي لا يفهم المراد به إلا بعد تفسيره وبيانه؟ وذلك منزه عن القرآن وقد مدح الله أقواما على استخراج معاني القرآن فقال: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم "(5)، وقال في قوم

___________________________________

(1) سورة الزخرف: آية 43.

(2) سورة الشعراء: آية 195.

(3) سورة ابراهيم: آية 4.

(4) سورة الانعام: آية 38.

(5) سورة النساء: آية 82.

[5]

يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن، ولم يتفكروا في معانيه: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها(1) وقال النبي صلى الله عليه وآله. (اني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي) فبين ان الكتاب حجة، كما أن العترة حجة.

وكيف يكون حجة ما لا يفهم به شئ؟ وروى عنه عليه السلام انه قال: (اذا جاء‌كم عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط) وروي مثل ذلك عن أئمتنا عليهم السلام، وكيف يمكن العرض على كتاب الله، وهو لا يفهم به شئ؟ وكل ذلك يدل على ان ظاهر هذه الاخبار متروك.

والذي نقول به: إن معاني القرآن على أربعة أقسام:

احدها - ما اختص الله تعالى بالعلم به، فلا يجوز لاحد تكلف القول فيه، ولاتعاطي معرفته، وذلك مثل قوله تعالى: " يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل: إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو "(2) ومثل قوله تعالى: " ان الله عنده علم الساعة.."(3) إلى آخرها فتعاطي معرفة ما اختص الله تعالى به خطأ.

وثانيها - ما كان ظاهره مطابقا لمعناه، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها، عرف معناها، مثل قوله تعالى: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق "(4) ومثل قوله تعالى: (قل هو الله أحد)(5) وغير ذلك.

وثالثها - ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا. مثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة)(6) ومثل قوله: (ولله على الناس حج البيت

___________________________________

(1) سورة محمد: آية 24.

(2) سورة الاعراف: آية 186.

(3) سورة لقمان: آية 34.

(4) سورة الانعام: آية 151.

(5) سورة التوحيد: آية 1.

(6) سورة البقرة: آية 43 و 83 و 110 النساء آية 76. الحج آية 78 النور آية 56 المجادلة آية 13 الزمل آية 2.

[6]

من الستطاع اليه سبيلا)(1) وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده)(2) وقوله: (وفي أموالهم حق معاوم)(3) وما اشبه ذلك.

فان تفصيل اعداد الصلاة وعدد ركعاتها، وتفصيل مناسك الحج وشروطه، ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن استخراجه إلا ببيان النبي صلى الله عليه وآله ووحي من جهة الله تعالى. فتكلف القول في ذلك خطأ ممنوع منه، يمكن ان تكون الاخبار متناولة له ورابعها - ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد عنهما، ويمكن ان يكون كل واحد منهما مرادا. فانه لاينبغي أن يقدم احد به فيقول: ان مراد الله فيه بعض ما يحتمل - إلا بقول نبي او امام معصوم - بل ينبغي ان يقول: ان الظاهر يحتمل لامور، وكل واحد يجوز أن يكون مرادا على التفصيل.

والله أعلم بما أراد ومتى كان اللفظ مشتركا بين شيئين، أو ما زاد عليهما، ودل الدليل على انه لا يجوزان يريد إلا وجها واحدا، جاز ان يقال: إنه هو المراد ومتى قسمنا هذه الاقسام، نكون قبلنا هذه الاخبار، ولم نردها على وجه يوحش نقلتها والمتمسكين بها، ولا منعنا بذلك من الكلام في تأويل الآي جملة ولاينبغي لاحد ان ينظر في تفسير آية لاينبئ ظاهرها عن المراد تفصيلا، أو يقلد أحدا من المفسرين، إلا ان يكون التأويل مجمعا عليه، فيجب اتباعه لمكان الاجماع، لان من المفسرين من حمدت طرائقه، ومدحت مذاهبه، كابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد وغيرهم.

ومنهم من ذمت مذاهبه، كأبي صالح، والسدي والكلبي وغيرهم. هذا في الطبقة الاولى.

وأما المتأخرون فكل واحد منهم نصر مذهبه، وتأول على ما يطابق اصله، ولا يجوز لاحد أن يقلد أحدا منهم، بل ينبغي ان يرجع إلى الادلة الصحيحة: إما العقلية، أو الشرعية، من اجماع عليه، أو نقل متواتر به، عمن يجب اتباع قوله، ولا يقبل في ذلك خبر واحد، خاصة

___________________________________

(1) سورة آل عمران: آية 91.

(2) سورة الانعام: آية 141.

(3) سورة المعارج: آية 23.

[7]

اذا كان مما طريقه العلم، ومتى كان التأويل يحتاج إلى شاهد من اللغة، فلا يقبل من الشاهد إلا ما كان معلوما بين اهل اللغة، شائعا بينهم.

وأما طريقة الآحاد من الروايات الشاردة، والالفاظ النادرة فانه لايقطع بذلك، ولا يجعل شاهدا على كتاب الله وينبغي أن يتوقف فيه ويذكر ما يحتمله، ولايقطع على المراد منه بعينه، فانه متى قطع بالمراد كان مخطئا، وان أصاب الحق، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله لانه قال تخمينا وحدسا ولم يصدر ذلك عن حجة قاطعة وذلك باطل بالاتفاق.

واعلموا ان العرف من مذهب اصحابنا والشائع من اخبارهم ورواياتهم ان القرآن نزل بحرف واحد، على نبي واحد، غير انهم اجمعوا على جواز القراء‌ة بما يتداوله الفراء وأن الانسان مخير باي قراء‌ة شاء قرا، وكرهوا تجويد قراء‌ة بعينها بل اجازوا القراء‌ة بالمجاز الذي يجوز بين القراء ولم يبلغوا بذلك حد التحريم والحظر وروى المخالفون لنا عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (نزل القرآن على سبعة احرف كلها شاف كاف) وفي بعضها: (على سبعة ابواب) وكثرت في ذلك رواياتهم. لامعنى للتشاغل بايرادها واختلفوا في تأويل الخبر، فاختار قوم ان معناه على سبعة معان: أمر، ونهى، ووعد، ووعيد، وجدل، وقصص، وأمثال وروى ابن مسعود عن النبى " ص " انه قال: " نزل القرآن على سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وامثال.

" وروى ابوقلامة عن النبى [ ص ] انه قال: [ نزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، وقصص، وأمثال. ]

وقال آخرون: [ نزل القرآن على سبعة أحرف ] أي سبع لغات مختلفة، مما لا يغير حكما في تحليل وتحريم، ومثل. هلم. ويقال من لغات مختلفة، ومعانيها مؤتلفة. وكانوا مخيرين في أول الاسلام في أن يقرأوا بما شاء‌وا منها. ثم اجمعوا على حدها، فصار ما اجمعوا عليه مانعا مما اعرضوا عنه.

وقال آخرون: [ نزل على سبع لغات من اللغات الفصيحة، لان القبائل بعضها افصح من بعض ] وهو الذى اختاره الطبرى.

وقال بعضهم: [ هي على سبعة اوجه من اللغات، متفرقة في القرآن، لانه لايوجد حرف قرئ على سبعة اوجه. ]

[8]

وقال بعضهم: [ وجه الاختلاف في القراء‌ات سبعة: أولها - اختلاف اعراب الكلمة او حركة بنائها فلا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغير معناها نحو قوله: هؤلاء بناتي هن اطهر لكم(1) بالرفع والنصب وهل نجازي إلا الكفور؟(2 بالنصب والنون وهل يجازى إلا الكفور؟ بالياء والرفع وبالبخل

والبخل والبخل برفع الباء ونصبها. وميسرة وميسرة بنصب السين ورفعها.

والثاني - الاختلاف في اعراب الكلمة وحركات بنائها مما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها في الكتابة مثل قوله: ربنا باعد بين اسفارنا(5) على الخبر ربنا باعد على الدعاء. واذ تلقونه بالسنتكم(6) بالتشديد وتلقونه بكسر اللام والتخفيف.

والوجه الثالث - الاختلاف في حروف الكلمة دون اعرابها، ومما يغير معناها ولا يزيل صورتها نحو قوله تعالى: كيف ننشزها(7) بالزاء المعجمة وبالراء الغير معجمة.

والرابع - الاختلاف في الكلمة مما يغير صورتها ولا يغير معناها نحو قوله: ان كانت إلا صيحة واحدة(8) والازقية. وكالصوف المنفوش وكالعهن المنفوش(9).

والخامس - الاختلاف في الكلمة مما يزيل صورتها ومعناها نحو: وطلح منضود(10) وطلع.

السادس - الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو قوله: وجاء‌ت سكرة الموت

___________________________________

(1) سورة هود آية 78.

(2) سورة سبأ آية 17.

(3) سورة النساء آية 36 الحديد آية 24 والبخل بالرفع مصدر بخل والبخل بالفتح مصدر بخل.

(4) سورة البقرة آية 28.

(5) سورة سبأ آية آية 19.

(6) سورة النور آية 15.

(7) سورة البقرة آية 259.

(8) سورة يس آية 29 - 49 - 53 - سورة ص آية 15.

(9) سورة القارعة. آية 50 " 10 " سورة ق آية - 19.

[9]

بالحق(1) وجاء‌ت سكرة الحق بالموت.

السابع - الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو قوله: وما عملت ايديهم وما عملته(2) باسقاط الهاء واثباتها.

ونحو قوله: فان الله هو الغني الحميد وان الله الغني الحميد. في سورة الحديد(3).

وهذا الخبر عندنا وان كان خبرا واحدا لا يجب العمل به فالوجه الاخير أصلح الوجوه على ما روي عنهم عليه السلام من جواز القراء‌ة بما اختلف القراء فيه.

واما القول الاول فهو على ما تضمنته لان تأويل القرآن لا يخرج عن احد الاقسام السبعة: إما أمر. او نهي. اووعد. او وعيد. اوخبر اوقصص اومثل وهو الذي ذكره اصحابنا في اقسام تفسير القرآن فاما ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: [ ما نزل من القرآن من آية إلا ولها ظهر وبطن ] وقد رواه ايضا اصحابنا عن الائمة عليهم السلام فانه يحتمل ذلك وجوها: احدها - ما روي في أخبارنا عن الصادقين عليهما السلام وحكي ذلك عن ابي عبيدة أن المراد بذلك القصص باخبار هلاك الاولين وباطنها عظة للاخرين والثاني - ما حكي عن ابن مسعود انه قال: [ ما من آية إلا وقد عمل بها قوم ولها قوم يعملون بها ] والثالث - معناها أن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها ذكره الطبري واختاره البلخي والرابع - ما قال الحسن البصري: [ انك اذا فتشت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها ] وجميع اقسام القرآن لا يخلو من ستة: محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخاص وعام فالمحكم ما انبأ لفظه عن معناه من غير اعتبار امر ينضم اليه سواء كان اللفظ لغويا او عرفيا ولا يحتاج إلى ضروب من التأويل وذلك نحو قوله: [ لا يكلف

___________________________________

(1) سورة يس آية 35.

(2) سورة الواقعة آية 25.

(3) آية 24.

[10]

الله نفسا إلا وسعها ](1)

وقوله: [ ولاتقتلوا النفس التي حرم الله ](2)

وقوله: [ قل هو الله احد ](3)

وقوله: [ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوء‌ا احد ](4)

وقوله: [ وما ربك بظلام للعبيد ](5)

وقوله: [ ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ](6)

ونظائر ذلك والمتشابه ما كان المراد به لايعرف بظاهره بل يحتاج إلى دليل وذلك ما كان محتملا لامور كثيرة أو امرين ولا يجوزان يكون الجميع مرادا فانه من باب المتشابه.

وانما سمي متشابها لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد وذلك نحو قوله: [ يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ](7)

وقوله: [ والسماوات مطويات بيمينه ](8)

وقوله: (تجري باعيننا)(9) وقوله (يضل من يشاء)(10) وقوله: (فاصمهم وأعمى أبصارهم وطبع على قلوبهم)(11) ونظائر ذلك من الآي التي المراد منها غير ظاهرها.

فان قيل: هلا كان القرآن كله محكما يستغنى بظاهره عن تكلف ما يدل على المراد منه حتى دخل على كثير من المخالفين للحق شبهة فيه وتمسكوا بظاهره على ما يعتقدونه من الباطل؟ أتقولون إن ذلك لم يكن مقدورا له تعالى؟ فهذا هو القول بتعجيزه ! أو تقولون هو مقدور له ولم يفعل ذلك فلم لم يفعله؟ قيل الجواب على ذلك من وجهين: احدهما - ان خطاب الله تعالى - مع ما فيه من الفوائد - المصلحة معتبرة في الفاظه فلا يمتنع أن تكون المصلحة الدينية

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 286.

(2) سورة الانعام آية 151.

(3) سورة التوحيد آية 1.

(4) سورة التوحيد آية 3 و 4.

(5) سورة حم السجدة آية 46.

(6) سورة الذاريات آية 56.

(7) سورة الزمر آية 56.

(8) سورة الزمر آية - 67.

(9) سورة القمر آية 14 " 10 " سورة الرعد آية 29. ابراهيم آية - 4 فاطر آية - 8 " 11 " سورة محمد آية 23.

[11]

تعلقت بان يستعمل الالفاظ المحتملة ويجعل الطريق إلى معرفة المراد به ضربا من الاستدلال ولهذه العلة أطال في موضع وأسهب واختصر في آخر وأوجز واقتصر وذكر قصة في موضع وأعادها في موضع آخر واختلفت أيضا مقادير الفصاحة فيه وتفاضلت مواضع منه بعضه على بعض والجواب الثاني: ان الله تعالى انما خلق عباده تعريضا لثوابه وكلفهم لينالوا اعلى المراتب واشرفها ولو كان القرآن كله محكما لا يحتمل التأويل ولا يمكن فيه الاختلاف لسقطت المحنة وبطل التفاضل وتساوت المنازل ولم تبن منزله العلماء من غيرهم وانزل الله القرآن بعضه متشابها ليعمل أهل العقل افكارهم ويتوصلوا بتكلف المشاق والنظر والاستدلال إلى فهم المراد فيستحقوا به عظيم المنزلة وعالي الرتبة فان قيل: كيف تقولون، ان القرآن فيه محكم ومتشابه، وقد وصفه الله تعالى بأنه اجمع محكم؟ ووصفه في مواضع أخر بأنه متشابه وذكر في موضع آخر ان بعضه محكم، وبعضه متشابه - كما زعمتم - وذلك نحو قوله: " الر. كتاب احكمت آياته "(1) وقال في موضع آخر: " الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها "(2) وقال في موضع آخر: " وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات "(3) وهل هذا إلا ظاهر التناقض؟ قلنا: لا تناقض في ذلك، لان وصفه محكم كله، المراد به انه بحيث لايتطرق عليه الفساد والتناقض والاختلاف والتباين والتعارض، بل لاشئ منه إلا وهو في غاية الاحكام - إما بظاهره او بدليله، على وجه لا مجال للطاعنين عليه.

ووصفه بانه متشابه أنه يشبه بعضه بعضا في باب الاحكام الذي أشرنا اليه، وأنه لا خلل فيه ولا تباين ولا تضاد ولا تناقض. ووصفه بان بعضه محكم، وبعضه متشابه ما اشرنا اليه، من ان بعضه ما يفهم المراد بظاهره فيسمى محكما ومنه ما يشتبه المراد منه بغيره وان كان على المراد والحق منه دليل فلا تناقض في ذلك بحال.

___________________________________

(1) سورة هود آية 1.

(2) سورة الزمر آية 23.

(3) سورة آل عمران آية 7.

[12]

واما الناسخ فهو كل دليل شرعي يدل على زوال مثل الحكم الثابت بالنص الاول في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الاول مع تراخيه عنه.

اعتبرنا دليل الشرع لان دليل العقل اذا دل على زوال مثل الحكم الثابت بالنص الاول لايسمى نسخا. ألا ترى أن المكلف للعبادات، اذا عجز اوزال عقله، زالت عنه العبادة بحكم العقل، ولايسمى ذلك الدليل ناسخا؟ واعتبرنا زوال مثل الحكم، ولم نعتبر الحكم نفسه لانه لايجوز أن ينسخ نفس ما أمر به، لان ذلك يؤدي إلى البداء.

وانما اعتبرنا أن يكون الحكم ثابتا بنص شرعي، لان ما ثبت بالعقل اذا أزاله الشرع لا يسمى بأنه نسخ حكم العقل. ألا ترى أن الصلاة والطواف لولا الشرع لكان قبيحا فعله في العقل واذ اورد الشرع بهما لا يقال نسخ حكم العقل؟ واعتبرنا مع تراخيه عنه لان ما يقترن به لا يسمى نسخا وربما يكون تخصيصا ان كان اللفظ عاما او مقيدا ان كان اللفظ خاصا ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا المشركين الا اليهود لم يكن قوله إلا اليهود نسخا لقوله اقتلوا المشركين؟ وكذا لو قال: فسيحوا في الارض اربعة اشهر فقيد بهذه الغاية لا يقال لما بعدها نسخ.

وكذا لما قال قي آية الزنا: فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة(1) لا يقال لما زاد عليه منسوخ لانه مقيد في اللفظ والنسخ يصح دخوله في الامر والنهي بلا خلاف. والخبر ان تناول ما يصح تغييره عن صفة جاز دخول النسخ فيه لانه في معنى الامر.

ألا ترى أن قوله: (ولله على الناس حج البيت)(2) خبر؟ وقوله (والمطلقات يتربصن بانفسهن)(3) أيضا خبر؟ وكذلك قوله: (ومن دخله كان آمنا)(4) بر ومع ذلك يصح دخول النسخ فيه فاما ما لا يصح تغييره عن صفة فلا يصح دخول النسخ فيه، نحو الاخبار عن صفات الله تعالى، وصفات الاجناس

___________________________________

(1) سورة النور آية 2.

(2) سورة آل عمران آية 97.

(3) سورة البقرة آية 228.

(4) سورة آل عمران آية 97.

[13]

- لما يصح عليه التغيير، لم يصح فيه النسخ حيث أن العبارة بالاخبار عنه بأبه قادر، عالم، سميع بصير، لا يصح النسخ فيه، لانه يمتنع دخول النسخ في الاخبار - ان كان الخبر لا يصح تغييره في نفسه ولا يخلو النسخ في القرآن من أقسام ثلاثه: احدها - نسخ حكمه دون لفظه - كآية العدة في المتوفى عنها زوجها المتضمنة للسنة(1) فان الحكم منسوخ والتلاوة باقية وكآية النجوى(2) وآية وجوب ثبات الواحد للعشرة(3) فان الحكم مرتفع، والتلاوة باقية وهذا يبطل قول من منع جواز النسخ في القرآن لان الموجود بخلافه والثاني - ما نسخ لفظه دون حكمة، كآية الرجم فان وجوب الرجم على المحصنة لاخلاف فيه، والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلاخلاف وهي قوله: (والشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البته، فانهما قضيا الشهوة جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) الثالث - ما نسخ لفظه وحكمه، وذلك نحو ما رواه المخالفون من عائشة: أنه كان فيما أنزل الله ان عشر رضعات تحرمن، ونسخ ذلك بخمس عشرة فنسخت التلاوة والحكم وأما الكلام في شرائط النسخ، فما يصح منها وما لا يصح وما يصح أن ينسخ به القرآن، وما لا يصح أن ينسخ به وقد ذكرنا في كتاب العدة - في اصول الفقه - ولا يليق ذلك بهذا المكان وحكى البلخي في كتاب التفسير فقال: (قال قوم - ليسوا ممن يعتبرون ولكنهم من الامة على حال - ان الائمة المنصوص عليهم - بزعمهم - مفوض اليهم نسخ القرآن وتدبيره، وتجاوز بعضهم حتى خرج من الدين بقوله: ان النسخ قد

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 240.

(2) سورة المجادلة آية 12.

(3) سورة الانفال آية 65.

[14]

يجوز على وجه البداء وهو أن يأمر الله عزوجل عندهم بالشئ ولا يبدوله، ثم يبدوله فيغيره، ولا يريد في وقت أمره به أن يغيره هو ويبدله وينسخه، لانه عندهم لا يعلم الشئ حتى يكون، إلا ما يقدره فيعلمه علم تقدير، وتعجرفوا فزعموا ان ما نزل بالمدينه ناسخ لما نزل بمكة) وأظن انه عنى بهذا اصحابنا الامامية، لانه ليس في الامة من يقول بالنص على الائمة عليهم السلام سواهم فان كان عناهم فجميع ما حكاه عنهم باطل وكذب عليهم، لانهم لا يجيزون النسخ على أحد من الائمة (ع) ولا احد منهم يقول بحدوث العلم وانما يحكى عن بعض من تقدم من شيوخ المعتزلة - كالنظام والجاحظ وغيرهما - وذلك باطل وكذلك لا يقولون: ان المتأخر ينسخ المتقدم إلا بالشرط الذي يقوله جميع من اجاز النسخ، وهو ان يكون بينهما تضاد وتناف لايمكن الجمع بينهما، واما على خلاف ذلك فلا يقوله محصل منهم.

والوجه في تكرير القصة بعد القصة في القرآن، أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم تكن الانباء والقصص مكررة، لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم آخرين، فاراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص في أطراف الارض ويلقيها في كل سمع، ويثبتها في كل قلب، ويزيد الحاضرين في الافهام وتكرار الكلام من جنس واحد، وبعضه يجري على بعض، كتكراره في: قل يا ايها الكافرون، وسورة المرسلات، والرحمن فالوجه فيه، ان القرآن نزل بلسان القوم، ومذهبهم في التكرار - ارادة للتوكيد وزيادة في الافهام - معروف كما ان من مذهبهم الايجاز والاختصار ارادة للتخفيف وذلك أن افتنان المتكلم والخطيب في الفنون، وخروجه من شئ إلى شئ، أحسن من اقتصاره من المقام على فن واحد.

وقد يقول القائل: والله لافعله ثم والله لافعله، اذا أراد التوكيد كما يقول: افعله بحذف اللام اذا أراد الايجاز قال الله تعالى: " كلا سوف تعلمون

[15]

ثم كلا سوف تعلمون "(1) وقال: " فان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا "(2) وقال الله تعالى: " اولى لك فأولى ثم اولى لك فأولى "(3) وقال: " ماأدراك ما يوم الدين، ثم ما ادراك ما يوم الدين "(4) كل هذا يراد به التوكيد وقد يقول القائل لغيره: اعجل اعجل وللرامي ارم ارم قال الشاعر:

كم نعمة كانت لكم *** كم كم وكم

وقال آخر:

هلا سألت جموع كن‍ *** دة يوم ولوا اين اينا

وقال عوف بن الخزرج:

وكادت فزارة تصلى بنا *** فاولى فزار فأولى فزار

فاما تكرار معنى واحد بلفظين مختلفين، كقوله: " الرحمن الرحيم " وقوله: " يسمع سرهم ونجواهم " والنجوى هو السر، فالوجه فيه ما ذكرنا من ان عادة القوم، تكرير المعنى بلفظين مختلفين، اتساعا في اللغة، كقول الشاعر. كذبا ومينا وهما بمعنى واحد وقول الآخر:

لمياء في شفتيها حوة لعس *** وفي اللثات وفي أنيابها شنب

واللمى: سواد في الشفتين والحوة واللعس كلاهما سواد الشفتين وكرر لاختلاف اللفظ والشنب: تحزز في الانياب كالمنشار، وهو نعت لها ورحمن ورحيم، سنبين القول فيهما فيما بعد وقوله: " وغشاها ما غشى "(5) وقوله: فغشيهم من اليم ما غشيهم "(6) وقوله: " ولا طائر يطير بجناحيه "(7) على

___________________________________

(1) سورة التكاثر آية 3 و 4.

(2) سورة الانشراح آية 5 و 6.

(3) سورة القيامة آية 34 و 35.

(4) سورة الانفطار آية 17 و 18.

(5) سورة النجم آية 54.

(6) سورة طه آية 78.

(7) سورة الانعام آية 38.

[16]

ما قلناه من التوكيد، كما يقول القائل: كلمته بلساني، ونظرت اليه بعيني، ويقال بين زيد وبين عمرو، وانما البين واحد. والمراد بين زيد وعمرو وقال الشاعر أوس بن الحجر:

ألم تكسف الشمس شمس النها *** ر مع النجم والقمر الواجب(1)

والشمس لا تكون إلا بالنهار، فأكد ذكرنا هذه الجملة تنبيها عن الجواب عما لم نذكره، ولعلنا نستوفيه فيما بعد اذا جرى ما يقتضي ذكره ولولا عناد الملحدين، وتعجرفهم، لما احتيج إلى الاحتجاج بالشعر وغيره للشئ المشتبه في القرآن، لان غاية ذلك أن يستشهد عليه ببيت شعر جاهلي، او لفظ منقول عن بعض الاعراب، أو مثل سائر عن بعض أهل البادية.

ولا تكون منزلة النبي صلى الله عليه وآله - وحاشاه من ذلك - أقل من منزلة واحد من هؤلاء.

ولاينقص عن رتبة النابغة الجعدي، وزهير بن الكعب وغيرهم ومن طرائف الامور ان المخالف اذا اورد عليه شعر من ذكرناه، ومن هو دونهم سكنت نفسه، واطمأن قلبه وهو لايرضى بقول محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ومهما شك الناس في نبوته، فلا مربة في نسبه، وفصاحته، فانه نشأ بين قومه الذين هم الغاية القصوى في الفصاحة، ويرجع اليهم في معرفة اللغة. ولو كان المشركون من قريش وغيرهم وجدوا متعلقا عليه في اللحن والغلط والمناقضة، لتعلقوا به، وجعلوه حجة وذريعة إلى اطفاء نوره وابطال امره، واستغنوا بذلك عن تكلف ما تكلفوه من المشاق في بذل النفوس والاموال.

ولو فعلوا ذلك لظهر واشتهر، ولكن حب الالحاد والاستثقال لتحمل العبادات، والميل إلى الفواحش اعماهم وأصمهم، فلا يدفع أحد من الملحدين - وان جحدوا نبوته صلى الله عليه وآله - انه اتى بهذا القرآن، وجعله حجة لنفسه، وقرأه على العرب وقد علمنا انه ليس بأدون الجماعة في الفصاحة وكيف يجوزان يحتج بشعر الشعراء عليه، ولا يجوز أن يحتج بقوله عليهم وهل هذا إلا عناد محض، وعصبية صرف؟ وانما يحتج علماء

___________________________________

(1) الواجب: الغائب.

[17]

الموحدين بشعر الشعراء وكلام البلغاء، اتساعا في العلم، وقطعا للشغب، وازاحة للعلة، وإلا فكان يجب ألا يلتفت إلى جميع ما يطعن عليه، لانهم ليسوا بان يجعلوا عيارا عليه باولى من ان يجعل هو عليه السلام عيارا عليهم.

وروي عن ابن مسعود، انه قال: " كان الرجل منا اذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن " وروي انه استعمل علي (ع) عبدالله بن العباس على الحج فخطب خطبة لو سمعها الترك والروم لاسلموا ثم قرأ عليهم سورة النور - وروي سورة البقرة - ففسرها فقال رجل: " لو سمعت هذا الديلم لاسلمت " ويروى عن سعيد بن الجبير، انه من قرأ القرآن ثم لم يفسره كان كالاعجمي أو الاعرابي

فصل في ذكر اسامي القرآن، وتسمية السور والآيات

سمى الله تعالى القرآن باربعة اسماء: سماه قرآنا في قوله تعالى: " انا جعلناه قرآنا عربيا "(1) وفي قوله: " شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن "(2) وغير ذلك من الاي وسماه فرقانا في قوله تعالى: تبارك الذي انزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا."(3) وسماه الكتاب في قوله: " الحمدلله الذي انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما "(4)

___________________________________

(1) سورة الزخرف آية 3.

(2) سورة البقرة آية 185.

(3) سورة الفرقان آية 1.

(4) سورة الكهف آية 1.

[18]

وسماه الذكر في قوله: " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون "(1) وتسميته بالقرآن تحتمل أمرين: احدهما - ما روي عن ابن عباس، انه قال: (هو مصدر قرأت قرآنا) أي تلوته، مثل: غفرت غفرانا، وكفرت كفرانا والثاني - ماحكي عن قتاده، انه قال " هو مصدر قرأت الشئ اذا جمعت بعضه إلى بعض "

قال عمرو بن كلثوم:

ذراعي عيطل(2) ادماء(3) بكر *** هجان(4) اللون لم تقرأ جنينا

اي لم تضم جنينها في رحمها.

وقال قطرب في معناه قولان احدهما هذا وعليه اكثر المفسرين وقال قولا آخر معناه لفظت به مجموعا وقال معنى البيت أيضا أي لم تلقه مجموعا وتفسير ابن عباس أولى، لان قوله تعالى (ان علينا جمعه وقرآنه، فاذا قرأناه فاتبع قرآنه)(5) والوجه المختار ان يكون المراد واذ تلوناه عليك، وبيناه لك، فاتبع تلاوته ولو حملناه على الجمع - على ما قال قتاده - لكان يجب ألا يلزم اتباع آية آية من القرآن النازله في كل وقت، وكان يقف وجوب الاتباع على حين الجمع، لانه علقه بذلك على هذا القول، لانه قال: " فاذا قرأناه فاتبع قرآنه " يعني جمعناه على ما قالوه فاتبع قرآنه، وكان يقف وجوب الاتباع على تكامل الجميع، وذلك خلاف الاجماع فالاول أولى فان قيل: (كيف يسمي القراء‌ة قرآنا، وانما هو مقروء؟) قلنا: (سمي بذلك كما يسمى المكتوب كتابا، بمعنى: كتاب الكاتب) قال الشاعر في صفة طلاق كتبه لامرأته:

تؤمل رجعة مني وفيها *** كتاب مثل ما لصق الغراء

يعني طلافا مكتوبا

___________________________________

(1) سورة يوسف آية 12 و 63 وسورة الحجر آية 10.

(2) عطيل: طويلة العنق.

(3) ناقة ادماء: بيضاء.

(3) بيضاء اللون.

(5) سورة القيامة آية 17 - 18.

[19]

وتسميته بانه فرقان، لانه يفرق بين الحق والباطل. والفرقان هو الفرق بين الشيئين. وانما يقع الفرق بين الحق والباطل بادلته الدالة على صحة الحق، وبطلان الباطل.

وتسميته بالكتاب لانه مصدر من قولك، كتبت كتابا، كما تقول قمت قياما.

وسمي كتابا وانما هو مكتوب، كما قال الشاعر في البيت المتقدم. والكتابة مأخوذة من الجمع في قولهم: كتبت السقاء اذا جمعته بالخرز قال الشاعر:

لا تأمنن فزاريا خلوت به *** على قلوصك فاكتبها باسيار(1)

والكتبة، الخرزة.

وكلما ضممت بعضه إلى بعض على وجه التقارب فقد كتبته والكتيب(2) من الجيش، من هذا لانضمام بعضها إلى بعض وتسميته بالذكر، ويحتمل أمرين: احدهما - انه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده، فعرفهم فيه فرائضه، وحدوده. والآخر - انه ذكر وشرف لمن آمن به وصدق بما فيه. كقوله (وانه لذكر لك ولقومك)(3).

وأما السورة - بغير همز - فهي منزلته من منازل الارتفاع، ومن ذلك سور المدينة سمي بذلك - الحائط الذي يحويها لارتفاعه عما يحويه غيران سور المدينة لم يجمع سورا، وسورة القرآن تجمع سورا. وهذه أليق بتسميته سور القرآن سورة.

قال النابغة

ألم تر ان الله اعطاك سورة *** يرى كل ملك دونها يتذبذب

يعني منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها الملوك.

واما من همز السورة من القرآن، فانه أراد به القطعة التي انفصلت من القرآن وأبقيت وسؤر كل شئ بقيته. يقال اسأرت في الاناء أي ابقيت فيه قال الاعشى بن ثعلبة، يصف امرأة

فبانت وقد أسأرت في الفؤا *** د صدعا على نأيها مستطارا

___________________________________

(1) اسيارج سير: الجلد.

(2) والكتيبة.

(3) سورة الزخرف آية 44.

[20]

وتسمية الآية بانها آية، يحتمل وجهين احدهما - لانها علامة يعرف بها تمام ما قبلها، ومنه قوله تعالى [ أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك ](1) يعني علامة لاجابتك دعاء‌نا. والآخر أن الآية القصة والرسالة.

قال كعب بن زهير

ألا أبلغا هذا المعرض آية *** أيقظان قال القول اذا قال أم حلم

يعني رسالة فيكون معنى الآيات القصص، قصة تتلو قصة روى واثلة بن الاصقع أن النبي صلى الله عليه وآله قال (أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الانجيل، المثاني، وفضلت بالمفصل) فالسبع الطول 1 - البقرة 2 - آل عمران 3 - النساء 4 - المائدة 5 - الانعام 6 - الاعراف 7 - ويونس. في قول سعيد بن جبير وروي مثل ذلك عن ابن عباس قال وسميت السبع الطوال، لطولها على سائر القرآن.

وأما المئون، فهو كل سورة تكون مائة آية أو يزيد عليها شيئا يسيرا، او ينقص عنها شيئا يسيرا.

وأما المثاني فهي ما ثنت المئين، فتلاها.

فكان المئون لها أوائل، وكان المثاني لها ثوان وقيل انها سميت بذلك، لتثنية الله قيها الامثال، والحدود، والقرآن، والفرائض وهو قول ابن عباس.

وقال قوم (المثاني سورة الحمد، لانها تثنى قراء‌تها في كل صلاة) وبه قال الحسن البصري، وهو المروي في أخبارنا قال الشاعر

حلفت بالسبع اللواتي طولت *** وبمئين بعدد قد أميت

وبثمان ثنيت وكررت *** وبالطواسين التي قد تليت

وبالحواميم التي قد سبعت *** وبالمفصل اللواتي فصلت

وسميت المفصل مفصلا، لكثرة الفصول بين سورها ببسم الله الرحمن الرحيم وسمي المفصل محكما، لما قيل انها لم تنسخ.

وقال اكثر اهل العلم (أول المفصل من سورة محمد صلى الله عليه وآله إلى سورة الناس) وقال آخرون (من ق، إلى الناس) وقالت فرقة ثالثة - وهو المحكي عن ابن عباس - أنه من سورة الضحى إلى الناس

___________________________________

(1) سورة المائدة آية 117.

[21]

وكان يفصل من الضحى بين كل سورتين بالتكبير، وهو قراء‌ة ابن كثير.

وإن قيل: ما وجه الحكمة في تفصيل القرآن على السور؟

قيل: فيه وجوه من الجواب احدها - أن القارى، اذا خرج من فن إلى فن كان احلى في نفسه وأشهى لقراء‌ته ومنها - ان جعل الشئ مع شكله، وما هو أولى به هو الترتيب الذي يعمل عليه ومنها - أن الانسان قد يضعف عن حفظ الجميع، فيحفظ سورة تامة ويقتصر عليها، وقد يكون ذلك سببا يدعوه إلى غيرها ومنها - ان التفصيل أبين، إذ كان الاشكال مع الاختلاط والالتباس أكثر.

ومنها - ان كلما ترقى اليه درجة درجة ومنزلة منزلة كانت القوة عليه اشد، والوصول اليه أسهل وانما السورة منزلة يرتفع منها إلى منزلة

[22]

1 - سورة الفاتحة

اسماؤها - وسبب تسميتها بها

روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه سماها أم القرآن، وفاتحة الكتاب والسبع المثاني فسميت فاتحة الكتاب لانه يفتتح بكتابتها المصاحف وبقراء‌تها في الصلاة، فهي فاتحة لمايتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراء‌ة وسميت ام القرآن لتقدمها على سائر القرآن وتسمي العرب كل جامع أمرا، او متقدم لامر اذا كانت له توابع تتبعه أما فيقولون للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس، وتسمي لواء الجيش، ورايتهم التي يجتمعون تحتها أما ومن ذلك قول ذي الرمة:

واسمر قوام اذا نام صحبتي *** خفيف الثياب لا تواري له إزرا

على رأسه ام لنا نقتدي بها *** جماع امور لا نعاصي له امرا

يصف راية معقودة على قناة يجتمع تحتها هو وصحبه وقيل: مكة ام القرى لتقدمها امام جميعها، وجميعها ما سواها وقيل: إنما سميت بذلك، لان الارض دحيت منها فصارت لجميعها أما ومن ذلك قول حميد بن ثور الهلالي:

اذا كانت الخمسون امك لم يكن *** لدائك إلا ان تموت طبيب

لان الخمسين جامعة ما دونها من العدد، فسماها ام الذي بلغها وسميت السبع لانها سبع آيات - بلاخلاف في جملتها - وسميت مثاني لانها تثنى بها في كل صلاة فرض ونفل وقيل في كل ركعة وليس اذا سميت بانها مثاني منع ذلك تسمية غيرها بالمثاني من سور المئين على ما مضى القول فيه واتفق القراء على التلفظ باعوذ بالله من الشيطان الرجيم قبل التسمية

المعنى: ومعنى ذلك استجير بالله دون غيره لان الاستعاذة هي الاستجارة

[23]

وقوله: من الشيطان فالشيطان في اللغة كل متمرد من الجن والانس والدواب، ولذلك قال الله تعالى: " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن "(1) فجعل من الانس شياطين كما جعل من الجن وانما سمي المتمرد شيطانا، لمفارقة اخلاقه وافعاله أخلاق جميع جنسه وبعده من الخير وقيل: هو مشتق من قولهم شطنت داري أي بعدت، ومنه قول نابغة بني ذبيان:

نأت سعاد(2) عنك نوى شطون *** فبانت والفؤاد بها رهين

والشطون البعيد فيكون شيطانا على هذا: فيعالا من شطن على وزن بيطار وغيداق(3).

قال امية بن ابي الصلت:

أيما شاطن(4) عصاه عكاه(5) *** ثم يلقى السجن والاكباد(6)

ولو كان مشتقا من شاط لقال: شائط ولما قال: شاطن علم أنه مشتق من شطن والشطن الحبل وأما الرجيم فهو فعيل بمعنى مفعول كقولهم كف خضيب ولحية دهين ورجل لعين يراد مخضوبة ومدهونة وملعون ومعنى المرجوم المشتوم فكل مشتوم بقول ردي فهو مرجوم وأصل الرجم الرمي بقول كان أو بفعل ومنه قوله تعالى " لئن لم تنته لارجمنك "(7) ويجوز أن يكون الشيطان رجيما لان الله طرده من سمائه ورجمه بالشهب الثاقبة وسورة الحمد مكية في قول قتادة ومدنبة في قول مجاهد وليس فيها ناسخ ولا منسوخ

___________________________________

(1) سورة الانعام آية: 112.

(2) بسعاد.

(3) شاب غيداق: ناعم والغيداق: الكريم.

(4) الشاطن الخبيث والشيطان كل عات متمرد من انس أو جن أودابة.

(5) عكاه: عقده.

(6) الكبد الشدة الجمع أكباد.

(7) سورة مريم آية 46.

[24]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحجة - عندنا آية من الحمد ومن كل سورة بدلالة إثباتهم لها في المصاحف بالخط الذي كتب به المصحف مع تجنبهم إثبات الاعشار والاخماس كذلك وفي ذلك خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء ولا خلاف أنها بعض سورة النمل.

فاما القراء فترك الفصل بين السور بالتسمية حمزة وخلف ويعقوب واليزيدي إلا القرطي عن سجادة بن اللبان عن مدين والمعدل إلا السوسي من طريق ابن حبش والباقون يفصلون بالتسمية إلا بين الانفال والتوبة وعندنا أن من تركها في الصلاة بطلت صلاته لان الصلاة عندنا لا تصح إلا بفاتحة الكتاب وهي من تمامها سواء كانت الصلاة فرضا أو نافلة، وفيه خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء ومن قال انها ليست من القرآن قال إن الله أدب نبيه وعلمه تقديم ذكر اسم الله أمام جميع أفعاله وأقواله ليقتدي به جميع الخلق في صدور رسالاتهم وأمام حوائجهم قالوا والدليل على أنها ليست من القرآن أنها لو كانت من نفس الحمد لوجب أن يكون قبلها مثلها لتكون إحداهما افتتاحا للسورة حسب الواجب في سائر السور والاخرى أول آية منها وهذا عندنا ليس بصحيح لا ناقد بينا أنها آية من كل سورة ومع هذا لم يتقدمها غيرها، على أنها لايمتنع أن تكون من نفس التلاوة وإن تعبدنا باستعمالها في استفتاح جميع اموره، ومن قال إن قوله " الرحمن الرحيم " بعد قوله " الحمد لله رب العالمين " يدل على أن التي افتتح بها ليست من الحمد وإلا كان يكون ذلك تكرارا بلا فصل شئ من الآيات قبل ذلك وليس بموجود في شئ من القرآن فقوله باطل لانه قد حصل الفصل بقوله " الحمد لله رب العالمين "(1) وقد ورد في مثله في: قل يا ايها الكافرون لاأعبد ما تعبدون ولا انتم عابدون ما اعبد، ولا انا عابد ما عبدتم ولا انتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين "(2)

___________________________________

(1) سورة الحمد آية 1.

(2) سورة الكافرون بتمامها.

[25]

وكرر آيتين بلفظ واحد فصل بينهما بآية واحد وقد ذكرنا الادلة على صحة ما ذهبنا اليه في خلاف الفقهاء ومن جعلها آية جعل من قوله " صراط الذين انعمت عليهم إلى آخرها آية ومن لم يجعلها كذلك جعل: صراط الذين انعمت عليهم آية وعندنا انه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بانقراء‌ة ويستحب الجهر بها فيما لا يجهر فيه

الاعراب: وقوله تعالى " بسم الله " يقتضي فعلا تتعلق به الباء، ويجوز أن يكون ذلك الفعل قوله أبدأ أو أقرأ بسم الله أو شبهه أو قولوا بسم الله، ولم يذكر لدلالة الكلام عليه وحذفت الالف في اللفظ لانه ألف الوصل تسقط في الدرج وحذفت ههنا وحدها في الخط لكثرة الاستعمال ولا تحذف في قوله تعالى " إقرأ باسم ربك "(1) وقوله " فسبح باسم ربك " وما أشبه ذلك لقلة استعمالها هناك وذكر ابوعبيدة ان " اسم " صلة والمراد هو الله الرحمن الرحيم واعتقد قوم لاجل ذلك ان الاسم هو المسمى واستدلوا بقول لبيد

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

قال ومعناه السلام عليكما فاسم السلام هو السلام وهذا خطأ عظيم ذكرناه في شرح الجمل في الاصول ومعنى قول الشاعر ثم اسم السلام انه أراد به اسم الله تعالى لان السلام من اسماء في قوله " السلام المؤمن المهيمن " وهذا كما قال عليه السلام " لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر " اي ان الله هو الفاعل لما تضيفونه إلى الدهر وتسبونه لاجله ونظير ذلك ايضا قول القائل اذا سمع غيره يشتم زيدا وهو يريد عمروا(2) (زيد في هذا المكان هو عمرو) اي هو المراد بالشتم دون زيد ويحتمل ان يكون اراد اسم الله عليكما اي الزماه وانما رفع لانه اخر (عليكما كما قال الشاعر:

___________________________________

(1) سورة العلق آية 1.

(2) عمرو لا تقبل الواو في حالة التنوين بالفتح.

[26]

ياايها المانح(1) دلوي دونكا *** اني رأيت الناس يحمدونكا

والمراد دونك دلوي فكيف يكون الاسم هو المسمى وقد يعرف الاسم من لايعرف المسمى والاسم يكون مدركا وان لم يدرك المسمى والاسم يكتب في مواضع كثيرة والمسمى لا يكون إلا في موضوع واحد ولو كان الاسم هو المسمى لكان اذا قال القائل " نار " احترق لسانه واذا قال " عسل " وجد الحلاوة في فمه، وذلك تجاهل، ومن قال: " إن ذلك تسمية وليس ذلك باسم " قوله باطل، لان القائل لو قال: اكلت اسم العسل، لكان جاهلا.

وقال يقوم: إن (اسم) ليس بصلة، والمراد ابتدئ بتسمية الله، فوضع الاسم موضع المصدر ويكون موضع (بسم) نصبا.

قالوا لان العرب تجري المصادر المبهمة على اسماء مختلفة، كقولهم: اكرمت فلانا كرامة، واهنت فلانا هوانا، وكلمته كلاما وكان يجب ان يكون: اكرمته إكراما واهنته اهانة وكلمته تكليما ومنه قول الشاعر:

أكفرا بعد رد الموت عني *** وبعد عطائك المئة الرتاعا(2)

وقال آخر:

فان كان هذا البخل منك سجية *** لقد كنت في طول رجائك اشعبا(3)

أراد في اطالتي رجاك فيكون على هذا تقدير الكلام: أقرأ مبتدئا بتسمية الله، وابتدئ قراء‌تي بسم الله. فجعل الاسم مكان التسمية، وهذا أولى، لان المأموران يفتتح العباد امورهم بتسمية الله، لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كما امروا بالتسمية على الذبائح والصيد، والاكل، والشرب.

وكذلك امروا بالتسمية عند افتتاح تلاوة تنزيل الله تعالى، ولا خلاف أن القائل لو قال عند الذباحة: بالله ولم يقل: باسم الله لكان مخالفا للمأمور.

اللغة: والاسم مشتق من السمو وهو الرفعة والاصل فيه سمو بالواو، وجمعه اسماء

___________________________________

(1) اسم فاعل من متح. متح الماء كمنع نزعه.

(2) صفة الابل.

(3) اسم رجل يضرب المثل بشدة حرصه وطمعه.

[27]

مثل قنو واقناء، وحنو واحناء. واذا صغرته قلت سمي.

قال الراجز: باسم الذي في كل سورة سمه والسمة ايضا - ذكره ابوزيد وغيره وقيل انه مشتق من وسمت وذلك غلط لان ما حذفت واو الفعل منه لا يدخله الف الوصل: نحو عدة ووعد، وزنه ووزن. لما حذفت الفاء لم تدخل عليه الالف وايضا كان يجب اذا صغران يرد الواو فيقال: وسيم، كما يقال وعيدة ووزينة ووصيلة في تصغير عدة وزنه وصلة.

والامر بخلافه وحكي عن ابن كيسان انه قال: انه لقب فلذلك ابتدئ به واتبع بالرحمن لانه يختصه ثم بالرحيم لانه يشاركه فيه غيره والصحيح انه ليس بلقب لان اللقب انما يجوز على من تجوز عليه الغيبة والحضور وهما لا يجوزان عليه ولانه يمكن وصفه بصفة لا يشاركه فيها غيره ولا معنى للقب لانه عيب والصحيح انه اسم مقيد لكنه لا يطلق إلا عليه تعالى وقيل في معناها قولان: احدهما - ان اصله لاه كما قال الشاعر:

كحلقة من ابي رياح *** يسمعها لاهه الكبار

فادخل عليه الالف واللام والثاني: ان اصله إله فادخلت عليه الالف واللام ثم خففت الهمزة وادغمت احدى اللامين في الاخرى فقيل: الله وإله معناه يحق العبادة وانما يحق له العبادة لانه قادر على خلق الاجسام واحيائها والانعام عليها بما يستحق به العبادة ولذلك يوصف فيما لم يزل بانه إله ولا يجوز أن يكون إلها للاعراض ولا للجوهر لاستحالة ان ينعم عليها بما يستحق به العبادة وهو إله الاجسام: حيوانها وجمادها لانه قادر على ان ينعم على كل جسم بما معه العبادة وليس الاله من يستحق العبادة، لانه لو كان كذلك لما وصف فيما لم يزل بانه إله لانه لم يفعل الانعام الذي يستحق به العبادة ومن قال: انه إله للجماد فقد أخطأ لما قلناه من انه عبارة عمن يستحق العبادة وهو انه قادر على اصول النعم التي يستحق بها

[28]

العبادة دون ان يكون عبارة عمن يستحق العبادة ولا يجوز ان يوصف بهذه الصفة غير الله وفى الناس من قال انه مشتق من الاله، لان الخلق يألهون اليه: أي يفزعون اليه في امورهم فقيل للمألوه: إله كما قيل للمؤتم: إمام وقال بعضهم انه مشتق من الولهان وهذا غلط، لان الولهان: الهيمان وذلك لا يجوز في صفات الله تعالى على ان التصريف بلزوم الهمزة يشهد بفساد هذا على ما قاله آخرون وقال قوم هو مشتق من الالوهية التي هي العبادة يقال فلان متأله أي متعبد قال رؤبة

لله در الغانيات المدة(1) *** لما رأين حليي المموه

سبحن واسترجعن من تألهي

أي من تعبدي قرأ ابن عباس (ويذرك وآلهتك(2) يعني عبادتك ويقال أله الله فلان الهه كما يقال عبده عبادة وقيل انه مشتق من الارتفاع يقول العرب للشئ المرتفع لاه يقولون طلعت لاهة أي الشمس وغربت أيضا وقيل وصف به تعالى لانه لا تدركه الابصار ومعنى لاه: أي احتجب عنا قال الشاعر:

لاه ربي عن الخلائق طرا *** خالق الخلق لا يرى ويرانا

وقيل سمي الله لانه يوله القلوب بحبه (الرحمن الرحيم) اللغة - هما اسمان مشتقان من الرحمة وهي النعمة التي يستحق بها العبادة وهما موضوعان للمبالغة وفي رحمان خاصة مبالغة يختص الله بها وقيل ان تلك المزية من حيث فعل النعمة التي يستحق بها العبادة لا يشاركه في هذا المعنى سواه والاصل في باب فعل يفعل وفعل يفعل ان يكون اسم الفاعل فاعلا فان ارادوا المبالغة حملوا على فعلان وفعيل كما قالوا غضب فهو غضبان وسكر فهو

___________________________________

(1) المده ج ماده وهو المادح.

(2) سورة الاعراف آية 126.

[29]

سكران اذا امتلا غضبا وسكرا وكذلك قالوا: رحم فهو رحمان وخصوه به تعالى لما قلناه وكذلك قالوا علم فهو عليم ورحم فهو رحيم وعلى هذا الوجه لا يكونان للتكرار كقولهم ندمان ونديم بل التزايد فيه حاصل والاختصاص فيه بين وقيل في معنى الرحيم: لا يكلف عباده جميع ما يطيقونه فان الملك لا يوصف بانه رحيم اذا كلف عبيده جميع ما يطيقونه ذكره ابوالليث وانما قدم الرحمن على الرحيم لان وصفه بالرحمن بمنزلة الاسم العلم من حيث لا يوصف به إلا الله تعالى فصار بذلك كاسم العلم في انه يجب تقديمه على صفته.

وورد الاثر بذلك روى ابوسعيد الحذري عن النبي صلى الله عليه وآله ان عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة وروي عن بعض التابعين انه قال: الرحمن بجميع الخلق والرحيم بالمؤمنين خاصة ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق هو انشاؤه اياهم وجعلهم احياء قادرين وخلقه فيهم الشهوات وتمكينهم من المشتهيات وتعريضهم بالتكليف لعظيم الثواب ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين، مافعل الله تعالى بهم في الدنيا من الالطاف التي لم يفعلها بالكفار وما يفعله بهم في الآخرة من عظيم الثواب فهذا وجه الاختصاص وحكي عن عطاء أنه قال: الرحمن كان يختص الله تعالى به فلما تسمى مسيلمة بذلك صار الرحمن الرحيم مختصين به تعالى ولا يجتمعان لاحد وهذا الذي ذكره ليس بصحيح لان تسمى(1) مسيلمة بذلك لا يخرج الاسم من أن يكون مختصا به تعالى لان المراد بذلك استحقاق هذه الصفة وذلك لا يثبت لاحد كما أنهم سموا اصنامهم آلهة ولم يخرج بذلك من أن يكون الاله صفة يختص بالوصف به وقال بعضهم إن لفظة الرحمن ليست عربية، وانما هي ببعض اللغات كقوله تعالى " قسطاس " فانها بالرومية واستدل على ذلك بقوله تعالى: " قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا "(2) إنكارا منهم لهذا الاسم حكي ذلك عن تغلب والصحيح

___________________________________

(1) وفي نسخة تسمية.

(2) سورة الفرقان آية 6.

[30]

انه معروف واشتقاقه من الرحمة على ما بينا قال الشنفري:

ألا ضربت تلك الفتاة هجينها *** ألا ضرب الرحمن ربي يمينها

وقال سلامة بن جندل الطهوري:

عجلتم عليه قد عجلنا عليكم *** وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق

وحكي عن ابي عبيدة انه قال: " رحمن: ذو رحمة ورحيم معناه انه راحم وكرر لضرب من التأكيد كما قالوا ندمان ونديم " وانما قدم اسم الله لانه الاسم الذي يختص به من يحق له العبادة وذكر بعده الصفة ولاجل ذلك اعرب باعرابه وبدأ بالرحمن لما بينا ان فيه المبالغة.

وما روي عن ابن عباس من انهما اسمان رقيقان احدهما ارق من الآخر. فالرحمن الرقيق والرحيم العطاف على عباده بالرزق محمول على انه يعود عليهم بالفضل بعد الفضل وبالنعمة بعد النعمة لانه تعالى لا يوصف برقة القلب.

ودلت هذه الآية على التوحيد لان وصفه بالرحمن يقتضي مبالغة في الوصف بالرحمة على وجه يعم جميع الخلق وذلك لا يقدر عليها غير الله القادر لنفسه وذلك لا يكون إلا واحدا ولان وصفه بالالهية يفيد انه تحق له العبادة وذلك لا يكون إلا للقادر للنفس وهي تدل على العدل لان وصفه بالرحمة التي وسعت كل شئ، يعم كل محتاج إلى الرحمة من مؤمن وكافر وطفل وبالغ من كل حي، وذلك يبطل قول المجبرة الذين قالوا ليس لله على الكافر نعمة ولانها صفة مدح تنافي وصفه بانه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه لان هذا صفة ذم.

الحمد لله رب العالمين

الاعراب: اجمع القراء على ضم الدال من الحمد وكسر اللام الاولى من لله وكان يجوز أن يفتح الدال مع كسر اللام ويكسر الدال واللام(1) نكن لم يقرأ به إلا أهل البوادي ومن نصب فعلى المصدر ومن كسرهما اتبع كسرة الدال كسرة

___________________________________

(1) وبضمهما

[31]

اللام ومن ضمهما اتبع ضم الدال بضمة اللام(1).

ونصب الدال لغة في قريش والحارث بن اسامة بن لؤي وكسرها لغة في تمميم وغطفان وضمها لغة في ربيعة توهموا انه حرف واحد مثل الحلم وقوله: لله مخفوض بالاضافة ورب العالمين(2) مخفوض لانه نعت ويجوز نصبه على الحال والنداء وما قرئ به والعالمين مخفوض بالاضافة ونونها مفتوحة لانها نون الجمع فرقا بينها وبين نون التثنية وبعض قيس يحذف الالف التي قبل الهاء ويخلس الهاء ويشددها ويقصرها انشد بعضهم:

ألا لا بارك الله في سهيل *** اذا ما بارك الله في الرجال

اختلس الاولى واشبع الثانية ويقرأ بهذا ومعنى الحمد لله الشكر لله خالصا دون سائر ما يعبد بما أنعم على عباده من ضروب النعم الدينية والدنياوية(3) وقال بعضهم: الحمدلله ثناء عليه باسمائه وصفاته وقوله الشكر لله ثناء على نعمه وأياديه، والاول أصح في اللغة، لان الحمد والشكر يوضع كل واحد منهما موضع صاحبه.

ويقال أيضا: الحمد الله شكرا فنصب شكرا على المصدر، ولو لم يكن في معناه لما نصبه ودخول الالف واللام فيه لفائدة الاستيعاب، فكانه قال جميع الحمدلله، لان التالي مخبر بذلك، ولونصبه فقال حمدا لله أفاد أن القائل هو الحامد فحسب وليس ذلك المراد، ولذلك اجتمعت القراء على ضم الدال على ما بيناه، والتقدير: قوله الحمدلله.

واذا كان الحمد هو الشكر، والشكر هو الاعتراف بالنعمة على ضرب من التعظيم فالمدح ليس من الشكر في شئ وانما هو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد اليه.

وأما الرب فله معان في اللغة: فيسمى السيد المطاع ربا، قال لبيد بن ربيعة:

فاهلكن يوما رب كندة وابنه *** ورب معد بين خبت(4) وعرعر(5)

___________________________________

(1) واتبع ضم اللام بضم الدال - لعله الاصح.

(2) العالمين زائدة.

(3) دنيوية والالف زائدة. لان الواو قلبت عنها " 4 و 5 " خبت وعرعر موضعان.

[32]

يعني سيد كندة.

ومنه قوله تعالى: " أما أحد كما فيسقي ربه خمرا " يعني سيده ويسمى الرجل المصلح ربا قال الفرزدق بن غالب:

كانوا كسالئة(1) حمفاء اذ حقنت *** سلائها في اديم غير مربوب

يعني غير مصلح ومنه قيل فلان رب ضيعة اذا كان يحاول اتمامها والربانيون من هذا من حيث كانوا مدبرين لهم واشتق رب من التربية يقال ربيته وربيته بمعنى واحد والربى الشاة ولدت حديثا لانها تربى.

وقوله (رب العالمين) أي المالك لتدبيرهم والمالك للشئ يسمى ربه ولا يطلق هذا الاسم إلا على الله وأما في غيره فبقيد فيقال: رب الدار ورب الضيعة وقيل انه مشتق من التربية ومنه قوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم) ومتى قيل في الله انه رب بمعنى انه سيد فهو من صفات ذاته.

واذا قيل بمعنى انه مدبر مصلح فهو من صفات الافعال والعالمين جمع عالم وعالم لا واحد له من لفظه كالرهط والجيش وغيرذلك والعالم في عرف اللغة عبارة عن الجماعة من العقلاء لانهم يقولون جاء‌ني عالم من الناس ولا يقولون جاء‌ني عالم من البقر وفي عرف الناس عبارة عن جميع المخلوقات وقيل انه ايضا اسم لكل صنف من الاصناف وأهل كل زمن من كل صنف يسمى عاما ولذلك جمع وقيل عالمون لعالم كل زمان قال العجاج: فخندف(2) هامة هذا العالم وهذا قول اكثر المفسرين كابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم واشتقاقه من العلامة لانه علامة ودلالة على الصانع تعالى وقيل انه من العلم - على ما روى ابن عباس - قال هم صنف من الملائكة والانس والجن لانه يصح ان يكون كل صنف منهم عالما فان قيل كيف يجوزان يقول الحمد لله والقائل هو الله تعالى وان(3) كان يجب ان يقول الحمد لنا.

قيل العالي الرتبة اذا خاطب من دونه لا يقول كما يقول للنظير ألا ترى ان السيد يقول لعبده الواجب ان تطيع سيدك ولا

___________________________________

(1) سلا السمن: عالجه.

(2) لقب اولاد الياس بن مضر.

(3) وكان يجب.

[33]

تعصيه، وكذلك يقول الاب لابنه يلزمك أن تبر أباك والمنة لابيك والخلفاء يكتبون عن انفسهم إن أميرالمؤمنين رأى كيت وكيت ليقع ذلك موقع اجلال واكرام واعظام على انا قد بينا ان المراد بذلك: قولوا الحمدلله وحذف لدلالة الكلام عليه.

الرحمن الرحيم

مخفوضان لانهما نعت لله وقد مضى معناهما(1)

قوله: مالك يوم الدين

القراء‌ة: قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب: ومالك بالالف.

الباقون ملك بغير الف، ولم يمل أحد الف مالك وكسر جميعهم الكاف وروي عن الاعمش انه فتحها على النداء وربيعة بن نزار يخففون مالك ويسقطون الالف فيقولون: ملك بتسكين اللام وفتح الميم كما قال ابوالنجم تمشي الملك عليه حلله والالف ساقط في الخط في القراء‌تين والمعول على الاولتين دون النصب وإسكان اللام ومعنى ملك يوم الدين باسقاط الالف أنه الملك يومئذ لا ملك غيره وأنه لا يؤتى في ذلك الوقت أحدا الملك كما اتاه في الدنيا، وقوى ذلك بقوله تعالى: " لمن الملك اليوم؟

لله الواحد القهار(2) وبانه يطابق ما تقدم من قوله: " رب العالمين الرحمن الرحيم " ومن قرأ مالك بالف معناه انه مالك يوم الدين والحساب لايملكه غيره ولايليه سواه

___________________________________

(1) في تفسير البسملة.

(2) سورة ابراهيم: آية 48.

[34]

اللغة والمالك هو القادر على التصرف في ماله وأن يتصرف فيه على وجه ليس لاحد منعه منه ويوصف العاجز بأنه مالك من جهة الحكم والملك هو القادر الواسع القدرة الذي له السياسة والتدبير ويقال ملك بين الملك مضمومة الميم ومانك بين الملك والملك بفتح الميم وكسرها وضم الميم فيه لغة شاذة ذكرها ابوعلي الفارسي.

ويقال طالت مملكة الامير ومملكته بكسر اللام وفتحها وطال ملكه وملكه اذا طال رقه، واعطاني من ملكه وملكه ولي في هذا الوادي ملك وملك وملك ويقال نحن عبيد مملكة وليس بعبيدقن اي سبيا لم يملك في الاصل ويقال: شهدنا املاك فلان وملكه ولا يقال ملاكه فأصل الملك الشد من قول الشاعر:

ملكت بها كفي وانهرت(1) فقعها(2)

اي شددت وملكت العجين اي شددت عجنه ويقال: هذا ملك فلان اذا كان له التصرف فيه على ما بيناه فأما من رجح قراء‌ة ملك من حيث انه وصف نفسه بأنه ملك كل شئ بقوله " رب العالمين " فلا فائدة في تكرير ما قد مضى فقد ابعد لان في القرآن له نظائر تقدمها العام وذكر بعد العام الخاص: " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق(3) " فعم في الاول ثم خص ذكر لانسان تنبيها على تأمل ما فيه من اتقان الصنعة ووجوه الحكمة كما قال: " وفي نفسكم افلا تبصرون؟(4) " ولذلك نظائر كثيرة وفي الناس من قال ان ملك ابلغ في المدح من مالك لان ملك مالك وليس كل مالك ملكا وقال تغلب: إن مالك ابلغ من ملك لانه قد يكون الملك على من لا يملك كما يقال ملك الروم وان كان لا يملكهم ولا يكون مالكا إلا

___________________________________

(1) انهن وسع والصحيح فأنهرت.

(2) الصحيح فتقها قاله قيس بن الخطيم.

(3) سورة العلق آية 1 و 2.

(4) سورة الذاريات آية 21.

[35]

على ما يملك وقال بعضهم: ان مالك أبلغ في المدح للخالق من ملك وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك لان مالك من المخلوقين قد يكون غير ملك واذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا والاقوى أن يكون مالك أبلغ في المدح فيه تعالى لانه ينفرد بالملك ويملك جميع الاشياء فكان أبلغ وقوله تعالى: " يوم الدين "

الاعراب: مجرور بالاضافة قي القراء‌تين معا، وهو من باب يا سارق الليلة أهل الدار اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به ثم اضيف على هذا الحد وليس ذلك مثل قوله: (وعنده علم الساعة) مفعول بها(1) على الحقيقة ولا أن جعل الظرف مفعولا على السعة لان الظرف اذا جعل مفعولا على السعة فمعناه معنى الظرف ولو جعل ظرفا لكان المعنى: يعلم في الساعة وذلك لا يجوز لانه تعالى يعلم في كل وقت والمعنى: انه يعلم الساعة أي يعرفها ومن نصب انما هرب ان يخرج من خطاب الغائب إلى المواجه في قوله " اياك نعبد واياك نستعين " وليس ذلك ببديع لانه مستعمل في القرآن وفى الشعر قال الله تعالى: " حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم "(2) فعدل عن خطاب المواجه إلى الكنانة عن الغائب وقال الشاعر:

كذبتم وبيت الله لاتنكحونها *** بني شاب قرناها تصر(3) وتحلب

وقال ابوكثير الهلالي:

يالهف نفسي كان جدة خالد *** وبياض وجهك للتراب الاعفر

وقال لبيد بن ربيعة:

قامت(4) تشكي الي النفس مجهشة(5) *** وقد حملتك سبعا بعد سبعينا

فرجع إلى مخاطبة نفسه وقد تقدم الاخبار عنها

___________________________________

(1) به.

(2) سورة يونس: آية 22.

(3) صر الناقة يصرها - بالضم - صراشد ضرعها - القاموس القرن: الضفيرة.

(4) باتت.

(5) موهنة - العقد الفريد مجهشة - لسان العرب

[36]

وقال الكسائي التقدير: قولوا اياك نعبد.

فيكون على حكاية ما امروا به اللغة: والدين الحساب والدين الجزاء ايضا قال كعب بن جعيل:

اذا ما رمونا رميناهم *** ودناهم فوق ما يقرضونا

وقال آخر:

واعلم وايقن ان ملكك زائل *** واعلم بانك ما تدين تدان

يعني: ما تجزي تجزى ومنه قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين) يعني بالجزاء وقوله: (فلولا ان كنتم غير مدينين) أي غير مجزيين وبهذا قال جماعة من التابعين كسعيد بن جبير وقتادة وروي عن ابن عباس ومجاهد وابي جعفر: انه الحساب والدين ايضا الطاعة وقال عمرو بن كلثوم:

وايام لنا غر طوال *** عصينا الملك فيها ان ندينا

والدين الملك قال زهير:

لئن حللت بجو في بني أسد *** في دين عمرو وحالت بيننا فدك

والدين القهر والاستعلاء قال الاعشى:

هو دان الرباب اذ كرهوا الدين دراكا بغزوة وصقال(1)

يعني ذللهم للطاعة والدين العادة قال المثقب العبدي:

تقول وقد درأت لها وضينى *** أهذا دينه ابدا وديني

التفسير: (ويوم الدين) عبارة عن زمان الجزاء كله وليس المراد به ما بين المشرق والمغرب وطلوع الشمس إلى غروبها

___________________________________

(1) وارتحال وفي مجمع البيان: وصيال

[37]

إياك نعبد وإياك نستعين

الاعراب: إياك نصب بوقوع الفعل عليه وموضع الكاف في إياك خفض باضافة إيا اليها وإيا اسم للضمير المنصوب إلا انه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات نحو قوله: إياك ضربت وإياه ضربت وإياي ضربت ولو قلت: إيا زيد حدثت كان قبيحا لانه خص به المضمر وقد روى الخليل جوازه وهو قولهم: اذا بلغ الرجل الستين فاياه وإيا الشواب(1) وقال الاخفش لا موضع للكاف من الاعراب لانها حرف الخطاب وهو قول ابن السراج واختاره الرماني لان المضمر معرفة تمتنع من الاضافة كما تمتنع من الصفة وحملوا ما رواه الخليل على الشذوذ ولو قلت نعبد إياك لم يجز لانك تقدر على ضميرمتصل بان تقول نعبدك فلا يجوز ان تأتي بضمير منفصل ولانه لو أخر لكان قد قدم ذكر العابد على المعبود وليس بجيد ومن قال إن إياك بكماله اسم فقد أخطأ لانه لو كان كذلك لما اضيف كما حكيناه في قولهم إياه وإيا الشواب لانهم اجروا الهاء فيه مجرى الهاء في عصاه والنون مفتوحة من نعبده وقد روي يحيى بن وثاب، انه كان يكسرها وهي لغة هذيل يقولون نعلم وتعلم واعلم وتخاف وتقام وتنام فيكسرون أوائل هذه الحروف كلها ولا يكسرون الياء ولافي يستفعل ويفتعل فلا يقولون يبيض ويطمس - بكسر الياء - بل يفتحونها والدال والنون مرفوعان لان في أوله أحد الزوايد الاربع فاعربا.

المعنى واللغة: والعبادة ضرب من الشكر مع ضرب من الخضوع ولا تستحق إلا باصول

___________________________________

(1) امرأة شابة ونسوة شواب

[38]

النعم التي هي خلق الحياة والقدرة والشهوة ومايقدر من النعم لا يوازيه نعمة منعم فلذلك اختص الله بأن يعبد وان استحق بعضنا على بعض الشكر والعبادة في اللغة الذلة يقال هذا طريق معبد اذا كان مذللا بكثرة الوطئ وبعير معبد اي مذلل بالركوب وقيل اصله اذا طلي بالقطران وسمي العبد عبدا لذلته لمولاه ومن العرب من يقول: هياك فيبدل الالف هاء كما يقولون: هيه وايه ونستعين اي نطلب منك المعونة على طاعتك وعبادتك واصله نستعون لانه من المعونة فقلبت الواو ياء لثقل الكسرة عليها ونقلت كسرتها إلى العين قبلها وبقيت الياء ساكنة والتقدير في اول السورة إلى ههنا اي قل يامحمد هذا الحمد وهذا كما قال: " ولو ترى اذا المجرمون ناكسوا رء‌وسهم عند ربهم ربنا ابصرنا(1) اي: يقولون ربنا وكما قال: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم " اي: يقولون سلام عليكم وحمزة والكسائي اذا وقفا اشما الدال الرفع وكذلك في سائر القرآن فاما اذا وقفا على النصب تخير الكسائي الاشمام وتركه اجود ومن استدل بهذه الآية على أن القدرة مع الفعل من حيث إن القدرة لو كانت متقدمه لما كان لطلب المعونة وجه اذا كان الله قد فعلها فيه فقد اخطأ لان الرغبة في ذلك تحتمل امرين:

احدهما - ان يسأل الله تعالى من الطافه وما يقوي دواعيه ويسهل الفعل عليه ما ليس بحاصل ومتى لطف له بأن يعلمه أن له في عاقبة الثواب العظيم والمنازل الجليلة زاد ذلك في نشاطه ورغبته.

والثاني - ان يطلب بقاء كونه قادرا على طاعاته المستقبلة بأن يجدد له القدرة حالا بعد حال عند من لا يقول ببقائها اولا يفعل ما يضادها وينفيها عند من قال ببقائها فان قيل هلا قدم طلب المعونة على فعل العبادة لان العبادة لاتتم إلا بتقدم المعونة اولا؟ قيل: في الناس من قال المراد به التقديم والتأخير فكانه قال: اياك نستعين واياك نعبد ومنهم من قال: ليس يتغير بذلك المعنى كما إن

___________________________________

(1) سورة الم السجدة آية 12

[39]

القائل اذا قال احسنت الي فقضيت حاجتي او قضيت حاجتي فأحسنت الي فان في الحالين المعنى واحد قال قوم انهم سألوا لمعونة على عبادة مستأنفة لاعلى عبادة واقعة منهم وانما حسن طلب المعونة وان كان لابد منها مع التكليف على وجه الانقطاع اليه كما قال: " رب احكم بالحق " ولانه قد لا يكون في ادامته التكليف اللطف ولا في فعل المعونه به الا بعد تقدم الدعاء من العبد وانما كرر اياك لان الكاف التي فيها هي كاف الضمير التي كانت تكون بعد الفعل في قوله نعبدك فلما قدمت زيد عليها أبا لان الاسم اذا انفرد لا يمكن ان يكون على حرف واحد فقيل اياك ولما كانت الكاف يلزم تكرارها لو كرر الفعل وجب مثل ذلك في اياك الا ترى انه لو قال نعبدك ونستعينك ونستهديك لم يكن بدمن تكرير الكاف وكذلك لو قدم فقيل اياك نعبد واياك نستعين وفيه تعليم لنا ان نجدد ذكره عند كل حاجة ومن قال انه يجري مجرى قول عدي بن زيد العبادي:

وجاعل الشمس مصرا(1) لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا

وكقول اعشى همدان:

بين الاشج وبين قيس باذخ *** بخ بخ لوالده وللمولود

فكرر لفظ بين فقد اخطأ لان في البيتين لو لم تكرر بين لكان الفعل مستحيلا الا ترى انه لو قال الشمس قد فصلت بين النهار لم يكن كلاما صحيحا وكذلك البيت الآخر وليس كذلك الآية لانه لو قال اياك نعبد وسكت لكان مستقلا بنفسه ولهذا طعن به بعض المفسرين وعندي ان هذا ليس بطعن، لانه مغالطة لانه لو قال بين النهار والليل لكان كلاما صحيحا وانما كرر بين وكذلك لو قال اياك نعبد ونستعين كان كلاما صحيحا وانما كرر اياك تأكيدا والعلة ما ذكرناه اولا

___________________________________

(1) المصر: الحاجز

[40]

قوله: إهدنا الصراط المستقيم

القراء‌ة: قرأ ابن كثير في رواية ابن مجاهد عن قنبل والكسائي من طريق ابن حمدون ويعقوب من طريق رويس(1) بالسين وكذلك في سراط في جميع القرآن الباقون بالصاد واشم الصاد زايا حمزة في الموضوعين خاصة في رواية علي بن سالم وفي رواية الدوري وخلاد اشمامها الزاي ما كان فيه الف ولام واما الصاد اذا سكنت وكان بعدها دال نحو: يصدر وفاصدع ويصدفون فاشم الصاد الزاي حيث وقع حمزة والكسائى وخلف ورويس.

الاعراب (اهدنا): مبني على الوقف لانه امر والهمزة مكسورة لان ثالث المضارع منه مكسور في نحو يهدي وموضع النون والالف من اهدنا نصب لانه مفعول به الصراط منصوب لانه مفعول ثان فمن قرأ بالسين فلانه الاصل من غير سبب يمنع منه ومن قرأ باشمام الزاي فللمؤاخاة بين السين والطاء بحرف مجهور من مخرج السين وهو الزاء من غير ابطال للاصل ومن قرأ بالصاد بين الصاد والطاء بالاستعلاء والاطباق والقراء‌ة بالصاد احسن لان فيها جمعا بين المتشاكلين في المسموع اللغة والتفسير ومعنى اهدنا يحتمل امرين: احدهما - ارشدنا كما قال طرفة

للفتى عقل يعيش به *** حيث يهدي ساقه قدمه

والثاني - وفقنا كما قال الشاعر:

فلا تعجلن هداك المليك *** فان لكل مقام مقالا

أي وفقك والآية تدل على بطلان قول من يقول: لايجوز الدعاء بأن يفعل الله ما يعلم أنه يفعله لانه عبث لان النبي صلى الله عليه وآله كان عالما بأن الله يهديه الصراط

___________________________________

(1) الصحيح: أويس

[41]

المستقيم وانه قد فعل ومع ذلك كان يدعو به وقد تكون الهداية بمعنى أن يفعل بهم اللطف الذي يدعوهم إلى فعل الطاعة والهدى يكون ايضا بمعنى العلم لصاحبه لانه مهتد على وجه المدح والهدى يكون ان يهديه إلى طريق الجنة كما قال الله تعالى: " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا " وأصل الهداية في اللغة الدلالة على طريق الرشد فان قيل: ما معنى المسأله في ذلك وقد هداهم الله الصراط المستقيم ومعلوم أن الله تعالى يفعل بهم ما هو أصلح لهم في دينهم؟

قيل: يجوز أن يكون ذلك عبادة وانقطاعا إليه تعالى كما قال: " رب احكم بالحق " وإن علمنا أنه لايحكم إلا بالحق ويكون لنا في ذلك مصلحة كسائر العبادات وكما تعبدنا بأن نكرر تسبيحه وتحميده والاقرار بتوحيده ولرسوله بالصدق وإن كنا معتقدين لجميع ذلك ويجوز أن يكون المراد بذلك الزيادة في الالطاف كما قال تعالى: " والذين اهتدوا زدناهم هدى "(1) وقال: " يهدي به الله من اتبع رضوانه(2) ويجوز أن يكون الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا وأنفع لنا إذا سألناه وإذا لم نسأله لا يكون ذلك مصلحة وكان ذلك وجها في حسن المصلحة ويجوز أن يكون المراد استمرار التكليف والتعريض للثواب لان إدامته ليست بواجبة بل هو تفضل محض جاز أن يرغب فيه بالدعاء ويلزم المخالف أن يقال له: إذاكان الله تعالى قد علم أنه يفعل ذلك لا محالة فما معنى سؤاله ما علم أنه يفعله فما أجابوا به فهو جوابنا والصراط المستقيم هو الدين الحق الذي أمرالله به من توحيده وعد له وولاية من أوجب طاعته قال جرير:

أميرالمؤمنين على صراط *** إذا اعوج الموارد مستقيم

أي على طريق واضح وقال الشاعر:

___________________________________

(1) سورة الكهف آية 13.

(2) سورة المائدة آية 18

[42]

فصد عن نهج السراط الواضح وقيل: إنه مشتق من " مسترط " الطعام وهو ممره في الحلق الصاد لغة قريش وهي اللغة الجيدة " وعامة العرب يجعلونها سينا والزاي لغة لعذرة وكعب وبني القين يقولون: أزدق فيجعلونها زايا إذا سكنت وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق.

وبنو تميم يذكرون هذا كله وأصل الاستقامة التقويم والاستواء في جهة الانتصار وهو ضد الاعوجاج فمنه القيام والتقويم والتقوم ومنه المقاومة لانه بمنزلة المماثلة بما هو كالاستواء وتقاوموا في الامر إذا تماثلوا والاستقامة المرور في جهة واحدة وقيل في معنى قوله: " الصراط المستقيم " وجوه: أحدها - إنه كتاب الله وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وعن علي عليه السلام وابن مسعود والثاني - انه الاسلام حكي ذلك عن جابر وابن عباس والثالث - انه دين الله عزوجل الذي لا يقبل من العباد غيره والرابع - انه النبي صلى الله عليه وآله والائمة (ع) القائمون مقامه صلوات الله عليهم وهو المروي في أخبارنا.

التفسير: والاولى حمل الآية على عمومها لانا إذا حملناها على العموم دخل جميع ذلك فيه فالتخصيص لا معنى له.

قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم

المعنى: معناه بيان الصراط المستقيم إذا كان كل طريق من طرق الحق صراطا مستقيما والمعنى صراط من أنعمت عليهم بطاعتك

[43]

القراء‌ة: وقرأ حمزء بضم الهاء من ذلك: وفي أيديهم " وإليهم " حيث وقع وروى الدوري عنه بضم الهاء في قوله: " فعليهم غضب من الله(1) وقرأ يعقوب بضم كل هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية وجمع المذكر والمؤنث نحو: " عليهما " وفيهما " عليهن " و " فيهن " وضم ميم الجمع ووصلها بواو في اللفظ ابن كثير وأبو جعفر وعن نافع فيه خلاف كثير وعن غيره لا نطول بذكره وهو مذكور في كتب القراء‌ات فمن قرأ بكسر الهاء وإسكان الميم قال: إنه أمن من اللبس إذا كانت الالف في التثنية قد دلت على الاثنين ولاميم في الواحد فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو وأسكنوا الميم طلبا للتخفيف وحجة من قرأ " عليهم " انهم قالوا ضم الهاء هوالاصل لان الهاء اذا انفردت من حرف متصل بها قيل: " هم فعلوا " ومن ضم الميم إذا لقيها ساكن بعد الهاء مكسورة قال: لما احتجت إلى الحركة رددت الحرف إلى أصله فضممت وتركت الهاء على كسرتها لانه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردها إلى الاصل ومن كسر الميم فالساكن الذي لفيها والهاء مكسورة ثم اتبع الكسرة الكسرة.

الاعراب: (والذين) في موضع جر بالاضافة ولا يقال في الرفع (اللذون) لانه إسم ليس يتمكن وقد حكي اللذون شاذا كما قيل الشياطون وذلك في حال الرفع ولا يقرأ به وقرأ صراط من أنعمت عليهم: عمر بن الخطاب وعبدالله بن زبير وروي ذلك عن أهل البيت عليهم السلام والمشهور الاول والنعمة التي أنعم بها على المذكورين وإن لم تذكر في اللفظ فالكلام بدل عليها لا لما قال: إهدنا الصراط المستقيم وبينا المراد بذلك ثم بين أن هذا صراط من أنعمت عليهم بها فلم يحتج إلى إعادة اللفظ كما قال النابغة الذبياني:

كأنك من جمال بني أقيش *** يقعقع خلف رجليه بشن(1)

___________________________________

(1) سورة النحل آية 106.

(2) الشن والشنة: القرية

[44]

لما قال جمال بني أقيش قال يقعقع ومعناه جمل يقعقع خلف رجليه ونظير ذلك كثيرا جدا.

قوله تعالى: غير المغضوب عليهم ولا الضالين

الاعراب: أجمع المفسرون والقراء على جر (غير) لانها نعت للذين وانما جاز أن تكون نعتا للذين والذين معرفة وغير نكرة لان الذين بصلتها ليست بالمعرفة كالاسماء المعية التي هي أعلام كزيد وعمرو وانما هي كالنكرات اذا عرفت كالرجل والبعير فلما كانت الذين كذلك كانت صفتها كذلك ايضا وجازان تكون نعتا للذين كما يقال لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل ولو كانت بمنزلة الاعلام لما جاز كما لم يجز في قولهم: مررت بزيد غير الظريف فلا يجرها على انها نعت وان نصبتها في مثل هذا جاز على الحال ويحتمل ايضا ان تكون مجرورة لتكرير العامل الذي خفض الذين فكأنك قلت: صراط الذين انعمت عليهم صراط غير المغضوب عليهم ويتقارب معناهما لان الذين انعمت عليهم هم الذين لم يغضب عليهم وقرئ في الشواذ غير المغضوب عليهم بالنصب ووجههاان تكون صفة للهاء والميم اللتين في عليهم العائدة على الذين لانها وان خفضت بعلى فهي موضع نصب بوقوع الانعام عليها ويجوز ان يكون نصبا على الحال وقال الاخفش والزجاج: انها نصب على وجه الاستثناء من معاني صفة الذين أنعمت عليهم وتقديره: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم إلا المغضوب عليهم الذين لم تنعم عليهم في اديانهم فلا تجعلنا منهم ويكون استثناء من غير جنس كما قال النابغة للذبياني:

وقفت فيها أصيلا لا اسائلها(1) *** أعيت جوابا وما بالربع من أحد

___________________________________

(1) الصحيح كي اسائلها وفي نسخة: اصيلانا اسائلها

[45]

إلا الاواري(1) لايا ما ابينها *** والنؤي(2) كالحوض بالمظلومة(3)

الجلد وقال الفراء: وتغلب هذا خطأ لانه لو كان كذلك لما قال: ولا الضالين لان لا نفي وجحد ولا يعطف على جحد إلا بجحد ولايعطف بالجحد على الاستثناء وانما يعطف بالاستثناء على استثناء وبالجحد على الجحد يقولون قام القوم إلا أخاك وإلا أباك ولا قام أخوك ولا أبوك ولايقولون ما قام القوم إلا أخاك ولا أباك فعلى هذا تكون (غير) بمعنى: لا فكأنه قال لا المغضوب عليهم ولاالضالين قال الرماني: من نصب على الاستثناء جعل لاصلة كما انشد ابوعبيدة في بئر لا حور سرى وما شعر(4) أي في بئر هلكة (والمغضوب عليهم) هم اليهود عند جميع المفسرين الخاص والعام لانه تعالى قد أخبر انه غضب عليهم وجعل فيهم القردة والخنازير (ولا الضالين) هم النصارى لانه قال: (وضلوا عن سواء السبيل)(5)"قال (لعن الذين كفروا) يعني النصارى وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وقال بعضهم لا: زائدة تقديره: غير المغضوب عليهم والضالين كما قال: (ما منعك ان لا تسجد)(6)"ي معناه أن تسجد قال ابوالنجم:

فما ألوم البيض ألا تسخرا *** لما رأين الشمط القفندرا(7)

يعني أن تسخر وتكون غير بمعنى سوى وقد بينا ضعف هذا عند الكوفيين لما مضى، ولانه انما يجوز ذلك اذا تقدمه نفي كقول الشاعر:

ماكان يرضى رسول الله فعلهم *** والطيبان ابوبكر ولاعمر

___________________________________

(1) ج آري محابس الخيل.

(2) حفرة حول الخيمة تمنع من تسرب الماء اليها.

(3) الارض التي لم تحفر قط وحفرت.

(4) أي بئر هلكة.

(5) سورة المائدة آية: 80.

(6) سورة الاعراف آية 11.

(7) الشمط: الشيب والقفندر: الصغير الرأس القبيح المنظر

[46]

واما الغضب من الله فهو ارادة العقاب المستحق بهم ولعنهم وبراء‌ته منهم واصل الغضب الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل المخالفة له ورجل غضوب شديد الغضب والغضوب الحية الخبيثة لشدتها والغضوب الناقة العبوس واصل الضلال الهلاك ومنه قوله (اذا ضللنا في الارض) أي هلكنا ومنه قوله تعالى (واضل اعمالهم) أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق والاضلال الدعاء إلى الضلال والحمل عليه ومنه قوله تعالى: " واضلهم السامري "(1) والاضلال الاخذ بالعاصين إلى النار والاضلال الحكم بالضلال والاضلال التحيير بالضلال بالتشكيك لتعدل عنه واليهود - وان كانوا ضلالا - والنصارى - وان كانوا مغضوبا عليهم فانما خص الله تعالى كل فريق منهم بسمة يعرف بها ويميز بينه وبين غيره بها وان كانوا مشتركين في صفات كثيرة وقيل انه أراد (بالمغضوب عليهم ولاالضالين) جميع الكفار وانما ذكروا بالصفتين لاختلاف الفائدتين.

وروى جابر ابن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فله ما سأل فاذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال حمدني عبدي واذا قال الرحمن الرحيم قال اثنى علي عبدي واذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي ثم قال هذا لي وله ما بقي) ولا يجوز عندنا ان يقول القارئ عند خاتمة الحمد: آمين فان قال ذلك في الصلاة متعمدا بطلت صلاته لانه كلام لايتعلق بالصلاة ولانه كلام لا يستقل بنفسه وانما يفيد اذا كان تأمينا على ما نقدم ومتى قصد بما تقدم الدعاء لم يكن تاليا للقرآن فتبطل صلاته وان قصد التلاوة لايكون داعيا فلا يصح التأمين وان قصدهما فعند كثير من الاصوليين ان المعنيين المختلفين لايصح ان يردا بلفظ واحد ومن اجاز ذلك - وهو الصحيح - منع منه لقيام الدلالة على المنع من ذلك فلاجل ذلك لم يجز

___________________________________

(1) سورة طه آية: 85




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336880

  • التاريخ : 29/03/2024 - 01:19

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net