00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النساء من ( آية 136 ـ آخر السورة ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثالث)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: (ياايها الذين آمنوا امنوا بالله ورسوله والكتاب الذي انزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا(136))

آية.

[ القراء‌ة والحجة ]: قرأ ابن كيثر وأبوعمر وابن عامر والكسائي عن أبي بكر " الكتاب الذي نزل والكتاب الذي أنزل " بضم النون، والهمزة وكسر الزاء الباقون بفتحهما، فمن فتحهما حمله على قوله: " أنا نحن نزلنا الذكر " وقوله: " وانزلنا اليك الذكر " ومن ضمها حملهما على قوله: " ولنبين للناس ما نزل اليهم " وقوله: " يعلمون انه منزل " وكل جيد سايغ. قبل في تأويل أمر من آمن - آمن يؤمن - بالله ورسوله ثلاثة اقوال:

احدها - وهو المعتمد عليه عندنا واللايق بمذهبنا ان المعنى ياأيها الذين آمنوا في الظاهر بالاقرار بالله ورسوله، وصدقوهما، آمنوا بالله ورسوله في الباطن، ليطابق باطنكم ظاهركم ويكون الخطاب خاصا بالمنافقين الذين كانوا يظهرون خلاف مايبطنون. والكتاب الذي نزل على رسوله هوالقران امرهم بالتصديق به والكتاب الذي انزل من قبل، يعنى التوراة والانجيل امرهم بالتصديق بهما، وانهما من عند الله.

والثاني - ما اختاره الجبائي والزجاج والبلخي ان يكون ذلك خطابا لجميع المؤمنين

___________________________________

(1) ديوانه من قصيدة قالها لكسرى حين اراد منهم رهائن لما أغار الحارث بن وعلة على بعض السواد ورقمها: 34. يلوينني: يمطلنني.

[358]

الذين هم مؤمنون على الحقيقة ظاهرا او باطنا أمرهم الله تعالى أن يؤمنوا به في المستقبل بان يستديموا الايمان، ولاينتقلوا عنه، لان الايمان الذي هو التصديق لايبقى وانما يستمر بان يجدده الانسان حالا بعد حال وهذا أيضا وجه جيد.

الثالث - ما اختاره الطبري من ان ذلك خطاب لاهل الكتاب اليهود والنصارى امرهم الله (تعالى) بان يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله، والكتاب الذي أنزل عليه كما آمنوا بما معهم من الكتب: التوراة والانجيل ويكون قوله: " والكتاب الذي نزل من قبل " اشارة إلى مامعهم من الانجيل والتوراة ويكون وجه أمرهم بالتصديق لهما وان كانوا مصدقين بهما، لاحد امرين: احدهما - ان التوراة والانجيل اذا كان فيهما صفات النبي صلى الله عليه وآله، وما ينبئ عن صدق ‌قوله وصحة نبوته فمن لم يصدق النبي صلى الله عليه وآله، ولم يصدق الكتاب الذي أنزل معه، لايكون مصدقا بما معه، لان في تكذيبه، تكذيب مامعه من التوراة والانجيل، فيجب عليه أن يصدق النبي صلى الله عليه وآله ويقر بما انزل عليه، ليكون مصدقا بما معه، ومعترفا به. والثاني - أن يكون متوجها إلى اليهود الذين آمنوا بالتوراة دون الانجيل والقران، فيكون الله أمرهم بالاقرار بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبما انزل من قبل يعني الانجيل. وذلك لايصح الا بالاقرار بعيسى (عليه السلام) أيضا وانه نبي من قبل الله وقوله: " ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الاخر " معناه ان من كفر بمحمد صلى الله عليه وآله فيجحد نبوته ويجحد ما انزله الله عليه، فكانه جحد جميع ذلك، لانه لايصح ايمان احد من الخلق الا بالايمان بما امره الله بالايمان به، والكفر بشئ منه كفر بجميعه خطابه لاهل الكتاب وامره اياهم بالايمان بمحمد صلى الله عليه وآله تهديدا لهم، وان كانوا مقرين بوحدانية الله تعالى والملائكة والكتب والرسل، واليوم الآخر سوى محمد (صلى الله عليه واله) وما جاء به من القران فبين لهم ان من جحد محمدا بنبوته لاينفعه الايمان بشئ سواه، ويكون وجوده وعدمه سواء.

[359]

وقوله: " فقد ضل ضلالا بعيدا " معناه فقد ذهب عن قصد السبيل وجاز عن محجة الطريق ألى المهالك ضلالا ذهابا، وجورا بعيدا.

قوله تعالى: (ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا الم يكن الله ليغفر لهم ولاليهديهم سبيلا(137))

آية واحدة.

[ المعنى ]: قيل في المعني بهذه الآية ثلاثة اقوال:

الاول - قال قتادة عنى بذلك الذين امنوا بموسى، ثم كفروا بان عبدوا العجل، ثم آمنوا يعني النصاري بعيسى، ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وقال الزجاج والفراء: آمنوا بموسى، وكفروا بعزير، ثم امنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وآله.

والثاني - قال مجاهد وابن زيد يعني بذلك اهل النفاق انهم آمنوا، ثم ارتدوا ثم آمنوا، ثم ارتدوا، ثم ازدادوا كفرا بموتهم على كفرهم.

والثالث - قال ابوالعالية: هم اليهود والنصارى أذنبوا ذنبا في شركهم، ثم تابوا فلم تقبل توبتهم، ولو تابوا من الشرك لقبل منهم واقوى الاقوال عندنا قول مجاهد، لان المؤمن على الحقيقة عندنا لايجوز ان يكفر، لان الايمان يستحق عليه الثواب الدائم والكفر يستحق عليه العقاب الدائم بلاخلاف فيهما والاحتياط عندنا باطل، فلو اجزنا الارتداد بعد الايمان الحقيقي لادى إلى اجتماع استحقاق الثواب الدائم والعقاب الدائم والاجماع بخلافه واختار الطبري الوجه الاول وقال الجبائي والبلخي يجوزان تكون الآية نزلت في قوم كانوا آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرا.

وقوله: " لم يكن الله ليغفر " معناه لم يكن الله ليغفر لهم الايمان الثاني الكفر

[360]

المتقدم، لانه لما ارتد فيما بعد، دل على ان ما تقدم، لم يكن ايمانا فلايستحق به غفران عقاب الكفر المتقدم وهوالذي اختاره الزجاج وقال البلخي والزجاج: لم يكن الله ليغفر لهم إذا لم يتوبوا منه وهذا الذي ذكروه لايصح، لان الكفر على كل حال ولومرة واحدة، لايغفر الله الابالتوبة، فلامعنى لنفي الغفران عن كفر بعد إيمان تقدمه كفر تقدمه ايمان.

وقوله: " ولاليهديهم سبيلا " معناه لايهديهم سبيل الجنة والثواب فيها، لانهم غير مستحقين له ويحتمل ان يكون المراد بذلك أنه لايلطف لهم فيما بعدبل يخذلهم عقوبة لهم على كفرهم المتقدم. ولايجوز ان يكون المراد به أنه لاينصب لهم الدلالة، لان نصب الادلة قد تقدم في الكليف الاول والمرتد عندنا على ضربين: احدهما - لايستتاب ويقتل على كل حال وهومن ولدعلى فطرة الاسلام بين مسلمين متى كفر فانه يقتل على كل حال. والآخر وهو من كان كافرا فاسلم، ثم ارتد فانه يستتاب ثلاثا فان تاب والاقتل، ولايستتاب اكثر من ذلك.

وبه قال علي عليه السلام وابن عمر.

وقال قوم: يستتاب ابدا. ذهب اليه ابراهيم وغيره. واختاره الطبري.

والمرأة تستتاب على كل حال فان تابت، والا خلدت في السجن ولاتقتل بحال وفي ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.

قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا اليما(138) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ايبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا(139))

ايتان بلاخلاف.

المعنى: معنى قوله " بشر المنافقين " جعل موضع بشارتهم لهم العذاب والعرب تقول: تحيتك الضرب وعقابك السيف، أي بدلا من ذلك.

[361]

قال الشاعر:

وخيل قد دلفت لها بخيل *** تحية بينهم ضرب وجميع

امرالله (تعالى نبيه) ان يبشر المنافقين بان لهم عذابا أليما وهوالمؤلم الموجع. على نفاقهم، ثم وصف هؤلاء المنافقين فقال: " الذين يتخذون " أهل الكفر بالله ونبيه اولياء يعني انصارا وأحلافا من دون المؤمنين يعني من غيرهم، ثم قال: " يبتغون عندهم العزة " معناه يطلبون عندهم المنفعة والقوة باتخاذهم اولياء من دون اهل الايمان به (تعالى)، ثم أخبر ان العزة باجمعها له (تعالى) وان هؤلاء الذين يطلبون من جهنم العزة.

المنعة، لامنعة عندهم، بل النصر والمنعة من عندالله الذي له العزة والمنعة الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء.

واصل العزة الشدة ومنه قيل للارض الصلبة الشديدة: عزازويقال: استعز المريض اذا اشتد مرضه وتعزز اللحم: إذا اشتدو منه قيل: عز علي ان يكون كذا، اي اشتد علي ومنه قولهم: " من عزيز أي من غلب سلب. وقولهم: عز الشئ معناه صعب وجوده واشتد حصوله.

الآية: 140 - 149

قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب ان إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره انكم إذا مثلهم ان الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا(140))

آية.

قرأ عاصم ويعقون " وقدنزل " بفتح النون والزاي وتشديده. الباقون بضم النون وكسر الزاي والمنزل في الكتاب.

[362]

قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره إلى قوله.. الظالمين).

اعلم الله تعالى في هذه الآية المؤمنين ان المنافقين يهزء‌ون بكتاب الله الذي هوالقرآن، وأمرهم ان لايقعدوا معهم حتى يخوضوا، يعني يأخذوا في حديث غير القرآن، ثم قال: انكم ان جالستموهم على الخوض في كتاب الله والهزء به، فانتم مثلهم، وانما حكم بانهم مثلهم متى رضوا بما هم فيه، ولم ينكروا عليهم مع القدرة على الانكار، ولم يظهروا كراهية، فانهم متى كانوا راضين بالكفر، كانوا كفارا، لان الرضاء بالكفر كفر. وفي الآية دلالة على وجوب انكار المنكر مع القدرة على ذلك، وزوال العذر عنه. وإن من ترك ذلك مع القدرة عليه كان مخطئا آثما. وكذلك فيها دلالة على انه لايجوز مجالسة الفساق، والمبتدعين من اي نوع كان.

وبه قال جماعة من المفسرين. ذهب اليه ابووائل، وابراهيم وعبدالله.

وقال ابراهيم: من ذلك إذا تكلم الرجل في مجلس بكذب، يضحك منه جلساؤه، فسخط الله عليهم.

وبه قال عمر بن عبدالعزيز وقيل: إنه ضرب صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر.

وقال ابن عباس: امرالله بذلك الانفاق، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، والمراء والخصومة وبه قال الطبري والجبائي والبلخي وجماعة من المفسرين.

قال ابوعلي الجبائي: اما الكون بالقرب منهم بحيث يسمع صوتهم ولايقدر على انكاره، فليس يمحظور، وانما المحظور مجالستهم من غير اظهار كراهية ماسمعه أو يراه.

وقوله: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " ومعناه ان الله يجمع الفريقين من اهل الكفر، والنفاق في القيامة في النار. والعقوبة فيها كما اتفقوا في الدنيا على عداوة المؤمنين، والمؤازرة عليهم.

قال الجبائي: في الآية دلالة على بطلان قول الاصم، ونفاة الاعراض وقولهم: انه ليس ها هنا غير الاجسام، لانه

[363]

قال: " حتى يخوضوا في حديث غيره " فاثبت غيرا لما كانوا فيه. وذلك هوالعرض.

قوله تعالى: (الذين يتربصون بكم فان كان لكم فتح من الله قالوا الم نكن معكم وان كان للكافرين نصيب قالوا الم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا(141))

آية بلاخلاف.

(الذين) في موضع خفض صفة للمنافقين والكافرين في قوله: " إن الله جامع المنافقين والكافرين ". أخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين اي ينتظرون بهم فان فتح الله على المؤمنين فتحا من عدوهم، فاقاء عليهم فيئا من الغنائم، قالوا لهم الم نكن معكم نجاهد عدوكم ونغزوهم معكم، فاعطونا نصيبنا من الغنيمة، فانا شهدنا القتال وان كان للكافرين نصيب أي حظ باصابتهم من الغنيمة، فانا شهدنا القتال وان كان للكافرين نصيب أي حظ باصابتهم من المؤمنين، وليس المراد بذلك ان لهم نصيبا من الله، لانه (تعالى) لم يجعل لهم غلبة المسلمين، ولااباح لهم شيئا من اموالهم، بل حظر ذلك عليهم.

وقوله: " قالوا " يعني قال المنافقين للكافرين: الم نستحوذ عليكم بمعنى الم نغلب عليكم؟ في قول السدي.

وقال ابن جريج: معناه ألم نبين لكم انا على ما انتم عليه والاستحواذ الغلبة ومنه قوله: " استحوذ عليهم فأنساهم ذكر الله " ومعناه غلب عليهم. يقال منه: حاذ عليه يحوذ.

واستحاذ يستحيذ. وحاذ يحيذ.

قال العجاج يصف ثورا وكلاما: يحوذهن وله حوذي(1) وانشده ابوعبيد والاصمعي بالزاي يحوزهن وله حوزي والمعنيان متقاربان.

___________________________________

(1) اللسان (حوذ). ديوانه: 71 ومجاز القرآن لابي عبيده 1: 141 وبده: خوف الخلاط فهو اجنبي كما يحوذ الفئة الكمي

[364]

وقال لبيد في صفة عيرواتن على احاذ.

إذا اجتمعت واحوذ جانبيها *** واوردها على عوج طوال(1)

العوج الطوال القوائم.

وقيل: هي النخيل الطوال. فمعنى احوذ جانبيها لم يشذ منها شئ.

والاحوذ: الجاد المنكش الخفيف في اموره كلها.

وكان القياس يقتضي ان يقول: استحاذ، لان الواو إذاكانت عين الفعل وكانت محركة بالفتح، وما قبلها ساكن تقلب حركتها إلى فاء الفعل، وقلبوها الفا اتباعا لحركة ماقبلها.

كقولهم: استحاذ واستبان واستنار واستعاذ بالله وهاهنا تركت على الاصل وهي لغة القرآن.

وقوله: " ونمنعكم من المؤمنين " يعني يقول المنافقين الكافرون منعنا المؤمنين منكم بتخذيلنا اياهم، واطلاعنا اياكم على اخبارهم، وكوننا عيونالكم حتى انصرفوا عنكم وغلبتموهم.

وقوله: " فالله يحكم بينكم يوم القيامة " اخبار منه (تعالى) انه الذي يحكم بين الخلائق يوم القيامة ويفصل بينهم بالحق، وينصر المؤمنين " ولايجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا " اي بالغلبة والقهر. وان حملناه على دار الدنيا يمكن حمله على انه لايجعل لهم عليهم سبيلا بالحجة، وان جاز ان يغلبوهم بالقوة، لكن المؤمنين منصورون بالحجة والدلالة.

وبالتأويل الاول قال علي (عليه السلام): والسدى وابومالك وابن عباس.

قال السدي: السبيل - هاهنا - الحجة.

وبالثاني قال: الزجاج والجبائي والبلخي.

وقال الجبائي: ولوحملنا ذلك على الغلبة، كان أيضا صحيحا، لان غلبة الكفار للمؤمنين ليس مما فعله الله، لان ذلك قبيح، والله لايفعل القبيح. وليس كذلك غلبة المؤمنين للكفار، لانه حسن وطاعة، فكان ذلك منسوبا إلى الله (تعالى).

___________________________________

(1) اللسان (حوذ). القصيدة: 17 وبعده:

رفعن سرادقا يوم ريح *** يصفق بين ميل واعتدال

[365]

قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يرآون الناس ولايذكرون الله الا قليلا(142) مذبذبين بين ذلك لاالى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا(143))

آيتان.

- قدبينا - في اول البقرة معنى الخداع من المنافقين، ومن الله (تعالى) وجملته ان الخداع من المنافقين اظهارهم الايمان الذي حقنوا به دماء‌هم واموالهم، كما حقن المؤمنون على الحقيقة.

وقال: الحسن والزجاج والازهري ان معناه يخادعون نبي الله فسماه خداعا لله للاختصاص، كما قال: إن الذين ببايعونك انما يبايعون الله فسمى مبايعة النبي صلى الله عليه وآله مبايعة الله، للاختصاص، لانه بأمره.

ومعنى الخداع من الله يحتمل امرين: احدهما - ان يجازيهم على خداعهم فسمى الجزاء باسم الشئ، للازدواج، كما قال: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " والجزاء ليس بسيئة. وقال: " ومكروا ومكر الله " والله لايمكر، غير انه يجازي عليه. والثاني - ما حكم الله فيهم من منع دمائهم بما اظهروه من الايمان بلسانهم مع علمه بباطنهم، واعتقادهم الكفر استدراجا منه لهم في الدنياحتى يلقوه يوم القيامة، فيوردهم بما ابطنواهم نار جهنم.

وقال السدي: يعطيهم الله نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين، كما كانوا في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور، ويضرب بينهم بسور، فذلك هو الخداع منه (تعالى).

وبه قال ابن جريج، والحسن وغيرهم من المفسرين: على ما بيناه فيما مضى.

وقوله: " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس " يعني ان المنافقين لايعملون شيئا من اعمال العبادات التي اوجبها على المؤمنين على وجه القربة إلى الله، لانهم غير موقنين بها، ولاان لهم عليها ثوابا أو عقابا وانما يفعلون ذلك إبقاء على انفسهم، وحذرا من المؤمنين ان يقتلوهم، ويسلبوا اموالهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة، قاموا كسالى اليها رياء للمؤمنين،

[366]

ليحسبوهم المؤمنون منهم، وليسوا منهم، لانهم لايعتقدون فرضها. وبه قال قتادة وابن زيد.

وقوله: " ولايذكر الله إلا قليلا " إنما وصف ما استثناه من ذكرهم لله بالقلة من حيث انهم لايقصدون به وجه الله، ولاالتقرب اليه، لا ان شيئا من ذكرالله يوصف بانه قليل، بل يوصف جميعه بانه كثير، قال الحسن: وصفه بالقلة، لانه كان لغير الله.

وقال قتادة: لانه لم يقبله الله وكلما رده الله، فهو قليل، وماقبله فهو كثير.

وقال الجبائي: لانهم إذا قاموا إلى الصلاة، لم يذكروا غير تكبيرة الاحرام.

وقوله: " مذبذبين " في موضع نصب على الحال. ومعناه انهم يقومون إلى الصلاة يعني المنافقين مترددين، لاالى هؤلاء يعني المؤمنين فيفعلونه، فيستحقون به الثواب ولا إلى هؤلاء يعني الكفار فيجاهرون بالكفر، بل بين ذلك يظهرون الايمان، فيجري عليهم حكم أهله، ويبطنون الكفر فيستحقون به عقاب أهله.

واصل التذبذب التحرك والاضطراب.

قال النابغة:

الم تر ان الله اعطاك سورة *** يرى كل ملك دونها يتذبذب(1)

وقال الحسن بن علي المغربي: مذبذبين مطرودين من هؤلاء، ومن هؤلاء، من الذب الذي هوالطرد. وصف الله تعالى هؤلاء المنافقين بالحيرة في دينهم، وانهم لايرجعون إلى صحة فيه، لامع المؤمنين على بصيرة، ولامع الكفار على جهالة.

وقال ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله ان مثلهم مثل الشاة العائرة بين الغنمين تتحير، فتنظر إلى هذه والى هذه، لاتدري ايهما تتبع.

وبهذه الجملة قال السدي وقتادة ومجاهد وابن جريج وابن زيد وغيرهم من المفسرين.

وقوله: " ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " يحتمل امرين: احدهما - من يضله الله عن طريق الجنة، فلن تجد له سبيلا إلى طريق الجنة. والثاني - من يجد له عقوبة على معاصيه عن طريق الرشاد والاسلام، ولم

___________________________________

(1) - مر في 1: 19

[367]

يوفقه، لحرمانه نفسه التوفيق بسوء اختياره، فلن تجد له سبيلا يعني طريقا إلى الحق يفضيه اليه.

قوله تعالى: (ياايها الذين آمنوا لاتتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين اتريدون ان تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا(144))

آية.

هذا خطاب للمؤمنين نهاهم الله ان يتخذوا الكافرين اولياء وانصارا من دون المؤمنين، فيكونون مثلهم في ركوب مانهاهم الله عنه من موالاة اعدائه " اتريدون ان تجعلوا الله عليكم سلطانا مبينا " يعني حجة ظاهرة.

قال عكرمة، كل ما في القرآن من ذكر سلطان، فمعناه حجة.

وبه قال مجاهد والزجاج.

وهو يذكر ويؤنث وقيل للامير سلطان، لان معناه ذو الحجة ومعنى الاية النهي عن اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين. فمن فعل ذلك، فقد جعل الله على نفسه الحجة، وتعرض لغضبه وعقابه وفي الآية دلالة على أنه لايجوز أن يبتدئ، الله الخلق بالعذاب، ولايعاقب الاطفال بذنوب الآباء، لانه لوكان ذلك شائعا، لما قال للمؤمنين: " تجعلون لله عليكم سلطانا مبينا " يعني باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين، لان ذلك دلالة على انه لم يكن له ذلك، وانه لاكان له حجة على الخلق لولا معاصيهم ومخالفتهم له تعالى.

قوله تعالى: (ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا(145) الا الذين تابوا واصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله فاولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين اجرا عظيما(146))

آيتان بلاخلاف.

[368]

[ القراء‌ة والحجة ]: قرأأهل الكوفة إلا أبابكر، الاالعلمي (الدرك) بسكون الراء الباقون بفتحها وهما الغتان مثل نهر ونهر وشمع وشمع فمن فتح الراء قال في الجمع: إدراك في القلة والكثرة ومن سكنها قال إدراك وفي الكثير الدرك والتسكين لغة وليس يسكن من المفتوح، لان مثل ذلك لايجوز تسكينه، فلايسكن جمل وجبل وانما هما لغتان مثل شمع وشمع ونهر ونهر. قالوا بفتح الراء افصح، سمع من العرب من يقول: أعطني دركا اصل به حبلي، يعني ما يصل به حبله الذي عجز عن بلوغ الركة.

[ المعنى ]: ومعنى الاية الاخبار من الله أن المنافقين في الطبق الاسفل من النار.

قال عبدالله: المنافقون في توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار وبه قال ابوهريرة، وابن عباس.

قال ابن جريج: قال عبدالله بن كثير وأبوعبيدة، سمعنا ان جهنم إدراك منازل. وليس يمتنع ان يجعل الله قوما من الكفار في الدرك الاسفل، كفرعون وهامان وأبى جهل، فان هؤلاء اعظم كفرا من المنافقين وليس في اخبار الله ان المنافقين هناك ما يمنع أن يكون غيرهم فيه أيضا، وان تفاضلوا في العقاب قال ابن جريج: هذه الايات نزلت في عبدالله بن ابي واصحابه.

قال البلخي يجوز ان يكون الادراك منازل بعضها أسفل من بعض بالمسافة، ويجوزأن يكون ذلك اخبارا عن بلوغ الغاية في العقاب والاهانة، كما يقال بلغ فلانا السلطان الحضيض، وبلغ فلانا العرش. ويريدون بذلك علو المنزلة وانحطاطها لاالمسافة.

وقوله: " ولن تجد له نصيرا " معناه لاتجد يامحمد، لهؤلاء المنافقين إذا جعلهم الله في اسفل طبقة من النار ناصرا ينصرهم، فينقذهم من عذابه، ويدفع عنهم أليم عقابه، ثم استثنى فقال: " الاالذين تابوا " فاستثنى منهم التائبين من نفاقهم إذا اصلحوا نباتهم، واخلصوا الدين لله، وتبرؤا من الآلهة والانداد، واعتصموا يعني تمسكوا بكتاب الله وصدقوا رسله، فانهم إذا فعلوا ذلك فانهم

[369]

يكونون مع المؤمنين في الجنة، ومحل الكرامة، ويسكنهم مساكنهم وماوعدهم من الجزاء على توبتهم، وسوف يؤتي الله المؤمنين اجرا عظيما. فكان تقدير الآية إن الذين راجعوا الحق، واقروا بوحدانية الله، وتصديق رسوله، وما جاء به من عند الله، واصلحوا اعمالهم فعملوا بما امرهم الله به وادوا فرضه وانتهوا عما نهاهم، وانزجروا عن معاصيه، وتمسكوا بعهد الله وميثاقه، فقطع حينئذانه تعالى يؤتي المؤمنين، أي يعطيهم أجرا، يعني عظيما، ودرجات في الجنة كما اعطى من مات على النفاق منازل في النار في اسفل طبقة منها. وهذه الجملة معنى قول حذيفة بن اليمان، وجميع المفسرين.

" وسوف يؤت الله " كتبت في المصحف بلاياء تخفيفا ومثله " يوم يأت لا تكلم " وقوله: " ماكنا نبغ " وغير ذلك. وكان الكسائي يثبت الياء في الوصل دون الوقف، ثم رجع عنه. وابوعمرو يثبتها في الوصل واهل المدينة يثبتونها في الحالين.

قوله تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم وامنتم وكان الله شاكرا عليما(147))

آية.

خاطب الله (تعالى) بهذه الآية المنافقين الذين تابوا وآمنوا، واصلحوا اعمالهم، فقال: إن انتم تبتم إلى الله وراجعتم الحق الواجب لله عليكم، وشكرتمره على نعمه واخلصتم عبادته، واعتصمتم به وتركتم رياء الناس، وآمنتم برسوله محمد صلى الله عليه وآله وصدقتم به، واقررتم بما جاء به من عند الله مايصنع. بعذابكم، أي لاحاجة بالله إلى عذابكم، وجعلكم في الدرك الاسفل من جهنم، لانه لايجتلب بعذابكم نفعا، ولايدفع عن نفسه ضررا، لانهما مستحيلان عليه.

" وكان الله شاكرا " يعني لم يزل الله مجازيا للشاكر على شكره في جميع

[370]

عباده عليمابما يستحقونه على طاعاته من الثواب، ولايضيع عنده شئ منه، ولا يفوته شئ من معاصي من عصاه، فيجازي بذلك من يشاء منهم على سوء أفعالهم جزآء بما كسبوه. وبه قال قتادة وغيره من المفسرين.

والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من تعظيم المنعم، وذلك لايجوز الشكر منه بمعنى الجزاء عليه كما قال: " ومكرواو مكر الله " " وجزاء سيئة سيئة مثلها " والجزاء ليست سيئة ولكن اطلق ذلك لازدواج الكلام.

قوله تعالى: (لايجب الله الجهر بالسوء من القول الامن ظلم وكان الله سميعا عليما(148))

آية بلاخلاف.

[ القراء‌ة والحجة ]: الفراء ضم الظاء في قوله: " الامن ظلم " وكسر اللام.

وقرأ زيد بن اسلم والضحاك بن مزاحم (ظلم) بفتح الظاء واللام.

فمن ضم الظاء، اختلفوا في تأويله فقال قوم: معنى ذلك لايحب الله ان يجهر احد بالدعاء على احد، وهو الجهر بالسوء إلا من ظلم فيدعو على ظالمه، لايكره ذلك وذلك انه رخص له فيه. ذهب اليه ابن عباس وقتادة والحسن.

[ الاعراب ]: و (من) على قول ابن عباس في موضع رفع، لانه وجهه إلى ان الجهر بالسوء في معنى الدعاء. واستثنى المظلوم منه وقال الزجاج: وجه الرفع أن يكون بدلا من احد وتقديره لايحب الله أن يجهر احدبالسوء إلا من ظلم وقال الفراء تقديره لايحب الله أن يجهر بالسوء الا المظلوم، فلا حرج عليه في الجهر اما بان يدعو عليه، أو بان يخبر بما فعله به، ويذمه عليه. وبه قال الجبائي قال: ولايجوز

[371]

لمن ليس بمظلوم ان يذكر احدا بسوء لان الله (تعالى) امره بالستر عليه والكتمان، وانما يجب عليه ان ينكر عليه فيما بينه وبينه على وجه لايفضحه، وانما جاز ذلك للمظلوم، لانه خصم يجوز له ان يدعي على خصمه ما ظلمه فيه، فان أقام بذلك بينة استوفى له حقه، والاابطل دعواه.

وقال بعض النحويين: هذا خطأفي العربية، لان من لايجوز أن يكون رفعا بالجحد لانها في صلة ان، ولم ينله الجحد، فلايجوز العطف عليه. لايجوز ان يقول: لايعجبني ان يقوم الازيد. ويحتمل أن يكون (من) نصبا في تأويل ابن عباس.

[ المعنى ]: وقوله: " لايحب الله الجهر بالسوء من القول " يكون كلاما، ثم قال: " الامن ظلم فلا حرج عليه " فيكون (من) استثناء من الفعل، وان لم يكن قبل الاستثناء شئ ظاهر يستثنى منه، كما قال: " لست عليهم بمسيطر الامن تولى وكفر ". وكقولهم: إني لاكره الخصومة والمراء، اللهم إلا رجلا يريدالله بذلك. ولم يذكر فيه شئ من الاشياء ذكره الفراء.

وقال آخرون: معناه لايحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم فيخبر بماينل منه. ذهب اليه مجاهد قال مجاهد: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن اليه فقد رخص له أن يقول ذلك فيه وروي عن أبي عبدالله انه قال: هوالضيف ينزل بالرجل، فلايحسن ضيافته، جاز أن يقول ذلك فيه.

وقال آخرون: الامن ظلم فانتصر من ظلمه، فان ذلك قد أذن له فيه، ذهب اليه السدي وهوالمروي عن ابي جعفر (ع) و (من) على هذا يكون في موضع نصب على انقطاعه من الاول. ومن شان العرب ان تنصب مابعد الافي الاستثناء المنقطع. فالمعنى على هذا القول سوى قول ابن عباس: لايحب الله الجهر بالسوء من القول، لكن من ظلم فلا حرج عليه ان يخبر بما ينل منه، ينتصر ممن ظلمه.

ومن فتح الظاء قال تأويله: لايجب الله الجهر بالسوء من القول، الامن ظلم، فلابأس ان يجهر له بالسوء‌من القول.

[372]

ذهب اليه ابن زيد قال: يجهر له بالسوء حتى يفزع. (ومن) على هذا القول في موضع نصب والمعنى لا يحب الله الجهر أن يجهر احد لاحد من المنافقين بالسوء من القول إلا من ظلم منهم فاقام على نفاقه، فانه لابأس بالجهر بالسوء من القول.

قال الزجاج: وفيه وجه آخر لم يذكره النحويون وهو أن يكون الامن ظلم، لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول، وهو استثناء ليس من الاول. وهذا الذي ذكره هو قول ابن زيد بعينه.

وقال الفراء: موضع (من) نصب في القراء‌تين معا. ويجوز الرفع على تقدير لايحب الله أن يجهر بالسوء الاالمظلوم.

وقال البلخي: كان الضحاك يقول: فيه تقديم وتأخير والتقديم ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وامنتم إلا من ظلم بفتح الظاء ثم قال: لايحب الله الجهر بالسوء من القوم على كل حال.

قال البلخي: ويجوز ان يكون (إلا) بمعنى الواو، كانه قال: لايحب الله الجهر بالسوء، ولامن ظلم، فانه لايحب الجهر بالسوء منه.

وقال قطرب: يجوزان يكون المراد به المكره في قوله: " الامن ظلم " لانه إذا اكره على الجهر بالسوء من القول، فلا شئ عليه.

والقراء‌ة المعروفة أولى بالصواب، لان هذه شاذة. والتأويل فيه لايحب الله ان يجهر احد لاحد بالسوء من القول إلامن ظلم، فلاحرج عليه أن يخبر بما اسئ اليه. وتكون (من) في موضع نصب لانقطاعها عما قبلها، فانه لااسماء قبله يستثنى منها. وهومثل قوله: " لست عليهم بمسيطر الامن تولى وكفر ".

وقوله: " وكان الله سميعا عليما " يعني سميعا لما يجهرون من سوء القول لمن يجهرون له، وغير ذلك من كلامكم واصواتكم عليما بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن يخفون له به فلايجهرون يحصي ذلك كله عليكم فيجازي على ذلك كل المسئ باساء‌ته. والمحسن باحسانه.

قوله تعالى: (ان تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فان الله كان عفوا قديرا(149))

آية.

[373]

[ المعنى ]: هذا خطاب لجميع المكلفين. يقول الله لهم: " ان تبدوا " بمعنى ان تظهروا (خيرا) اي حسنا جميلا من القول لمن احسن اليكم شكرا على إنعامه عليكم، أو تخفوه أي تتركوا اظهاره، فلا تبدوه، " أو تعفوا عن سوء " معناه أو تصفحوا عمن اساء اليكم عن اساء‌ته، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي أذنت لكم أن تظهروه، وتجهروا به " فان الله كان عفوا " يعني لم يزل كان صفوحا عن خلقه يصفح لهم عن معاصيه " قديرا " يعني قادرا على الانتقام منهم. وانما أراد بذلك انه مع صفحه قادرا على الانتقام، ليكون اعظم للمدح ليحث بذلك الخلق على العفو عمن أساء اليهم. إذا قدروا على الانتقام منهم، والمكافات لهم. ولا يجهروا له بالسوء من القول مع القدرة عليه، ويتأدبوا في ذلك بأدب الله تعالى.

وروى عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ان الله عفو يحب العفو).

الآية: 150 - 159

قوله تعالى: (ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلا(150) أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا(151))

آيتان.

[ المعنى ]: معنى الآية الاخبار من الله تعالى " إن الذين يكفرون " ومعناه يجحدون بالله ورسله من اليهود والنصارى " ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله " أي يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه وأوحى اليهم ويزعمون انهم كاذبون على الله.

[374]

وذلك معنى إرادتهم التقريق بين الله ورسله " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " ومعناه أنهم يقولون نصدق بهذا ونكذب بهذا، كمافعلت اليهود صدقوا موسى ومن تقدمه من الانبياء، وكذبوا عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وكما فعلت النصارى صدقت عيسى ومن تقدمه من الانبياء، وكذبوا محمدا صلى الله عليه وآله " ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلا " يعني يريد المفرقون بين الله ورسله الزاعمون انهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ان يتخذوا بين قولهم: نؤمن ببعض، ونكفر ببعض سبيلا يعني طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها، والبدعة التي ابتدعوها يدعون جهال الناس اليه، ثم اخبر عن حالهم فقال: " أولئك هم الكافرون حقا " أي هؤلاء الذين أخبر عنهم بانهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وتفريقهم بين الله ورسله هم الكافرون حقا فاستيقنوا ذلك ولا ترتابوا بدعواهم انهم يقرون بما زعموا انهم فيه مقرون من الكتب والرسل، فانهم يكذبون في دعواهم هذه، لانهم لو كانوا صادقين في ذلك، لصدقوا جميع رسل الله، لانه لايصح ان يكونوا عارذفين بالله ورسوله مع جحودهم، لنبوة بعض الانبياء على مايذهب اليه في الموافات.

وعند من قال بالاحباط لايمتنع ان يكونوا عارفين بالله، وبعض رسله فاذا كفروا ببعضهم، انحبط ما معهم من الثواب على ايمانهم وهذا لايصح على مذهبنا في بطلان الاحباط فالصحيح إذا ما قلناه.

وقوله: " واعتدنا " معناه أعددنا للكافرين يعني الجاحدين الذين ذكرهم ولغيرهم من اصناف الكفار (عذابا) في الاخرة " مهينا " يهينهم ويذلهم مخلدون في ذلك وقال قتادة والسدي ومجاهد نزلت في اليهود والنصارى وانما قال: إن هؤلاء هم الكافرون حقا، وإن كان غيرهم أيضا كافرا حقا على وجه التأكيد لئلا يظن انهم ليسوا كفارا لقولهم: نؤمن ببعض ونكفر ببعض وقيل إنه قال ذلك استعظاما لكفرهم، كما قال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى

[375]

قوله: " أولئك هم المؤمنون حقا " وقديكون مؤمنا حقا من لم يلحق هذه الخصال بلاخلاف.

قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين احد منهم أولئك سوف نؤتيهم اجورهم وكان الله غفورا رحيما(152))

آية بلاخلاف.

[ القراء‌ة والحجة ]: قرأ يؤتيهم بالياء حفص الباقون بالنون حجة حفص قوله: " سوف يؤت الله المؤمنين " ومن قرأ نؤتيهم - بالنون - فلقوله: " واتيناه اجره " وقوله: " أولئك سنؤتيهم اجرا " وغير ذلك من الآي.

[ المعنى ]: لما ذكر الله تعالى حكم من فرق بين الله ورسله، والايمان ببعض دون بعض، وانهم الكافرون، وانه أعدلهم العذاب المهين، اخبر عقيبه عمن آمن بالله ورسله، وصدقهم وأقر بنبوتهم، ولم يفرقوا بين احدمنهم، بل آمنوا بجميعهم، فان الله (تعالى) سيؤتيهم أجورهم بمعنى سيعطيهم ثوابهم الذي استحقوا على ايمانهم بالله ورسله، والاقرار بهم، وإنه يعطيهم جزاء‌هم على ذلك.

" وكان الله غفورا رحيما " ومعناه يغفرلمن هذه صفته ما سلف له من المعاصي والآثام، ويسيرها عليهم، ويترك العقوبة عليها، فانه لم يزل كان غفورا رحيما أي متفضلا عليهم بالهداية إلى سبيل الحق موفقا لهم لما فيه خلاص رقابهم من عقاب النار.

[376]

قوله تعالى: (يسئلك اهل الكتاب ان تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سئلوا موسى اكبر من ذلك فقالوا ارنا الله جهرة فاخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاء‌تهم البينات فعفونا عن ذلك واتينا موسى سلطانا مبينا(153))

آية بلاخلاف.

هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله يسألك يامحمد اهل الكتاب يعني اليهود ان تنزل عليهم كتابا من السماء، واختلفوا في الكتاب الذي سأل اليهود محمد صلى الله عليه وآله ان ينزل عليهم من السماء فقال قوم: سألوا ان ينزل كتابا من السماء مكتوبا، كما جاء موسى بني اسرائيل بالتوراة مكتوبة من عند الله في الالواح.

ذهب اليه السدي ومحمد بن كعب القرطي، فانزل الله فيهم هذه الآية إلى قوله: " على مريم بهتانا عظيما " وقال اخرون: بل سألوه ان ينزل عليهم كتابا خاصا لهم ذهب اليه قتادة.

وقال آخرون: بل يسألون أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبابالامر بتصديقه، واتباعه ذكر ذلك ابن جريج، واختاره الطبري وقال الزجاج: ذلك حين سألوا فقالوا: " لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " وقال الجبائي: كان سؤالهم على وجه التعنت والافكان فيما أنزله الله من القران دلالة واضحة على نبوته.

وقوله: " فقد سألوا موسى اكبر من ذلك " فانه توبيخ من الله تعالى، سئل انزال الكتاب عليهم، وتفريع منه لهم بقوله لنبيه صلى الله عليه وآله: يامحمد لايعظن عليك مسألتهم، إياك ذلك فانهم من جهلهم بالله عزوجل وجرأتهم عليه، واغترارهم بحلمه، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوه لخالفوا امر الله، كما خالفوابعد أحياء الله اوائلهم من صعقتهم، فعبدوا العجل، واتخذوه آلها فعبدوه من دون خالقهم وبارئهم الذي أراهم قدرته، وعظمته وسلطانه بما أراهم، ثم قص من قصتهم وقصة موسى

[377]

ماقص، فقال: " فقد سالوا موسى اكبر من ذلك " يعني سأل اسلاف هؤلاء اليهود موسى (ع) اعظم مما سألوك فقالوا أرنا الله جهرة أي عيانا نماينه وننظر اليه. وقد بينا معنى الجهرة فيما مضى.

وحكي عن ابن عباس انه قال: فيه تقديم وتأخير، وتقديره إنما قالوا جهرة أرنا الله: وهو الذي اختاره ابوعبيدة. وقال غيره: أراد رؤية بالبصر ظاهرة منكشفة، لان من علم الله فقدرآه. وهواختيار الزجاج لقوله تعالى: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " وقول ابن عباس يدل على انه كان يذهب إلى الستحالة الرؤية عليه تعالى، لان على تأويله بنفس سؤال الرؤية، اخذتهم الصاعقة دون رؤية مخصوصة على مايذهب اليه من قال بالرؤية.

وقوله: " فاخذتهم الصاعقة بظلمهم " يعني فصعقوا بظلمهم انفسهم عن سؤالهم موسى ان يريهم الله، لان ذلك مماهو مستحيل عليه (تعالى) وفي ذلك دلالة واضحة على استحالة الرؤية عليه (تعالى) واستعظام لتجويزها، لانهم كانوا يكفرون به ويجحدونه ولم ينزل عليهم الصاعقة، فلما سألوا الرؤية أنزلها عليهم. وفي ذلك دلالة على أن اصل كل تشبيه تجويز الرؤية عليه تعالي على قوله ابي على. وقدبينا معنى الصاعقة فيما مضى، فلا نطول باعادته.

وقوله: " ثم اتخذوا العجل من بعد ماجاء‌تهم البينات " معناه، ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ماسألوا من رؤية الله بعد ما احياهم وبعثهم من صعقتهم - العجل الذي كان السامري أضلهم به. وقد بينا فيما مضى السبب الذي من اجله اتخذوا العجل، وكيف كان أمرهم.

وقوله: " من بعد ما جاء‌تهم البينات " معناه من بعد ماجاء‌ت هؤلاء الذين سألوا موسى البينات من الله، ومن الدلالات الواضحات بان الرؤية مستحيلة عليه، ومنها اصعاق الله اياهم عند مسألتهم موسى بريدون ان يريهم ربهم جهرة، ثم احياؤه اياهم بعد مماتهم مع غيره من الآيات التي أراهم الله دلالة على ذلك، فقال الله مقبحا فعلهم، وموضحاعن جهلهم ونقص عقولهم باقرارهم للعجل بانه الههم، وهم يرونه عيانا، وينظرون اليه، فعكفوا على

[378]

عبادته مصدقين بالآهيته ثم قال تعالى: " فعفونا عن ذلك " ومعناه عفونا للذبن عبدوا العجل عن عبادتهم بعد ان اراهم الله آية على أنهم لايرون ربهم.

وقوله: " واتينا موسى سلطانا مبينا " معناه اعطينا موسى حجة ظاهرة تبين عن صدقه وحقيقة نبوته، وتلك الحجة هي الآيات التي اتاه الله اياها.

قوله تعالى: (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنالهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لاتعدوا في السبت واخذنا منهم ميثاقا غليظا(154))

آية اجماعا.

[ القراء‌ة والحجة ]: قرأأهل المدينة (لاتعدوا) بتسكين العين وتشديد الدال والجمع بين ساكنين بمعنى لاتعتدوا، ثم ادغم التاء في الدال فصارت دالا مشددة مضمومة، كما قرأ من قرأ (يهتدي) بتسكين الهاء - وقووا ذلك بقوله: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " فجاء في هذه القصة افتعلوا وقال: " لاتعتدوا فان الله لايحب المعتدين " وقرأ الباقون بتسكين العين - من عدوت في الامر: اذا تجاوزت الحق فيه أعدو عدوانا وعداء وعدوا قال ابوزيد: عداعلى اللص: اشد العدو.

والعدو والعداء والعدوان اي سرقك وظلمك.

وعدت عينه عن ذلك اشد العدو وتعدو وحجتهم قوله: إذ يعدون في السبت في هذه القصة وقوله: فاولئك هم العادون.

[ المعنى ]: معنى قوله: " ورفعنا فوقهم الطور " يعني الجبل لما امتنعوا من العمل بما في التوراة وقبول ما جآء‌هم به موسى بميثاقهم يعني بما اعطوا الله من الميثاق والعقد، ليعملن بما في التوراة.

[379]

" وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " يعني باب حطه حين امرهم الله ان يدخلوا فيه سجودا، فدخلوا على استاههم يزحفون.

وقلنا لهم: " لاتعدوا في السبت " اي لاتتجاوزوا في يوم السبت ما أبيمح لكم إلى ما حرم عليكم.

قال قتادة: امرهم الله ان لايأكلوا الحيتان يوم السبت، ولايعرضوا لها. واحل لهم ما عداه.

وقوله: " واخذنا - منهم ميثاقا غليظا " يعني عهدا مؤكدا بأنهم يعملون ما أمرهم الله به وينتهون عمانهاهم الله عزوجل عنه. وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله كانوا أمروا بدخول الباب سجدا، وما كان من أمرهم في ذلك.

قال ابن عباس: رفع الله فوقهم الجبل، فقيل لهم: إما ان تأخذوا التوراة بما فيها، اويلقى عليكم الجبل.

وقال ابومسلم: رفع الله الجبل فوقهم ظلالا لهم من الشمس بميثاقهم أي بعهدهم جزاء‌لهم على ذلك.

والاول قول اكثر المفسرين.

قوله تعالى: (فيما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بايات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا(155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما(156))

آيتان.

[ المعنى ]: المعني في قوله: " بما نقضهم " قولان: احدهما - قال الفراء والزجاج وغيرهما: " إن (ما) زائدة ". وتقديره فبنقضهم. والثاني - انها بمعنى شئ. وتقديره فبشئ ونقضهم. بدل منه ومجروربه.

[380]

مثله قوله: " مثلا ما بعوضة "(1) وفيه القولان. والتقدير فبنقض هؤلاء الذين وصفهم من اهل الكتاب وميثاقهم يعني عهودهم التي عاهدوا الله عليها أن يعملوا بما في التوراة " وكفرهم بايآت الله " يعني جحودهم بايآت الله. وهي اعلامه، وادلته التي احتج بها عليهم في صدق انبيائه، ورسله " وقتلهم الانبياء بغير حق " يعني وقتلهم الانبياء بعدقيام الحجة عليهم بصدقهم بغير حق يعني بغير استحقاق منهم، لكبيرة أتوها ولاخطيئة استوجبوا بها القتل. وقتل الانبياء، وان كان لايكون إلابغير حق، فانما اكده بقوله: " بغير حق " ومعناه ما قدمنا القول فيه أنه لايكون ذلك إلابغير حق، كما قال: " ومن يدع مع الله الها آخرلابرهان له به " والمعنى إن هذا لايكون عليه برهان.

ومثله قول الشاعر: على لاحب لايهتدى بمناره(2) وانما اراد لا منارها هناك يهتدى به. وقد استوفينا ما في ذلك فيما مضى " وقولهم قلوبنا غلف " تقديره يقولون: قلوبنا عليها غشاوة وأغطية لانفقه ما تقول، ولانعلق له، فاكذبهم الله في ذلك وقال الفراء والزجاج: معناه قلوبنا أوعية للعلم لانفقة ما تقول. وقد بينا معنى الغلف فيما مضى.

قوله: " بل طبع الله عليها بكفرهم " والمعنى كذبوا في قولهم قلوبنا غلف ما هي بغلف، ولاعليها اغطية، بل طبع الله عليها بكفرهم. وقد بينا معنى الطبع فيما مضى. وهو أنه السمة والعلامة وسم الله تعالى وعلم على قلوب قوم من الكفار الذين علم من حالهم أنهم لايؤمنون فيما بعد، وجعل ذلك عقوبة لهم على كفرهم الذي ارتكبوه في الحال تعرفه الملائكة.

وقوله: " فلايؤمنون إلا قليلا " معناه فلا يصدقون الا تصديقا قليلا. وإنما وصفه بالقلة لانهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به لكن صدقوا ببعض الانبياء، وبعض الكتب وكذبوا بالبعض، فكان تصديقهم بما صدقوا به قليلا، لانهم، وان صدقوا به من وجه، فهم يكذبون به من وجه آخر. ويجوز.

___________________________________

(1) سورة البقرة، آية 26.

(2) انظرا: 189 - 279 - 444.

[381]

أن يكون الاستثناء من الذين نفى الله عنهم الايمان فكانه علم انه يؤمن منهم جماعة قليلة فيما بعد، فاستثناهم من جملة من اخبر عنهم انهم لايؤمنون. وبهذه الجملة قال جماعة المفسرين: قتادة وغيره. واختلفوا في قوله: " فيما نقضهم " هل هو متصل بما قبله من الكلام او منفصل منه، فقال قتادة هو منفصل وقال لما ترك القوم أمر الله، وقتلوا رسله وكذبوا بآياته ونقضوا ميثاقه طبع الله على قلوبهم بكفرهم، ولعنهم وقال قوم: بل هو متصل بما قبله.

قالوا: معناه فاخذتهم الصاعقة بظلمهم بنقضهم ميثاقهم، وبكفرهم بايات الله، وبقتلهم الانبياء بغير حق، وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة، فتبع الكلام بعضه بعضا. ومعناه مردود على أوله، وجوابه قوله " فبظلم " من الذين قالوا الزجاج هوبدل من قوله: " فيما نقضهم " واختار الطبري الاول، وأنه منفصل من معنى ماقبله والمعنى فيما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بايات الله وبكذا وكذا لعناهم، وغضبنا عليهم، فترك ذكر لعناهم لدلالة قوله: " بل طبع الله عليها بكفرهم " على معنى ذلك من حيث كان من طبع على قلبه، فقد لعن وسخط عليه قال: وانما قلنا ذلك، لان الذين اخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، الذين قتلوا الانبياء، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم، وقالوا قتلنا عيسى، كانوا بعد موسى بدهر طويل، ومعلوم أن الذين اخذتهم الصاعقة لم تأخذهم عقوبة على رميهم مريم بالبهتان، ولالقولهم: انا قتلنا المسيح فبان بذلك أن الذين قالوا هذه المقالة غير الذين عوقبوا بالصاعقة.

وقوله: " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " معناه وبكفر هؤلاء الذين وصفهم، وقولهم على مريم بهتانا يعني رميهم لها بالزنا، وهو البهتان وبفريتهم عليها، لانهم رموها وهي بريئة بغير بينه ولابرهان به بل هتوها بباطل القول. وهوقول ابن عباس والسدي والضحاك.

[382]

قوله تعالى: (وقولهم انا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا(157) بل رفعه الله اليه وكان الله عزيزا حكيما(158))

آية.

[ المعنى ]: هذه الآية عطف على ما قبلها وتقديره، فيما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بايات الله وقتلهم الانبياء بغير حق، وقولهم: قلوبنا غلف وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، أنزلنا من العذاب، وأوجبنا لهم من العقاب، لان اخبارهم انهم قتلوا المسيح يقينا، وماقتلوه، كفرمن حيث هو جرأة على الله في قتل انبيائه، ومن دلت المعجزات على صدقه، ثم كذبهم الله في قولهم: إنا قتلناه فقال: " وما قتلوه وماصلبوه ولكن شبه لهم ". واختلفوا في كيفية التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى فقال وهب بن منبه: أنى عيسى ومعه سبعة عشرمن الحواريين في بيت فاحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صيرهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم سحر تمونا ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا، فقال عيسى لاصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة، فقال رجل منهم: انا، فخرج اليهم فقال: انا عيسى، وقدصيره الله على صورة عيسى، فاخذوه وقتلوه، وصلبوه. فمن ثم شبه لهم، وظنوا انهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.

وبه قال قتادة والسدي وابن اسحاق ومجاهد وابن جريج، وان اختلفوا في عدد الحواريين، ولم يذكر احد غير وهب ان شبهه ألقي على جميعهم، بل قالوا: ألقي شبهه على

[383]

واحد، ورفع عيسى من بينهم قال ابن اسحاق: وكان اسم الذي القي عليه شبهه سرجس، وكان احد الحواريين، ويقال: إن الذي دلهم عليه وقال هذا عيسى أحد الحواريين أخذ على ذلك ثلاثين درهما، وكان منافقا، ثم انه ندم على ذلك فاختنق حتى قتل نفسه، وكان اسمه بودس زكريابوطا، وهو ملعون في النصارى، وبعض النصارى يقول: إن بودس زكريا بوطاهو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو يقول: لست بصاحبكم الذي دللتكم عليه.

قال الطبري: الاقوى قول ابن المنبه، وهوان سبعة عشر القي على جماعتهم شبه عيسى، لانه لو كان ألقي على واحدمنهم مع قول عيسى ايكم يلقى عليه شبهي وله الجنة، ثم رأوا عيسى قد رفع من بين ايديهم لما اشتبه عليهم، وما اختلفوا فيه، وان جاز ان يشتبه على أعدائهم من اليهود الذين لم يكونوا يعرفونه، لكن لما ألقي شبهه على جميعهم، فكان يرى كل واحد بصورة عيسى، فلما قتل واحد منهم اشتبه الحال عليهم. وهذا الذي ذكره قريب.

وقال الجبائي: وجه التشبيه ان رؤساء اليهود اخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال، ولم يمكنوا احدا من الدنو منه فتغيرت حليته وتنكرت صورته.

وقالوا: قتلنا عيسى، ليوهموا بذلك على عوامهم، لانهم كانوا احاطوا بالبيت الذي فيه عيسى فلما دخلوه كان رفع عيسى من بينهم، فخافوا أن يكون ذلك سبب إيمان اليهود به، ففعلوا ذلك.

والذين اختلفوا غير الذين صلبوا من صلبوه، وهم باقي اليهود، فان قيل: هل يجوز ان يلقي الله شبه زيد على عمر حتى لايفصل الناظر اليهما بينهما، كما كان يفصل قبل القاء الشبه؟ قيل: ذلك مقدور لله بلاخلاف، ويجوز ان يفعله عندنا تغليظا للمحنة، وتشديدا للتكليف، وان كان ذلك خارقا للعادة، يجوز أن يجعل ذلك معجزة أو كرامة، لبعض اوليائه الصالحين، أو الائمة المعصومين (ع).

وعند المعتزلة لايجوز ذلك الا على يدي الانبياء أو في وقتهم، لانه لايجوز خرق العادة عنهم إلاعلى يده.

وقد قيل: إن اصحاب عيسى (ع) تفرقوا عنه حتى لم يبق غير عيسى، وغير الذي القي شبهه عليه، فلذلك

[384]

اشتبه على النصارى، فان قيل: كيف يجوز من الخلق العظيم ان يخبروا بالشئ على خلاف ما هوبه، وقد علمنا كثرة اليهود والنصارى، ومع كثرتهم اخبروا ان عيسى صلب وقتل، فكيف يجوزان يكونوا مع كثرتهم كذابين؟ ولئن جاز هذا لم نثق بشئ من الاخبار اصلا ويؤدي ذلك إلى قول السنمية ! قلنا: هؤلاء القوم دخلت عليهم الشبهة، لان اليهود لم يكونوا يعرفون عيسى، وانما اخبروا انهم قتلوا واحدا، وقيل لهم انه عيسى، فهم في ذلك صادقون، وان لم يكن المقتول عيسى. وأما النصارى فاشتبه عليهم، لانه كان ألقي شبهه على غيره، فلما رأوامن هو في صورته مقتولا، ظنوا انه عيسى، فلم يخبر احد من الفريقين بما ظن ان الامر على ما اخبر به، فلايؤدي ذلك إلى بطلان الاخبار بحال.

وقوله: " وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا " يعني به الذين أحاطوا بعيسى واصحابه حيث أرادوا قتله لانهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت، فلما دخلوا عليهم فقدوا واحدا منهم، فالتبس عليهم امر عيسى بفقدهم واحدا من العدة، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في امر عيسى. هذا على قول من قال: لم يتفرق أصحابه حتى دخل عليهم اليهود واما من قال تفرقوا عنه، فانه يقول: اختلافهم كان بأن عيسى هل كان في من بقي في البيت أو كان في الذين خرجوا. فاشتبه الامر عليهم.

قال الزجاج: وجه اختلاف النصارى أن: منهم من ادعى انه له لايقتل، ومنهم من قال قتل، فكذب الله الجميع.

وقوله: " إلا اتباع الظن " استثناء منقطع. وتقديره لم يكن لهم بمن قتلوه علم لكنهم اتبعوه ظنا منهم انه عيسى، ولم يكن به.

وقوله: " وما قتلوه يقينا " معناه وما قتلوا ظنهم الذي اتبعوا المقتول الذي قتلوه، وهم يحسبونه عيسى يقينا إنه عيسى، ولاانه غيره، لكنهم كانوا منه على ظن وشبهة، كمايقول القائل: ما قتلت هذا الامر علما، وما قتلته يقينا: إذا تكلم فيه بالظن على غير يقين. فالهاء في (قتلوه) عائدة على الظن.

[385]

وقال ابن عباس وجويبر وما قتلوا ظنهم يقينا.

وحكى الزجاج عن قومهم: أن الهاء. راجعة إلى عيسى (ع). نفى الله عنه القتل على وجه التحقيق واليقين.

وقال السدي: وما قتلوا أمره يقينا إن الرجل هو عيسى (ع) وقوله: " بل رفعه الله اليه " يعني بل رفع الله المسيح اليه، ولم يقتلوه، ولم يصلبوه، لكن الله رفعه وطهره من الذين كفروا وقوله: " كان الله عزيزا حكيما " معناه لم يزل الله عزيزا منتقما من اعدائه كانتقامه من الذين اخذتهم الصاعقة بظلمهم، وكلعنه من نقض ميثاقه وفعل ما قصه الله، حكيما في افعاله وتدبيراته وتصريفه خلقه في قضائه، واحذروا أيها السائلون محمدا ان ينزل عليكم كتابا من السماء - حلول عقوبته بكم، كما حل باوائلكم الذين فعلوا فعلكم في تكذيبهم رسلي وأفترائهم على اوليائى.

وبه قال ابن عباس.

وقوله: " بل رفعه الله ".

[ القراء‌ة والحجة ]: في القراء من ادغم اللام في الراء وعليه الاكثر. وهوالاقوى لقرب مخرج اللام من مخرج الراء. وهو أقوى من ادغام الراء في اللام، لان في الراء تكويرا فهو يجري مجرى الحرفين. ومن لم يدغم قال: لانه من كلمتين.

وقال الفراء: لايجوز غير الادغام.

وقال سيبويه: الادغام اجود وتركه جائزوهي لغة حجازية.

وقوله: " بل رفعه الله اليه " معناه انه رفعه إلى الموضع الذي يختص الله (تعالي) بالملك، ولم يملك احدا منه شيئا. وهو السماء، لانه لايجوز ان يكون المراد انه رفعه إلى مكان هو (تعالى)، فيه لان ذلك من صفات الاجسام (تعالى الله عن ذلك) وعلى هذا يحمل قوله حكاية عن ابراهيم " إني ذاهب إلى ربي " يعني إلى الموضع الذي امرني به وربي ومثل قوله: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " يعني مهاجرا إلى الموضع الذي أمره الله بالهجرة اليه.

[386]

قوله تعالى: (وان من اهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا(159))

آية.

معنى (ان) معنى (ما) النافية وموضعها الرفع وهي مثل قوله: " وإن منكم إلا واردها " أي ما منكم احد إلا واردها. ومعنى الآية الاخبار منه (تعالى) بانه إلا ليؤمنن به يعني بعيسى قبل موته واختلفوا في الهاء إلى من ترجع فقال قوم: هي كناية عن عيسى، كانه قال: لايبقى احد من اليهود الايؤمن بعيسى قبل موت عيسى بأن ينزله الله إلى الارض إذا اخرج المهدي (عج) وانزله الله لقتل الدجال، فتصير الملل كلها ملة واحدة وهي ملة الاسلام الحنيفية دين ابراهيم (ع). ذهب اليه ابن عباس وأبومالك والحسن وقتادة، وابن زيد وذلك حين لاينفعهم الايمان. واختاره الطبري.

قال: والآية خاصة لمن يكون في ذلك الزمان وهو الذي ذكره علي بن ابراهيم في تفسير أصحابنا.

وروى شهر بن حوشب عن محمد بن علي بن الحنفية ان الحجاج سأله عن هذه الآية وقال: نرى اليهود تضرب رقبته، فلا يتكلم بشئ فقال: حدثنى محمد بن علي أن الله يبعث اليه ملكا ينفضه ويضرب رأسه ودبره، ويقول له: كذبت عيسى، فيؤمن حينئذ ويقول: كذبت عيسى ويعترف به. فقال الحجاج: عمن؟ فقال: عن محمد بن علي فقال له، جئت بها من عين صافية. فقيل لشهرما أردت بذلك؟ قال: اردت ان اغيظه وذكره البلخي مثل ذلك وضعف هذا الوجه الزجاج وقال: الذين يبقون إلى زمن نزول عيسى (ع) من أهل الكتاب قليل. والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب أجمع قال: إلا ان تحمل على ان جميعهم يقول: ان عيسى الذي ينزل لقتل الدجال نحن نؤمن به فعلى هذا يجوز.

واختار الوجه الثاني وقال قوم: الهاء كناية عن الكتابي، وتقديره أنه لايكون احد من أهل الكتاب يخرج من دار الدنيا إلا ويؤمن بعيسى عند

[387]

موته إذا زال تكليفه، وتحقق الموت، ولكن لاينفعه الايمان حينئذ ذهب اليه ابن عباس في رواية أخرى، ومجاهد.

قال ابن عباس: لو ضربت رقبته لم تخرج نفسه حتى يؤمن وبه قال عكرمة والضحاك.

وفي رواية عن الحسن وقتادة وقال قوم: الهاء كناية عن محمد صلى الله عليه وآله والتقدير وليس من أهل الكتاب إلا من يؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله قبل موت الكتابي ذهب اليه عكرمة وطعن الطبري على هذا الوجه بل قال: لو كان ذلك صحيحا لما جاز اجزاء احكام الكفار عليهم إذا ماتوا من ترك الصلاة عليهم. ومنع المدافنة والموراثه. وغير ذلك. ووجب اجراء حكم الاسلام عليهم. وهذا الذي ذكره ليس بشئ لان ايمانهم بمحمد صلى الله عليه وآله انما يكون في حال زوال التكليف، فلا حكم لذلك الايمان.

وذلك مثل إيمان فرعون حين غرق وقال: " امنت انه لا اله إلا الذي امنت به بنو اسرائيل " فقال الله تعالى له: " الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " فكذلك إيمان هؤلاء لايعتد به، وانما يضعف هذا الجواب من حيث انه لم يجر لمحمد صلى الله عليه وآله ذكر فيما تقدم، ولا هاهنا ضرورة موجبة لرد الكناية عليه. وما هذه صورته لا تجوز الكناية عنه.

وانما قلناه في قوله: حتى توارت بالحجاب إنها كناية عن الشمس للضرورة، لانه يتحمل سواها. وقد جرى ذكر عيسى والكتابي فامكن ان يكون كناية عن كل واحد منهما، فلا يجوز العدل عنه وقوله " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال قتادة وابن جريح: يكون عيسى عليهم شهيدا على أنه قد بلغ رسالة ربه، واقر على نفسه بالعبودية مكذبا من كذبه ومصدقا من صدقه.

الآية: 160 - 176

[388]

قوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات ما احل لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا(160) واخذهم الربا وقد نهوا عنه واكلهم اموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذابا اليما(161))

آيتان

هاتان الآيتان معطوفتان على ما تقدم.

قال الزجاج: قوله: " فبظلم " بدل من قوله: " فبما نقضهم ميثاقهم " والعامل في الياء قوله: " حرمنا عليهم طيبات " لما طال الكلام أجمل (تعالى) ما ذكره هاهنا في قوله: فبظلم واخبر انه حرم على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذين واثقوا الله عليه، وكفروا باياته، وقتلوا أنبياء‌ه، وقالوا، البهتان على مريم وفعلوا ما فعلوا مما وصفه الله في كتابه طيبات من المأكل وغيرها، وكانت لهم حلالا، عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر الله عنه لانهم لما فعلوا ما فعلوا، اقتضت المصلحة تحريم هذه الاشياء عليهم. وهو قول مجاهد واكثر المفسرين.

وقوله: " وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " يعنى بمنعهم عباد الله عن دينه وسبيله التي شرعها لعباده صدا كثيرا، وكان صدهم عن سبيل الله بقولهم على الله الباطل، وادعائهم ان ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله وتحريفهم معانيه عن وجوهه. ومن أعظم ذلك جحدهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وتركهم بيان ما قد عملوا من امره من جهل امره من الناس، وهوقول مجاهد وغيره.

وقوله: " وأخذهم الربا " يعني على رؤوس أموالهم بتأخيرهم له عن محله إلي محل آخر وقد نهوا عنه يعني عن الربا، وأكلهم اموال الناس بالباطل يعني بغير استحقاق، ولا استيجاب. وهو ما كانوا يأخذونه من الرشا على الاحكام، كما قال تعالى: " واكلهم السحت لبئس ماكانوا يعملون " ومنه ما كانوا يأخذونه من اثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بايديهم، ويقولون هذا من عندالله، وما اشبه ذلك من المآ كل الخسيسة الخبيثة، فعاقبهم الله تعالى على جميع ذلك بتحريم ما حرم عليهم من الطيبات.

وقوله: " واعتدنا للكافرين منهم عذابا " معناه وجعلنا للظالمين أنفسهم بكفرهم بالله، وجحدهم رسوله محمد (صلى الله عليه وآله) من هؤلاء اليهود العذاب الاليم. وهوالمؤلم الموجع يصلونها في الاخرة عدة لهم.

قال ابوعلي: حرم الله (تعالي) هذه الطيبات على الظالمين منهم عقوبة لهم على ظلمهم ومن لم يكن ظالما منهم نسخه منهم اما على لسان عيسى أو علي لسان محمد صلى الله عليه وآله

[389]

نبينا وهوما حرمه من كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وغير ذلك مما ذكره في قوله: " وعلى الذين هاد واحرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلي قوله.. ذلك خزيناهم ببغيهم " فهذا البغي هوالظلم الذي ذكره هاهنا.

قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر اولئك سنؤتيهم اجرا عظيما(162))

آية.

استثنى الله تعالى من اليهود الذين وصف صفتهم فيما مضى من الآيات في قوله: يسألك اهل الكتاب إلى هاهنا من هداه الله لدينه، ووفقه لرشده فقال: " لكن الراسخون " وهم الذين رسخوا في العلم وثبتوا فيه. وقد مضى معنى الرسوخ فيما مضى في العلم الذي جاء به الانبياء، واحكام الله التي ادوها إلى عباده، والمؤمنون بالله. ورسوله منهم يؤمنون بالقرآن الذي أنزله الله اليك يامحمد صلى الله عليه وآله وبالكتب التي انزلها على من قبلك من الانبياء، والرسل، ولا يسألونك ما يسأل هؤلاء الجهال من انزال كتاب من السماء، ولانهم قد علموا صدق قولك بما قرأوا من الكتب التي انزلها على الانبياء، ووصفك فيها وأنه يجب عليهم اتباعك، فلا حاجة بهم إلى ان يسألوك معجزة اخرى، ولادلالة غير ما علموا من امرك بالعلم الراسخ في قلوبهم وهو قول قتادة والمفسرين.

وقوله: " والمقيمين الصلاة " اختلفوا هل هم الراسخون في العلم أو غيرهم؟ فقال قوم: هم هم. واختلف هؤلاء في إعرابه ومخالفته لاعراب الراسخين فقال قوم منهم: هوغلط من الكتب وانما هو، لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون والمقيمون الصلاة ذكر ذلك حمادبن سلمة عن الزبير.

قال: قلت لابان بن عثمان بن عفان. ما شانها كتبت لكن الراسخون في العلم

[390]

منهم والمؤمنون والمقيمين الصلاة فقال: قال: إن الكاتب لما كتب لكن الراسخون في العلم منهم إلى قوله: من قبلك قال: ما اكتب؟ قيل له: اكتب والمقيمين الصلاة.

وروى عروة بن الزبير قال: سألت عائشة عن قوله: " والمقيمين الصلاة "، وعن قوله: " والصابئون " وعن قوله: " ان هذان " فقالت: يابن اخي هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتابة وفي مصحف ابن مسعود (والمقيمون الصلوة) وقال الفراء أو الزجاج وغيرهما من النحويين: هومن صفة الراسخين، لكن لما طال، واعترض بينهما كلام نصب المقيمين على المدح وذلك سائغ في اللغة كما قال في ألايات التي تلوناها، وفي قوله: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء " وقال اخرون: هومن صفة الراسخين في العلم هاهنا، وان كان الراسخون في العلم من المقيمين.

قالوا: وموضع (المقيمين) خفض عطفا على ما في قوله: يؤمنون بما أنزل اليك وما انزل من قبلك، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.

والمعنى يؤمنون باقام الصلاة وقوله: والمؤتون الزكاة.

قالوا: عطف على قوله: " والمؤمنون " وقال آخرون المقيمون الصلاة هم الملائكة. واقامتهم للصلاة تسبيحهم ربهم، واستغفارهم لمن في الارض. ومعنى الكلام والمؤمنون يؤمنون بما انزل اليك وما انزله من قبلك، وبالملائكة. واختاره الطبري. قال لانه في قراء‌ة أبي كذلك، وكذلك هو في مصحفه. فلما وافق مصحفه لمصحفنا ذلك على انه ليس بغلط.

وقال اخرون: المعنى المؤمنون يؤمنون بما انزل اليك، وما انزل من قبلك، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، وهم الائمة المعصومون، والمؤتون الزكاة، كما قال: يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين. وانكروا النصب على المدح.

قالوا: وانما يجوز ذلك بعد تمام خبره قالوا وخبر الراسخين قوله: " اولئك سنؤتيهم اجرا عظيما " فلايجوز نصب المؤمنين على المدح في وسط الكلام قبل تمام الخبر. واختار الزجاج ذلك.

قال: يجوز ان تقول مررت بزيد كريم. بالجر والنصب والرفع: النصب على المدح، والخفض على الصفة، والرفع على تقدير هوالكريم. وانشد في النصب على المدح

[391]

يت خرنق:

لايبعدن قومي الذين *** هم سم العداة وافة الجزر

النازلين بكل معترك *** والطيبون معاقد الازر

على معنى اذكر النازلين وهم الطيبون. ولو نصب لكان جائزا.

وقال قوم المعنى لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة قالوا فموضعه خفض.

وقال: قوم: المعنى يؤمنون بما أنزل. اليك وإلى المقيمين الصلاة وهذان الوجهان الاخيران ضعيفان عند النحويين، لانه لايكاد يعطف ظاهر على مكنى.

قوله: " اولئك سنؤتيهم اجرا عظيما " إشارة إلى هؤلاء الذين وصفهم الله فاخبر أنه سيعطينهم أجرا أي ثوابا، وجزآء على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره من الخلود في الجنة.

وقيل من جملة الراسخين: عبدالله بن سلام وابن يامين وابن صوريا، واسد وثعلبة، وسلام وغيرهم من علماء اليهود الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله.

قوله تعالى: (إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده واوحينا إلى ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان واتينا داود زبورا(163))

آية.

القراء‌ة والحجة: قرأ حمزة وخلف (زبورا) بضم الزاي. الباقون بفتحها حيث وقعت من ضم الزاي احتمل ذلك وجهين: احدهما أن يكون جمع زبر، فاوقع على المزبور الزبر.

كما قيل: ضرب الامير ونسج اليمن.

كمايسمى المكتوب الكتاب، ثم جمع الزبر على زبور لوقوعه موقع الاسماء التى ليست مصادر، كما يجمع الكتاب كتب، فلما استعمل استعمال الاسماء، قالوا: زبور والوجه الآخر ان يكون جمع زبور يحذف الزيادة على زبور، كما قالوا: ظريف وظروف، وكروان وكروان، وورشان

[392]

وورشان ونحو ذلك مما يجمع بحذف الزيادة يدل على قوة هذا ان التكسير مثل التصغير.

وقد اطرد هذا الحذف في ترخيم التصغير نحو ازهرو زهير، وحارث وحريث وثابت وثبيت والجمع مثله في القياس، وإن كان اقل منه في الاستعمال، ومن فتح الزاي أراد الكتاب المنزل على داود (ع) كما سمى المنزل على موسى التوراة، والمنزل على عيسى الانجيل، والمنزل على محمد صلى الله عليه وآله الفرقان.

[ المعنى ]: قال الحسين بن علي المغربى: زبور جمع زبور ومثله تخوم وتخوم وعذوب وعذوب قال: ولايجمع فعول - بفتح الفاء - على فعول - بضم الفاء - إلا هذه الثلاثة فيما عرفنا.

والزبر احكام العمل في البئر خاصة يقال: بئر مزبورة: اذا كانت مطوية بالحجارة.

ويقال: ما لفلان زبراي عقل.

وزبر الحديد: قطعة واحدها زبرة.

ويقول زبرت الكتاب ازبره زبرا مثل اذبره ذبرا - بالذال المعجمة -.

[ المعنى ]: هذا خطاب من الله للنبي صلى الله عليه وآله يقول الله: إنا اوحينا اليك يامحمد أي ارسلنا اليك رسلنا بالنبوة كما أرسلنا إلى نوح وسائر الانبياء الذين سميناهم لك من بعد والذين لم نسمهم لك.

وقيل: إن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله لان بعض اليهود لما فضحهم الله بالآيات - التي انزلها على رسوله صلى الله عليه وآله من عند قوله: " يسألك أهل الكتاب ان تنزل عليهم كتابا من السماء، وما بعده " فتلا ذلت عليهم رسول الله، قالوا: ما انزل الله على بشر من شئ بعد موسى، فانزل الله هذه الآيات تكذيبا لهم، واخبر نبيه والمؤمنين بها انه قد انزل على من بعد موسى من الذين سماهم في هذه الآية وعلى من لم يسمهم وهو قول ابن عباس.

وقال آخرون بل قالوا لما انزل الله الايات التي قبل هذه في ذكرهم: ما انزل الله على بشر من شئ، ولاعلى عيسى.

[393]

ذهب اليه محمد بن كعب القرطي وفيم نزل قوله: " وما قدروا الله حق قدره اذ قالوا ما انزل الله على بشر من شئ " والاسباط في ولد اسحاق كالقبائل في اولاد اسماعيل.

وقد بعث منهم عدة رسل: كيوسف وداود وسليمان، وموسى وعيسى، فيجوز ان يكون اراد بالوحي اليهم الوحي إلى الانبياء منهم، كما تقول: ارسلت إلى بني تميم، وإن ارسلت إلى وجوههم وليس يصح عندنا ان الاسباط الذين هم اخوة يوسف، كانوا انبياء.

قوله تعالى: (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما(164))

آية بلاخلاف.

[ الاعراب والمعنى ]: يحتمل نصب (ورسلا) امرين: احدهما - على قول الفراء - انا اوحينا اليك كما اوحينا إلى نوح، والى رسل قد قصصناهم عليك، ورسل لم نقصصهم عليك. فلما حذف إلى نصب رسلا.

وقال الزجاج: تقديره انه لما قال: " إنا اوحينا " كان معناه ارسلناك رسولا عطف على ذلك، فقال: ورسلا.

وتقديره وارسلنا رسلا، فعطف الرسل على معنى الاسماء قبلها في الاعراب كما قال الشاعر:

أوحيت بالخبزله ميسرا *** والبيض مطبوخا معا والسكرا

لم يرضه ذلك حتى يشكرا والوجه الثاني - أن يكون نصبا بفعل يفسره ما بعده، ويتلوه، وهو اختيار الزجاج. وتقديره وقصصنا عليك رسلا قد قصصناهم عليك، كما قال: " والظالمين اعدلهم " والتقدير واعد للظالمين اعدلهم عذابا اليما.

وقرأ ابي ورسل - بالرفع - لما كان في الفعل عائد اليهم، وهو قوله:

[394]

" وقد قصصناهم عليك " وقوله: " وكلم الله موسى تكليما " نصب تكليما على المصدر وفائدة وكلم الله موسى بلاواسطة خصوصا من بين سائر الانبياء كلمهم الله بواسطة الوحي وقيل: إنما قال ذلك، ليعلم، ان كلام الله من جنس هذا المعقول الذي يشقق من التكلم على خلاف مايقول المبطلون. وقيل انما اتى بالمصدر تاكيدا.

وقيل: انما أراد بذلك تعظيم كلامه، كانه قال: كلم الله موسى تكليما شريفا كما قال: " فغشيهم من اليم ما غشيهم " يريد بذلك تعظيم ما غشيهم من الاهوال فاما قول من قال: ان الله كلم موسى باللغات كلها التي لم يفهمها. فلما كان آخر شئ كلمه بكلام فهمه، فان ذلك لايجوز عليه تعالى، لان خطاب من لايفهم خطابه عبث يجري مجرى قبح خطاب العربي بالزنجية، والله (يتعالى عن ذلك) قال البلخي: وفي الآية دلالة على أن كلام الله محدث من حيث انه كلم موسى خاصة دون غيره من الانبياء، وكلمه في وقت دون وقت، ولو كان الكلام قديما ومن صفات ذاته لم يكن في ذلك اختصاص ومن فصل بين الكليم والتكلم، فقد ابعد لان المكلم لغيره لايكون الامتكلما، وان كان يجوز ان يكون متكلما وان لم يكن مكلما فالمتكلم يجمع الامرين.

قوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما(165))

آية بلاخلاف.

نصب (رسلا) على القطع من اسماء الانبياء الذين ذكر اسماء‌هم (مبشرين) نصب على الحال. والتقدير أرسلت هؤلاء الانبياء رسلاإلى خلقي وعبادي مبشرين بثوابي من اطاعني وصدق رسلي (ومنذرين) يعني مخوفين من عقابي من عصاني وخالف أمري، وكذب رسلي " لئلا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وقال

[395]

ابوعلي: ذلك مخصوص بمن علم الله من حاله أن له في بعثه الانبياء لطفا، لانه إذا كان كذلك متى لم يبعث اليهم نبيا يعرفهم ما فيه لطفهم، كان في ذلك اتم الحجة عليه (تعالى) وذلك يفسد قول من قال: في مقدوره من اللطف ما لو فعله بالكافر لآمن به، لانه لو كان الامر على ما قالوه، لكانت لهم الحجة بذلك علي الله (تعالى) قائمة.

فاما من لم يعلم من حاله ان له في انفاذ الرسل اليه لطفا، فالحجة قائمة عليه بالعقل، وأدلته على توحيده، وصفاته وعدله، ولولم تقم الحجة بالعقل ولاقامت إلا بانفاذ الرسل، لفسد ذلك من وجهين: أحدهما - ان صدق الرسل لايمكن العلم به الابعد تقدم العلم بالتوحيد والعدل فان كانت الحجة، لم تقم عليه بالعقل فكيف الطريق له إلى معرفة النبي صلى الله عليه وآله وصدقه. والثاني - انه لوكانت الحجة لاتقوم الابالرسول لاحتاج الرسول أيضا إلى رسول آخر حتى تقوم عليه الحجة.

والكلام في رسوله كالكلام في هذا الرسول ويؤدي ذلك إلى مالا يتناهى. وذلك فاسد فمن استدل بهذه الآية على ان التكليف، لايصح بحال الابعد انفاذ الرسل، فقد ابعد على ما قلناه.

وقوله: " وكان الله عزيزا حكيما " معناه انه مقتدر على الانتقام ممن يعصيه ويكفر به لايمنعه منه مانع لعزته حكيم فيما امر به خلقه وفي جميع افعاله.

قوله تعالى: (لكن الله يشهد بما انزل اليك انزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا(166))

آية.

قال الزجاج: الرفع مع تخفيف (لكن) والنصب مع تشديده جائز، لكن لم يقرأ بالتشديد احد.

ومعنى " لكن الله يشهد " أي يبين ما تشهد به ويعلم مع ابانته انه حق.

[396]

" والملائكه يشهدون وكفى بالله شهيدا " دخلت الباء مؤكدة.

والمعنى اكتفوا بالله في شهادته والمعنى في الآية ان هؤلاء اليهود الذين سألوك ان ينزل عليهم كتابا من السماء وقالوا لك ما أنزل الله على بشر من شئ، قد كذبوا ليس الامر كما قالوا، لكن الله يشهد بتنزيل ما انزله اليك من كتابه ووحيه انزل ذلك اليك، وهو عالم بانك خيرته من خلقه، وصفوته من عباده يشهد لك بذلك ملآئكته، فلا يحزنك تكذيب من كذبك، وخلاف من خالفك " وكفاك بالله شهيدا " أي حسبك بالله شاهداعلى صدقك، دون ما سواه.

قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في جماعة من اليهود كان النبي صلى الله عليه وآله دعاهم إلي اتباعه، واخبرهم أنهم يعلمون حقيقه نبوته فجحدوا نبوته، وانكروا معرفته، فانزل الله فيهم هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وتعزية له عن تكذيب من كذبه.

ومن استدل بهذه الآية على انه تعالى عالم بعلم، فقد اخطأ لان، قوله بعلمه معناه، وهو عالم به. ولو كان المراد بذلك ذاتا اخرى، لوجب ان يكون العلم آلة في الانزال، كما يقولون كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، ونجرت بالفاس. ولاخلاف ان العلم ليس بآلة في الانزال.

وقال الزجاج معناه إنزال القرآن الذي علمه فيه. وهو اختيار الازهري.

قوله تعالى: (ان الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا(167))

آية

 المعنى: ان الذين جحدوا نبوتك بعد علمهم بها من أهل الكتاب الذين ذكر قصتهم، وانكروا ان الله تعالى أوحى اليك وانزل كتابه عليك، وصدوا عن سبيل الله يعني عن الدين بعثك به الي خلقه. وهو الاسلام بقولهم للذين يسألونهم

[397]

عن صحة نبوتك ما نجد صفة محمد صلى الله عليه وآله في كتبنا، وادعاؤهم عهد إليهم ان النبوة لاتكون إلا في ولد هارون. ومن ذرية داود، ومااشبه ذلك فقد ضلوا ضلالا بعيدا يعني جاروا عن قصد الطريق جورا شديدا، وزالوا عن المحجة التي هي دين الله الذي ارتضاه لعباده وبعثك به الي خلقه زوالا بعيدا، ابعدوا من الرشاد.

قوله تعالى: (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفرلهم ولا ليهديهم طريقا(168) الا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا(169))

آيتان.

هذا خبر من الله تعالى بان الذين جحدوا رسالة محمد (صلى الله عليه وآله) كفروا بالله، وجحدره بجحودهم رسالة نبيه وظلموا نبيه بتكذيبهم اياه، ومقامهم على الكفر على علم منهم بظلمهم عباد الله، وحسدا للعرب، وبغيا على رسوله " لم يكن ليغفر لهم " يعني لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بترك عقابهم عليها، لكنه تعالى يفضحهم بها (جل ثنآؤه) بعقوبته إياهم عليه، ولاليهديهم طريقا يعني لايهديهم لطريق الجنة، لان الهداية إلى طريق الايمان قد سبقت، وقد عم الله ايضا بها جميع المكلفين.

ويحتمل ان يكون المراد لم يكون الله يفعل بهم ما يؤمنون عنده في المستقبل عقوبة لهم على كفرهم الماضي، واستحقاقهم حرمان ذلك، وانه يخذلهم عن ذلك حتى يسلكوا طريق جهنم، ويكون المعنى لم يكن الله ليوفقهم للاسلام، لكنه يخذلهم عنه إلى طريق جهنم جزاء لهم على ما فعلوه من الكفر خالدين فيها مقيمين ابدا.

" وكان ذلك على الله يسيرا "

المعنى: وكان تخليد هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم في جهنم على الله يسيرا، لانه تعالى إذا أراد ذلك به لم يقدر على الامتناع منه، ولايصعب عليه عقاب من يعصيه، فذلك كان يسيرا عليه.

[398]

قوله تعالى: (ياايها الناس قد جاء كم الرسول بالحق من ربكم فأمنوا خيرا لكم وان تكفروا فان لله ما في السماوات والارض وكان الله عليما حكيما(170))

آية بلاخلاف.

خاطب الله بهذه الآية جميع الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله من مشركي العرب، وجميع اصناف الكفار، وبين انه قدجاء‌هم الرسول - يعني محمد (صلى الله عليه وآله) - بالحق من ربكم - يعني بالاسلام الذي ارتضاه الله لعباده دينا من ربكم. يعني من عند ربكم " فامنوا خيرا لكم " معناه صدقوه وصدقوا ما جاء‌كم به من عند ربكم من الدين فان الايمان بذلك خير لكم من الكفر " وان تكفروا " اي تجحدوا نبوته وتكذبوا رسالته وبما جاء به من عند الله فان ضرر ذلك يعود عليكم دون الله تعالى الذي له ملك السماوات، لاينقص كفركم بما كفرتم به من امره، وعصيانكم فيما عصيتموه فيه من ملكه وسلطانه شيئا.

" وكان الله عليما " بما انتم صائرون اليه من طاعته أو معصيته " حكيما " في امره اياكم ونهبه عما نهاكم عنه وفي غير ذلك من تدبيره فيكم، وفي غيركم من خلقه.

الاعراب: واختلفوا في نصب " خيرا لكم " فقال الخليل، وجميع البصريين: إن ذلك محمول على المعنى، لانك إذا قلت: انته خيرا لك، فانت تدفعه عن امر، وتدخله في غيره، كانك قلت: انته وات خيرا لك، وادخل فيما هو خير لك وانشد الخليل وسيبويه قول عمر بن ابي ربيعة:

فواعديه سرحتي مالك *** او الربا بينهما اسهلا

وتقديره وأنني مكانا اسهلا وقال الكسائي: انتصب يخروجه من الكلام.

[399]

قال: وهذا تفعله العرب في الكلام التام، نحو قولك لتقو من خيرا لك، وانته خيرا لك، فاذا كان الكلام ناقصا، لم يخبر غير الرفع تقول: ان تنته خير لك، وان تصبروا خير لكم.

وقال الفراء انتصب ذلك لانه متصل بالامر وهومن صفته. الاترى انك، تقول: انته هو خيرلك؟ فما اسقطت هو اتصل بما قبله، وهو معرفة فانتصب وقال ابوعبيدة: انتصب ذلك على اضمار كان، كانه قال: فامنوا يكن الايمان خيرا لكم. قال: وكذلك كل امر ونهي قال الفراء: يلزم على ذلك ما يبطله. ألاترى انك تقول: اتق الله تكن محسنا، ولايجوز ان تقول: اتق الله محسنا باضمار كان، ولايصلح ان تقول: انصرنا اخانا، وانت تريد تكن اخانا.

وقال قوم. انتصب ذلك بفعل مضمر اكتفى في ذلك المضمر بقوله: لاتفعل ذلك وافعل صلاحا لك.

قوله تعالى: (ياأهل الكتاب لاتغلوا في دينكم ولاتقولوا على الله الا الحق انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته القاها إلى مريم وروح منه فامنوا بالله ورسله ولاتقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم انما الله اله واحد سبحانه ان يكون له ولد له ما في السماوات وما في الارض وكفى بالله وكيلا(171))

آية واحدة.

هذا خطاب من الله تعالى لاهل الكتاب الذي هو الانجيل وهم النصارى نهاهم الله (تعالى) ان يغلوا في دينهم بان يجاوزوا الحق فيه، ويفرطوا في دينهم، ولا يقولوافي عيسى غير الحق، فان قولهم في عيسى انه ابن الله قول بغير الحق، لانه (تعالى) لم يتخذ ولدا فيكون عيسى أو غيره من خلقه ابناله، ونهاهم ان يقولوا على الله. الاالحق، وهو الاقرار بتوحيده، وانه لاشريك له ولاصاحبة ولاولد.

واصل الغلو في كل شئ تجاوز حده يقال: غلا فلان الدين يغلو غلوا.

[400]

وغلا بالجارية عظمها ولحمها: إذا انسرعت الشباب، وتجاوزت لذاتها.

يغلو بها غلوا وغلاء قال الحارث بن خالد المخزومي:

خمصانة فلق موشحها *** رود الشباب غلابها عظم(1)

وقوله: انما المسيح عيسى بن مريم، فأصل المسيح المموح - نقل من مفعول إلى فعيل. سماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب، وقيل مسح من الذنوب والادناس التي تكون في الادميين كما يمسح الشئ من الاذى الذي يكون فيه. وهو قول مجاهد.

وقال ابوعبيدة: هذه الكلمة عبرانية أو سريانية مشيحا، فعربت فقيل المسيح، كما عرب سائر أسماء الانبياء في القرآن، نحو اسماعيل واسحاق وموسى وعيسى.

وقال قوم ليس هذا مثل ذلك، لان اسماعيل واسحاق وما اشبههما اسماء، لاصفات.

والمسيح صفة ولايجوز ان يخطب العرب وغيرها من اجناس الخلق في صفة شئ إلا بما يفهم، فعلم بذلك انها كلمة عربية وقال ابراهيم: المسيح المسيح الصديق واما المسيح الدجال فانه ايضا بمعنى الممسوح العين صرف من مفعول إلى فعيل فمعنى المسيح في عيسى (ع) الممسوح البدن من الادناس والآثام.

ومعنى المسيح في الدجال الممسوح العين اليمنى أو اليسرى كما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله في ذلك، وقوله: رسول الله اخباره منه (تعالى) ان المسيح أرسله الله وجعله نبيا.

وقوله: (كلمته القاها إلى مريم) فانه يعني بالكلمة الرسالة التي امر الله ملائكته أن يأتي بها بشارة من الله (تعالى) لها التي ذكرت في قوله: " قالت الملائكة يامريم ان الله يبشرك بكلمة منه " يعني برسالة منه وبشارة من عنده وقال قتادة والحسن: هو قوله: " كن فكان " واختار الطبري الاول وقال الجبائي: ذلك مجاز، وانما اراد بالكلمة انهم يهتدون بعيسى، كما يهتدون بكلامه. وكذلك يحبون به في دينهم كما يحيى الحي بالروح، فلذلك سماه روحا.

___________________________________

(1) - اللسان (علا) - مجاز القرآن 1: 143 وفي الاغاني (علا) بدل (فلا).

خمصانة بفتح الحاء وضعها - ضامرة البطن. رؤد الشباب شابة حسنة.

[401]

وقوله: " القاها إلى مريم " فمعناه اعلمها بها واخبرها كما يقال القيت اليك كلمة حسنة بمعنى اخبرتك بها.

وقال الجبائي: معنى القاها إلى مريم خلقه في رحمها.

وقوله: " وروح منه " اختلفوا فيه على ستة اقوال: فقال، قوم: معناه ونفحة منه وسماء روحا، لانه حدث عن نفحة جبرائيل في درع مريم بامرالله له بذلك، ونسب إلى الله، لانه كان بامره. وانما سمي النفخ روحا، لانها ريح تخرج من الروح. واستشهدوا على ذلك قول ذي الرمة - واسمه غيلان - في صفة نار نفثها.

فلما بدت كفنتها وهي طفلة *** بطلساء لم تكمل ذراعا ولاشبرا.

وقلت له: ارفعها اليك واحيها *** بروحك واقتتها لها قيتة قدرا

وظاهر لها من يابس الشخت، واستعن *** عليها الصبا واجعل يديك لهاسترا(2).

معنى احيها بروحك اي بنفخك.

وقال بعضهم: معناه انه كان انسانا باحياء الله اياه بتكوينه بلاواسطة من جماع، ونطفة على مجرى العادة.

وقال قوم: قوله: " وروح منه " معناه ورحمة منه.

كما قال في موضع: " وايدهم بروح منه " ومعناه ورحمة منه.

قال: فجعل الله عيسى رحمة على من اتبعه، وآمن به وصدقه، لانه هداهم إلى سبيل الرشاد.

وقال آخرون: معنى ذلك وروح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها إلى مريم، فدخلت في فيها فصيرها الله تعالى روح عيسى ذهب اليه ابوالعالية عن أبي ابن كعب.

___________________________________

(1) - ديوانه. واللسان (روح) يصف نارا طلساء خرقة اقتتها..: (نفخ بها برفق) الشحت: الدقيق من كل شئ.

[402]

وقال بعضهم: ان معنى الروح - هاهنا - القوة التي كان بها يحيي الموتى قال الراجز: اذعرج الليل بروح الشمس وقال قوم: معنى الروح هاهنا جبرائيل.

قالوا: والروح معطوفة به على ما في قوله من ذكر الله تعالى. والمعنى ان القاء الكلمة إلى مريم كان من الله تعالى. ثم من جبرائيل.

وقوله: " فامنوا بالله ورسله " امر من الله اياهم بتصديق الله تعالى، والاقرار بوحدانيته، وتصديق رسله فيما جاؤا به من عندالله، وفيما اخبرهم به أن الله لاشريك له، ولاصاحبة ولاولدا.

وقوله: " ولاتقولوا ثلاثة انتهوا " نهي لهم عن أن يقولوا الارباب ثلاثة، وانما رفع ثلاثة بمحذوف دل عليه ظاهر الكلام. وتقديره ولاتقولوا: هم ثلاثة. وانما جاز ذلك، لان القول حكاية ومثل ذلك قوله: " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم "(1) وكذلك كلما ورد من مرفوع بعد القول لارافع معه ففيه اضماراسم رافع لذلك الاسم، ثم قال متوعدا لهم على عظيم قولهم الذي قالوه في الله: انتهوا أيها القائلون الله ثالث ثلاثة عما تقولون من الزوج والشرك بالله، والانتهاء عن ذلك خير لكم من قولكم لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قولكم ذلك ان أقمتم عليه، ولم ترجعوا إلى الحق. ووجه النصب في " انتهوا خيرلكم " ما قلناه في قوله آمنوا خيرا لكم، فلا وجه لاعادته.

وقوله: " انما الله اله واحد " معناه الاخبار من الله (تعالى) ان الذي يحق له العبادة واحد، لان من كل له ولد، لايكون آلها وكذلك من كان له صاحبة لايجوز ان يكون إلها معبودا، ولكن الله الذي له الالوهية والعبادة إله واحد، ومعبود واحد لاولد له، ولاوالد، ولاصاحبة، ولاشريك، ثم نزه تعالى نفسه وعظمها ورفعها عما قاله المبطلون الكافرون فقال: " سبحانه ان يكون

___________________________________

(1) سورة الكهف، آية 23.

[403]

له ولد " ولفظة سبحان تفيد المتنزيه عما لايليق به من الولد والصاحبة، لان من يملك ما في السماوات والارض وما بينهما وله التصرف فيهما، وفيهم عيسى وامه، وهم عبيده، وهو رازقهم وخالقهم، وهم أهل الحاجة إليه والفاقة، فكيف يكون المسيح ابناله، وهو إما في الاض أو في السماء. وهو تعالي يملك جميع ذلك، ويحتمل ان يكون في موضع نصب لانه يصلح ان يقال عن ان يكون او من ان يكون، فاذا حذف حرف الجر كانت في موضع نصب.

وكان الكسائي يقول هو في موضع خفض.

والاول قول الفراء وغيره.

وقوله: " وكفى بالله وكيلا " معناه حسب ما في السموات وما في الارض بالله قيما ومدبرا، ورازقا من الحاجة معه إلى غيره ومعنى كفى بالله اكتفوا بالله. وقد شبهت النصارى قولها: انه ثلاثة اقانيم جوهر واحد بقولنا: سراج واحد، ثم نقول. انه ثلاثة اشياء دهن وقطن ونار وللشمس انها شمس واحدة، ثم نقول انها جسم وضوء وشعاع.

قال البلخي، وهذا غلط، لانا وان قلنا إنه سراج واحد، لانقول هوشئ واحد، ولاالشمس انها شئ واحد بل نقول هو أشياء على الحقيقة، كما نقول عشرة واحدة، وانسان واحد، ودار واحدة، وشهر واحد، وهي اشياء متغايرة.

فان قالوا: إن الله شئ واحد حقيقة كما انه إله واحد، فقولهم بعد ذلك انه ثلاثة مناقضه لايشبه ما قلناه.

وان قالوا: هو اشياء، وليس بشئ واحد دخلوا في قول المشبهة، وتركوا القول بالتوحيد.

والعجب انهم يقولون: إن الاب له ابن والابن لااب له، ثم يزعمون ان الذي له ابن هوالذي لااب له، ويقولون إن من عبد الانسان، فقد اخطأ وضل، ثم يزعمون ان المسيح إله انسان، وانهم يعبدون المسيح.

وقد تكلمنا على ما نعقل من مذاهبهم في الاقانيم والاتحاد والنبوة في كتاب شرح الجمل بما لامزيد عليه لانطول بذكره هاهنا.

[404]

قوله تعالى: (لن يستنكف المسيح ان يكون عبدا لله والملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيسحشرهم اليه جميعا(172))

آية.

معنى " لن يستنكف المسيح " لم يأنف.

وأصله في اللغة من نكفت الدمع: إذا نحيته باصبعك من خدك.

قال الشاعر:

فباتوا فلولا ما تذكرمنهم *** من الخلف لم ينكف لعينيك مدمع

فتأويل " لن يستنكف " لن ينقبض ولن يمتنع.

فمعنى الآية " لن يستكبر المسيح ان يكون عبدا " بمعنى من ان يكون عبدا لله ولاالملائكة المقربون.

ومعناه ولايستنكف الملائكة أيضا، ولايأنفون، ولا يستكبرون من الاقرار لله بالعبودية، والاذعان له بذلك " المقربون " الذين قربهم ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه.

وقال الضحاك: المقربون معناه انه قربهم إلى السماء الثانية.

وقوله: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر " معناه من يأنف من عبادة الله، ويتعظم عن التذلل والخضوع له، والطاعة له من جميع خلقه " فسيحشرهم ".

ومعناه فسيبعثهم يوم القيام جميعا يجمعهم لموعدهم عنده.

ومعنى إليه إلى الموضع الذي لايملك التصرف فيه سواه، كما يقال صار أمر فلان إلي القاضي أي لايملكه غير القاضي، ولايراد بذلك المكان الذي فيه القاضي.

واستدل قوم بهذه الآية على ان الملائكة أفضل من الانبياء، قالوا: لايجوز ان يقول القائل: لايأنف الامير أن يركب الي ولاغلامه.

وانما يجوزأن يقال: لايأنف الوزيرأن يركب الي ولاالامير، فيعطف بعالي الرتبة على الادون، ولايعطف بالادون على الاعلى.

وهذا الذي ذكروه لادلالة فيه من وجوه: احدها - ان يكون هذا القول متوجها إلى قوم اعتقدوا أن الملائكة أفضل من الانبياء، فاجرى الكلام على اعتقادهم، كما يقول القائل لغيره: لايستنكف ابي من من كذا، ولاابوك. وإن كان القائل يعتقد ان اباه أفضل.

[405]

الثاني - انه لاتفاوت بين الانبياء والملائكة التفاوت البعيد كتفاوت الامير والحارس، وما يجري مجرى ذلك. ويجوزأن يقدم الفاضل ويؤخر المفضول. ألا ترى أنك تقول: لايستكف الامير فلان من كذا، ولاالامير فلان؟ وان كان الاول افضل.

والثالث - انه اخرذكر الملائكة، لان جميع الملائكة اكثر ثوابا لا محالة من المسيح منفردا فمن اين ان كل واحد منهم افضل من المسيح، او غيره من الانبياء؟

قوله تعالى: (فاما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله واما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا اليما ولايجدون لهم من دون الله وليا ولانصيرا(173))

آية.

أخبر الله تعالى في هذه الاية ووعد ان الذين يقرون بوحدانيته تعالى، ويعترفون بربوبيته، ويخضعون لعبادته، ويعملون الاعمال الصالحات التي أمر الله بها، وبعث بها رسله انه يوفيهم اجورهم.

ومعناه يؤتيهم جزاء أعمالهم الصالحة وافيا تاما، ويزيدهم من فضله يعني يزيدهم ما كان وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الصالحة والثواب عليها من الفضل، والزيادة هو مالم يعرفهم مبلغه لانه (تعالى) وعد على الحسنة عشر أمثالها من الثواب، والزيادة على ذلك تفضل من الله عليهم، وإن كان كل ذلك من فضله إلى عباده. وقد روي ان الزيادة إلى سبعين ضعفا وإلى سبعمائة وإلى الفين وكل ذلك جائز على ما يختاره الله ويفعله.

وقوله " وأما الذين استنكفوا واستكبروا " معناه أن الذين يأنفون عن الاقرار بتوحيد الله، ويتعظمون عن الاعتراف بعبوديته، والاذعان له بالطاعة،

[406]

واستكبروا عن التذلل له، وتسليم ربوبيته يعذبهم عذابا اليما أي مؤلما موجعا، ولايجدون لهم من دون الله وليا ولانصيرا. وانما رفع ولايجدون بالعطف على ما بعد فيعذبهم ولو جزم على موضع ما بعدالفاء، كان جائزا يعني ولايجد المستنكفون والمستكبرون لانفسهم وليا ينجيهم من عذابه، وناصرا ينقذهم من عقابه.

قوله تعالى: (ياأيها الناس قد جآء‌كم برهان من ربكم وانزلنا اليكم نورا مبينا(174))

آية بلاخلاف.

هذا خطاب من الله (تعالى) لجميع الخلق من الناس المكلفين من سائر اصناف الملل الذين قص قصصهم في هذه السورة من اليهود والنصارى والمشركين " قدجاء‌كم " يعني أتاكم حجة من الله تبرهن لكم عن صحة ما أمركم به، وهو محمد (صلى الله عليه واله) جعله الله حجة عليكم، وقطع به عذركم، " وانزلنا إليكم نورا مبينا " يعني وانزلنا اليكم معه نورا مبينا يعني بين لكم المحجة الواضحة، والسبل الهادية إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب الله واليم عقابه، وذلك النور هوالقرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وهو قول مجاهد، وقتادة والسدي وابن جريج، وجميع المفسرين. وانما سماه نورا لنا فيه من الدلالة على ما امر الله به ونهى عنه والاهتداء به تشبها بالنور الذي يهتدي به في الظلمات وفي الآية دلالة على أن كلام الله محدث، لانه وصفه بالانزال فلو كان قديما، لما جاز ذلك عليه.

قوله تعالى: (فاما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم اليه صراطا مستقيما(175))

آية.

[407]

هذا اخبار من الله ووعد منه لمن صدق الله وأقر بوحدانيته، واعترف بما بعث به نبيه محمداصلى الله عليه وآله من أهل الملل، واعتصم به وتمسك بالنور الذي أنزله إلى نبيه.

قال ابن جريج الهاء في (به) كناية عن القرآن، فسيدخلهم في رحمة منه معناه ستنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه، وتوجب لهم ثوابه، وجنته، ويلحقهم مالحق أهل الايمان به، والتصديق لرسله، " ويهديهم اليه صراطا مستقيما " يعني يوفقهم لاصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته واقتفاء اثارهم واتباع دينهم. وذلك هوالصراط المستقيم. وهوالاسلام الذي ارتضاه الله دينا لعباده. ونصب " صراطا مستقيما " على القطع من الهاء في قوله (إليه) ويحتمل أن يكون المراد بقوله: " ويهديهم اليه " يعني إلى ثوابه.

قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له ولد وله اخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم ان تضلوا والله بكل شئ عليم(176))

آية آخر السورة.

[ النزول ]: روى البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة براء‌ة. وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " وقال جابر بن عبدالله: نزلت في المدينة وقال ابن سيرين: نزلت في مسير كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله واصحابه.

[408]

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال سعيد بن المسيب: سأل عمر النبي صلى الله عليه وآله عن الكلالة، فقال: اليس قد بين الله ذلك؟ قال: فنزلت " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " وقال جابر بن عبدالله: اشتكيت وعندي تسع اخوات لي أوسبع، فدخل علي النبي صلى الله عليه وآله فنفخ في وجهي، فافقت.

فقلت: يارسول الله ألا أوصي لاخواتي بالثلثين؟ قال: أحسن. قلت: الشطر.

قال: احسن، ثم خرج وتركني، ورجع الي فقال: ياجابر اني لااراك ميتا من وجعك هذا، وان الله عزوجل قد أنزل في الذي لاخواتك فجعل لهن الثلثين.

قال: وكان جابر يقول: نزلت هذه الآية في.

وقال قتادة: ان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله همهم شأن الكلالة، فانزل الله (عزوجل)، فيها هذه الآية.

[ المعنى ]: معنى يستفتونك يسألونك يامحمد ان تفتيهم في الكلالة. وحذف اقتصارا لما دل الجواب عليه.

والاستفتاء والاستقضاء واحديقال: قاضيته وفاتيته.

قال الشاعر:

تعالوا نفاتيكم أأعيا وفقعس *** إلى المجد أدنى ام عشيرة حاتم

هكذا انشده الحسين بن علي المغربي.

وقد فسرنا معنى الكلالة وذكرنا اختلاف العلماء في ذلك فأغنى عن الاعادة.

وقوله: " أن امروء هلك ليس له ولد " قال السدي: معناه مات ليس له ولد ذكر وانثى، (وله اخت) يعني وللميت اخت لابيه وامه، فلها نصف ما ترك، فان لم يكن أخت لاب وأم،، وكانت اخنا لاب قامت مقامها، والباقي عندنا رد على الاخت سواء كان هناك عصبة، اولم يكن.

وقال جميع الفقهاء: إن الباقي للعصبة، وإن لم يكن هناك عصبة، وهم العم وبنوالعم، واولاد الاخ.

قال فمن قال: الرد على ذوي الارحام، رد على الاخت الباقي وهواختيار الجبائي، وأكثر اهل العلم.

وقال زيد بن ثابت، والشافعي وجماعة: إن الباقي لبيت المال يرثه جميع المسلمين.

وقوله: " وهو يرثها إن لم يكن لها ولد " يعني إن كانت الاخت هي

[409]

الميتة، ولها أخ من أب وأم، أو من اب فالمال كله له بلاخلاف إذا لم يكن هناك ولد، سواء كان ولدها ذكرا، أو انثى، فان كان ولدها ذكرا، فالمال له بلاخلاف ويسقط الاخ، وإن كانت بنتا كان لها النصف بالتسمية بلاخلاف والباقي رد عليها، لانها اقرب دون الاخ، ولان الله (تعالى) انما قال: " وهو يرثها " يعني الاخ إذا لم يكن لها ولد. والبنت [ ولد ](1) بلاخلاف ومن خالف في تسمية البنت ولدا فقد اخطأ.

ذكر ذلك البلخي واستدل على ذلك بان قال: لو مات وخلف بنيا وأبوين إن للابوين الثلث، مع قوله: " ولابويه لكل واحد منهما السدس ان كان له ولد " وإنما أراد الولد الذكر.

وهذا الذي ذكره خطأ، لانه خلاف لاهل اللغة. لانه لاخلاف في تسمية البنت بانها ولد، ولانه قال: " يوصيكم الله في أولادكم " ثم فسر الاولاد فقال: " للذكر مثل حظ الانثيين " فلوكان الولد لايقع على الانثى، لكان المال بينهم بالسوية، وذلك خلاف القرآن. على انا نخالف في المسألة التي ذكرها، فنقول للابوين السدسان، وللبنت النصف والباقي رد عليهم على قدر سهامهم، فنجعل الفريضة من خمسة ومن رد الباقي على الاب فانما يرده بالتعصيب، لالان البنت لاتسمى ولدا، فبان بطلان ماقاله.

ومن خالفنا من الفقهاء في مسألة الاخ والبنت، يقول: الباقي للاخ، لقوله (ع): (ما ابقت الفرائض فلاولي عصبته) ذكر هذا الخبر عندنا ضعيف، لانه أولا خبر واحد. وقد طعن على صحته. ضعفه أصحاب الحديث بما ذكرناه في مسائل الخلاف، وتهذيب الاحكام، وغير ذلك من كتبنا. وما هذه صفته لايترك له ظاهر القران.

وقوله: " فان كانتا اثنتين " يعني ان كانت الاختان اثنتين، فلهما الثلثان. وهذا لاخلاف فيه والباقي على مابيناه من الخلاف في الاخت الواحدة. عندنا، رد عليها دون عصبتها، ودون ذوي الارحام، وإذاكان هناك عصبة، رد الفقهاء الباقي عليهم، وإن لم يكن رد على ذوي الارحام. من قال بذلك فرد على الاختين، لانهما أقرب، ومن لم يقل بذلك رد على بيت المال. فان كانت احدى الاختين لاب وام، والاخرى لاب، فللاخت للاب والام النصف، بلاخلاف.

___________________________________

(1) - ساقطة من المطبوعة.

[410]

والباقي ردعليها عندنا، لانها تجمع السببين ولاشئ للاخت للاب، لانها انفردت بسبب واحد وعند الفقهاء لها السدس تكملة الثلثين والباقي على ما بيناه من الخلاف، وإن كانوا أخوة رجالا ونساء يعني يكون الورثة أخوة رجالا ونساء للاب، والام، أو للاب فللذكر مثل حظ الانثيين. بلاخلاف فان كان الذكور منهم للاب والام والاناث للاب، انفرد الذكور بجميع المال بلاخلاف. وإن كان الاناث للاب والام والذكور للاب كان للاناث الثلثان ما سمي بلاخلاف والباقي عندنا، رد عليهن لما بيناه من اجتماع السببين لهن. وعند جميع الفقهاء ان الباقي للاخوة من الاب، لانهم عصبة.

وقد قلنا ما عندنا في خبر العصبة ويمكن ان يحمل خبر العصبة مع تسليمه على من مات، وخلف زوجا أو زوجة وأخالاب وأم، وأخا للاب أو ابن اخ لاب وأم، أو ابن أخ لاب أو ابن عم لاب وام، وابن عم لاب فان للزوج سهمه المسمى والباقي لمن يجمع كلالة الاب والام دون من يتفرد بكلالة الاب.

وقوله: " يبين الله لكم أن تضلوا " قال الفراء: معناه لئلا تضلوا.

قال القطامي:

رأينا ما رأى البصراء فيها *** فآلينا عليها ان تباعا(1)

والمعنى الاتباعا.

وقال الزجاج والبصريون: لايجوز إضمارلا.

والمعنى يبين الله لكم كراهة أن تضلوا. وحذف كراهة، لدلالة الكلام عليه.

قالوا: وانما جاز الحذف في قوله: " وسل القرية " والمعنى وسل اهل القرية، لانه بقي المضاف فدل على المحذوف. فاما حذف (لا) وهى حرف جاء لمعنى النفي، فلايجوز، لكن قد تدخل في الكلام مؤكدة وهي لغو كقوله: " لئلا يعلم أهل الكتاب " والمراد لئن يعلم.

ومثله قول الشاعر:

وما الوم البيض الا تسخرا *** إذا راين الشمط القفندرا(2)

___________________________________

(1) - ديوانه: 43 يصف ناقته.

(2) - أنظرا: 45

[411]

والمعنى وما الوم البيض ان تسخر ومثله قوله: " لااقسم بهذا البلد "(1) " ولااقسم بيوم القيامة "(2) والمعنى أقسم. ولايجوز على القياس على ذلك أن تقول: لاأخلف عليك وتريد أخلف عليك، لان (لا) إنما تلغى إذا مضى صدر الكلام على غير النفي، فاذا بنيت الكلام على النفي، فقد نقضت الايجاب وانما جاز الغاء (لا) في اول السورة، لان القرآن كله كالسورة الواحدة ألا ترى أن جواب الشئ فيه يقع وبينهما سور؟ كما قال تعالى جوابا لقوله: " وقالوا ياايها الذين نزل عليه الذكر انك لمجنون "(3) فقال: " نون والقلم وما يسطرون. ما انت بنعمة ربك بمجنون "(4) وبينهما سور كثيرة. ذكره الزجاج.

وقوله: " إن امرؤ هلك " قال الفراء (هلك) في موضع جزم.

ومثله قوله: " وان احد من المشركين استجارك "(5) ولوكان موضعها يفعل كان جزما.

وقال الزجاج: جاز مع ان تقديم الاسم قبل الفعل، لان (ان) لاتعمل في الماضي، ولانها (ام) في الجزاء قال: والتقدير ان هلك امرؤهلك.

وانشد الفراء:

صعدة قد نبتت في حائر *** اينما الريح تميلها تمل

فجزم تميلها.

وقدحال بينها وبين اينما بالاسم وهو الريح.

وقال عمر: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن الكلالة، فقال: ألم تسمع الآية التي انزلت في الصيف. وفي خبر آخر - تكفيك آية الصيف.

وقوله: " امرؤهلك ليس له ولد وله اخت فلها نصف ما ترك " يمنع أن يكون الاخت ترث مع البنت، لانه شرط في ميراثها عدم الولد. والبنت ولد بلا حلاف بين أهل اللغة.

وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أن الاخوات مع البنات عصبة خبر واحد، لايلتفت اليه، لانه يخالف نص القرآن.

وبما قلناه قال ابن عباس، لانه لم يجعل الاخوات مع البنات عصبة.

___________________________________

(1) - سورة البلد، آية 1.

(2) - سورة القيامة، آية 1.

(3) - سورة الحجر، آية 6.

(4) - سورة القلم، آية 1 - 2.

(5) سورة التوبة، آية 7.

[412]

وموضع (ان) في قوله (ان تضلوا) نصب في قول الاكثر، لاتصالها بالفعل وفي قول الكسائي: خفض، لان تقديره عنده لئلا تتولوا، فان قيل: ما وجه قوله: " اثنتين " مع أن قوله: " فان كانتا " قد دل على الثنتين؟ قيل: يحتمل امرين: احدهما - ان يكون ذلك تاكيدا للمضمر يقول القائل: فعلت أنا. والثاني - ان يبين بذلك ان المطلوب في ذلك العدد، لاغيره من الصفات من صغر او كبر أو عقل أو عدمه، وغير ذلك من الصفات، بل متى جعل العدد ثبت ماذكره من الميراث.

وقوله: والله بكل شي عليم " معناه عالم بكل شئ من مصالح عباده في قسمته مواريثهم، وغيرها من جميع الاشياء، لايخفى عليه شئ من جميعه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336938

  • التاريخ : 29/03/2024 - 01:45

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net