00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النساء من ( آية 97 ـ 135) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثالث)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك مأواهم جهنم وساء‌ت مصيرا(97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا(98) فاولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا(99))

ثلاث آيات.

هذه الآية نزلت في قوم أظهروا للنبي صلى الله عليه وآله الاسلام بمكة، فلما هاجر

[303]

النبي صلى الله عليه وآله وهاجر أصحابه فتنوهم آباؤهم عن دينهم فافتتنوا وخرجوا مع المشركين يوم بدر فقتلوا كلهم. وقيل: انهم كانوا خمسة نفر.

قال عكرمة: هم قيس بن الفاكة بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الاسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبوالعاص بن ميتة بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف.

وذكر أبوالجارود عن أبي جعفر (ع) مثله، فانزل الله فيهم الآيات. وقال (ع): ان الذين توفاهم الملائكة يعني قبض أرواحهم " ظالمي أنفسهم " نصب على الحال يعني في حال هم فيها ظالموا نفوسهم بمعنى بخسوها حقها من الثواب وادخلوا عليها العقاب بفعل الكفر. وقالت لهم الملائكة " فيم كنتم " أي في أي شئ كنتم من دينكم على وجه التقرير لهم والتوبيخ لفعلهم (قالوا كنا مستضعفين في الارض) يستضعفنا أهل الشرك بالله في ارضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، ويمنعونا من الايمان بالله واتباع رسوله على جهة الاعتذار فقالت لهم الملائكة " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " يعني فتخرجوا من أرضكم وداركم وتفارقوا من يمنعكم من الايمان بالله وبرسوله إلى أرض يمنعكم أهلها من أهل الشرك، فتوحدوه وتعبدوه وتتبعوا نبيه ثم قال تعالى " فأولئك مأواهم جهنم " يعني مسكنهم جهنم " وساء‌ت " يعني جهنم لاهلها الذين صاروا اليها " مصرا " وسكنا ثم استثنى من ذلك المستضعفين الذين استضفعهم المشركون (من الرجال والنساء والولدان) وهم الذين يعجزون عن الهجرة لاعسارهم وقلة حيلتهم " ولايهتدون سبيلا " يعني في الخلاص من مكة.

وقيل معناه لايهتدون لسوء معرفتهم بالطريق من أرضهم إلى أرض الاسلام استثنوا من جملة من أخبر أن مأواهم جهنم للعذر الذي هم فيه. ونصب المستضعفين بالاستثناء من الهاء والميم في قوله: " مأواهم جهنم " فقال تعالى: " فاولئك عسى الله ان يعفو عنهم " يعني لعل الله أن يعفو عنهم لما هم عليه من الفقر ويتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة من حيث لم يتركوها اختيارا " وكان الله عفوا غفورا " ومعناه لم يزل الله ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بترك عقوبتهم على معاصيهم " غفورا " ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها.

[304]

قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين.

قال عكرمة وكان العباس منهم وكان النبي صلى الله عليه وآله يدعو في دبر صلاة الظهر اللهم خلص الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن ربيعه وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لايستطيعون حيلة ولايهتدون سبيلا. وبالجملة التي ذكرناها قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والسدي، وقتادة، والضحاك، وابن وهب، وابن جبير.

وقوله: (توفاهم) يحتمل ان يكون فعلا ماضيا ويكون موضعه الفتح لان الماضي مبني على الفتح. والثاني ان يكون رفعا والمعنى تتوفاهم وقد حذف أحد التائين وقدبينا فيما مضي أن (عسى) من الله معناه الوجوب قال المغربي: ذكر (عسى) ههنا تضعيف لامر غيرهم كمايقول القائل ليت من أطاع الله سلم، فكيف من عصاه.

ومثله قول الشاعر:

ولم تر كافر نعمى نجا *** من السوء ليت نجا الشاكر

والتوفي هوالاحصاء قال الشاعر:

إن بني أدرد ليسوا من أحد *** ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد

ولاتوفاهم قريش في العدد بمعنى أحصاهم.

والملائكة تتوفى. وملك الموت يتوفى. والله يتوفى.

ومايفعله ملك الموت والملائكة يجوز أن يضاف إلى الله إذا فعلوه بأمره وما تفعله الملائكة جاز أن يضاف إلى ملك الموت، إذا فعلوه بامره.

الآية: 100 - 109

قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما(100))

آية.

[305]

أخبر الله تعالى في هذه الآية ان من يفارق وطنه، ويخرج من ارض الشرك وأهله هربا بدينه إلى أرض الاسلام وأهلها والمهاجر في سبيل الله يعني منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه يجد في الارض مراغما كثيرا (يجد) مجزوم، لانه جواب الشرط.

اللغة: والمراغم المضطرب في البلاد والمذهب يقال منه: راغم فلان قومه مراغما ومراغمة قال الفراء: هما مصدران ومنه قول النابغة الجعدي:

كطود يلاذ بأركانه *** عزيز المراغم والمهرب(1)

وقال الشاعر:

إلى بلد غير داني المحل *** بعيد المراغم والمضطرب

والمراغم مأخوذ من الرغام وهو التراب ومعنى راغمت فلانا هجرته. ولم أبال رغم أنفه أي وان لصق بالتراب أنفه.

المعنى: واختلف أهل التأويل في معناه، فقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض وبه قال الضحاك، والربيع، والحسن، وقتادة، ومجاهد.

وقال السدي يعني معيشة.

وقال ابن زيد يعني مهاجرا.

وقال ابن عباس يعني سعة في الرزق.

وبه قال الربيع بن أنس والضحاك.

وقال قتادة: سعة من الضلالة إلى الهدى.

وقال يزيد بن أبي حبيب: ان أهل المدينة يقولون من خرج فاصلا من أهله يريد الغزو وجب سهمه لقوله: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله)

وقوله: " وسعة " يحتمل أمرين: أحدهما - السعة في الرزق. الثاني - السعة مما كان فيه من تضيق المشركين عليهم في أمر دينهم بمكة. ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجرا

___________________________________

(1) ديوانه: 22 ومجاز القرآن 1: 138 واللسان (رغم).

[306]

من أرض الشرك فارا بدينه إلى الله ورسوله وأدركه الموت قبل بلوغه دار الهجرة وأرض الاسلام " فقدوقع أجره على الله " يعني ثواب عمله وجزاء هجرته عليه تعالى " وكان الله غفورا " يعني ساترا على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم " رحيما " بهم رفيقا.

النزول: وقيل في سبب نزول الآية ان الله لما أنزل ان الذين " توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم " كتب المسلمون بالآيات وبعثوها إلى أخوانهم من أهل مكة فخرج حينئذمنها جماعة، فقالوا: لم يبق لناعذر فهاجروا.

وقال سعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والسدي وابن زيد وابن عباس ورواه أبوالجارود عن أبي جعفر (ع) انها نزلت في ضمرة بن العيص بن ضمرة بن زنباع أوالعيص بن ضمرة وكان مريضا فأمر أهله ان يفرشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال ففعلوا فأتاه الموت بالتغيم، فنزلت فيه الآية.

وبه قال قتادة وقال: قال ضمرة وأنا أعرف الطريق ولي سعة في المال أخرجوني فأخرج، فمات.

وقال عمر بن شبة: هو أبوأمية ضمرة بن حندب الخزاعي.

وقال الزبير بن بكار: هو خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام خرج مهاجرا فمات في الطريق.

قال عكرمة وخرج جماعة من مكة مهاجرين فلحقهم المشركون وفتنوهم عن دينهم فافتتنوا، فانزل الله فيهم " ومن الناس من يقول أمنا بالله فاذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله "(1) وكتب بها المسلمون من المدينة إليهم ثم نزل فيهم " ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم. "

___________________________________

(1) سورة العنكبوت: آية 10

[307]

قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا(101))

آية بلاخلاف.

معنى قوله: (وإذا ضربتم في الارض) إذا سرتم فيها فليس عليكم جناح يعني حرج ولااثم ان تقصروا من الصلاة يعني من عددها فتصلوا الرباعيات ركعتين. وظاهر الآية يقتضي أن التقصير لايجوز إلاإذا خاف المسافر، لانه قال " ان خفتم أن يفتنكم " ولاخلاف اليوم أن الخوف ليس بشرط، لان السفر المخصوص بانفراده سبب للتقصير. والظاهر يقتضي ان التقصير جائز لااثم فيه. ويقتضي ذلك انه يجوز الاتمام، وعندنا وعندكثير من الفقهاء ان فرض المسافر مخالف لفرض المقيم، وليس ذلك قصرا، لاجماع اصحابنا على ذلك.

ولما روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: فرض المسافر ركعتان غير قصر. واما الخوف بانفراده فعندنا يوجب القصر. وفيه خلاف وقد روي عن ابن عباس أن صلاة الخائف قصر من صلاة المسافر. وانها ركعة ركعة.

وقال قوم: معنى قوله: " ليس عليكم جناح أن تقصروا " يعني من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. وهو الذي رواه أصحابنا في صلاة شدة الخوف. وأنه يصلي إيماء والسجود اخفض من الركوع. فان لم يقدر فان التسبيح المخصوص يكفي عن كل ركعة. ثم أخبر تعالى أن الكافرين يعني الجاحدين لتوحيد الله ونبوة نبيه فقد أبانوا عداوتهم لكم بماصبتهم لكم الحرب على عبادتكم الله، وترككم عبادة الاوثان. وفي قصر الصلاة ثلاث لغات تقول: قصرت الصلاة أقصرها وهي لغة القرآن. وقصرتها تقصيرا، واقصرتها إقصارا.

واختلف أهل التأويل في قصر الصلاة فقال قوم: هي قصر من صلاة الحاضر ما كان يصلي أربع ركعات أذن له في قصرها، فيصليها ركعتين. ذهب إليه يعلى ابن أمية، وعمر بن الخطاب. وان يعلى قال لعمر كيف نقصر الصلاة وقد أمنا فقال عمر: عجبت ما عجبت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك فقال: صدقة تصديق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. وبه قال ابن جريج وقتادة.

[308]

وفي قراء‌ة أبي " وإذاضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا " ولايقرأ " إن خفتم " ومعنى هذه القراء‌ة الا يفتنكم الذين كفروا وحذف (لا) كماحذف في قوله: " يبين الله لكم أن تضلوا "(1) ومعناه ألا تضلوا.

وقال قوم: القصر لايجوز إلا مع الخوف روي ذلك عن عائشة، وسعد بن أبي وقاص.

وقال قوم: عنى بهذه الآية قصر صلاة الخوف في غير حال المسابقة، وفيها نزلت. ذهب اليه مجاهد وغيره.

وقال آخرون: عنى بها قصر الصلاة صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف.

وعنى به قصر الصلاة من صلاة السفر لامن صلاة الاقامة، لان صلاة السفر عندهم ركعتان تمام غير قصر، كماقلناه - ذهب إليه السدي، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وجابر بن عبدالله، وكعب - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله قطعت يده يوم اليمامة وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وثعلبة ابن زهدم اليربوعي وكان من الصحابة - وأبوهريرة.

وروي عن ابن عباس في رواية اخرى إن القصر المراد به صلاة شدة الخوف تقصر من حدودها وتصليها إيماء وهو مذهبنا. وأما حد السفر الذي يجب فيه التقصير فعندنا انه ثمانية فراسخ.

وقال ابوحنيفة، واصحابه: مسيرة ثلاثة أيام.

وقال الشافعي ستة عشر فرسخا ثمانية واربعين ميلا.

وقال قوم: يجب في قليل السفر وكثيره. بينا الخلاف فيه في كتاب الخلاف.

وانما قال في الاخبار عن الكافرين انهم عدو، ولم يقل أعداء لان لفظة فعول وفعيل تقع على الواحد والجماعة، وفتنت الرجل أفتنه فهو مفتون لغة أهل الحجاز وتميم وربيعة.

وأهل نجد كلهم وأسد يقولون: أفتنت الرجل فهو فاتن.

وقد فتن فتونا: إذا دخل في الفتنة.

___________________________________

(1) سورة النساء: آية 175.

[309]

قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فاقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فاذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن اسلحتكم وامتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولاجناح علكيم إن كان بكم اذى من مطر او كنتم مرضى ان تضعوا اسلحتكم وخذوا حذركم ان الله اعد للكافرين عذابا مهينا(102))

آية واحدة بلاخلاف.

قوله (إذا كنت فيهم) معناه في الضاربين في الارض من أصحابك يامحمد الخائفين عدوهم أن يفتنوهم، فاقمت لهم الصلاة يعني أتممت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي يجب في صلاة شدة الخوف من الاقتصار على الايماء. فلتقم طائفة من اصحابك الذين كنت فيهم معك في صلاتك وليكن سائرهم في وجه العدو. ولم يذكر ما ينبغي ان تفعله الطائفة غير المصلية لدلالة الكلام عليه " ولياخذوا اسلحتهم " قال قوم: الفرقة المامورة بأخذالسلاح هي المصلية مع رسول الله صلى الله عليه وآله والسلاح مثل السيف يتقلد به والخنجر يشده إلى درعه وكذلك السكين ونحو ذلك من سلاحه وهو الصحيح.

وقال ابن عباس الطائفة المأمورة بأخذ السلاح هي التي بازاء العدو دون المصلية، فاذا سجدوا يعني الطائفة التي قامت معك مصلية بصلاتك، وفرغت من سجودها فليكونوا من ورائكم يعني فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافين للعدو.

وعندنا انهم يحتاجون أن يتموا صلاتهم ركعتين، والامام قائم في الثانية ثم ينصرفون إلى موضع اصحابهم ويجئ، الآخرون فيستفتحون الصلاة فيصلي بهم الامام الركعة الثانية، ويطيل تشهده حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم ثم يسلم بهم الامام.

ومن قال: إن صلاة الخائف ركعة، قال: الاولون إذا صلوا ركعة فقد فرغوا. وكذلك الفرقة الثانية. وروى ذلك أبوالجارود عن أبي جعفر (ع).

[310]

ورواه مسلمة عن ابي عبدالله (ع) وهذا عندنا انما يجوز في صلاة شدة الخوف.

وفي الناس من قال: ان النبي صلى الله عليه وآله يسلم بهم ثم يقومون فيصلون تمام صلاتهم. وقد بينا اختلاف الفقهاء في مسائل الخلاف في صلاة الخوف.

وقوله: " وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم " يعني الطائفة الثانية يأخذون السلاح والحذر في حال الصلاة. وذلك يبين ان المأمورة بأخذ السلاح في الاول هم المصلون دون غيرهم.

وقوله: " ود الذين كفروا لوتغفلون عن اسلحتكم وامتعتكم " معناه تمنى الذين كفروا لو تغفلون عن اسلحتكم وامتعتكم وتشتغلون عن أخذها تأهبا للقتال وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتنهون عنها (فيميلون عليكم ميلة واحدة) معناه يحملون عليكم، وأنتم متشاغلون بصلاتكم عن أسلحتكم، وأمتعتكم حملة واحدة فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم، ويستبيحون عسكركم، وما معكم.

والمعنى لاتشاغلوا باجمعكم بالصلاة عند مواقفة العدو، فتمكنوا عدوكم من أنفسكم، وأسلحتكم، ولكن اقيموها على مابينت. وخذوا حذركم باخذ السلاح. ومن عادة العرب أن يقولوا: ملنا عليهم بمعنى حملنا عليهم.

قال العباس بن عبادة بن نصلة الانصاري لرسول الله (ص) ليلة العقبة الثانية: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن غدا على اهل منى باسيافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لم نؤمر بذلك يعني في ذلك الوقت

وقوله: " ولاجناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا اسلحتكم وخذوا حذركم " معناه لاجرم عليكم ولااثم ان كان بكم أذى من مطر يعني إن نالكم من مطر، وأنتم مواقفو عدوكم، او كنتم مرضى يعني أعلاء، أو جرحى ان تضعوا اسلحتكم إذا ضعفتم عن حملها، لكن إذا وضعتموها، فخذوا حذركم. يعني احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم غافلون غارون، ثم قال: " إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا " يعني عذابا مذلا يبقون فيها أبدا. وقيل " وان كنتم مرضى " نزلت في عبدالرحمن بن عوف وكان جريحا. ذكره ابن عباس.

[311]

واللام في قوله: " فلتقم " لام الامر وهي تجزم الفعل. ومن حقها أن تكون مكسورة إذا ابتدئ بها. وبنو سليم يفتحونها. يقولون: ليقم زيد. كما تميم لام كي يقولون جئت لآخذ حقي. فاذا اتصلت بما قبلها من الواو والفاء جاز تسكينها وكسرها. ذكره الفراء.

وقال: " طائفة أخرى " ولم يقل: آخرون، ثم قال: " لم يصلوا فليصلوا معك " ولم يقل: فلتصل معك حملا للكلام تارة على اللفظ وأخرى على المعنى كما قال: " وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا "(1) ولو قال: اقتتلنا لكان جائزا ومثله " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة "(2) وفي قراء‌ة أبي: حق عليه الضلالة ومثله " نحن جميع منتصر "(3) ولم يقل منتصرون ومثله كثير.

وفي الآية دلالة على نبوة النبي صلى الله عليه وآله. وذلك ان الآية نزلت والنبي صلى الله عليه وآله بعسفان والمشركون بضجنان، فتواقفوا فصلى النبي صلى الله عليه وآله بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع، والسجود فهم بهم المشركون ان يغيروا عليهم، فقال بعضهم: لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه يعنون العصر، فأنزل الله عليه الآية فصلى بهم العصر صلاة الخوف، ويقال: إنه كان ذلك سبب اسلام خالد بن الوليد، لانه كان هم بذلك فعلم أنه ما أطلع النبي صلى الله عليه وآله على ما هموا به غير الله تعالى فاسلم وفي الناس من قال: من حكم صلاة الخوف اختص به النبي صلى الله عليه وآله وقال آخرون - وهوالصحيح - انه يجوز لغيره.

قوله تعالى: (فاذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فاذا اطمأننتم فاقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا(103))

آية.

المعنى: معنى الآية انكم أيها المؤمنون إذا فرغتم من صلاتكم - وأنتم مواقفو

___________________________________

(1) سورة الحجرات: آية 9.

(2) سورة الاعراف: آية 29.

(3) سورة القمر: آية 44.

[312]

عدوكم - التي بيناها لكم (فاذكروا الله قياما وقعودا) أي في حال قيامكم وفي حال قعودكم، ومضطجعين على جنوبكم.

والجنب: الجانب تقول نزلت جنبه أي جانبه بالتعظيم له والدعاء لانفسكم بالظفر على عدوكم لعل الله أن يظفركم بهم. وينصركم عليهم. وذلك مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون)(1). وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين.

وقوله: (فاذا أطمأننتم فاقيموا الصلاة " اختلفوا في تأويله، فقال قوم معناه اذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في سفركم وضربكم في الارض.

ذهب إليه مجاهد، وقتادة وقال آخرون معناه إذا استقررتم بزوال الخوف من عدوكم، وحدوث الامن لكم، فاقيموا الصلاة أي فأتموا حدودها بركوعها، وسجودها. ذهب اليه السدي، وابن زيد، ومجاهد في رواية أخرى. وهواختيار الجبائي، والبلخي الطبري.

وأقوى التأويلين قول من قال: إذا زال خوفكم من عدوكم، وأمنتم فأتموا الصلاة بحدودها غير قاصرين لها عن شئ من حدودها، لانه تعالى عرف عباده الواجب عليهم من فرض صلاتهم بهاتين الآيتين في حالين: احداهما - حال شدة الخوف أذن لهم فيها بقصر الصلاة على ما بيناه من قصر حدودها، والاقتصار على الايماء. والثانية - حال غير شدة الخوف امرهم فيها باقامة حدودها وإتمامها على مامضى من معاقبة بعضهم بعضا في الصلاة خلف أئمتها، لانه قال: " وإذا كنت فيهم فاقمت لهم الصلاة " فلما قال: " فاذا اطمأننتم فاقيموا الصلاة " كان معلوما انه يريد إذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا فيها مقيمين صلاتكم فاقيموا الصلاة بجميع حدودها غير قاصرين لها.

وقال ابن مسعود نزلت الآية في صلاة المرضى. والظاهر بغيره أشبه.

وقوله: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) اختلفوا في تأويله، فقال قوم:

___________________________________

(1) سورة الانفال: آية 46.

[313]

معناه ان الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة، ذهب إليه عطية العوفي، وابن عباس، وابن زيد، والسدي، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وأبي عبدالله (ع).

وقال آخرون: كانت على المؤمنين فرضا واجبا. ذهب اليه الحسن، ومجاهد، في رواية، وابن عباس في رواية وأبوجعفر في رواية أخرى عنه، والمعنيان متقاربان بل هما واحد.

وقال آخرون: معناه كانت على المؤمنين كتابا موقوتا يعني منجما يؤدونها في انجمها ذهب اليه ابن مسعود وزيد بن أسلم وقتادة. وهذه الاقوال متقاربة، لان ما كان مفروضا فهو واجب وما كان واجبا اداؤه في وقت بعد وقت فمفروض منجم. واختار الجبائي والطبري القول الاخير قال: لان موقوتا مشتق من الوقت فكانه قال: هي عليهم فرض في وقت وجوب أدائها.

قوله تعالى: (ولاتهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليما حكيما(104))

آية بلاخلاف.

المعنى: معنى قوله: (ولاتهنوا) لاتضعفوا يقال وهن فلان في الامر يهن وهنا ووهونا.

وقوله في ابتغاء القوم يعني في طلب القوم. والقوم هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل الشرك " إن تكونوا " أيها المؤمنون " تألمون " مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا " فانهم " يعني المشركين " يألمون " أيضا مما ينالهم منكم من الجراح والاذى مثل ما تألمون انتم من جراحهم واذاهم " وترجون " أنتم أيها المؤمنون " من الله " الظفر عاجلا والثواب آجلا على ماينالكم منهم " مالا يرجون " هم على ما ينالهم منكم يقول: فأنتم إن كنتم مؤمنين من ثواب الله لكم

[314]

على ما يصيبكم منهم بما هم مكذبون به فأولى وأحرى ان تصبروا على حربهم وقتالهم منهم على قتالكم وحربكم. وهو قول قتادة، والسدي، ومجاهد، والربيع، وابن زيد، وابن عباس، وابن جريج.

النزول: وقال ابن عباس، وعكرمة: الآية نزلت في أهل أحد لما أصاب المسلمين ما أصابهم وصعد النبي صلى الله عليه وآله الجبل وجاء أبوسفيان وقال يامحمد صلى الله عليه وآله يوم لنا ويوم لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أجيبوه، فقال المسلمون لاسواء لاسواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبوسفيان عزى لنا ولاعزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وآله قولوا: الله مولانا ولامولى لكم.

قال أبوسفيان اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وآله قولوا له: الله أعلى وأجل، فقال أبوسفيان موعدنا وموعدكم بدر الصغرى، ونام المسلمون وبهم الكلوم وفيهم نزلت " ان يمسسكم قرح فقد.. " الآية. وفيهم نزلت " إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون " لان الله تعالى أمرهم على ما بهم من الجراح ان يتبعوهم وأراد بذلك ارهاب المشركين فخرجوا إلى بعض الطريق وبلغ المشركين ذلك فاسرعوا حتى دخلوا مكة.

المعنى واللغة: وقال بعضهم معنى " وترجون من الله مالايرجون " أي تخافون من جهته مالا يخافون كما قال: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لايرجون أيام الله "(1) بمعنى لايخافون. وقال قوم لايعرف في كلام العرب الرجاء بمعنى الخوف إلا إذا كان في الكلام جحد سابق كما قال: " مالكم لاترجون لله وقارا "(2) بمعنى لاتخافون لله عظيمة.

___________________________________

(1) سورة الجاثية: آية 13.

(2) سورة نوح: آية 13.

[315]

وقال الشاعر:

لاترتجى حين تلاقي الزائدا *** أسبعة لاقت معا أو واحد(1)

وقال أبوذؤيب الهذلي:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وحالفها في بيت نوب عوامل(2)

قال: الفراء: نوب ونوب، وهو النحل. ولايجوز أن تقول رجوتك بمعنى خفتك. وانما استعمل الرجاء بمعنى الخوف لان الرجاء أمل قد يخاف ألايتم. وهي لغة حجازية.

قال الكسائي: لم أسمعها إلا بتهامة ويذهبون معناها إلى قولهم: ماأبالي وما أحفل قال الشاعر:

لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما *** على أي جنب كان لله مصرعي

أي ما أبالي.

وقوله: " كان الله عليما " يعني بمصالح خلقه حكيما في تدبيره أياهم وتقديره أحوالهم.

قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولاتكن للخائنين خصيما(105) واستغفر الله كان غفورا رحيما(106))

آيتان.

المعنى: خاطب الله بهذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله، فقال: " إنا أنزلنا إليك " يامحمد صلى الله عليه وآله " الكتاب " يعني القرآن " بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " يعني بما أعلمك الله في كتابه " ولاتكن للخائنين خصيما " نهاه أن يكون لمن خان مسلماأو معاهدا في نفسه أو ماله خصيما يخاصم عنه، ويدفع من طالبه عنه بحقه الذي خانه فيه. ثم أمره بأن يستغفر الله في مخاصمته عن الخائن مال غيره " إن الله كان غفورا

___________________________________

(1) معاني القرآن 1: 286 واللسان (رجا).

(2) ديوانه 143، ومعاني القرآن 1: 286، والصحاح الجوهري (رجا) ويروى (عوامل).

[316]

رحيما " يصفح عن ذنوب عباده ويسترها عليهم، ويترك مؤآخذتهم بها. وعندنا أن الخطاب وإن توجه إلى النبي صلى الله عليه وآله من حيث خاصم من رآه على ظاهر الايمان والعدالة، وكان في الباطن بخلافه فلم يكن ذلك معصية، لانه (ع) منزه عن القبائح فانما ذكر على وجه التأديب له في أن لايبادر فيخاصم ويدفع عن خصم إلا بعد أن يبين الحق منه. والمراد بذلك امته عليه السلام. على أنا لانعلم أن ماروي في هذا الباب وقع من النبي صلى الله عليه وآله، لان طريقه الآحاد، وليس توجه النهي إليه بدال على أنه وقع منه ذلك المنهي قال " لئن أشركت ليحبطن عملك "(1) ولا يدل ذلك على وقوع الشرك منه.

وقال قوم من المفسرين: انه لم يخاصم عن الخصم وإنما هم به فعاتبه الله على ذلك.

القصة والنزول: والآية نزلت في بني أبيرق كانوا ثلاثة أخوة بشر وبشير ومبشر وكان بشر يكنى أبا طعمة فنقبوا على عم قتادة بن النعمان وأخذوا له طعاما وسيفا، ودرعا فشكى ذلك إلى ابن أخيه قتادة وكان قتادة بدريافجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فذكر له القصة، وكان معهم في الدار رجل يقال له لبيد بن سهل وكان فقيرا شجاعا مؤمنا، فقال بنو ابيرق لقتادة هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ لبيدا ذلك، فاخذ سيفه وخرج إليهم. وقال يابني ابيرق أترموني بالسرق وأنتم أولى به مني، وانتم المنافقون تهجون رسول الله وتنسبون إلى قريش لتبنين ذلك أو لاضعن سيفي فيكم فداروه.

وقالوا: ارجع رحمك الله فانت برئ من ذلك. وبلغهم ان قتادة مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فمشوا إلى رجل من رهطهم يقال له أسير بن عروة، وكان منطيقا لسنا فأخبروه، فمشى أسير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في جماعة، فقال: يارسول الله صلى الله عليه وآله إن قتادة بن النعمان رمى جماعة من أهل الحسب منا بالسرق واتهمهم بما ليس فيهم وجاء قتادة إلى النبي صلى الله عليه وآله فاقبل

___________________________________

(1) سورة الزمر: آية 65.

[317]

عليه النبي صلى الله عليه وآله، وقال عمدت إلى أهل بيت حسب ونسب رميتهم بالسرق وعاتبه فاغتم قتادة ورجع إلى عمه، فقال: ليتني مت ولم أكن كلمت رسول الله صلى الله عليه وآله فقد قال لي ما كرهت، فقال عمه الله المستعان، فنزلت هذه الآية (ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرمي به بريئا)(1) يعني لبيد بن سهل حين رماه بنو ابيرق بالسرق " فقد احتمل بهتانا واثما مبينا " إلى قوله: (وكان فضل الله عليك عظيما)(2) فبلغ ذلك بني ابيرق فخرجوا من المدينة، ولحقوا بمكة وارتدوا لهم يزالوا بمكة مع قريش فلما فتح مكة هربوا إلى الشام فانزل الله فيهم (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى)(3) إلى آخر الآيات.

ولما مضى إلى مكة نزل على سلامة بنت سعد ابن شهيد امرأة من الانصار كانت ناكحا في بني عبدالدار بمكة فهجاها حسان، فقال:

وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت *** ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتم *** وفينا نبي عنده الوحي واضعه(4)

فحملت رحله على رأسها وألقته بالابطح وقالت. ما كنت تأتيني بخير أهديت إلي شعرحسان. ونزل فيه قوله: (ومن يشاقق الرسول)(5) هذا قول مجاهد، وقتادة بن النعمان، وابن زيد، وعكرمة، إلا أن قتادة، وابن زيد، وعكرمة قالوا: إن بني ابيرق طرحوا ذلك على يهودي يقال له زيد بن السمين، فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وبمثله قال ابن عباس.

وقال ابن جريج: هذه الآيات كلها نزلت في أبي طعمة بن أبي ابيرق إلى قوله: (إن الله لايغفران يشرك به. ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)(6) وقال: رمى بالدرع في دارأبي مليك ابن عبدالله الخزرجي فلما نزل القرآن لحق بقريش، وقال الضحاك: نزلت في

___________________________________

(1، 2) سورة النساء: آية 111.

(3، 5) سورة النساء: آية 114.

(4) ديوانه: 271.

(6) سورة النساء: آية 47، 115.

[318]

رجل من الانصار استودع درعا فجحد صاحبها فخونه رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله فغضب له قوم فاتوا نبي الله، فقالوا: أخونوا صاحبا، وهو أمين مسلم؟ فعذره النبي صلى الله عليه وآله وكذب عنه. وهو يرى أنه يرئ مكذوب عليه، فانزل الله فيه الآيات. واختار الطبري هذا الوجه وقال: لان الخيانة إنما تكون في الوديعة فأما السارق فلايسمى خائنا فحمله عليه أولى وكل ذلك جائز.

قوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لايحب من كان خوانا أثيما(107))

آية.

نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يجادل عن الذين يختانون أنفسهم بمعنى يخونون أنفسهم فيجعلونها خونة بخيانتهم ماخانوا من الاموال. وهم الذين تقدم ذكرهم من بني بيرق فقال: لاتخاصم عنهم فيما خانوا فيه ثم أخبر (إن الله لايحب من كان خوانا أثيما) يعني من كان صنعته خيانة الناس في أموالهم (أثيما) يعني مأثوما وبمثله قال من تقدم من المفسرين قال قتادة: وفيهم نزلت الآيات إلى قوله: (ومن يشاقق الرسول).

قوله تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما تعملون محيطا(108))

آية.

معنى يستخفون يكتمون فأخبر الله تعالى ان هؤلاء الخائنين يكتمون خيانتهم من الناس الذين لايقدرون لهم على شئ إلا الذكر لهم بقبيح ما أتوه من فعلهم وتشنيع ما ركبوه إذا اطلعوا منهم على ذلك حياء منهم وحذرا من قبح

[319]

الاحدوثة ولايستخفون من الله الذي هو معهم بمعنى أنه مطلع عليهم لايخفى عليه شئ من أمرهم وبيده العقاب.

والنكال وتعجيل العذاب فهو أحق بأن يستحيا منه وأولى بأن يعظم من أن يراهم حيث يكرهه إذ يبيتون مالايرضى من القول معناه حين يسرون ليلا ما لا يرضى من القول فيغيرونه عن وجهه. ويكونون فيه. والتبييت هوكل كلام أو أمرأصلح ليلا وأصله من فكرهم فيه ليلا.

وقال الشاعر:

أتوني فلم أرض ما بيتوا *** وكانوا أتوني بشئ نكر(1)

وحكي عن بعض طئ ان التبييت في لغتهم التبديل.

وأنشد الاسود بن عامر بن جوين الطائي في معاتبة رجل:

وبيت قولي عبد المليك *** قاتلك الله عبدا كنودا(2)

يعني بدلت قولي.

وروي عن الاعمش عن أبي رزين: ان معنى " يبيتون مالايرضى " يؤلفون مالايرضى يعني في رمي البرئ بجرم السقيم.

والمعنى متقارب، لان التأليف والتشويه والتغيير عما هو عليه وتحويله عن معناه إلى غيره واحد والمعني بالآية الرهط الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في مسألة المدافعة عن بني ابيرق، والجدال عنه " وكان الله بما تعملون محيطا " يعني يعلم مايعلمه هؤلاء المستخفون من الناس وتبييتهم مالايرضى من القول وغيره من أفعالهم " محيطا " بمعنى عالما محصيا لايخفى عليه شئ منه حافظا لجميعه ليجازيهم عليه ما يستخفونه قال الزجاج: الذي بيتوه قولهم إن اليهودي سارق الدرع وعزمهم على أن يحلفوا انهم ما سرقوا وان يمينهم تقبل دون يمين اليهودي، لانه مخالف الاسلام.

___________________________________

(1) مرتخريجه في 3: 9؟ 2.

(2) لم نجده في مصادرنا.

[320]

قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا(109))

آية بلا خلاف.

هاأنتم (ها) للتنبيه واعيدت مع (أولاء) والمعنى ها أنتم الذين جادلتم، لان (هؤلاء، وهذا) يكون في الاشارة للمخاطبين التي أنفسهم بمنزلة الذين. وقد يكون لغير المخاطبين بمنزلة الذين، قال يزيد بن مفرغ: نجوت وهذا تحملين طليق(1) أي والذي تحملين طليق.

قال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين، لان المخاطب المواجه لايحناج إلى الاشارة إلى نفسه.

وقال المغربي: هؤلاء كناية عن اللصوص الذين يجادل عنهم. وهو غير أنتم ولذلك حسن التكرير.

ومعنى الآية ها أنتم الذين جادلتم.

والجدال أشد الخصومة مأخوذ من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله.

ورجل مجدول شديد.

والاجدل الصقر، لانه أشد الطيور.

والمعنى يامعاشر من جادل عن بني أبيرق في الحياة الدنيا. والهاء والميم في عنهم كناية عن الخائنين، فمن يجادل الله عنهم. معناه من ذايخاصم الله عنهم يوم تقوم الساعة يوم يقوم الناس من قبورهم إلى محشرهم فيدافع عنهم ماالله فاعل بهم.

والمعنى إنكم إن دافعتم في عاجل الدنيا فانهم سيصيرون في الآخرة إلى من لايدافع عنده عنهم أحد فيما يفعل بهم من العذاب وأليم النكال.

وقوله: (أم من يكون عليهم وكيلا) معناه ومن ذا الذي يكون وكيلا على هؤلاء الخائنين يوم القيامة يتوكل عنهم في خصومة الله عنهم يوم القيامة. وقد بينا أن الوكالة هي القيام بأمرمن يوكل له.

___________________________________

(1) قائله يزيد بن مفرغ الحميري.

حاشية الصبان 1: 160 قطر الندى 106، وأكثر كتب النحو وصدره: عدس ما لعباد عليك امارة وهو من قصيدة هجا بها عباد بن زياد بن أبي سفيان فسجنه وأطال سجنه فكلم فيه معاوية فوجه بريدا يقال له حمحام فأخرجه وقدمت له فرس (وقيل بغلة) فنفرت فقال: عدس.. الخ وعدس صوت يزجر به البغل.

الآية: 110 - 118

قوله تعالى: (ومن يعمل سوء‌ا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما(110))

آية.

المعنى: المعنى من يعمل ذنبا، وهو السوء، أويظلم نفسه باكتساب المعاصي التي يستحق بها العقوبة " ثم يستغفر الله " يعني يتوب اليه مما عمل من المعاصي، ويراجعه " يجد الله غفورا رحيما " ومعناه يعلمه ساترا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبة جرمه " رحيما " به. واختلفوا فيمن عنى بهذه الآية، فقال قوم: عنى بها الخائنين الذين وصفهم في الآية الالى.

وقال آخرون: عنى الذين كانوا يجادلون عن الخائنين. قال لهم: " ها أنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ". والاولى حمل الآية على عمومها في كل من عمل سوا او ظلم نفسه، وان كان سبب نزولها فيمن تقدم ذكره من الخائنين أو المجادلين. وبه قال أكثر المفسرين: الطبري، والبلخي، والجبائي، وابن عباس، وعبدالله ابن معقل، وابووائل، وغيرهم.

قوله تعالى: (ومن يكسب إثما فانما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما(111))

المعنى: المعنى من يأت ذنبا على عمد منه ومعرفة فانما يجترح وبال ذلك الذنب،

[322]

وضره وخزيه وعاره على نفسه دون غيره من سائر خلق الله.

والمعنى ولاتجادلوا أيها الناس الذين يجادلون عن هؤلاء الخونة - فانكم وإن كنتم لهم عشيرة وقرابة - فيما أتوه من الذنب، ومن التبعة التي يتبعون بها، فانكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم كنتم مثلهم، فلا تدافعوا عنهم ولاتخاصموا " وكان الله عليما حليما " يعني عالما بما تفعلون أيها المجادلون عن الخائنين أنفسهم، وغير ذلك من أفعالهم وافعال غيرهم " حكيما " في أفعاله من سياستكم وتدبيركم، وتدبير جميع خلقه. وقيل: إنها نزلت في أبريق. وفي الآية دلالة على أنه لايؤخذ أحد بجرم غيره، ولايعاقب الاولاد بذنوب الآباء على ما يذهب اليه قوم من أهل الحشو. ومثله قوله: " ولاتزر وازرة وزر أخرى "(1).

قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا(112))

آية بلاخلاف.

اللغة، والمعنى: الخطيئة، والخطئ: الاثم العمد، تقول: خطئ يخطأ: إذا تعمد الذنب، وأخطأ يخطأ: إذا لم يتعمد.

قال الزجاج: لما سمى الله تعالى المعاصي بانها خطيئة ووصفها دفعة أخرى بانها إثم، فصل بينهما ههنا حتى يدخل الجنسان فيه.

وقال غيره: المعنى من يعمل خطيئة، وهي الذنب، أو إثما، وهو مالا يحل من المعصية، وفرق بين الخطيئة والاثم، لان الخطيئة قد تكون عمداوغير عمد، والاثم لايكون إلا عمدا. فبين تعالى أن من يفعل خطيئة على غير عمد منه لها مما يلزمه

___________________________________

(1) سورة الانفال: آية 164.

[323]

فيه الغرامة، وان لم يكن إثم فيه، أو آثما فيه على عمد منه، وهو مايستحق به العقاب " ثم رمى به بريئا " يعني أضافه إلى من هو برئ منه " فقد احتمل بهتانا " يعني فقد تحمل بفعله ذلك فرية وكذبا " وإثما مبينا " يعني وجرما عظيما.

والبهتان: الكذب الذي تتحير فيه من عظمه وبيانه.

يقال: بهت فلان: إذا كذب، وبهت يبهت: إذا تحير، قال الله تعالى: " فبهت الذي كفر "(1) وإنما قال " به " وقد ذكر الخطيئة والاثم قال الفراء: لانه يجوز أن يكنى عن الفعلين أحدهما مؤنث والآخر مذكر بلفظ التذكير والتوحيد ولوكثر لجازت الكناية بالتوحيد، لان (الافاعيل) تقع على فعل واحد، فكذلك جاز، فان شئت جعلتها لواحد، وإن شئت جعلت الهاء للاثم خاصة كما قال: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا اليها "(2) فجعله للتجارة.

وفي قراء‌ة عبدالله " وإذا رأوا لهوا أو تجارة " فجعله للتجارة في تقديمها وتأخيرها.

ولو ذكر على نية اللهو لجاز وقد جاء مثنى، قال تعالى: " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما "(3) وفى قراء‌ة أبي " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهم ".

وفي قراء‌ة عبدالله بن مسعود مثله، لانه في مذهب الجمع كما يقول: أصبح الناس صائما ومفطرا، فأدى اثنان عن الجمع.

وقال الزجاج: المعنى ثم يرمي بذلك بريئا.

قال رؤبة:

فيه خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق(4)

أي كأن ذلك. واختلفوا فيمن عنى به بقوله: " بريئا " بعد إجماعهم على أن الرامي ابن أبيرق، فقال قوم: البرئ رجل مسلم يقال له: لبيد بن سهل.

وقال آخرون: بل هو رجل يهودي يقال له زيد بن السمين. وقد ذكرناه فيما مضى.

وبالاخير قال ابن سيرين، ورواء ابوالجارود عن ابي جعفر (ع).

___________________________________

(1) سورة البقرة، آية 257.

(2) سورة الجمعة، آية 11.

(3) سورة النساء، آية 134.

(4) انظر 1: 296.

[324]

قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما(113))

آية.

معنى الآية لولا أنه تعالى تفضل عليك يامحمد فعصمك بتوفيقه وبيانه لك أمر هذا الخائن حتى كففت عن الجدال عنه " لهمت طائفة " ومعناه لقد همت فرقة منهم، بتقدير (قد) ذكره الفراء. ويعني بالفرقة التي همت من الخائنين أنفسهم " أن يضلوك " بمعنى يزلوك عن الحق، ويخطئوك.

وقيل: يهلكوك بتلبيسهم أمر الخائن عليك وشهادتهم عندك بانه برئ مما ادعي عليه، ثم قال تعالى: " وما يضلون " هؤلاء الذين هموا باضلالك عن الواجب في أمر هذا الخائن " إلا انفسهم ". واضلالهم انفسهم كان بأن الله لما كان قد بين لهم ما ينبغي أن يعملوا عليه من المعاونة على البر والتقوى، والا يتعاونوا على الاثم والعدوان، فلما عدلوا عن ذلك وتعاونوا على الاثم والعدوان، فكانوا بذلك مضلين انفسهم عن طريق الحق.

وقوله: " وما يضرونك من شئ " يعني هؤلاء الذين هموا بازلالك، لايضرونك، لان الله قديثبتك ويسددك في أمورك، ويبين لك أمرالمحق والمبطل.

" وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " معناه ومن فضل الله عليك يامحمد، ما تفضل به عليك، انزاله عليك الكتاب الذي هوالقرآن، وفيه تبيان كل شئ وهدى وموعظة وانزل عليك الحكمة مضافة إلى الكتاب، وهي بيان ما ذكره في الكتاب مجملا من أحكام الكتاب: من الحلال والحرام، والامر والنهي " وعلمك مالم تكن تعلم " من خبر الاولين والآخرين وما كان وماهو كائن. وكل ذلك من فضل الله.

[325]

وقوله: " وكان فضل الله عليك عظيما " يعني لم يزل فضل الله عليك يامحمد عظيما، فاشكره على ما أولاك من نعمه واحسانه.

قال الجبائي: وفي الآية دلالة على ان التسمية بالضلال تسمى اضلالا، لانه لوكان ذلك صحيحا، لكانوا قد اضلوا النبي صلى الله عليه وآله حيث نسبوه إلى الضلال وقد نفى الله عنه ذلك.

وهذا ليس بصحيح لامرين: أحدهما - انهم ما سموه بهذا الفعل ضالا، وانما قصدوا التمويه، والتلبيس عليه، فلما كشف الله تعالى ذلك بطل غرضهم. والثاني - ان من قال: إن الضلال يكون بمعنى التسمية لم يقل: إنه لايكون الا كذلك، لان الاضلال على وجوه مختلفة: بمعنى التسمية، وغير ذلك مما بيناه فيما تقدم.

والاضلال يكون بمعنى الدفن قال النابغة:

وآب مضلوه بغير جلية *** وغودر بالجولان جرم ونائل(1)

يعني دافنوه.

قوله تعالى: (لاخير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما(114))

آية بلاخلاف.

(القراء‌ة والحجة): قرأ " فسوف يؤتية " - بالياء - ابوعمر، وحمزة، وقتيبة، وخلف.

___________________________________

(1) انظر 1: 194.

[326]

الباقون بالنون من قرأ بالياء حمله على قوله: " ومن يفعل ". ومن قرأ بالنون حمله على المعنى.

أخبر الله تعالى: أنه لاخير في كثير من نجوى الناس جميعا.

والنجوى هو ما ينفرد به الاثنان أو الجماعة سرا كان أو جهرا.

ويقال: نجوت الشئ: إذا خلصته والقيته.

يقال: نجوت الجلد: إذا القيته عن البعير، وغيره قال الشاعر:

فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه *** سيرضيكما منها سنام وغاربه(1)

ونجوت فلانا: اذا استنكهته

قال الشاعر:

نجوت مجالدا فوجدت منه *** كريح الكلب مات حديث عهد(2)

ونجوت الوتر واستنجيته إذا خلصته كما قال الشاعر:

فتبازت فتبازخت لها *** جلسة الاعسر يستنجي الوتر(3)

وأصله كله من النجوة، وهوما ارتفع من الارض، قال الشاعر يصف سيلا:

فمن بنجوته كمن بعقوته *** والمستكن كمن يمشي بقرواح(4)

ويقول: ما أنجا فلان شيئا ومانجا شيئا منذ أيام إذا لم يتغوط.

والتقدير في الآية " لاخير في كثير " مما يديرونه بينهم من الكلام " إلا " كلام " من أمر بصدقة أومعروف أوإصلاح بين الناس ".

الاعراب: قال الزجاج يحتمل موضع من نصبا وأن يكون خفضا، فالخفض على إلا في نجوى من أمر بصدقة أومعروف أو اصلاح. والنصب على أن يكون إستثناء منقطعا بمعنى لكن كأنه قال: لكن من أمربصدقة أومعروف ففي نجواه خير. وطعن بعضهم على الوجه الاول بأن قال لايجوز أن يعطف بالاعلى الهاء والميم في مثل هذاالموضع من أجل أنه لم ينله الجحد.

وقال الفراء: يحتمل الخفض على

___________________________________

(1) لسان العرب: (نجا).

(2) انظر: 218، اللسان (بحا).

(3) اللسان " نجا " ويروى. جلسة الجازر. قائله عبدالرحمن بن حسان.

(4) قائله عبيد بن الابرص. مرفي 1: 218. اللسان نجا

[327]

تقدير لاخيرفى كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة فيكون النجوى على هذا هم الرجال المتناجون كما قال: (مايكون من نجوى ثلاثة الاهو رابعهم)(1) وكما قال: " واذهم نجوى "(2) والنصب على أن يجعل النجوى فعلافيكون نصبا، لانه حينئذ يكون استثناء منقطعا، لان (من) خلاف النجوى ومثله قول الشاعر:

وقفت فيها أصيلالا أسائلها *** أعيت جوابا وما بالدار من أحد(3)

إلا الاواري لاياما ابينها *** والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

ويحتمل وجها ثالثا أن يكون رفعا كما قال الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير والاالعيس(4)

واقوى الوجوه أن تجعل (من) في موضع خفض بالرد النجوى، ويكون بمعنى المتناجين، خرج مخرج السكرى والجرحى، ويكون التقدير لاخير في كثير من نجواهم يعني من المتناجين يامحمد إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس، فان أولئك فيهم الخير.

وقوله: " ومن يفعل ذلك " اشارة إلى ماتقدم من الامر بالصدقة والمعروف والاصلاح بين الناس ابتغاء مرضاة الله يعني طلب مرضاة الله ونصب ابتغاء على أنه مفعول له وتقديره لابتغاء مرضاة الله، وهو في معنى المصدر، لان التقدير ومن يتبع ذلك ابتغاء مرضاة الله.

وقوله: " فسوف نؤتيه أجرا عظيما " يعني ثوابا جزيلا في المستقبل.

___________________________________

(1) سورة المجادلة، آية / 7.

(2) سورة الاسرى، آية 47.

(3) أنظر 1: 44 (وأصيلالا) فيها روايتان أخريان: أصيلانا وأصيلاكي. والبيتان للنابغة من معلقته المشهورة.

(4) أنظر 1: 151 ومعاني الفراء 1: 288.

[328]

قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساء‌ت مصيرا(115))

آية بلاخلاف.

المعنى: معنى يشاقق الرسول يباين الرسول معاديا له، فيفارقه على العداوة، لان المشاقة هي المباينة على وجه العداوة، من بعد ما تبين له الهدى " معناه من بعد مانبين له وظهر أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله حق، وهدى موصل إلى الصراط المستقيم بمامعه من الآيات والمعجزات مثل القرآن وغيره.

وقوله: " ويتبع غيرسبيل المؤمنين " معناه ويتبع غير سبيل من صدقه وسلك منهاجا غير منهاجهم " نوله ما تولى " معناه نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الاوثان والاصنام وهي لا تغنيه ولاتدفع عنه من عذاب الله شيئا " ونصله جهنم " أي ونجعله صلى نار جهنم معناه نحرقه بها وقد بينا معنى الصلى فيما تقدم " وساء‌ت مصيرا " يعني موضعا يصير إليه من صار اليه.

[ القراء‌ة ]: وقرأ ابوعمرو وحمزة وابوبكر الاالبرجمي، والداجوى عن هشام، وابوجعفر من طريق النهرواني قوله " ونصله، ونوده " " ولايؤده " حيث وقع بسكون الهاء فيهن، قال الزجاج يقول في ذلك كسر الهاء، واثبات الياء وضم الهاء، واشباعها بالواو وبكسر الهاء بلاياء.

ولايجوز اسكان الهاء بلاكسر، لان الهاء من حقها أن تكون معهاياء فحذف الياء.

واثبات الياء وضم الهاء ضعيف، ولايجوز حذف الياء إلا اذا كان هناك كسرة يدل عليها النزول والمعنى.

ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله: " ولاتكن للخائنين خصيما " لما أبى التوبة أبوطعمة بن الابيرق ولحق بالمشركين من عبدة الاوثان بمكة مرتدا مفارقا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو قول مجاهد وقتادة، وأكثر المفسرين.

وهو المروي عن أبى جعفر عليه السلام.

وقد استدل خلق من المتكلمين، والفقهاء بهذه الآية على أن الاجماع حجة،

[329]

بأن قالوا: توعد الله على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله فلولا أن اتباعهم واجب لم يجز ذلك، وهذا ليس بصحيح من وجوه: أحدها - أن الآية نزلت في من تقدم ذكره وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فيجب أن يتناوله ويتناول كل من يجري مجراه من المرتدين ومخالفي الاسلام.

والثاني - أن من أصحابنا من قال: لانسلم أنه أزاد ب‍ (من) في هذه الآية الاستغراق، ولابلفظة (سبيل) جميع السبل، ولا ب‍ (المؤمنين) جميع المؤمنين، فمن أين لهم وجوب الاستغراق.

وإذا احتمل التخصيص، جاز لنا أن نحمل على سبيل الايمان الذي من خالفه كان كافرا، أو المؤمنين أراد به الائمة المعصومين، ولو جاز حملها على العموم، لوجب حملها على أهل جميع الاعصار على وجه الجمع دون أهل كل عصر، لان العموم يقتضي ذلك، فاذا خصوا بأهل كل عصر، خصصنا ببعض أهل العصر على أنه إنما حرم اتباع غير سبيل المؤمنين، فمن أين وجوب اتباع سبيلهم، ولم لايجوز أن يكون اتباع غير سبيلهم محصورا.

واتباع سبيلهم موقوفا على الدليل، ويجوز أن يكون أيضا محظورا مثله أو مباحا أو مندوبا، فمن أين الوجوب مع احتمال جميع ذلك على أنه لو سلم جميع ذلك، لكان يجب علينا اتباع إذا كانوا مؤمنين، لانه هكذا أوجب، فمن أين انهم لايخرجون عن كونهم مؤمنين.

ووجوب الاتباع تابع لكونهم مؤمنين، فيحتاجون إلى دليل آخر في أنهم لايخرجون عن كونهم مؤمنين غير الآية على أن ظاهر الآية يتضمن أن من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين يتناوله الوعيد، فمن أين أنه إذا انفرد احدهما عن الآخر يتناوله الوعيد.

ونحن إنما نعلم تناول الوعيدعلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله بانفرادها بدليل غيرالآية، فعلى من خالف أن يقول: إن اتباع غير سبيل المؤمنين يتناوله الوعيد بدليل غير الآية.

وقد استوفينا ما في هذه الآية في أصول الفقه، وغيره من كتبنا مشروحا لانطول بذكره ها هنا.

[330]

قوله تعالى: (إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا(116))

آية بلاخلاف

اخبرالله تعالى في هذه الآية أنه لايغفر الشرك، وأنه يغفر ما دونه، وقد بينا الاستدلال بذلك على مانذهب اليه من جواز العفو عن مرتكبي الكبائرمن أهل الصلاة، وإن لم يتوبوا فما مضى، فلاوجه لاعادته وقيل أنه عنى بهذه الآية أباطعمة الخائن حين أشرك ومات على شركه بالله، غير أن الآية وإن نزلت بسببه، فعندنا وعند جميع الامة أن الله لايغفر لمن أشرك به بلاتوبة: لتناول العموم لهم، فان قيل: فعلى هذا من لم يشرك بالله بان لايعبد معه سواه، وإن كان كافرا بالنبي صلى الله عليه وآله من اليهود النصارى ينبغي أن يكون داخلا تحت المشيئة، لانه مما دون الشرك !

قلنا: ليس الامرعلى ذلك لان كل كافر مشرك، لانه إذا جحد نبوة النبي اعتقد أن ماظهر على يده من المعجزات - ليست من فعل الله، ونسبها إلى غيره، وان الذي صدقه بها ليس هوالله، ويكون ذلك اشراكا معه على أن الله تعالى أخبرعنهم بأنهم قالوا: - يعني النصارى - " المسيح ابن الله، وقالت اليهود عزيز بن الله "(1) وذلك هوالشرك بالله تعالى على أنه لولم يكونوا داخلين في الشرك لخصصناهم من جملة من تناولتهم المشيئة لاجماع الامة على أن الله تعالى لايغفر الكفر على وجه الابتوبة.

وقوله: " ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " يعني من يجعل في عبادته مع الله شريكا، فقد ذهب عن طريق الحق وزال عن قصد السبيل ذهابا بعيدا، لانه باشراكه مع الله في عبادته فقد أطاع الشيطان، وسلك طريقه وترك طاعة ربه.

___________________________________

(1) سورة التوبة، آية 31.

[331]

قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا اناثا وان يدعون الا شيطانا مريدا(117))

آية

اختلفوا في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال: فقال أبومالك، والسدي، وابن زيد، والزجاج: ان المراد بذلك آلهتهم، واللات، والعزى، ومنات، وساف، ونائله سماهن إناثا بتسمية المشركين اياها باسماء الاناث.

الثاني - قال ابن عباس، وقتادة، والحسن: معناه ان يدعون من دونه الا اناثا يقول ميتا ليس فيه روح، قال الحسن: الاناث كل شئ ميت ليس فيه روح، مثل خشبة يابسة أو حجر يابس. وقال الزجاج لان الموات يخبر عنها بلفظ التأنيث كما يعبر عن المؤنث تقول: الاحجار تعجبني ولاتقول يعجبوني.

الثالث - قال الحسن في رواية أخرى: إن أهل الاوثان كانوا يسمون أوثانهم أناثا، وكان لكل حي صنم يسمونها أنثى.

الرابع - قال مجاهد: الاناث هي الاوثان. وروي عن عروة عن أبيه أن في مصحف عائشة الاأوثانا وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأها إلا وثنا جمع وثن كأنه جمع وثنا، وثنا، ثم قلب الواو همزة مضمومة مثل وجوه وأوجه وقتت واقتت، وقرأ بعضهم أنثا جمع أناث مثل ثمار وثمر والقراء‌ة المشهورة أناثا، وعليه القراء من أهل الامصار.

الخامس - قال الحسين بن علي المغربي: إلا اناثا معناه ضعافا عاجزين لاقدرة لهم يقولون: سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث أي غير قاطع. قال صخر الغي:

فتخبره بأن العقل عندي *** جراز لاأفل ولاأنيث

وأنث في أمره: اذالان، وضعف والانيث المخنث، وقال الكميت:

وشذبت عنهم شوك كل قتادة *** بفارس يخشاها الانيث المغمز

[332]

قال الازهري: والاناث الموات.

وقوله: (وان يدعون الاشيطانا مريدا) المعنى إن هؤلاء الذين يعبدون غير الله ليس يعبدون الا الجمادات، والا الشيطان المريد وهو المتمرد على الله في خلافه فيما أمر به ونهى عنه وهو ابليس، وبه قال قتادة واكثر المفسرين " ويدعون " معناه يعبدون، لانهم، إذا دعوا الله مخلصين، فقد عبدوه، ومثله قوله: " ادعوني استجب لكم "(1) اي اعبدوني بدلالة قوله: " ان الذين يستكبرون عن عبادتي "(1) قال الزجاج: المريد هوالخارج عن الطاعة يقال حائط ممرد أي مملس وشجرة مرداء إذا تناثر ورقها ومنه سمي أمرد ومن لالحية له أي أملس موضع اللحية، ويقال مرد الرجل يمرد مرودا ومرادة: إذا عتا وخرج عن الطاعة.

قوله تعالى: (لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا(118))

آية.

معنى لعنه الله ابعده الله من ثوابه، واخزاه واقصاه والهاه في (لعنه) الله كناية عن الشيطان والتقدير، وان يدعون إلا شيطانا مريدا قد لعنه الله وابعده من كل خير.

وقوله: " وقال لاتخذن " يعني بذلك ان الشيطان المريد قال لربه (عزوجل) اذ لعنه: لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا يعني قسما معلوما وبه قال الضحاك. واتخاذ الشيطان النصيب من عباد الله يكون باغوائه اياهم عن قصد السبيل، ودعائه اياهم إلى طاعته، وتزيينه لهم الضلال والكفر، فمن أجاب دعاء‌ه واتبعه، فهو من نصيبه المعلوم، وحظه المقسوم، وانما اخبر بذلك ليعلم الذين شاقوا الرسول من بعد ماتبين له الهدى انهم من نصيب الشيطان الذي لعنه الله.

والمفروض: الموقت.

___________________________________

(1) سورة المؤمن، آية 60.

[333]

والمعنى هاهنا ما افترضه عليهم من طاعتي والفرض: القطع والفريضة الثلمة تكون في النهر والفريضة: كل ما أمر الله به والزمه وقوله: " وقد فرضتم لهن فريضة "(1) أي قطعة من المال وفرضت للرجل: إذا جعلت له قطعة من مال الفئ والفرض التمر قال الشاعر:

إذا اكلت سمكا وفرضا *** ذهبت طولا وذهبت عرضا(2)

وإنما سمي التمر فرضا لانه يؤخذ في فرائض الصدقة يقال: سقاها بالفراض والفرض والفرض الحز يكون في المسواك يشد فيه الخيط، والفرض في القوس: الحز يشد فيه الوتر.

___________________________________

(1) سورة البقرة، آية 277.

(2) لسان العرب (فرض).

الآية: 119 - 129

قوله تعالى: (ولاضلنهم ولامنينهم ولامرنهم فليبتكن اذان الانعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا(119) يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الاغرورا(120) أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا(121))

ثلاث آيات.

المعنى: قوله: " ولاضلنهم " إخبار عن الشيطان المريد الذي وصف صفته في الآية الاولى انه قال لربه: " لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا.

ولاضلنهم " ومعناه ولاصدن النصيب المفروض الذي اتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال ومن الاسلام إلى الكفر " ولامنينهم " ومعناه أوهمهم انهم ينالون في الآخرة حظا لازيغنهم بما أجعل في أنفسهم من الاماني عن طاعتك وتوحيدك إلى طاعتي والشرك بي " ولامرنهم فليبتكن اذان الانعام " يعني لامرن النصيب المفروض من

 [334]

عبادك بعبادة غيرك من الانداد والاوثان ينسكوا له ويحرموا يحللوا ويشرعوا غير الذي شرعه الله لهم فيتبعوني ويخالفوك.

اللغة: والتبتيك: القطع تقول بتكت الشئ ابتكه تبتيكا: إذا قطعته. وبتكه وبتك مثل قطعه وقطع وسيف باتك: قاطع والمراد في هذا الموضع قطع اذن البحيرة، ليعلم انها بحيرة. واراد الشيطان بذلك دعاء‌هم إلى البحيرة فيستجيبون له، ويعملون بها طاعة له.

قال قتادة: البتك قطع اذان البحيرة والسائبة لطواغيتهم وقال السدي: كانوا يشقونها.

وبه قال عكرمة وقوله: " ولامرنهم فليغيرن خلق الله " اختلفوا في معناه فقال ابن عباس، والربيع بن انس عن انس: انه الاخصاء وكرهوا الاخصاء في البهائم وبه قال سفيان، وشهر بن حوشب، وعكرمة وابوصالح وفي رواية أخرى عن ابن عباس فليغيرن دين الله وبه قال إبراهيم ومجاهد وروي ذلك عن ابي جعفر وابي عبدالله عليهم السلام قال مجاهد: كذب العبد يعني عكرمة في قوله: إنه الاخصاء وإنما هو تغيير دين الله الذي فطر الناس عليه في قوله: " فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم "(1) وهو قول قتادة، والحسن والسدي، والضحاك، وابن زيد.

وقال قوم: هوالوشم.

روي ذلك عن الحسن والضحاك وابراهيم ايضا وعبدالله.

وقال عبدالله: لعن الله الواشمات والموتشمات والمتفلجات المغيرات خلق الله وقال الزجاج: خلق الله تعالى الانعام ليأكلوها، فحرموها على انفسهم وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ينتفعون بها، فعبدها(2) المشركون وأقوى الاقوال من قال: فليغيرن خلق الله بمعنى دين الله بدلالة قوله: " فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " ويدخل في ذلك جميع ماقاله المفسرون، لانه إذا كان ذلك خلاف الدين فالآية تتناوله، ثم اخبر تعالى عن حال نصيب الشيطان المفروض الذين شاقوا

___________________________________

(1) سورة الروم: آية 3.

(2) في الاصل (فعبدوها)

[335]

" الله ورسوله من بعد ما تبين له الهدى "(1) فقال ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله وخلاف امره " فقد خسر خسرانا مبينا " معناه هلك هلاكا ظاهرا، وبخس نفسه حظها خسرانا مبينا عن عطيه وهلاكه، لان الشيطان لايملك له نصيرا من الله إذاأراد عقابه، ثم اخبر تعالى الشيطان أنه يعد من يتبعه ويمنيهم فيعدهم النصر ممن ارادهم، ويمنيهم الظفر على من أرادهم بمكروه، ثم قال تعالى: " ومايعدهم الشيطان إلا غرورا " يعني باطلا وسماه غرورا، لانهم كانوا يظنون أن ذلك حق، فلما بان لهم انه باطل، كان غرورا وقوله ": اولئك ماواهم جهنم " إشارة إلى هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله مأواهم يعني مصيرهم الذين يصيرهم اليه جهنم ولايجدون عنها محيصا يعني لايجدون عنها معدلا إذا حصلوا فيها.

[ اللغة ]: يقول حاص فلان عن هذا الامر يحيص حيصاوحوصا: اذا عدل عنه ومنه حديث ابن عمر (بعثارسول الله صلى الله عليه وآله سرية، كنت فيهم فلقينا المشركون فحصنا حيصة) وقال بعضهم: فجاضوا جيضة وهما بمعنى واحد، غير انه لايقرأ إلابالصاد والحاء وحصت احوص حوصا وحياصا إذا خطت يقال حص عين صقرك، اي خط عينه والحوص في العين مؤخرها. والخوص غورها.

قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن اصدق من الله قيلا(122))

آية

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 114.

[336]

لما ذكرالله تعالى حكم من يشاقق الرسول، ويتبع غير سبيل المؤمنين، وذكر ان من يشرك به لايغفر له وبين حكم من يتبع الشيطان ويكون من نصيبه، ذكر في هذه الآية حكم من يؤمن به ويوحده، ويقر بنبيه ويصدقه ويضيف إلى ذلك عمل الصالحات، وانه سيدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار ثوابا على اعمالهم، وجزاء إيمانهم، ويخلدهم فيها " وخالدين " نصب على الحال والمعنى ان هذه الحال ستدوم لهم، وتتأبد، وان ذلك وعد حق من الله لهم.

وقوله: " ومن اصدق من الله قيلا " صورته صورة الاستفهام والمراد به التقرير والانكار والمعنى لاأحد اصدق من الله قيلا أي قولا ووعدا، لانه لايجوز عليه خلف الميعاد ولاالاخلال بما يجب عليه من الثواب. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قوله تعالى: (ليس بامانيكم ولا اماني اهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولانصيرا(123))

آية

المعنى: في (ليس) ضمير والتقدير ليس الثواب بامانيكم، ولاأماني أهل الكتاب والاماني يخفف ويثقل فيقال بامانى واماني على وزن افاعيل وفعالل كقراقير وقراقر. واختلفوا في من عنى بهذه الآية فقال مسروق تفاخر المسلمون، وأهل الكتاب، فقال المسلمون نحن اهدى منكم.

وقال أهل الكتاب: نحن اهدى منكم.

فانزل الله تعالى: " ليس بامانيكم ولاأماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجزبه " فقال أهل الكتاب نحن وأنتم سوآء فانزل الله تعالى " ومن يعمل من الصالحات من ذكر وانثى وهومؤمن "(1) ففلح المسلمون. ذهب إلى ذلك قتادة والسدي، والضحاك وابو صالح.

__________________________________

(1) في المطبوعة (ففنج).

[337]

وقال مجاهد معناه ليس بامانيكم يعني أهل الشرك من قريش، لانهم قالوا: لانبعث ولانعذب، ولااماني أهل الكتاب انهم خير من المسلمين، ولايدخل الجنة إلامن كان هودا أو نصارى ذهب اليه ابن زيد وهذا الوجه أقوى لانه لم يجر لاماني المسلمين ذكر وقد جرى ذكر اماني الكفار في قوله: " ولامنينهم " يعني الذي يتخذهم الشيطان نصيبا مفروضا " ويقوي ذلك أن الله تعالى قد وعد المؤمنين بقوله: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " بادخال الجنة والخلود فيها. وتلك غاية أماني المسلمين، فكيف ينفي بعد ذلك امانيهم؟.

وقوله: " ومن يعمل سوء يجزبه " اختلفوا في تأويله فقال قوم: إنه يريد بذلك جميع المعاصي صغائرها وكبائرها وإن من ارتكب شيئا منها، فان الله يجازيه عليها. اما في الدنيا أو في الآخرة ذهب اليه قتادة وعائشة، ومجاهد.

وقال آخرون: من يعمل سوء من أهل الكتاب، نجزيه ذهب اليه، الحسن. قال: كقوله: " وهل نجازي الاالكفور "(1) وبه قال ابن زيد والضحاك وهو الذي يليق بمذهبنا، لانا نقطع على ان الكفار لايغفر لهم على حال والمسلمون يجوز أن يغفر لهم ما يستحقونه من العقاب، فلايمكننا القطع على أنه لابد أن يجازي بكل سوء.

وقال قوم: معنى السوء هاهنا الشرك فمعنى الآية من يعمل الشرك يجزبه(2) ذهب اليه ابن عباس وسعيد بن جبير.

وروى أبوهريرة انه لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال صلى الله عليه وآله: فادفعوا وتشددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها او الشوكة يشاكها.

وقيل لبعض الصحابة: أليس بمرض، اليست تصيب اللاواء؟. قال: بلى فهو ما تجزون به.

وقوله: " ولاتجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " معناه ولايجد الذي يعمل سوء‌من معاصي الله، وخلاف امره وليا يلي أمره وينصره ويحامي عنه، ويدفع عنه ماينزل به من عقوبة الله، " ولانصيرا " يعني ناصرا ينصره مما يحل به من عقاب الله، واليم عذابه.

واستدلت المعتزلة على المنع من غفران معاصي أهل

___________________________________

(1) سورة سبأ، آية 17.

(2) في المطبوعة (ينجزبه).

[338]

الصلاة بهذه الآية.

قالوا: لانه تعالى بين أنه يجازي على كل سيئة، وذلك يمنع من جواز العفو قلنا: قد تكلمنا على نظير ذلك فيما مضى بما يمكن اعتماده هاهنا منها انا لانسلم انها تستغرق جميع من فعل السوء، بل في أهل التأويل من قال: المرادبه الشرك. وهو ابن عباس وقد قدمناه، ثم لاخلاف ان الآية مخصوصة، لان التائب ومن كانت معصيته صغيرة، لايتناوله العموم، فاذا جاز لهم تخصيص الفريقين، جاز لناأن نخص من يتفضل الله عليه بالعفو. وهذا واضح وقد بينا الجواب عما يزاد على ذلك من الاسئلة بما فيه كفاية فيما مضى وفي كتاب شرح الجمل، لانطول بذكره هاهنا.

قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولايظلمون نقيرا(124))

آية.

[ القراء‌ة ]: قرأابن كثير وابوعمرو، وابوبكر، الاالكسائى وابوجعفر وروم " يدخلون " بضم الياء وفتح الخاء هاهنا وفي مريم والمؤمن. وافقهم رويس الافي هذه السورة.

[ المعنى ]: وعد الله تعالى بهذه الآية جميع المكلفين من الذكور والاناث إذا عملوا الاعمال الصالحات، وهم مؤمنون مقرون بتوحيد الله وعدله، مصدقون بنبيه صلى الله عليه وآله، عاملون لما اتى به بأنه يدخلهم الجنة وينيبهم فيها، ولايبخسهم شيئا مما يستحقونه من الثواب، وان كان مقدار نقير في الصغر، وهي النقطة التي في ظهر النواة، وقيل منها تنبت النخلة.

[339]

ومن ضم الياء وفتح الخاء، فلانه قال: " ولايظلمون " فضم الياء، ليزدوج الكلام، ولانهم لايدخلونها حتى يدخلوها. ومن فتح الياء، فلانهم إذا ادخلوا الجنة، فقد دخلوها.

فان قيل ظاهر الآية يقتضي انه لايثيب الا من آمن وعمل الصالحات فمن انفرد بالايمان، لايستحق الثواب، وكذلك من فعل بعض الصالحات قلنا: ظاهر العموم مخصوص بلاخلاف لانه لو آمن بالله واليوم الآخر واخترم عقيبه، لاخلاف انه يدخل الجنة، فكذلك إذا اخل ببعض الصالحات أو ارتكب معصية، فانا نعلم دخوله الجنة بدليل آخر على أن (من) في قوله: " من الصالحات " يقتضي انه لوفعل بعض الصالحات لادخل الجنة، لانها للتبعيض. وانما تقتضي الاستغراق إذا حملت على ان معناها بيان الصفة، فاذا احتمل الظاهر ما قلناه، سقطت المعارضة فاما من قال: ان (من) زائدة فلايعول على قوله، لانه إذا امكن حمل الكلام على فائدة، لم يجز أن يحمل على الزيادة. وبما قلناه في معنى النقير، قال مجاهد وعطية والسدي وغيرهم.

قوله تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا(125))

آية: قضى الله تعالى في هذه الآية للاسلام بالفضل على سائر الملل بقوله: ومن أحسن دينا ايها الناس وهو في صورة الاستفهام. والمراد به التقرير.

والمعنى من احسن دينا وأصوب طريقا، واهدى سبيلاممن اسلم وجهه الله يعني استسلم وجهه لله. والوجه يراد به هاهنا نفسه وذاته كما قال: " كل شئ هالك الاوجهه "(1) فانقادله بالطاعة ولنبيه صلى الله عليه وآله بالتصديق " وهو محسن " بمعنى وهو فاعل للفعل الحسن مما امره الله به " واتبع ملة ابراهيم حنيفا " يعني واتبع الذي كان عليه (ابراهيم)،

___________________________________

(1) سورة القصص، آية 88.

[340]

وامر به نبيه من بعده، وأوصاهم به من الاقرار بتوحيده، توعدله وتنزيهه عمالايليق به " حنيفا " يعني مستقيما على منهاجه وسبيله. وقد بينا فيما مضى معنى الحنيف، فلافائدة في إعادته، وبمثل ذلك قال الضحاك، وغيره من المفسرين.

وقوله: " واتخذالله ابراهيم خليلا " ومعنى الخليل يحتمل أمرين: احدهما - المحبة، مشتقا من الخلة بضم الخاء والمعنى اتخذ الله ابراهيم محبا وتكون خلة ابراهيم: موالاته لاولياء الله ومعاداته لاعدائه. وخلة الله له نصرته على من اراده بسوء مثل مااراد نمرود من احراقه بالنار، فانقذه الله منها، وأعلى حجته عليه. وكما فعل بملك مصر حين راوده عن اهله، وجعله اماما لمن بعده من عباده، وقدوة لهم.

والثاني - ان يكون ذلك مشتقا من الخلة التي هي الفقر بفتح الخاء - كما قال زهير يمدح هرم بن سنان:

وان أتاه خليل يوم مسألة *** يقول لاغائب مالي ولاحرم(1)

ويروى يوم مسغبة وهو الاظهر وانما انشد البلخي يوم مسألة، وهوبخلاف الروايات.

وقال آخر:

واني وان لم تسعفانى بحاجة *** إلى آل ليلى مرة لخليلي(2)

أي لمحتاج.

وقيل: انه أصاب أهل ناحية ابراهيم (ع) جدب، فارتحل إلى خليل له من أهل مصر يلتمس طعاما لاهله من قبله، فلم يصب عنده حاجته، فلما قرب من أهله مربمفازة ذات رمل لينة فملا غرائره(3) من ذلك الرمل لئلا يغم أهله برجوعه بغير ميرة(4)، فيظنوا ان معه طعاما فحول الله تعالى غرائره دقيقا، فلما وصل إلى اهله قام أهله، ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا، فعجنوامنه، فخبزوا فاستيقظ

___________________________________

(1) اللسان: (حرم) و (واخلل). رفع (يقول) مع انه جواب الحزاء،، لى التقديم كأنه قال: ان اتاه خليل. أجاز ذلك سيبويه.

(2) لم أجد البيت في مصادرنا.

(3) الغرائر جمع غرارة - بكسر الغين - وهي الجوالق التي يوضع فيها الدخن والقمح.

(4) الميرة الطعام أو جلبه.

[341]

ابراهيم فسألهم من اين خبزوا؟ فقالوا من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك(1) المصري فقال: لابل من عند خليلي الله (عزوجل) فسماه الله خليلا.

فهذا ما روي وهومن آيات الانبياء صلى الله عليه وآله فاما الاشتقاق فالخلة بضم الخاء: الصداقة.

والخلة بفتح الخاء: الحاجة، للاختلال الذي يلحق الفقير فيما يحتاج اليه.

والخلة بمعنى الصداقة، فلان كل واحد منهما يسد خلل صاحبه في المودة، والحاجة.

وقيل: لانه يطلعه على اسراره فكانه في خلل قلبه والخلل: كل فرجه تقع في شئ والخلال: هو ما يتخلل به لانه يتبع به الخلل بين الاسنان.

قال الشاعر:

ونظرن من خلل الستور باعين *** مرضى مخالطها السقام صحاح

يعني نظرن من الفرج التي في الستور وقولهم: لك خلة من خلال.

تأويله إني أخلي لك من رأيي، او مما عندي عن خلة من خلال ومعنى أخلي أخلل. فابدل من إحدى اللامين ياء. ويجوز أن يكون أخلي من الخلوة، والخلوة والخلل يرجعان إلى معنى واحد.

والخل: الطريق في الرمل إذا انفرجت منه فرجة فصارت طريقا. والخل ما يؤكل معروف.

واختار الفراء والبلخي أن يكون من الخلة التتي هي الفقر قال: ويخالف المحبة، لان المحبة من الله لعبده هي الثناء عليه ومدحه له، ولانه يحب الانسان ما ليس من جنسه، ولايخاف إلاماهو من جنسه. وعلى ما بيناه، لايمنع ذلك وإن كان فيه بعض التجوز.

وقال الازهري: الخليل الذي خص بالمحبة يقال: دعا فلان فخلل أي خص. واختار الجبائي هذا الوجه وقال: كل نبي فهو خليل الله، لانه خصه بما لم يخص به غيره والخلة: الخصلة، وجمعها خلال. وانما خص الله تعالى ابراهيم فأنه خليله من الفقر، وان كان الخلق كلهم فقراء إلى رحمته تشريفا له بالنسبة اليه واختصاصه به من حيث انه فقير اليه لايرجو لسدخلته سواه. وخص ابراهيم من بين سائر الانبياء بانه خليل الله على المعنيين، كما خص موسى بانه كليم الله ومحمد صلى الله عليه وآله بانه حبيب الله، وعيسى بانه روح الله ولايلزم على ذلك

___________________________________

(1) في المطبوعة (خليلك)

[342]

تسمية عيسى بانه ابن الله، لان هذه اللفظة لاتستعمل حقيقتها إلا في من خلق من مائه أو ولد على فراشه، ومجازها في من يجوز ذلك فيه. ولذلك لايجوز أن يتخذ الشاب شيخا ابنا، وان جاز ان يتبنى بصبي، ولايجوز ان يتخذ البهيمة ابنا، لما لم يجز ان تكون مخلوقة من مائه على وجه. والحنيفية التي امرالله نبيه بأن يتبع ابراهيم فيها عشرة اشياء: خمسة في الرأس وخمسة في الجسد.

فالتي في الرأس: المضمضة.

والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، والفرق لمن يكون طويل الشعر، والتي في الجسد: فالاستنجاء، والختان، وحلق العانة، ونتف الابط وقص الاظفار وجميع ذلك مستحب الا الختان والاستنجاء، فانهما واجبان. وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.

وقال الجبائي كلما كان تعبدالله به ابراهيم، فانه تعبدبه النبي صلى الله عليه وآله وأمته وزاده اشياء لم يتعبد بها ابراهيم (ع) وعموم الآية يقتضي ماقاله، وإن كان ذلك شرعا لنبينا من حيث اعلمه الله ذلك، وتعبده به بوحي من جهته.

قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الارض وكان الله بكل شئ محيطا(126))

آية

لما ذكر الله تعالى انه اتخذ ابراهيم خليلا لطاعته ربه واخلاصه له العبادة، ومسارعته إلى رضاه، بين ذلك بفضله لامن حاجة إلى خلته فقال: وكيف يحتاج إلى خلته من له مافى السماوات والارض من قليل وكثير ملكا، ومع ذلك مستغن عن جميع خلقه. وجميع الخلق يحتاجون اليه فكيف يحتاج إلى خلة ابراهيم، لكنه اتخذه خليلا لمسارعته إلى رضاه وامتثاله ما يأمره به.

" وكان الله بكل شئ محيطا " يعني لم يزل الله عالما بجميع ما فعل عباده ان كان محسنا اثابه، وان كان مسيئا عاقبه ان شاء.

[343]

قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ومايتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لاتؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وان تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فان الله كان به عليما(127))

آية بلاخلاف.

المعنى: يسألك يامحمد، اصحابك ان تفتيهم في امر النساء، والواجب لهن وعليهن. واكتفى بذكر النساء من ذكر شأنهن لدلالة الكلام على المراد " قل الله يفتيكم فيهن " يعني قل يامحمد، انه يفتيكم فيهن يعني في النساء ومايتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لاتؤتونهن ما كتب لهن.

الاعراب: واختلفوا في اعراب (ما يتلى).

قال الزجاج والفراء معا: يحتمل ان يكون موضع (ما) رفعا والتقدير في قول الزجاج، والذي يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيه.

وقال الفراء تقديره الله يوصيكم فيهن وما يتلى عليكم. وقالا جميعا يجوز ان يكون موضع (ما) خفضا بالعطف على فيهن إلا ان الزجاج ضعف هذا وقال: هذا بعيد لان عطف المظهر على المضمر لايجوز.

وقال الفراء: يجوز على تقديرفيهن وما يتلى عليكم.

واختلفوا في تأويل " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لاتؤتونهن ما كتب لهن " فقال قوم: الذي يتلى عليكم هو آيات الفرائض التي في أول السورة. روى ذلك سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان اهل الجاهلية

[344]

لايورثون المولود حتى يكبر، ولايورثون المرأة، فانزل الله آية الميراث أول السورة، وهو معنى " اللاتي لاتؤتونهن ما كتب لهن ".

وبه قال مجاهد: وروي ذلك عن ابي جعفر (ع).

وقال قوم: كان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها ذمامة، ولها مال، فكان يرغب عنها ان يتزوجها ويحبسها لما لها طمعا أن تموت فيرثها، فنزلت الآية. ذهب اليه عائشة، وقتادة والسدي وابومالك وابراهيم قال السدي: كان جابر بن عبدالله الانصاري ثم السلمي له بنت عم عمياء ذميمة قد ورثت عن أبيها مالا، فكان جابر يرغب عن نكاحها، ولاينكحها مخافة ان يذهب الروج بما لها فسأل النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك وقال: اترث إذا كانت عمياء؟ فقال صلى الله عليه وآله: نعم فانزل الله فيه هذه الآية.

وقال قوم: معناه يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في آخر السورة من قوله: " يستفتونك قل الله يفتيكم " في الكلالة ذهب اليه ابن جبير وقالت عائشة: كان الرجل تكون في حجره اليتيمة تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها، فنهى الله عن ذلك في قوله: " وإن خفتم الاتقسطوا في اليتامى فانكحوا " من غيرهن " ماطاب لكم " قالت: وقوله " ومايتلى عليكم " هو ما ذكره في أول السورة من قوله: " وان خفتم الاتقسطوا ".

فعلى هذه الاقوال (ما) في موضع خفض بالعطف على الهاء والنون في قوله: " فيهن " والتقدير قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم، وعلى ما قال الفراء: قل الله يفتيكم فيهن مايتلى عليكم في الكتاب وقال آخرون: نزلت الآية في قوم من اصحابه صلى الله عليه وآله سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها، فافتاهم الله فيما سألوه عنه، وفيما تركوا المسألة عنه ذهب اليه محمد بن أبي موسى. ويكون معنى قوله: وما يتلي عليكم في الآية التي بعدها وقيل: هم اليتامى الصغار من الذكور والاناث. وما بعدها قوله: " وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا " والذي سألوا عنه، فاجيبوا ما كتب الله لهن من الميراث في آية الميراث. واختار الطبري أن يكون المراد به آيات الفرائض قال: لان الصداق ليس مما كتب الله للنساء الا بالنكاح، فما لم تنكح فلا صداق لها عند احد.

[345]

وقوله: " والمستضعفين من الولدان " في موضع جر وتقديره وفي المستضعفين من الولدان. وقيل هم اليتامى الصغار من من الذكور والاناث، لانهم كانوا لايورثون الصغار من الذكور حتى يبلغ.

" وان تقوموا لليتامى " والمعنى وفي ان تقوموا لليتامى بالقسط على ماقاله في قوله: " وان خفتم ان لاتقسطوا في اليتامى ": فامرهم أن يؤتوا المستضعفين من الولدان حقوقهم من الميراث، ويعدلوا فيهم، ويعطونهم ما فرضه الله لهم في كتابه. وبه قال السدي، وابن زيد، ومجاهد، وابن عباس.

وقوله: " وترغبون ان تنكحوهن " معناه ترغبون عن أن تنكحوهن. وقال الحسن في قوله: " والمستضعفين من الولدان " قال: يعني في يتامى النساء اللاتى لاتؤتونهن أي الايأكلوا اموالهم إلا بالقسط، يعني بالعدل.

وقال عبيدة السليمانى فيما رواه ابن سيرين عنه ان معنى " وترغبون ان تنكحوهن " ترغبون فيهن. وفي رواية ابن عون عن ابن شيرين يرغبون عنهن.

وقال الحسن: يرغبون عنهن وكان عيينة بن حضن يقول: يامحمد أتعطي الوالدان المال؟ وانما يأخذ المال من يقاتل ويجوز الغنيمة، فنزل قوله: " والمستضعفين من الولدان ".

وقوله: " وما تفعلوا من خير فان الله كان به عليما " المعنى مهما فعلتم، أيها المؤمنون من عدل في أمر اليتامى التي أمركم الله أن تقوموا، فيهن بالقسط، وأنتهيتم فيه إلى أمره وإلى طاعته، فان الله كان به عالما لم يزل وقيل معناإن الله سيجازيكم عليه كما يقول القائل أنا أعرف لك ما تفعله بمعنى اجازيك عليه.

[346]

قوله تعالى: (وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما ان يصلحا بينهما صلحا والصلح خير واحضرت الانفس الشح وان تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما تعملون خبيرا(128))

آية.

[ القراء‌ة والحجة ]: قرأ اهل الكوفة ان يصلحا بضم الياء وكسر اللام وبسكون الصاد. الباقون يصالحا بتشديد الصاد فمن شدد الصاد، قال معناه يتصالحا ويكون قوله: (صلحا) اسما لامصدرا ومن قرأ بخلافه قال: هومصدر.

[ المعنى ]: يقول الله تعالى: " وان امرأة خافت " ومعناه علمت " من بعلها "، أي زوجها " نشوزا " يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها.

وارتفاعا بها عنها: إما لبغضه، واما لكراهة منه شيئا منها إما ذمامتها، واماسنها وكبرها، أو غير ذلك " او اعراضا " يعني انصرافا بوجهه او ببعض منافعه التي كانت لها منه " فلاجناح عليهما " أي لاحرج عليهما ان يصالحا بينهما صلحا بان تترك المرأة له يومها، او تضع عنه بعض ما يجب لها. من نفقة او كسوة، وغير ذلك تستعطفه بذلك، وتستديم المقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينهما وبينه من النكاح، ثم قال: " والصلح " بترك بعض الحق استدامة للخدمة، وتمسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة، وقال بعضهم: الصلح خير من النشوز، والاعراض والاول أشبه. هذا إذا كان بطيبة من نفسها، فان لم يكن كذلك، فلايجوز له الا ما يسوغ في الشرع من القيام بالكسوة والنفقة، والقسمة وإلا يطلق.

وبهذه الجملة قال علي عليه السلام، وعمر وابن عباس، وسعد بن جبير وعائشة وعبيدة السلماني، وابراهيم والحكم وقتادة، ومجاهد وعامر الشعبي والسدى، وابن زيد قال ابن عباس: خشيت سودة بنت زمعة ان يطلقها رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت لاتطلقنى واجلسنى مع نسائك ولانقسم لي، فنزلت " وان امرأة خافت من بعلها نشوزا او اعراضا " وقال سعيد بن المسيب عن سليمان بن يسار.

[347]

ان رافع بن خديج كانت تحته امرأة قد علا من سنها، قال أبوجعفر (ع) هي بنت محمد بن مسلمة، فتزوج عليها شابة فآثر الشابة عليها، فابت الاولى أن تقر على ذلك، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسيرا قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الاثرة، وان شئت تركتك حتى يخلو أجلك، ثم طلقها الثانية، وفعل فيها ما فعل اولا، قالت: بل راجعنى واصبر على الاثرة، فراجعها. فذلك الصلح الذي بلغنا ان الله أنزل فيه " وان امرأة خافت. الآية ".

وقوله: " واحضرت الانفس الشح وان تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما تعملون خبيرا " واختلفوا في تأويله فقال بعضهم واحضرت الانفس النساء الشح على انصبائهن من انفس ازواجهن واموالهم وايامهن منهم.

ذهب اليه ابن عباس وسعد بن جبير وعطا، وابن جريج والسدي. ويزعم انها في سورة بنت زمعة، ورسول الله صلى الله عليه وآله لانها كانت كبرت، فاراد رسول الله صلى الله عليه وآله ان يطلقها، فاصطلحا على ان يمسكها ويجعل يومها لعائشة، فشحت بمكانها من رسول الله صلى الله عليه وآله.

وقال آخرون: واحضرت انفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه. وهو اعم فيكون شح المرأة بترك حقها من النفقة والقسمة وغير ذلك وشح الرجل إنفاقه على التي لايريدها، وبذلك قال ابن وهب، وابن زيد.

والشح: افراط في الحرص على الشئ ويكون بالمال وبغيره من الاعراض يقال: هو شحيح بمودتك اي حريص على دوامها ولايقال في ذلك بخيل والبخل يكون بالمال خاصة.

قال الشاعر:

لقد كنت في قوم عليك اشحة *** بفقدك إلا ان من طاح طائح

يودون لوخاطوا عليك جلودهم *** وهل يدفع الموت النفوس الشحائح(1)

فان قيل: قوله: " وإن امرأة خافت " ليس فيه ان الرجل نشز على امرأة والخوف ليس معه يقين قلنا: عنه جوابان: احدهما - إن الخوف في الآية بمعنى العلم وتقديره، وإن امرأة علمت.

___________________________________

(1) مجمع البيان 2: 119 - طبع صيدا - العقد الفريد 3: 247 - 248.

[348]

والثاني - انها لاتخاف النشوز من الرجل إلا وقد بدأ منه ما يدل على النشوز والاعراض من أمارات ذلك ودلائله.

وقوله: " وإن امرأة خافت " ارتفعت المرأة بفعل مضمر دل عليه ما بعد الاسم، وتقديره وإن خافت امرأة خافت والتفرقة بين ان التي للجزاء(1) والفعل الماضي قال الزجاج هو جيد، ولايجوز ذلك في الفعل المستقبل.

لاتقول: ان امرأة تخف، (ان) لاتفصل بينهما وبين ما يجزم ويجوز ذلك في ضرورة الشعر قال الشاعر:

فمتى واغل بينهم يحيوه *** ويعطف عليه كاس الساقي(2)

وانما جاز في الماضي مع الاختيار، لان (ان) غير عاملة في لفظه وان لم تكن من(3) حروف الجزاء، فجاز أن يفرق بينهما وبين الفعل، وغير ان يقبح فيه الفصل مع الماضي والمستقبل لاتقول: متى زيد جاء‌نى اكرمته، ويجوز ان تقول: إن الله أمكنني فعلت.

وقوله: " وان تحسنوا " خطاب للرجال يعني ان تفعلوا الجميل بالصبر على من تكرهون من النساء، وتتقوا من الجور عليهن في النفقة والعشرة بالمعروف، فان الله عالم بذلك. وكان عالما بما تعملون فيما قبل فيجازيكم على ذلك.

قوله تعالى: (ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وان تصلحوا وتتقوا فان الله كان غفورا رحيما(129))

آية بلاخلاف.

___________________________________

(1) في المطبوعة (التي الجزاء).

(2) لسان العرب: (وغل) ومجمع البيان 2: 119 الواغل: الداخل على القوم في طعامهم - وقيل: في شرابهم - دون أن يدعوه أو نفق معهم: وفي رواية أخرى: وتعطف على كف الساقى.

(3) في المطبوعة (وان أم حروف الجزاء).

[349]

المعنى: نفى الله تعالى في هذه الآية ان يقدر احد من عباده على التسوية بين النساء والازواج في حبهن والميل إليهن حتى لايكون ميله إلى واحدة منهن الامثل ما يميل إلى الاخرى. لان ذلك تابع لما فيه من الشهوة، وميل الطبع. وذلك من فعل الله تعالى، ولاصنع للخلق فيه، وان حرص على ذلك كل الحرص. وليس يريد بذلك نفي القدرة على التسوية بينهن في النفقة، والكسوة والقسمة، لانه لوكان كذلك لما امر الله تعالى بالتسوية في جميع ذلك، لانه تعالى لايكلف العبد مالا يطيقه. كما قال: " لايكلف الله نفسا الا وسعها "(1) وقال: " لايكلف الله نفسا الاما اتاها "(2) ولاتجوز المناقضة في كلامه تعالى.

ولو حملنا على انه نفى الاستطاعة في التسوية بينهن في النفقة، جاز أن يكون المراد به ان ذلك لايخف عليكم بل يثقل ويشق عليكم تسويتهن، لميلكم إلى بعضهن، فاباح الله تعالى حينئذ ورخص ان يفضل بعضهن على بعض في مازاد على الواجب من القسمة والنفقة، ولايؤاخذه بذلك.

وقوله: " فلا تميلوا كل الميل " معناه فلا تعدلوا باهوائكم عمن لم تملكوا محبته منهن كل الميل حتى يحملكم ذلك على ان تجورواعلى صواحبها في ترك اداء الواجب لهن عليكم من حق القسمة، والنفقة والكسوة، والعشرة بالمعروف، " فتذروها كالمعلقة "، يعني تذورا التي لاتميلون اليها كالمعلقة يعني كالتي هي لاذات زوج، ولاهي ايم. وبه قال مجاهد وعبيدة، والحسن وابن عباس، وقتادة وابن زيد والضحاك وسفيان، والطبري والجبائي والبلخي وغيرهم. وهوالمروي عن ابي جعفر (عليه السلام) وابى عبدالله (عليه السلام).

وروى ابوملكية أن الآية نزلت في عائشة وروى ابوقلابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه كان يقسم بين نسائه ويقول: اللهم هذه قسمتي في ما املك فلا تلمنى فيما تملك، ولااملك.

وقوله: " وان تصلحوا " يعني في القسمة بين الازواج والتسوية بينهن في النفقة،

___________________________________

(1) سورة البقرة، آية 286.

(2) سورة الطلاق، آية 7.

[350]

والكسوة والعشرة بالمعروف، وتتركوا الميل(1) الذي نهاكم الله عنه، من تفضيل واحدة على الاخرى في ذلك، " فان الله كان غفورا رحيما " تستر عليكم ما مضى منكم من الحيف في ذلك اذا تبتم، ورجعتم إلى الاستقامة والتسوية بينهن، ويرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك، وكذلك كان يفعل فيما مضى مع غيركم يعني في قبول التوبة من(2) كل تائب مقلع نادم على مافرط وروي عن علي (عليه السلام) انه كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لايتوضأ في بيت الاخرى.

وروي عن جعفر بن محمدعن ابيه عن ابائه (عليهم السلام) ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف [ به ](3) بينهن، وكان معاذ بن جبل له امرأتان ماتتافي الطاعون أقرع بينهما ايهما تدفن قبل الاخرى؟.

___________________________________

(1) المطبوعة (وكل).

(2) من ساقطة المطبوعة.

(3) (به) ساقطة من المطبوعة والتصحيح عن مجمع البيان والسياق يقتضي ذلك أيضا.

الآية: 130 - 139

قوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما(130))

آية.

[ المعنى ]: إن الزوجين اللذين تقدم ذكرهما، متى أبى كل واحد منها مصالحة الآخر فإن تطالب المرأة بنصيبها من القسمة والنفقة والكسوة ويمتنع الزوج من اجابتها التى ذلك، لميله إلى الاخرى ومحبته لها، أو لصغر سنهاأو جمالها ويتفرقا حينئذ بالطلاق، فان الله يغني كل واحدمنهما من سعته يعني من فضله ورزقه " وكان الله واسعا حكيما " يعني كان لم يزل هكذا واسع الفضل على عباده، رحيما بهم في مايدبرهم به وفي الآية دليل على ان الارزاق كلها بيدالله وهو الذي يتولاها

 [351]

لعباده وإن كان ربما أجراها على يدي من يشاء من عباده وقال ابن عباس: " كلامن سعته " يعني من رزقة وهذه الجملة بهاقال مجاهد وجميع المفسرين.

قوله تعالى: (ولله مافي السماوات وما في الارض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم ان اتقوا الله وإن تكفروا فان الله مافي السماوات وما في الارض وكان الله غنيا حميدا(131) ولله ما في السماوات وما في الارض وكفى بالله وكيلا(132) ان يشأ يذهبكم ايها الناس ويات باخرين وكان الله على ذلك قديرا(133) من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا(134))

اربع آيات.

لما ذكر الله قوله: وان يتفرقا يغن الله كلا من سعته بين في هذه الآية بان له ملك ما في السموات وما في الارض، لايتعذر عليه إغناء كل واحد من الزوجين عند التفرق، وإيناسه من وحشته ثم رجع إلى توبيخ من سعى في أمر بني أبيرق وتعنيفهم، ووعيد من فعل فعل المرتد منهم، فقال: ولقد وصينا أهل التوراة والانجيل وهم الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أي وأمرناكم أيضا أيها الخلق " ان اتقوا الله " والتقدير بان اتقوا الله وأحذروا أن تعصوه، وتخالفوا أمره ونهيه " وإن تكفروا " يعني تجحدوا وصيته إياكم أيها المؤمنون، فتخالفوها، " فان لله ما في السموات وما في الارض " يعني له ملك ما فيهما، فلايستحضر بخلافكم وصيته ولاان تكونوا أمثال اليهود والنصارى، بل تضرون انفسكم بما يحل بكم من عقابه، وغضبه " وكان الله غنيا " لم يزل، غير محتاج إلى خلقه وإن الخلق

[352]

هم المحتاجون إليه " حميدا " يعني مستوجب الحمد عليكم بصنائعه الحميدة إليكم، والائه الجميلة، فاستدعوا ذلك باتقاء معاصيه، والمسارعة إلى طاعته فيما يامركم به وهذه الجملة مروية عن علي (عليه السلام) وهو قول جميع المفسرين، ثم قال: " ولله ما في المسوات وما في الارض " بمعنى له ملك ما فيهما، وهو القيم بجميعه والحافظله لايغرب عنه علم شئ ولايؤوده حفظه وتدبيره " وكفى بالله وكيلا " يعني كفى الله حافظا.

فان قيل لم كرر قوله: " ولله ما في السموات وما في الارض " الآيتين، احداهما عقيب الاخرى؟ قلنا: لاختلاف الخبرين: الاول في الآية الاولى عن حاجة الخلق إلى بارئه، وغناه تعالى عن خلقه، وفي الثانية حفظ الله تعالى إياهم وعلمه بهم، وتدبيره لهم فان قيل: هلا قال: وكان الله غنيا حميدا أو كفى به وكيلا؟ قيل: ما ذكره في الآية الاولى يصلح ان يختم به وصف الله تعالى بالغناء وأنه محمود، ولم يذكر فيها ما يقتضي وصفه بالحفظ والتدبير، فلذلك كرر قوله: " ولله ما في السموات ".

وقوله: " ان يشأ يذهبكم " معناه، ان يشأ الله ايها الناس ان يهلككم، ويفنيكم ويأت بقوم آخرين غيركم ينصرون نبيه محمد صلى الله عليه وآله ويؤازرونه، كان الله تعالى على ذلك قديرا، فوبخ تعالى بهذه الآيات الخائنين الذين خانوا الدرع(1) وساعدوهم على ذلك، ودافعوا عنهم وحذر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله أن يكونوا مثلهم وان يفعلوا فعل المرتد منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين وبين أن من فعل ذلك لايضر إلا نفسه، لانه المحتاج إليه (تعالى) وغناه عنه (عزوجل) وعن جميع الخلق وروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه لما نزلت هذه الآية ضرب بيده علي ظهر سلمان، فقال: هم قوم هذا رواه ابوهريرة عن النبي صلى الله عليه وآله، ثم أخبر (تعالى) من كان ممن أظهر الايمان بمحمد صلى الله عليه وآله من أهل النفاق الذين يبطنون الكفر، ويظهرون الايمان. يريد ثواب الدنيا يعني عرض الدنيا باظهاره بلسانه في الايمان، " فعندالله ثواب الدنيا " يعني جزاؤه في الدنيا منها، وثوابه فيها هو ما يأخذ من الفئ والغنيمة إذا شهد مع

___________________________________

(1) - انظر تفسير آية(105) من سورة النساء.

[353]

المسلمين الحرب، وأمنه على نفسه وماله وذريته. وأما ثوابه في الآخرة فنار جهنم.

" وكان الله سميعا بصيرا " يعني انه كان لم يزل على صفة يجب ان يسمع المسموعات إذا وجدت، ويبصر المبصرات إذا وجدت. وهذه الصفة هي كونه حيا لاآفة فيه والصفة حاصلة له في الازل والافات مستحيلة عليه، فوجب وصفه بانه سميع بصير وانما ذكر هاهناذلك، ليبين ان مايقوله المنافقون اذالقوا المؤمنين فان الله يسمعه ويعلمه وهوقولهم: إنا مؤمنون بصيرابما يضمرونه وينطوون عليه من النفاق. وموضع كان في قوله: " من كان " جزم، لانه شرط والجواب الفاء. وارتفعت (يريد) لانه ليس فيها حرف عطف كما قال: " من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف اليهم اعمالهم فيها "(1) وقال: " من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها "(2) جزم، لانه جواب الشرط.

قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم أو الوالدين والاقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله اولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلووا او ترضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا(135))

آية.

القراء‌ة والحجة: قرأابن عامر وحمزه (وإن تلوا) بضم اللام، بعدها واو واحدة ساكنة. الباقون يسكنون اللام بواوين بعدها أولهما مضمومة. حجة من قرأبواو واحدة أن قال: إن ولاية الشئ اقبال عليه وخلاف الاعراض عنه.

والمعنى ان تقبلوا أو تعرضوا فإن الله بما تعملون خبيرا فيجازي المحسن المقبل باحسانه، والمسئ المعرض

___________________________________

(1) سورة هود، آية 10.

(2) سورة الشورى، آية 20.

[354]

باعراضه وتركه الاقبال على مايلزمه ان يقبل عليه قال: ولو قرأت بالواوين، لكان فيه تكرار، لان اللي كالاعراض ألاترى ان قوله: " لووا رؤسهم ورايتهم يصدون "(1) معناه أعراض منهم، وترك الانقياد للحق ومثله " ليا بالسنتهم "(2) معناه أنحراف وأخذ فيما لاينبغي ان يأخذوا به.

وحجة من قرأ بالواوين من لووا ان تقول لايمتنع ان تتكرر اللفظتان المختلفتان بمعنى واحد على وجه التأكيد، كقوله: " فسجد الملآئكة كلهم اجمعون " وكقول الشاعر:

وهنداتى من دونها *** النأي والبعد(3)

وقول آخر: والفى قولها كذبا ومينا وقالوا: أيضا يجوزان يكون تلوا كان أصله تلووا، وان الواو التي هي عين همزت لانضمامها، كما همزت في قوله: (أدروا) والقيت حركة الهمزة على اللام التي هي فاء، فصار تلوا اجاز ذلك الزجاج والفراء وأبوعلي الفارسي.

المعني واللغة: ومعنى الآية ان الله تعالى لما حكى عن الذين سعواإلى رسول الله في امربني أبيرق وقيامهم لهم بالعذر، وذبهم عنهم من حيث كانوا أهل فقر وفاقة، أمر الله المؤمنين ان يكونوا " قوامين بالقسط " يعني بالعدل والقسط، والاقساط: العدل يقال: أقسط الرجل إقساطا إذا عدل وأتى بالقسط وقسط ويقسط قسوطا: إذا أجار وقسط البعير يقسط قسطا إذا يبست يده ويد قسط، أي يابسة " شهد الله " وهو جمع شهيد ونصب شهداء على الحال من الضمير في قوله: (قوامين) وهو ضمير الذين آمنوا.

وقوله: " ولو على انفسكم " يعني ولوكانت شهادتكم على انفسكم أو على والديكم أو على أقرب الناس اليكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها، وقولوا فيها الحق، ولاتميلوا فيها لغنى غني، ولافقر فقير، فتجوروا، فان الله قد سوى بين الغني والفقير فيما ألزمكم من أقامه الشهادة لكل واحد منهما بالعدل، وهو

___________________________________

(1) سورة المنافقون آية 5.

(2) سورة النساء، آية 45.

(3) قائله الحطيئة صدر البيت: الا حبذا هند وأرض بها هند

[355]

تعالى أولى بهما وأحق، لانه مالكهما والههما دونكم وهواعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك، وفي ذلك، وفي غيره من الاموركلها منكم، فلا تتبعوا الهوى في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغني وفقير إلى احدهما، فتعدلوا عن الحق أي تجوزوا عنه وتضلوا ولكن قوموا بالقسط، وأدوا الشهادة على ماامركم الله عزوجل بادائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله، فان قيل كيف تكون شهادة الانسان على نفسه حتى يامر الله تعالى بذلك، قلنا: بان يكون عليه حق لغيره، فيقر له ولايجحده، فادب الله تعالى المؤمنين ان يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا، وخيانتهم ما خانوا واضافتهم ذلك إلى غيرهم فهذا اختيار الطبري.

وقال السدي: انها نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وقد اختصم اليه رجلان غني وفقير، فكان ضلعه(1) مع الفقير، لظنه أن الفقير لايظلم الغني، فابى الله تعالى إلا القيام بالقسط في أمر الغني والفقير قال: " ان تكن غنيا او فقيرا فالله أولى بهما " وهذا الوجه فيه بعد، لانه لايجوز على النبي صلى الله عليه وآله في الحكم ان يميل إلى احد الخصمين سواء كان غنيا أو فقيرا فان ذلك ينافي عصمته وقال ابن عباس: أمرالله سبحانه المؤمنين أن يقولوا الحق ولو على انفسهم، او ابنائهم، ولايجابوا غنيا لغناه، ولامسكينا لمسكنته وهذا هو الاولى، لانه أليق بالظاهر من غير عدول عنه.

وفي الآية دلاله على جواز شهادة الوالد لولده والولد لوالده، وكل ذي قرابة لمن يقرب منه، فقال ابن شهاب: كان سلف المسلمين على ذلك حتى دخل الناس فيما بعدتهم، وظهرت فيهم امور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتم إذا كان من اقربائهم وجاز ذلك من الولد والوالد والاخ والزوج والمرأة وبمعنى قول ابن عباس، قال قتادة، وابن زيد.

وقوله: " فالله اولى بهما " إنما ثنى، ولم يقل به لانه أراد " فالله اولى بغناء الغني وفقر الفقير) لان ذلك منه تعالى وقال قوم: لم يقصد غنيا بعينه، ولافقيرا بعينه وهومجهول وما ذلك حكمه جاز الرد عليه التوحيد والتثنية والجميع.

[356]

وفي قراء‌ة ابي " فالله اولى بهم " وقال قوم: (او) بمعنى الواو في هذا الموضع، فلذلك ثنى وقال آخرون: جاز تثنية قوله " بهما "، لانهما قدذكرا، كما قيل: وله اخ أو أخت فلكل واحد منهما وقيل جازذلك، لانه أضمر فيه (من) كانه قال: وله أخ او اخت إن يكون من خاصم غنيا او فقيرا، بمعنى غنيين أو فقيرين " فالله اولى بهما ".

وقوله: " فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا " يحتمل ثلاثة اوجه: احدها - لاتتبعوا الهوى في ان تعدلوا عن الحق، فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحق.

والثاني - ان يكون التقدير لاتتبعوا اهوآء انفسكم هربا من ان تعدلوا في إقامة الشهادة.

والثالث - فلاتتبعوا الهوى، لتعدلوا، كما يقال: لاتتبع هواك لترضي ربك، بمعنى انهاك عنه كيما ترضى ربك بتركه. ذكره الفراء والزجاج.

وقوله: " وإن تلووا أو تعرضوا " اختلفوا في تأويله فقال قوم: معناه وان تلووأ ايها الحكام في الحكم لاحد الخصمين على الاخر، او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا وحملوا الاية على انها نزلت في الحكام ذهب اليه السدي على ماقال: إنها نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وروي عن ابن عباس انه قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لي القاضي واعراضه لاحدهما على الاخر وقال اخرون: معناه وان تلووا ايها الشهداء في شهادتكم، فتحرفوها، فلا تقيموها أو تعرضوا عنها، فتتركوها ذهب اليه ابن عباس ومجاهد وقال مجاهد: معنى تلووا تبدلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها وهوقول ابي جعفر (ع) وبه قال ابن زيد والضحاك وأولى التأويلين قول من قال: إنه لي الشهادة لمن شهد له أو عليه بان يحرفها بلسانه أو يتركها، فلا يقيمها، ليبطل بذلك شهادته وأعراضه عنها فلو ترك اقامتها فلا يشهد بها.

وسياق الآية يدل على ما قال ابن عباس وقوله: " فان الله كان بما تعملون خبيرا " معناه انه كان عالما بها يكون منهم من اقامة الشهادة، وتحريفها والاعراض عنها، واللي

[357]

هوالمطل لما يجب من الحق قال الاعشى:

يلوينني ديني النهار واقتضي *** ديني إذا رقد النعاس الرقدا(1)

___________________________________

(1) ديوانه من قصيدة قالها لكسرى حين اراد منهم رهائن لما أغار الحارث بن وعلة على بعض السواد ورقمها: 34. يلوينني: يمطلنني.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21334209

  • التاريخ : 28/03/2024 - 12:24

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net