00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النحل من ( آية 51 ـ آخر السورة ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السادس )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: (وقال الله لاتتخذوا إلهين اثنين إنماهو إله واحد فإياي فارهبون(51) وله مافي السموات والارض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون(52))

آيتان بلاخلاف

يقول الله تعالى ناهيا لعباده " لاتتخذوا إلهين اثنين " اي لاتعبدوا مع الله غيره، فتشركوا بينهما في العبادة. ثم اخبر انه إله واحد لا اكثر منه، لان لفظة (إنما) تفيد ثبوت الاله الواحد، ونفي مازاد عليه على مابيناه فيما مضى.

وقوله " فأياي فارهبون " معناه ارهبوا عقابي وسخطي فلا تتخذوا معي إلهاآخر ومعبودا سواي.

___________________________________

(1) سورة التحريم آية 6

[390]

وفي قوله " اثنين " بعد قوله " إلهين " قولان: احدهما - أنه قال ذلك تأكيدا، كماقال " إله واحد " تأكيد ا. والثاني - ان يكون المعنى لاتتخذوا إثنين إلهين، فقدم وأخر وكلاهما جائزان.

وقوله " وله مافي السماوات والارض " معناه انه يجب علينا ان نتقي عقاب من يملك جميع مافي السموات والارض، لانه مالك الضر والنفع.

ومعنى قوله " وله الدين واصبا " قال ابن عباس: يعني دائما اي طاعته واجبة على الدوام، وبه قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة ابن زيد، ومنه قوله " ولهم عذاب واصب "(1) يقال منه: وصب الدين يصب وصوبا، ووصبا، قال أبوالاسود الدؤلي:

لاأبتغي الحمد القليل بقاؤه *** يومابذم الدهر أجمع واصبا(2)

وقال حسان:

غيرته الريح تسفي به *** وهزيم رعده واصب(3)

والوصب الالم الذي يكون عن الاعياء بدوام العمل مدة، يقال: وصب الرجل يوصب وصبا، فهو وصب قال الشاعر:

لايغمز الساق من اين ولا وصب *** ولايعض على شر سوفه الصفر(4)

وقيل: المعنى وله الطاعة، وان كان فيها الوصب، وهوالشدة والتعب.

___________________________________

(1) سورة الصافات آية 9.

(2) تفسير الطبري: 14: 74 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 160 ومجمع البيان 3: 365.

(3) ديوانه (دار بيروت) 21 وتفسير الطبري 14: 74.

(4) تفسير الطبري 14: 74

[391]

قوله تعالى: (ومابكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون(53) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون(54) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون(55))

ثلاث آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى لخلقه إن جميع النعم التي تكون بكم ولكم، من صحة في جسم وسعة في رزق او ولد، فكل ذلك من عند الله، ومن جهته وبخلقه لها وبتمكينكم من الانتفاع بها.

والفاء في قوله " فمن الله " قيل في معناه قولان: احدهما - ان تكون (ما) بمعنى الذي، وفيه شبه الجزاء، كما قال تعالى " قل ان الموت الذي تفرون منه فانه ملاقيكم "(1) ويقول القائل: مالك هو لي ولايجوز ان يقول مالك فهو لي، لانه خبر ليس على طريق الجزاء.

والقول الثاني على حذف الجزاء، وتقديره مايكن بكم من نعمة فمن الله.

وقوله " ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " معناه متى ما لحقكم ضر وبلاء، وألم، وسوء حال، تضرعون اليه تعالى بالدعاء، وهوقول مجاهد.

وأصل ذلك من جؤار الثور، يقال: جأر الثور يجأر جؤارا إذا رفع صوته، من جوع او غيره قال الاعشى:

وماأيبلي على هيكل *** بناه وصلب فيه وصارا

يراوح من صلوات الملي‍ *** - ك طورا سجودا وطورا جؤارا(2)

وقال عدي بن زيد:

انني والله فاقبل حلفتي *** بابيل كلما صلى جأر(3)

وقوله " ثم إذا كشف الضر عنكم اذا فريق منكم بربهم يشركون " اخبار منه تعالى انه اذاكشف ضر من يجأر اليه ويخضع له، ويرفع البلاء عنه، يصير - طائفة من الناس - يشركون بربهم في العبادة جهلا منهم بربهم، ومقابلة للنعمة التي

___________________________________

(1) سورة الجمعة آية 8.

(2) ديوانه (دار بيروت) 84 واللسان (أبل) ذكر البيت الاول فقط.

(3) اللسان (ابل) وروايته (فاسمع حلفي).

[392]

هي كشف الضر بمعصية الشرك. وهذا غاية الجهل.

وقوله " ليكفروا بما آتيناهم " اي ليكفروا بآيات إنعمنا عليهم، ورزقنا إياهم، فمعنى اللام في " ليكفروا " هو البيان عماهو بمنزلة العلة التي يقع لاجلها الفعل، لانهم بمنزلة من اشركوا في العبادة ليكفروا بما أوتوا من النعمة، كأنه لاغرض لهم في شركهم إلا هذا، مع ان شركهم في العبادة يوجب كفر النعمة بتضييع حقها، فالواجب في هذا ترك الكفر إلى الشكر لله تعالى.

وقوله " فتمتعوا فسوف تعلمون " تهديد منه تعالى، لان المعنى تمتعوا بمافيه معصية له تعالى، فسوف تعلمون عاقبة امر كم من العقاب الذي ينزل بكم، وحذف لدلالة الكلام عليه، وهو ابلغ.

قوله تعالى: (ويجعلون لما لايعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون(56) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم مايشتهون(57))

آيتان بلاخلاف.

يقول الله تعالى إن هؤلاء الكفار " يجعلون لما لا يعلمون نصيبا " معناه إنهم يجعلون لما لا يعلمون انه يضر، ولاينفع " نصيبا مما رزقناهم " يتقربون " اليه، كما يجب ان يتقربوا إلى الله تعالى، وهو ماحكى الله عنهم في سورة الانعام " من الحرث والانعام " وغير ذلك " فقالوا هذالله بزعمهم وهذا لشركائنا " فجعلوا نصيبا لله ونصيبا للاصنام، وهوقول مجاهد وقتادة وابن زيد.

ثم أقسم تعالى فقال " تالله لتسئلن " سؤال التوبيخ، لاسؤال الاستفهام " عما كنتم تعملون " في دار الدنيا لتلزموا به الحجة وتعاقبوا بعد اعترافكم على انفسكم. وانما كان سؤال التوبيخ، لانه لا جواب لصاحبه الامايظهر به فضيحته.

___________________________________

(1) سورة الانعام اية 136

[393]

ثم اخبر تعالى عنهم بأنهم يجعلون لله البنات، لانهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله، كماقال تعال " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا "(1) فقال تعالى تنزيها لنفسه عما قالوه " سبحانه " اي تنزيها له عن اتخاذ البنات.

وقوله " ولهم مايشتهون " (ما) في قوله " ولهم ما " يحتمل وجهين من الاعراب: احدهما - أن يكون في موضع نصب، والمعنى ويجعلون لهم البنين الذين يشتهون. والثاني - ان يكون في موضع رفع والتقدير ولهم البنون، على الاستئناف.

قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم(58) يتوارى من القوم من سوء مابشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء مايحكمون(59) للذين لايؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم(60))

ثلاث آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى مخبرا عن هؤلاء الكفار الذين جعلوا لله البنات ولانفسهم البنين. انهم متى بشر واحد منهم بأنه ولد له بنت " ظل وجهه مسودا " أي يتغير لذلك وجهه و (ظل) يقال لمايعمل صدر النهار، يقال: ظل يفعل كذا ومثله أضحى، غير انه كثر، فصار بمنزلة قولهم: أخذ يفعل، تقول: ظللت أظل ظلولا، ذكره الفراء.

وقوله " وهو كظيم " قال ابن عباس: معناه وهو حزين.

___________________________________

(1) سورة الزخرف آية 19

[394]

وقال الضحاك: كئيب، وهو المغموم الذي يطبق فاه، ولا يتكلم للغم الذي به، مأخوذ به الكظامة وهو سد فم القربة.

وقوله " يتوارى من القوم " أي يختبئ ويختفي من القوم " من سوء مايشربه " من الانثى، تميل نفسه بين أن " يمسكه على هون " أي على هوان ومشقة، ومنه قوله " عذاب الهون "(1) وهي لغة قريش، قال الشاعر: فلست بوقاف على هون(2) وقال الحطيئة:

فلما خشيت الهون والعير ممسك *** على رغمه ماأثبت الخيل حافره(3)

وبعض تميم يجعلون الهون من الشئ اللين، قال سمعت من بعضهم إن كان لقليل فهو هون المؤنة، فاذا قالوا أقبل يمشي على هون، لم يقولوا إلا بفتح الهاء، ومنه قوله " وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا "(4) قال المبرد: الهون بضم الهاء لا أعرفه في الرفق، وانما هو بفتح الهاء، كما يقال: سر عليه هونا أي رفقا " أم يدسه في التراب " أي هو يميل بين إمساكه على مذلة او دفنه حيا في التراب.

ثم أخبر تعالى فقال " ألا ساء مايحكمون " اي بئس الحكم الذي يحكمون، يجعلون لنفوسهم مايشتهون، ويجعلون لله مايكرهونه ! !.

ثم قال تعالى " للذين لايؤمنون " اي لايصدقون بالبعث والنشور والدار الآخرة " مثل السوء.

ولله المثل الاعلى " اي لهم بذلك وصف سوء، ولله الوصف الاعلى، من اخلاص التوحيد، ولاينافي هذا قوله " فلاتضربوا لله الامثال "(5) لانه بمعنى الامثال التي توجب الاشباه، فأما الامثال التي يضربها الله للناس لما فيها من الحكمة من غير تشبيه له تعالى بخلقه، فحق وصواب، كما قال تعالى " وتلك الامثال نضربها للناس ومايعقلها إلا العالمون "(6) قال الرماني: وفي الآيات دلالة

___________________________________

(1) سورة الانعام آية 93 وسورة الاحقاق اية 20.

(2) لم أجده فيما رجعت اليه.

(3) مجمع البيان 3 / 366.

(4) سورة الفرقان اية 63.

(5) سورة النحل اية 74.

(6) سورة العنكبوت اية 43

[395]

على انه لايجوز ان يضاف اليه تعالى الادون بدلا من الاصلح، لان اختيار الادون على الاصلح صفة نقص، وقد عابهم الله بإضافة مالايرضونه لنفوسهم إلى ربهم، وهو قولهم: الملائكة بنات الله، فكما لايرضى الانسان لنفسه النقص الذي فيه، فهو ينفيه عنه، وعظماء الناس واجلاؤهم يرفعون نفوسهم عن صفات الادنى، دون العليا، فينبغي ان ينزه تعالى عن مثل ذلك.

وقوله " وهوالعليم الحكيم " معناه عالم بوضع الاشياء في مواضعها، حكيم في انه لايضعها الافي ماهو حكمة وصواب.

قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ماترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون(61) ويجعلون لله مايكرهون وتصف السنتهم الكذب أن لهم الحسنى لاجرم أن لهم النار وأنهم مفرطون(62) تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم(63))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ نافع " مفرطون " بكسر الراء والتخفيف، من الافراط في الشئ اي الاسراف، بمعنى انهم مسرفون.

وقرأ ابوجعفر مثل ذلك بالكسر غير انه شدد الراء من التفريط في الواجب.

وقرأ الباقون بفتح الراء والتخفيف، ومعناه انهم متروكون في النار منسيون فيها - في قول قتادة ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك - وقال الحسن وقتادة - في رواية اخرى - ان المعنى انهم مقدمون بالاعجال إلى النار، وهومن قول العرب: افرطنا فلان في طلب الماء، فهو

[396]

مفرط اذا قدم لطلبه، وفرط فهو فارط اذا تقدم لطلبه، وجمعه فراط، قال القطامي:

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا *** كما تعجل فراط لوراد(1)

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (انا فرطكم على الحوض) اي متقدمكم وسابقكم حتى تردوه.

ومنه يقال في الصلاة على الصبي الميت: اللهم اجعله لنا ولابويه فرطا.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (انا والنبيون فراط العاصين) اي المذنبين، والتأويل الاول من قول العرب: ماأفرطت ورائي احدا اي ماخلفت ولا تركت. والمعنى يرجع إلى التقدم اي ماتقدمت احدا ورائي.

اخبر الله تعالى انه لوكان ممن يؤاخذ الكفار والعصاة بذنوبهم، ويعاجلهم بعقوباتهم واستحقاق جناياتهم وظلمهم " لماترك " على وجه الارض احدا، ممن يستحق ذلك من الظالمين. وانما يؤخرهم تفضلا منه ليراجعوا التوبة، او لما في ذلك من المصلحة لباقي المكلفين والاعتبار بهم، فلاتغتروا بالامهال، انكم مثلهم في استحقاق العقاب على ظلمكم.

وقيل في وجه تعميمهم بالهلاك مع ان فيهم مؤمنين قولان: احدهما - ان الاهلاك وان عمهم فهو عذاب الظالم دون المؤمن، لان المؤمن يعوض عليه. الثاني - ان يكون ذلك خاصة. والتقدير ماترك عليها من دابة من اهل الظلم. وقيل ان المعنى أنه لو هلك الآباء بكفرهم لم يوجد الابناء.

وقوله " ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى " يعني الاجل الذي قدره لموتهم وهلاكهم، فاذا جاء ذلك الاجل، لايتقدمون عليه لحظة ولايتأخرون.

وقوله " عليها " يعني على الارض لدلالة قوله " ماترك عليها من دابة " اي دابة عليها لانها تدب على الارض.

وقوله " يجعلون لله مايكرهون " يعني يضيفون إلى الله البنات مع كراهية ذلك لنفوسهم " وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى " فقول (ان) بدل من الكذب، وموضعه النصب.

___________________________________

(1) تفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3 / 165 وتفسير الطبري 14 / 79 واللسان (عجل)

[397]

وقيل في معناه قولان: احدهما - قال الحسن: فيماحكاه الزجاج: ان لهم الجزاء الحسنى. الثاني - قال مجاهد: ان لهم البنين مع جعلهم لله البنات اللاتي يكرهونهن.

ثم قال تعالى " لاجرم أن لهم النار " ومعناه حقا أن لهم النار، في اقوال المفسرين.

وقيل: معناه لابد ان لهم النار، فجرم على هذا اسم، كأنه قال: قطع ان لهم النار وقال بعضهم " جرم " فعل ماض و (لا) رد لكلام متقدم، فكأنه قيل: قطع الحق أن لهم النار.

وقيل: وجب قطعا ان لهم النار.

وقيل: كسب فعلهم أن لهم النار، وانهم مفرطون مقدمون ومعجلون إلى النار.

وقال الخليل: " لاجرم " لايكون الا جوابا، تقول: فعلوا كذا وكذا، فيقال: لاجرم انهم سيندمون قال الشاعر:

ولقد طعنت ابا عيينة طعنة *** جرمت فزارة بعدها ان يغضبوا(1)

اي بعثتهم على ذلك ومثله " لايجر منكم شقاقي "(2) اي لايبعثكم عداوتي " على ان يصيبكم " ومثله " لايجر منكم شنآن قوم على ان لا تعدلوا "(3) ثم اقسم تعالى، فقال " لقد ارسلنا " يعني رسلا إلى امم من قبلك يامحمد " فزين لهم الشيطان اعمالهم " يعني كفرهم وضلالهم وتكذيب رسل الله زينه الشيطان لهم.

وقوله " فهو وليهم اليوم " قيل في معناه قولان: احدهما - انه ناصرهم في الدنيا، لانه يتولى اغواء‌هم وسبب هلاكهم " ولهم عذاب اليم " يوم القيامة. الثاني - انه يوم القيامة وليهم، لانه لايمكنه ان يتولى صرف المكروه عن

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 3 / 423، 5 / 473، 534.

(2) سورة هود آية 89.

(3) سورة المائدة آية 9

[398]

نفسه، فكيف يتولى صرفه عنهم.

ثم اخبر تعالى ان لهم عنده عذابا أليما موجعا مؤلما جزاء على كفرهم ومعاصيهم.

قوله تعالى: (وماأنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون(64) والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها إن في ذلك لاية لقوم يسمعون(65))

ايتان بلا خلاف.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إنا " ما انزلنا عليك الكتاب " يعني القرآن " إلا " وأردنا منك ان تبين " لهم " وتكشف لهم " الذي اختلفوا فيه " من دلالة التوحيد والعدل وصدق الرسل وماأوجبت فيه من الحلال والحرام " وهدى ورحمة " اي أنزلته هدى ودلالة على الحق لقوم يؤمنون.

" هدى ورحمة " نصب على انه مفعول له، ويجوز ان يكون رفعا على الابتداء، وانما اضافه إلى المؤمنين خاصة لانتفاعهم بذلك، وان كان دليلا وحجة للجميع، كماقال في موضع آخر " هدى للمتقين "(1) وقال " انما انت منذر من يخشاها "(2) وان انذر من لم يخشاها.

ثم اخبر تعالى على وجه، من نعمه على خلقه، فقال " والله " المستحق للعبادة هوالذي " انزل من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا " فأحيابه " يعني بذلك؟؟ " الارض بعد موتها " اي احياها بالنبات بعد جدوبها وقحطها، ففي ذلك اعظم دلالة واجل آية " لقوم يسمعون " ذلك ويفكرون فيه ويعتبرون به.

___________________________________

(1) سورة البقرة اية 2.

(2) سورة النازعات آية 45

[399]

قوله تعالى: (وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين(66) ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لاية يلقوم يعقلون(67))

آيتان بلاخلاف.

قرأ نافع وابن عامر وابوبكر عن عاصم " نسقيكم " بفتح النون الباقون بضمها.

والفرق بين اسقينا وسقينا أن معنى اسقيناه جعلناله شرابا دائما من نهر أو لبن او غيرهما، وسقيناه شربة واحدة، ذكره الكسائي قال لبيد:

سقي قومي بني مجد وأسقى *** نميرا والقبائل من هلال(1)

فعلى هذاهما لغتان، والاظهر ماقال الكسائي. عنداهل اللغة.

وقال قوم: سقيته ماء كقوله " وسقاهم ربهم شرابا طهورا "(2) واسقيته سألت الله ان يسقيه وانشد لذي الرمة:

وقفت على ربع لمية ناقتي *** فمازلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه(3) وقيل ان ماكان من الانهار وبطون الاودية، فبالضم.

وقال ابوعبيدة: إذا سقاه مرة يقال سقيته، واذا سقاه دائما يقال أسقيته يقول الله تعالى لخلقه المكلفين " إن لكم في الانعام " يعني الابل والبقر والغنم " لعبرة " ودلالة لانا " نسقيكم ممافي بطونه " وقيل في تذكيره ثلاثة اقوال:

___________________________________

(1) ديوانه 1: 128 ونوادر ابي زيد 213 ومجاز القران 1: 350 واللسان والتاج " سقى " ومجمع البيان 3: 370 .

(2) سورة الدهر اية 21.

(3) ديوانه 213 ونوادر ابي زيد 213 والمحاسن والاضداد للجاحظ 335 ومجمع البيان 3: 333، 359 وتفسير الطبري 14: 14 والتاج واللسان " سقى ".

[400]

احدها - انه رد إلى واحد. لان النعم والانعام بمعنى، قال سيبويه: والاسم الواحد يجئ على (افعال) يقال هو الانعام.

قال تعالى " في بطونه " ذهب إلى أنه اسم واحد بلفظ الجمع، كما أن الخيل اسم مؤنث، لاواحد له، والنعم اسم مذكر للجماعة، لاواحد له، وقال الراجز: وطاب ألبان اللقاح فبرد(1) رده إلى اللبن.

الثاني - انه حمل على المعنى، والتقدير بطون ماذكرنا، كماقال الصلتان العبدي:

إن السماحة والمرؤة ضمنا *** قبرا بمرو في الطريق الواضح(2)

كأنه قال شيئان ضمنا.

الثالث - لانه في موضع (اي) كأنه قال " نسقيكم مما في بطونه " اي من اي الانعام وكان في بطونه اللبن، لانه ليس كلها مما فيه لبنا. وقوله وقوله " من بين فرث ودم لبنا خالصا " فالفرث الثفل الذي ينزل إلى الكرش فبين انه تعالى يخرج ذلك اللبن الصافي، اللذيذ، المشهى من بين ذلك، وبين الدم الذي في العرق النجس " سائغا للشاربين " أي مريئا لهم لاينفرون منه، ولا يشرقون بشربه، وذلك من عجيب آيات الله ولطف تدبيره وبديع حكمته، الذي لايقدر عليه غيره، ولايتأتى من احد سواه.

ثم قال " ومن ثمرات " وهو جمع ثمرة، وهو مايطعمه الشجر، مافيه اللذة والثمرة خاصة طعم الشجر ممافيه اللذة يقال: اثمرت الشجرة إثمارا اذا حملت كالنخلة والكرمة وغيرهما من اصناف الشجر.

وقوله " يتخذون منه سكرا " قيل في معنى السكر قولان:

___________________________________

(1) تفسير الطبري 14: 81 واللسان (جبه)، (خرت) وقبله:

اذا رأيت انجما من الاسد *** جبهته او الخرات والكتد

بال سهيل في الفضيخ ففسد *** وطاب ألبان اللقاح فبرد

(2) تفسير الطبري 14: 81 ومجمع البيان 3: 370

[401]

احدهما - تتخذون منه ما حل طعمه من شراب او غيره، ذكره الشعبي وغيره.

وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وأبي رزين والحسن ومجاهد وقتادة: ان السكر ماحرم من الشراب، والرزق الحسن مااحل منه.

والسكر في اللغة على اربعة اقسام: احدها مااسكر، والثاني ماطعم من الطعام كما قال الشاعر: جعلت عيب الاكرمين سكرا(1) اي طعما، الثالث السكون قال الشاعر: وجعلت عين الحرور تسكر(2) والرابع، المصدر من قولك سكر سكرا، واصله انسداد المجاري بمايلقى فيها ومنها السكر.

وقوله " منه " الكناية راجعة إلى محذوف، قال قوم: تقديره ومن ثمرات النخيل والاعناب ماتتخذون منه، فالهاء كناية عن (ما) المحذوفة وقال آخرون: تقديره ومن ثمرات النخيل والاعناب شئ تتخذون منه. وقد استدل قوم بهذه الاية على تحليل النبيذ بأن قالوا: امتن الله علينا به وعده من جملة نعمه علينا أن خولنا الثمار نتخذ منها السكر، والرزق الحسن. وهو لايمتن بماهومحرم. وهذا لا دلالة فيه لامور: احدها - انه خلاف ماعليه المفسرون، لان احدا منهم لم يقل ذلك، بل كل التابعين من المفسرين، قالوا: اراد ماحرم من الشراب، وقال الشعبي منهم: انه أراد ماحل طعمه من شراب وغيره. والثاني إنه لو اراد بذلك تحليل السكر، لماكان لقوله " ورزقا حسنا " معنى، لان مااحله واباحه، فهو ايضا رزق حسن، فلم فرق بينه وبين الرزق الحسن والكل شئ واحد؟ وانما الوجه فيه انه خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها فاتخذتم انتم منها ماهو محرم عليكم، وتركتم ماهو رزق حسن.

___________________________________

(1 - 2) تفسير الشوكاني 3: 168 وتفسير الطبري 14: 84 (واللسان سكر).

[402]

واما وجه المنة فبالا مرين معا ثابتة، لان مااباحه واحله فالمنة به ظاهرة لتعجل الانتفاع به وما حرمه الله فوجه المنة ايضا ظاهر به، لانه إذا حرم علينا، واوجب الامتناع منه ضمن في مقابلته الثواب الذي هواعظم النعم، فهو نعمة على كل حال.

والثالث - اذا كان مشتركا بين المسكر وبين الطعم، وجب أن يتوقف فيه ولايحمل على احدهما إلا بدليل، وماذكرناه مجمع على أنه مراد، وماذكروه ليس عليه دليل، على انه كان يقتضي ان يكون مااسكرمنه يكون حلالا، وذلك خلاف الاجماع، لانهم يقولون: القدر الذي لايسكر هو المباح، وكان يلزم على ذلك أن يكون الخمر مباحا، وذلك لايقوله واحد، وكذلك كان يلزم ان يكون النقيع حلالا، وذلك خلاف الاجماع.

وقوله " إن في ذلك لآية لقوم يعقلون " معناه إن فيما ذكره دلالة ظآهرة للذين يعقلون عن الله ويتفهمون ويفكرون فيه.

قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون(68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون(69))

آيتان بلا خلاف.

قرئ " يعرشون " بضم الراء وكسرها، وهما لغتان ومعناه: ومايبنونه من السقوف وقال ابن زيد: يعني الكروم، قال ابن عباس ومجاهد: يعني " واوحى ربك إلى النحل " ألهما الهاما، وقال الحسن: جعل ذلك في غرائزها اي ما يخفى مثله عن غيرها، وذلك ايحاء في اللغة.

[403]

وقال ابوعبيد: (الوحي) على وجوه في كلام العرب: منها وحي النبوة، ومنها الالهام، ومنها الاشارة، ومنها الكتاب، ومنها الاسرار: فالوحي في النبوة مايوحي الله إلى الانبياء، كقوله " إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه "(1) والوحي بمعنى الالهام، قوله " واوحى ربك إلى النحل وقوله " واوحينا إلى ام موسى "(2) وفي الارض " بأن ربك اوحى لها "(3) ووحي الاشارة كقوله " فأوحى اليهم أن سبحوا "(4) قال مجاهد: اشار اليهم، وقال الضحاك: كتب لهم.

واصل الوحي عند العرب هو إلقاء الانسان إلى صاحبه ثيابا للاستتار والاخفاء.

ووحي الاسرار مثل قوله " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا(5) " فاما ماووي عن ابن عباس انه قال: لاوحي إلا القرآن اراد ان القرآن هو الوحي الذي نزل به جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم، دون ان يكون انكر ماقلناه.

ويقال: أوحى له وأوحى اليه قال العجاج: أوحى لها القرار فاستقرت(6) قال المبرد: ماروي عن ابن عباس إنماقاله لما سئل عما كان وضعه المختار وسماه الوحي، فقال ابن عباس: لاوحي إلا القرآن جوابا عما أحدثه المختار وادعى تنزيله اليه.

وواحد " النحل " نحلة، والمعنى ان الله تعالى ألهم النحل اتخاذ المنازل والادكار، والبيوت في الجبال، وفي الشجر وغيرذلك " ومما يعرشون " يعني

___________________________________

(1) سورة الشورى آية 51.

(2) سورة القصص آية 7.

(3) سورة الزلزال آية 5.

(4) سورة مريم آية 11.

(5) سورة الانعام آية 112.

(6) مر هذا الرجز في 2: 459، 3: 84، 4: 61

[404]

سقوف البيوت " ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا " معناه انه تعالى ألهمها ايضا أن تأكل من الثمرات وسائر الاشجار التي تحويها، والذلل جمع ذلول، وهي الطرق الموطأة للسلوك.

وقيل: طرق لايتوعر عليها سلوكها عن مجاهد.

وقال قتادة: معنى " ذللا " اي مطيعة، ويكون من صفة النحل.

وقال غيره: هو من صفات الطريق ومعنى " ذللا " إنه قد ذللها لك وسهل عليك سلوكها وفي ذلك اعظم العبر واظهر الدلالة على توحيده تعالى وأنه لايقدر عليه سواه.

ثم قال " يخرج من بطونها " يعني بطون النحل " شراب مختلف ألوانه " من أصفر وأبيض وأحمر، مع أنها تأكل الحامض والمر فيحيله الله عسلا حلوا لذيذا " فيه شفاء للناس " لما شفائها فيه، واكثر المفسرين على ان (الهاء) راجعة إلى العسل، وهو الشراب الذي ذكره، وأن فيه شفاء من كثير من الامراض، وفيه منافع جمة.

وقال مجاهد (الهاء) راجعة إلي القرآن " وفيه شفاء للناس "، لما فيه من بيان الحلال، والحرام، والفتيا، والاحكام، والاول أوثق.

ثم اخبر تعالى ان فيما ذكره آيات واضحات، ودلالات بينات، لمن يتفكر فيه ويهتدي بهديه، وانماقال " من بطونها " وهو خارج من فيها، لان العسل يخلقه الله في بطون النحل ويخرجه إلى فيه.

ثم يخرجه من فيه، ولو قال: من فيها لظن أنها تلقيه من فيها، وليس بخارج من البطن.

قوله تعالى: (والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لايعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير(70))

آية بلا خلاف.

هذه الآية فيها تعديد لنعم الله تعالى على عباده، شيئا بعد شئ، ليشكروه عليها، وبحسبها يقول الله: إني أنا الذي خلقتكم وأخرجتكم من العدم إلى الوجود

[405]

وأنعمت عليكم بضروب النعم، دينية ودنياوية، ثم الذي خلقكم يتوفاكم ويقبضكم أي يميتكم " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " وهو أرداه وأوضعه، يقال منه: رذل الشئ يرذل رذالة، وأرذلته ان ارذ الا يريد به حال الذم.

وقيل انه يصير كذلك في خمس وسبعين سنة - في قول علي (ع) وقوله " لكي لايعلم بعد علم شيئا " اخبار منه تعالى انه إنما يرده إلى أرذل العمر، ليرجع إلى حال الطفولية بنسيان ماكان علم للكبر، فكأنه لايعلم شيئا، مما كان علم.

وفي ذلك أعظم دلالة وأبين اعتبار على قادر مصرف للخلق من حال إلى حال.

ثم أخبر " ان الله عليم " بمصالح عباده، قادر على مايشاء من تدبيرهم وتغيير أحوالهم.

قوله تعالى: (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ماملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون(71))

آية بلاخلاف.

قرأ أبوبكر عن عاصم " تجحدون " بالتاء على معنى: قل لهم يامحمد أمن أجل ماانعم الله عليكم، أشرتم وبطرتم وجحدتم. وقرأ الباقون بالياء.

وبخهم الله تعالى على جحودهم نعمه، فيقول الله تعالى لخلقه، بأنه فضل بعضهم على بعض في الرزق، لانه خلق فيهم غنيا وفقيرا وقادرا وعاجزا، وفضل بني آدم على سائر الحيوان في لذيذ المأكل، والمشرب، وجعل بعضهم مالكا لبعض، وبعضهم رقا مملوكا.

وقوله " فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ماملكت ايمانهم " قيل في معناه قولان: احدهما - انهم لايشركون عبيدهم في اموالهم وازواجهم حتى يكونوا فيه

[406]

سواء، لانهم لايرضون بذلك لانفسهم، وهم يشركون عبيدي في ملكي وسلطاني ويوجهون العبادة والقربات اليهم، مثل قربهم إلى الله تعالى. ذكره ابن عباس وقتادة ومجاهد.

الثاني - انهم سواء في أني رزقت الجميع، وأنه لايمكن احد أن يرزق عبيده إلا برزقي إياه، أفبهذه النعم التي عددتها وذكرتها " يجحدون " هؤلاء الكفا ر.

قوله تعالى: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون(72))

آية بلاخلاف.

يقول الله تعالى: إني أنا الذي جعلت لكم ازواجا " من انفسكم " يعني من البشر، والذين يلدونهم ليكون ذلك آنس لهم وأليق بقلبهم، وخلقت من هؤلاء الازواج بنين تسرون بهم وتتزينون بهم و " حفدة " اي وخلق لكم حفدة.

وقيل في معناه اقوال: قال مجاهد وطاووس: هم الخدم، وقال ابن عباس: هم الخدم والاعوان، وانشد قول جميل:

حفد الولائد حولها واستمسكت *** بأكفهن أزمة الاجمال(1)

وفي رواية اخرى عن ابن عباس: إنهم البنون وبنو البنين.

وفي رواية اخرى أنهم بنو امرأة الرجل من غيره.

وقال الحسن: من أعانك، فقد حفدك من

___________________________________

(1) تفسير الطبري 14 / 88، 89 رواه مرتين مع اختلاف يسير، ومجمع البيان 3 / 383. ولم أجده في ديوان جميل بثينة، (دار بيروت) وهو في اللسان (حفد) غير منسوب وروايته (حولهن واسلمت) بدل (وحولها واستمسكت).

[407]

البنين وبني البنات والاعوان والاهل.

وقال ابن مسعود، وابوالضحى، وابراهيم وسعيدبن جبير: هم الاختان، وهم ازواج البنات.

وأصل الحفد الاسراع في العمل، ومنه يسعى ويحفد، ومر البعير يحفد حفدانا إذا مر يسرع في سيره، وحفد يحفد حفدا وحفدانا، قال الراعي:

كلفت مجهولها نوقا يمانية *** إذا الحداة على أكسائها حفدوا(1)

والحفدة جمع حافد، مثل كامل وكملة.

وقوله " ورزقكم من الطيبات " اي جعل لكم أشياء تستطيبونها وأباحها لكم. وانما دخلت (من) لانه ليس كل ما يستطعمه الانسان رزقا له، وانما رزقه. ماله التصرف فيه، وليس لغيره منعه منه.

ثم قال " أفبالباطل " يعني عبادة الاوثان والاصنام، وماحرم عليهم الشيطان من البحائر والسائبة والوصيلة يصدقون، وبنعمة الله التي عددها لهم " يكفرون " اي يجحدون ماأحله الله، وماحرم عليهم.

قوله تعالى: ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السموات والارض شيئا ولا يستطيعون(73) فلا تضربوا لله الامثال إن الله يعلم وأنتم لاتعلمون(74))

آيتان بلاخلاف.

اخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأنهم يجحدون نعم الله، بأنهم يوجهون عبادتهم من دون الله إلى " مالايملك لهم رزقا " أي لايقدر عليه، يعني بهاالاصنام التي لاتقدر لهم على نعمة، ولا على مايستحق به العبادة، ولاعلى

___________________________________

(1) تفسير الطبرى 14 / 90 ومجمع البيان 3 / 373 واللسان (كسأ) وروايته (الحداد) بدل (الحداة)،

[408]

رزق يرزقونهم من السموات والارض، ولا يستطيعون شيئا مما ذكرنا. ويتركون عبادة من يقدر على جميع ذلك ويفعله بهم، ورزق السماء الغيث الذي يأتي من جهتها، ورزق الارض النبات والثمار التي تخرج منها.

وقوله " فلا تضربوا لله الامثال " معناه لاتجعلوا لله الاشباه والامثال في العبادة فإنه لاشبه له ولا مثيل، ولا أحد يستحق معه العبادة، وذلك في اتخاذهم الاصنام آلهة، ذكره ابن عباس وقتادة.

وقوله " شيئا " نصب على أحد وجهين: أحدهما - أن يكون بدلا من (رزقا) والمعنى ما لايملك لهم رزقا قليلا، ولاكثيرا. والثاني - أن يكون منصوبا ب‍ " رزقا " كماقال " أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما "(1) كأنه قال لايملك لهم رزق شئ.

وقوله " ان الله يعلم " أي يعلم أنه لاتحق العبادة إلا له " وأنتم لاتعلمون " ذلك بل تجهلونه، ولكن يجب عليكم أن تنظروا لتعلموا صحة ماقلناه.

قوله تعالى: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لايقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون ألحمد لله بل أكثرهم لايعلمون(75))

آية بلاخلاف.

قيل في معنى هذه الآية قولان: أحدهما - أنه مثل ضرب للكافر الذي لاخير عنده، والمؤمن الذي يكتسب الخير، للدعاء إلى حال المؤمن، والصرف عن حال الكافر، وهو قول ابن عباس وقتادة.

___________________________________

(1) سورة البلد آية 14 - 15

[409]

الثاني - قال مجاهد: إنه مثل ضربه لعبادتهم الاوثان التي لاتملك، شيئا، والعدول عن عبادة الله الذي يملك كل شئ، والمعنى أن الاثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما قادرا على الانفاق مالكا، والآخر عاجزا لايقدر على الانفاق لايستويان، فكيف يسوى بين الحجارة التي لاتتحرك، ولاتعقل، وبين الله تعالى القادر على كل شئ، الرازق لجميع خلقه، فبين بذلك لهم أمر ضلالتهم وبعدهم عن الحق في عبادة الاوثان.

ثم قال " الحمدلله " أي الشكر له تعالى، على نعمه، لايستحقه من لانعمة له، " ولكن أكثرهم لايعلمون " ذلك.

وفي هذه الآية دلالة على أن المملوك لايملك شيئا، لان قوله " مملوكا لايقدر على شئ " ليس المراد به نفي القدرة، لانه قادر على التصرف، وإنما المراد أنه لايملك التصرف في الاموال، وذلك عام في جميع مايملك ويتصرف فيه.

قوله تعالى: (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لايقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما يوجهه لايأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم(76))

آية بلاخلاف.

قيل في معنى ضرب هذا المقل قولان: أحدهما انه مثل ضربه الله في من يؤمل الخير من جهته، وفي من لايؤمل، فيؤمل الخير كله من الله تعالى، لامن جهة الاوثان والعباد، فلا ينبغي أن يسوى بينهما في العبادة. الثاني - انه مثل للكافر والمؤمن، ووجه التقابل في ضرب المثل بهذين الرجلين أنه على تقدير: ومن هو بخلاف صفته " يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم " في تدبير الامور بالحق، وهذا زيادة في ضرب المثل من الله تعالى، فإنه يقول: ان الرجلين إذاكان أحدهما أبكم لايقدر على شئ، وهو الذي لايسمع

[410]

شيئا ولايبصر، ولايعقل، وهو مع ذلك " كل على مولاه " أي وليه " أينما يوجهه لايأت بخير، هل يستوي هوومن يأمر بالعدل " مع كونه " على صراط مستقيم " والمراد أنهما لايستويان قط.

والابكم الذي يولد أخرس لايفهم ولا يفهم.

وقيل: أنه ضرب المثل للوثن مع إنهما كهم على عبادته، وهو بهذه الصفة.

وقيل " الابكم هو الذي لايمكنه أن يتكلم.

والكل الثقل: كل عن الامر يكل كلا إذا ثقل عليه، فلم ينبعث فيه، وكلت السكين كلولا إذا غلظت شفرتها، وكل لسانه إذالم ينبعث في القول لغلظه وذهاب حده، فالاصل الغلظ الذي يمنع من النفوذ في الامر.

وقوله " وهو على صراط مستقيم " أي هو مع أمره بالعدل، على طريق من الحق في دعائه إلى العدل فأمره به مستقيم لايعوج ولايزول عنه.

قوله تعالى: (ولله غيب السموات والارض وماأمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير(77) والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون(78))

آيتان بلا خلاف.

أخبر الله تعالى أن له غيب السموات والارض ومعناه أنه المختص بعلم ذلك، وهو ماغاب عن جميع العالمين، مما يصح أن يكون معلوما، فإنه تعالى يختص بالعلم به وقال الجبائي: ويحتمل أن يكون المعنى، ولله ملك ماغاب مما في السموات والارض.

ثم قال " وماأمر الساعة " أي مجيئها وهي يو القيام مة، في السرعة وقرب المجئ " إلا كلمح البصر أو هو أقرب " من ذلك مبالغة في ضرب المثل به في السرعة، وأنه قادرعليه.

ودخول " أو " في قوله " أو هو أقرب " لاحد أمرين.

[411]

أحدهما - الابانة عن أنه، على إحدى منزلتين إما كلمح بالبصر أو اقرب من ذلك. والثاني - انه قال ذلك لشك المخاطب، وإنما قرب امرها، لانه بمنزلة " كن فيكون " فمن ههنا صح انها كلمح البصر او اقرب، ثم ذكر نعمه التي انعم بها على خلقه، فقال " هو " تعالى " الذي اخرجكم من بطون امهاتكم " وانعم عليكم بذلك وانتم في تلك الحال " لاتعلمون شيئا " ولاتعرفونه، فتفضل عليكم بالحواس الصحيحة التي هي طريق العلم بالمدركات، وجعل لكم قلوبا تفقهون بها الاشياء، لانها محل المعارف، لكي تشكروه على ذلك وتحمدوه على نعمه.

قوله تعالى: (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء مايمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون(79) والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلي حين(80) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون(81))

ثلاث آيات بلاخلاف.

قرأ نافع وابن كثير وابوعمر " ويوم ظعنكم " بتحريك العين. الباقون بتسكينها وهما لغتان، مثل نهر ونهر، وسمع وسمع.

وقرأ ابن عامر وحمزة وخلف ويعقوب " ألم تروا " بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على وجه التذكير لما تقدم ذكره، والتنبيه لهم.

[412]

يقول الله تعالى منبها لخلقه على وجه الاستدلال على وحدانيته " ألم يروا " يعني هؤلاء الكفار الجاحدين لربوبيته " إلى الطير " قد سخرها الله " في جو السماء " وسط الهواء، حتى مكنها ان تتصرف في جو السماء على حسب إرادتها، ويعلمون أن لها مسخرا ومدبرا، لايشبه الاشياء، لان من المعلوم ان احدا، من البشر لا يقدر على مثل ذلك، ولايتأتى منه ذلك، وأن من مكن الطير من تلك الحال قد كان يجوز ان يمكنها منه ابتداء واختراعا، من غير اسباب ادت إلى أن صارت على تلك الاوصاف، لانه قادر لايعجزه شئ، ولايتعذر عليه شئ، وأنه إنما خلق ذلك ليعتبروا به وينظروا فيه، فيصلوا به إلى الثواب الذي عرضهم له، ولو كان فعل ذلك لمجرد الانعام به على العبد كان حسنا، لكن ضم إلى ذلك التعريض للثواب على ماقلناه.

وانماقال " مايمسكهن الا الله " وهي تستمسك بالقدرة التي اعطاها الله مبالغة في الصفة بأن الله يمكنها بالهواء الذي تتصرف فيه، لانه ظاهر انها بالهواء تستمسك عن السقوط، وأن الغرض من ذلك تسخير ماسخر لها.

ثم قال " ان في " خلق " ذلك "، على ماوصفه، لدلالات لقوم يصدقون بتوحيد الله، ويصدقون انبياء‌ه وخص المؤمنون بذلك لامرين: احدهما - من حيث هم المنتفعون بها دون غيرهم. الثاني - لانهم يدللون بهاعلى مخالفي التوحيد، وهي دلالة من الله للجميع، والجو - بالفتح - مابين السماء والارض، قال الانصاري:

ويل امها في هواء الجو طالبة *** ولاكهذا الذي في الارض مطلوب(1)

ثم عدد في الآية الاخرى نعمه، فقال: " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا " أي مواضع تسكنون فيها " وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها " اي يخف عليكم حملها " يومن ظعنكم " أي ارتحالكم من مكان

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1 / 365 وخزانة الادب 2 / 212 نسبة إلى امرئ القيس بن حجر الكندي وهو موجود في ديوانه 69 وروايته (لاكالتي) والطبري 14 / 93 نسبة إلى ابراهيم بن عمران الانصاري.

[413]

إلى مكان " ويوم اقامتكم " يعني اليوم الذي تنزلون موضعا تقيمون فيه، ثم قال " وجعل لكم من أصوافها " من أصواف الضأن وأوبار الابل واشعار المعز " أثاثا " يعني متاع الكثير، من قولهم شعر أثيث اي كثير، وأث النبت يئث أثا إذكثر والتف، وكذلك الشعر، ولاواحد للاثاث، كمالاواحد للمتاع، قال الشاعر:

اهاجتك الظعائن يوم بانوا *** بذي الرئي الجميل من الاثاث(1)

وقوله " إلى حين " معناه.

إلى وقت يهلك فيه، ثم قال " والله جعل لكم مماخلق ظلالا " يعني من الشجر وغيره، ماتسكنون فيه من أذى الحر والبرد " وجعل لكم سرابيل " يعني قمصا من القطن والكنان - في قول قتادة - واحدها سربال، ويقال للدروع سرابيل، وهي التي تقي البأس، وقال الزجاج كل مالبسته فهوسربال.

وقوله " تقيكم الحر " اي تمنعكم من الحر، وخص الحر بذلك مع ان وقايتها للبرد اكثر لامرين: احدهما - إن الذين خوطبوا بذلك أهل حر في بلادهم فحاجتهم إلى مايقي الحر أشد في قول عطاء. الثاني - انه ترك ذلك لانه معلوم، كماقال الشاعر:

وما ادري اذايمت وجها *** اريد الخبر ايهما يليني(2)

فكنى عن الشر، ولم يذكره، لانه مدلول عليه ذكره الفراء.

وقوله " كذلك يتم نعمته عليكم " اي كما انعم عليكم بهذه النعم ينعم عليكم بجميع ماتحتاجون اليه، وهو إتمام نعمه في الدنيا، وبين انه فعل ذلك لتسلموا وتؤمنوا.

___________________________________

(1) قائله محمدبن نمير الثقفي. تفسير القرطي 10 / 153 ومجاز القرآن 1 / 365 والكامل للمبرد 376 واللسان والتاح (رأى) وروايته (اشاقتك).

(2) قائلة المثقب العبدي. اللسان (أمم) وتفسير القرطبي 10 / 160 وقد مر في 2 / 113، 5 / 529 من هذا الكتاب.

[414]

وقرأ ابن عامر بفتح التاء، والمعنى لتسلموا بتلك الدروع من الجراحات.

الآية: 82 - 128

قوله تعالى: (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين(82) يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون(83))

آيتان بلاخلاف.

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية له عماكان يلحقه عند تولي الكفار عن الحق الذي يلزمهم، واعراضهم عن القبول منه " فأن تولى " هؤلاء الكفار، وأعرضوا عنك فانه لايلزمك تقصير من اجل ذلك، لان الذي يلزمك " البلاغ المبين " يعني الظاهر الذي يتمكنون معه من معرفته، وقد فعلته، وقد حذف جميع ذلك لدلالة الكلام عليه، ثم اخبر عنهم بأن قال هؤلاء الكفار " يعرفون نعمة الله " عليهم، مما يجدون من خلق نفوسهم، واقدارهم، واكمال عقولهم وماخلق الله من انواع المنافع، التي ينتفعون بها، ثم انهم مع ذلك ينكرون تلك النعم ان تكون من جهة الله ومنسوبة اليه، وينسبونها إلى الاصنام ثم قال: " واكثرهم الكافرون " وانماقال اكثرهم مع ان جميعهم كفار لامرين: احدهما - لان فيهم من لقنوه الكفر، ممن لم يبلغ حد التكليف لصغره، ولم تقم الحجة عليه، أو من هو ناقص العقل مأووف(1) فلايحكم عليهم بالكفر. الثاني - إن منهم من ينكر النعمة، في حال لم يقم عليه حجة للشواغل في قلبه التي تلهيه عن تأمل امره، والفكر في حاله، فيكون في حال حكم الساهي والصبي، وإن كان مكلفا بغير ذلك من الامور، فلايكون كافرا بالانكار في تلك الحال.

___________________________________

(1) معنى مأووف فيه آفة اي مرض في عقله.

[415]

وقال الجبائي: هو وإن كان لفظا خاصا، فهو عام في المعنى.

وقال الحسن: المعنى ان جميعهم الكافرون، وانما عزل البعض إحتقارا له أن يذكره.

وفي الآية الثانية - دلالة على فساد مذهب المجبرة: من أنه ليس لله على الكافر نعمة، وقولهم: إن جميع مافعله بهم نقمة وخذلان، حتى ارتكبوا المعصية، لان الله تعالى قد بين خلاف ذلك نصا في هذه الآية.

قوله تعالى: (ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لايؤذن للذين كفروا ولاهم يستعتبون(84) وإذا رآ الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون(85))

آيتان بلا خلاف.

يقول الله تعالى إن اليوم الذي يبعث فيه " من كل أمة شهيدا " يشهد عليهم بكفرهم وضلالهم وجميع معاصيهم هويوم القيامة، والشهيد في كل امة رسوله، ويجوز أن يكون قوم من المؤمنين المرضيين عند الله، وانما يقيم الشهادة عليهم مع أنه عالم بأحوالهم من حيث ان ذلك اهول في النفس واعظم في تصور الحال، واشد في الفضيحة إذا قامت به الشهادة بحضرة الملا التي يكون من الله التصديق لها مع جلالة الشهود عند الله بالحق.

وقوله " ثم لايؤذن للذين كفروا، ولاهم يستعتبون " قيل في معناه قولان: احدهما - انه لايؤذن لهم في الاعتذار، على أن الآخرة مواطن: فيها مايمنعون وفيها مالا يمنعون. الثاني - انهم لم يؤذن لهم في الاعتذار بما ينتفعون، ولا يعرضون للعتبى الذي هو الرضا.

[416]

وقال الجبائي: المعنى ان الله يخلق فيهم العلم الضروري بانهم ان اعتذروا لم تقبل معذرتهم، وإن استعتبوا لم يعتبوا ولم يرد أنهم لايؤمرون بالاعتذار، ولايمكنون منه، لان الامر والتكليف قد زالا عنهم.

ثم اخبر تعالى أن الظالمين إذا رأوا العذاب يوم القيامة وشاهدوه، فلا يخفف عنهم ذلك العذاب اذا حصلوا فيه " ولاينظرون " اي لايؤخرون إلى وقت آخر، بل عذابهم دائم في جميع الاوقات، ووقت التوبة والندم قد فات.

قوله تعالى: (وإذا رأ الذين أشركوا شركاء‌هم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون(86) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ماكانوا يفترون(87) ألذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بماكانوا يفسدون(88))

ثلاث آيات بلاخلاف.

يقول الله تعالى مخبرا عن حال المشركين والكفار في الآخرة وأنهم إذا رأوا شركاء‌هم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله. وقيل انما سمعوا " شركاء‌هم " لامرين: احدهما - لانهم جعلوا لهم نصيبا في أموالهم. الثاني - لانهم جعلوهم شركاء في العبادة.

ومعنى قوله " هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك " اعتراف منهم على انفسهم بأنهم كانوا يشركون مع الله غيره في العبادة.

وقوله " فالقوا اليهم القول إنكم لكاذبون " قيل في معناه قولان: احدهما - ألقى المعبودون القول " انكم لكاذبون " في أنا نستحق العبادة. والثاني - " انكم لكاذبون " في قولكم إنا دعوناكم إلى العبادة.

[417]

وقيل: انكم لكاذبون بقولكم إنا آلهة. وإلقاء المعنى إلى النفس إظهاره لها، حتى تدركه متميزا من غيره، فهؤلاء ألقوا القول حتى فهموا عنهم انهم كاذبون.

وقوله " وألقوا إلى الله يومئذ السلم " معناه استسلموا بالذل لحكم الله - في قول قتادة - " وضل عنهم ما كانوا يفترون " اي يضل ماكانوا يأملونه ويقدرون من ان آلهتهم تشفع لهم. ثم أخبر تعالى ان الذين يكفرون بالله ويجحدون وحدانيته، ويكذبون رسله، ويصدون غيرهم عن اتباع الحق الذي هو سبيل الله " زدناهم عذابا فوق العذاب ".

قال ابن مسعود: أفاعي وعقارب النار لها أنياب كالنخل الطوال جزاء‌ا " بما كانوا يفسدون " في الارض.

قوله تعالى: (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين(89))

آية بلاخلاف.

يقول الله تعالى إن اليوم الذي " نبعث في كل أمة شهيدا " اي من يشهد " عليهم من أنفسهم " اي من أمثالهم من البشر.

ويجوز ان يكون ذلك نبيهم الذي بعث اليهم، ويجوز ان يكونوا مؤمنين عارفين بالله ونبيه، ويشهدون عليهم بما فعلوه من المعاصي.

وفي ذلك دلالة على ان كل عصر لايخلو ممن يكون قوله حجة على اهل عصره، عدل عندالله، وهو قول الجبائي، وأكثر أهل العدل، وهو قولنا وإن خالفناهم في من هو ذلك العدل والحجة.

[418]

" وجئنابك " يامحمد " شهيدا " على هؤلاء يعني كفار قريش وغيرهم، من الذين كفروا بنبوته. ثم قال " ونزلنا عليك الكتاب " يعنى القرآن " تبيانا لكل شئ " اي بيانا لكل أمر مشكل. والتبيان والبيان واحد.

ومعنى العموم في قوله " لكل شئ " المراد به من أمور الدين: إما بالنص عليه او الاحالة على ما يوجب العلم من بيان النبي صلى الله عليه وسلم والحجج القائمين مقامه، او اجماع الامة او الاستدلال، لان هذه الوجوه أصول الدين وطريق موصلة إلى معرفته.

وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال: الكلام لايدل على شئ، لان كلام الحكيم يدل من وجهين: احدهما - أنه دليل على نفس المعنى الذي يحتاج اليه. والآخر - أنه دليل على صحة المعنى الذي يحتاج إلى البرهان عليه. ولولم يكن كذلك لخرج عن الحكمة وجرى مجرى اللغو الذي لافائدة فيه.

وقوله " وهدى ورحمة وبشرى " يعنى القرآن دلالة ورحمة وبشارة للمسلمين بالجنة.

قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون(90) وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولاتنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ماتفعلون(91))

آيتان

يقول الله تعالى مخبرا عن نفسه " ان الله بأمر بالعدل " يعنى الانصاف بين الخلق، وفعل مايجب على المكلف و " الاحسان " إلى الغير، ومعناه يأمركم بالاحسان، فألامر بالاول على وجه الايجاب، وبالاحسان على وجه الندب.

[419]

وفي ذلك دلالة على ان الامر يكون أمرا بالندوب اليه دون الواجب، " وإيتاء ذي القربي " اي وأمرك باعطاء ذي القربي، ويحتمل امرين: احدهما - صلة الارحام، فيكون ذلك عاما في جميع الخلق. والثاني - ان يكون أمرا بصلة قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين أرادهم الله بقوله " فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى "(1) على مابيناه فيما قبل وقوله " وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي " انما جمع بين الاوصاف الثلاثة في النهي عنها مع ان الكل منكر فاحش، ليبين بذلك تفصيل مانهى عنه، لان الفحشاء قد يكون مايفعله الانسان في نفسه مما لايظهر أمره ويعظم قبحه.

والمنكر مايظر للناس مما يجب عليهم إنكاره، والبغي مايتطاول به من الظلم. لغيره، ولايكون البغي إلا من الفاعل لغيره، والظلم قد يكون ظلم الفاعل لنفسه.

وروي عن ابي عيينة، أنه قال: العدل هو استواء السريرة والعلانية، والاحسان ان تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر ان يكون علانيته أحسن من سريرته. ثم بين تعالى أنه يعظ بماذكره خلقه، لكي يذكروا ويتفكروا، ويرجعوا إلى الحق. ثم أمر تعالى خلقه بأن يفوا بعهده اذا عاهدوا عليه، والعهد الذي يجب الوفاء به: هو كل فعل حسن اذا عقد عليه، وعاهد الله ليفعلنه بالعزم عليه، فانه يصير واجبا عليه، ولايجوز له خلافه، ثم يكون عظم النقض بحسب الضرر به، فأما اذا رأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر، عند الفقهاء.

وقال اصحابنا: اذا وجد خيرا منه فعل الخير، ولاكفارة عليه، وهذا يجوز فيما كان ينبغي ان يشرط، فأما اذا أطلقه وهو لايأمن ان يكون غيره خير منه فقد أساء باطلاق العقد عليه.

___________________________________

(1) سورة الانفال آية 41 وقد بين معناها في 5: 143

[420]

ثم قال " ولاتنقضوا الايمان بعد توكيدها " نهي منه تعالى عن حنث الايمان بعدعقدها وتأكيدها، يقال أكدته تأكيدا ووكدته توكيدا، والاصل الواو، وانما أبدلت الهمزة منها كما قالوا: وقيت في أوقيت.

وفي الآية دلالة على ان اليمين على المعصية غير منعقدة، لانها لوكانت منعقدة لماجاز نقضها، وأجمعوا على أنه يجب نقضها، ولايجوز الوفاء بها، فعلم بذلك ان اليمين على المعصية غير منعقدة. والنقض في المعاني يمكن في مالايجوز ان يصح مع خلافه، بل إن كان حقا فخلافه باطل، وإن كان باطلا فخلافه حق، نحوإرادة الشئ وكراهته، والامر بالشئ والنهي عنه والتوبة من الشئ والعود فيه وماأشبه ذلك.

وقوله " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " اي حسيبا فيما عاهدتموه عليه " إن الله يعلم ماتفعلون " من نقض العهد والوفاء به، وذلك تهديد ووعيد بأن يجازي على مايكون منكم على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب.

وقيل: إن الآية نزلت في الذين بايعوا النبي صلى الله على وسلم على الاسلام.

وقال بعضهم نزلت في الحلف الذي كان عليه أهل الشرك، فأمروا في الاسلام بالوفاء به ذكره ابن زيد.

قوله تعالى: (ولاتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيمة ماكنتم فيه تختلفون(92) ولوشاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون(93))

آيتان بلاخلاف.

[421]

هذا نهي من الله تعالى للمكلفين ان يكونوا " كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا " فواحد الانكاث نكث، وكل شئ نقض بعد الفتل فهو أنكاث: حبلا كان او غزلا، يقال منه: نكث فلان الحبل ينكثه نكثا، والحبل منتكث اذا انتقضت قواه.

و (الدخل) ماأدخل في الشئ على فساد، والمعنى تدخلون الايمان على فساد للغرور، وفي نيتكم الغدر بمن حلفتم له، لانكم أكثر عددا منهم أو، لان غيركم اكثر عددا منكم وقيل والدخل الدغل والخديعة، وإنما قيل الدخل، لانه داخل القلب على ترك الوفاء والظاهر على الوفاء.

وقيل (دخلا) غلا وغشا، ويقال: انا اعلم دخل فلان ودخله ودخلته ودخيلته، والمعنى لاتنقضوا الايمان لكثرتكم، وقلة من حلفتم له او لقلتكم وكثرتهم، فاذا وجدتم اكثر منهم نقضتم بل احفظوا عهدكم. و " دخلا " منصوب بأنه مفعول له.

وقوله " ان تكون أمة هي أربا من أمة " اي اكثر عددا لطلب العز بهم مع الغدر بالاقل، وهو (أفعل) من الربا، قال الشاعر:

واسمر خطي كأن كعوبه نوى *** العسيب قد اربا ذراعا على عشر(1)

ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمه في رأس ماله (واربى) في موضع رفع. واجاز الفراء ان تكون في موضع نصب، وتكون هي عمادا.

وقال الزجاج: لايجوز ذلك، لان العماد لايكون بين نكرتين، لان " امة " نكرة، ويفارق قوله " تجدوه عند الله هوخيرا "(2) لان الهاء في تجدوه معرفة.

وقوله " انما يبلوكم الله به " معناه إنما يختبركم الله بالامر بالوفاء، فالهاء في (به) عائدة على الامر، وتحقيقه يعاملكم معاملة المختبر ليقع الجزاء بالعمل " وليبين لكم " أي ويفصل لكم ويظهر لكم " ماكنتم تختلفون " في صحته يوم القيامة. والتى نقضت غزلها من بعد إبرام قيل: إنها ريطة بنت عمروبن كعب ابن سعيدبن تميم بن مرة، وكانت حمقاء، فضربه الله مثلا، فقال " اوفوا بعهد الله إذا

___________________________________

(1) تفسير الطبري 14: 102 ومجمع البيان 3: 381.

(2) سورة المزمل آية 20.

[422]

عاهدتم ولاتنقضوا الايمان بعد توكيدها " فتكونوا إن فعلتم ذلك كإمرأة غزلت غزلا، وقوت قوته وأبرمت، فلما استحكم نقضته، فجعلته أنكاثا أي انقاضا، وهو ماينقض من اخلاق بيوت الشعر والوبر ليعزل ثانية، ويعاد مع الجديد، ومنه قيل: لم بايع طائعا ثم خرج عليك ناكثا؟ لانه نقض ماوكده على نفسه بالايمان والعهود كفعل الناكثة غزلها.

ومعنى " أن تكون " لان تكون " أمة " أعز من أمة، وقوم أعلى من قوم، يريد لاتقطعوا بأيمانكم حقوقا لهؤلاء، فتجعلوها لهؤلاء.

وقال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا أكثر منهم نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا اولئك الذين هم أعز، فنهاهم الله عن ذلك.

وقوله " ولوشاء الله لجعلكم أمة واحدة " اخبار منه تعالى عن أن العباد إذا خالفوا أمره لم يعاجزوه، ولم يغالبوه تعالى عن ذلك، لانه لو يشاء لاكرههم على أن يكونوا أمة واحدة، لكنه يشاء أن يجتمعوا على الايمان، على وجه يستحقون به الثواب. ومثله قوله " ولويشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ") كذلك قال سبحانه - ههنا - ولكن ليمتحنكم ويختبركم لتستحقوا النعيم الذي أراده لكم، فيضل قوم، ويستحقوا الاضلال عن طريق الجنة، والحكم عليهم بأنهم ضالون. ويهتدي آخرون، فيستحقوا الهدى يعني الحكم لهم بالهداية، وإرشادهم إلى طريق الجنة. ثم قال " ولتسألن " يامعشر المكلفين " عما كنتم تعملون " في الدنيا من الطاعات والمعاصي، فتجازون عليه بقدره.

___________________________________

(1) سورة 47 محمد آية 4

[423]

قوله تعالى: و (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم(94) ولاتشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون(95) ماعندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون(96))

ثلاث آيات بلاخلاف.

قرأ ابن كثير، وعاصم " وليجزين الذين صبروا " بالنون. الباقون بالياء.

من قرأ بالنون فحجته إجماعهم على قوله " ولنجزينهم أجرهم باحسن ماكانوا يعملون " أنه بالنون.

ومن قرأ بالياء، فلقوله " وما عند الله باق " وليجزين الله الذين صبروا.

نهى الله عباده المكلفين ان يتخذوا ايمانهم دخلا بينهم، وقد فسرنا معنى دخلا، وبين تعالى انه متى خالفوا ذلك زلت اقدامهم بعد ثبوتها، وهو مثل ضربه الله، والمعنى أنهم يضل بعد ان كان على الهدى.

وقال قوم: الآية نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاسلام والنصرة، نهوا عن نقض عهده، وترك نصرته.

وقوله " وتذوقوا السوء " يعني العذاب، جزاء‌على معاصيكم وماصددتم عن اتباع سبيل الله، ولكم مع ذلك عذاب عظيم تعذبون به.

ثم نهاهم، فقال: " ولاتشتروا بعهدالله ثمنا قليلا " أي لاتخالفوا عهدالله بسبب شئ يسير تنالونه من حطام الدنيا، فيكون قدبعتم ماعندالله بالشئ الحقير، وبين ان الذي عندالله هو خير، وأشرف لكم إن كنتم تعلمون حقيقة ذلك وتحققونه، ثم قال: إن الذي عند الله لاينفد، هو باق، والذي عندكم من نعيم الدنيا وينفد ويفنى، ثم أخبر بأنه يجزي الصابرين على بلائه وجهاد اعدائه أجرهم وثوابهم " بأحسن ماكانوا يعملون " وإنما قال بأحسن ماكانوا، لان احسن أعمالهم هو الطاعة لله تعالى، وماعداه من الحسن مباح ليس بطاعة، ولايستحق عليه أجر

[424]

ولاحمد، وذلك يدل على فساد قول من قال: لايكون حسن احسن من حسن.

قوله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون(97) فإذا قرأت القرآن فأستعذ بالله من الشيطان الرجيم(98) إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون(99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون(100))

أربع آيات.

هذا وعد من الله تعالى بأن من عمل صالحا من الطاعات سواء كان فاعله ذكرا اوأنثى، وهومع ذلك مؤمن بتوحيد الله، مقر بصدق أنبيائه، فأن الله يحييه حياة طيبة.

وقال ابن عباس: الحياة الطيبة هوالرزق الحلال.

وقال الحسن: هي القناعة.

وقال قتادة: حياة طيبة في الجنة.

وقال قوم: الاولى ان يكون المراد بها القناعة في الدنيا، لانه عقيب ماتوعد غيرهم به من العقوبة فيها مع ان اكثر المؤمنين ليسوا بمتسعي الرزق في الدنيا.

ثم أخبر انه يجزيهم زيادة على الحياة الطيبة " أجرهم " وثوابهم " بأحسن ما كانوا يعملون " وقد فسرناه، وإنماقال " ولنجزينهم " بلفظ الجمع، لان (من) يقع على الواحد والجميع، فرد الكناية على المعنى، ثم خاطب نبيه، فقال: يامحمد " إذا قرأت بالقرآن " والمراد به جميع المكلفين " فاستعذ بالله " والمعنى إذا اردت قراء‌ة القرآن " فاستعذ بالله " كماقال: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا "(1) والمعنى اذا اردتم القيام

___________________________________

(1) سورة المائدة اية 6

[425]

اليها، لان بعد القراء‌ة لايجب الاستعاذة إلا عندمن لايعتد بخلافه.

وقال قوم: هو على التقديم والتأخير، وهذالايجوز لانه ضعيف، لانه لايجوز التقديم، والتأخير في كل شئ، ولذلك حدود في العربية لاتتجاوز. وإنما يجوز ذلك مع ارتفاع اللبس والشبهة، والاستعاذة عند التلاوة مستحبة غير واجبة - بلاخلاف - " من الشيطان الرجيم " أي استعذ بالله من المبعد من رحمة الله المرجوم، من سخطه. ثم أخبر أنه " ليس " للشيطان سلطان ولاحجة " على الذين آمنوا " بالله وحده ولم يشركوا به سواه. وفوضوا أمرهم اليه وتوكلوا عليه. وإنما سلطانه وقدرته على الذين يتولونه ويقبلون منه، وعلى الذين يشركون في عبادة الله سواه.

وقال الجبائي: في الآية دلالة على ان الصرع ليس من قبل الشيطان، قال: لانه لو امكنه أن يصرعه، لكان له عليهم سلطان.

وأجازه أبوالهذيل وابن الاخشاد، وقالا: إنه يجري مجرى قوله " كمايقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس "(1) ولان الله تعالى قال: " إنما سلطانه على الذين يتولونه " وإنما أراد سلطان الاغواء والاضلال عن الحق.

ومعنى قوله " والذين هم به مشركون " فيه قولان: احدهما - قال الربيع: من أن الذين يطيعونه فيمايدعو اليه من عبادة غير الله مشركون، فلماكان من اطاعه فيمايدعو اليه من عبادة غير الله مشركا، كان به مشركا، وهومن الايجاز الحسن. والثاني - قال الضحاك: الذين هم بالله مشركون.

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 275

[426]

قوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لايعلمون(101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين(102))

آيتان بلا خلاف.

يقول الله تعالى: مخبرا عن احوال الكفار بأنا متى " بدلنا آية مكان آية بأن رفعنا آية ونسخناها، وأتينا بأخرى بدلها، نعلم في ذلك من مصلحة الخلق، وقد يكون تبديلها برفع حكمها مع ثبوت تلاوتها (وقد يكون برفع تلاوتها دون حكمها)(1) وقد يكون برفعهما.

والتبديل - في اللغة - رفع الشئ مع وضع غيره مكانه، تقول: بدله تبديلا وأبدله إبدالا، واستبدل به استبدالا.

ثم قال: " والله أعلم بما ينزل " مما فيه صلاح الخلق من غيره.

وقوله: " قالوا إنما انت مفتر " معناه يقول هؤلاء الذين جحدوا نبوتك وكفروا بايآت الله: إنما أنت يامحمد مفتر كذاب في إدعائك الرسالة من الله.

ثم أخبر عنهم، فقال: " بل اكثرهم لا يعلمون " انك نبي، لتركهم النظر في معجزاتك، ولشبه داخلة عليهم، وان علمه بعضهم وكابر، وجحد مايعلمه، ثم امره بأن يقول لهم " نزله روح القدس " يعني القرآن نزله جبريل (ع) " ليثبت الذين آمنوا " وتثبيته لهم هو استدعاؤه لهم به وبالطافه ومعونته إلى الثبات على الاسلام وعلى تصديق محمد صلى الله عليه وسلم. ثم بين أن القرآن هدى ودلالة وبشارة للمسلمين.

قوله تعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين(103))

آية بلا خلاف.

___________________________________

(1) مابين القوسين ساقط من المطبوعة.

[427]

قرأ حمزة والكسائي " يلحدون " بفتح الياء والحاء. والباقون بضم الياء وكسر الحاء، وهما لغتان، يقال: ألحد يلحد إلحادا، فهوملحد، ولحد يلحد فهو ملحود، وقيل لحد في القبر وألحد في الدين، والالحاد الميل عن الصواب ويقال للذي يميل عن الحق ملحد، ومند اللحد في جانب القبر. ويقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إنا " نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه " يعني الرسول " بشر مثله.

وقال ابن عباس الذي مالوا اليه بأنه يعلم محمدا صلى الله عليه وسلم وكان اعجميا هو (بلعام) وكان قينا بمكة روميا نصرانيا.

وقال الضحاك: أرادوا به (سلمان الفارسي).

وقال قوم: أرادوا به إنسانا يقال له: عايش او يعيش، كان مولى لحويطب بن عبدالعزى، أسلم وحسن إسلامه، فقال الله تعالى ردا عليهم " لسان الذي " يميلون اليه أعجمي " وهذا " القرآن " لسان عربي مبين " كماتقول العرب للقصيدة هذا لسان فلان، قال الشاعر:

لسان السوء تهديها الينا *** وجنت وما حسبتك ان تحينا(2)

والاعجمي الذي لايفصح، والعجمي منسوب إلى العجم، والاعرابي البدوي والعربي منسوب إلى العرب " ومبين " معناه ظاهر بين لايشكل.

قوله تعالى: (إن الذين لايؤمنون بآيات الله لايهديهم الله ولهم عذاب أليم(104) إنما يفتري الكذب الذين لايؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون(105))

آيتان بلاخلاف.

يقول الله تعالى " إن الذين " لايصدقون " بآيات الله " التي اظهرها، والمعجزات التي يصدق بها قولك يامحمد " لايهديهم الله " إلى طريق الجنة " ولهم "

___________________________________

(1) تفسير الشوكاني 3: 188 ومجمع البيان 3: 385 وتفسير الطبري 14: 111

[428]

مع ذلك " عذاب أليم " في النار. ويحتمل ان يكون المراد: لايحكم الله تعالى بهدايتهم، لانهم كفار.

ثم اخبر إن الذي يتخرص الكذب، ويفتري على الله، هو الذي لابؤمن بآيات الله، ويجحدها، وهم الكاذبون، وانما خص الذين لايؤمنون بالله بالافتراء. لانه لايردعهم عن الكذب ايمان بالجزاء، " واولئك هم الكاذبون " على رسوله فيما ادعوا عليه. وقيل: المعنى في ذلك تعظيم كذبهم، كما يقول القائل: هؤلاء‌هم الرجال.

قوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم(106))

آية بلاخلاف.

نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر (رحمه الله) اكرهه المشركون بمكة بأنواع العذاب، وقيل: إنهم غطوه في بئر ماء على ان يلفظ بالكفر وكان قلبه مطمئنا بالايمان، فجاز من ذلك، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم جزعا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان قلبك؟ قال كان مطمئنا بالايمان، فأنزل الله فيه الآية.

واخبر ان الذين يكفرون بالله بعد ان كانوا مصدقين به بأن يرتدوا عن الاسلام " فعليهم غضب من الله " ثم استثنى من ذلك من كفر بلسانه، وكان مطمئن القلب بالايمان في باطنه، فانه بخلافه.

و " من كفر " رفع بما دل عليه خبر الثاني الذي هو قوله " ولكن من شرح بالكفر صدرا " كأنه قيل فعليه غضب من الله، كما تقول من يأتنا فمن يحسن نكرمه، فجواب الاول محذوف كفى فيه الثاني، وقال الزجاج " من كفر " رفع بأنه بدل من قوله " واولئك هم الكافرون " وقال ابوعلي: هذه معاريض يحسن من الله مثلها، ولايحسن من الخلق إلا عند التقية، قال: إلا ان على أهل العقول أن يعلموا ان الله لم يفعل ذلك الاعلى مايصح ويجوز، وليس

[429]

ذلك للانسان الا في حال التقية، لانه لادليل يؤمن من الخطأ عليه، فعلى هذا يلزمه في النبي ان يحسن منه من غير تقية، لكونه معصوما لايكذب في اخباره ولاخلاف بين أهل العدل أنه لايجوز اظهار كلمة الكفر إلا مع التعريض بأن ينوي بقلبه مايخرجه عن كونه كاذبا، فأما على وجه الاخبار، فلايجوز أصلا لانه قادر على التعريض الذي يخرج به عن كونه كاذبا.

قوله تعالى: (ذلك بأنهم استحبوا الحيوة الدنيا على الآخرة وأن الله لايهدي القوم الكافرين(107) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون(108) لاجرم أنهم في الاخرة هم الخاسرون(109))

ثلاث آيات بلاخلاف.

قوله " ذلك " اشارة إلى ماتقدم ذكره من العذاب العظيم. أخبر الله تعالى ان ذلك العذاب العظيم إنما أعده لهم، لانهم آثروا الحياة الدنيا، والتلذذ فيها، والركون اليها على الآخرة، والمعنى انهم فعلوا مافعلوه للدنيا طلبا لها دون طلب الآخرة. والعمل يجب أن يكون طلبا للاخرة، أو للدنيا والآخرة. فأما أن يكون لمجرد الدنيا دون الآخرة فلايجوز، لانه إذا طلب الدنيا ترك الواجب من الطاعات لامحالة، وكذلك لاينبغي أن يختار المباح على النافلة لان النافلة طاعة لله. والمباح ليس بطاعة له.

ثم أخبر تعالى " أن الله لايهدي القوم الكافرين " ومعناه أحد شيئين: احدهما - إنه لايهديهم إلى طريق الجنة والثواب، لكفرهم. الثاني - إنه لايحكم بهدايتهم لكونهم كفارا.

وأما نصب الدلالة، فقد هدى الله جميع المكلفين، كما قال " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى "(1) وقيل: إنهم لم يهتدوا بتلك الادلة، فكأنها لم تكن نصبت لهم، ونصبت

___________________________________

(1) سورة حم السجدة (فصلت) آية 17

[430]

للمؤمنين الذين اهتدوا بها، فلذلك نفاها عنهم فكأنهالم تكن لهم، ويجوز ان يكون المراد انه لايهديهم بهدى المؤمنين من فعل الالطاف والمدح بالاهتداء، لكونهم كفارا.

ثم اخبر ان اولئك الكفار هم " الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك هم الغافلون " وبينا معنى الطبع على القلوب والسمع والابصار في سورة البقرة(2) وان ذلك سمة من الله جعلها للملائكة ليفرقوا بين الكافر والمؤمن، جزاء وعقوبة على كفرهم، وان ذلك غير محيل بينهم وبين اختيار الايمان لو ارادوه، وانما وصفهم بعوم الغفلة مع الخواطر التي تزعجهم لامرين: احدهما - انهم بمنزلة الغافلين ذما لهم. الثاني - لجهلهم عمايؤدي اليه حالهم، وان كانت الخواطر إلى النظر تزعجهم.

وقوله " لاجرم انهم " معناه حق لهم " انهم في الآخرة هم الخاسرون " الذين خسروا صفقتهم لفوات الثواب وحصول العقاب وموضع (انهم) يحتمل أمرين من الاعراب: احدهما - النصب على معنى: لابد انهم اي لابد من ذا، ويجوز على جرم فعلهم أن لهم النار اي قطع بذا وتكون (لا) صلة. والثاني - الرفع والمعنى وجب قطعا أن لهم النار و (لا) صلة أو رد لكلام من قال: ماذا لهم؟ فقيل وجب لهم النار.

___________________________________

(1) في 1: 63 - 67. وفي 1: 90 من هذا الكتاب.

[431]

قوله تعالى: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم(110) يوم يأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ماعملت وهم لا يظلمون(111))

آيتان بلا خلاف.

قرأ ابن عامر وحده " فتنوا " جعل الفعل لهم. الباقون " فتنوا " على مالم يسم فاعله، يقال: فتنت زيدا، وهي اللغة الجيدة، وحكي افتنت.

وحجة من قرأ على مالم يسم فاعله أن الآية نزلت في المستضعفين المفتنين بمكة: عمار وبلال، وصهيب، فانهم حملوا على الارتداد عن دينهم، فمنهم من اعطى ذلك تقية منهم: عمار، فانه اظهر ذلك تقية، ثم هاجر.

ومعنى قراء‌ة بن عامر: انه فتن نفسه، والمعنى من بعد مافتن بعضهم نفسه باظهار مااظهره بالتقية قال الرماني: في الآية دلالة على انهم فتنوا في دينهم بمعصية كانت منهم، لقوله " ان ربك من بعدها لغفور رحيم " لان المغفرة الصفح عن الخطيئة، ولوكانوا أعطوا التقية على حقها لم تكن هناك خطيئة.

وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، ولافي الكلام دلالة عليه، وذلك ان الله تعالى إنما قال " ان ربك من بعدها " يعني بعد الفتنة التي فتنوابها " لغفور رحيم " أي ساتر عليهم، لان ظاهرما اظهروه يحتمل القبيح والحسن، فلما كشف الله عن باطن امورهم، واخبرانهم كانوا مطمئنين بالايمان كان في ذلك ستر عليهم، وازالة الظاهر المحتمل إلى الآمر الجلي، وذلك من نعم الله عليهم.

يقول الله تعالى: إن هؤلاء الذين هاجروا بعد مافتنوا عن دينهم، وجاهدوا في سبيله وصبروا على الاذي في جنب الله، فان الله اقسم انه ضمن لهم أن يفعل بهم الثواب، وساتر عليهم، ورحيم بهم منعم عليهم.

وقوله " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " (يوم) منصوب بأحد شيئين: احدهما - على معنى إن ربك من بعدها لغفور رحيم (يوم). الثاني - على معنى واذكر يوم، لان القرآن عظة وتذكير، ومعنى تجادل عن نفسها تخاصم كل نفس عن نفسها، وتحتج بماليس فيه حجة عند الحساب.

[432]

كماقال حكاية عنهم: " والله ربنا ماكنا مشركين "(1) وقال الاتباع " ربنا هؤلاء اضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار "(2) فهم يجادلون الملك السائل لهم بين يدي الله، وقيل: تحتج عن نفسها بماتقدر به ازالة العقاب عنها. ثم اخبر الله ان كل نفس توفى جزاء ماعملته على الطاعة الثواب وعلى المعصية العقاب، ولايظلم احد في ذلك اليوم أحدا.

قوله تعالى: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بماكانوا يصنعون(112))

آية بلاخلاف.

التقدير ضرب الله مثلا مثل قرية، وقيل في القرية التي ضرب الله بها هذا المثل قولان: احدهما - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إنها مكة، لانهاكانت بهذه الصفات التي ذكرها الله.

وقال آخرون: اي قرية كانت على هذه الصفة، فهذه صورتها.

وقوله " كانت آمنة مطمئنة " أي يأمن الناس فيها على نفوسهم واموالهم لا يخافون الغارة والنهب، كمايخاف سائر العرب، ويطمئنون فيها، لايحتاجون فيها ان ينتجعوا إلى غيرها، كمايحتاج غيرهم اليه، وكان مع ذلك يجيؤها رزقها، اي رزق اهلها من كل موضع، لانه كان يجلب اليها تفضلا منه تعالى " فكفرت بانعم الله " والمراد كفر اهلها، " بانعم الله ". وانما اضاف الكفر إلى القرية مجازا، ولذلك أنث الفعل. وقيل في واحد انعم الله ثلاثة اقوال:

___________________________________

(1) سورة الانعام آية 23.

(2) سورة الاعراف آية 37

[433]

احدها - يقال نعمة وانعم كشدة واشد.

الثاني - في جمع النعم كما قالوا أيام طعم ونعم ومثله ود وأود.

الثالث - نعماء كما جمعوا بأساء وابؤس وضراء واضر، وقالوا أشد جمع شد قال الشاعر.

وعندي قروض الخير والشر كله فبؤس لدى بوسى ونعمى بأنعم وقوله " فأذاقها الله لباس الجوع " انما سماه لباس الجوع، لانه يظهر عليهم من الهزال وشحوب اللون وسوء الحال ماهو كاللباس.

وقيل انهم شملهم الجوع والخوف كما شمل اللباس البدن.

وقيل ان القحط دام بهم سنين وبلغ بهم إلى ان اكلوا القد والطهن، وهو الوبر يخلط بالدم والقراد، ثم يؤكل، وانمايقال لصاحب الشدة: دق، لانه يجده وجدان الذائق في تفقده له، ولانه يتجدد عليه إدراكه كما يتجدد على الذائق، وهم مع ذلك خائفون وجلون من النبي صلى الله عليه وسلم.

واصحابه يغيرون على قوافلهم وتجاراتهم " جزاء بماكانوا يصنعون " من الكفر والشرك وتكذيب الرسل، واجرى الخطاب من أول الآية إلى ههنا على التأنيث إضافة إلى القرية، ثم قال - ههنا - " بماكانوا يصنعون " على المعنى أي بما كان أهلها يصنعون.

وروي عن ابي عمرو انه قرأ " لباس الجوع والخوف " بالنصب، كأنه ضمن فعل إرزاقهم الله لباس الجوع، قاذفا في قلوبهم الخوف، لان الله تعالى لم يبعث النبي بالقحط والجوع والخوف، فقد قذف في قلوبهم الرعب من النبي وسراياه.

[434]

قوله تعالى: (ولقد جاء‌هم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون(113) فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون(114))

آيتان بلاخلاف.

قوله " ولقد جاء‌هم رسول منهم " يعني اهل مكة بعث الله منهم رسولا من صميمهم، لا من غيرهم " فكذبوه " وجحدوا نبوته " فأخذهم العذاب وهم ظالمون " أي في حال كفرهم ظالمين اخذهم العذاب، وعذابهم هو ماسلط الله تعالى النبي والمؤمنين حتى قتلوهم يوم بدر وغيره من الايام، وماحل بهم من أنواع العذاب من جهته من الخوف والجوع الذي تقدم ذكره.

ومن قال: المراد بالقرية غير مكة قال: هو صفة تلك القرية التي بعث الله رسولامنهم، ثم خاطب المؤمنين، فقال " كلوا " فصيغته وإن كان صيغة الامر، فالمراد به الاباحة، لان الاكل غير واجب إلا عند الخوف من تلف النفس، ولا مندوب اليه إلا في بعض الاحوال " مما رزقكم الله " أي ملككم التصرف فيه على وجه ليس لاحد منعكم منه " حلالا " أي جعله لكم " حلالا طيبا واشكروا نعمة الله " واعترفوا بها " ان كنتم إياه تعبدون " اي ان كنتم تعبدون الله دون غيره وليس المعنى ان كنتم تعبدون غيره، فلا تشكروه، بل المعنى انه لايصح لاحد أن يشكره إلا بأن يوجه العبادة اليه تعالى وحده.

قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وماأهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم(115))

آية بلاخلاف

قد بينا تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة(1) وهو ان الله حرم الميتة،

___________________________________

(1) انظر 2: 83 - 86

[435]

وهو مالم يذك مما فيه نفس سائلة.

" ولحم الخنزير " وبينا أن الخنزير جميعه حرام، وانما خص اللحم تغليظا، " وما أهل لغيرالله به " والمعنى ماذكر غير الله على تذكيته، لانهم كانوا يذبحونها للاصنام، ثم استثنى المضطر إلى تناول ذلك خوف التلف، فأباح جميع ذلك له، واستثنى من المضطرين البغاة، فلم يبحها لهم، وقد بينا الخلاف فيه، وان قول مجاهد وماذهب اليه أصحابنا هو من خرج على امام عادل.

وقال قوم: معناه غير باغ بذلك الشبع والتقوي به على معصية " ولاعاد " اي يتعدى فيه مايجوز له.

وفي تفسيرنا: أن معنى ولاعاد ماذهب اليه الحسن، وغيره ان الذي يخرج للاعتداء على الناس من قطاع الطريق، فانهم لا يرخصون ان يأكلوا، ذلك على وجه.

ثم اخبر " ان الله غفور رحيم " اي ستار على عباده معاصيهم " رحيم " بهم بأن يغفرها لهم، بالتوبة تارة وتفضلا منه ابتداء تارة أخرى، والمعنى إنه لايعاقب من تناول ماحرم عليه في حال الضرورة.

والاهلال رفع الصوت بالكلام، ومنه الهلال لرفع الصوت بالتكبير عند رؤيته وشبه به صوت الصبي عند الولادة وكل ماذكر عليه اسم معمود غير الله لايحل أكله.

قوله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون(116) متاع قليل ولهم عذاب أليم(117) وعلى الذين هادوا حرمنا ماقصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون(118))

ثلاث آيات.

[436]

(ما) في قوله " لماتصف " مصدرية، والتقدير: ولاتقولوا لوصف ألسنتكم الكذب " هذا حلال وهذا حرام " وقال الزجاج: قرئ " الكذب " على إنه نعت الالسنة، يقال لسان كذوب وألسنة كذب، وحكي أيضا بكسر الباء ردا على (ما) وتقديره للذي تصفه ألسنتكم الكذب، وهذا إنما قيل لهم لماكانوا حرموه وأحلوه، فقالوا " مافي بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا "(1) وقدبيناه فيما تقدم. ثم أخبر عن هؤلاء الذين يقولون على الله الكذب بأنهم " لا يفلحون " أي لاينجون ولايفوزون بثواب الله.

وقوله تعالى " متاع قليل " معناه متاعهم هذا الذي فعلوه وتمتعوا به " متاع قليل " ويجوز في العربية (متاعا) أي يتمتعون بذلك متاعا قليلا " ولهم عذاب أليم " أي في مقابلة ذلك يوم القيامة.

وقوله " وعلى الذين هادوا حرمنا ماقصصنا عليك من قبل " يعني ماذكره في سورة الانعام في قوله " وعلى الذين هادوا حرمنا.. "(2) الآية، في قول قتادة والحسن وعكرمة.

ثم أخبر تعالى أنه لم يظلمهم بذلك ولايبخسهم حظهم " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بكفرهم بنعمة الله وجحودهم لانبيائه، فاستحقوا بذلك تحريم هذه الاشياء عليهم لتغيير المصلحة عندكفرهم وعصيانهم.

قوله تعالى: (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم(119))

آية بلاخلاف.

يقول الله تعالى إن الذي خلقك يامحمد " للذين عملوا السوء " يعني المعصية " بجهالة " أي بداعي الجهل، لانه يدعو إلي القبيح، كما أن داعي العلم يدعو إلي

___________________________________

(1) سورة الانعام آية 139، انظر 4: 6 312 - 316.

(2) سورة الانعام آية 146، انظر 4: 329 - 332

[437]

الخير، فقد يكون ذلك للجاهل، بالشئ وقد يكون للغافل الذي يعمل عمل الجاهل بتغليب هواه على عقله.

وقوله " ثم تابوا " يعني رجعوا عن تلك المعصية، وندموا عليها، وعزموا على أن لايعودوا إلى مثلها في القبح " واصلحوا " نياتهم وافعالهم، فإن الذي خلقك من بعد فعلهم ماذكرناه من التوبة " غفور " لهم ستار عليهم " رحيم " بهم، منعم عليهم. وإنما شرط مع التوبة فعل الصلاح استدعاء إلى فعل الصلاح ولئلا يغتروا بماسلف من التوبة حتى يقع الاهمال لما يكون من الاستقبال.

قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين(120) شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم(121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين(122) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبرهيم حنيفا وماكان من المشركين(123) إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون(124))

خمس آيات بلا خلاف.

اخبر الله تعالى عن ابراهيم (ع) انه " كان أمة " واختلفوا في معناه، فقال ابن مسعود: معناه إنه معلم الخير قدوة " قانتالله " مطيعا.

قال بعضهم: كان ذا أمة " قانتالله ".

وقال قتادة: معناه إنه امام هدى. والقانت الذي يدوم على العبادة لله، وقيل: جعل " امة " لقيام الامة به. والحنيف المستقيم على طريق الحق.

وقوله " ولم يك " يعني ابراهيم " من المشركين " الذين يعبدون مع الله غيره، بل كان موحدا " شاكرا لانعمه " اي بل كان شاكرا لنعمه

[438]

معترفا بها " اجتباه " يعني اختاره الله واصطفاه " وهداه إلى صراط مستقيم " اي حكم بأنه على صراط مستقيم اي لطف له حتى اهتدى إلى طريق الحق.

وقوله " وآتيناه في الدنيا حسنة " اي اعطيناه جزاء على هدايته في هذه الدنيا حسنة، وهي: تنويه الله بذكره في الدنيا بطاعته لربه، ومسارعته إلى مرضاته، وإخلاصه لعبادته، حتى صار إماما يقتدى به، وعلما يهتدى بسنته.

قال قتادة: حتى ليس من اهل دين إلا وهو يتولاه ويرضاه.

وقال الحسن: معنى " حسنة " يعني نبوته.

وقوله " وإنه في الآخرة لمن الصالحين " اخبار منه تعالى انه مع إيتائه الحسنة في الدنيا هو في الآخرة من جملة الصالحين.

وانمالم يقل: لفي اعلى منازل الصالحين، مع اقتضاء حاله ذلك، لمدح من هو منهم، والترغيب في الصلاح ليكون صاحبه في جنب ابراهيم، وناهيك هذا الترغيب في الصلاح، وهذا المدح لابراهيم أن يشرف جملة هو منها، حتى يصير لاستدعاء اليها بأنه فيها.

وقوله " اوحينا اليك ان اتبع ملة ابن إبراهيم حنيفا " أي أمرناك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا مستقيم الطريق، في الدعاء إلى توحيد الله، وخلع الانداد، والعمل بسنته، " وماكان " يعني ابراهيم " من المشركين " بعبادة الله غيره.

وقوله " انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه " اختلفوا في معناه، قال الحسن: معناه انه جعله عليهم بأن لعنهم بالمسخ لاعتدائهم فيه. واختلافهم فيه كان بأن قال بعضهم: هو اعظم الايام حرمة، لانه تعالى فرغ فيه من خلق الاشياء كلها.

وقال آخرون: بل الاحد أفضل، لانه ابتدا أخلق الاشياء فيه.

وقال مجاهد، وابن زيد: عدلوا عما أمروا به من تعظيم الجمعة.

ووجه اتصال هذه الاية بماتقدم أنه لما أمر باتباع الحق، حذر من الاختلاف فيه، بماذكره من حال المختلفين في السبت، بما ليس لهم ان يختلفوا فيه، فشدد عليهم فرضه، وضيق عليهم أمره وقال قوم: معنى " اختلفوا فيه " اي خالفوا فيه، لانهم نهوا عن الصيد فيه فنصبوا الشباك يوم الجمعة، ودخل فيها السمك يوم السبت، فأخذوه يوم الاحد. ثم قال " وان ربك " يامحمد " ليحكم بينهم " أي يفصل بينهم يوم القيامة في الذي كانوا مختلفين فيه، ويبين لهم الصحيح من الفاسد

[439]

قوله تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين(125) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين(126) واصبر وماصبرك إلا بالله ولاتحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون(127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون(128))

أربع آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وإسماعيل عن نافع " ضيق " بكسر الضاد. الباقون بفتحها، فمن فتح اراد " ضيق " فخفف مثل سيد وسيد، وميت وميت وهين وهين.

ويجوز ان يكون أراد جمع ضيقة كماقال الشاعر: كشف الضيقة عنا وفسح.

ومن كسر يجوز أن يجعله لغتين، ويجوز أن يكون الضيق إسما والضيق مصدرا والاختيار ان يقال: الضيق في المكان والمنزل، والضيق في غير ذلك، فان كان كذلك " فالاختيار ولاتك في ضيق " لانه تعالى لم يرد ضيق المعيشة، ولاضيق المنزله.

وأصل " ولاتك " ولاتكن، فاستثقلوا الضمة على الواو فنقلوها إلى الكاف، فالتقى ساكنان: الواو، والنون، فحذفوا الواو، لالتقاء الساكنين، ومن حذف النون أيضا، فلان النون ضارعت حروف المد واللين، وكثر استعمال (كان يكون) فحذفوها كذلك ألا ترى أنك تقول: لم يكونا. والاصل يكونان فأسقطوا النون بالجزم وشبهوا لم يك في حذف النون بلم يكونا.

[440]

أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو عباده المكلفين بالحكمة، وهو أن يدعوهم إلى أفعالهم الحسنة التي لها مدخل في استحقاق المدح والثواب عليها، لان القبائح يزجر عنها، ولايدعو اليها، والمباح لايدعو إلى فعله، لانه عبث، وإنما يدعو إلى ماهوواجب أوندب، لانه يستحق بفعله المدح والثواب، والحكمة هي المعرفة بمراتب الافعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد.

وقيل لها: حكمة، لانها بمنزلة المانع من الفساد، ومالاينبغي أن يختار، والاصل المنع كما قال جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاء‌كم *** إني أخاف عليكم أن أغضبا(1)

أي امنعوهم من السفه، والفرق بين الحكمة والعقل: أن العاقل هوالعاقد على مايمنع من الفساد، والحكيم هوالعارف بمايمنع من الفساد، الحكمة مشتركة بين المعرفة وبين العقل المستقيم، لان كل واحد منهما ممتنع من الفساد عار منه والقديم تعالى لم يزل حكيما بمعني لم يزل عالما، ولايجوز لم يزل حكيما فيما يستحق لاجل الفعل المستقيم، وكل حكمة يكون بتركها مضيعا لحق النعمة يجب على المكلف طلبها. معرفة كانت أو فعلا.

والموعظة الحسنة. معناه الوعظ الحسن وهوالصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه والتزهيد في فعله. وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع.

وقيل: ان الحكمة النبوة. والموعظة القرآن " وجادلهم بالتي هي أحسن " فالجدال فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج " بالتي هي أحسن " وفيه الرفق والوقار والسكينة مع نصرة الحق بالحجة. ثم أخبر " ان ربك " يامحمد " اعلم بمن ضل عن سبيله " بأن عدل عنها و " أعلم من غيره بمن اهتدى اليها وليس عليك غير الدعاء.

وقوله " وان عاقبتم فعاقبوا " قيل: في سبب نزول هذه الآية قولان: احدهما - ان المشركين لما مثلوا بقتلى أحد.

قال المسلمون: متى اظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم اعظم مما مثلوا بنا. ذكره الشعبي وقتادة وعطاء.

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1: 142، 2: 188، 4: 496، 5: 512

[441]

الثاني - قال مجاهد وابن سيرين وابراهيم: انه في كل ظالم بغصب او نحوه.

فإنما يجازي بمثل ماعمل وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية القتال، لان هذا قبل ان يؤمروا بالجهاد ثم قال " ولئن صبرتم " اي إن تركتم المجازاة والقصاص وتجرعتم مرارته " لهو خير للصابرين " في العاقبة.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته معه " واصبر " يامحمد وليس صبرك " إلا بالله " اي إلا بتوفيق الله وإقداره وترغيبه فيه " ولاتحزن عليهم " يعني على المشركين، لاعراضهم عنك. وقيل المراد لاتحزن على قتلى أحد لما اعطاهم الله من الخير " ولاتك في ضيق مما يمكرون " اي لايكن صدرك ضيقا مما يمكر به المشرك من الخديعة وغيرها، ومافعلوا بقتلى أحد من المثلى " إن الله مع الذين اتقوا " معاصيه خوفا من عقابه، بالنصر لهم والتأييد، ومع " الذين هم محسنون " في افعالهم، غير فاعلين للقبائح يقذف في قلوب اعدائهم الرعب، خوفا من رسول الله وسراياه




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338850

  • التاريخ : 29/03/2024 - 12:08

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net