00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاسراء من ( آية 1 ـ 36 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السادس )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

17 - سورة الاسراء

هي مكية في قول مجاهد وقتادة، وهي مئة واحدى عشرة آية في الكوفي ومئة وعشر آيات في البصري والمدني.

الآية: 1 - 30

بسم الله الرحمن الرحيم

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد ألحرام إلى المسجد الاقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير(1) وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا(2) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا(3))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ أبوعمرو وحده " ألا يتخذوا " بالياء. الباقون بالتاء، والمعنى فيهما قريب، والتقدير، وجعلناه هدى لنبي اسرائيل ألا تتخذوا " وقلنا لهم: لا تتخذوا، كما تقول: قلت لزيد قم، وقلت له ان يقوم.

[444]

وقال تعالى " قل للذين كفروا ستغلبون(1) " بالتاء والياء.

ومعنى " من دوني وكيلا " أي كافيا وربا، ونصب " ذرية " على النداء، وهوخطاب لجميع الخلق، لان الخلق كله من نسل نوح من بنيه الثلاثة: حام: وهو ابوالسودان، ويافث: وهو أبوالبيضان: الروم والترك والصقالبة وغيرهم، وسام: وهو ابوالعرب والفرس.

وتقديره ياذرية من حملنا، ووزن " ذرية " فعلية، من الذر، ويجوز ان يكون (فعولة) من الذر واصله (ذروية) فقلبت الواو ياء وادغمت في الياء، قال أبوعلي النحوي: ويجوز ان يكون نصبا على أنه مفعول الاتخاذ لانه فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله " واتخذالله ابراهيم خليلا "(2) وقال " اتخذوا أيمانهم جنة "(3) وعلى هذا يكون مفعولا ثانيا على القراء‌تين، ومتى نصبته على النداء، فانما يتأتى ذلك في قراء‌ة من قرأ بالتاء، والاسهل أن يكون على قراء‌ة من قرأ بالياء، لان الياء للغيبة، والنداء للخطاب، و (أن) في قوله " ألا تتخذوا " يحتمل ثلاثة أوجه: احدها أن تكون (أن) الناصبة للفعل، والمعنى جعلناه هدى، كراهة أن تتخذوا، أو لان لا تتخذوا.

والثاني - أن تكون (أن) بمعني أي، لانه بعد كلام تام والتقدير أي لا تتخذوا.

والثالث - أن تكون (أن) زائدة، ويضمر القول.

والوكيل لفظه واحد، والمراد به الجمع، لان معناه حينئذ (فعيلا) فيكون مفرد اللفظ والمراد به الجمع، نحو قوله " وحسن اولئك رفيقا "(4).

قال أبو عبيد: أهل المدينة يقولون في نصب (سبحان) أنه اسم في موضع مصدر سبحت الله تسبيحا، والتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم منه، كقولك كفرت اليمين تكفيرا، أو كفرانا، والتكفير المصدر، الكفران الاسم، قال أمية ابن أبي الصلت:

___________________________________

(1) سورة آل عمران اية 12.

(2) سورة 4 النساء آية 125.

(3) سورة 58 المجادلة آية 16.

(4) سورة النساء آية 69

[445]

سبحانه ثم سبحانا يعود له *** وقبلنا سبح الجودي والجمد(1)

وقال بعضهم انه يجوز أن يكون نصبا على النداء، يريد: ياسبحان ومعناه: التنزيه لله والتبعيد له من كل ما لا يليق به، والتسبيح يكون بمعنى الصلاة، كقوله " فلولا انه كان من المسبحين(2) أي من المصلين - ذكره اكثر المفسرين - ومنه السبحة وهي النافلة.

وروي أنه كان ابن عمر يصلي سبحته في موضعه الذي يصلي فيه المكتوبة ويكون بمعنى الاستثناء، كقوله " فلولا تسبحون " أي فلولا لاتستثنون، وهي لغة لبعض أهل اليمن، ولا وجه للكلام غيره، لانه قال " إنا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة " إلى قوله " ولايستثنون " ثم " قال: أوسطهم الم أقل لكم لو لاتسبحون "(3) فذكرهم تركهم الاستثناء فأما سبحة النور التي دون الله، قال المبرد: لايعرف إلامن الخبر الذي روي (لولا ذلك لاحرقت سبحات وجهه) بمعنى نور وجهه أي الذي إذا رأى الرائي قال سبحان الله.

وقال سيبويه (سبحان) براء‌ة الله من السوء وهذا اسم لهذا المعنى معرفة وقال الاعشى:

أقول لما جاء‌ني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر(4)

اي براء‌ة منه ولاينزه بلفظ سبحان غير الله، وانما ذكره الشاعر نادرا على الاصل واجراه كالمثل في قوله " وان من شئ الا يسبح بحمده "(5) معناه ليس شئ إلا وفيه دلالة على تنزيه الله مما لايليق به، وقولهم: سبح تسبيحا أي قال سبحان الله، والسبح في التعظيم الجري فيه.

والاسراء سير الليل، اسرى اسراء وسرى يسرى سرى لغتان، قال الشاعر:

وليلة ذات جى سريت *** ولم يلتني عن سراها ليت(6)

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 3: 82، 5: 563.

(2) سورة 37 الصافات آية 143.

(3) سورة 27 القلم اية 17 - 29.

(4) ديوانه (دار بيروت) 94 وقد مر في 1: 124، 81، 5:، 241، 395.

(5) سورة 17 الاسرى آية 44.

(6) تفسسير القرطبي 10: 205 ورايته (ندى) بدل (دجى) وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 15: 3، واللسان (ليت) ولم يعرف قائله. والمعنى: سرت في ليلة دجى، ولم يؤخرني، ولامنعني عن السير مانع.

[446]

وقوله " ليلا " معناه بعض الليل، على تقليل وقت الاسراء، ويقوي ذلك قراء‌ة حذيفة، وعبدالله " من الليل " وروت أم هاني بنت ابي طالب: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان في منزلها ليلة أسري به.

وقال الحسن وقتادة: كان في نفس المسجد الحرام. وروي عن أم هاني أن الحرم كله مسجد. والمسجد الاقصى هو بيت المقدس، وهو مسجد سليمان بن داود - في قول الحسن وغيره من المفسرين - وانما قيل له: الاقصى، لبعد المافة بينه وبين المسجد الحرام.

وقال الحسن: صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب في المسجد الحرام. ثم أسري به إلى بيت المقدس في ليلة ثم رجع، فصلى الصبح في المسجد الحرام، فلما اخبر به المشركين كذبوا ذلك، وقالوا: يسير مسيرة شهر في ليلة واحدة؟ ! وجعلوا يسألون عن بيت المقدس ومارأى في طريقه، فوصفه لهم شيئا شيئا بما يعرفونه ثم اخبرهم انه رأى في طريقه قعبا مغطا مملوء‌ا ماء فشرب الماء كله ثم غلطاه كما كان، ووصف لهم صفة إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل المتاع، فقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق، فقعدو في ذلك اليوم يستقبلونها، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد أشرقت، ولم تأت وقال آخر هذا والله العير يقدمها جمل اورق، كماذكر محمد، فكان ذلك معجزة له باهرة، ودلالة واضحة لولا العناد، وكان نفس الاسراء حجة له صلى الله عليه وسلم لا انه يحتاج إلى دلالة كغيره، ولذلك قال تعالى " لنريه من آياتنا " فكان الاسراء من جملة الآيات التي تأكد بها يقينه وازدادت به بصيرته، لانه كان قدعلم نبوته بما تقدم له من الآيات، فكان هذا على وجه التأكيد لذلك.

وعند أصحابنا وأكثر أصحاب التأويل، وذكره الجبائي ايضا: انه عرج به في تلك الليلة إلى السماء وأت حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة، واراه الله من آيات السموات والارض ماازداد به معرفة ويقينا، وكان ذلك في يقظته دون منامه، والذي يشهد به القرآن الاسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى، والباقي يعلم بالخبر.

[447]

وقوله " الذي باركنا حوله " يعني بالثمار ومجاري الانهار، وقيل " باركنا " حوله بمن جعلنا حوله من الانبياء والصالحين، ولذلك جعله مقدسا. " لنريه من آياتنا " من العجائب التي فيها اعتبار. وروي أنه كان رأى الانبياء حتى وصفهم واحدا واحدا.

وقوله " إنه هو السميع البصير " اخبار منه تعالى أنه يجب أن يدرك المبصرات والمسموعات اذا وجدت، لانه حي ولايجوز عليه الآفات.

وقوله " وآتينا موسى الكتاب " يعني التوراة " وجعلناه " يعني التوراة التي انزلها " هدى " ودلالة لبني اسرائيل، وقلنالهم " لاتتخذوا من دوني وكيلا " أي ربا تتوكلون عليه وكافيا تسندون اموركم اليه وقال مجاهد: معنى " وكيلا " شريكا، قال المبرد: هذا لا شاهد له في اللغة.

وقلنا يا " ذرية من حملنا مع نوح " في سفينته وقت الطوفان " انه كان عبدا شكورا " يعني نوحا كان عبدا، كان لله شاكرا له على نعمه.

وروي انه اذا كان اراد أكل طعام أو شراب قال: بسم الله، إذا شبع قال الحمدلله، ومن قال: هونصب على أنه مفعول، فانه قال تقديره لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا من دوني.

قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا(4) فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا(5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا(6))

ثلاث آيات بلاخلاف.

[448]

القضاء على أربعة أقسام: بمعنى الخلق والاحداث، كماقال " فقضاهن سبع سموات "(1) وبمعنى فصل الحكم كقوله " والله يقضي بالحق(2) وبمعنى الامر كقوله " وقضى ربك أن تعبدوا إلا اياه "(3) وبمعنى الاخبار كقوله " وقضينا إلى بني اسرائيل " اي اخبرناهم واعلمناهم بما يكون من الامر المذكور، من انهم سيفسدون في الارض مرتين، ويعلون علوا كبيرا، اي عظيما اي يتجبرون على عباد الله.

قال ابن عباس وقتادة: المبعوث عليهم في المرة الاولى جالوت إلى ان قتله داود، وكان ملكهم طالوت.

وقال سعيد ابن المسيب: هو بخت نصر، وقال سعيدبن جبير: هو سنحاريب وقال الحسن: هم العمالقة، وكانوا كفارا.

والفساد الذي ذكره: هو قتلهم الناس ظلما وتغلبهم على اموالهم قهرا واخراب ديارهم بغيا.

والآية تدل على ان قضاء الله بالمعاصي هو اخباره انها تكون.

وقوله " فلما جاء وعد أولاهما " يعني وقت فناء آجالهم ووقت عقوباتهم. والوعد هو الموعودبه - ههنا - ووضع المصدر موضع المفعول به.

وقوله " بعثنا عليكم عبادا لنا اولي بأس شديد " قيل في معنى (بعثنا) قولان: احدهما - قال الحسن: انا خلينا بينهم وبينكم، خاذلين لكم، جزاء على كفركم، ومعاصيكم، كماقال: " ان ارسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم ازا "(4) الثاني - قال ابوعلي: امرناهم بقتالكم.

وقوله " فجاسوا خلال الديار " اي ترددوا وتخللوا بين الدور، يقال: جست أجوس جوسا وجوسانا، قال حسان:

___________________________________

(1) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 12.

(2) سورة 40 المؤمن (غافر) آية 20.

(3) سورة 17 الاسرى آية 23.

(4) سورة 19 مريم آية 84

[449]

ومنا الذي لاقى بسيف محمد *** فجاس به الاعداء عرض العساكر(1)

معناه تخللهم قتلا بسيفه، وقيل: الجوس طلب الشئ باستقصاء.

وقوله " وكان وعدا مفعولا " أي كائنا لامحالة على ماأخبرنا به، ثم قال لهم " رددنا لكم الكرة عليهم " يعني الرجعة والنصرة عليهم " وأمددناكم بأموال وبنين " أي أعناكم وكثرناكم " وجعلناكم اكثر نفيرا " اي اكثر انصارا، ونصبه على التمييز، قال الزجاج: يجوز أن يكون (نفيرا) جمع نفير كعبيد وضنين ومعين قال الفراء: زعموا أن رجلا من همدان بعثه الله على بخت نصر، فقتله وعاد الملك إلى بني إسرائيل فعاشوا.

قوله تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا(7))

آية بلاخلاف.

قرأ الكسائي " لنسو وجوهكم " بالنون وفتح الواو، كما يقال: لن ندعو، فعلامة النصب فتحة الواو وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبوبكر عن عاصم بالياء على واحد " ليسوي " الباقون بالياء والمد، وعلامة النصب - ههنا - حذف النون، وإنما مدوا، لتمكين الهمزة، لان كل واو سكنت وانضم ماقبلها وثبتت بعدها همزة، فلابد من مد، في كلمة كانت أو كلمتين، نحو " قالوا آمنا "(2) وفي

___________________________________

(1) تفسير الطبري (الطبعة الاولى) 15: 21 وتفسير الشوكاني 3: 202 ولم اجده في ديوان حسان المطبوع في بيروت (دار صادر، دار بيروت). وهو ايضا في تفسير القرطبي 10: 216.

(2) سورة 2 البقرة اية 14

[450]

كلمة واحدة نحو " تبوء باثمي "(1) " وتبوء بحمله " وفي قراء‌ة أبي " ليسؤن وجوهكم " بنون خفيفة للتأكيد، كقوله " لنسفعا بالناصية "(2) قال أبوعلي الفارسي: لما قال " لتفسدن في الارض مرتين " وبين المرة الاولى قال " فإذا جاء وعد الآخرة " أي المرة الآخرة بعثناهم " ليسوء‌وا وجوهكم " فحذف (بعثناهم) لانه تقدم ذكره، لانه جواب (إذا)، وشرطها يقتضيه، فحذف للدلالة عليه فأما معنى " ليسؤوا " فقال أبوزيد: يقال: سؤته سأة وساء‌ة ومساء‌ة ومسائية وسوأية، وقال " وجوهكم " على أن الوجوه مفعولا ل‍ " يسؤوا " وعدي إلى الوجوه، لان الوجوه قد يراد بها ذوو الوجوه كقوله " وكل شئ هالك إلا وجهه "(3) وقال " وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة "(4) وقال " ووجوه يومئذ ناضرة "(5) وقال النابغة:

أقارع عوفا لا أحاول غيرها *** وجوه قرود تبتغي من تجادع(6)

فكأن الوجوه إنما خصت بذلك، لانها تدل على ماكان من تغير الوجوه من الناس، من حزن أو مسرة، وبشارة وكآبة.

وحجة من قرأ بالياء والجمع انه أشبه بما قبله ومابعده، لان الذي جاء قبله " بعثا عليكم رجالا " وبعده " وليدخلوا المسجد " وهو بيت المقدس، والمبعوثون في الحقيقة هم الذين يسؤونهم لقتلهم إياهم وأسرهم لهم، فهو وفق المعنى.

ومن قرأ بالياء والتوحيد، ففاعل " ليسوء‌وا " أحد شيئين. أحدهما - أن يكون اسم الله، لان الذي تقدم " بعثنا " " ورددنا لكم " و " امددناكم ". والآخر - ان يكون البعث والوعد، ودل عليه " بعثنا " المتقدم كقوله " لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم "(7) اي البخل.

___________________________________

(1) سورة 5 المائدة اية 3.

(2) سورة 96 العلق اية 15.

(3) سورة 28 القصص اية 88.

(4) سورة 80 عبس اية 40.

(5) سورة 75 القيامة اية 23.

(6) ديوانه (دار بيروت) 80 واللسان (جدع).

(7) سورة 3 آل عمران اية 180

[451]

ومن قرأ بالنون كان المعنى كقول من قدر أن الفعل ماتقدم من اسم الله وجاز ان تنسب المساء‌ة إلى الله، وإن كانت من الذين جاسوا خلال الديار في الحقيقة، لانهم فعلوها بقدرة لاله وتمكينه، فجاز ان تنسب اليه، كماقال " ومارميت اذ رميت ولكن الله رمى "(1) ويجوز ان يكون اللام في قوله " ليسؤوا " وليدخلوا " " وليتبروا " لام العاقبة، لان الله لا يريد منهم ذلك من حيث كان ذلك ظلما وفسادا.

يقول الله تعالى لخلقه من المكلفين " إن أحسنتم " اي فعلتم الافعال الحسنة من الانعام إلى الغير، والافعال الجميلة التي هي طاعة " أحسنتم لانفسكم "، لان ثواب ذلك، واصل اليكم " وإن أسأتم " إلى الغير وظلمتموه " أسأتم " لانفسكم لان وبال ذلك وعقابه واصل اليكم، وإنما قال " فلها " ليقابل قوله " احسنتم لانفسكم " والمعنى ان اسأتم فإليها، كمايقال: احسن إلى نفسه ليقابل اساء إلى نفسه، على ان حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض اذا تقاربت معانيها، قال تعالى " بأن ربك اوحى لها "(2) والمعنى اوحى اليها.

ومعنى انت في منتهى لاساء‌ة، وانت المختص بالاساء‌ة، متقارب.

" فإذا جاء وعد الآخرة " يعني وعد المرة الاخرة " ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد " يعني المبعوثين عليكم " كمادخلوه " في المرة الاولى يعنى غيرهم، لان هؤلاء بأعيانهم لم يدخلوها في الدفعة الاولى " وليتبتروا ماعلوا تتبيرا " فالتبار والهلاك، والدمار واحد، وكل ما انكسر من الزجاج والحديد والذهب تبر.

ومعنى " ماعلوا تتبيرا " ماغلبوا عليه، وجواب (اذا) محذوف وتقديره: فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم. وقيل: بعثناهم ليسؤوا.

___________________________________

(1) سورة 8 الانفال اية 17.

(2) سورة 99 الزلزال اية 5

[452]

قوله تعالى: (عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا(8) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا(9) وأن الذين لايؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما(10))

ثلاث آيات بلاخلاف.

يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم: بأن قل لبني اسرائيل " عسى ربكم أن يرحمكم " إن أقمتم على طاعته وترك معاصيه (وعسى) من الله واجبة، ويجوز ان يكون بمعنى الابهام على المخاطب.

وقوله " وإن عدتم " يعني في معاصي الله، والكفر به وجحد أنبيائه " عدنا " في عذابكم، والتسليط عليكم، كما فعلناه أول مرة، وقال ابن عباس وقتادة: عادوا فبعث الله عليهم المسلمين يذلونهم بالجزية والمحاربة إلى يوم القيامة.

قوله " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " قال ابن عباس ومجاهد وابن زيذ وقتادة: محبسا، والحصير الحبس، ويقال للملك حصير، لانه محجوب، قال لبيد:

وقماقم غلب الرقاب كأنهم *** جن لدى باب الحصير قيام(1)

وقال الحسن: يعني مهادا، كماقال " لهم من جهنم مهاد "(2) والحصير البساط المرمول، يحصر بعضه على بعض بذلك الضرب من النسج، ويقال للجنبين: الحصيران، لحصرهما ما أحاطا به من الجوف ومافيه. وفيه لان بعض أضلاعه حصر مع بعض، يسمى البساط الصغير حصيرا، وحصير بمعنى محصور، كرضي بمعنى مرضي.

___________________________________

(1) ديوانه 2 / 39 وتفسير القرطبي 10 / 224 ومجاز القرآن 1 / 371 وتفسير الطبري 15 /: 3 وسمط اللالي 955 وروح المعاني 15 / 21 والصحاح، والتاج، واللسان (حصر).

(2) سورة 7 الاعراف آية 41

[453]

ثم أخبر تعالى أن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم " يهدي " اي يدل " للتي هي أقوم " قال الفراء: لشهادة أن لا إله إلا الله.

ويحتمل أن يكون المراد يهدي لجميع سبل الدين، التي هي أصوب من غيرها: من توحيد الله، وعدله، وصدق انبيائه، والعمل بشريعته، وفعل طاعاته، وتجنب معاصيه " ويبسر؟ المؤمنين " يعني القرآن يبشرهم " بأن لهم أجرا كبيرا " وثوابا عظيما، على طاعاتهم، يبشرهم أيضا ب‍ " أن الذين لايؤمنون بالآخرة " ويجحدون البعث والنشور أعد الله لهم " عذابا أليما " يعني مؤلما موجعا، " واعتدنا " أصله أعددنا فقلبت إحدى الدالين تاء، فرارا من التضعيف إلى حرف من مخرج الدال، وتكون البشارة قد أوقعت على أن لهم الجنة، وأن لعدوهم النار، فلذلك نصب (أن) في الموضعين.

ويحتمل أن يكون نصب (أن) الثانية على حذف اللام، والتقدير، لان الذين لايؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما، ولوكسرت على الاستئناف جاز غير أنه لايقرأ به احد.

قوله تعالى: (ويدع الانسان بالشر دعاء‌ه بالخير وكان الانسان عجولا(11) وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا(12))

آيتان بلاخلاف.

قيل في معنى قوله " ويدع الانسان " قولان: احدهما - ماذكره ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد انه يدعو علي نفسه وولده عند غضبه، فيقول: اللهم العنة واغضب عليه ومااشبهه، فيمنعه الله، ولو اعطاه لشق عليه. والثاني - قال قوم: انه يطلب ماهو شر له لتعجيل لانتفاع به مثل دعائه بما هو خير له، ويقوي ذلك قوله " وكان الانسان عجولا " ومعنى قوله " وكان

[454]

الانسان عجولا " قال مجاهد: لانه يجعل بالدعاء بمالايجوز.

وقال ابن عباس: على طبع آدم لما نفخ فيه الروح فبلغت إلى رجليه، قبل ان تجري فيهما، رام النهوض.

العجلة طلب الشئ قبل وقته الذي لايجوز تقديمه عليه او ليس بأولى فيه والسرعة عمل الشئ في أول وقته الذي هو أولى به. ثم أخبر أنه تعالى جعل " الليل والنهار آيتين " يريد الشمس والقمر في هذا الموضع - عند قوم - وقال الجبائي: هما الليل والنهار، وهو الظاهر، وهما دليلان على توحيد الله، لان احدا لايقدر على الاتيان بالنهار، ولا على اذهابه والاتيان بالليل، وانما يقدر عليه القادر لنفسه الذي لايتعذر عليه شئ. ثم اخبر انه جعل احدى الآيتين ممحوة وهي الليل اي لاتبصر فيها المرئيات كمالا يبصر ما يمحى من الكتاب، وهو من البلاغة العظيمة.

وقال ابن عباس: محو آية الليل السواد الذي في القمر، وروي عن علي (ع) أنه اللطخة التي في القمر.

وقوله " وجعلنا آيه النهار مبصرة " قيل في معناه قولان: أحدهما - مضيئه للابصار. الثاني - جعلنا أهله بصرا، فيه كما يقال: رجل مخبث أي أهله خبثاء ورجل مضعف أي أهله ضعفاء، فكذلك النهار مبصرا أي أصحابه بصراء.

ثم بين الغرض بذلك، وانما جعله كذلك " لتبتغوا فضلا " أي تطلبوا فضلا من ربكم " ولتعلموا عدد السنين والحساب " في مواقيتكم ومعاملاتكم ومعرفة سنينكم وغير ذلك، فيكثر بذلك انتفاعكم " وكل شئ فصلناه تفصيلا " أي ميزنا كل شئ، تمييزا ظاهرا بينا لايلتبس، وبيناه بيانا لايخفى.

[455]

قوله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيمة كتابا يلقاه منشورا(13) إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا(14) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولاتزر وازرة وزر أخرى وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا(15))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ أبوجعفر " ويخرج " بضم الياء، وفتح الراء، وقرأ يعقوب بالياء وفتحها وضم الراء. الباقون بالنون، وضمها، وكسر الراء.

واتفقوا على نصب " كتابا " وقرأ ابن عامر وأبوجعفر " يلقاه " بضم الياء، وفتح اللام وتشديد القاف.

الباقون بفتح الياء وسكون اللام وفتح القاف وتخفيفها، ونصب كل انسان بفعل يفسره ألزمناه " وتقديره ألزمنا كل انسان ألزمناه، كماقال " والقمر قدرناه "(1) فيمن نصب.

ومعنى طائره قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة: عمله من خير أو شر كالطائر الذي يجئ من ذات اليمين، فيتبرك به، والطائر الذي يجئ من ذات الشمال فيتشاء م به، وطائره عمله.

والزام الله طائره في عنقه: الحكم عليه بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

وقيل: معناه ان يحكم بأن عمله كالطوق في عنقه.

ثم اخبر تعالى أنه يخرج للانسان المكلف يوم القيامة كتابا فيه جميع أفعاله مثبتة مايستحق عليه ثواب او عقاب.

وقوله " يلقاه " قرأ ابن عامر يضم الياء وفتح اللام، وتشديد القاف، بمعنى ان الملائكة يستقبلونهم. الباقون بفتح الياء والقاف، بمعنى أنهم يلقونه ويرونه.

فمن قرأ بالتخفيف، فمن لقيت الكتاب، فاذ ضاعفت قلت لقانيه، وقد يتعدى بتضعيف العين إلى مفعولين بعد ان كان متعديا إلى مفعول واحد، فاذا بني للمفعول به نقص مفعول واحد من المفعولين، لان أحدهما يقول مقام الفاعل،

___________________________________

(1) سورة يس آية 39

[456]

لاسناد الفعل اليه، فيبقى متعديا إلى مفعول واحد، وعلى هذا قوله " ويلقون فيها تحية وسلاما "(1) وفي البناء للفاعل " ولقاهم نضرة وسرورا "(2) وحكي عن الحسن ومجاهد أنهما قرء‌ا " ويخرج " بفتح الياء وضم الراء، والمعنى يخرج طائره له " كتابا " نصب على التمييز، وقيل في (طائره) أنه عمله.

وقيل: أنه حظه، وماقدمه من خير او شر قال المؤرج: الطائر العمل، بلغة الانصار، ويكون المعنى على هذا ويخرح؟ عمله له كتابا أي ذا كتاب، ومعناه أنه مثبت في الكتاب الذي قال فيه " لايغادر صغيرة ولاكبيرة الا أحصاها "(3) وقال " هاؤم اقرؤا كتابيه "(4) وانما قيل لعمله طائره - وطيره في بعض القراء‌ات - على تعارف العرب، يقولون: جرى طائره بكذا، ومثله قوله " قالوا طائركم معكم "(5) وقوله " انما طائرهم عندالله "(6) وقال ابوزيد: مامرمن طائر أو ظبي أو غيره، كل ذلك عندهم طائر، قال ابوزيد: قولهم: سألت الطير، وقلت للطير، انما هو زجر، وقولهم زجرني الطباء والطير معناه وقع زجري عليهما، على كذا وكذا، من خير أو شر، ومنه قول الكميت:

ولا أنا ممن يزجر الطير همه *** أصاح عزاب أو تعرض ثعلب(7)

وقال حسان:

ذرينى وعلمي بالامور وشيمتي *** فماطائري فيها عليك بأخيلا(8)

اي ليس رأيي بمشوم، وقال كثير:

أقول إذا ما الطير مرت مخيلة *** لعلك يوما فانتظر ان تنالها(9)

معنى مخيلة مكروهة من الاخيل، ومعنى " في عنقه " لزوم ذلك له وتعلقه

___________________________________

(1) سورة الفرقان آية 75.

(2) سورة الدهر آية 11.

(3) سورة الكهف آية 50.

(4) سورة الحاقة اية 19.

(5) سورة 36 يس اية 19.

(6) سورة الاعراف 131.

(7) امالي الشريف المرتضى 1: 67 ومجمع البيان 3: 403.

(8) ديوانه 206 واللسان (خيل) ومجمع البيان 3: 403.

(9) مجمع البيان 3: 403

[457]

به، ومثله قولهم: طوقتك كذا، وقلدتك كذا اي الزمته إياك ومثله، قلده السلطان كذا، اي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة، وإنما خص إلزام الطائر بالعنق، لانه إضافة مايزين من طوق، او مايشين من عمل يضاف إلى الاعناق، ولان في عرف الناس ان يقولوا: هذا في رقبتك.

وقد يضاف العمل إلى اليد ايضا كماقال " ذلك بما قدمت ايديكم "(1) وإن كان كسبه بفرجه ولسانه، وغير ذلك، وإنما يذم بذلك على وجه التقريع والتبكيت بمافعله من المعاصي، ويكون في العلم بذلك لطف في دار الدنيا، وان كان الله عالما بتفصيل مافعلوه.

وقوله " كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " اي حسبك نفسك اليوم حاكما عليك في عملك وماتستحقه من ثواب على الطاعة ومن عقاب على المعصية، لانه أنصفك من جعلك حسيبا على نفسك بعملك. وقيل معنى " حسيبا " شاهدا وشهيدا.

وقوله " من اهتدى " يعني فعل الخيرات والطاعات وانتفع بهداية الله إياه " فإنما يهتدي لنفسه " وأن ثواب ذلك واصل اليه " ومن ضل " اي جار عن الحق وعدل عن الصواب وارتكب المعاصي " فإنما يضل عليها " اي يجوز عليها لان عقاب ذلك ووباله واصل اليه، لان الله تعالى قال " لاتزر وازرة وزر أخرى " اي لايأخذ احدا بذنب غيره، والوزر الائم، وقيل معناه لايجوز لاحد أن يعمل الاثم، لان غيره عمله، والاول أقوى.

وقوله " وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا " اخبار من الله أنه لايعاقب احدا على معاصيه، حتى يستظهر عليه بالحجج وانفاذ الرسل ينبهونه على الحق، ويهدونه اليه ويرشدونه إلى سلوكه، استظهارا في الحجة، لانه اذا اجتمع داعي القعل وداعي السمع إلى الحق، تأكد الامر وزال الريب فيما يلزم العبد، وليس في ذلك دلالة على انه لولم يبعث رسولا لم يحسن منه ان يعاقب اذا ارتكب العبد

___________________________________

(1) سورة آل عمران اية 182

[458]

القبائح العقلية، اللهم إلا أن يفرض أن في بعثه الرسول لطفا، فإنه لايحسن من الله تعالى مع ذلك أن يعاقب احدا إلا بعد أن يعرفه ماهو لطف له ومصلحة لتزاح علته.

وقيل: معناه " وماكنا معذبين " بعذاب الاستئصال والاهلاك في الدنيا " حتى نبعث رسولا ".

وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: من ان الله يعذب اطفال الكفار بكفر آبائهم، لانه بين أنه لا يأخذ احدا بجرم غيره.

قوله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا(16))

آية بلاخلاف.

قرأ يعقوب " آمرنا " بمد الهمزة. وعن الحسن " أمرنا " بالتشديد، وروي عنه " أمرنا " بكسر الميم خفيفة وهي ردية.

ذكر في هذه الآية وجوه أربعة: أحدها - ان مجرد الاهلاك لايدل على أنه حسن أو قبيح، بل يمكن وقوعه على كل واحد من الامرين، فإذا كان واقعا على وجه الظلم، كما قبيحا، وإذا كان واقعا على وجه الاستحقاق أو على وجه الامتحان، كان حسنا، فتعلق الارادة به لايقتضى تعلقها على الوجه القبيح. وإذا علمنا أن القديم لايفعل القبيح، علمنا أن إرادته الاهلاك على الوجه الحسن.

وقوله " أمرنا مترفيها المأمور به محذوف، وليس يجب أن يكون المأمور به هو الفسق وان وقع بعده الفسق، بل لايمتنع أن يكون التقدير: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرناهم بالطاعة، ففسقوا فيها فحق عليها القول، وجرى ذلك مجرى قولهم: أمرته فعصى ودعوته فأبى، والمراد أمرتة بالطاعة ودعوته إلى الاجابة والقبول، فعصى.

[459]

فإن قيل: أي معنى لتقدم الارادة؟ فإن كانت متعلقة بإهلاك يستحق بغير الفسق المذكور في الآية، فلامعنى لقوله " إذا أردنا.. أمرنا "، لان أمره بما يأمر به لايحسن إرادته للعقاب المستحق بما تقدم من الافعال، وإن كانت الارادة متعلقة بالاهلاك المستحق بمخالفة الامر المذكور في الآية، فهو الذي تأبونه، لانه يقتضي أنه تعالى مريد لاهلاك من لم يستحق العقا ب ! !.

قلنا: لم تتعلق الارادة إلا بالاهلاك المستحق بما تقدم من الذنوب، وإنما حسن قوله " إذا أردنا.. أمرنا " أن في تكرار الامر بالطاعة بالايمان إعذارا للعصاة وإنذارا لهم وإيجابا للحجة عليهم، ويقوي ذلك قوله قبل هذه الآية " وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا " منبها بذلك أنه أراد إثبات الحجة وتكررها عليهم.

الثاني - أن يكون قوله " أمرنا مترفيها " من صفة القرية وصلتها، ولايكون جوابا لقوله " وإذا أردنا " ويكون تقدير الكلام: وإذا أردنا أن نهلك قرية من صفتها أنا " أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " ولايكون ل‍ (إذا) جواب ظاهر في اللفظ، للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه، ومثله قوله " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم " إلى قوله " فنعم أجر العاملين "(1) ولم يأت ل‍ (إذا) جواب في طول الكلام للاستغناء عنه، وقال الهذلي:

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة *** شلا كما يطرد الجمالة الشردا(2)

فحذف جواب (إذا) ولم يأت به، لان هذا البيت آخر القصيدة.

الثالث - أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، وتقديره إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة، فعصوا، واستحقوا العقاب، أردنا إهلاكهم، ويشهد بهذا التأويل قوله " يا أيهاالذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم "(3) فالطهارة انما

___________________________________

(1) سورة 39 الزمر اية 73 - 74.

(2) تفسير روح المعاني 15: 3 وقدمر في 1: 128، 149.

(3) سورة 5 المائدة اية 6

[460]

تجب قبل القيام إلى الصلاة.

ومثله قوله " واذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك "(1) وقيام الطائفة معه يجب أن يكون قبل إقامة الصلاة لان إقامتها هو الاتيان بجميعها على الكمال.

ومثله قوله " ماإن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة "(2) والتقدير ماإن مفاتحه لتنوء بها العصبة أي يثقلون بها، ومثله قول الشاعر:

ذعرت القطا ونفيت عنه *** مقام الذئب كالرجل اللعين(3)

أراد مقام الذئب اللعين، وقد فصلوا بين المضاف والمضاف اليه قال الشاعر: بين ذراعي وجبهة الاسد(4) اراد بين ذراعي الاسد وجبهته.

والرابع - أن يكون ذكر الارادة في الآية مجازا واتساعا وتنبيها على المعلوم من حال القوم وعاقبة أمرهم، وأنهم متى أمروا فسقوا وخالفوا، وجرى ذلك مجرى قولهم: إذا أراد التاجر أن يفتقر أتته النوائب من كل وجه، وجاء الخسران من كل طريق، وإذا اراد العليل ان يموت خلط في مأكله، ومعلوم ان احدا ممن ذكرناه لم يرد ذلك، لكن لماكان المعلوم من حال هذا الخسران، ومن حال ذاك الهلاك، حسن هذا الكلام، وكان أفصح وأبلغ، لمافيه من الاستعارة والمجاز الذي لايكون الكلام بليغا من دونهما.

ويكون تلخيص الكلام: إذا اردنا اهلاك قرية كقوله " جدارا يريد ان ينقض "(5) أمرناهم بالطاعة، ففسقوا فيها، فحق عليها القول. وانما خص المترفون بذكر الامر، لانهم الرؤوساء الذين من عداهم تبع لهم، كما أمر فرعون ومن عداه تبع له من القبط. ومن حمله على ان المراد به أكثرنا قال: لان الامر بالطاعة ليس بمقصور على المترفين، بل هو عام لجميعهم، فلذلك شدد الميم أو مد الهمزة.

___________________________________

(1) سورة 4 النساء اية 102.

(2) سورة 28 القصص آية 76.

(3) مر هذا البيت في 1: 343، 2: 47.

(4) تفسير الطبري 15: 34 (الطبعة الاولى).

(5) سورة 18 الكهف آية 77

[461]

وانما قال " ففسقوا فيها " ولم يقل: فكفروا، لان المراد فتمردوا في كفرهم لان الفسوق في الكفر الخروج إلى افحشه، فكأنه قال ففسقوا بالخروج عن الامر إلى الكفر.

وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: المعنى أمرناهم بالطاعة، ففسقوا، ومثله امرتك فعصيتني.

ومن قرأ " أمرنا مترفيها " بتشديد الميم من التأمير بمعنى التسليط، وقد يكون بمعنى أكثرنا.

ويجوز ان يكون المعنى أكثرنا عددهم أو مالهم، وقرئ (آمرنا) ممدودا، والمعنى اكثرنا مترفيها، وإنما قيل في الكثرة آمر القوم، لانهم يحتاجون إلى أمير يأمرهم وينهاهم، فقد آمروا لذلك، قال لبيد:

ان يغبطوا يهبطوا وان آمروا *** يوما يصيروا للهلاك والفند(1)

وروى والكند وقال بعضهم أمرنا بمعنى اكثرنا، وقال ابوعمرو: ولا يكون من هذا المعنى (أمرنا) قال ابوعبيد: يدل على هذه اللغة قولهم: سكة مأبورة ومهرة مأمورة، أي كثيرة الولد.

ومن قال بالاول قال هذا لمكان الازدواج، كماقالوا الغدايا والعشايا، والغداء لايجمع على غدايا، ولكن قيل ذلك ليزدوج الكلام مع قولهم: العشايا، وقال قوم: يقال أمرالشئ وأمرته اي كثر وكثرته لغتان، مثل رجع ورجعته. والمشهور الاول. وإنما تعدى اما بالتضعيف او الهمزة، وإذا كان مخففا فهو من الامر الذي هو خلاف النهي، على مابيناه.

وقال المبرد: " أمرنا " خفيفة بمعنى اكثرنا، وروى الجرمي: فعلت وأفعلت(2) - عن ابي زيد بمعنى واحد، قال وقرأته على الاصمعي.

و " دمرنا " معناه أهلكنا، والدمار الهلاك.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 15: 61 والشوكاني (الفتح القدير) 3: 207 ولكن الكذب والفند. الهلاك.

(2) هذا مافي المخطوطة، وكان في المطبوعة (ثقلت واثقلت).

[462]

قوله تعالى: (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا(17) من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها مانشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا(18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا(19))

ثلاث آيات بلاخلاف.

اخبر الله تعالى بأنه اهلك من القرون من بعدنوح، أمما كثيرة، لان " كم " يفيد التكثير ضد (رب) الذي يفيد التقليل، (والقرن) قيل: مئة وعشرون سنة - في قول عبدالله ابن أبي أو في وقال محمدبن القاسم المازني: هو مئة سنة، وقال قوم: هو اربعون سنة.

وادخلت الباء في قوله " كفى بربك " للمدح: كما تقول: ناهيك به رجلا، وجاد بثوبك ثوبا، وطاب بطعامك طعاما واكرم به رجلا، وكل ذلك في موضع رفع، كماقال الشاعر:

ويخبرني عن غائب المرء هديه *** كفى الهدى عما غيب المرؤ مخبرا(1)

فرفع لما اسقط الباء.

والمعنى: كفى ربك عالما وحسيبا بذنوب عباده بصيرا بها، ثم قال " من كان يريد " المنافع " العاجلة " في الدنيا عجلنا له فيها " يعني في الدنيا القدر الذي نريده لمن نريد، لا على قدر مايريدون، لان ما يريدونه ربماكانت فيه مفسدة، لايجوز إعطاؤهم إياه، ثم بين انه إذا اعطاهم ما طلبوه عاجلا جعل لهم جهنم جزاء، على معاصيهم وكفرهم يصلونها مذمومين مدحورين، اي في حال ذمنا إياهم، يقال: ذأمته، وذمته، وذممته بمعنى واحد

___________________________________

(1) مجمع البيان 3: 407 وتفسير الطبري 15: 42

[463]

فهو مذؤم ومذيم ومذموم، يكون ذأمته اي طردته، فهو مذؤم.

و " مدحورا " اي متباعدا من رحمة الله دحرته أدحره دحرا اي باعدته.

ثم قال " ومن أراد الآخرة " اي خير الآخرة، ثواب الجنة " وسعى لها سعيها " بأن فعل الطاعات وتجنب المعاصي، وهومع ذلك مؤمن مصدق بتوحيد الله ومقر بأنبيائه، فإن أولئك يكون " سعيهم مشكورا " اي تكون طاعاتهم مقبولة.

وقال قتادة: شكر الله حسناتهم، وتجاوز عن سيآتهم.

والمعنى أحلهم محلايشكر عليه في حسن الجزاء كما قال: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا "(1).

قوله تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وماكان عطاء ربك محظورا(20) أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا(21) لاتجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا(22))

ثلاث ايات بلا خلاف.

قوله " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء " نصب (كلا) ب‍ " نمد و (وهؤلاء) بدل منه والمعنى إنا نعطي البر والفاجر، والمؤمن والكافر في الدنيا.

واما الآخرة فللمتقين خاصة " وماكان عطاء ربك محظورا " اي لم يكن عطاء الله ممنوعا، ثم قال لنبيه والمراد به أمته معه " انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض " بأن جعلنا بعضهم اغنياء، وبعضهم فقراء، وبعضهم موالي، وبعضهم عبيدا، وبعضهم اصحاء وبعضهم مرضى، بحسب ماعلمنا من مصالحهم.

ثم قال " وللآخرة اكبر درجات واكبر تعضيلا " لانهم معطون على مقدار طاعتهم، فمن كان كثير الطاعة.

___________________________________

(1) سورة البقره اية 245

[464]

حصلت له الدرجات العالية من الثواب. وإنما اراد يبين أن التفاضل في الدنيا إذاكان يتنافس عليه، فالتفاضل في الجنة اولى بن يرغب فيه.

ثم قال لنبيه والمراد به امته " لاتجعل مع الله إلها آخر " توجه إليه عبادتك وتستدعي الحوائج من قبله فإنك إن فعلت ذلك قعدت مذموما مخذولا، واذا كان الخطاب عاماكان التقدير، فلا تجعل ايها الانسان مع الله إلها آخر. ونصب " فتقعد " لانه جواب النهي.

قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبير أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما(23) واخفص لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا(24))

آيتان بلا خلاف.

قرا حمزة والكسائي وخلف " يبلغان " بألف وكسر النون على التثنية. الباقون يبلغن على الوحدة.

وقرأ ابن كثير، وابن عباس، ويعقوب " اف " بفتح الفاء من غير تنوين.

وقرأ اهل المدينة وحفص بكسر الفاء مع التنوين.

الباقون بكسر الفاء من غير تنوين، ومثله في الاحقاف.

قال ابوعلي الفارسي قوله " احدهما " مرتفع بالفعل، وقوله " اوكلاهما " معطوف عليه، والذكر الذي عاد من قوله " احدهما " يغني عن إثبات علامة الضمير في يبلغن)، فلا وجه لمن قال: إ الوجه إثبات الالف، لتقدم ذكر الوالدين.

ويجوز ان يكون رفع (احدهما) على البدل من الضمير في (يبلغان) ويجوزان يرفعه بفعل مجدد على تقدير إما يبلغان عندك الكبر. يبلغ احدهما اوكلاهما،

[465]

ويكون رفعا على السؤال والتفسير كقوله " واسروا النجوى الذين ظلموا "(1) ومن اثبت الالف، فعلى وجه التأكيد، ولولم يذكر لم يخل بالكلام نحو قوله " أموات غير أحياء "(2) فقوله " غير أحياء " توكيد، لان قوله " اموات " دل عليه " قال: وقول ابن كثير (أف) يبني الفاء على الفتح، لانه وان كان في الاصل مصدرا من قولهم (أفه وتفه) يرادبه نتنا وذفرا، لقد سمي الفعل به فبني، وهذا في البناء على الفتح كقولهم (سرعان ذا إهالة) لماسار اسما ل‍ (سرع)، فكذلذك (أف) لماكان اسما (كره)، ومثله ريدا، في أنه سمي به الفعل، فبني ولم يلحق التنوين إلا ان هذا للامر والنهي، واف في الخبر.

وقول نافع في البناء على الكسر مع التنوين، مثل (أف) في البناء على الفتح: إلا أنه بدخول التنوين دل على التنكير مثل إيه ومه وصه، ومثله قولهم صه، فبنوه على الكسر، وإن كان في الاصل مصدرا، كماكان (أف) في الاصل كذلك، ومن كسر ولم ينون جعله معرفة، فلم ينون، كما أن من قال: صه وضاف، فلم ينون اراد به المعرفة.

وموضع (أف) على اختلاف القراء‌ات موضع الجمل، مثل (رويد) في أن موضعه موضع الجمل وكذلك لوقلت: هذا فدا(3) قال أبوالحسن.

وقول من قال (اف) اكثر وأجود ولوجاء (أفا لك) أحتمل أمرين: احدهما - أن يكون الذي صار إسما للفعل لحقه التنوين لعلامة التنكير.

والآخر أن يكون نصبا معربا، وكذلك الضمير، فإن لم يكن معه لك كان ضعيفا، كما انك لاتقول ويل حتى تقرن به لك، فيكون في موضع الخبر و (أف) كلمة يكنى بهاعن الكلام.

القبيح ومايتأفف به، لان التف وسخ الظفر و (الاف) وسخ الاذن.

وقيل التف كل ما رفعت بيدك من حقير من الارض، وقيل معنى الاف الثوم، وقيل

___________________________________

(1) سورة 21 الانبياء اية 3.

(2) سورة 16 النحل اية 21.

(3) في المخطوطة (هذا قفا) ونسخة اخرى (هذا فداء لك) وقد تركنا مافي المطبوع على حاله فلم نغير فيه شئ.

[466]

الشر، وقد جرى مجرى الاصوات، فزال عنه الاعراب مثل (صه) ومعناه اسكت، ومه ومعناه كف وهيهات هيهات اي بعيد بعيد، فاذا نونت أردت النكرة أي سكونا وقبحا، واذالم تنون أردت المعرفة.

وإنما جاز تحريك الفاء بالضم والفتح والكسر، لان حركتها ليست حركة إعراب، وانماهي حركة التقاء الساكنين فتفتح لخفة الفتحة، وتضم اتباعا للضم قبله، وقيل تضم تشبيها بقبل وبعد وتكسر على أصل حركة التقاء الساكنين.

وفي (أف) سبع لغات: أف واف واف وافاوا في مماله، وزاد ابن الانباري بسكون الفاء.

وروي عن الرضا عن أبية عن جعفر بن محمد (ع) انه قال (لو علم الله لفظ أوجز في ترك عقوق الوالدين من (أف) لاتى به). فان قيل هل اباح الله أن يقال لهما أف قبل أن يبلغا الكبر؟ قلنا: لا، لان الله أوجب على الولد إطاعة الوالدين على كل حال. وحظر عليه أذاهما وإنما خص الكبر، لان وقت كبر الوالدين مما يضطر فيه الوالدان إلى الخدمة اذاكانا محتاجين عند الكبر، وفي المثل يقال فلان أبر من النسر، لان النسر إذاكبر ولم ينهض للطيران جاء الفرخ فزقه، كما كان أبواه يزقانه، ومثله قوله " ويكلم الناس في المهد وكهلا "(1) والوجه في قوله " وكهلا " مع ان الناس يكلمون كلهم حال الكهولة ان الله اخبر أن عيسى يكلم في المهد أعجوبة وأخبر أنه يعيش حتى يكتهل ويتكلم بعد الكهولة، ونحوه قوله " والامر يومئذ لله "(2) وانما خص ذلك اليوم بأن الامر لله، لان في الدنيا مع أنه يملك، قد ملك اقواما جعلهم ملوكا وخلفاء، وذلك اليوم لايملك سواه.

معنى قوله " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " أمر، في قول ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد.

فإن قيل: الامر لايكون أمرا بألا يكون الشئ، لانه يقتضي إرادة المأمور به، والارادة لاتتعلق بألا يكون الشئ، وإنما تتعلق بحدوث الشئ. قلنا: المعنى انه كره ربكم عبادة غيره وأراد منكم عبادته على وجه الاخلاص

___________________________________

(1) سورة 3 ال عمران اية 46.

(2) سورة 82 الانفطار اية 19

[467]

وسمى ذلك أمرا ب‍ " أن لا تعبدوا إلا إياه " لان معناهما واحد.

وقوله " وبالوالدين احسانا " العامل في الباء يحتمل شيئين: أحدهما - وقضى بالوالدين إحسانا. والثاني - وأوصى، وحذف لدلالة الكلام عليه، والمعنى متقارب، والعرب تقول: أمر به خيرا وأوصى به خيرا، وقال الشاعر:

عجبت من دهماء إذ تشكونا *** ومن أبي دهماء اذ يوصينا

خيرا بها كأننا جافونا(1) فأعمل " يوصينا " في الخير، كما أعمل في الاحسان.

وقوله " إما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما " معناه متى بلغ واحد منهما أوهما الكبر " فلاتقل لهما أف " أي لاتؤذهما بقليل ولاكثير " ولاتنهرهما " أي لاتزجرهما بإغلاظ وصياح يقال: نهره ينهره نهرا، وانتهره انتهارا إذا أغلظ له " وقل لهما قولا كريما " أي شريفا تكرمهما به.

وتوقرهما " واخفض لهما جناح الذل " أي تواضع لهما واخضع لهما.

وقرأ سعيدبن جبير " الذل " بكسر الذال والذل والذلة مصدر الذليل، والذل مصدر الذلول، مثل الدابة والارض تقول: جمل ذلول، ودابة ذلول " وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا " أي ادع لهما بالمغفرة والرحمة كما ربياك في حال صغرك.

وقال قوم الاستغفار لهما منسوخ إذاكانا مشركين بقوله " ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين "(2).

وقال البلخي: الآية تختص بالمسلمين.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 15: 44 (الطبعه الاولى).

(2) سورة 9 التوبة آية 114

[468]

قوله تعالى: (ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للاوابين غفورا(25) وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولاتبذر تبذيرا(26) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا(27))

ثلاث آيات.

يقول الله تعالى مخاطبا للمكلفين من عباده إنه أعلم بهم، ومعناه إن معلوماته أكثر من معلوماتكم، وقد يقال: أعلم بمعنى أثبت فيما به يعلم، فيجئ من هذا إن الله تعالى أعلم بأن الجسم حادث من الانسان العالم به.

وكذلك كل شئ يمكن ان يعلم على وجوه متغايرة، فالله تعالى عالم به على تلك الوجوه وإن خفي على الواحد منا بعضها.

ومعنى " بمافي نفوسكم " اي بما تضمرونه وتخفونه عن غيركم، فالله أعلم به منكم، وفي ذلك غاية التهديد.

ثم قال " ان تكونوا صالحين " اي تفعلون الافعال الصالحة الحسنة الجميلة، فان الله " كان للاوابين غفورا " معنى " الاوابين " التوابين وهم الذين يتوبون مرة بعد مرة - في قول سعيد بن المسيب - كلما أذنب ذنبا بادر بالتوبة.

وقال سعيدبن جبير، ومجاهد: الاواب هوالراجع عن ذنبه بالتوبة.

وأصله الرجوع يقال: آب يؤوب أوبا إذا رجع من سفره، قال عبيد بن الابرص.

وكل ذي غيبة يؤب *** وغائب الموت لايؤب(1)

ثم قال " وآت ذا القربى حقه " وهو أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ان يعطي ذوي القربي حقوقهم النبي جعلها الله لهم، فروي عن ابن عباس والحسن: انهم قرابة الانسان.

وقال على بن الحسين (ع): هم قرابة الرسول، وهوالذي رواه ايضا اصحابنا.

وروي انه لمانزلت هذه الآية استدعى النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة (ع) وأعطاها فدكا وسلمه اليها، وكان وكلاؤها فيها طول حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مضى النبي صلى الله عليه وسلم.

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 16 وتفسير الطبري 15: 48

[469]

أخذها ابوبكر، ودفعها عن النحلة.

والقصة في ذلك مشهورة، فلما لم يقبل بينتها، ولاقبل دعواها طالبت بالميراث، لان من له الحق إذا منع منه من وجه جاز له ان يتوصل اليه بوجه آخر، فقال لها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (نحن معاشر الانبياء لانورث ماتركناه صدقة) فمنعها الميراث أيضا وكلامهما في ذلك مشهور، لانطول بذكره الكتاب.

وقوله " والمسكين وابن السبيل " أي واعطوا هؤلاء أيضا حقوقهم التي جعلها الله لهم من الزكوات وغير ذلك. ثم نهاهم عن التبذير بقوله " ولاتبذر تبذيرا " والتبذير التفريق بالاسراف.

وقال عبدالله: التبذير إنفاق المال في غير حقه، وهو قول ابن عباس وقتادة.

وقال مجاهد لو انفق مدا في باطل كان تبذيرا.

ثم قال " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " وقيل في معناه قولان. احدهما - إن الشيطان أخوهم باتباعهم آثاره وجريهم على سنته. والثاني - انهم يقرنون بالشيطان في النار. ثم أخبر عن حال الشيطان بأنه كفور لنعم الله تعالى وجاحد لآلائه.

قوله تعالى: (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا(28) ولاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا(29) إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا(30))

ثلاث آيات بلاخلاف.

[470]

يقول الله تعالى " وإما تعرضن " وتقديره، وإن تعرض و (ما) زايدة.

والمعنى: ومتى ماصرفت وجهك عنهم، يعني عن الذين أمروا بإعطائهم حقوقهم ممن تقدم ذكره، لانه قد تعرض عند عوز ماطلبوه، ليبتغي الفضل من الله، والسعة التي يمكنه معها البذل، والتقدير وإذا أتتك قرابتك أو سواهم من المحتاجين يسألونك فأعرضت عنهم لانه لاشئ عندك، فقل لهم قولا حسنا، اي عدهم عدة جميلة.

والاعراض صرف الوجه عن الشئ، وقديكون عن قلى وقد يكون للاشتغال بماهو الاولى، وقد يكون لاذلال الجاهل مع صرف الوجه عنه، كماقال " واعرض عن الجاهلين " 1) وقوله " ابتغاء رحمة من ربك ترجوها " والابتغاء الطلب.

وقوله " ترجوها معناه تأملها، والرجاء تعلق النفس بطلب الخير ممن يجوز منه، ومن يقدرعلى كل خير وصرف كل شر، فهو أحق بأن يرجا، ولذلك قال أمير المؤمنين (ع) (ألا لايرجون احدكم إلا ربه، ولايخافن إلا ذنبه).

وقوله: " وقل لهم قولا ميسورا " المعنى إذا أعرضت ابتغاء رزق من ربك، فقل لهم قولا لينا سهلا، مثل: زقنا الله تعالى، وهو قول الحسن ومجاهد وابراهيم وغيرهم.

وقال ابن زيد: تعرض عنهم إذا خشيت أن ينفقوا بالعطية على معاصي الله، فيكون تبتغي رحمة من الله لهم بالتوبة، وأصل التيسير التسهيل، واليسر خلاف العسر، وقديكون التيسير بالتقليل، فيسهل عليه لقلته، ويكون بمنزلة المعونة على عمله.

ثم قال تعالى " ولاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك " أي لاتكن ممن لايعطي شيئا ولايهب، فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه، لايقدر على الاعطاء وذلك مبالغة في النهي عن الشح والامساك " ولاتبسطها كل البسط " أي ولا تعط ايضا جميع ماعندك، فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لايستقر فيها شئ وذلك كناية عن الاسراف.

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف اية 199

[471]

وقوله " فتقعد ملوما محسورا " معناه إن امسكت قعدت ملوما عند العقلاء مذموما، وإن اسرفت بقيت محسورا، أي مغموما متحسرا، وأصل الحسر الكشف من قولهم، حسر عن ذراعيه يحسر حسرا، إذا كشف عنهما. والحسرة الغم لانحسار مافات، ودابة حسير إذا كلت لشدة السير، لانحسار قوتها بالكلال.

وكذلك قوله " ينقلب اليك البصر خاسئاوهو حسير "(1) والمحسور المنقطع به لذهاب مافي يده، وانحساره انقطاعه عنه، قال الهذلي:

إن العسير بها داء مخامرها *** فشطرها نظر العينين محسور(2)

ثم قال " إن ربك " يامحمد " يبسط الرزق لمن يشاء " فيوسعه عليه على حسب مايعلم له من المصلحة فيه " ويقدر " أي يضيق عليه لعلمه بمافيه من الصلاح، كماقال " ولوبسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض(3) " وقوله " انه كان بعباده خبيرا بصيرا " أي وهو عالم بأحوالهم، لايخفى عليه ما يصلحهم، ومايفسدهم، فيفعل معهم بحسب ذلك.

___________________________________

(1) سورة 67 الملك (تبارك) اية 4.

(2) الشاعر هوقيس بن خويلد الهذلي، الكامل 109، 410 واللسان والتاج (حسن) (شطر) ومجاز القرآن 1: 375.

(3) سورة 42 الشورى اية 27

الآية: 31 - 60

قوله تعالى: (ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا(31) ولاتقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا(32) ولاتقتلوا النفس التي حرم الله إلابالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا(33))

ثلاث آيات.

 [472]

قرأ ابن كثير " خطاء " بكسر الخاء وبألف بعد الطاء ممدودا.

وقرأ ابو جعفر وابن ذكوان - بفتح الخاء والطاء - من غير ألف بعدها وبغير مد. الباقون بكسر الخاء من غير مد، إلاان الداجوني عن هشام روى وجهين: أحدهما - مثل أبي عمرو، والآخر - مثل أبي جعفر.

وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " فلاتسرف " بالتاء. الباقون بالياء.

قال ابوعلي الفارسي: قول ابن كثير (خطاء) يجوز ان يكون مصدر خاطأ، ان لم يسمع (خاطأ) ولكن قد جاء مايدل عليه، لان ابا عبيدة انشد: تخاطأت النبل أحشأه(1) وانشدنا محمدبن السدي في وصف كمأة:

وأشعث قد ناولته أحرس القرى *** أدرت عليه المدجنات الهواضب

تخاطاء‌ه القناص حتى وجدته *** وخرطومه من منقع الماء راسب(2)

فتخاطأت مما يدل على خاطأ، لان (تفاعل) مطاوع (فاعل) كما ان (تفعل) مطاوع فعل، وقول ابن عامر (خطأ)، فان اخطأ مالم يتعمد، وماكان المأثم فيه موضوعا عن فاعله، وقد قالوا: اخطأ في معنى خطئ، كماان خطئ في معنى اخطأ، قال الشاعر:

عبادك يخطئون وأنت رب *** كريم لاتليق بك الذموم(3)

ففحوى الكلام أنهم خاطئون، وفي التنزيل " لاتؤاخذنا ان نسينا أو اخطأنا " فالمؤاخذة من المخطئ موضوعة، فهذايدل على ان اخطأ في قوله: يالهف هند إذ خطئن كاهلا(4)

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 10: 253 واللسان " خطئ " وعجزه: واخر يوم فلم اعجل " 2 " تفسير القرطبي 10: 253 وتفسير روح المعاني 15: 67.

(3) اللسان " خطا ".

(4) قائله امرؤ القيس: ديوانه " الطبعة الرابعة " 175 واللسان " خطأ ". وهو مطلع رجز قاله عند مااغار على بني اسد لما نزلوا على بني كنانة وبعده:

تالله لايذهب شيخي باطلا *** حتى ابير مالك وكاهلا

القاتلين الملك الحلا حلا

[473]

وفي قول آخر:

والناس يلحون الامير اذا هم *** خطئوا الصواب ولايلام المرشد(1)

اي اخطؤه، وكذلك قول ابن عامر (خطأ) في معنى أخطأ، وجاء الخطأ في معنى الخطاء، كماجاء خطئ في معنى اخطأ.

وقال ابوالحسن: هذا خطاء من رايك، فيمكن أن يكون خطأ لغة فيه أيضا.

ومن قرأ " خطأ " فلانه يقال خطئ يخطأ خطأ إذا تعمد الشئ حكاه الاصمعي، والفاعل منه خاطئ، وقد جاء الوعيد فيه في قوله " لايأكله إلا الخاطئون "(2) ويجوز أن يكون الخطأ لغة في الخطأ مثل المثل والمثل، والشبه والشبهه، والبدل والبدل، قال الفراء: لغتان مثل قتب وتقب، بدل وبدل، وحكى ابن دريد عن أبي حاتم، قال تقول: مكان مخطؤ فيه من خطئت ومكان مخطأ فيه من اخطأ يخطئ، ومكان مخطو بغير همزة من تخطى الناس فيخطى، ومن همزه تخطيت الناس، ففقد غلط وقال المبرد: خطأه وخطاه بمعنى، عند ابي عبيدة والفراء والكسائي، إلا ان (الخطأ) بكسر الخاء أكثر في القرآن (والخطأ) بالفتح افشى في كلام الناس ولم يسمع الكثير في شئ من اشعارهم الافي بيت قاله الشاعر:

الخطأ فاحشة والبر فاضلة *** كعجوة غرست في الارض توبير(3)

قال ابوعبيد: وفيه لغتان، خطئت وأخطأت، فمن قال: خطئت قال خطأ الرجل يخطأ خطأ، وخطاء، يكون الخطأ بفتح الخاء هو المصدر، وبكسرها الاسم.

ومن قال اخطأت كان الخطأ بالفتح والكسر، جميعا اسمين والمصدر الاخطاء.

وقال أبوعلي: قوله " فلايسرف في القتل " فاعل يسرف يجوز أن يكون أحد شيئين: أحدهما - أن يكون القاتل الاول، فيكون التقدير فلا يسرف القاتل في القتل

___________________________________

(1) قائله عبيد ابن الابرص. ديوانه " دار بيروت " 58 وروايته (إذا غوى خطب) وقد مر في 2: 387.

(2) سورة 69 الحاقة آية 37.

(3) تفسير الطيري 15: 54

[474]

وجاز أن يضمر، وإن لم يجر له ذكر، لان الحال تدل عليه، ويكون تقديره بالاسراف جاريا مجرى قوله في أكل مال اليتيم " ولاتأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا "(1) وإن لم يجز أن تأكل منه لاعلى الاقتصاد ولا على غيره، لقوله " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا "(2) فحظر أكل مال اليتيم حظرا عاما وعلى كل حال، فكذلك لايمتنع أن يقال للقاتل الاول لاتسرف في القتل، لانه يكون بقتله مسرفا، ويؤكد ذلك قوله " ياعبادي الذين أسرفواعلى أنفسهم "(3) فالقاتل داخل في هذا الخطاب - بلاخلاف - مع جميع مرتكبي الكبائر، ويكون الضمير على هذا في قوله " انه كان منصورا " على قوله " ومن قتل مظلوما " (وتقديره، فلا يسرف القاتل الاول بقتله في القتل، لان من قتل مظلوما كان منصورا)(4) بأن يقتص له وليه أو السلطان إن لم يكن له ولي غيره، فيكون هذا ردعا للقاتل عن القتل، كما أن قوله " ولكم في القصاص حياة "(5) كذلك، فالولي إذا اقتص، فإنما يقتص للمقتول، ومنه انتقل إلى الولي بدلالة أن المقتول يبرئ من السبب المؤدي إلى القتل، ولم يكن للولي أن يقتص، ولو صالح الولي من العمد - على مال كان - للمقتول أن يؤديه منه دينا عليه أن يقتص منه دون المقتول، ولايمتنع أن يقال في المقتول منصور، لانه قد جاء قوله " ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا ".

والآخر - أن يكون في يسرف ضمير الولي، وتقديره فلايسرف الولي في القتل، وإسرافه فيه أن يقتل غير من قتل او يقتل اكثر من قاتل وليه، لان مشركي العرب كانوا يفعلون ذلك، والتقدير فلايسرف في القتل ان الولي كان منصورا بقتل قاتل وليه. والاقتصاص منه.

___________________________________

(1) سورة 4 النساء اية 5.

(2) سورة النساء 9.

(3) سورة 39 الزمر آية 53.

(4) مابين القوسين ساقط من المطبوعة.

(5) سورة البقرة اية 179

[475]

ومن قرا بالتاء احتمل ايضا وجهين: احدهما - ان يكون المستثنى القاتل ظلما، فقيل له لاتسرف ايها الانسان فقتل ظلما من ليس لك قتله، اذ من قتل مظلوماكان منصورا بأخذ القصاص له. والآخر - ان يكون الخطاب للولي، والتقدير لاتسرف في القتل ايها الولي فتتعدى قاتل وليك إلى من لم يقتله، لان المقتول ظلما كما منصورا، وكل واحد من المقتول ظلما ومن ولي المقتول قد تقدم في قوله " ومن قتل مظلوما " الآية.

وقوله " ولاتقتلوا " يحتمل موضعه شيئين من الاعراب: احدهما - ان يكون نصبا ب‍ " قضى ربك ان لاتعبدوا إلا إياه.. ولاتقتلوا " ويحتمل ان يكون جزما على النهي، فيكون الله تعالى نهى الخلق عن قتل اولادهم خشية الاملاق.

و (الاملاق) الفقر، وهو قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وانما نهاهم عن ذلك لانهم كانوا يئدون البنات بدفنهم احياء فنهاهم الله عن ذلك.

وقوله " نحن نرزقهم وإياكم " إخبار منه تعالى انه الذي يرزق الاولادو الآباء فلا ينبغي قتلهم خوف الفقر، واخبر ان قتلهم في الجاهلية " كان خطأ كبيرا " وهوالان خطأ وإثم كبير، ثم قال " ولاتقربوا الزنى " ومعناه لاتزنوا، والزنا هو وطؤ المراة حراما بلاعقد ولاشبهة عقد مختارا، ثم اخبر ان الزنا فاحشة اي معصية كبيرة " وساء سبيلا " اي بئس الطريق ذلك.

وفي الناس من قال: الزنا قبيح بالعقل لمافي ذلك من ابطال حق الولد على الوالد، وفساد الانساب.

وقوله " ولاتقتلوا النفس التي حرم الله " نهي من الله تعالى عن قتل النفوس المحرم قتلها، واستثنى من ذلك من يجب عليه القتل إما لكفره، اوردته، او قتله قصاصا، فان قتله كذلك حق، وليس بظلم، وقد فسرنا تمام الآية. والسلطان الذي جعله الله للولي، قال ابن عباس، والضحاك: هو القود أو الدية او العفو.

وقال قتادة الهاء في قوله " انه كان منصورا " عائدة على الولي.

وقال مجاهد عائدة على المقتول. ونصرة الله له بذلك حكمه له بذلك. وقيل نصرة النبي والمؤمنين، ان يعينوه وقيل الولي هم الوراث من الرجال من الاولاد الذكور ومن الاقارب من كان من قبل الاب.

[476]

قوله تعالى: (ولاتقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا(34) وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا(35) ولا تقف ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا(36))

ثلاث آيات

قرأ اهل الكوفة إلا ابابكر عن عاصم " بالقسطاس " بكسر القاف. الباقون بالضم، وهما لغتان.

وقال الزجاج: القسطاس هو الميزان صغر اوكبر.

وقال الحسن: هو القبان.

وقال مجاهد: هو العدل بالرومية وهو القرصطون.

وقال قوم: هوالشاهين.

وقرأ ابوبكر عن عاصم " بالقصطاس " بالصاد قلبت السين صادا مثل (صراط، وسراط) لقرب مخرجهما.

في الآية الاولى نهي من الله تعالى لجميع المكلفين ان يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي احسن، وهو ان يحفظوا عليه ويثمروه او ينفقوا عليه بالمعروف على مالا يشك انه اصلح له، فأما لغير ذلك، فلايجوز لاحد التصرف فيه. وانما خص اليتيم بذلك وان كان التصرف في مال البالغ بغير اذنه لايجوز ايضا، لان اليتيم إلى ذلك احوج والطمع في مثله اكثر.

وقوله " حتى يبلغ اشده قال قوم: حتى يبلغ ثمانية عشرة سنة. وقال آخرون: حتى يبلغ الحلم. وقال آخرون - وهوالصحيح - حتى يبلغ كما العقل ويؤنس منه الرشد.

[477]

وقوله " واوفوا بالعهد " امر من الله تعالى بالوفاء بالعهود، وهوالعقد الذي يقدم للتوثق من الامر، ومتى عقد عاقد على مالايجوز، فعليه نقض ذلك العقد الفاسد والتبرؤ منه. وانما يجب الوفاء بالعقد الذي يحسن.

وقيل المعنى في الآية اوفوا بالعهد في الوصية بمال اليتيم وغيرها.

وقيل كل ماامر الله به ونهى عنه، فهو من العهد، وقد يجب الشئ للنذر، وللعهد، والوعد به، وان لم يجب ابتداء، وانما يجب عند العقد.

وقوله " ان العهد كان مسؤولا " قيل في معناه قولان: احدهما - انه كان مسؤولا عنه للجزاء عليه، فحذف (عنه) لانه مفهوم والثاني - كأن العهد يسأل فيقال له: لم نقضت؟ كماتسأل الموؤدة بأي ذنب قتلت ثم امرهم ان يوفوهم الكيل اذا كالواهم، ولايبخسوهم ولاينقصوهم، وان يوفوا، بالميزان المستقيم الذي لا غبن فيه، فإن ذلك خير واحسن تأويلا، اي احسن عاقبة، وهو مايرجع اليه امره. ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقفو ماليس له به علم، وهو متوجه إلى جميع المكلفين، ومعناه لاتقل: سمعت، ولم تسمع، ولارايت ولاعلمت، ولم تر، ولم تعلم - في قول قتادة - واصل القفو اتباع الاثر، ومنه القيافة، وكأنه يتبع قفا الاثر المتقدم قال الشاعر:

ومثل الدمى سم العرانين ساكن *** بهن الحيا لايشعن التقافيا(1)

أي التقاذف.

وقال أبوعبيد والمبرد: القفو العضيهة، " ولاتقف " بضم القاف وسكون الفاء - من قاف يقوف، ويكون من المقلوب مثل جذب وجبذ. " ومسؤولا " نصب على أنه خبر كان.

واستدل بهذه الآية، على أنه لايجوز العمل بالقياس ولابخبر الواحد، لانهما لايوجبان العلم، وقد نهى الله تعالى أن يتبع الانسان مالايعلمه.

وقوله " ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا " أي يسأل عما يفعل بهذه الجوارح من الاستماع لما لايحل، والابصار لمالايجوز. والارادة لمايقبح. وإنما قال " كل اولئك " ولم يقل كل ذلك، لان اولئك وهؤلاء للجمع القليل من المذكر والمؤنث فإذا أراد الكثير جاء بالتأنيث. فقال: هذه وتلك، قال الشاعر:

___________________________________

(1) قائله النابغة الجعدي. شواهد الكشاف 327 وتفسير الطبري 15 / 58 ومجاز القرآن 1 / 379

[478]

ذم المنازل بعدمنزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الايام(1)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21403212

  • التاريخ : 19/04/2024 - 20:32

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net