00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الشعراء 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الثامن )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

التبيان في تفسير القرآن

تأليف

شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

385 - 460 ه‍.

تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي

المجلد الثامن

26 - سورة الشعراء

قال قتادة هي مكية.

وقيل أربع آيات منها مدنية من قوله " والشعراء إلى آخرها " وهي مئتان وسبع وعشرون آية في الكوفي والمدني الاول وست في البصري والمدني الاخر.

الآية: 1 - 40

بسم الله الرحمن الرحيم

(طسم(1) تلك آيات الكتاب المبين(2) لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين(3))

ثلاث آيات في الكوفى خاصة. واثنتان في الباقي. ولم يعد " طسم " آية إلا أهل الكوفة.

قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والعليمي " طسم، وطس " بامالة الطاء فيهما.

الباقون بالتفخيم، وأظهر - النون من هجاء سين عند الميم - حمزة وأبو جعفر إلا أن أبا جعفر يقطع الحروف.

الباقون يخفونها قال ابوا علي الفارسي: تبيين النون من (طسم) على قراء‌ة حمزة هو الوجه، لان حروف الهجاء في تقدير الانفصال والانقطاع مما بعدها، وإذا ثبت ذلك وجب أن تبين النون

[4]

لانها تخفى اذا اتصلت بحرف من حروف الفم، فاذا لم يتصل بها، لم يكن هناك ما يوجب إخفاؤها. ووجه إخفائها مع هذه الحروف أن همزة الوصل قد وصلت ولم تقطع، وهمزة الوصل إنما تذهب في الدرج فكما سقطت همزة الوصل، وهي لا تسقط إلا في الدرج مع هذه الحروف في (الف لام ميم) الله، كذلك لا تبين النون، ويقدر فيها الاتصال بما قبلها، ولا يقدر الانفصال.

قيل إنما عد (طسم) آية، ولم يعد (طس) لان (طس) تشبه الاسم المنفرد، نحو (قابيل، وهابيل) وليس كذلك (طسم). ووجه الشبه بالزنة أن أوله لا يشبه حروف الزيادة التي هي حروف المد واللين، نحو (يس) وليس شئ على وزن المفرد يعد إلا (ياسين) لان الياء تشبه حروف الزيادة فقد رجع إلى انه ليس على زنة المفرد.

وقد بينا فيما مضى معاني هذه الحروف المقطعة في أول سورة البقرة، فلا نطول باعادته. وقد بينا قول من قال. إنها اسماء السور.

وقال قتادة والضحاك: ان (طسم، وطس) اسم من اسماء القرآن.

وقوله " تلك آيات الكتاب المبين " انما أشار ب‍ (تلك) إلى ما ليس بحاضر لانه متوقع، فهو كالحاضر بحضور المعنى للنفس، وتقديره: تلك الآيات آيات الكتاب.

وقيل: تلك الآيات التي وعدتم بها هي القرآن.

وقيل: ان " تلك " بمعنى (هذا) ومعنى (الكتاب) القرآن، ووصفه بأنه (المبين) لان به تتبين الاحكام، لان البيان اظهار المعنى للنفس بما يتميز به عن غيره، وهو مأخوذ من البينونة، وهي التفرقة بين الشئ وغيره. فالمبين الذي يبين الحق من الباطل. وسمي أيضا فرقانا، لانه يفرق بين الحق والباطل.

وقوله " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " قيل فيه قولا: الاول - قال ابن عباس وقتادة: معناه لعلك قاتل نفسك. والثاني قال ابن زيد: مخرج نفسك من جسدك.

[5]

والبخع القتل، قال ذو الرمة:

الا أيهذا الباخع الوجد نفسه * لشئ نحته عن يديه المقادر(1)

وقال ابن عباس معنى " أن لا يكونو مؤمنين " فيه أي في القرآن وقال الفراء موضع (أن) نصب ب‍ (باخع)، لان (أن) جزاء، كانه قال: ان لم يكونوا مؤمنين فانت قاتل نفسك، فلما كان ماضيا نصب (ان) كما تقول: اتيك (أن) تأتيني، ولو لم يكن ماضيا لقلت: آتيك ان تأتني، ولو كانت مجزومة مع كسر (ان) كان جائزا، ومثله (لا يجز منكم شنآن قوم أن)(2) بالفتح والكسر.

قوله تعالى: (إن نشا ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(4) وما ياتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين(5))

آيتان بلا خلاف.

لما بين الله تعالى حرص النبي صلى الله عليه وآله على إيمان قومه، واجتهاده بهم حتى كاد أن يقتل نفسه تأسفا على تركهم الايمان، أخبره بأنه قادر على أن ينزل عليهم آية ودلالة من السماء تظل اعناقهم لها خاضعة بأن تلجئهم إلى الايمان، لكن ذلك نقيض الغرض بالتكليف، لانه تعالى لو فعل ذلك، لما استحقوا ثوابا ولا مدحا، لان الملجأ لا يستحق الثواب والمدح على فعله، لانه بحكم المفعول فيه. وقيل: المراد بالاعناق الرؤساء.

وقال قتادة: المعنى لا يلوي أحد منهم

___________________________________

(1) شرح ألفية بن مالك (المنادى) 224.

(2) سورة 5 المائد آية 3

[6]

عنقه إلى معصية.

وقيل في وجه جمع " خاضعين " بالياء والنون وهو صفة (الاعناق) والاعناق لا تعقل، وهذا الجمع يختص بمن يعقل قيل فيه أربعة اقوال: احدهما - فظل اصحاب الاعناق لها خاضعين، وحذف المضاف، واقام المضاف اليه مقامه لدلالة الكلام عليه.

الثاني - انه أراد بالاعناق الرؤساء والجماعات، كما يقال جاء‌ه عنق من الناس أي جماعة.

الثالث - ان يكون على الاقحام.

قال ابوعبيدة، والمبرد " خاضعين " من صفة الهاء والميم، في قوله " اعناقهم " كما قال جرير:

أرى مر السنين أخذن مني * كما أخذ السرار من الهلال(1)

فعلى هذا يكون ترك الاعناق وأخبر عن الهاء والميم، وتقديره فظلوا خاضعين لها والاعناق مقحمة.

الرابع - أنها ذكرت بصفة من يعقل لما نسب اليها ما يكون من العقلاء كما قال الشاعر:

تمززتها والديك يدعو صياحه * إذا ما بنوا نعش دنوا فتصوبوا(2)

ويروي نادى صباحه.

ثم اخبر تعالى عن هؤلاء الكفار الذين تأسف النبي صلى الله عليه وآله على عدولهم عن ايمانهم انه ليس يأتيهم ذكر من الرحمن يعني القرآن. كما قال تعالى " انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "(3) وقال " إن

___________________________________

(1) ديوانه " دار بيروت " 341.

(2) قائله النابغة الجعدي. اللسان (نعش).

(3) سورة 15 الحجر آية 9

[7]

هو إلا ذكر وقرآن مبين "(1) ووصفه بأنه محدث، ولذلك جره، لانه صفة ل‍ (ذكر).

وقوله " إلا كانوا عنه معرضين " أي يتولون عنه ولا ينظرون فيه.

قال الفراء: انما قال " فظلت " ولم يقل " فتظل " لانه يجوز أن يعطف على مجزوم الجزاء ب‍ (فعل) لان الجزاء يصلح في موضع (فعل، يفعل) وفي موضع (يفعل، فعل) لانك تقول: إن زرتني زرتك وإن تزرني أزرك، والمعنى واحد.

قوله تعالى: (فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزؤن(6) أو لم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم(7) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين(8) وإن ربك لهو العزيز الرحيم(9))

أربع آيات بلا خلاف.

اخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأنهم كذبوا بايات الله وجحدوا رسوله وأنه سيأتيهم فيما بعد، يعني يوم القيامة " اخبار ما كانوا به يستهزون " وإنما خص المكذب باتيان الانباء، مع أنها تأتي المصدق والمكذب، من حيث أن المكذب يعلم بها بعد أن كان جاهلا. والمصدق كان عالما بها، فلذلك حسن وعيد المكذب بها، لان حاله يتغير إلى الحسرة والندم. والاستهزاء السخرية، وهو طلب اللهو بما عند الطالب صغير القدر.

ثم قال " او لم يروا " هؤلاء الكفار " إلى الارض كم انبتنا فيها من كل زوج كريم " من أنواع النبات، فيستدلوا على توحيده، بأن يعلموا أن ذلك

___________________________________

(1) سورة 36 يس آية 69

[8]

لا يقدر عليه غيره. ولا يتأتى من سواه، ممن هو قادر بقدرة، لانه لو تأتى من غيره لتأتى منا لانا قادرون أيضا بقدرة، فلما استحال منا علمنا استحالة ذلك ممن يجري مجرانا، فاذا الفاعل لذلك مخالف لنا، وانه قادر لنفسه.

ثم اخبر تعالى ان فيما ذكره من انبات النبات من كل زوج كريم، لدلالة لمن يستدل بها، ومن يتمكن من ذلك، وإن اكثر الكفار لا يصدقون بذلك، ولا يعترفون به عنادا وتقليدا لاسلافهم، وحبا للراحة، وهربا من مشقة التكليف ومعنى " كل زوج كريم " يعني مما يأكل الناس والانعام، في قول مجاهد.

وقيل: من الشئ ومشاكله في الانتفاع به.

وقيل: من كل زوج كريم من انواع تكرم عند أهلها.

وقيل: من كل نوع معه قرينه من أبيض وأحمر وأصفر. وحلو وحامض، وروائح وغير ذلك مختلفة.

ثم قال " وإن ربك " يا محمد " لهو العزيز " الغني القادر الذى لا يعجز ولا بغلب " الرحيم " أي المنعم على عباده بأنواع النعم التي ذكرها.

قوله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين(10) قوم فرعون ألا يتقون(11) قال رب إني أخاف أن يكذبون(12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هرون(13) ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون(14))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ " ويضيق صدري، ولا ينطلق لساني " بالنصب يعقوب، عطفا على " ان يكذبون " الباقون - بالرفع - عطفا على * (أخاف) * ويجوز أن يكون على الاستئناف.

[9]

والمعنى: واني يضيق صدري.

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله واذكر يا محمد الوقت الذي نادى فيه ربك - الذي خلقك - موسى، ومعناه قال له: يا موسى، بأن ائت القوم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي.

ثم بين: من القوم الموصوفون بهذه الصفة؟ بان قال * (قوم فرعون) * وهو عطف بيان * (ألا يتقون) * وإنما قال بالياء، لانه على الحكاية.

وتقديره: فقل لهم: ألا تتقون، ومثله * (قل للذين كفروا سيغلبون) *(5) بالياء والتاء.

ولو قرى بالتاء كان جائزا، والتقوى مجانبة القبائح بفعل المحاسن: اتقى الله يتقيه اتقاء أي اتقى عقابه بطاعته بدلا عن معصيته، واصله صرف الامر بحاجز بين الصارف وبينه.

ثم حكى ما قال موسى وجوابه، فانه قال يا * (رب اني أخاف أن يكذبون) * ولا يقبلون مني.

والخوف انزعاج النفس بتوقع الضرر، ونقيضه الامن وهو سكون النفس إلى خلوص النفع، ونظير الخوف الفزع والذعر والجزع.

والتكذيب تصيير المخبر كاذبا باضافة الكذب اليه، كذبه تكذيبا وأكذبه إكذابا والكذب نقيض الصدق، والكذب كله قبيح، والتكذيب على وجهين: فتكذيب الصادق قبيح، وتكذيب الكاذب حسن.

وقوله " ويضيق صدري ولا ينطلق لساني " حكاية أيضا عما قال موسى. وضيق الصدر غم يمنع من سلوك المعاني في النفس، لانه يمنع منه كما يمنع ضيق الطريق من السلوك فيه.

وقوله " ولا ينطلق لساني " أي لا ينبعث بالكلام.

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 12

[10]

وقد يتعذر ذلك لآفة في اللسان، وقد يتعذر لضيق الصدر، وغروب المعاني التي تطلب الكلام.

وقوله " فارسل إلى هارون " يعني لمعاونتي، كما يقال: إذا نزلت بنا نازلة أرسلنا اليك أي لتعيننا.

وقيل: انما طلب المعاونة حرصا على القيام بالطاعة. " ولا ينطلق لساني " للعقدة التي كانت فيه.

قال الجبائي: لم يسأل موسى ذلك إلا بعد أن أذن الله تعالى له في ذلك، لان الانبياء لا يسألون الله إلا ما يؤذن لهم في مسألته.

وقوله " ولهم علي ذنب " يعني قتل القبطي الذي قتله موسى حين استصرخ به واحد من أصحابه من بني اسرائيل - ذكره مجاهد وقتادة - وقوله " فأخاف أن يقتلون " بدل ذلك المقتول.

قوله تعالى: (قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون(15) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين(16) أن أرسل معنا بني إسرائيل(17) قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين(18) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين(19) قال فعلتها إذا وأنا من الضالين(20))

ست آيات.

هذا خطاب من الله تعالى جوابا لموسى عماه حكاه؟؟ * (قال كلا) * لا يقتلونك * (فاذهبا) * ومعنى (كلا) زجر أي لا يكون ذلك، ولا يقتلونك * (فاذهبا) * أمر لموسى وهارون على ما اقترحه موسى فاجيب اليه * (فاذهبا بآياتنا) * أي

[11]

بأدلتنا ومعجزاتنا التي خصكما الله بها، و * (انا معكم مستمعون) * أي نحن نحفظكم ونحن سامعون ما يجري بينكم، فهو (مستمع) في موضع (سامع) لان الاستماع طلب السمع بالاصغاء اليه، وذلك لا يجوز عليه تعالى، وانما قال بهذا اللفظ، لانه أبلغ في الصفة، وأشد في التعظيم - والله تعالى سامع بما يغني عن مذكر مستمع - لينبئ عن هذا المعنى، ووصفه بسامع يغني عن سماع الجماعة التي يقع سماعهم معاونة وإنما قال (مستمعون) بلفظ الجمع بناء على قوله * (إنا) * وأمرهما بأن يأتيا فرعون وأن يقولا له * (إنا رسول رب العالمين) * أرسلنا الله اليك لندعوك إلى عبادته، وترك الاشراك به، وانما قال * (رسول) * على التوحيد، وهو للاثنين، لان المعنى ان كل واحد منا رسول رب العالمين، وقد يكون الرسول في معنى الجمع قال الهذلي:

الكني اليها وخير الرسو * ل أعلمهم بنواحي الخبر(1)

أي وخير الرسل: وقيل: إنه في موضع رسالة، فكما يقع المصدر موقع الصفة كذلك تقع الصفة موقع المصدر.

والارسال جعل الشئ ماضيا في الامر، ومثله الاطلاق والبعث، وانشد في ذلك:

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم * بسر ولا أرسلتهم برسول(2)

أي برسالة، وقال الآخر:

ألا من مبلغ عني خفافا * رسولا بيت أهلك منتهاها(3)

فانثه تأنيث الرسالة.

وقوله " أن ارسل معنا بني اسرائيل " أي أمرك الله بأن تطلق صراح بني إسرائيل ليجيئوا معنا، وفي الكلام حذف وتقديره: إنهما مضيا إلى فرعون، وقالا له ما أمرهم الله به

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 13 / 93.

(2) مر هذا البيت في 1 / 368.

(3) قائله عباس بن مرداس تفسير الطبري 19 / 38 والقرطبي 13 / 94

[12]

فقال فرعون لموسى " ألم نربك فينا وليدا " فالتربية تنشئة الشئ حالا بعد حال: رباه يربيه، ومثله نماه ينميه نماء.

وقوله " وليدا " أي حين كنت طفلا صغيرا " ولبثت فينا من عمرك سنين " أي اقمت سنين كثيرة عندنا، ومكثت. وفى (عمر) ثلاث لغات - ضم الميم وإسكانها مع ضم العين، وفتح العين وسكون الميم. ومنه قوله " لعمرك "(1)، وعمر الانسان بالفتح لا غير، وفى القسم ايضا بالفتح لا غير.

وقوله " وفعلت فعلتك التي فعلت " يعني قتلك القبطي. وقرأ الشعبي " فعلتك " بكسر الفاء مثل الجلسة والركبة، وهو شاذ لا يقرأ به.

وقوله " وانت من الكافرين " قيل في معناه قولان: أحدهما - قال ابن زيد أنت من الجاحدين لنعمتنا. الثاني - قال السدي أراد كنت على ديننا هذا الذي تعيبه كافرا بالله.

وقال الحسن: وأنت من الكافرين أي في أني إلهك.

وقيل: من الكافرين لحق تربيتي، فقال له موسى (ع) في الجواب عن ذلك " فعلتها " يعني قتل القبطي " وأنا من الضالين " قال قوم: يعني من الضالين أي من الجاهلين بأنها تبلغ القتل.

وقال الجبائي " وأنا من الضالين " عن العلم بان ذلك يؤدي إلى قتله.

وقال قوم: معناه " وأنا من الضالين " عن طريق الصواب، لاني ما تعمدته. وانما وقع مني خطأ، كما يرمي انسان طائرا فيصيب انسانا.

___________________________________

(1) سورة 15 الحجر آية 72

[13]

قوله تعالى: (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين(21) وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل(22) قال فرعون وما رب العالمين(23) قال رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين(24) قال لمن حوله ألا تستمعون(25))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى حاكيا عن موسى أنه قال لفرعون: إني فررت منكم لما خفتكم، فالفرار الذهاب على وجه التحرز من الادراك، ومثله الهرب: فر يفر فرارا، ومنه يفتر أي يضحك، لانه يباعد بين شفتيه مباعدة الفرار.

وقوله " فوهب لي ربي حكما " فالهبة الصلة بالنائل. وهب له يهب هبة فهو واهب، واستوهبه كذا إذا سأله هبته، وتواهبوا ما بينهم إذا اسقطوها عنهم على جهة الهبة. والحكم العلم بما تدعو اليه الحكمة، وهو الذي وهبه الله تعالى لموسى من التوراة.

والعلم بالحلال والحرام وسائر الاحكام. والخبر عما يدعو اليه الحكم ايضا يسمى حكما. والحكم - ههنا - أراد به النبوة - في قول جماعة من المفسرين -

وقوله " وجعلني من المرسلين " أي جعلني الله نبيا من جملة الانبياء.

وقوله " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني اسرائيل " قيل في معناه قولان: احدهما - ان اتخاذاك بني اسرائيل عبيدا قد أحبط ذلك، وإن كانت نعمة علي. الثاني - إنك لما ظلمت بني اسرائيل ولم تظلمني عددتها نعمة علي؟ !

[14]

وقيل قول ثالث - انه لا يوثق بأنها نعمة منك مع ظلمك بني اسرائيل في تعبيدهم، وفى كل ذلك دلالة وحجة عليه، وتقريع له. ويجوز في * (أن) * النصب بمعنى لتعبيدك بني اسرائيل، والرفع بالرد على النعمة أي على تعبيدك بني اسرائيل. والتعبيد اتخاذ الانسان أو غيره عبدا تقول عبدته وأعبدته بمعنى واحد، قال الشاعر:

علام يعبد في قومي وقد كثرت * فيهم أباعر ما شاء‌وا وعبدان(1)

وقال الجبائى بين أنه ليس لفرعون عليه نعمة، لان الذي تولى تربيته أمه وغيرها من بني اسرائيل بأمر فرعون لما استعبدهم.

وقال الحسن: أراد أخذت أموال بني اسرائيل، واتخذتهم عبيدا فأنفقت علي من أموالهم. فاراد أن لا يسوغه ما امتن به عليه.

وقال قوم: أراد أو تلك نعمة؟ ! مستفهما واسقط حرف الاستفهام.

وقوله تعالى * (قال فرعون وما رب العالمين) * حكاية من الله أن فرعون قال لموسى أي شئ رب العالمين الذي تدعوني إلى عبادته، لان هذا القول من فرعون يدل على ان موسى كان دعاه إلى طاعة الله وعبادته.

وقيل: ان فرعون عجب من حوله من جواب موسى، لانه طلب منه أي أجناس الاجسام هو؟ جهلا منه بما ينبغي أن يسأل عنه، فقال موسى في جوابه " رب السموات والارض وما بينهما " أي رب العالمين هو الذي اخترع السموات والارض وخلقهما، وخلق ما بينهما من الحيوان والجماد والنبات " إن كنتم موقنين " بذلك مصدقين به فقال فرعون - عند ذلك - لمن حوله من أصحابه " ألا تستمعون " أي ألا تصغون اليه، وتفهمون ما يقول معجبا لهم من قوله، حين عجز عن محاورته ومجاوبته.

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 13 / 96 والطبري 19 / 43

[15]

قوله تعالى: (قال ربكم ورب آبائكم الاولين(26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون(27) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون(28) قال لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من المسجونين(29) قال أو لو جئتك بشئ مبين(30))

خمس آيات بلا خلاف.

قال لما قال فرعون لمن حوله " ألا تستمعون " إلى قول موسى فانه يقول ربه رب العالمين الذي خلق السموات والارض وما بينهما ! معجبا لهم من قوله، قال موسى " ربكم " الذي خلقكم ويملك تدبيركم وخلق آباء‌كم الاولين، وملك تدبيرهم، وتدبير جميع الخلق.

والاول الكائن قبل غيره والآخر الكائن بعد غيره، والكائن على صفة أول في كونه على تلك الصفة، نحو الاول في دخول الدار، فقال فرعون - عند ذلك حين لم يجد جوابا لكلام موسى - لقومه " إن رسولكم الذي ارسل اليكم لمجنون " يموه عليهم، اني اسأله عن ماهية رب العالمين فيجيبني عن غير ذلك، كما يفعل المجنون.

والجنون داء يعتري النفس يغطي على العقل، وأصله الستر من قولهم: جنه الليل وأجنه إذا ستره بظلمته والجنة البستان الذي يجنه الشجر، فقال موسى عند ذلك ان الذي ذكرته انه " ربكم ورب آبائكم الاولين "... " هو رب المشرق والمغرب " فالمشرق الموضع الذي تطلع منه الشمس، والمغرب الموضع الذي تغرب فيه الشمس يقال:

[16]

شرقت الشمس شروقا إذا طلعت، وأشرقت إشراقا اذا أضاء‌ت وصفت.

" وما بينهما إن كنتم تعقلون " ذلك وتتدبرونه، فلما طال على فرعون الاحتجاج من موسى تهدده " قال لئن اتخذت الها غيري " يعني معبودا سواي " لاجعلنك " من المسجونين أي محبوسا من جملة المحبسين، فقال له موسى " أولو جئتك بشئ مبين " يعني بمعجزة تدل على صحة ما ادعيته تبينني من غيري والمعنى ان جئتك بشئ يدل على صدقي تحبسني؟ !

قوله تعالى: (قال فأت به إن كنت من الصادقين(31) فألقى عصاه فاذا هي ثعبان مبين(32) ونزع يده فاذا هي بيضاء للناظرين(33) قال للملا حوله إن هذا لساحر عليم(34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون(35) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين(36) يأتوك بكل سحار عليم(37) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم(38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون(39) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين(40))

عشر آيات بلا خلاف.

لما قال موسى لفرعون " أو لو جئتك بشئ مبين قال " فرعون " فات به إن كنت من الصادقين " أي هات ما أدعيته من المعجزة إن كنت صادقا

[17]

" فألقى عصاد " حينئذ موسى " فاذا هي ثعبان مبين " وهي الحية العظيمة، ومنه المثعب وهو المجرى الواسع، وانثعب الماء انثعابا إذا جرى باتساع، ومنه الثعبان لانه يجري باتساع لعظمه.

وفى قلب العصا حية دلالتان: إحداهما - دلالة على الله تعالى، لانه مما لا يقدر عليه إلا هو، وليس مما يلتبس بايجاب الطبائع، لانه اختراع، للانقلاب في الحال.

والثاني - دلالة على النبوة بموافقته الدعوة مع رجوعها إلى حالتها الاولى لما قبض عليها.

وقيل: الثعبان الحية الذكر، ووصفه تعالى العصا - ههنا - بأنها صارت مثل الثعبان، لا ينافي قوله " كأنها جان " من وجوه: احدها - انه تعالى لم يقل، فاذا هي جان، كما وصفها بأنها ثعبان، وانما شبهها بالجان، ولا يجوز أن تكون مثله على كل حال.

والثاني - انه وصفها بالثعبان في عظمها، وبالجان في سرعة حركتها، فكأنها مع كبرها في صفة الجان لسرعة الحركة، وذلك أبلغ في الاعجاز.

وثالثها - انه أراد أنها صارت مثل الجان في أول حالها، ثم تدرجت إلى ان صارت مثل الثعبان، وذلك ايضا أبلغ في باب الاعجاز.

ورابعها - ان الحالين مختلفان، لان احداهما كانت حين ألقى موسى فصارت العصا كالثعبان، والحالة الاخرى حين أوحى الله اليه وناداه من الشجرة.

ومعنى (مبين) قال ابن عباس: انه ثعبان لا شبهة فيه.

وقيل: معناه مبين وجه الحجة به.

وروي أنها غرزت ذنبها في الارض ورفعت رأسها نحو الميل إلى السماء، ثم انحطت فجعلت رأس فرعون بين نابيها، وجعلت تقول: مرني بما شئت،

[18]

فناداه فرعون أسألك بالذي أرسلك لما احذتها، فاخذها، فعادت عصا، كما كانت - ذكره ابن عباس، والمنهال -.

وقوله " ونزع يده " أي أخرجها من جيبه أو من كمه على ما روي. ويجوز أن يكون المراد حسر عن ذراعه. والمعنى أنه نزعها عن اللباس التي كان عليها. والنزع إخراج الشئ مما كان متصلا به، وملابسا له.

وقوله " فاذا هي بيضاء " يعني بياضا نوريا كالشمس في إشراقها * (للناظرين) * اليها من غير برص، فقال فرعون عند ذلك لاشراف قومه الذين حوله * (إن هذا) * يعنى موسى * (لساحر عليم) * أي عالم بالسحر والحيل * (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) * قيل معناه يريد أن يخرج عبيدكم بني اسرائيل قهرا.

ويحتمل أن يكون أراد يخرجكم من دياركم ويتغلب عليكم * (فماذا تأمرون) * في تأديبه، وانما شاور قومه في ذلك مع أنه كان يقول لهم: انه إله، لانه يجوز أن يكون ذهب عليه وعلى قومه أن الاله لا يجوز أن يشاور غيره، كما ذهب عليهم أن الاله لا يكون جسما محتاجا، فاعتقدوا إلهيته لما دعاهم اليها مع ظهور حاجته التي لا اشكال فيها، فقال لفرعون اشراف قومه الذين استشارهم " أرجه واخاه " أي أخرهما، فالارجاء التأخير، تقول: ارجأت الامر ارجئه إرجاء، وهم المرجئة، لانهم قالوا بتأخير حكم الفساق في لزوم العقاب.

وقيل: انما أشاروا بتأخيره ولم يشيروا بقتله، لانهم رأوا أن الناس يفتتنون به ان قتل، وإن السحرة اذا قاومته زال ذلك الافتتان، وكان له حينئذ عذر في قتله أو حبسه بحسب ما يراه.

وقوله * (وابعث في المدائن حاشرين) * أي ارسل حاشرين يحشرون الناس من جميع البلدان.

فالحشر السوق من جهات مختلفة إلى مكان واحد،

[19]

حشره يحشره حشرا، فهو حاشر والشئ محشور، وانحشر الناس إلى مكان إذا اجتمعوا اليه. والسحر لطف الحيلة حتى يتوهم المموه عليه أنه حقيقة.

وقوله * (ياتوك) * أي يجيئوك * (بكل سحار) * مبالغة فيمن يعمل بالسحر * (عليم) * أي عالم بالسحر، وفي الكلام حذف، لان تقديره إنه انفذ الحاشرين في المدائن وانهم حشروهم * (فجمع السحرة) * على ما قالوه * (لميقات يوم معلوم) * لوقت يوم بعينه اختاروه وعينوه * (وقيل للناس هل انتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة) * ان غلبوا موسى، فالغلبة الاستعلاء بالقوة: غلبة يغلبه غلبة إذا قهره، وتغلب تغليبا وغالبه مغالبة وتغالبا تغالبا. وقد يوصف المستعلي على غيره بالحجة بأنه غلبه.

الآية: 41 - 80

قوله تعالى: (فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين(41) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين(42) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون(43) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون(44) فألقى موسى عصاه فاذا هي تلقف ما يأفكون(45))

آيات بلا خلاف.

قرأ حفص " تلقف " بتخفيف القاف، الباقون - بتشديدها - إلا أن البزي وإبن فليح وقنبل شددوا التاء.

قال ابوعلي: من خفف القاف، فهو الوجه، لان من شددها يريد تتلقف، فادغم، وانما أدغم، لانه يلزمه إذا ابتدأ

[20]

على هذه القراء‌ة أن يجتلب همزة الوصل، وهمزه الوصل لا تدخل على الافعال المضارعة، كما لا تدخل على اسماء الفاعلين.

حكى الله تعالى أن السحرة لما حشروهم إلى فرعون وحضروا بين يديه قالوا له " أئن لنا لاجرا ان كنا نحن الغالبين " اي هل لنا أجر جزاء على غلبنا اياه ان غلبناه.

ومن قرأ على الخبر " إن لنا " أراد انهم لتيقنهم بالاجر أخبروا بذلك.

والاول أقوى لقوله " قال نعم " وذلك جواب الاستفهام.

والاجر الجزاء على العمل بالخير.

والجزاء على الشر يسمى عقابا، ولذلك اذا دعي لانسان قيل: آجرك الله.

والمعنى أئن لنا لاجرا عند الملك؟ والغالب الذي يعلو على غيره الذي يمنع في نفسه بما يصير اليه في قبضة، فالله غالب كل شئ بمعنى أنه عال عليه لدخوله في مقدوره، لا يمكنه الخروج منه، فقال لهم فرعون في جواب ذلك: " نعم " لكم على ذلك الاجر الجزيل " وانكم " مع ما تعطون من الجزاء " اذا لمن المقربين ". والمقرب المدني من مجلس الكرامة، واختصاصه بها.

ثم حكى ما قال موسى للسحرة، فانه قال لهم " ألقوا ما أنتم ملقون " وهذا بصورة الامر والمراد به التحدي، والمعنى اطرحوا ما انتم ملقوه " فالقوا حبالهم وعصيهم " أي طرحت السحرة ما كان معهم من السحر من الحبال والعصي التي سحروها وموهوا بأنها تسعى وتتحرك.

وقيل: انهم جعلوا فيها زيبقا، وطرحوها في الشمس، فلما حميت بالشمس تحرك الزيبق، لانه إذا حمي من شأنه أن يصعد فتحركت لذلك الحبال والعصي، فظن الناظرون أنها تتحرك.

وقالوا حين طرحوا ما معهم " بعزة فرعون " والعزة القوة التي يمتنع بها من لحاق الضيم بعلو منزلتها، وهذا القول قسم منهم وإن كان غير مبرور " إنا لنحن الغالبون " لموسى فيما أتى به " فالقى " عند ذلك " موسى عصاه فاذا هي تلقف ما يأفكون "

[21]

أي تناولت العصا ما موهوا به في ادنى مدة من الزمان، والتلقف تناول الشئ بالفم بسرعة، تقول: تلقف تلقفا والتقف التقافا واستلقف استلقافا.

ومعنى (ما يأفكون) ما يوهمون الانقلاب زورا وبهتانا. وقيل كان عدد السحرة اثني عشر ألفا وكلهم أقر بالحق عند آية موسى.

قوله تعالى: (فالقي السحرة ساجدين(46) قالوا آمنا برب العالمين(47) رب موسى وهرون(48) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم أجمعين(49) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون(50))

ست آيات.

قرأ أهل الكوفة إلا حفصا وروح " أأمنتم " بهمزتين مخففتين على الاستفهام. وروى حفص وورش ورويس بهمزة واحدة على الخبر. الباقون بهمزتين الاولى مخففة والثانية ملينة. ولم يفصل أحد بين الهمزتين بألف. وقد بينا نظائره فيما تقدم في الاعراف.

حكى الله تعالى أن السحرة لما بهرهم ما أظهره موسى (ع) من قلب العصا حية وتلقفها جميع ما اتعبوا نفوسهم فيه علموا أن ذلك من فعل الله، وأن احدا من البشر لا يقدر عليه فآمنوا عند ذلك، وأذعنوا للحق وخروا ساجدين لله شكرا على ما أنعم به عليهم ووفقهم للايمان، وأنهم قالوا عند ذلك " آمنا " وصدقنا " برب العالمين " الذي خلق الخلق كلهم، الذي هو " رب موسى وهارون " وإنما

[22]

خص رب موسى وهارون بالذكر دون غيرهما، وان كان رب كل شئ، للبيان عن المعني الذي دعا إلى ربوبيته موسى وهارون، لان الجهال كانوا يعتقدون ربوبية فرعون، فكان إخلاصهم على خلاف ما يقوله الاغبياء، والمعنى الذي ألقاهم ساجدين قيل فيه قولان: احدهما - إن الحق الذي عرفوه القاهم ساجدين. الثاني - انهم ألقوا نفوسهم ساجدين لما عرفوا من صحة الدعاء إلى الدين.

فقال عند ذلك فرعون مهددا لهم " أأمنتم له " أي صدقتم له فيما يدعو اليه منكرا عليهم " قبل أن آذن لكم " في تصديقكم.

ثم قال " إنه لكبيركم " أي استاذكم وعالمكم " الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون " فيما بعد ما افعله بكم جزاء على تصديقكم إياه، ودخلت اللام في الكلام تأكيدا، ثم فسر ذلك، فقال " لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " يعني قطع اليد من جانب، والرجل من الجانب الاخر كقطع الرجل اليسرى واليد اليمنى " ولاصلبنكم " مع ذلك " أجمعين " على الجذوع، ولا أترك واحدا منكم، لا تتناله عقوبتي، فقالوا له في الجواب عن ذلك " لا ضير " أي لا ضرر علينا بما تفعله يقال: ضره يضره ضرارا، وضاره يضير ضيرا، وضاره يضوره ضورا لغة قليلة.

وقوله " انا إلى ربنا منقلبون " أي مصيرنا إلى ثواب الله لا يضرنا ما تفعله بنا.

وقال الجبائي: في الآية دلالة على ان للانسان أن يظهر الحق وإن خاف القتل.

وقال الحسن: لم يصل فرعون إلى قتل أحد منهم ولا قطعه.

وقال قوم: أول من قطع الايدي والارجل فرعون.

[23]

قوله تعالى: (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين(51) وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون(52) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين(53) إن هؤلاء لشرذمة قليلون(54) وإنهم لنا لغائظون(55) وإنا لجميع حاذرون(56) فأخرجناهم من جنات وعيون(57) وكنوز ومقام كريم(58) كذلك وأورثناها بني إسرائيل(59) فأتبعوهم مشرقين(60))

عشر آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة وابن عامر إلا الحلواني " حاذورن " بألف، الباقون بغير ألف. من قرأ بالالف قال: هو مثل شرب، فهو شارب، وحذر فهو حاذر.

وقيل: رجل حاذر فيما يستقبل، وليس حاذرا في الوقت، فاذا كان الحذر له لازما قيل رجل حذر مثل سؤل وسائل، وطمع وطامع، وكان يجوز ضم الذال لانهم يقولون: حذر وحذر - بكسر الذال وضمها - مثل يقظ ويقظ وفطن وفطن.

وقرأ عبدالله بن السائب " حادرون " بالدال - المهملة - بمعنى نحن أقوياء غلاظ الاجسام، يقولون: رجل حادر أى سمين، وعين حدرة بدرة إذا كانت واسعة عظيمة المقلة، قال امرؤ القيس:

وعين لها حدرة بدرة * شقت مآقيهما من أخر(1)

وقيل الفرق بين الحاذر والحذر أن الحاذر الفاعل للحذر، أن يناله مكروه والحذر.

___________________________________

(1) ديوانه 99 وتفسير القرطبي 13 / 104

[24]

المطبوع على الحذر وقيل: " حاذرون " مؤدون في السلاح أى ذووا أداة من السلاح المستعدون للحروب من عدو، والحذر اجتناب الشئ خوفا منه، حذر حذرا، فهو حاذر وحذره تحذيرا، وتحذر تحذرا وحاذره محاذرة وحذارا.

اخبر الله تعالى عن السحرة انهم حين آمنوا وقالوا لفرعون: لا ضرر علينا بما تفعل بنا، لانا منقلبنا إلى الله وثوابه، قالوا " إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا " أى ما فعلنا من السحر وغيره، لانا كنا اول من صدق بموسى وأقر بنبوته، وبما دعا اليه من توحيد الله ونفي التشبيه عنه ممن كان يعمل بالسحر.

وقيل: انهم اول من آمن عند تلك الآية.

ومن قال: هم اول من آمن من قومه فقد غلط، لان بني اسرائيل كانوا آمنوا به.

ولو كسرت الهمزة من (إن) على الشرط كان جائزا.

والطمع طلب النفس للخير الذى يقدر فيها انه يكون.

ومثله الامل والرجاء والخطايا جمع خطيئة، وهي الزوال عن الاستقامة المؤدية إلى الثواب.

ثم حكى تعالى انه أوحى إلى موسى، وامره بأن يسري بعباد الله الذين آمنوا به، ويخرجوا من بلد فرعون، وهم بنوا إسرائيل المقرون بنبوته.

يقال سرى وأسرى لغتان، فمن قطع الهمزة قال: هو من اسرى يسري، ومن وصلها فمن سرى يسري. واعلمهم أن فرعون وجنوده يتبعونهم، ويخرجون في طلبهم وتبع واتبع لغتان.

ثم حكى ايضا ان فرعون ارسل برسله في المدائن حاشرين يحشرون الناس اليه الذين هم جنوده، وقيل: انه حشر جنده من المدائن التي حوله ليقبضوا على موسى وقومه، لما ساروا بأمر الله (عزوجل) فلما حضروا عنده، قال لهم " إن هؤلاء " يعني أصحاب موسى " لشرذمة قليلون " والشرذمة العصبة

[25]

الباقية من عصب كثيرة، وشرذمة كل شئ بقيته القليلة، ومنه قول الراجز:

جاء الشتاء وقميصي اخلاق * شراذم يضحك منه التواق(1)

وقال عبدالله بن مسعود: الشرذمة الذين قللهم فرعون من بني اسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا، وانما استقلهم، لانه كان على مقدمته سبعة آلاف الف على ما قال بعض المفسرين.

ثم قال " وانهم " مع قلتهم " لنا لغائظون " أي يغيظوننا بمخالفتهم إيانا، ويقال: جمع قليل وقليلون، كما يقال حي واحد، وواحدون.

ثم اخبر تعالى عن فرعون أنه قال لجنده " انا لجميع حذرون " منهم قد استعددنا لقتالهم.

ثم اخبر تعالى عن كيفية إهلاكهم بأن قال " فاخرجناهم " يعني فرعون وقومه " من جنات " وهي البساتين التي تجنها الاشجار " وعيون " جارية فيها " وكنوز " يعني اموال لهم مخبئة بعضها على بعض في مواضع غامضة من الارض ومنه كناز التمر وغيره مما يعبأ بعضه على بعض " ومقام كريم " فالمقام الموضع الذي يقيمون فيه.

ويجوز أن يكون مصدرا و " الكريم " هو الحقيق باعطاء الخير الجزيل، لانه اهل للكرم، وهي صفة تعظيم في المدح: كرم كرما واكرمه إكراما، وتكرم تكرما. وقيل: المقام الكريم المنابر. وقيل مجالس الامراء والرؤساء: التي كان يحف بها الاتباع.

ثم قال تعالى " كذلك " أي مثل ذلك أي كما وصفنا لك اخبارهم " واورثناها بني اسرائيل " أي نعم آل فرعون بأن اهلكنا آل فرعون وملكنا ديارهم واملاكهم لنبي اسرائيل.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 6 / 328

[26]

والارث تركة الماضي ممن هلك لمن بقي. وقيل صار ذلك في ايدي بني اسرائيل في ايام داود وغيره.

وقال الحسن: رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد اهلاك فرعون وقومه.

وقوله " فاتبعوهم مشرقين " معناه تبعوا اثرهم وقت اشراق الشمس وظهور ضوئها وصفائه.

وقيل معناه مصبحين، ويقال: اتبع فلان فلانا وتبعه اذا اقتفى اثره - لغتان -.

قوله تعالى: (فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون(61) قال كلا إن معي ربي سيهدين(62) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم(63) وأزلفنا ثم الاخرين(64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين(65) ثم أغرقنا الاخرين(66) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين(67) وإن ربك لهو العزيز الرحيم(68) واتل عليهم نبأ إبرهيم(69) إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون(70))

عشر آيات بلا خلاف.

قرأ حفص " معي ربي " بفتح الياء، وكذلك في جميع القرآن. الباقون بسكونها، فمن سكن ذهب إلى التخفيف، ومن فتح فعلى أصل الكلمة لان الاسم على حرف واحد، فقراء‌ته - بالفتح - ان كان متصلا بكلمة على حرفين.

[27]

وكان اصحاب موسى فزعوا من فرعون أن يلحقهم وحذروا موسى، فقالوا " انا لمدركون " فقال لهم موسى (ع) - ثقة بالله - " كلا " ليس كما تقولون " ان معي ربي سيهدين " وقرأ الاعرج " لمدركون " مفتعلون، من الادراك وادغم التاء في الدال.

قال الفراء: دركت دراكا وادركت ادراكا بمعنى واحد، مثل حفرت واخفرت، بمعنى واحد.

وقرأ حمزة وحده " تراء الجمعان " بالامالة. الباقون بالتفخيم على وزن (تراعى) لانه تفاعل من الرؤية، وهو فعل ماض موحد، وليس مثنى، لانه فعل متقدم على الاسم، ولو كان مثنى لقال تراء‌ا ووقف حمزة " تراى " بكسر الراء ممدود قليلا، لان من شرطه ترك الهمزة في الوقف، فترك الهمزة التى آخر الالف، كأنه يريدها، فلذلك مد قليلا.

ووقف الكسائي " ترآى " اى بالامالة على وزن تراعى، وتنادى. الباقون وقفوا بألفين على الاصل. وكذلك جميع ما في القرآن مثل " أنشأناهن انشاء "(1) و * (أنزل من السماء ماء) *(2) كل ذلك يقفون بالمد بألفين. وحمزة يقف على الف واحدة. واذا كانت الهمزة للتأنيث أسقطت الهمزة في الوقف عند الجميع نحو * (بيضاء) *(3)

___________________________________

(1) سورة 56 الواقعة آية 35.

(2) سورة 2 البقرة آية 22 وسورة 13 الرعد آية 19 وسورة 14 ابراهيم آية 32 وسورة 16 النحل آية 65 وسورة 20 طه آية 53 وسورة 22 الحج آية 63 وسورة 35 فاطر آية 27 وسورة 39 الزمر آية 21.

(3) سورة 7 الاعراف آية 107 وسورة 20 طه آية 22 وسورة 26 الشعراء آية 33 وسورة 27 النمل آية 12 وسورة 28 القصص آية 32 وسورة 37 الصافات آية 46

[28]

و * (انها بقرة صفراء) *(1) و * (الاخلاء) *(2) فيشم الضمة في موضع الرفع ولا يشم الفتحة في موضع النصب.

اخبر الله تعالى انه * (لما تراء الجمعان) * جمع فرعون وجمع موسى أى تقابلا بحيث يرى كل واحد منهما صاحبه.

ويقال: ترآ نارهما أى تقابلا، وانما جاز تثنية الجمع، لانه يقع عليه صفة التوحيد، فتقول: هذا جمع واحد، ولا يجوز تثنية مسلمين، لانه لا يقع عليه صفة التوحيد، لانه على خلاف صفة التوحيد.

* (قال أصحاب موسى انا لمدركون) * أى لملحقون. فالادراك الالحاق، وادركته ببصري اذا رأيته، وادرك قتادة الحسن اى لحقه، وادرك الزرع اذا لحق ببلوغه، وأدرك الغلام إذا بلغ، وادركت القدر إذا نضجت، فقال لهم: موسى " كلا " ليس الامر على ذلك " إن معي ربي " بنصره إياي " سيهدين " أي سيدلني على طريق النجاة من فرعون وقومه كما وعدني، لان الانبياء لا يخبرون بمالا دليل عليه من جهة العقل او السمع.

وقوله " فأوحينا اليه أن اضرب بعصاك البحر " اي امرناه بضرب البحر بعصاه، وقيل: هو بحر قلزم الذي يسلك الناس فيه من اليمن ومكة إلى مصر، وفيه حذف، لان تقديره فضرب البحر " فانفلق " وقيل: انه صار فيه إثنا عشر طريقا لكل سبط طريق " فكان كل فرق كالطود العظيم " فالطود الجبل، قال الاسود بن يعفر النهشلي:

حلوا بانقرة يحيس عليهم * ماء الفرات يجئ من اطواد(3)

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 69.

(2) سورة 43 الزخرف آية 67.

(3) تفسير القرطبي 13 / 107 والطبري 19 / 46 واللسان (نقر) وروايته

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم * ماء الفرات يحئ من اطواد

[29]

وقوله " وأزلفنا ثم الاخرين " قال ابن عباس وقتادة: معناه قربنا إلى البحر فرعون، ومنه قوله " وأزلفت الجنة للمتقين "(1) أي قربت وادنيت قال العجاج:

ناج طواه الاين مما وجفا * طي الليالي زلفا فزلفا

سمارة الهلال حتى احقوقفا(2) أي منزله يقرب من منزله، ومنه قيل ليلة المزدلفة.

وقال ابوعبيدة: معنى أزلفنا جمعنا، وليلة مزدلفة ليلة جمع، والمعنى قربنا قوم فرعون إلى البحر كما يسرنا لبني اسرائيل سلوك البحر وكان ذلك سبب قربهم منهم حتى اقتحموه وقيل: معناه قربناهم إلى المنية لمجئ وقت هلاكهم قال الشاعر:

وكل يوم مضئ او ليلة سلفت * فيها النفوس إلى الاجال تزدلف(3)

وانجينا موسى ومن معه يعني بني إسرائيل أنجيناهم جميعهم من الهلاك والغرق " ثم اغرقنا الباقين " من فرعون وأصحابه.

وقال تعالى " إن في ذلك " يعني في فلق البحر فرقا، وانجاء موسى من البحر، وإغراق قوم فرعون، لدلالة واضحة على توحيد الله وصفاته التي لا يشاركه فيها أحد. ثم اخبر تعالى ان " اكثرهم لا يؤمنون " ولا يستدلون به بسوء اختيارهم كما يسبق في علمه. فالاخر - بفتح الخاء - الثاني من اثنين قسيم (احد) كقولك نجا الله أحدهما، وغرق الآخر، والآخر - بكسر الخاء - هو الثاني قسيم الاول كقولك نجا الاول وهلك الآخر.

وقيل: معنى " وما كان اكثرهم مؤمنين " ان الناس مع هذا البرهان الظاهر، والسلطان القاهر، بالامر المعجز

___________________________________

(1) سورة 26 الشعراء آية 90.

(2) مر تخريجه في 6 / 79.

(3) تفسير القرطبي 13 / 107

[30]

الذي لا يقدر عليه أحد غير الله، ما آمن اكثرهم، فلا تستنكر أيها المحق استنكار استيحاش من قعودهم عن الحق الذي تأتيهم به، وتدلهم عليه، فقد جروا على عادة اسلافهم، في انكار الحق وقبول الباطل.

وقوله " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " أي هو القادر الذي لا يمكن معارضته في أمره، وهو مع ذلك رحيم بخلقه. وفى ذلك غاية الحث على طلب الخير من جهة الموصوف بهما.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " واتل " يا محمد على قومك " نبأ ابراهيم " أي خبره، حين " قال لابيه وقومه ما " الذي " تعبدون " من دون الله؟ ! يعني أي شئ معبودكم على وجه الانكار عليهم، لانهم كانوا يعبدون الاصنام.

قوله تعالى: (قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين(71) قال هل يسمعونكم إذ تدعون(72) أو ينفعونكم أو يضرون(73) قالوا بل وجدنا آباء‌نا كذلك يفعلون(74) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون(75) أنتم وآباؤكم الاقدمون(76) فانهم عدو لي إلا رب العالمين(77) الذي خلقني فهو يهدين(78) والذي هو يطعمني ويسقين(79) وإذا مرضت فهو يشفين(80))

تسع آيات بلا خلاف.

حكى الله تعالى ما أجاب به قوم ابراهيم حين قال لهم ابراهيم " ما تعبدون "؟ فانهم " قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين " أي مقيمين مداومين علي عبادتنا (*)

[31]

يقال: عكف عكوفا، فهو عاكف، واعتكف اعتكافا.

قال ابن عباس: معناه فنظل لها مصلين.

وقيل: في وجه دخول الشبهة عليهم في عبادة الاصنام أشياء: احدها - انهم اعتقدوا أنها تقربهم إلى الله زلفى كما يتقرب بتقبيل بساط الملك اليه.

ومنها - أنهم اتخذوا هياكل النجوم ليحظوا بتوجه العبادة إلى هياكلها، كما يفعل بالهند.

ومنها - ارتباط عبادة الله بصورة يرى منها.

ومنها - انهم توهموا خاصية في عبادة الصنم يحظى بها، كالخاصية في حجر المغناطيس.

والشبهة الكبرى العامة في ذلك تقليد الذين دخلت عليهم الشبهة، ولذلك " قالوا وجدنا آباء‌نا كذلك يفعلون " ولم يحتجوا بشئ سوى التقليد، الذي هو قبيح في العقول.

والعبادة خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع، فلا تستحق إلا بأصول النعم وبما كان في أعلى المراتب من الانسان، فكل من عبد غير الله، فهو جاهل بموجب العبادة، كافر لنعم الله، لان من حقه إخلاص العبادة له.

فقال لهم ابراهيم (ع) " هل يسمعونكم " هذه الاصنام التي تعبدونها إذا دعوتموها ! أي هل يسمعون أصواتكم، لان اجسامهم لا تسمع " او ينفعونكم " بشئ من المنافع " او يضرون " بشئ من المضار !.

وانما قال ذلك، لان من لا يملك النفع والضر، لا تحسن عبادته، لانها ضرب من الشكر، ولا يستحق الشكر إلا بالنعم، فمن لا يصح منه الانعام يقبح شكره، ومن قبح شكره قبحت عبادته.

فقالوا عند ذلك " وجدنا آباء‌نا كذلك يفعلون " أحالوا على مجرد التقليد.

[32]

فقال لهم ابراهيم منكرا عليهم التقليد " أفرايتم ما كنتم تعبدون " من الاصنام " أنتم " الآن " وآباؤكم الاقدمون " المتقدمون، فالاقدم الموجود قبل غيره، ومثله الاول والاسبق.

والقدم وجود الشئ لا إلى أول ثم قال ابراهيم " فانهم " عدو لي يعني الاصنام جمعها جمع العقلاء، لما وصفها بالعداوه التي تكون من العقلاء، لان الاصنام كالعدو في الصورة بعبادتها، ويجوز أن يكون، لانه كان منهم من لا يعبد إلا الله مع عبادة الاصنام فغلب ما يعقل ولذلك استثناه، فقال " إلا رب العالمين " لانه استثناء من جميع المعبودين، وعلى الوجه الاول يكون الاستثناء منقطعا وتكون (إلا) بمعنى لكن ثم وصف رب العالمين فقال: هو " الذي خلقني " واخرجني من العدم إلى الوجود " فهو يهدين " لان هداية الخلق إلى الرشاد أمر يجل، فلا يكون إلا ممن خلق الخلق كأنه قيل من يهديك؟ ومن يسد خلتك بما يطعمك ويسقيك؟ ومن إذا مرضت يشفيك؟ فقال - دالا بالمعلوم على المجهول " الذي خلقني، فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين " بمعنى أنه يزرقني ما يوصلني إلى ما فيه صلاحي " وإذا مرضت فهو يشفين " بان يفعل ما يحفظ بدني ويصح جسمي ويرزقني ما يوصلني اليه.

الآية: 81 - 122

قوله تعالى: (والذي يميتني ثم يحيين(81) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين(82) رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين(83) واجعل لي لسان صدق في الاخرين(84) واجعلني من ورثة جنة النعيم(85) واغفر لابي إنه كان من الضالين(86) ولا تخزني يوم يبعثون(87) يوم لا ينفع مال ولا بنون(88) إلا من أتى الله بقلب سليم(89))

تسع آيات بلا خلاف.

حكى الله تعالى عن ابراهيم (ع) أنه قال بعد قوله: إن الله الذي يشفيه إذا مرض " والذي يميتني " بعد أن كنت حيا " ثم يحيين " أي يحيني بعد أن اكون ميتا يوم القيامة * (والذي أطمع ان يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * أي يوم الجزاء وهذا انقطاع منه (ع) إلى الله دون أن يكون له خطيئة يحتاج ان تغفر له يوم القيامة، لان عندنا أن القبائح كلها لا تقع منهم (ع)، وعند المعتزلة الصغائر التي تقع منهم محبطة، فليس شئ منها بمغفور يحتاج ان يغفر لهم يوم القيامة.

وقيل: إن الطمع - ههنا - بمعنى العلم دون الرجاء وكذلك في قوله * (انا نطمع ان يغفر لنا ربنا خطايانا) *(1) كما ان الظن يكون بمعنى العلم.

وقيل: ان ذلك خرج مخرج التلطف في الدعاء بذكر ما يتيقن انه كائن كما انه إذا جاء العلم على المظاهرة في الحجاج وذكر بالظن.

ثم حكى انه سأل الله تعالى فقال * (رب هب لي حكما) * والحكم بيان الشئ على ما تقتضيه الحكمة، فسأل ذلك ابراهيم، من حيث كان طريقا للعلم بالامور.

وقوله * (والحقني بالصالحين) * معناه افعل بي من اللطف ما يؤديني إلى الصلاح. والاجتماع مع النبيين في الثواب. وفى ذلك دلالة على عظم شأن الصلاح وصلاح العبد هو الاستقامة على ما أمر الله به ودعا اليه.

وقوله * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * اي ثناء حسنا في آخر الامم، فأجاب

___________________________________

(1) سورة 26 الشعراء آية 52

[34]

الله تعالى دعاء‌ه، لان اليهود يقرون بنبوته، وكذلك النصارى، واكثر الامم.

وقيل: معنى " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " أي اجعل من ولدي من يقوم بالحق، ويدعو إلى الله، وهو محمد صلى الله عليه وآله ثم سأله أن يجعله " من ورثة جنة النعيم، بأن يفعل معه من الالطاف ما يختار عنده الطاعات، لان الجنة لا يثاب فيها إلا بالاستحقاق.

ثم قال " ولا تخزني يوم يبعثون " أي لا تفضحني بذنب، ولا تعيرني يوم يحشر الخلائق.

و (الخزي) الفضيحة والتعيير بالذنب بما يردع النفس، يقال: خزي خزيا. وأخزاه الله إخزاء، وهذا موقف خزي. وهذا الدعاء منه (ع) إنقطاع منه إلى الله تعالى، لانا قد بينا أن القبائح لا تقع من الانبياء على حال.

ثم وصف اليوم الذي يبعث فيه الخلائق بأنه " يوم لا ينفع " فيه " مال " فيفادي به الانسان نفسه من العقاب " ولا " ينفع " بنون " ينصرونه " إلا من أتى " أي وإنما ينفع من يأتي " الله بقلب سليم " أي سليم من الفساد والمعاصي، انما خص القلب بالسلامة، لانه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد، من حيث أن الفساد بالجارحة لا يكون إلا عن قصد بالقلب الفاسد فان اجتمع مع ذلك جهل، فقد عدم السلامة من جهتين، وقيل: سلامة القلب سلامة الجوارج، لانه يكون خاليا من الاصرار على الذنب.

وحكى انه سأل الله تعالى أن يغفر لابيه، وذكر انه من الضالين، قالوا: إنما سأل الله أن يغفر له يوم القيامة بشرط تقتضيه الحكمة. وهو أن يتوب قبل موته، فلما تبين انه عدو لله تبرأ منه، ووصفه بأنه ضال يدل على أنه كافر، كفر جهل لا كفر عناد.

وقيل: انه إنما دعا لابيه لموعدة وعده بها، لانه كان يطمعه سرا في الايمان فوعده بالاستغفار، فلما تبين انه كان عن نفاق تبرأ منه. وقال الحسن: عاب الله

[35]

تعالى من فعل ابراهيم في قوله " إلا قول ابراهيم لابيه لاستغفرن لك " بعد قوله " قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه "(1). وليس الامر على ما قاله. ونحن نبين الوجه في هذه الآية إذا انتهينا اليها إن شاء الله. وعند اصحابنا ان أباه الذي استغفر له، كان جده لامه، لان آباء النبي صلى الله عليه وآله إلى آدم كلهم مؤمنون موحدون - بأدلة ليس هذا موضع ذكرها، والدلالة عليها.

قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين(90) وبرزت الجحيم للغاوين(91) وقيل لهم أينما كنتم تعبدون(92) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون(93) فكبكبوا فيها هم والغاون(94) وجنود إبليس أجمعون(95))

ست آيات.

معنى " وازلفت الجنة للمتقين " قربت لهم ليدخلوها " وبرزت الجحيم للغاوين " أي أظهرت الجحيم للعاملين بالغواية وتركهم الرشاد، يقال: برز يبرز بروزا، وأبرزه إبرازا، وبرزه تبريزا، وبارزه مبارزة، وتبارزا تبارزا. وفى رؤية الانسان آلات العذاب التي أعدت لهم عذاب عظيم، وألم جسيم للقلب فبروز الجحيم للغاوين بهذه الصفة.

و (الغاوي) العامل بما يوجب الخيبة من الثواب: غوى الرجل يغوى غيا وغواية، وأغواه غيره إغواء، واستغواه استغواء واصله الخيبة قال الشاعر:

___________________________________

(1) سورة 60 الممتحنة آية 4

[36]

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما(1)

ثم اخبر أنه يقال لهم، يعني للغاوين على وجه التوبيخ لهم والتقريع " أين ما كنتم تعبدون من دون الله " وإنما وبخوا بلفظ الاستفهام، لانه لا جواب لهم عن ذلك إلا بما فيه فضيحتهم، كقولك اينما كنت تعبد من دون الله؟ ! لا يخلصك من عقابه " هل ينصرونكم " ويدفعون عنكم العقاب في هذا اليوم " أو ينتصرون " لكم اذا عوقبتم !، فمن عبدها، فهو الغاوي في عبادته، لا يملك رفع الضرر عن نفسه، ولا عن عابده مع أنه لا حق به.

ثم قال " فكبكبوا فيها " ومعناه كبوا إلا انه ضوعف، كما قال " بريح صرصر "(2) أي صر.

وقيل: جمعوا بطرح بعضهم على بعض - عن ابن عباس - وقال مجاهد: هووا " هم والغاون " أي وكب الغاون معهم، وكب معهم " جنود ابليس " أي من اتبعه من ولده، وولد آدم.

وقال ابوعبيدة (كبكبوا) معناه طرحوا فيها بعضهم على بعض جماعة جماعة.

وقال المبرد: نكسوا فيها من قولهم: كبه الله لوجهه.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 2 / 312 و 4 / 391 و 5 / 548 و 6 / 366(2) سورة 69 الحاقة آية 6

[37]

قوله تعالى: (قالوا وهم فيها يختصمون(96) تالله إن كنا لفي ضلال مبين(97) إذ نسويكم برب العالمين(98) وما أضلنا إلا المجرمون(99) فما لنا من شافعين(100) ولا صديق حميم(101) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين(102) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(103) وإن ربك لهو العزيز الرحيم(104))

تسع آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى مخبرا عن هؤلاء الكفار أنهم إذا حصلوا في الجحيم " يختصمون " والاختصام منازعة كل واحد منهم صاحبه بما فيه إنكار عليه واغلاظ له: يقال: اختصما في الامر اختصاما. وتخاصما تخاصما، وخاصمه مخاصمة. ويقول بعضهم لبعض " تالله إن كنا لفي ضلال مبين " قال الزجاج: معناه ما كنا الا في ضلال مبين.

وقال غيره: اللام لام الابتداء التي تدخل في خبر (ان) و (ان) هذه في الخفيفة من الثقيلة، ويلزمها اللام في خبرها، فرقا بينها، وبين (ان) التي للجحد، وتقديره تالله ان كنا لفي ضلال مبين في الحال التي سويناكم - يخاطبون كل معبود من دون الله - " برب العالمين " الذي خلق الخلق، في توجيه العبادة اليكم.

والتسوية اعطاء أحد الشيئين مثل ما يعطى الآخر، ومثله المعادلة والموازنة. والمراد - ههنا - الشركة في العبادة.

ثم قال * (وما أضلنا الا المجرمون) * بأن دعونا إلى الضلال فتبعناهم، وقبلنا منهم. ثم يقولون * (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) * أي لو كان لنا شفيع لسأل في أمرنا او صديق لدفع عنا، فقد آيس الكفار من شافع، وانما يقولون ذلك اذا رأوا جماعة من فساق أهل الملة يشفع فيهم، ويسقط عنهم العقاب ويخرجون من النار، يتلهفون على مثل ذلك، ويتحسرون عليه. والصديق هو الصاحب الذي يصدق المودة وصدق المودة اخلاصها من شائب الفساد. و (الحميم) القريب الذي يحمى بغضب صاحبه، والحميم هو الحامي، ومنه الحمى. وأحم الله ذلك من لقائه: أي ادناه، بمعنى جعله كالذي بلغ بنصحه إياه، وحم كذا أي قدر.

[38]

ثم اخبر تعالى أنهم يتمنون فيقولون " فلو أن لنا كرة " أي رجعة إلى دار التكليف " فنكون من المؤمنين " وانما جاز التمني ب‍ (لو)، لانه التقدير، كما أن التمني ب‍ (ليت) مثل ذلك لتقدير المعنى، إلا أن التقدير ب‍ (لو) لموجب غيره والتقدير ب‍ (ليت) للامتناع بالمقدر، وانما جاز جواب التمني، لان المعنى متصور بالتمني غير انه اذا كان بالفاء، فهو نصب، فلذلك نصب (فنكون) لان الفاء اذا صرفت عن العطف أضمر معها (ان) للاشعار بالصرف.

ثم قال تعالى " ان في ذلك لآية " أي ان فيما قصصناه، وذكرناه لدلالة لمن نظر فيها واعتبر بها، لكن اكثرهم لا يعتبرون بها، ولا يؤمنون بها، وأخبر " إن ربك " يا محمد " لهو العزيز الرحيم " وإنما جمع بين الصفتين: العزيز والرحيم، ليرغب في طلب ما عند الله أتم الترغيب من حيث هو عظيم الرحمة واسع المقدور، منيع من معاجزة غيره.

وقيل في وجه اخبارهم بأنهم يكونون مؤمنين لو ردوا إلى دار التكليف قولان: احدهما - انهم يخبرون عن عزمهم، لان الله تعالى قد أخبر عنهم أنهم " لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه "(1) ولا يجوز - ان يكونوا مع رفع التكليف وكمال عقولهم وحصول المعارف الضرورية - ان يكذبوا، لانهم ملجؤن إلى ترك القبيح بأن يخلق الله فيهم العلم الضروري، انهم لو راموا القبيح لمنعوا من ذلك، ولولا ذلك لكانوا مغزين بالقبيح وذلك لا يجوز. والثاني - ان يكون ذلك القول منهم قبل دخولهم النار، وقبل ان يصيروا ملجئين. والاول أقوى.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 28

[39]

قوله تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين(105) إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون(106) إني لكم رسول أمين(107) فاتقوا الله وأطيعون(108) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين(109) فاتقوا الله وأطيعون(110))

ست آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى مخبرا عن قوم نوح أنهم كذبوا الذين أرسلهم الله بالنبوة. وانما كذبوهم جميعهم، لانهم كذبوا كل من دعا إلى توحيد الله، وخلع عبادة الاصنام ممن مضى من الرسل، وغيرهم ممن يأتي.

وقال الحسن: لانهم بتكذيبهم نوحا مكذبون من جاء بعده من المرسلين. ولو لم يكن قبله نبي مرسل.

وقال الجبائي: كذبوا من أرسل قبله.

وانما قال " كذبت " بالتأنيث، والقوم مذكر لانه بمعنى جماعة قوم نوح. ثم بين انهم انما كذبوه حين " قال لهم اني رسول " من قبل الله تعالى " أمين " على رسالته، والامين الذي يؤدي الامانة وضده الخائن، وقد أدى نوح الامانة في أداء الرسالة، والنصيحة لهم، فلذلك وصفه الله بأنه (أمين). وإنما سماه بأنه (أخوهم) لانه كان منهم في النسب، وذكر ذلك، لانهم به آنس وإلى إجابته أقرب فيما ينبغي أن يكونوا عليه، وهم قد صدفوا عنه " ألا تتقون " الله باجتناب معاصيه منكرا بهذا القول عليهم، وانما جاء الانكار بحرف الاستفهام لانهم لا جواب لهم عن ذلك إلا بما فيه فضيحتهم، لانهم: ان قالوا لا نتقي ما يؤدينا إلى الهلاك هتكوا نفوسهم وخرجوا عن عداد العقلاء.

[40]

وان قالوا: بل نتقيه لزمهم ترك عبادة الاصنام.

ثم قال لهم " فاتقوا الله " واجتنبوا معاصيه وافعلوا طاعاته " واطيعون " فيما أمركم به، وأدعوكم اليه.

ثم قال لهم * (وما اسألكم عليه) * على ما أدعوكم اليه.

* (من أجر) * فيصرفكم ذلك عن الايمان، لانه ليس أجري، وثوابي * (الا على رب العالمين) * الذي خلق جميع الخلائق، ثم كرر عليهم قوله * (فاتقوا الله واطيعون) * لاختلاف المعنى فيه، لان التقدير، فاتقوا الله واطيعوني لاني رسول أمين، واتقوا الله وأطيعوني لاني لا أسألكم أجرا عليه فتخافون ثلم أموالكم.

والطاعة اجابة الداعي بموافقة ارادته مع كون الداعي فوقه، فالرتبة معتبرة.

قوله تعالى: (قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون(111) قال وما علمي بما كانوا يعملون(112) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون(113) وما أنا بطارد المؤمنين(114) إن أنا إلا نذير مبين(115) قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين(116) قال رب إن قومي كذبون(117) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين(118) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون(119) ثم أغرقنا بعد الباقين(120) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين(121) وإن ربك لهو العزيز الرحيم(122))

اثنتا عشرة آية بلا خلاف.

[41]

قرأ يعقوب * (واتباعك) * على الجمع. الباقون * (واتبعك) * على الفعل الماضي قال الزجاج: من قرأ على الجمع فقراء‌ته جيدة، لان الواو (واو) الحال، واكثر ما يدخل على الاسماء.

تقول جئتك وأصحابك بنو فلان، وقد يقولون: وصحبك بنو فلان، واكثر ما يستعملونه مع (قد) في الفعل، حكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح حين دعاهم إلى الله وخوفهم من معصيته: انصدقك فيما تدعونا اليه وقد اتبعك الارذلون؟ ! يعني السفلة واوضاع الناس. والرذل الوضيع، ونقيض الرذيلة الفضيلة وجمعه الرذائل.

وقيل: انهم نسبوهم إلى صناعات دنيئة، كالحياكة والحجامة.

وانهم مع ذلك اهل نفاق ورذالة، فأنفوا من اتباعه لما اتبعوه هؤلاء، ولم يجز من نوح أن يقبل قول هؤلاء فيهم، لانهم كفار يعادونهم، فلا تقبل شهادتهم.

ويجوز أيضا ان يكونوا لما آمنوا تابوا من قبيح ما عملوا، لان الايمان يجب الخطايا، ويوجب الاقلاع عنها.

ولم يجز استصلاح هؤلاء باقصاء من آمن، كما لا يجوز استصلاحهم بفعل الظلم، لان في ذلك اذلالا للمؤمنين، وذلك ظلم لهم، لا يجوز أن يفعل بأهل الايمان، لانه قبيح.

ومن قرأ - على الجمع - أراد ان الذين اتبعوك هم الارذلون.

ومن قرأ على الفعل أراد: تبعك من هذه صفته.

فقال لهم نوح (ع): لم أطردهم " وما علمي بما كانوا يعملون " فيما مضى، لاني ما كلفت ذلك، وانما أمرت بأن ادعوهم إلى الله، وقد اجابوني اليه، وليس حسابهم الا على ربي الذي خلقني وخلقهم لو علمتم ذلك وشعرتموه، وليس أنا بطارد المؤمنين، لاني لست الا نذيرا مخوفا من معصية الله مبين لطاعته، داع اليه.

[42]

و (الطرد) ابعاد الشئ على وجه التنفير، طرده يطرده، واطرده جعله طريدا، واطرد في الباب استمر في الذهاب كالطريد، وطارده مطاردة وطرادا.

فقال له قومه عند ذلك * (لئن لم تنته) * وترجع عما تقوله، وتدعو اليه * (يا نوح لتكونن من المرجومين) * بالحجارة، وقيل: من المرجومين بالشتم، فالرجم الرمي بالحجارة، ولا يقال للرمي بالقوس رجم، ويسمى الشتوم مرجوما لانه يرمى بما يذم به. والانتهاء بلوغ الحد من غير مجاوزة إلى ما وقع عنه النهي. وأصل النهاية بلوغ الحد، والنهي الغدير، لانتهاء الماء اليه.

فقال نوح عند ذلك يا رب * (إن قومي كذبون) * وانما قال ذلك مع أن الله تعالى عالم بأنهم كذبوه، لانه كالعلة فيما جاء بعده، فكأنه قال * (افتح بيني وبينهم فتحا) * لانهم كذبوني، إلا انه جاء بصيغة الخبر دون صيغة العلة. وإذا كان على معنى العلة حسن أن يأتي بما يعلمه المتكلم والمخاطب.

ومعنى * (افتح بيني وبينهم فتحا) * احكم بيننا بالفعل الذي فيه نجاتنا، وهلاك عدونا وعامل كل واحد منا بما يستحقه، يقال للحاكم: الفتاح، لانه يفتح وجه الامر بالحكم الفصل، ويتقرر به الامر على أداء الحق، فقال الله تعالى له مجيبا لدعائه " فأنجيناه ومن معه " من المؤمنين * (في الفلك) * يعنى السفن، يقال شحنه يشحنه شحنا فهو شاحن إذا ملاه بما يسد خلاء‌ه، وشحن الثغر بالرجال.

ومنه الشحنة، قال الشاعر، في الفتح بمعنى احكم:

ألا ابلغ بني عصم رسولا * فاني عن فتاحتكم غني(1)

والفلك السفن يقع على الواحد والجمع. ثم اخبر تعالى انه لما أنجى نوحا

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1 / 315، 345 و 4 / 500

[43]

واصحابه اغرق الباقين من الكفار بعد ذلك، واهلكهم.

ثم قال تعالى: إن فيما اخبرنا به من قصة نوح وإهلاك قومه لآية واضحة على توحيد الله، وإن كان اكثرهم لا يؤمنون، ولا يعتبرون به.

وقيل: إن قوله * (ان في ذلك لآية وما كان اكثرهم مؤمنين) * في عدة مواضع ليس بتكرير وانما هو ذكر آية في قصة نوح، وما كان من شأنه مع قومه بعد ذكر آية فيما كان من قصة ابراهيم وقومه، وذكر قصة موسى وفرعون فيما مضى، فبين أنه إنما ذكر ذلك لما فيه من الآية الباهرة، وكرر * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) * لان المعنى انه * (العزيز) * في الانتقام من فرعون وقومه * (الرحيم) * في نجاة موسى ومن معه من بني اسرائيل، وذكر - ههنا - * (العزيز) * في إهلاك قوم نوح بالغرق الذي طبق الارض * (الرحيم) * في إنجائه نوحا ومن معه في الفلك.

والعزيز القادر الذي تتعذر مما نعته لعظم مقدوراته، فصفة (عزيز) وإن رجعت إلى معنى قادر، فمن هذا الوجه ترجع، ولا يوصف بالعزيز مطلقا الا الله، لانها تفيد معنى قادر، ولا يقدر أحد على ممانعته. والله تعالى قادر أن يمنع كل قادر سواه.

ومعنى وصفه بانه عزيز مبالغة من ثلاثة أوجه: احدها - لانه بزنة (فعيل).

والثاني - انه لا يوصف به مطلقا سواه.

والثالث - لما فيه من التعريف بالالف والام.

الآية: 123 - 175

قوله تعالى: (كذبت عاد المرسلين(123) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون(124) إني لكم رسول أمين(125) فاتقوا الله وأطيعون(126) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين(127) أتبنون بكل ريع آية تعبثون(128) وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون(129) وإذا بطشتم بطشتم جبارين(130) فاتقوا الله وأطيعون(131))

تسع آيات بلا خلاف

اخبر الله تعالى عن عاد - وقيل: هم قبيلة - انهم كذبوا من أرسلهم الله حين قال لهم أخوهم هود.

قال الحسن: كان أخاهم من النسب دون الدين * (ألا تتقون) * الله باجتناب معاصيه إلى قوله * (رب العالمين) * وقد فسرنا نظائره.

وقوله " تبنون بكل ريع آية " فالبناء وضع ساف على ساف إلى حيث ينتهي. والريع الارتفاع من الارض، وجمعه آرياع وريعة قال ذو الرمة:

طراق الخوافي مشرق فوق ريعة * ندى ليلة في ريشه يترقوق(2)

ومنه الريع في الطعام، وهي الزيادة والنماء قال الاعشى:

وبهما قفر تجاوزتها * إذا خب في ريعها أألها

وفيه لغتان - فتح الراء، وكسرها - بمعنى المكان المرتفع، قال الفراء فيه لغتان * (ريع، وراع) * مثل زير، وزار قال أبوعبيدة هو الطريق بين الجبلين في ارتفاع.

وقيل: هو الفج الواسع، وقال قتادة: معناه بكل آية طريق أي علامة " تعبثون " تلعبون، في قول ابن عباس.

وقوله " وتتخذون " مصانع لعلكم تخلدون " قال المؤرج: لعلكم تخلدون: كأنكم تخلدون - بلغة قريش - وقال

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 13 / 123 والطبري 19 / 53

[45]

الفراء: معناه كيما تخلدون.

قال مجاهد: المصانع أراد بها حصونا مشيدة.

وقال قتادة: مآخذ للماء، وهو جمع مصنع، ويقال مصنعة لكل بناء.

وقيل: إنهم كانوا يبنون بالمكان المرتفع البناء العالي، ليدلوا بذلك على أنفسهم، وزيادة قوتهم وليفاخروا بذلك غيرهم من الناس، وكانوا جاوزوا في ايجاد المصانع إلى الاسواق فنهوا عن ذلك، وقال الزجاج: المصانع المباني " لعلكم تخلدون " معناه تفعلون ذلك لكي تبقوا فيها مؤبدين " وإذا بطشتم بطشتم جبارين " فالبطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط - في قول ابن عباس - والجبار العالي على غيره بعظم سلطانه، وهو في صفة الله تعالى مدح، وفي صفة غيره ذم، فاذا قيل للعبد جبار فمعناه انه يتكلف الجبرية.

والجبار في النحل ما فات اليد، وقال الحسن: بطش الجبرية هو المبارزة من غير ثبت ولا توقف، فذمهم الله بذلك، ونهاهم هود فقال " اتقوا الله " باجتناب معاصيه و " اطيعوني " فيما أدعوكم اليه، ولم يكن هذا القول تكرارا من هود لانه متعلق بغير ما تعلق به الاول، لان الاول معناه، فاتقوا الله في تكذيب الرسل، واطيعوني فيما أدعوكم اليه من اخلاص عبادته، والثاني فاتقوا الله في ترك معاصيه في بطش الجبارين وعمل اللاهين واطيعوني في ذلك الامر الذي دعوتكم اليه.

[46]

قوله تعالى: (واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون(132) أمدكم بأنعام وبنين(133) وجنات وعيون(134) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم(135) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين(136) إن هذا إلا خلق الاولين(137) وما نحن بمعذبين(138) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(139) وإن ربك لهو العزيز الرحيم(140))

تسع آيات بلا خلاف.

قرأ " خلق الاولين " - بفتح الخاء - ابن كثير وابوعمرو والكسائي وأبو جعفر. الباقون - بضم الخاء واللام - فمن قرأ - بفتح الخاء - أراد: ليس هذا إلا اختلاق الاولين - في قول ابن مسعود - ومن ضم الخاء واللام: أراد ليس هذا الاعادة الاولين، في أنهم كانوا يحيون ويموتون.

وقال بعضهم: المعني في " خلق الاولين " خلق أجسامهم، وانكروا أن يكون المعنى إلا كذب الاولين لانهم يقولون " ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين "(1).

وليس الامر على ما ظنه لانهم قد سمعوا بالدعاء إلى الدين، وكانوا عندهم كذا بين، فلذلك قال " كذبت عاد المرسلين "(2) وقال " إن هذا إلا اساطير الاولين "(3) وانما قالوا " ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين " أي ما سمعنا أنهم صدقوا بشئ منه، أو ذكروا آية حق وصواب، بل قالوا باطل، وخطأ.

حكى الله تعالى عن هود أنه قال لقومه واتقوا معاصي الله الذي أمدكم بالذي

___________________________________

(1) سورة 23 المؤمنون آية 24 وسورة 28 القصص آية 36.

(2) آية 123 من هذه السورة.

(3) سورة 6 الانعام آية 25 وسورة 8 الانفال آية 31 وسورة 23 المؤمنون آية 84 وسورة 27 النمل آية 68

[47]

تعلمون من انواع نعمه، فالامداد اتباع الثاني ما قبله شيئا بعد شئ، على انتظام فهؤلاء امدهم الله بالمال وبالبنين، يعني الذكور من الاولاد، وبالانعام من الابل والبقر والغنم والبساتين التي فيها شجر تحتها عيون جارية فيها، فآتاهم رزقهم على إدرار.

فالعيون ينابيع ماء تخرج من باطن الارض، ثم تجري على ظاهرها وعين الماء مشبه بعين الحيوان في استدارته وتردد الماء إلا انه جامد في عيون الحيوان يتردد بالشعاع.

ثم قال لهم " اني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم " يعني يوم القيامة، والعظيم هو الموصوف بالعظم، وفيه مبالغة مثل ما أعظمه لعظم ما فيه من الاهوال.

ثم حكى ما أجابه به قومه، فانهم قالوا له " سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين " وإنما لم يقل سواء علينا أوعظت أم لم تعظ، ليتشاكل رؤس الآي، ومعناه إنا لسنا نقبل منك ما تقوله: سواء علينا وعظك وارتفاعه والوعظ حث بما فيه تليين القلب، للانقياد إلى الحق، والوعظ زجر عما لا يجوز فعله.

ومعنى " سواء " أي كل واحد من الامرين مثل الآخر، حصول الوعظ وارتفاعه.

ثم قالوا: ليس هذا الذي تدعوه " إلا خلق الاولين " أي كذبهم، فيمن فتح الخاء. والاعادة الاولين وخلقهم. والخلق المصدر من قولك: خلق الله العباد خلقا. والخلق المخلوق من قولهم: يعلم هذا من خلق الناس.

قال الفراء: يقولون هذه الحاديث: خلق يعنون المختلقة.

قال والقراء‌ة بضم الخاء أحب إلي، لانها تتضمن المعنيين.

والخلق الاختلاق، وهو افتعال الكذب على التقدير الذي يوهم الحق.

ثم اخبروا: إنا لسنا بمعذبين على خلاف ما تدعونا اليه، على ما تدعيه

[48]

" فكذبوه " يعني هودا " فأهلكناهم إن في ذلك لآية " إلى آخر القصة. وقد فسرناه.

قوله تعالى: (كذبت ثمود المرسلين(141) إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون(142) إني لكم رسول أمين(143) فاتقوا الله وأطيعون(144) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين(145) أتتركون في ما ههنا آمنين(146) في جنات وعيون(147) وزروع ونخل طلعها هضيم(148) وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين(149) فاتقوا الله وأطيعون(150))

عشر آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وابوعمرو " فرهين " بغير الف. الباقون " فارهين " بألف.

حكى الله تعالى عن قوم صالح، وهم (ثمود) أنهم كذبوا المرسلين، ولم يصدقوهم فيما دعوهم اليه من توحيد الله وخلع الانداد وترك عبادة الاصنام، حتى قال لهم أخوهم في النسب صالح، وهو النبي المبعوث اليهم " ألا تتقون " الله باجتناب معصيته وترك عبادة من سواه " اني لكم رسول أمين " فالامين هو الذي استودع الشئ على من أمن منه الخيانة، فالرسول بهذه الصفة، لانه يؤدي الرسالة، كما حملها من غير تغيير لها، ولا زيادة، ولا نقصان.

[49]

ثم أمرهم فقال " فاتقوا " عقاب " الله " باجتناب معاصيه " واطيعون " فيما ادعوكم اليه، ولست اسألكم على ما ادعوكم اليه اجرا فيصرفكم عن القبول لانه ليس أجري وثوابي في ذلك إلا على رب العالمين الذي خلق الخلق.

ثم قال لهم يا قوم " اتتركون فيما ههنا آمنين " منكرا عليهم، فان ما هم فيه من النعم لا تبقى عليهم، وانها تزول عنهم وأن أمنهم سيؤل إلى الخوف. والامن سكون النفس إلى السلامة، وهو نفيض الخوف. وقد يكون أمنا مع العلم بالسلامة. ومع الظن القوي.

ثم عدد نعمهم التي كانوا فيها، فقال انتم " في جنات " وهي البساتين التي يسترها الشجر " وعيون " جارية " وزروع " وهو جمع زرع وهو نبات من الحب الذي يبذر في الارض: زرعه أي بذره في الارض كما يزرع البذر فالبذر المبدد في الارض على وجه مخصوص يسمى زرعا " ونخل طلعها هيضم " فالهضيم اللطيف في جسمه، ومنه هضيم الحشا أي لطيف الحشا، ومنه هضمه حقه: إذا ما نقصه، لانه لطف جسمه ينقصه، ومنه هضم الطعام إذا لطف واستحال إلى مشاكلة البدن.

وقال ابن عباس: معنى " هضيم " أي قد بلغ واينع.

وقال الضحاك: ضمر يزكون بعضه بعضا.

وقال عكرمة: هو الرطب اللين، وقال مجاهد: هو الذي اذا مس تفتت.

وقال أبوعبيدة والزجاج، والفراء: هو المتداخل بعضه في بعض.

وقوله " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين " قال ابن عباس: معناه حاذقين وقال ابن عباس ايضا (فرهين) أشرين بطرين.

وقال الضحاك: معناه عليين.

وقال ابن زيد: الفره القوي.

وقيل: هو الفرح المرح، كما قال الشاعر:

[50]

لا أستكين إذا ما ازمة أزمت * ولن تراني بخير فاره اللبب(1)

أي مرح اللبب.

وقيل: فاره وفره مثل حاذق وحذق. والفاره النافذ في الصنعة بين الفراهة كحاذق بين الحذق، وعبد فاره نافذ في الامور.

ثم قال لهم " اتقوا الله " في ترك عبادته والاشراك به واجتنبوا معاصيه " واطيعون " فيما أدعوكم اليه.

 

 

قوله تعالى: (ولا تطيعوا أمر المسرفين(151) ألذين يفسدون في الارض ولا يصلحون(152) قالوا إنما أنت من المسحرين(153) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين(154) قال هذه ناقة لما شرب ولكم شرب يوم معلوم(155) ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظم(156) فعقروها فأصبحوا نادمين(157) فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(158) وإن ربك لهو العزيز الرحيم(159))

تسع آيات بلا خلاف.

حكى الله تعالى أن صالحا قال لقومه " لا تطيعوا أمر المسرفين " وهم الذين تجاوزوا الحد بالبعد من الحق. وقيل عنى بالمسرفين: تسعة رهط من ثمود، كانوا

___________________________________

(1) اللسان (فره) وروايته (الطلب) بدل (اللبب)

[51]

يفسدون في الارض ولا يصلحون، فنهاهم الله على لسان صالح عن اتباعهم.

وقال " الذين يفسدون في الارض " بان يفعلوا فيها المعاصي، ويرتكبوا القبائح " ولا يصلحون " أي لا يفعلون شيئا من الافعال الحسنة.

فقالوا له في الجواب عن ذلك " انما أنت من المسحرين " والمسحر: هو الذي قد سحر مرة بعد مرة، حتى يختل عقله ويضطرب رأيه. والسحر حيلة توهم قلب الحقيقة، وقال مجاهد: معناه من المسحورين.

وقال ابن عباس: من المخلوقين، لانه يذهب إلى انه يخترع على أمر يخفى كخفاء السحر.

وقيل: معناه انك ممن له سحر أي رئة، ومنه قولهم أنتفخ سحره قال لبيد:

فان تسلينا فيم نحن فاننا * عصافير من هذا الانام المسحر(1)

أي المعلل بالطعام وبالشراب، على أمر يخفى كخفاء السحر.

ثم قالوا له " ما أنت إلا بشر مثلنا " أي ليس أنت إلا مخلوقا مثلنا، فلن نتبعك ونقبل منك، وقالوا له " فأت بآية " أي معجزة تدل على صدقك " إن كنت من " جملة " الصادقين " في دعواك، فقال لهم " هذه ناقة " وهي التي أخرجها الله من الصخرة عشراء ترعو على ما أقترحوا " لها شرب " أي حظ من الماء، قال الشاعر:

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت * حمامة في غصون ذات او قال(2)

أي لم يمنع حظها من الماء و (الشرب) - بفتح الشين وضمها وكسرها - تكون مصادرا، على ما قاله الفراء والزجاج، وكانوا سألوا أن يخرج لهم من

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1 / 372 و 6 / 485.

(2) السان (وقل) وروايته:

لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت * حمامة في سحوق ذات أو قال

[52]

الجبل ناقة عشراء فاخرجها الله حاملا كما سألوا، ووضعت بعد فصيلا، وكانت عظيمة الخلق جدا.

ثم قال لهم صالح " ولا تمسوها " يعني الناقة " بسوء " أي بضر تشعر به، فالسوء هو الضرر الذي يشعر به صاحبه، لانه يسوء وقوعه، فاذا ضره من حيث لا يشعر به لم يكن قد ساء‌ه، لكنه عرضه لما يسوؤه.

وقوله " فيأخذكم عذاب يوم عظيم " معناه إنكم إن مسستم هذه بسوء أخذكم عذاب يوم عظيم، أي الصيحة التي أخذتهم.

ثم اخبر فقال " فعقروها " أي انهم خالفوه وعقروا الناقة. فالعقر قطع الشئ من بدن الحي، فاذا كثر انتفت معه الحياة، وإن قل لم تنتف. والمراد - ههنا - انهم نحروها.

وقيل: انهم عقروها، لانها كانت تضيق المرعى على مواشيهم.

وقيل: كانت تضيق الماء عليهم، ولما عقروها رأوا آثار العذاب فيه جدا، ولم يتوبوا من كفرهم، وطلبوا صالحا ليقتلوه، فنجاه الله ومن معه من المؤمنين. ثم جاء‌تهم الصيحة بالعذاب، فوقع لجميعهم الاهلاك، ولو كانوا ندموا على الحقيقة، واقلعوا عن الكفر، لما أهلكهم الله.

ثم قال تعالى إن فيما أخبرنا به وفعلناه بقوم صالح من إهلاكهم، لدلالة واضحة لمن اعتبر بها، لكن اكثرهم لا يؤمنون " وإن ربك " يا محمد " لهو العزيز " أي العزيز في انتقامه " الرحيم " بمن آمن من خلقه به.

[53]

قوله تعالى: (كذبت قوم لوط المرسلين(160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون(161) إني لكم رسول أمين(162) فاتقوا الله وأطيعون(163) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين(164) أتأتون الذكران من العالمين(165) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون(166) قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين(167) قال إني لعملكم من القالين(168) رب نجني وأهلي مما يعملون(169) فنجيناه وأهله أجمعين(170) إلا عجوزا في الغابرين(171) ثم دمرنا الآخرين(172) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين(173) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين(174) وإن ربك لهو العزيز الرحيم(175))

ست عشرة آية بلا خلاف.

حكى الله تعالى عن قوم لوط أنهم كذبوا الرسل الذين بعثهم الله، بترك الاشراك به وإخلاص العبادة له، حين " قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون " الله فتجتنبوا معاصيه والاشراك به، وانه قال لهم " اني لكم رسول أمين " وقد فسرناه. واخباره عن نفسه بأنه رسول أمين مدح له، وذلك جائز في الرسول كما يجوز أن يخبر عن نفسه بأنه رسول الله، وانما جاز أن يخبر بذلك لقيام الدلالة على عصمته من القبائح.

وغيره لا يجوز أن يخبر بذلك عن نفسه لجواز الخطأ عليه.

[54]

واخبر ايضا انه قال لهم " فاتقوا الله " واجتنبوا معاصيه " واطيعون " فيما أمركم به وأدعوكم اليه ولست اسألكم على ما اؤديه اليكم وأدعوكم اليه، أجرا، ولا ثوابا، لانه ليس أجري إلا على الله الذي خلق العالمين، وانما حكى الله تعالى دعوة الانبياء بصغية واحدة، ولفظ واحد إشعارا بأن الحق الذي يأتي به الرسل، ويدعون اليه واحد من اتقاء الله تعالى وإجتناب معاصيه واخلاص عبادته، وطاعة رسله، وأن أنبياء الله لا يكونون إلا أمناء لله، وانه لا يجوز على واحد منهم أن يأخذ الاجر على رسالته، لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم، والمصير اليه إلى تصديقهم.

ثم قال لهم منكرا عليهم " أتأتون الذكران من العالمين "؟ ! يعني من جملة الخلائق " وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم " أي وتتركون ما خلقه لكم من الازواج والنساء، وتذرون استغني في ماضيه ب‍ (ترك) ولا يستعمل إلا في ضرورة الشعر.

والزوجة المرأة التي وقع عليها العقد بالنكاح الصحيح، يقال: زوجة وزوج، قال الله تعالى " اسكن انت وزوجك الجنة "(1).

ثم قال لهم منكرا عليهم " بل انتم قوم عادون " أي خارجون عن الحق بعيدون عنه. والعادي والظالم والجائر نظائر، والعادي من العدوان. وقد يكون من العدو، وهو الاسراع في السعي، فقال له قومه في جوابه " لئن لم تنته " وترجع عما تقوله " يا لوط " وتدعونا اليه وتنهانا عنه " لتكونن من المخرجين " أي نخرجك من بيننا وعن بلدنا.

فقال لهم لوط عند ذلك " إني لعملكم من القالين " يعني من المبغضين: قلاه يقليه إذا أبغضه.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 35

[55]

ثم دعا لوط ربه فقال " رب نجني واهلي مما يعملون " أي من عاقبة ما يعملونه، وهو العذاب النازل لهم فأجاب الله دعاء‌ه وقال " فنجيناه واهله اجمعين " يعني من العذاب الذي وقع بهم. وقد يجوز أن يكون أراد النجاة من نفس عملهم، بأن يفعل لهم من اللطف ما يجتنبون مثل افعالهم، وتكون النجاة من العذاب النازل بهم تبعا لذلك.

واستثنى من جملة أهله الذين نجاهم " عجوزا " فانه أهلكها.

وقيل: انها كانت امرأة لوط تدل قومه على اضيافه " في الغابرين " يعني الباقين.

فيمن هلك من قوم لوط، لانه قيل: هلكت هي فيما بعد مع من خرج عن القرية بما أمطر الله عليهم من الحجارة.

وقيل أهلكو بالخسف، وقيل بالائتفاك وهو الانقلاب.

ثم أمطر على من كان غائبا منهم عن القرية من السماء حجارة قال الشاعر في الغابر:

فماونا محمد مذ أن غفر * له الاله ما مضى وما غبر(1)

وقال الشاعر:

لا تكسع الشول باغبارها * انك لا تدري من الناتج(2)

فأعبارها بقية لبنها في اخلافها، والغابر الباقي في قلة، كالتراب الذي يذهب بالكنس، ويبقى غباره: غبر يغبر، فهو غابر، وغبر الجص بقيته. وغبر من الغبار تغبيرا، وتغبر تغبرا.

والعجوز المرأة التي قد أعجزها الكبر عن أمور كثيرة، ومثله الكبيرة والمسنة.

وقوله " ثم دمرنا الآخرين " فالتدمير هو الاهلاك بأهوال الامور، دمره تدميرا، ومثله تبره تتبيرا، ودمر عليه يدمر دمرا إذا هجم عليه بالمكروه والدامر الهالك.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 6 / 344 و 7 175.

(2) تفسير القرطبي 13 / 133

[56]

وقوله " وامطرنا عليهم مطرا " فالامطار الاتيان بالقطر العام من السماء، وشبه به امطار الحجارة. والاهلاك بالامطار عقاب اتي الذكران من العالمين " فساء مطر المنذرين " سماه (سوء) وإن كان حسنا، لانه كان فيه هلاك القوم ثم قال " إن في ذلك لآية " أي دلالة " وما كان اكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم " وقد فسرناه.

الآية: 176 - 227

قوله تعالى: (كذب أصحاب الايكة المرسلين(176) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون(177) إني لكم رسول أمين(178) فاتقوا الله وأطعون(179) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين(180) أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين(181) وزنوا بالقسطاس المستقيم(182) ولا تبخسوا الناس أشياء‌هم ولا تعثوا في الارض مفسدين(183) واتقوا الذي خلقكم والجبلة الاولين(184) قالوا إنما أنت من المسحرين(185) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين(186) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين(187) قال ربي أعلم بما تعملون(188) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم(189) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين(190) وإن ربك لهو العزيز الرحيم(191))

ست عشرة آية بلا خلاف.

قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر " أصحاب اليكة " على انه اسم المدينة معرفة لا ينصرف.

قال ابوعلي الفارسي: الاجود أن يكون ذلك على تخفيف الهمزة، مثل لحمر ونصبه يضعف، لانه يكون نصب حرف الاعراب في موضع الجر، مع لام التعريف، وذلك لا يجوز. وحجة من قرأ بذلك أنه في المصحف بلا ألف.

وقالوا هو اسم المدينة بعينها. الباقون " أصحاب الايكة " بالالف واللام مطلقا مضافا.

ومثله الخلاف في ص.

وقرأ ابوا حفص " كفا " بفتح السين - ههنا - وفى (سبأ). الباقون باسكانها.

حكى الله تعالى أن قوم شعيب، وهم أصحاب الايكة كذبوا المرسلين في دعائهم إلى خلع الانداد وإخلاص العبادة لله.

والايكة الغيضة ذات الشجر الملتف.

وجمعه الايك، قال النابغة الذبياني:

تجلو بقادمتي حمامة أيكة * بردا أسف لشاته بالاثمد(1)

وقال ابن عباس وابن زيد: اصحاب الايك هم أهل مدين.

وانما قال " إذ قال لهم شعيب " ولم يقل أخوهم كما قال في سائر من تقدم من الانبياء لانه لم يكن منهم في النسب، وسائر من تقدم كانوا منهم في النسب، إلا موسى

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 40

[58]

فانه كان من بني اسرائيل، وكانوا هم قبطا ولم يسمه الله بأنه أخوهم.

ثم حكى عن شعيب انه قال لقومه مثل ما قاله سائر الانبياء وقد فسرناه.

ثم قال لهم " اوفوا الكيل " أي اعطوا الواجب وافيا غير ناقص ويدخل الوفاء في الكيل والذرع والعدد، يقال: أوفى يوفي إيفاء ووفاء. ونهاهم أن يكونوا من المخسرين، فالمخسر المعرض للخسران في رأس المال بالنقصان أخسر يخسر إخسارا إذا جعله يخسر في ماله، وخسر هو يخسر خسرانا واخسره نقيض أربحه. وأمرهم أن يزنوا بالقسطاس المستقيم، فالوزن وضع شي بازاء المعيار، لما يظهر منزلته منه في ثقل المقدار إما بالزيادة أو النقصان او التساوي.

والقسطاس العدل في التقويم على المقدار، وهو على وزن (قرطاط) وجمعه قساطيس.

وقال الحسن: القسطاس القبان.

وقال غيره هو الميزان.

وقال قوم هو العدل والسواء. ذكره ابوعبيدة.

ثم قال لهم " ولا تبخسوا الناس اشياء‌هم " أي لا تنقصوها، " ولا تعثوا في الارض مفسدين " قال قوم: لا تعثوا فيها بالمعاصي.

وقال سعيد ابن المسيب: معناه لا تفسدوا فيها بعد اصلاحها.

وقال ابوعبيدة: عثا يعثا عثوا وهو أشد الفساد بالخراب.

وقال غيره: عثا يعثوا عثوا، وعاث يعيث عيثا.

ثم قال لهم " واتقوا الذي خلقكم " وأوجدكم بعد العدم " والجبلة الاولين " فالجبلة الخليقة التي طبع عليها الشئ - بكسر الجيم - وقيل ايضا بضمها ويسقطون الهاء أيضا فيخففون.

ومنه قوله " ولقد أضل منكم جبلا كثيرا "(1) وقال ابوذؤيب:

___________________________________

(1) سورة 36 يس آية 62

[59]

منايا يقربن الحتوف لاهلها جهارا * ويستمتعن بالانس الجبل(1)

ومعناه اتقوا خليقة الاولين في عبادة غير الله والاشراك معه، فهو عطف على (الذي) فيها، ولا يجوز أن يكون منصوبا ب‍ " خلقكم " لان الله تعالى لم يخلق كفرهم، ولا ضلالهم، وإن جعلته منصوبا ب‍ " خلقكم " على أن يكون المعنى اتقوا الله الذي خلقكم وخلق الخلق الاولين، كان جائزا، واخلصوا العبادة لله. فقالوا في الجواب له " إنما انت من المسحرين " وقد فسرناه.

" وما أنت إلا بشر مثلنا " أي مخلوقا من الناس مثلنا، ولست بملك حتى يكون لك فضل علينا. والبشر هو الانسان، والانسان مشتق من الانس ووزنه (فعليان) والاصل إنسيان غير أنه حذف منه الياء، فلما صغر رد إلى أصله، فقيل: انسيان. والبشر من البشرة الظاهرة. والمثل والشبه واحد.

" وإن نظنك لمن الكاذبين " معناه إنا نحسبك كاذبا من جملة الكاذبين. و (إن) هي المخففة من الثقيلة. ولذلك دخلت اللام في الخبر.

ثم قالوا له: إن كنت صادقا ومحقا في دعواك " فاسقط علينا كسفا من السماء " أي قطعا - في قول ابن عباس - وهو جمع كسفة، ومثله نمرة وتمر، فقال لهم في الجواب عن ذلك " ربي أعلم بما تعملون " ومعناه إنه إن كان في معلومه أنه: متى بقاكم انكم تتوبون أو يتوب تائب منكم، لم يقتطعكم بالعذاب، وإن كان في معلومه انه لا يفلح واحد منكم، فسيأتيكم عذاب الاستئصال.

ثم قال تعالى " فكذبوه " يعني قوم شعيب كذبوا شعيبا، فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة، وهي سحابة رفعت لهم، فلما خرجوا اليها طلبا لبردها من شدة ما أصابهم من الحر مطرت عليهم نارا فاحرقتهم، فهؤلاء أصحاب الظلة، وهم

___________________________________

(1) تفسير الطبري 19 / 60

[60]

غير أهل مدين - في قول قتادة - قال: أرسل شعيب إلى أمتين.

" إن في ذلك لآية وما كان اكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم " وقد فسرناه وانما كر، " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " للبيان عن انه رحيم بخلقه عزيز في انتقامه من الكفار.

قوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين(192) نزل به الروح الامين(193) على قلبك لتكون من المنذرين(194) بلسان عربي مبين(195) وإنه لفي زبر الاولين(196) أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماؤا بني إسرائيل(197) ولو نزلناه على بعض الاعجمين(198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين(199) كذلك سلكناه في قلوب المجرمين(200) لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم(201) فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون(202) فيقولوا هل نحن منظرون(203) أفبعذابنا يستعجلون(204) أفرأيت إن متعناهم سنين(205) ثم جاء‌هم ما كانوا يوعدون(206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون(207))

ست عشرة آية بلا خلاف.

[61]

قرأ ابن عامر واهل الكوفة الا حفصا ويعقوب " نزل " به بتشديد الزاي وفتحها * (الروح الامين) * بالنصب فيهما، الباقون بالتخفيف والرفع فيهما.

وقرأ ابن عامر * (أو لم تكن) * بالتاء * (آية) * بالرفع.

الباقون بالياء ونصب * (آية) * من شدد الزاي، فلقوله " فانه نزل على قلبك باذن الله "(1) * (وانه لتنزيل رب العالمين) * ومن خفف، فلان التنزيل فعل الله، وهذا فعل جبرائيل، يقال: نزل الله جبرائيل، ونزل جبرائيل.

فاما قوله * (فانه نزله على قلبك باذن الله مصدقا) * بالتشديد، فلاجل حذف الباء، لانك تقول نزلت به وأنزلته.

ومن شدد فانه أضاف الفعل إلى الله.

ومن خفف أضاف الفعل إلى جبرائيل (ع) ومن قرأ * (أو لم تكن) * بالتاء ورفع * (آية) * جعلها اسم (كان) وخبره * (أن يعلمه) * لان (ان) مع الفعل بمنزلة المصدر، وتقديره: أو لم تكن لهم آية معجزة ودلالة ظاهرة علم بني اسرائيل بمحمد في الكتب.

يعني كتب الانبياء (ع) قبله أنه نبي، وأن هذا القرآن من عند الله، لكنه لما جاء‌هم ما عرفوه على بصيرة كفروا به.

ومن قرأ بالياء ونصب (آية) جعلها خبر (كان) واسمه (أن يعلمه) وهو الاقوى في العربية، لان (آية) نكرة، و (أن يعلمه) معرفة، وإذا اجتمعت معرفة ونكرة اختير أن يكون المعرفة اسم (كان) والنكرة خبرها، وسيبويه لا يجيز غير ذلك إلا في ضرورة الشعر كقول حسان:

كأن سبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء(2)

من بيت رأس معناه من بيت رئيس، فسمى السيد رأسا، قال عمرو ابن كلثوم.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 97.

(2) (اللسان (رأس)

[62]

برأس من بني جشم بن عمرو(1) وبيت رأس بيت بالشام، تتخذ فيه الخمور.

والهاء في قوله " نزله... وانه لتنزيل " كناية عن القرآن في قول قتادة.

وصفه الله تعالى أنه تنزيل من رب العالمين الذي خلق الخلائق.

ووصفه بأنه تنزيل من رب العالمين، تشريف له وتعظيم لشأنه.

ثم قال " نزل به الروح الامين " من خفف أسند الفعل إلى جبرائيل، ولذلك رفعه. ومن ثقل أسنده إلى الله تعالى، ونصب * (الروح الامين) * على انه مفعول به. والروح الامين جبرائيل (ع).

وانما قال * (على قلبك) * لانه بقلبه يحفظه فكأنه المنزل عليه.

و (الروح الامين) جبرائيل (ع) في قول ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك وابن جريج.

ووصف بأنه (روح) من ثلاثة وجوه: احدها - انه تحيا به الارواح بما ينزل من البركات. الثاني - لان جسمه روحاني. الثالث - ان الحياة عليه أغلب، فكأنه روح كله.

وقوله * (على قلبك لتكون من المنذرين) * أي انزل هذا القرآن على قلبك لتخوف به الناس وتنذرهم. ثم عاد إلى وصفه فقال * (وإنه لفي زبر الاولين) * ومعناه إن ذكر القرآن في كتب الاولين على وجه البشارة به، لا لان الله أنزله على غير محمد صلى الله عليه وآله. وواحد (الزبر) زبور، وهي الكتب، تقول: زبرت الكتاب أزبره زبرا إذا كتبته. واصله الجمع، ومنه الزبرة الكتبة، لانها مجتمعة.

ثم قال تعالى * (أولم يكن لهم آية) * اي دلالة في علم بني اسرائيل واضحة

___________________________________

(1) ملحق ديوانه امرئ القيس اخبار عمرو بن كلثوم: 226 وروايته:

برأس من بني جشم بن بكر * ندق به السهولة والحزونا

[63]

على صحة أمره. ومن حيث أن مجيئه على ما تقدمت البشارة به بجميع أوصافه لا يكون إلا من جهة علام الغيوب.

وقيل: من علماء بني اسرائيل عبدالله ابن سلام - في قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد - ثم قال " ولو نزلناه " يعني القرآن " على بعض الاعجمين " قيل: معناه على أعجم من البهائم أو غيره ما آمنوا به - ذكره عبدالله بن مطيع - وقيل: معناه " لو نزلناه على " رجل اعجم اللسان ما آمنوا به ولتكبروا عليه، لانه من غيرهم، وأن المعجزة تفارقه، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وآله حين لم يؤمنوا به، ولم يقبلوا منه.

ونقيض الاعجم الفصيح، والاعجم الذي يمتنع لسانه من العربية.

والعجمي نقيض العربي، وهو نسبة الولادة، قال الشاعر:

من وائل لا حي يعدلهم * من سوقة عرب ولا عجم(1)

وإذا قيل أعجمي، فهو منسوب إلى أنه من الاعجمين الذين لا يفصحون كما قال العجاج: والدهر بالانسان دواري(2) فنسبه إلى أنه من الدوارين بالانسان.

وقوله " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين " فالهاء كناية عن القرآن. ومعناه أقررناه في قلوبهم باخطاره ببالهم لتقوم به الحجة عليهم، ولله لطف يوصل به المعنى في الدليل إلى القلب، فمن فكر فيه أدرك الحق به. ومن أعرض عنه كان كمن عرف الحق وترك العمل به في لزوم الحجة عليه. والفرق بين من ادرك الحق لسلوكه في القلب، وبين من ادرك الحق بالاضطرار اليه في القلب، أن الاضطرار اليه يوجد الثقة به فيكون، صاحبه عالما به. واما

___________________________________

(1) تفسير الطبري 19 / 64.

(2) مر تخريجه في 4 / 377، 505

[64]

بسلوكه، فيكون مع الشك فيه.

وقال الحسن وابن جريج، وابن زيد: كذلك " سلكناه " أي الكفر. ولا وجه لذلك، لانه لم يجر ذكره، ولا حجة فيه وانما الحجة في القرآن واخطاره بالبال، فهو أحسن في التأويل.

وقوله " لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم " اخبار منه تعالى عن قوم من الكفار أنهم يموتون على كفرهم بأنهم لا يؤمنون حتى يشاهدوا العذاب المؤلم، فيصيرون عند ذلك ملجئين إلى الايمان، ومعنى " حتى يروا العذاب " أي حتى يشاهدوا أسبابه من نيران مؤججة لهم يساقون اليها، لا يردهم عنها شئ. ويحتمل حتى يعلموه في حال حلوله بهم علم ملابسته لهم.

ثم قال تعالى " فيأتيهم بغتة " ومعناه: إن العذاب الذي يتوقعونه ويستعجلونه يجيئهم فجأة. والبغتة حصول الامر العظيم الشأن من غير توقع بتقديم الاسباب، وقيل البغتة الفجأة. والبادرة، بغته الامر يبغته بغتا وبغتة قال الشاعر: وافضع شئ حين يفجؤك البغت(1) واتاه الامر بغتة نقيض أتاه عن تقدمة " وهم لا يشعرون " أي لا يعلمون والشعور هو العلم بما يلطف، لطف الشعر.

ثم اخبر تعالى انه إذا جاء‌هم العذاب بغتة قالوا " هل نحن منظرون " أي مؤخرون، فقال الله تعالى " افبعذابنا يستعجلون " على وجه التوبيخ لهم والانكار عليهم.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " افرأيت " يا محمد " إن متعناهم سنين ثم جاء‌هم ما كانوا يوعدون " به من العذاب " ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " معناه

___________________________________

(1) مر تخريجه في 4 / 122، 507 و 6 / 204

[65]

انه لم يغن عنهم ما كانوا يمتعون، لازديادهم من الآثام، واكتسابهم من الاجرام، أي أي شئ يغني عنهم ما يمتعون به من النعم، لانه فان كله، والاغناء عن الشئ صرف المكروه عنه بما يكفي عن غيره.

والغنى به نقيض الغنى عنه، فالاغناء عنه الصرف عنه، والاغناء به الصرف به، والامتاع احضار النفس ما فيه اللذة بادراك الحاسة، يقال: أمتعه بالرياحين والطيب، وامتعه بالنزه والبساتين، وامته بالمال والبنين، وامتعه بالحديث الطريف الظريف.

قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون(208) ذكرى وما كنا ظالمين(209) وما تنزلت به الشياطين(210) وما ينبغي لم وما يستطيعون(211) إنهم عن السمع لمعزولون(212) فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين(213) وأنذر عشيرتك الاقربين(214) واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين(215) فان عصوك فقل إني برئ مما تعملون(216) وتوكل على العزيز الرحيم(217) الذي يريك حين تقوم(218) وتقلبك في الساجدين(219) إنه هو السميع العليم(220))

إثنتا عشرة آية في المكي والمدني الآخر، وثلاث عشرة آية فيما عداه.

[66]

عدوا " الشياطين " ولم يعدها الاول.

يقول الله تعالى " وما أهلكنا من " أهل " قرية " بالعذاب الذي أنزلناه عليهم فيما مضى من الامم السالفة * (الا) * وكان * (لها منذرون) * يخوفونهم بالله ويحذرونهم معاصيه.

وقوله " ذكرى وما كنا ظالمين " معناه ذاك الذي قصصناه من إنزال العذاب بالامم الخالية " ذكرى " لكم تتعظون بها. ثم بين أن ذلك كان عدلا، ليكون أشد في الزجر، وإن الله تعالى لم يكن ظالما لاحد. وموضع " ذكرى " يجوز أن يكون نصبا بالانذار، ويجوز أن يكون رفعا بالاستئناف على ذلك (ذكرى).

والذكرى: هو إظهار المعنى للنفس تقول: ذكرته ذكرى.

وبين ان ذلك ليس مما ينزل به الشياطين ويغوون به الخلق، بل هو وحي من الله تعالى.

ثم بين انه ليس ينبغي للشياطين أنزال ذلك. انهم لا يستطيعون على ذلك.

ومعنى ينبغي لك كذا يطلب منه فعله في مقتضى العقل، فتقول: ينبغي لك أن تختار الحسن على القبيح، ولا ينبغي لك أن تختار القبيح على الحسن.

واصله من البغية التي هي الطلب، وقرا الحسن و " ما تنزلت به الشياطون " بالواو، ظنا منه أنه مثل (المسلمين). وهذا لحن بلا خلاف، لانه جمع تكسير شيطان وشياطين. والاستطاعة هي القدرة التي ينطاع بها الفعل للجارحة.

ثم قال: " انهم " يعني الشياطين " عن السمع لمعزولون " وقيل: معناه إنهم عن عن استراق السمع من السماء لمعزولون.

وقيل: عن سمع القرآن - في قول قتادة - لمعزولون معناه منحون.

فالعزل تنحية الشئ عن الموضع إلى خلافه، وهو ان يزيله عن أمر إلى نقيضه، كما قال الشاعر:

[67]

عزل الامير بالامير المبدل(1) وانما لم ينبغ لهم ذاك لحراسة المعجزة عن أن تتموه بالباطل، لان الله إذا أراد أن يدل بها على صدق الصادق أخلصها بمثل هذه الحراسة، حتى تصح الدلالة.

ثم نهى نبيه صلى الله عليه وآله والمراد به المكلفين، فقال " ولا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين " وتقديره انك إن دعوت معه إلها آخر كنت من المعذبين.

ثم امره أن ينذر عشيرته الاقربين قيل: انما خص في الذكر انذار عشيرته الاقربين، لانه يبدأ بهم، ثم الذين يلونهم، كما قال تعالى " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار "(2) لان ذلك هو الذي يقتضيه حسن التدبير: الترتيب.

ويحتمل أن يكون انذرهم بالافصاح عن قبيح ما هم عليه وعظم ما يؤدي اليه من غير تليين بالقول يقتضي تسهيل الامر لما يدعو اليه مقاربة العشيرة، بأن من نزل بهم الاغلاظ في هذا الباب أذلهم.

وقيل: ذكر عشيرتك الاقربين أي عرفهم إنك لا تغني عنهم من الله شيئا إن عصوه.

وقيل: انما خص عشيرته الاقربين لانه يمكنه أن يجمعهم ثم ينذرهم، وقد فعل صلى الله عليه وآله ذلك.

والقصة بذلك مشهورة فانه روي أنه أمر صلى الله عليه وآله عليا بأن يصنع طعاما ثم دعا عليه بني عبد مناف وأطعمهم الطعام.

ثم قال لهم: أيكم يؤازرني على هذا الامر يكن وزيري وأخي ووصيي، فلم يجبه أحد إلا علي (ع) والقصة في ذلك معروفة. ثم أمره صلى الله عليه وآله بأن يخفض جناحه للمؤمنين الذين اتبعوه، ومعناه ألن جانبك وتواضع لهم، وحسن أخلاقك معهم - ذكره ابن زيد - ثم قال " فان عصوك " يعني أقاربك بعد انذارك إياهم وخالفوك فيما تدعوهم اليه إلى

___________________________________

(1) مر في 7 / 97، 456.

(2) سورة 9 التوبة آية 124

[68]

ما يكرهه الله، فقل لهم " اني برئ مما تعملون " أي من أعمالكم القبيحة وعبادتكم للاصنام. والبراء‌ة المباعدة من النصرة عند الحاجة، فاذا برئ من عملهم فقد تباعد من النصرة لهم او الموالاة. ثم أمره أن يتوكل على العزيز الرحيم ومعناه أن يفوض أمره إلى من يدبره.

والتوكل على الله من الايمان، لانه أمر به، وحث عليه " على العزيز الرحيم " يعني القادر الذي لا يغالب، ولا يعاز الكبير الرحمة الواسع النعمة على خلقه " الذي يراك " يا محمد " حين تقوم وتقلبك في الساجدين " أي تصرفك في المصلين بالركوع والسجود والقيام والقعود - في قول ابن عباس وقتادة - وفي رواية أخرى عن ابن عباس: إن معناه إنه أخرجك من نبي إلى نبي حين أخرجك نبيا.

وقيل: معناه يراك حين تصلي وحدك، وحين تصلي في جماعة.

وقال قوم من اصحابنا: إنه أراد تقلبه من آدم إلى أبيه عبدالله في ظهور الموحدين، لم يكن فيهم من يسجد لغير الله.

والرؤية - ههنا هي ادراك البصر، دون رؤية القلب، لان (رأيت) بمعنى علمت، لا يتعدى إلى مفعول واحد، فهي من رؤية البصر، ثم قال " إنه هو السميع العليم " أي يسمع ما تتلو في صلاتك، العليم بما تضمر فيها في قلبك.

وقيل معنى " وتوكل على العزيز الرحيم " ليظهرك على كيد أعدائك الذين عصوك فيما أمرتهم به.

وقرأ ابن عامر ونافع " فتوكل " بالفاء، لانها في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك. الباقون بالواو، وكذلك هو في مصاحفهم.

والتوكل على الله: هو أن يقطع العبد جميع أماله من المخلوقين إلا منه تعالى، ويقطع رغبته من كل احد إلا اليه، فاذا كان كذلك رزقه الله من حيث لا يحتسب.

[69]

قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين(221) تنزل على كل أفاك أثيم(222) يلقون السمع وأكثرهم كاذبون(223) والشعراء يتبعهم الغاون(224) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون(225) وأنهم يقولون مالا يفعلون(226) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(227))

سبع آيات بلا خلاف.

لما اخبر الله تعالى أن القرآن ليس مما تنزل به الشياطين، وأنه وحي من الله تعالى على نبيه، نبه خلقه على من تنزل الشياطين عليه بقوله " هل انبئكم " أي هل أخبركم " على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم " أي كذاب أثيم، وقال مجاهد: الافاك الكذاب. ومعناه الكثير الكذب، والقلب للخبر من جهة الصدق إلى الكذب، وأصله الانقلاب من المؤتفكات وهي المنقلبات.

والانباء الاخبار بما فيه من الغيوب وعظم الشأن، ومنه قولهم: لهذا الامر نبأ ومنه اشتق وصف الرسول بأنه نبي بعظم شأن ما اتى به من الوحي من الله.

والآثم الفاعل للقبيح: أثم يأثم إثما إذا ارتكب القبيح، وتأثم إذا ترك الاثم مثل تحوب إذا ترك الحوب، وأثمه تأثيما إذا نسبه إلى الاثم، ثم قال " يلقون

[70]

لسمع، أي يلقون ما يسمعون باستراق السمع إلى كل افاك أيثم - في قول مجاهد - ثم اخبر تعالى أن اكثرهم كاذبون فيما يلقونه اليهم.

وقوله " والشعراء يتبعهم الغاون " قال الحسن: هم الذين يسترقن السمع ويلقونه إلى الكهنة، وقال إنما يأخذون أخبارا عن الوحي " انهم عن السمع لمعرولون " أي عن سمع الوحي. وقيل: ان الشعراء المراد به القصاص الذين يكذبون في قصصهم ويقولون ما يخطر ببالهم.

وقوله " ألم تر انهم في كل واد يهيمون " أي هم لما يغلب عليهم من الهوى كالهائم على وجهه في كل واد يعن له، وليس هذا من صفة من عليه السكينة والوقار ومن هو موصوف بالحلم والعقل. والمعنى أنهم يخوضون في كل فن من الكلام والمعاني التي يعن لهم ويريدونه.

وقال ابن عباس وقتادة: معناه في كل لغو يخوضون: يمدحون ويذمون، يعنون الباطل.

وقال الجبائي: معناه يصغون إلى ما يلقيه الشيطان اليهم على جهة الوسوسة لما يدعوهم اليه من الكفر والضلال.

وقيل: انما صار الاغلب على الشعراء الغي باتباع الهوى، لان الذي يتلو الشعر - في الاكثر - العشاق ولذلك يقبح التشبيب. مع أن الشاعر يمدح للصلة ويهجو على جهة الحمية فيدعوه ذلك إلى الكذب، ووصف الانسان بما ليس فيه من الفضائل والرذائل.

وقرأ نافع " يتبعهم " بتخفيف التاء من تبعه إذا اقتفى أثره، يقال تبع فلانا اذا سار في أثره واتبعه لحقه. الباقون: بالتشديد من الاتباع، ومعناهما واحد.

والآية قيل نزلت في الشعراء الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وآله والمؤمنين، وهي تتناول كل شاعر يكذب في شعره - ذكره الفراء - وقيل: انها نزلت في ابن الزبعري وأمثاله.

[71]

ثم اخبر ان هؤلاء الشعراء يقولون ويحثون على اشياء لا يفعلونها هم، وينهون عن أشياء يرتكبونها، ثم استثنى من جملتهم الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا، فأجتنبوا معاصيه، وانتصروا - لنفوسهم في الدين - من الذين ظلموهم.

وقيل: أراد الشعراء الذين ردوا على المشركين هجاء‌هم للمؤمنين، فانتصروا بذلك للنبي والمؤمنين، ثم هدد الظالمين، فقال " وسيعلم الذين ظلموا " نفوسهم " أي منقلب ينقلبون " أي أي منصرف ينصرفون اليه لان منصرفهم إلى النار، نعوذ بالله منها.

وقيل أراد الذين ظلموا نفوسهم بقول الشعر الباطل من هجو النبي والمؤمنين، ومن يكذب في شعره.

وقوله " أي منقلب ينقلبون " نصب (أي) ب‍ (ينقلبون) ولا يجوز أن ان يكون منصوبا ب‍ (سيعلم)، لان أيا لا يعمل فيها ما قبلها، لان الاستفام له صدر الكلام حتى ينفصل من الخبر بذلك.

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21399572

  • التاريخ : 18/04/2024 - 15:22

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net