00989338131045
 
 
 
 
 
 

  سورة النمل 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الثامن )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

27 - سورة النمل

مكية بلا خلاف وهي خمس وتسعون آية حجازي واربع وتسعون آية بصري وشامي وثلاث وتسعون آية في عدد الكوفيين

الآية: 1 - 45

بسم الله الرحمن الرحيم

(طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين(1) هدى وبشرى للمؤمنين(2) الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالاخرة هم يوقنون(3) إن الذين لا يؤمنون بالاخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون(4) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الاخرة هم الاخسرون(5))

خمس آيات بلا خلاف.

قد بينا معنا الحروف التي في أوائل السور فيما تقدم بمالا نحتاج معه إلى إعادته، وقد بينا قول من قال إنها أسماء للسور. وقال قوم " طس " اسم من اسماء القرآن.

وقوله " تلك " إشارة إلى ما وعدوا بمجيئه من القرآن. وقيل ان " تلك "

[74]

بمعنى (هذا) وآيات القرآن هي القرآن، وانما أضافها اليه، كما قال " انه لحق اليقين "(1).

والقرآن والكتاب معناهما واحد، ووصفه بالوصفين ليفيد أنه مما يظهر بالقراء‌ة، ويظهر بالكتابة، وهو بمنزلة الناطق بما فيه من الامرين جميعا وذلك يبطل قول من قال: ان كلام الله شئ واحد لا يتصرف بالقراء‌ة والكتابة.

ووصفه بأنه مبين تشبيه له بالناطق بكذا، وإذا وصفه بأنه بيان جرى مجرى وصفه له بالنطق بكذا في ظهور المعنى به للنفس. والبيان هو الدلالة التي تبين بها الاشياء. والمبين المظهر، وحكم القرآن الموعظة بما فيها من الترغيب والترهيب والحجة الداعية إلى الحق الصارفة عن الباطل، وأحكام الشريعة التي فيها مكارم الاخلاق ومحاسن الافعال، والمصلحة فيما يجب من حق النعمة لله تعالى ما يؤدي إلى الثواب ويؤمن من العقاب.

ثم وصفه بأنه " هدى وبشرى للمؤمنين " وموضع " هدى " نصب على الحال، وتقديره هاديا ومبشرا، ويجوز أن يكون رفعا على تقدير هو " هدى وبشرى للمؤمنين " والمعنى ان ما فيه من البيان والبرهان يهديهم إلى الحق، وما لهم في وجه كونه معجزا الذي فيه من اللطف ما يؤديهم إلى الثواب ويبشرهم بالجنة.

ثم وصف المؤمنين الذين بشرهم القرآن بأنهم " الذين يقيمون الصلاة " بحدودها ويداومون على أوقاتها ويخرجون ما يجب عليهم من الزكاة في أموالهم إلى مستحقها، وهم مع ذلك يوقنون بالآخرة، ويصدقون بها.

ثم وصف تعالى من خالف ذلك ولم يصدق بالآخرة، فقال " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم اعمالهم فهم يعمهون " قيل في معناه قولان: احدهما - قال الحسن والجبائي: زينا لهم اعمالهم التي أمرناهم بها، فهم يتحيرون بالذهاب عنها.

___________________________________

(1) سورة 69 الحاقة آية 51

[75]

الثاني - زينا لهم أعمالهم بخلقنا فيهم شهوة القبيح الداعية لهم إلى فعل المعاصي ليجتنبوا المشتهى " فهم يعمهون " عن هذا المعنى أي يتحيرون بالذهاب عنها.

ثم اخبر تعالى ان من وصفه بذلك لهم " سوء العذاب " ووصفه بأنه سوء لما فيه من الالم و " هم في الاخرة هم الاخسرون " لانهم يخسرون الثواب ويحصل لهم بدلا منه العقاب فهو اخسر صفقة تكون.

قوله تعالى: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم(6) إذ قال موسى لاهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون(7) فلما جاء‌ها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين(8) يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم(9) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون(10) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فاني غفور رحيم(11))

ست آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة " بشهاب قبس " منون غير مضاف جعلوا (قبسا) صفة للشهاب على تقدير منور. الباقون بالاضافة على تقدير (نار)

[76]

يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه محمد صلى الله عليه وآله " انك " يا محمد " لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم " أي انك لتعطى لان الملك يلقيه اليه من قبل الله تعالى، من عند حكيم بصير بالصواب من الخطاء في تدبير الامور بما يستحق به التعظيم.

وقد يفيد (الحكيم) العامل بالصواب المحكم للامور المتقن لها. وعليم بمعنى عالم إلا أن فيه مبالغة.

وقال الرماني هو مثل سامع وسميع، فوصفنا له بأنه عالم يفيد أن له معلوما، كما أن وصفه بأنه سامع يفيد بأن له مسموعا. ووصفه بأنه عليم يفيد أنه متى صح معلومه. فهو عليم به، كما أن (سميعا) يفيد إنه متى وجد مسموع لابد أن يكون سامعا.

وقوله " إذ قال موسى لاهله " قال الزجاج: العامل في إذ (اذكر) وهو منصوب به.

وقال غيره: هو منصوب ب‍ (عليم) اذ قال اني آنست نارا. فالايناس الاحساس بالشئ من جهة ما يؤنس آنست كذا، أؤنسه ايناسا وما آنست به، فقد أحسست به، مع سكون نفسك اليه " سآتيكم منها بخبر " يعني بمن يدل على الطريق ويهدينا اليه، لانه كان قد ضل " أو آتيكم بشهاب قبس " قيل: لانهم كانوا قد أصابهم البرد، وكان شتاء فلذلك طلب نارا. والشهاب نور كالعمود من النار، وجمعه شهب. وقيل للكوكب الذي يمتد وينقض شهاب، وجمعه شهب، وكل نور يمتد مثل العمود يسمى شهابا، والقبس القطعة من النار قال الشاعر:

في كفه صعدة مثقفة * فيها سنان كشعلة القبس(1)

ومنه قيل اقتبس النار اقتباسا أي أخذ منها شعلة، واقتبس منه علما أي اخذ منه نورا يستضئ به كما يستضئ بالنار " لعلكم تصطلون " معناه، لكي

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 13 / 157

[77]

تصطلوا. ومعناه لتدفئوا، والاصطلاء التدفي بالنار، وصلى النار يصلي صلا إذا لزمها، فاصله اللزوم. وقيل الصلاة منه للزوم الدعاء فيها. والمصلي الثاني بعد السابق للزومه صلو السابق.

وإنما قال لامراته " لعلى آتيكم " لانه أقامها مقام الجماعة في الانس بها والسكون اليها في الامكنة الموحشة.

ويجوز أن يكون على طريق الكناية على هذا التأويل.

وقوله " فلما جاء‌ها " معناه جاء النار " نودي أن بورك من في النار ومن حولها " وقيل في معناه قولان: احدهما - بورك نور الله الذي في النار، وحسن ذلك، لانه ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار. في قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والحسن. الثاني - الملائكة الذين وكلهم الله بها على ما يقتضيه. " ومن حولها " - في قول ابي علي الجبائي - ولا خلاف أن الذين حولها هم الملائكة الذين وكلوا بها. و " سبحان الله رب العالمين ".

وقوله " ان بورك " يحتمل أن يكون نصبا على نودي موسى بأن بورك. ويحتمل الرفع على نودي البركة، والبركة ثبوت الخير النامي بالشئ.

قال الفراء العرب تقول: بارك الله، وبورك فيك.

وقوله " انه انا الله العزيز الحكيم " معناه ان الله قال لموسى ان الذي يكلمك هو الله العزيز القادر الذي لا يغالب، الحكيم في افعاله، المئزه من القبائح.

قال الفراء: الهاء في قوله " انه " عماد، ويسميها البصريون إضمار الشأن والقصة.

ثم أراد أن يبين له دلالة يعلم بها صحة النداء، فقال " والق عصاك " من يدك، وفي الكلام حذف، وهو أنه القى عصاه وصارت حية " فلما رآها تهتز كأنها جان " وهي الحية الصغيرة مشتق من الاجتنان، وهو الاستتار، وقال

[78]

الفراء: هي حية بين الصغيرة والكبيرة، قال الراجز:

يرفعهن بالليل إذا ما أسدفا * أعناق جان وهاما رجفا(1)

ووصف العصا في هذا الموضع " كأنها جان " وفى الشعراء بأنها ثعبان، وهي الحية الكبيرة، لانها جمعت صفة الجان في اهتزازه وسرعة حركته مع انه ثعبان في عظمه، ولذلك هاله ف‍ " ولى مدبرا ".

وقيل انها أول شئ صارت جانا ثم تدرجت إلى ان صارت ثعبانا، وهم يشاهدونها، وذلك أعظم في الاعجاز.

وقيل: ان الحالين مختلفان، لان الحال التي صارت فيها جانا هي الحال التي خاطبه الله في أول ما بعثه نبيا، والحال التي صارت ثعبانا هي الحال التي لقي فرعون فيها. فلا تنافي بينهما على حال.

وقوله " ولم يعقب " معناه ولم يرجع - في قول قتادة - وقال الجبائي معناه لم يرجع على عقبيه. والمعاقبة ذهاب واحد ومجئ آخر على وجه المناوبة. وانما ولى منها موسى بالبشرية، لا انه شك في كونها معجزة له ولا يضره ذلك.

وقوله " يا موسى لا تخف " نداء من الله تعالى لموسى وتسكين منه، ونهي له عن الخوف.

وقال له انك مرسل و " لا يخاف لدي المرسلون " لانهم لا يفعلون قبيحا، ولا يخلون بواجب، فيخافون عقابه عليه، بل هم منزهون عن جميع ذلك.

وقوله " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء " صورته صورة الاستثناء، وهو منقطع عن الاول وتقديره لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح، ثم بدل حسنا بعد سوء، بأن تاب من القبيح، وفعل الحسن، فانه يغفر له.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 19 / 76 وروايته:

يرقلن بالليل اذا ما رجفا * اعناق جان وهاما رجفا

[79]

وقال قوم: هو استثناء متصل وأراد من فعل صغيرة من الانبياء. فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا - ذكره الحسن - وهذا تأويل بعيد، لان صاحب الصغيرة لا خوف عليه أيضا لوقوعها مكفرة. والاستثناء وقع من المرسلين الذين لا يخافون، فالاول هو الصحيح.

وقوله " ثم بدل حسنا بعد سوء " معناه ندم على ما فعله من القبيح، وتاب منه وعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، فان من تلك صورته، فان الله يغفر له ويستر عليه لانه رحيم.

وقيل: المعنى " لا يخاف لدي المرسلون " انما الخوف على من سواهم " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء " قال الجبائي: في الآية دلالة على انه يسمى الحسن حسنا قبل وجوده وبعد تقضيه، وكذلك القبيح، وهذا إنما يجوز على ضرب من المجاز، دون الحقيقة، لان كون الشئ حسنا او قبيحا بقيد حدوثه على وجه لا يصح في حال عدمه، وانما سمي بذلك بتقدير أنه متى وجد كان ذلك، وقال قوم " إلا " بمعنى الواو، فكأنه قال اني لا يخاف لدي المرسلون، ولا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء، فاني أغفر له.

[80]

قوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين(12) فلما جاء‌تهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين(13) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين(14) ولقد آتينا داود وسليمن علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين(51))

أربع آيات بلا خلاف.

امر الله تعالى موسى (ع) أن يدخل يده في جيبه. وقيل: أراد كمه.

وقيل: ثيابه " تخرج بيضاء من غير سوء " يعني من غير برص.

وقال المبرد: السوء إذا اطلق يراد به البرص، وإذا وصل بشئ، فهو كلما يسوء، قال: وتقديره كأن هاتين مع بقية الآيات تسع آيات.

والتقدير ادخل يدلك في جيبك فان ذلك مع إلقائك العصا، وما بعد ذلك من الآيات تسع آيات، كما يقال جاء فلان في جمع كثير، وهو احد ذلك الجمع. وقيل: إن معنى (في) من.

وقال ابن مسعود: اتى موسى فرعون وعليه جبة صوف.

وقال مجاهد كان كمها إلى بعض يده.

وقوله " إلى فرعون " تقديره مرسلا إلى فرعون وقومه في تسع آيات.

وحذف كما قال الشاعر:

رأتني بخيليها فصدت مخافة * وفي الخيل دوعاء الفؤاد فروق(1)

اي رأتني مقبلا بخيليها.

ثم اخبر تعالى عن فرعون وقومه بأنهم " كانوا قوما فاسقين " والآيات التسع التي كانت لموسى (ع): قلب العصا حية. واليد البيضاء. والجراد. والقمل. والضفادع، والدم. والبحر وانفلاقه.

ورفع الطور فوق رؤسهم. وانفجار الحجر اثنتا عشرة عينا. وقيل: بدل البحر

___________________________________

(1) تفسير الطبري 19 / 78

[81]

والجبل الطوفان والطمس. ذكره ابن زيد.

ثم اخبر تعالى عن فرعون وقومه أنه لما جاء‌تهم آيات الله ودلائله مبصرة.

وقيل في معنى مبصرة قولان: احدهما - انها تبصر الصواب من الخطأ، يقال أبصرته وبصرته بمعنى واحد، كقولك أكفرته وكفرته، واكذبته وكذبته. الثاني - مبصرة للحق من الباطل، فهي تهدي اليه كأنها تراه.

قالوا عند ذلك إنه هذه الآيات " سحر مبين " أي ظاهر.

ثم قال " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " والمعنى انهم عرفوها وعلموها بقلوبهم، لكنهم جحدوا بها بألسنتهم طلبا للعلو والتكبر، ففي ذلك دلالة على أنهم كانوا معاندين إذ جحدوا ما عرفوا.

وقال الرماني: لا تدل على ذلك، لان معرفتهم كانت بوقوعها على الحقيقة.

فأما الاستدلال على أنها من فعل الله ومن قبله ليدل بها على صدق من أعطاها إياه فبعد العلم بوقوعها.

وقال ابوعبيدة: الباء زائدة، والمعنى وجحدوها، كما قال العجاج: نضرب بالسيف ونرجوا بالفرح(1) وقيل انهم جحدوا ما دلت عليه من تصديق الرسول، كما تقول كذبت به أي بما جاء به.

ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله " فانظر " يا محمد * (كيف كان عاقبة المفسدين) * لان الله أهلكهم وغرقهم ودمر عليهم. ثم اخبر تعالى بأنه اعطى داود وسليمان علما من عنده، وانهما قالا الحمد لله

___________________________________

(1) قد مر في 7 / 118 من هذا الكتاب

[82]

الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين، بأن جعلنا أنبياء واختارنا من بين الخلائق.

والعلم الذي اوتياه قيل: هو علم الاحكام.

وقيل: هو العلم بمنطق الطير، وكلام البهائم.

قوله تعالى: (وورث سليمن داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين(16) وحشر لسليمن جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون(17) حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمن وجنوده وهم لا يشعرون(18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضيه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين(19))

أربع آيات بلا خلاف.

اخبر الله تعالى أن سليمان ورث داود.

واختلفوا فيما ورث منه، فقال اصحابنا إنه ورث المال والعلم.

وقال مخالفونا: انه ورث العلم، لقوله صلى الله عليه وآله نحن معاشر الانبياء لا نورث.

[83]

وحقيقة الميراث هو انتقال تركة الماضي بموته إلى الثاني من ذوي قرابته. وحقيقة ذلك في الاعيان، فاذا قيل ذلك في العلم كان مجازا.

وقولهم: العلماء ورثة الانبياء، لما قلنا. والخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله خبر واحد، لا يجوز أن يخص به عموم القرآن ولا نسخه به.

وقال بعضهم: إن داود كان له تسعة عشر ولدا ذكورا وورثه سليمان خاصة، فدل على أنه إنما ورثه العلم والنبوة، فخبر واحد لا يلتفت اليه.

وقوله * (يا أيها الناس علمنا منطق الطير) * أي فهمنا معاني منطقها وما نفهم به بعضها عن بعض، قال المبرد: والعرب تسمي كل مبين عن نفسه ناطقا ومتكلما قال رؤبة:

لو انني اوتيت علم الحكل * علم سليمان كلام النمل(1)

وقال الرماني * (منطق الطير) * صوت يتفاهم به معانيها على صيغة واحدة، بخلاف منطق الناس إذ هو صوت يتفاهمون به معانيهم على صيغ مختلفة، لذلك لم نفهم عنها مع طول مصاحبتها، ولم تفهم هي عنا، لان افهامها مقصورة على تلك الامور المخصوصة، ولما جعل سليمان يفهم عنها، كان قد علم منطقها.

وقوله * (واوتينا من كل شئ) * لفظه لفظ العموم، والمراد به الخصوص لانه لم يؤت اشياء كثيرة.

وقيل: المعنى * (وأوتينا من كل شئ) * يطلبه طالب لحاجته اليه وانتفاعه به، ويحتمل أن يكون المراد * (وأوتينا من كل شئ) * علما وتسخيرا في كل ما يصلح أن يكون معلوما لنا ومسخرا، غير ان مخرجه مخرج العموم أبلغ وأحسن.

ثم اخبر ان سليمان كان قد قال هذا القول: إن هذا لهو الفضل الظاهر. اعترافا

___________________________________

(1) مقايبس اللغة (حكل) 2 / 91

[84]

بنعم الله. ويحتمل أن يكون ذلك اخبارا من الله بأن ما ذكره هو الفضل الظاهر. وقيل: معناه وأعطينا من كل شئ من الخيرات.

وقوله " وحشر لسليمان جنوده " أي جمع له من كل جهة جنوده " من الجن والانس والطير " قال محمد بن كعب القرطي: كان عسكره مئة فرسخ، خمسة وعشرون من الانس، وخمسة وعشرون من الجن، وخمسة وعشرون من الطير، وخمسة وعشرون من الوحش، وقوله " فهم يوزعون " معناه قال ابن عباس: يمنع أولهم على آخرهم وقال ابن زيد: يساقون.

وقال الحسن: معناه يتقدمون.

وقول ابن عباس أقوى، لانه من قولهم: وزعه من الظلم إذا منعه من ذلك وكفه، قال النابغة:

على حين عاتبت المشيب على الصبى * وقلت الما أصح والشيب وازع(1)

ويقولون لابد للسلطان من وازعة أي يمنع الناس عنه، وقال الشاعر:

لم يزع الهوى إذ لم توات * بلى وسلوت عن طلب العتاة(2)

وقيل: معنى يوزعون يمنعون ان نزلوا عن مراتبهم بالجمع مرة، وبالتفريق أخرى، حتى يتقدموا في مسيرهم. والايزاع المنع من الذهاب، فانما منع أول الجنود على آخرهم ليتلاحقوا، ولا يتفرقوا، كما تقدم الجيوش اذا كثرت بمثل ذلك.

وقوله " حتى اتوا على واد النمل " معناه سار سليمان وجنوده حتى بلغوا واديا فيه النمل و " قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " قيل: كانت معرفة النمل بسليمان على طريق المعجزة الخارقة للعادة له (ع) على غيره. وهذا غير لازم لانه لا يمتنع ان تعرف البهيمة هذا الضرب كما تعرف كثيرا مما فيه نفعها وضرها فمن معرفة النملة انها تكسر الحبة بقطعتين لئلا تنبت، الا الكربزة فانها تكسرها باربع قطع، لانها تنبت إذا

___________________________________

(1) الطبري 19 / 80 والقرطبي 13 / 168.

(2) تفسير الطبري 19 / 80

[85]

كسرت بقطعتين، فمن هداها إلى هذا هو الذي يهديها إلى ما يحطمها مما لا يحطمها.

وقيل: جعل لها منطق تفهم به المعاني، لانه يفهم به المعاني كما تفهم به، كالفم وبكما الفرح قال الشاعر:

عجبت لها أنى تكون غناؤها * فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما(1)

وقيل: انه ظهر من النملة امارات من الرجوع إلى بيتها خوفا من حطم جنود سليمان إياها، فاعلم به سليمان انها تحرزت، فعبر عن ذلك بالقول مجازا كما قال الشاعر:

امتلا الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملات بطني(2)

ولم يكن هناك قول من الحوض.

ويقولون: عيناك تشهد بسهرك، ويريدون بذلك امارات السهر التي تظهر في العين، وقوله " لا يحطمنكم سليمان " أي يكسرنكم بأن يطأكم عسكره " وهم لا يشعرون " أي لا يعلمون بوطئكم، فلما فهم سليمان هذا " تبسم ضاحكا من قولها.

وقال رب أوزعني " أي الهمني ما يمنع من ذهاب الشكر عني بما أنعمت به علي وعلى والدي، ووفقني " ان اعمل صالحا ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين " كالانبياء ومن يجري مجراهم ممن يعمل الاعمال الصالحة ولا يرتكب شيئا من القبائح.

وقال ابن زيد: معنى في عبادك مع عبادك.

___________________________________

(1) اللسان (غنا)(2) قد مر في 1 / 431

[86]

قوله تعالى: (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين(20) لاعذبنه عذابا شديدا أو لاذبحنه أو لياتيني بسلطان مبين(21) فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبا بنبا يقين(22) إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم(231) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون(24) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب‌ء في السموات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون(25) ألله لا إله إلا هو رب العرش العظيم(26))

سبع آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير " أو ليأتينني بسلطان مبين " بنونين الاولى مشددة مفتوحة والثانية مكسورة. الباقون بنون واحدة مشددة مكسورة.

وقرأ " مكث " عاصم وروح - بفتح الكاف - الباقون بضمها، وهما لغتان. وقرأ ابن كثير وأبوعمرو " من سبأ بنبأ " غير مصروف. الباقون مصروفا، منونا.

من لم يصرفه فلانه معرفة ومؤنث، لانه قيل: ان (سبأ) حي من احياء اليمن.

وقيل: هو اسم أمهم.

وقد قال الزجاج: (سبأ) مدينة تعرف بمأرب من اليمن، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، فاذا صرفته فعلى البلد، وإذا لم تصرفه، فعلى المدينة.

وقيل: من صرفه جعله إسما للمكان، ومن لم يصرفه جعله اسما للبقعة.

[87]

قال جرير:

الواردون وتيم في ذوي سبأ * قد عض أعناقهم جلد الجواميس(1)

وقال آخر في ترك صرفه:

من سبأ الحاضرين مأرب اذ * يبنون من دون سيله العرما(2)

وقرأ الكسائي وابوجعفر ورويس " ألا يا اسجدوا " بتخفيف (ألا). الباقون " ألا يسجدوا " مشددة.

وجه قراء‌ة الكسائي أنه جعل (ألا) للتنبيه (يا) هؤلاء على حذف المنادي " اسجدوا " على الامر، قال الاخطل:

ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر * وإن كان حيانا عدى آخر الدهر(3)

أي ألا يا هند.

وقرأ ابن مسعود " هلا " وذلك يقوى قراء‌ة من قرأ بالتخفيف.

ومن قرأ بالتشديد فمعناه وزين لهم الشيطان ضلالتهم لئلا يسجدوا لله، وشاهد الاول قول الشاعر:

ألا اسلمي يا دارمي على البلى * ولا زال منهلا بجرعائك القطر(4)

وقال العجاج:

يا دار سلمي يا اسلمي ثم اسلمى * عن سمسم أو عن يمين سمسم

اخبر الله سبحانه عن سليمان أنه " تفقد الطير، فقال مالي لا أرى الهدهد " قيل كان سبب تفقده الهدهد أنه احتاج اليه في سيره ليدله على الماء، لانه يقال: انه يرى الماء في بطن الارض.

كما نراه في القارورة - وذكره ابن عباس - وقال وهب بن منية: كان تفقده إياه لاخلاله بنوبته.

وقيل: كان سبب تفقده أن الطير كانت تظله من الشمس، فلما أخل الهدهد بمكانه بان بطلوع الشمس عليه

___________________________________

(1) مر تخريجه انظر 6 / 388.

(2) تفسير القرطبي 13 / 181.

(3) تفسير الطبري 19 / 84.

(4) تفسير القرطبى 13 / 187

[88]

وقوله " أم كان من الغائبين " معنى (أم) بل.

وقيل: " معناه أتأخر عصيانا " أم كان من الغائبين " لعذر وحاجة.

ثم قال " لاعذبنه عذابا شديدا أو لاذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين " وهذا وعيد منه للهدهد أنه متى لم يأت سليمان بحجة ظاهرة في تأخره يفعل به أحد ما قاله، عقوبة له على عصيانه.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: تعذيب الهدهد نتف ريشه وطرحه في الشمس.

قوله " فمكث غير بعيد " أي لبث غير بعيد، وفى ماضيه لغتان - فتح الكاف وضمها - ثم جاء سليمان، فقال معتذرا عن تأخره، واخلاله بموضعه " أحطت بما لم تحط به " أي علمت ما لم تعلم، وعلم الاحاطة هو أن يعلمه من جميع جهاته التي يمكن أن يعلم عليها تشبيها بالسور المحيط بما فيه.

ثم قال له " وجئتك من سبأ " يا سليمان يا نبي الله " بنبأ " و (سبأ) مدينة أو قبيلة على ما بيناه.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله ان (سبأ) رجل واحد له عشرة من العرب فتيامن ستة وتشاء‌م أربعة، فالذين تشاء‌موا: لخم، وجذام، وغسان، وعاملة.

والذين تيامنوا: كندة، والاشعرون، والازد، ومذحج، وحمير، وانمار، ومن الانمار خثعم وبجيلة.

وقوله " بنبأ يقين " أي بخبر لا شك فيه، وانه يحتاج إلى معرفته، لما فيه من الاصلاح لقوم قد تلاعب بهم الشيطان في ذلك، فعذره عند ذلك سليمان [.

وقيل: عذر الهدهد بما أخبره بما يحبه لما فيه من الاجر وإصلاح الملك الذي وهبه الله ](1) ثم شرح الخبر فقال " إني وجدت امرأة تملكهم " وتتصرف فيهم بحيث لا يعترض عليها أحد ومع ذلك " أوتيت من كل شئ " أي

___________________________________

(1) ما بين القوسين كان في المطبوعة متأخرا عن مكانه اسطرا

[89]

أعطيت كل شئ، لفظه لفظ العموم والمراد به المبالغة في كثرة ما أوتيت من نعم الدنيا وسعة الملك.

وقيل: انها أوتيت كل شئ يؤتى الملوك، والعرش العظيم سرير كريم معمول من ذهب وقوائمه من لؤلؤ وجوهر - في قول ابن عباس - ثم اخبر انه وجدها " وقومها يسجدون للشمس من دون الله " وأن الشيطان زين ذلك لهم فهم لا يهتدون إلى سبيل الحق والتوحيد واخلاص العبادة لله تعالى.

ثم قال الهدهد على وجه التوبيخ والتهجين لفعلهم " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السموات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون " والخب‌ء هو المخبوء، وهو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه. وضع المصدر موضع الصفة خبأته اخبائه خبأ. وما يوجده الله ويخرجه من العدم إلى الوجود فهو بهذه المنزلة فخب‌ء السماء الامطار والرياح، وخب‌ء الارض الاشجار والنبات " ويعلم ما تخفون وما تعلنون " فمن قرأ بالتاء جعله للمخاطبين.

ومن قرأ بالياء فللغائبين. والخب‌ء والخفاء نظائر، وقيل الخب‌ء الغيب، وهو كل ما غاب عن الادراك.

وقوله " فهم لا يهتدون " دليل على أن المعارف ليست ضرورة، لانه اراد لا يهتدون إلى دين الله.

وقال الجبائي: لم يكن الهدهد عارفا بالله وإنما أخبر بذلك، كما يخبر مراهقوا صبياننا، لانه لا تكليف عليهم ولا تكيف إلا على الملائكة والجن والانس، وهذا الذي ذكره خلاف الظاهر، لان الاحتجاج الذي حكاه الله عن الهدهد احتجاج عارف بالله وبما يجوز عليه ومالا يجوز، لانه قال " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله " ولا يجوز أن يفرق بين الحق في السجود لله وبين الباطل الذي هو السجود للشمس، وان احدهما حسن

[90]

والآخر قبيح إلا من كان عارفا بالله وبما يجوز عليه ومالا يجوز، وذلك ينافي حال الصبيان، ثم نسب تزيين عملهم إلى الشيطان، وهذا قول من عرفه وعرف ما يجوز عليه في عدله، وأن القبيح لا يجوز عليه، ثم حكى أنه قال إن الشيطان صدهم عن السبيل: الحق باغوائهم، وانهم مع هذا الصد لا يهتدون إلى الحق من توحيد الله وعدله.

وقال ابوعبدالله البصري في بعض المواضع: إن الهدهد كان رجلا من البشر اسمه هدهد، ولم يكن من الطير وهذا غلط لان الله تعالى قال " وتفقد " يعني سليمان تفقد " الطير فقال مالي لا أرى الهدهد " فكيف يحمل ذلك على انه إسم رجل؟ ! إن هذا من بعيد الاقوال.

وقال الفراء: من قرأ " ألا " بالتخفيف، فهو موضع سجدوا، ومن ثقل، فلا ينبغي أن يكون موضع سجدوا وقد يجوز السجود على مخالفة تزيين الشيطان.

ومعنى " ويعلم ما يخفون وما يعلنون " أي ما يسرون في نفوسهم، وما يظهرونه. وقرأ الكسائي وحفص " ما تخفون وما تعلنون " بالتاء فيهما على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر.

ثم اخبر فقال " الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " إلى ههنا تمام حكاية ما قاله الهدهد. و (العرش) سرير الملك الذي عظمه الله ورفعه فوق السموات السبع وجعل الملائكة تحف به وترفع أعمال العباد اليه، وتنشأ البركات من جهته فهو عظيم الشأن، كما وصفه تعالى.

[91]

قوله تعالى: (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين(27) إذهب بكتابي هذا فالقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون(27) قالت يا أيها الملؤ إني ألقي إلي كتاب كريم(29) إنه من سليمن وإنه بسم الله الرحمن الرحيم(30) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين(31))

خمس آيات بلا خلاف.

لما سمع سليمان ما اعتذر به الهدهد في تأخره بما قصه الله تعالى وذكرناه قال عند ذلك " سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين " في قولك الذي أخبرتنا به فأجازيك بحسب ذلك.

وإنما لم يقل: أصدقت أم كذبت، وقال: أم كنت من الكاذبين، لانه أليق في الخطاب، لانه قد يكون من الكاذبين بالميل اليهم وقد يكون منهم بالقرابة التي بينه وبينهم. وقد يكون منهم بأن يكذب كما كذبوا ومثل ذلك في الخطاب ولينه قولهم: ليس الامر على ما تقول، فهو ألين من كذبت، لانه قد يكون ليس كما تقول من جهة الغلط الذي لا يوصف بالصدق ولا بالكذب.

ثم أمر سليمان الهدهد بأن يذهب بكتابه الذي كتبه له وأشار اليه بقوله " هذا فألقه اليهم ثم تولى عنهم فانظر ماذا يرجعون " وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره فالقه اليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم تولا عنهم، وهذا لا يحتاج اليه، لان الكلام صحيح على ما هو عليه من الترتيب.

والمعنى فألقه اليهم ثم تول عنهم قريبا منهم، فانظر ماذا يرجعون - على ما قال وهب بن منية وغيره - فانهم قالوا معنى " تول عنهم استتر عنهم، وفي الكلام حذف، لان تقديره فمضى الهدهد بالكتاب. وألقاه اليهم، فلما رأته قالت لقومها " يا أيها الملاء " وهم أشراف اصحابها " إني ألقي إلي كتاب كريم " ومعنى كريم أنه حقيق بأن

[92]

يوصل الخير العظيم من جهته، فلما رأت آثار ذلك في كتاب سليمان وصفته بأنه كريم.

وقيل: أرادت ب‍ (كريم) انه من كريم يطيعه الانس والجن والطير.

والهاء في قوله " انه من سليمان " كناية عن الكتاب، والهاء في قوله " وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " كناية عما في الكتاب.

وقيل: إنه كان مختوما، فلذلك وصفته بأنه كريم.

وقوله " بسم الله الرحمن الرحيم " حكاية ما قالته على المعنى باللغة العربية، وإن كانت لم تقل هي بهذا اللفظ، والحكاية على ثلاثة اوجه: حكاية على المعنى فقط، وحكاية على اللفظ فقط من غير أن يعلم معناه.

وحكاية على اللفظ والمعنى وهو الاصل في الحكاية التي لا يجوز العدول عنها إلا بقرينة.

وموضع " ان لا تعلوا " يجوز أن يكون رفعا بالبدل من (كتاب) ويحتمل النصب على معنى بأن لا تعلوا.

والعلو على الشئ طلب القهر له بما يكون به بحسب سلطانه " لا تعلوا علي " أي لا تطلبوا تلك الحال، فانكم لا تنالونها مني، * (وأتوني مسلمين) * يحتمل وجهين: احدهما - واتوني مؤمنين بالله ورسوله. الثاني - مستسلمين لامري فيما أدعوكم اليه فاني لا أدعو إلا إلى الحق.

[93]

قوله تعالى: (قالت يا أيها الملؤ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون(32) قالوا نحن أولوا قوة وأولوا باس شديد والامر إليك فانظري ماذا تأمرين(33) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون(34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون(35))

خمس آيات حجازي. وأربع فيما عداه. عد الحجازيون شديد رأس آية ولم يعده الباقون.

حكى الله تعالى ان المرأة لما وقفت على كتاب سليمان، ووصفته بأنه كتاب كريم، وعرفتهم ما فيه قالت لاشراف قومها * (افتوني في أمري) * اي أشيروا علي والفتيا هو الحكم بما هو صواب بدلا من الخطأ، وهو الحكم بما يعمل عليه كما يسأل العامي العالم ليعمل على ما يجيبه به، ثم قالت لهم لم أكن أقطع أمرا ولا أفصل حكما دونكم ولا أعمل به * (حتى تشهدون) * وتعاينوه.

وهذا ملاطفة منها لقومها في الاستشارة منهم فيما يعمل عليه، فقالوا لها في الجواب عن ذلك انا * (نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد) * أي أصحاب قدرة وأصحاب بأس أي شجاعة شديدة * (والامر اليك فانظري ماذا تأمرين) * ما الذي تأمرينا به لنمتثله، وهذا القول منهم فيه عرض القتال عليها إن أرادت، فقالت لهم في الجواب * (ان الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) * فكونوا على حذر من ذلك * (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) * قيل بأن يستعبدوهم. فقال الله تعالى تصديقا لهذا القول * (وكذلك يفعلون) * قال ابن عباس: إنما يفعلون ذلك إذا دخلوها عنوة.

ثم حكى انها قالت * (إني مرسلة اليهم بهدية) * فأذنوا للامر في ذلك لانظر ما عند القوم فيا يلتمسون من خير أو شر. وقيل إنها ارسلت بجوار وغلمان على زي واحد.

فقالت ان ميز بينهم ورد الهدية وأبا إلا المتابعة، فهو نبي وإن قبل الهدية فانما هو من الملوك. وعندنا ما يرضيه - ذكره ابن عباس -

[94]

وقيل: انها أرسلت اليه بلبنة من ذهب فأمر سليمان أن تطرح بين أرجل الدواب وسراقينها استهانة بذلك.

قوله تعالى: (فلما جاء سليمن قال أتمدونن بمال فما آتيني الله خير مما آتيكم بل أنتم بهديتكم تفرحون(36) إرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون(37) قال يا أيها الملؤ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين(38) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين(39) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان ربي غني كريم(40))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ حمزة ويعقوب " أتمدوني " بنون واحدة مشددة على الادغام وياء ثابتة في الوصل والوقف. الباقون بنونين.

اخبر الله تعالى إن الهدية التي أنفذت بها المرأة، لما وصلت اليه، قال لموصلها

[95]

" أتمدونني بمال " والامداد الحاق الثاني بالاول، والثالث بالثاني إلى حيث ينتهي. والمعنى لست أرغب في المال الذي تمدونني به، وإنما أرغب في الايمان الذي دعوتكم اليه والاذعان بالطاعة لله ورسوله.

ثم قال " فما آتاني الله خير مما آتاكم " بالتمكين من المال الذي لي أضعافه واضعاف أضعافه إلى ما شئت منه.

ثم قال لهم " بل أنتم بهديتكم تفرحون " أي ما يهدى اليكم " لانكم أهل مفاخرة في الدنيا ومكاثرة. وقيل بهديتكم التي اهديتموها الي تفرحون. والهدية العطية على جهة الملاطفة من غير مئابة، تهدى هدية، لانها تساق إلى صاحبها على هداى، فالاصل الهداية وهي الدلالة على طريق الرشد.

ثم حكى ما قال سليمان لرسولها الذي حمل الهدية " ارجع اليهم " وقل لهم " فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها " أي لا طاقة لهم بهم ولا يقدرون على مقاومتهم " ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " فالذليل هو الناقص القوة في نفسه بما لا يمكنه أن يدفع غيره عن نفسه. والصاغر هو الذليل الصغير القدر المهين، يدل على معنى التحقير بشيئين، ونقيض الذليل العزيز وجمعه أعزة،. جمع الذليل أذلة.

ثم حكى تعالى أن سليمان قال لاشراف عسكره وأماثلة جنده " ايكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " فاختلفوا في الوقت الذي قال سليمان " أيكم يأتيني بعرشها " فقال قوم قال ذاك حين جاء‌ه الهدهد بالخبر، وهو الوقت الاول لانه يبين به صدق الهدهد من كذبه، ثم كتب الكتاب بعد - في قول ابن عباس - وقال وهب بن منية: انما قال ذلك بعد مجئ الرسل بالهدية.

واختلفوا في السبب الذي لاجله خص بالطلب فقيل لانه أعجبته صفته فأحب أن يراه، وكان من ذهب وقوائمه مكلل من جوهر، على ما ذكره قتادة.

[96]

وقال ابن زيد: لانه أحب أن يعاينها ويختبر عقلها إذا رأته اتثبته أم تنكره.

وقيل: ليريها قدرة الله في معجزة، يأتي بها في عرشها.

واختلفوا في معنى " مسلمين " فقال ابن عباس: معناه طائعين مستسلمين وقال ابن جريج: هو من الاسلام الذي هو دين الله الذي أمر به عباده.

ثم حكى تعالى انه أجاب سليمان عفريت من الجن. ومعنى عفريت مارد قوي داهية، يقال: عفريت وعفرية، ويجمع عفاريت وعفاري.

قال سيبويه: هو مأخوذ من العفر.

والمعنى كل سديد في مذهبه من الدهاء والنكارة والنجابة يقال: رجل عفرية نفرية على وزن (زبينة) لواحد الزبانية.

وقوله " انا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " أي من مجلسك الذي تقضي فيه - في قول قتادة - " وإني عليه " يعني على الاتيان به في هذه المدة " لقوي أمين " وفى ذلك دلالة على بطلان قول من يقول: القدرة تتبع الفعل لانه أخبر انه قوي عليه، ولم يجئ بعد بالعرش.

وقال ابن عباس: " أمين " على فرج المرأة.

فقال عند ذلك " الذي عنده علم من الكتاب " قال ابن عباس وقتادة: هو رجل من الانس، كان عنده علم إسم الله الاعظم الذى إذا دعي به أجاب. وقيل: يا إلهنا وإله كل شئ يا ذا الجلال والاكرام، وقال الجبائي: الذى عنده علم من الكتاب سليمان (ع). وقال ذلك للعفريت ليريه نعمة الله عليه. والمشهور عند المفسرين هو الاول. وقد ذكر أن إسمه اصف بن برخيا. وقيل: هو الخضر. وقال مجاهد: اسمه أسطوع. وقال قتادة: اسمه مليخا.

وقوله " انا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك " قيل في معناه قولان: احدهما - قال مجاهد: إن ذلك على وجه المبالغة في السرعة.

الثانى - قال قتادة: معناه قبل أن يرجع اليك ما يراه طرفك.

[97]

وقيل: قبل ان يرجع طرفك خاسئا إذا فتحتها وادمت فتحها.

وقيل: قبل أن تفتحها وتطبقها.

وقيل: حمل العرش من مأرب إلى الشام في مقدار رجع البصر.

وقيل: شقت عنه الارض فظهر.

وقيل يجوز أن يكون الله اعدمه ثم اوجده في الثاني بلا فصل بدعاء الذي عنده علم من الكتاب، وكان مستجاب الدعوة إذا دعا باسم الله الاعظم. ويكون ذلك معجزة له.

وقال قوم: كان ذلك معجزة لسلمان.

وفي الكلام حذف، لان تقديره " أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك " فأتاه به " فلما رآه " سليمان " مستقرا عنده قال " معترفا بنعم الله عليه " هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر " أي أأشكر على نعمه أم أجحدها.

ثم قال سليمان " ومن شكر فانما يشكر لنفسه " لان ثواب ذلك يعود عليه ومن جحد نعم الله فانما يضر نفسه، لان عقاب ذلك يحل به " فان الله غني " عن شكره وعن كل شئ. " كريم " في انعامه على خلقه.

وقرأ ابوعمرو ونافع وعاصم - في رواية حفص - * (فما أتاني الله) * - بفتح الياء - في الوصل.

الباقون " فما آتان " بغير ياء في الوصل.

[98]

قوله تعالى: (قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون(41) فلما جاء‌ت قيل لها أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين(42) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين(43) قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قال رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمن لله رب العالمين(44) ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فاذا هم فريقان يختصمون(45))

خمس آيات عند الكل ما عدا الكوفي، فانها في عدده ست آيات عد * (قوارير) * آية. ولم يعده الباقون.

حكى الله تعالى ان سليمان أمر ان ينكروا لها عرشها، وهو أن يغيره إلى حال تنكره اذا رأته اراد بذلك اعتبار عقلها على ما قيل. والجحد والانكار: جحد العلم بصحة الشئ، ونقيضه الاقرار، والتنكير تغيير حال الشئ إلى حال ينكرها صاحبها إذا رآها.

وقوله " ننظر اتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون " بيان من سليمان ان الغرض بتنكير عرشها ننظر اتهتدي بذلك أم تكون من الذين لا يهتدون إلى طريق الرشد، فلما جاء‌ت المرأة، قال لها سليمان " أهكذا عرشك " فقالت في الجواب كأنه هو، ولم تقطع عليه، لما رأت من تغير احواله.

فقال سليمان " واوتينا العلم من قبلها " قال مجاهد: هو من قول سليمان " وكنا مسلمين " اي مؤمنين بالله مستسلمين له.

وقال الجبائي: هو من كلام قوم سليمان (ع).

ثم اخبر تعالى فقال " وصدها ما كانت تعبد من دون الله " ومنعها

[99]

منه وتقديره وصدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله، ومنعها منه " انها كانت من قوم كافرين " بنعم الله عليهم عابدين مع الله غيره.

وقال الفراء: يجوز ان يكون المراد صدها عن عبادة ما كانت تعبد من دون الله من الشمس انها كانت من قوم كافرين يعبدون الشمس، فنشأت على ذلك. وكسر (انها) على الاستئناف، ولو نصب على معنى، لانها جاز. ثم حكى بأنه قيل لها " ادخلي الصرح " فالصرح هو الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف، ومنه قولهم: صرح بالامر اذا افصح به، ولم يكن عنه. والتصريح خلاف التعريض، وفلان يكذب صراحا من هذا.

" فلما رأته حسبته لجة " يعني ان المرأة لما رأت الصرح ظنته لجمة، واللجة معظم الماء. ومنه لجج البحر خلاف الساحل. ومنه لج في الامر اذا بالغ بالدخول فيه " وكشفت عن ساقيها " ظنا منها انها تريد ان تخوض الماء.

وقيل: ان سليمان اجرى الماء تحت الصرح الذي هو كهيئة السطح.

وقيل: الصرح صحن الدار يقال صرحة الدار، وراحة الدار، وقاعة الدار، وقارعة الدار كله بمعنى صحن الدار.

وقيل صرح القصر، قال الشاعر:

بهن نعام بناء الرجال * تشبه اعلامهن الصروحا(1)

وقال ابوعبيدة: كل بناء من زجاج او صخر او غير ذلك موثق، فهو صرح، ومنه " يا هامان ابن لي صرحا "(2) وقيل: انه اراد ان يختبر عقلها.

وقيل: لانهم كانوا قالوا: إن ساقيها مثل ساق الحمار برجل حمار، لانها من ولد بين الانس والجن، لانه قيل: ان الجن خافت ان يتزوج بها سليمان،

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 13 / 209 والطبري 20 / 41.

(2) سورة 40 المؤمن آية 36

[100]

فقالوا ذلك لينفروا عنها، فلما امتحن ذلك وجده على خلاف ما قيل فيه.

وقيل: انه كان قيل: ان على ساقيها شعرا، فلما كشفته بان الشعر فساء‌ه ذلك واستشار الجن في ذلك، فعملوا له النورة والزرنيخ. وقيل: انه اول من اتخذ له ذلك.

وقيل: انما فعل ذلك ليريها عظيم آيات الله لتسلم وتهتدي إلى دين الله.

ثم قال لها " انه صرح ممرد من قوارير " فالممرد المملس، ومنه الامرد. وشجرة مرداء ملساء لا ورق عليها، والمارد الخارج عن الحق المملس منه.

فقالت عند ذلك يا رب " اني ظلمت نفسي " بما ارتكب من المعاصي بعبادة غيرك " واسلمت " الآن " مع سليمان لله رب العالمين " الذي خلق الخلق. وقيل: انها لما اسلمت تزوجها سليمان (ع).

ثم اخبر تعالى انه ارسل " إلى ثمود اخاهم صالحا " يعني في النسب، لانه كان منهم " ان اعبدوا الله " موضع (ان) نصب، وتقديره ارسلناه بأن اعبدوا الله، وحده لا شريك له " فاذا هم فريقان يختصمون " يعني منهم مؤمن بصالح ومنهم كافر به، في قول مجاهد.

الآية: 46 - 93

قوله تعالى: (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون(46) قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون(47) وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون(48) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون(49) ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون(50))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ حمزة والكسائي وخلف * (لتبيتنه وأهله ثم لتقولن) * بالتاء فيهما جميعا. الباقون بالنون. وقرأ مجاهد بالياء.

وقرأ ابوبكر عن عاصم * (مهلك) * بفتح الميم واللام، وفي رواية حفص - بفتح الميم وكسر اللام - الباقون - بضم الميم وفتح اللام - قال ابوعلى: من قرأ بضم الميم احتمل المرين: احدهما - اراد المصدر من إهلاك اهله أي لم نشهد اهلاكهم. الثاني - ان يكون المراد لم نشهد موضع إهلاكهم.

وقراء‌ة حفص ايضا تحتمل أمرين: احدهما - ما شهدنا موضع هلاكهم. والثاني - المصدر اي ما شهدنا هلاكهم. وقراء‌ة ابى بكر معناها المصدر.

لما اخبر الله تعالى انه ارسل صالحا إلى قومه، وانهم كانوا فريفين، مسلم وكافر، يخاصم بعضهم بعضا، قال لهم صالح * (يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) * فالاستعجال طلب التعجيل، وهو الاتيان به قبل وقته. وكان هؤلاء الجهال إذا خوفوا بالعقاب قالوا، على جهة الانكار لصحته متي هو؟ وهلا يأتينا به؟، فقال لهم صالح * (لم تستعجلون) * ذلك: قال مجاهد. يعني العذاب قبل الرحمة، والسيئة - ههنا - المراد بها العقاب سماها سيئة لما فيها من الآلام ولانها جزاء على الافعال السيئة، لان السيئة هي الخصلة التي تسوء صاحبها حين

[102]

يجدها. والسيئة ايضا هي الفعل القبيح الذي، لا يجوز لفاعلها فعلها، ونقيضها الحسنة.

فقال لهم * (لولا تستغفرون الله) * ومعناه هلا تسألون الله الغفران به بدلا من استعجال العقاب * (لعلكم ترحمون) * وإنما خرجت (لولا) إلى معنى (هلا) لانها كانت لامتناع الشئ لكون غيره، كقولك: لولا زيد لاتيتك، فخرجت إلى الانكار، لامتناع الشئ لفساد سببه فقال * (لولا تستغفرون الله) * منه.

ثم اخبر بما اجابوه، لانهم قالوا * (اطيرنا بك وبمعنى معك) * أي وبمن هو على دينك، فالتطير التشاؤم، وهو نسبة الشؤم إلى الشئ على ما يأتي به الطير من ناحية اليد اليسرى وهو البارح، والسانح هو اتيانها من جهة اليد اليمنى. واصل، (اطيرنا) تطيرنا، دخلت فيه ألف الوصل، لما سكنت الطاء للادغام، فقال لهم صالح * (طائركم عند الله) * أي الشئ الذي تحذرونه بالتطير * (عند الله) * لانه القادر على عقابكم بما أنتم عليه من الكفر. والمعنى - في قول ابن عباس - معاقبتكم عند الله.

ثم قال لهم: ليس ذلك للتشاؤم والتطير * (بل انتم قوم تفتنون) * فالفتنة - ههنا - قولهم ما زين لهم من الباطل. ثم اخبر تعالى أنه " كان في المدينة " التي بعث الله منها صالحا " تسعة رهط يفسدون في الارض " أي يفعلون فيها المعاصي " ولا يصلحون " أي لا يفعلون الطاعات.

وقوله " قالوا تقاسموا بالله " قيل في معناه قولان: احدهما - قالوا متقاسمين إلا انه يحذف منه قد. والآخر - انه أمر، وليس بفعل ماض.

" لنبيتنه وأهله " حكاية أنهم قالوا: * (لنبيتنه) * فمن قرأ بالنون اراد إنا نفعل بهم ذلك ليلا. ومن قرأ بالتاء، فعلى انه خاطب بعضهم بعضا بذلك. ولمعنى انهم تحالفوا: لنطرقنهم ليلا،

[103]

يقال لكل عمل بالليل تبييت، ومنه قوله * (إذ يبيتون مالا يرضى من القول) *(1) وانشد ابوعبيدة:

اتوني فلم ارض ما بيتوا * وكانوا اتوني بامر نكر

لانكح امهم منذرا * وهل ينكح العبد حر لحر(2)

وقال ابن اسحاق انهم لما اتوا صالحا لتبييته، دفعتهم الملائكة بالحجارة، * (ثم لنقولون لوليه) * معناه إنهم قالوا إذا قال لنا وليه وناصره: من فعل هذا قلنا له * (ما شهدنا مهلك اهله) * فمن ضم الميم اراد ما رأينا إهلاكه.

ومن فتح الميم اراد مكان هلاكهم او اهلاكهم يريد المصدر * (وانا لصادقون) * في هذا القول.

ثم اخبر تعالى انهم " مكروا " بهذا القول " ومكرنا " نحن ايضا مكرا بأن جازيناهم على مكرهم وجعلنا وباله عليهم فانا أهلكناهم عن آخرهم. وقيل: ان الله أرسل عليهم صخرة أهلكتهم. ويحتمل أن يكون المعنى في " مكرنا " انا انجينا المؤمنين بالمكر بالكفار بكل ما يقدرون عليه من الاضرار بهم، وإلجائهم إلى الايمان. وانما نسبه إلى نفسه لما كان بأمره.

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 107(2) مر تخريجه في 3 / 269، 319

[104]

قوله تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أن دمرناهم وقومهم أجمعين(51) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون(52) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون(53) ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون(54) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون(55))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة ويعقوب " أنا دمرناهم " بفتح الالف. الباقون بكسرها ومن فتح احتمل وجهين: احدهما - النصب على البدل من (كيف) و (كيف) نصب ب‍ (انظر). والثاني - ان يكون (كيف) في موضع الحال و (دمرنا) خبر (كان) وتلخيصه، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أي عاقبة امرهم التدمير.

وقيل: هو نصب بتقدير بأنا، فلما حذف الباء نصب، وقال الكسائي: هو في موضع الجر. ويحتمل الرفع أيضا على البدل من (عاقبة). ويحتمل أيضا على الجواب، كأنه قيل: ما كان عاقبة أمرهم؟ فقيل: تدميرنا لهم.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " انظر " يا محمد وفكر " كيف كان عاقبة مكرهم " أي هؤلاء الكفار الذين كفروا ودمرناهم. والعاقبة الحال التي يؤدي اليها البادئ تقول: اعقبني هذا الدواء صحة. وأعقب هذا الطعام الردئ مرضا، وكذلك المعاصي تعقب النار.

وقيل: ان بيوتهم هذه المذكورة بوادي القرى موضع بين الشام والمدينة.

والمكر الاخذ بالحيلة للايقاع في بلية، فلما مكر أولئك الكفار بصالح (ع) ليقتلوه، ومن آمن ولم يتم مكرهم، وأدى مكرهم إلى هلاكهم وتدميرهم والتدمير التقطيع بالعذاب، فدمر الله قوم صالح بأن قطعهم بعذاب الاستئصال في الدنيا قبل الآخرة، فلم يبق لهم باقية.

[105]

ثم اخبر تعالى ان بيوت أولئك الكفار " خاوية " أي خالية فارغة وكان رسمهم أن يكونوا فيها ويأوون اليها، فلما أهلكهم الله، صاروا عبرة لمن نظر اليها واعتبر بها. وقيل هذه البيوت المذكورة بوادي القرى.

وقوله " وانجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " اخبار منه تعالى انه انجى وخلص المؤمنين من قوم صالح لانهم كانوا يتقون معاصي الله، خوفا من عقابه، فالاتقاء الامتناع من البلاء بما يرد عن صاحبه ان ينزل به. والتقي هو العامل بما يتقي عنه العقاب.

وقيل: ان الله تعالى دمر التسعة الرهط الذين يفسدون في الارض وقومهم.

وقوله " ولوطا إذ قال لقومه " يحتمل امرين: احدهما - نصب (لوطا) بتقدير وأرسلنا لوطا. الثاني - واذكر لوطا حين قال لقومه منكرا عليهم افعالهم " اتأتون الفاحشة " يعني الخصلة القبيحة الشنيعة، الظاهرة القبح، وهي اتيانهم الذكران في أدبارهم " وانتم تبصرون " أي تعلمون أنها فاحشة. وقيل معناه: " وأنتم تبصرون " أي يرى بعضكم من بعض ان ذلك عتوا وتمردا. ثم بين الفاحشة التي كانوا يفعلونها بقوله " أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء " التي خلقهن الله لكم. ثم اخبر تعالى عن لوط انه قال لهم " بل أنتم قوم تجهلون " اي تفعلون أفعال الجهال لجهلكم بمواقع نعم الله سبحانه وتعالى عليكم.

[106]

قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون(56) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين(57) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين(58) قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون(59) أمن خلق السموات والارض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون(60))

خمس آيات بلا خلاف.

نصب (جواب قومه) بأنه خبر (كان) واسمعها (أن قالوا) ولا يجوز وقع جواب - ههنا - لان ما بعد الايجاب وما قبلها نفي، والنفي أحق بالخبر من الايجاب، ومثله " ما كان حجتهم إلا قالوا "(1).

اخبر الله تعالى عن قوم لوط حين قال لهم لوط ما تقدم ذكره، منكرا عليهم انه لم يكن لهم جواب عن ذلك، بل عدلوا إلى أن قالوا، بعضهم لبعض خرجوا لوطا ومن تبعه " من قريتكم " فانهم " أناس يتطهرون " أى يتطهرون عن عملكم في إتيان الذكران من العالمين إذ تأمرونهم، ويتنزهون عن ذلك، فلا تجاوروهم وهذه صفتهم - وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - فأخبر الله تعالى أنه أهلك هؤلاء القوم بأجمعهم وأنجى لوطا وأهله الذين آمنوا به من

___________________________________

(1) سورة 45 الجاثية آية 24

[107]

ذلك الهلاك واستثنى من جملة أهله امرأته، واخبر انه " قدرناها من الغابرين " أي جعلها من الغابرين لان جرمها على مقدار جرمهم، فلما كان تقديرها كتقديرهم في الاشراك بالله جرت مجراهم في انزال العذاب بهم.

وقيل: " قدرناها " أي بما كتبنا إنها من الغابرين، واخبر تعالى انه أمطر عليهم مطرا.

قال الحسن: أمطرت الحجارة على من خرج من المدينة، وخسف المدينة باهلها، فهم يهوون إلى يوم القيامة " فساء مطر المنذرين " وهم الذين أبلغهم لوط النذارة، وأعلمهم بموضع المخافة ليتقوها، فخالفوا ذلك. ونقيض النذارة البشارة، وهي الاعلام بموضع الامن ليجتبى، والنذير البشير ينذر بالنار ويبشر بالجنة.

ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وآله قل يا محمد " الحمد لله " شكرا على نعمه بأن وفقنا للايمان " وسلام على عباده الذين اصطفى " يعني اجتباهم، الله واختارهم يقال: صفا يصفو صفاء، وأصفاه بكذا إصفاء، واصطفاه اصطفاء، ويصفى تصفيا وصفاء وتصفية، وصافاه مصافاة.

وقوله " أما يشركون " من قرأ - بالتاء - وجهه إلى انه خطاب لهم. ومن قرأ - بالياء - فعلى الخبر.

وقوله " آلله خير أما " معناه خير لنا منا لانفسا، ولفظ أفعل لا يدخل إلا بين شيئين يشتركان في حكم ويفضل أحدهما على صاحبه، وما يعبدون من دون الله لا خير فيه.

قال ابوعلي: يجوز أن يقع ذلك في الخير الذي لا شر فيه، والشر الذي لا خير فيه. وإن كان يتوهم بعض الجهال الامر على خلاف ما هو به، فتقول: هذا الخير خير من الشر. وانكر على من خالف هذا. واجاز قوم من اهل اللغة ذلك على ما مضى القول فيه في غير موضع.

ثم قال لهم: أمن الذي " خلق السموات والارض " بأن انشأها واحترعها

[108]

" وانزل لكم من السماء ماء يعني غيثا ومطرا * (فأنبتنا به) * بذلك الماء * (حدائق) * وهي جمع حديقة، وهي البستان إذا كان عليه حائط يحوطه * (ذات بهجة) * انما وصف (الحدائق) بلفظ الواحد في قوله * (ذات) * لان معناه جماعة ذات بهجة.

وقيل: الحديقة البستان الذي فيه النخل، و (البهجة) منظر حسن ابتهج به إذا سر.

ثم قال * (ما كان لكم ان تنبتوا شجرها) * أي لم تكونوا تقدرون على انبات شجر الحديقة، لان الله تعالى هو القادر عليه لا غيره.

ثم قال منكرا عليهم * (أإله مع الله) * يقدر على ذلك.

ثم قال * (بل هم قوم يعدلون) * بالله غيره لجهلهم، وقيل: يعدلون عن الحق. ومعنى الآية التنبيه على أن من قدر على انبات الحدائق ذات الشجر واخراج الشجر باكرم الثمار، يجب اخلاص العبادة له، وإن من عدل إلى الاشراك به كافر بهذه النعمة الخفية.

[109]

قوله تعالى: (أمن جعل الارض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون(61) أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض أإله مع الله قليلا ما تذكرون(62) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون(63) أمن يبدؤ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والارض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين(64) قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون(65))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل البصرة وعاصم " عما يشركون " بالياء. الباقون بالتاء.

وقرأ ابوعمرو وهشام وروح " قليلا ما يذكرون " بالياء. الباقون بالتاء.

من قرأ بالياء في الموضعين جعله للمخاطبين ومن قرأ بالتاء فالى الغائبين.

يقول الله تعالى منبها على مواقع نعمه على خلقه، ممتنا بها عليهم بأن قال " أمن " الذي " جعل الارض قرارا " بأن أسكنها للاستقرار عليها، وامكان التصرف عليها، فمن جعلها كذلك لمصالح عباده بها على ما يحتاجون اليه منها عالم حكيم، وهو أولى بالعبادة من الاصنام " وجعل خلالها أنهارا " يعني خلال الارض وهي المسالك في نواحيها " أنهارا " جمع نهر وهي المجرى الواسع من مجاري الماء، واصله الاتساع، فمنه النهار لاتساع ضيائه، ومنه انهار الدم إذا جرى، كالنهر " وجعل لها رواسي " يعني الجبال الثابتة، رست ترسو رسوا إذا ثبتت فلم تبرح من مكانها كالسفينة وغيرها، ومنه المراسي.

وقوله " وجعل بين البحرين حاجزا " فالحاجز هو المانع بين الشيئين، أن يختلط احدهما بالآخر، وقد يكون ذلك بكف كل واحد منهما عن صاحبه. وفى ذلك دلالة على امكان كف النار عن الحطب، حتى لا تحرقه ولا تسخنه كما كف الماء المالح عن الاختلاط بالعذب.

[110]

ثم قال " أإله مع الله " يقدر على ذلك، تبكيتا لهم على الاشراك به.

ثم قال " بل اكثرهم لا يعلمون " حقيقة ما ذكرناه لعدو لهم عن النظر في الدلالة المؤدية اليه.

وقيل " بل اكثرهم لا يعلمون " ما لهم وعليهم في العبادة إن اخلصوها، او اشركوا فيها.

ثم قال " ام من يجيب المضطر إذا دعاه " فاجابة دعاء المضطر هو فعل ما دعا به، لاجل طلبه، وذلك لا يكون إلا من قادر عليه مختار له، لانه يقع على ما دعا به الداعي " ويكشف السوء " يعني الآلام يصرفها عنكم " ويجعلكم خلفاء الارض " أي يجعل أهل كل عصر يخلفون العصر الاول " أإله مع الله " يقدر على ذلك ثم قال " قليلا ما تذكرون " أي تفكرون قليلا بما قلناه ونبهنا عليه.

ثم قال " أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر " بما نصب لكم من الدلالات التي تستدلون بها، من الكواكب وغيرها * (ومن) * الذي * (يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) * يعني بين يدي المطر والغيث.

ومن قرأ بالنون أراد ملقحات. وقيل: معناه منتشرة. ومن قرأ بالباء أراد مبشرات بالمطر.

ثم نزه نفسه عن الاشراك به واتخاذ إله معه فقال * (تعالى عما يشركون) * ثم قال * (أم من يبدؤ الخلق ثم يعيده) * يبدؤهم بأن يخترعهم ابتداء، ثم يعيدهم بعد أن يميتهم، ويعيدهم إلى ما كانوا عليه * (ومن يرزقكم من السماء والارض) * من السماء بالغيث والمطر. ومن الارض بالنبات وانواع الثمار * (أإله مع الله) * يقدر على ذلك * (قل) * لهم يا محمد * (هاتوا برهانكم) * وحجتكم * (ان كنتم صادقين) * في قولكم محقين في الاشراك معه، فاذا لم تقدروا على اقامة البرهان على ذلك، فاعلموا انه لا إله معه، ولا يستحق العبادة سواه، لان كان ما يكون حقا من أمر الدين لابد أن يكون عليه دلالة وبرهان.

[111]

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله * (قل) * يا محمد * (لا يعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله) * يعني الغائب عن الخلق لا يعلم به إلا الله تعالى أو من أعلمه الله، ثم اخبر انهم لا يشعرون متى يبعثون ويحشرون يوم القيامة.

قوله تعالى: (بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون(66) وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون(67) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين(68) قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين(69) ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون(70))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير، وأهل البصرة بل " أدراك " بقطع الهمزة، يقال: تدارك زيد أمره وأدارك بمعنى واحد، ومثله " إنا لمدركون "(1) وقد شدد الاعرج وروى السموني - بكسر اللام - ووصل الهمزة وتشديد الدال من غير ألف. الباقون " بل ادارك " بمعنى تتابع علمهم وتلاحق حتى كمل.

والمعنى بل ادارك في الآخرة أي حين لم ينفعهم اليقين مع شكهم في الدنيا - على ما ذكره ابن عباس - وقيل: انه قرأ " بلى ادارك " وادارك العلم لحاق الحال التي يظهر فيها

___________________________________

(1) سورة 26 الشعراء آية 62

[112]

معلومه، ففي الآخرة يظهر الحق بما يرى من الامور التي من شأنها أن يقع عندها علم بمقتضى ما يحدث من عظم الامور وقيل: معنى " بل " ههنا (هل) فكأنه قال: هل ادارك علمهم، ومعناه انهم لا يعلمون الآخرة " بل هم في شك منها " ومن شدد الدال قال أصله تدارك فأدغموا التاء في الدال وقلبوا ألف الوصل.

وقرأ اهل المدينة " إذا " على الخبر. الباقون بهمزتين على الاستفهام، ويحقق الهمزتين ابن عامر وأهل الكوفة وروح، إلا أن هشاما يفصل بينهما بالف، وابن كثير وابوعمرو ورويس يخففون الاولى ويلينون الثانية. ويفصل بينهما بالف أبوعمرو، واما " ائنا " فقراء‌ته على الخبر، وزاد فيه نونا ابن عامر والكسائي.

الباقون بهمزتين وخففهما عاصم وحمزة وخلف وروح.

الباقون يخففون الاولى ويلينون الثانية، ويفصل بينهما بالف أهل المدينة إلا ورشا، وابوعمرو. وقد مضى تعليل هذه القراء‌ات فيما مضى.

لما اخبر الله تعالى عن الكفار أنهم لا يشعرون متى يحشرون يوم القيامة وانهم ساخرون في ذلك، أخبر انهم يعلمون حقيقة ذلك يوم القيامة حين يبعثهم الله، وانه لا ينفعهم علمهم في ذلك الوقت مع شكهم في دار الدنيا. وأخبر انهم في شك من البعث في دار الدنيا، وأنهم عمون عن معرفة حقيقته. وهو جمع (عمى) وشبه جهلهم بذلك بالعمى، لان كل واحد منها يمنع بوجوده من ادراك الشئ على ما هو به، لان الجهل مضاد العلم، والعمى مناف للرؤية.

ثم حكى عن الكفار انهم قالوا متعجبين من البعث والنشور " أئذا كنا ترابا " ويكون " آباؤنا " ترابا ايضا " ائنا لمخرجون " من قبورنا ومبعوثون، يقولون ذلك مستهزئين منكرين. ثم اخبر انهم يحلفون ويقولون " لقد وعدنا هذا " البعث " نحن " فيما مضى وكذلك وعد به " آباؤنا " ولم نعرف حقيقة

[113]

ذلك، ثم حكى انهم يقولون ليس " هذا إلا اساطير الاولين " وانما اشتبه عليهم النشأة الثانية لطول المدة في النشأة الاولى على مجرى العادة، ولو نظروا في أن من اجرى هذه العادة حكيم، وانه قادر على نقض العادة، كما قدر على اجرائها لزالت شبهتهم.

ثم امر نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهم " سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين " لانهم يرون آثار آبائهم وكيف أهلكهم الله وخرب ديارهم كعاد وثمود وغيرهم، فيعلمون عند ذلك صحة ما قلناه، ولا يأمنوا أن يحل بهم مثل ما حل بهم. ثم نهى نبيه صلى الله عليه وآله ان يحزن عليهم ويتأسف على تركهم الايمان وأن لا يكون في ضيق نفسه " مما يمكرون "، فان وبال مكرهم عائد عليهم.

قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين(71) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون(72) وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون(73) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون(74) وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين(75))

خمس آيات بلا خلاف.

[114]

حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم " يقولون متى هذا الوعد " الذي توعدنا به " ان كنتم صادقين " في اخباركم بذلك في البعث والنشور، والوعد من الحكيم على ضربين: احدهما - ان يكون مقيدا بوقت، فاذا جاء ذلك الوقت فلابد أن يفعل فيه ما وعد به. والثاني - ان يكون مطلقا غير موقت إلا انه لابد أن يكون معلوما لعلام الغيوب الوقت الذي يفعل فيه الموعد به، فاذا كان ذلك الوقت معلقا بزمان تعين عليه الفعل في ذلك الوقت، فلابد للموعود به من وقت، وإن لم يذكر مع الوعد.

ثم امر نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهم " عسى ان يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون " فعسى من الله واجبة، والمعنى ان الذي وعدكم الله به لابد أن يردفكم، والردف الكائن بعد الاول قريبا منه. والفرق بينه وبين التابع أن في التابع معنى الطلب لموافقة الاول، وترادف إذا تلاحق، تلاحقا ترادفا، واردفه اردافا.

ومعنى " ردف لكم " قرب منكم ودنا - في قول ابن عباس - وقيل: تبع لكم. والاستعجال طلب الامر قبل وقته، فهؤلاء الجهال طلبوا العذاب قبل وقته تكذيبا به. وقد أقام الله عليهم الحجة فيه.

و (ردف) من الافعال التي تتعدى بحرف وبغير حرف، كما قال الشاعر:

فقلت لها الحاجات تطرحن بالفتى * وهم يعناني معنا ركائبه(1)

وقيل: ان الباء انما دخلت للتعدية.

وقيل: انما دخلت لما كان معنى تطرحن ترمين، وكذلك لما كان معنى " ردف لكم " دنا، قال " لكم " قال المبرد: معناه ردفكم واللام زائدة.

___________________________________

(1) البيت في مجمع البيان 4 / 231

[115]

وقيل " بعض الذي تستعجلون " يوم بدر.

وقيل: عذاب القبر.

ثم قال " وإن ربك لذو فضل على الناس " والفضل الزيادة على ما للعبد بما يوجبه الشكر، فالعدل حق العبد. والفضل فيه واقع من الله لا محالة إلا انه على ما يصح وتقتضيه الحكمة. ثم اخبر ان " اكثر الناس لا يشكرون " الله على نعمه بل يكفرونه.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " وإن ربك " يا محمد " ليعلم ما تكن صدورهم " أي ما تخفيه صدورهم، يقال: كننت الشئ في نفسي، وأكننته إذا سترته في نفسك، فهو مكن ومكنون لغتان.

قال الرماني: الاكنان جعل الشئ بحيث لا يلحقه أذى لمانع يصد عنه " وما يعلنون " أي يعلم ما يظهرونه ايضا.

ثم قال " وما من غائبة في السماء والارض " أي ليس شئ يغيب علمه عن أهل السماء والارض " إلا " ويبينها الله " في كتاب مبين " وهو الكتاب المحفوظ.

وقال الحسن: الغائبة القيامة.

وقال النقاش: ما غاب عنهم من عذاب السماء والارض.

وقيل: هو ما أخفاه الانسان عن قلبه وعينه.

وقال البلخي: معنى " في كتاب مبين " أي هو محفوظ لا ينساه كما يقول القائل: أفعالك عندي مكنونة أي محفوظة.

[116]

قوله تعالى: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون(76) وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين(77) إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم(78) فتوكل على الله إنك على الحق المبين(79) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين(80))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير " ولا يسمع " بياء مفتوحة وفتح الميم " الصم " بالرفع. ومثله في الروم. الباقون " تسمع " بالتاء وكسر الميم " الصم " بالنصب، فوجه قراء‌ة ابن كثير انه أضاف الفعل إلى الصم، فلذلك رفعه. ووجه قراء‌ة الباقين أنهم أضافوا الفعل إلى النهي صلى الله عليه وآله وجعلوا الصم مفعولا ثانيا.

اخبر الله تعالى أن هذا القرآن الذي انزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله " يقص على بني اسرائيل أكثر " الاشياء التي اختلفوا فيها الكفار. والقصص كلام يتلو بعضه بعضا فيما ينبئ عن المعنى، ومن اجاب غيره عما سأل لم يقل له انه يقص لانه اقتصر على مقدار ما يقتضيه السؤال.

والاختلاف ذهاب كل واحد إلى خلاف ما ذهب اليه صاحبه. والاختلاف ايضا امتناع احد الشيئين أن يسد مسد صاحبه فيما يرجع إلى ذاته. واختلاف بني اسرائيل نحو اختلافهم في المسيح حتى قالت اليهود فيه ما قالت، وكذبت بنبوته.

وقالت النصارى ما قالته من نبوته، ووجوب إلهيته، وكاختلاف اليهود في نسخ الشريعة، فأجازه قوم في غير التوراة وأباه آخرون، فلم يجيزوا النسخ أصلا، واعتقدوا أنه بدأ. وكاختلافهم في المعجز، فقال بعضهم: لا يكون إلا بما لا يدخل تحت مقدور العباد.

وقال آخرون: قد يكون إلا أنه ما يعلم أنه لا يمكن العباد الاتيان به، وكاختلافهم في صفة المبشر به في التوراة، فقال بعضهم: هو يوشع بن نون.

[117]

وقال آخرون: بل هو منتظر لم يأت بعد. وكل ذلك قد دل القرآن على الحق فيه.

وقيل: قد بين القرآن اختلافهم في من سلف من الانبياء.

وقيل: ان بني اسرائيل اختلفوا حتى لعن بعضهم بعضا كالاسماعيلية والعنانية والسامرة. ثم وصف تعالى القرآن ب‍ " انه لهدى ورحمة للمؤمنين " معناه انه بيان للحق فيما وقع الاختلاف فيه من بني اسرائيل وغيرهم إذا رجعوا اليه علموا مفهومه، وانه من عند حكيم، لا يقول إلا بالحق، فالهدى الدلالة على طريق الحق الذي من سلكه اداه إلى الفوز بالنعيم في جنة الخلد، فالقرآن هدى من هذا الوجه، ورحمة للمؤمنين في تأديته إلى ما فيه من مرضات الله تعالى.

ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله فقال * (ان ربك) * يا محمد * (يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم) * أي العزيز في انتقامه من المبطلين العليم بالمحق المبين منهم من المبطل.

وقيل: العليم بصحة ما يقضي به العزيز بمالا يمكن رد قضائه، فهو يقضي بين المختلفين بمالا يمكن أن يرد ولا يلتبس بغير الحق. وفى الآية تسلية للمحقين الذين خولفوا في أمر الدين، لان أمرهم يؤول إلى ان يحكم بينهم رب العالمين بمالا يمكن دفعه ولا تلبيسه.

ثم خاطب بينه صلى الله عليه وآله فقال * (فتوكل على الله) * يا محمد * (انك على الحق المبين) * الظاهر البين في ما تدعو اليه، ثم شبه الكفار بالموتى الذين لا يسمعون ما يقال لهم، وبالصم الذين لا يدركون دعاء من يدعوهم، من حيث انهم لم ينتفعوا بدعائه ولم يصيروا إلى ما دعاهم اليه، فقال * (انك) * يا محمد * (لا تسمع الموتى) * لان ذلك محال * (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولو مدبرين) * أي اعرضوا عن دعائك ولم يلتفتوا اليه ولم يفكروا في ما تدعوهم اليه، فهؤلاء الكفار بترك الفكر في ما يدعوهم

[118]

اليه النبي صلى الله عليه وآله بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وبمنزلة الصم الذين لا يدركون الاصوات.

قوله تعالى: (وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون(81) وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون(82) ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون(83) حتى إذا جاؤا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون(84) ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون(85))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ حمزة " تهدي " بالتاء مفتوحة وبسكون الهاء " العمي " بنصب الياء. ويقف على " تهدي " بالياء.

الباقون " بهاد " بباء مكسورة وبألف بعد الهاء، وخفض الياء من " العمي " على الاضافة في الموضعين. فقراء‌ة حمزة تفيد الفعل المضارع. وقراء‌ة الباقين اسم الفاعل.

يقول الله تعالى لنبيه لست يا محمد تهدي العمي عن ضلالتهم.

والهادي هو الذي يدعو غيره إلى الحق ويرشد اليه.

وقد يدعو بالنطق بأن يقول: هو صواب وقد يدعو اليه بأن يبين أنه صواب، فانه ينبغي أن يعمل عليه ويعتقد صحته.

[119]

والضلالة الذهاب عن طريق الصواب وهو الهلاك بالذهاب عنه.

وإنما شبه الله تعالى الكفار بأنهم عمي، لانهم من حيث لم يهتدوا إلى الحق، ولم يصيروا اليه فكأنهم عمي، وانما نفى أن يهديهم إلى الحق بأن يحملهم عليه او يجبرهم عليه، ولم ينتف أن يكون هاديا لهم بالدعاء اليه، ويبين لهم الحق فيه.

وقوله " ان تسمع إلا من يؤمن بآياتنا " معناه لا تسمع إلا من يطلب الحق بالنظر في آياتنا ولا يلبث أن يسلم، لان الدلائل تظهر له، وعقله يخاصمه حتى يقول بالحق ويعتقده. وانما قال انه يسمع المؤمنين، من حيث أنهم الذين ينتفعون به ويسلمون له.

وقوله " وإذا وقع القول عليهم " قال قتادة: معناه وجب الغضب عليهم.

وقال مجاهد: حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون.

وقيل: معناه إذا وقع القول عليهم بأنهم قد صاروا إلى منزلة من لا يفلح أحد منهم ولا أحد بسببهم، أخذوا حينئذ بمنادي العقاب باظهار البراء‌ة منهم.

وقال ابن عمر، وعطية: إذا لم يأمر الناس بالمعروف وينهوا عن المنكر تخرج الدابة. وقيل: انها تخرج من بين الصفا والمروة.

وروى محمد بن كعب القرطي عن علي (عليه السلام) انه سئل عن الدابة، فقال: (اما والله مالها ذنب وإن لها لحية) وفي هذا القول منه (ع) إشارة إلى انه من ابن آدم.

وقال ابن عباس: دابة من دواب الله لها زغب وريش لها أربعة قوائم.

وقال ابن عمر: انها تخرج حتى يبلغ رأسها الغيم، فيراها جميع الخلق.

ومعنى " تكلمهم " قيل فيه قولان: احدهما - تكلمهم بما يسوؤهم من انهم صائرون إلى النار، من الكلام بلسان الآدميين الذي يفهمونه ويعرفون معناه، فتخاطب واحدا واحدا، فتقول له: يا مؤمن يا كافر.

[120]

وقيل " تكلمهم بأن الناس كانوا باياتنا لا يوقنون " أي بهذا القول. ذكره ابن مسعود.

الثاني - تكلمهم من الكلام. وقيل إنها تكتب على جبين الكافر أنه كافر وعلى جبين المؤمن أنه مؤمن. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله.

ثم قال " ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون " واستدل به قوم على صحة الرجعة في الدنيا، لانه قال: من كل أمة، وهي للتبعيض فدل على ان هناك يوما يحشر فيه قوم دون قوم، لان يوم القيامة يحشر فيه الناس عامة، كما قال " وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا "(1).

ومن حمل الآية على أن المراد باليوم يوم القيامة قال: إن (من) زائدة، والتقدير ويوم نحشر كل أمة فوجا أي فوجا فوجا من الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة " فهم يوزعون " أي يجمعون. وقال ابن عباس: معناه يدفعون. وقيل: يساقون. وقيل: يوقف أولهم على آخرهم.

وقوله " ووقع القول عليهم بما ظلموا " أي صاروا إلى منزلة من لا يفلح احد منهم، ولا احد بسببهم، " فهم " في ذلك الوقت " لا ينطقون " بكلام ينتفعون به. ويجوز أن يكون المراد " لا ينطقون " أصلا لعظم ما يرونه ويشاهدونه من أهوال القيامة. وقرأ اهل الكوفة " تكلمهم أن الناس " بفتح الالف، لان ابن مسعود قرأ " بأن الناس " فلما سقطت الباء نصبوا (أن). الباقون بالكسر على الاستئناف.

وروي عن ابن عباس " تكلمهم " مخففا اي تسمهم وتجرحهم تقول العرب كلمت زيدا إذا جرحته. وقد يقال ايضا بالتشديد من الجراح، ولا يقال في الكلام إلا بالتشديد.

___________________________________

(1) سورة 18 الكهف آية 48

[121]

قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون(86) ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين(87) وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرمر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون(88) من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون(89) ومن جاء بالسيئة فكبت وجوهم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون(90) إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين(91) وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين(92) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون(93))

ثمان آيات بلا خلاف.

[122]

قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم " وكل أتوه " مقصورة على وزن (فلوه) الباقون " آتوه " ممدودة ومضمومة التاء على وزن * (فالوه) * وقرأ اهل الكوفة * (من فزع) * منونا * (يومئذ) * بفتح الميم. الباقون بغير تنوين على الاضافة إلا ورشا فانه نصب الميم من * (يومئذ) * مع الاضافة.

ووجه هذه القراء‌ة انه جعل (يوم) مع (إذ) كالاسم الواحد، لان إضافة (يوم) إلى (إذ) ليست محضة، لان الحروف لا يضاف اليها، ولا إلى الافعال، وانما أجازوا في اسماء الزمان الاضافة إلى الحروف وإلى الافعال نحو: هذا يوم ينفع، لما خص وكثر، وقرأ اهل البصرة وابن كثير وابوبكر إلا يحيى والداجوني عن ابن ذكوان * (يفعلون) * بالياء، الباقون بالتاء.

وقرأ اهل المدينة وابن عامر ويعقوب * (عما تعملون) * بالتاء. الباقون بالياء.

يقول الله تعالى منبها لخلقه على وجه الاعتبار والتنبيه على النظر بالفكر بجعله تعالى الليل ليسكن فيه خلقه، من الحيوان من الحركات، لان من جعل الشئ لما يصلح له من الانتفاع، فانما ذلك باختياره دون الطبع، وما يجري مجراه مما ليس مختار، ففي ذلك بطلان قول كل مخالف فيه.

وقوله * (والنهار مبصرا) * يحتمل أمرين: احدهما - انه جعل النهار ذا إبصار، كما قال * (عيشة راضية) *(1) أي ذات رضا، وكما قال النابغة: كليني لهم يا أمية ناصب(2) أي لهم ذي نصب.

___________________________________

(1) سورة 69 الحاقة آية 21 وسورة 101 الزلزال آية 7.

(2) مر تخريجه في 5 / 95، 329

[123]

الثاني - لانه يريك الاشياء كما يراها من يبصرها بالنور الذي تجلى عنها فقيل هو كقول جرير:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى * ونمت وما ليل المطي بنائم(1)

اي بالذي ينام فيه.

ثم قال * (ان في ذلك لآيات) * يعني دلالات واضحات لقوم يصدقون بالله وبتوحيده.

وقوله * (ويوم ينفخ في الصور) * منصوب بتقدير: واذكر * (يوم ينفخ في الصور) * أي وذلك يوم ينفخ في الصور، يعني قوله * (وقع القول عليهم بما ظلموا.... يوم ينفخ في الصور) * ويجوز أن يكون على حذف الجواب، وتقديره وتكون البشارة الثانية يوم ينفخ في الصور.

وقيل: تقديره ويوم ينفخ في الصور يفزع، لان المعنى إذا نفخ في الصور فزع إلا أنه لما جاء الثاني بالفاء اغنى عن (يفعل) لانها ترتب.

وقال الحسن وقتادة: الصور صور الخلق.

وقال مجاهد: هو قرن كالبوق ينفخ فيه.

وقيل: النفخة الاولى نفخة الفزع. والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين.

وقيل: معنى * (ففزع من في السموات ومن في الارض) * من شدة الاسراع والاجابة، يقال: فزعت اليك في كذا إذا أسرعت إلى ندائه في معونتك. وقيل: هو ضد الامن، وهو الاولى. وقيل: وجه النفخ في الصور أنه على تصور ضرب البوق للاجتماع على المسير إلى أرض الجزاء بالحال التي تعرف في دار الدنيا. ومن ذهب إلى أنه جمع صورة قال: المعنى نفخ الارواح في الاجساد بردها إلى حال الحياة التي كانت عليها.

وقوله * (إلا من شاء الله) * روي في الخبر أن الشهداء من جملة الخلق لا يفزعون ذلك اليوم. وقيل:

___________________________________

(1) مر تخريجه في 5 / 465

[124]

* (إلا من شاء الله) * يعني من الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم. وقيل: اسرافيل هو النافخ في الصور بأمر الله تعالى.

ثم قال * (وكل أتوه داخرين) * معناه إن جميع الخلق جاؤا لله داخرين أي صاغرين. فمن قصر، حمله على انهم اتوه أي جاؤه. ومن مد، حمله على أنهم جايؤه على وزن (فاعلوه). ولفظة (كل) ههنا معرفة، لانها قطعت عن الاضافة، كما قطع قوله * (من قبل ومن بعد) * (؟) إلا أنه لم يبن، لانه قطع عن متمكن التمكن التام. وليس كذلك * (من قبل ومن بعد) * لانه كان ظرفا لا يدخله الرفع.

وقوله * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) * قال ابن عباس: تحسبها قائمة وهي تسير سيرا حثيثا سريعا قال النابغة الجعدي:

ناز عن مثل الطود يحسب أنهم * وقوف لحاح والركاب تهملج(2)

أي من أجل كثرتهم وإلتفافهم يحسب انهم وقوف، فكذلك الجبال.

وقوله * (صنع الله الذي أتقن كل شئ) * نصب (صنع الله) بما دل عليه ما تقدم من الكلام من قوله * (تمر مر السحاب) * فكأنه قال: صنع الله صنع الذي أتقن كل شئ إلا انه اظهر اسم الله في الثاني، لانه لم يذكر في الاول وانما دل عليه. والاتقان حسن إيناق وقوله * (انه خبير بما تفعلون) * أي عليم بأفعالهم فيجازيهم بحسبها على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. ثم بين كيفية الجزاء، فقال * (من جاء بالحسنة) * يعني بالخصلة الحسنة * (فله خير منها) * أي خير يصيبه منها.

وقيل: فله أفضل منها في عظم النفع لان له بقيمتها وبالوعد الذي وعده الله بها كأنه قال: من اتى بالحسنة التي هي الايمان والتوحيد والطاعة لله يوم القيامة يكون آمنا لا يفزع كما يفزع الكفار

___________________________________

(1) سورة 30 الروم آية 4.

(2) تفسير الطبرى 20 / 14

[125]

والفساق. وقيل: هم من فزع الموت في الدنيا آمنون في الآخرة. وقيل: من فزع يوم القيامة في الجنة آمنون.

ثم قال * (ومن جاء بالسيئة) * يعني بالمعصية الكبيرة التي هي مثل الكفر والشرك، وما جرى مجراهما. وقال جميع المفسرين: إن السيئة - ههنا - الشرك، فان الله تعالى يكبه على وجهه في النار. ويقال: كبه واكبه إذا نكسه، ويقال لهم * (هل تجزون) * بهذا العقاب * (إلا) * مكافأة لما كنتم تفعلون وتعملون في دار التكليف من المعاصي.

ثم قال لنبيه * (قل) * لهم * (انما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) * يعني مكة - في قول ابن عباس - وقال غيره: منى، أي أمرت بعبادة رب هذه البلدة لم أؤمر بعبادة سواه * (التي حرمها) * وقيل: معنى (حرمها) عظم حرمتها من أن يسفك دم حرام فيها أو يظلم أحد فيها أو يصطاد صيدها أو يخلى خلاؤها وقيل: حرمها حتى أمن الوحش فيها، فلا يعدو الكلب على الغزال، ولا على الطير ولو خرج من الحرم لنفر أشد النفور، فذكر لهذه الآية في الحرم * (وله كل شئ) * أي يملك كل شئ بالتصرف فيه على وجه يريده ويختاره، وليس لاحد منعه منه * (وأمرت ان أكون من المسلمين) * الذين يسلمون بتوحيده واخلاص العبادة له مستسلمين له * (وأمرت أن أتلو القرآن) * عليكم وادعوكم إلى ما فيه * (فمن اهتدى) * إلى الحق والعمل بما فيه * (فانما يهتدي لنفسه) * لان جزاء ذلك وثوابه يصل اليه دون غيره * (ومن ضل) * عنه وجار ولم يعمل بما فيه ولم يهتد إلى الحق * (فقل) * له يا محمد * (انما أنا من المنذرين) * الذين يخوفون بعقاب الله من معاصيه، ويدعون إلى طاعته.

وفي ذلك دلالة على فساد قول المجبرة الذين يقولون: ان الله يخلق الايمان والهداية والكفر والضلالة. ثم امر نبيه صلى الله عليه وآله بان يقول * (الحمد لله) * اعترافا بنعمه * (سيريكم

[126]

آياته) * يعني دلالاته التي ليس يمكنكم جحدها.

وقال الحسن: معناه يريكم آياته في الآخرة فتعرفون انها على ما قال في الدنيا.

وقيل: يركم في الدنيا ما ترون من الآيات في السماء والارض، فتعرفونها أنها حق. ذكره مجاهد.

ئم قال وليس ربك يا محمد * (بغافل عما تعملون) * من قرأ بالياء يعني عما يفعله المشركون.

ومن قرأ بالتاء، فعلى تقدير: قل لهم: ليس ربكم بغافل عما تعملونه بل هو عالم بجميع ذلك فيجازيكم عليه، وفى ذلك غاية التهديد.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336601

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:45

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net