00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 195 ـ 282 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الرابع )   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

[ 195 ]

( بحث علمي آخر ملحق به )

( في تعدد أزواج النبي )

 ومما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا إن تعدد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره والانقياد لداعى الشهوة وهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يقنع بما شرعه لامته من الاربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة. والمسألة ترتبط بآيات متفرقة كثيرة في القرآن والبحث من كل جهة من جهاتها يجب أن يستوفى عند الكلام على الآية المربوطة بها ولذلك أخرنا تفصيل القول إلى محاله المناسبة له وإنما نشير ههنا إلى ذلك إشارة اجمالية. فنقول من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست على هذه السذاجة أنه صلى الله عليه وآله وسلم بالغ في حب النساء حتى أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص في مدى حياته فهو صلى الله عليه وآله وسلم كان تزوج أول ما تزوج بخديجة رضى الله عنها وعاش معها مقتصرا عليها نيفا وعشرين سنة وهى ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة وشرع في نشر الدعوة وإعلاء كلمة الدين وتزوج بعدها من النساء منهن البكر ومنهن الثيب ومنهن الشابة ومنهن العجوز والمكتهلة وكان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه ومن المعلوم أن هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء والولوع بهن والوله بالقرب منهن فأول هذه السيرة وآخرها يناقضان ذلك. على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم بحبهن والخلاء بهن والصبوة إليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج والدلال حنين إلى الشباب ونضارة السن وطراوة الخلقة وهذه الخواص أيضا لا تنطبق على سيرته صلى الله عليه وآله وسلم فإنه بنى بالثيب بعد البكر وبالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد بنى بام سلمة وهى مسنة وبنى بزينب بنت جحش وسنها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة وام حبيبة وهكذا.

[ 196 ]

وقد خير صلى الله عليه وآله وسلم نساءه بين التمتيع والسراح الجميل وهو الطلاق إن كن يردن الدنيا وزينتها وبين الزهد في الدنيا وترك التزيين والتجمل إن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة يا أيها النبي قل لازواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين امتعكن واسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما: الاحزاب - 29 وهذا المعنى أيضا كما ترى لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن. فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم فيما بين أول أمره وآخر أمره بعوامل اخر غير عامل الشره والشبق والتلهى. فقد تزوج صلى الله عليه وآله وسلم ببعض هؤلاء الازواج اكتسابا للقوة وازديادا للعضد والعشيرة وببعض هؤلاء استمالة للقلوب وتوقيا من بعض الشرور وببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالانفاق وإدارة المعاش وليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الارامل والعجائز من المسكنة والضيعة وببعضها لتثبيت حكم مشروع وإجرائه عملا لكسر السنن المنحطة والبدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش وقد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد وقد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبني وكانت زوجة المدعو ابنا عندهم كزوجة الابن الصلبى لا يتزوج بها الاب فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل فيها الآيات. وكان صلى الله عليه وآله وسلم تزوج لاول مرة بعد وفات خديجة بسودة بنت زمعة وقد توفى عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية وكانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات بالزجر والقتل والاكراه على الكفر. وتزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد وكانت من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى ام المساكين لكثرة برها للفقراء والمساكين وعطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها. وتزوج بام سلمة واسمها هند وكانت من قبل زوجة عبد الله أبى سلمة ابن عمة

[ 197 ]

النبي وأخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة وكانت زاهدة فاضلة ذات دين ورأي فلما توفى عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بنى النضير قتل زوجها يوم خيبر وقتل أبوها مع بنى النظير وكانت في سبى خيبر فاصطفاها وأعتقها وتزوج بها فوقاها بذلك من الذل ووصل سببه ببنى إسرائيل. وتزوج بجويرية واسمها برة بنت الحارث سيد بنى المصطلق بعد وقعة بنى المصطلق وقد كان المسلمون أسروا منهم مئتى بيت بالنساء والذراري فتزوج صلى الله عليه وآله وسلم بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغى أسرهم وأعتقوهم جميعا فأسلم بنو المصطلق بذلك ولحقوا عن آخرهم بالمسلمين وكانوا جما غفيرا وأثر ذلك أثرا حسنا في سائر العرب. وتزوج بميمونة واسمها برة بنت الحارث الهلالية وهى التى وهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة زوجها الثاني أبى رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتزوج بها وقد نزل فيها القرآن. وتزج بام حبيبة واسمها رملة بنت أبى سفيان وكانت زوجة عبيد الله بن جحش وهاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك وثبتت هي على الاسلام وأبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الاسلام يومئذ فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحصنها. وتزوج بحفصة بنت عمر وقد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر وبقيت أرملة وتزوج بعائشة بنت أبى بكر وهى بكر. فالتأمل في هذه الخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره وآخره وما سار به من الزهد وترك الزينة وندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم بمن تزوج بها من النساء لم يكن على حد غيره من عامة الناس أضف إلى ذلك جمل صنائعه صلى الله عليه وآله وسلم في النساء وإحياء ما كانت قرون الجاهلية وأعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة وأخسرته من وزنهن في المجتمع الانساني حتى روى أن آخر ما تكلم به صلى الله عليه وآله وسلم هو توصيتهن لجامعة الرجال قال صلى الله عليه وآله وسلم: الصلاة الصلاة - وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون - الله الله

[ 198 ]

في النساء فإنهن عوان في أيديكم الحديث. وكانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في العدل بين نسائه وحسن معاشرتهن ورعاية جانبهن مما يختص به صلى الله عليه وآله وسلم على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله وكان حكم الزيادة على الاربع كصوم الوصال من مختصاته التى منعت عنها الامة وهذه الخصال وظهورها على الناس هي التى منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربصهم الدوائر به = للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (7) - وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (8) - وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9) - إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (10))

( بيان )

 شروع في تشريع أحكام الارث بعد تمهيد ما مهدت من المقدمات وقد قدم بيان جملى لحكم الارث من قبيل ضرب القاعدة لايذان أن لا حرمان في الارث بعد ثبوت الولادة أو القرابة حرمانا ثابتا لبعض الارحام والقرابات كتحريم صغار الورثة والنساء وزيد مع ذلك في التحذير عن تحريم الايتام من الوراثة فإنه يستلزم أكل سائر الورثة أموالهم ظلما وقد شدد الله في النهى عنه وقد ذكر مع ذلك مسألة رزق

[ 199 ]

اولى القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا قسمة التركة ولم يكونوا ممن يرث تطفلا. قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون الآية النصيب هو الحظ والسهم وأصله من النصب بمعنى الاقامة لان كل سهم عند القسمة ينصب على حدته حتى لا يختلط بغيره والتركة ما بقى من مال الميت بعده كأنه يتركه ويرتحل فاستعماله الاصلى استعمال استعارى ثم ابتذل والاقربون هم القرابة الادنون واختيار هذا اللفظ على مثل الاقرباء واولى القربى ونحوهما لا يخلو من دلالة على أن الملاك في الارث أقربية الميت من الوارث على ما سيجئ البحث عنه في قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا: النساء - 11 والفرض قطع الشئ الصلب وإفراز بعضه من بعض ولذا يستعمل في معنى الوجوب لكون إتيانه وامتثال الامر به مقطوعا معينا من غير تردد والنصيب المفروض هو المقطوع المعين. وفي الآية إعطاء للحكم الكلى وتشريع لسنة حديثة غير مألوفة في أذهان المكلفين فإن حكم الوراثة على النحو المشروع في الاسلام لم يكن قبل ذلك مسبوقا بالمثل وقد كانت العادات والرسوم على تحريم عدة من الوراث عادت بين الناس كالطبيعة الثانية تثير النفوس وتحرك العواطف الكاذبة لو قرع بخلافها أسماعهم. وقد مهد له في الاسلام أولا بتحكيم الحب في الله والايثار الدينى بين المؤمنين فعقد الاخوة بين المؤمنين ثم جعل التوارث بين الاخوين وانتسخ بذلك الرسم السابق في التوارث وانقلع المؤمنون من الانفة والعصبية القديمة ثم لما اشتد عظم الدين وقام صلبه شرع التوارث بين اولى الارحام في حين كان هناك عدة كافية من المؤمنين يلبون لهذا التشريع أحسن التلبية. وبهذه المقدمة يظهر أن المقام مقام التصريح ورفع كل لبس متوهم بضرب القاعدة الكلية بقوله للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون فالحكم مطلق غير مقيد بحال أو وصف أو غير ذلك أصلا كما أن موضوعه أعنى الرجال عام غير مخصص بشئ متصل فالصغار ذووا نصيب كالكبار. ثم قال وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وهو كسابقه عام من غير شائبة تخصيص فيعم جميع النساء من غير تخصيص أو تقييد وقد أظهر في قوله مما ترك

[ 200 ]

الوالدان والاقربون مع أن المقام مقام الاضمار إيفاءا لحق التصريح والتنصيص ثم قال مما قل منه أو كثر زيادة في التوضيح وأن لا مجال للمسامحة في شئ منه لقلة وحقارة ثم قال نصيبا الخ وهو حال من النصيب لما فيه من المعنى المصدرى وهو بحسب المعنى تأكيد على تأكيد وزيادة في التنصيص على أن السهام مقطوعة معينة لا تقبل الاختلاط والابهام. وقد استدل بالآية على عموم حكم الارث لتركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره وعلى بطلان التعصيب في الفرائض. قوله تعالى وإذا حضر القسمة اولوا القربى الخ ظاهر الآية أن المراد من حضورهم القسمة أن يشهدوا قسمة التركة حينما يأخذ الورثة في اقتسامها لا ما ذكره بعضهم أن المراد حضورهم عند الميت حينما يوصى ونحو ذلك وهو ظاهر. وعلى هذا فالمراد من اولى القربى الفقراء منهم ويشهد بذلك أيضا ذكرهم مع اليتامى والمساكين ولحن قوله فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا الظاهر في الاسترحام والاسترفاق ويكون الخطاب حينئذ لاولياء الميت والورثة. وقد اختلف في أن الرزق المذكور في الآية على نحو الوجوب أو الندب وهو بحث فقهى خارج عن وضع هذا الكتاب كما اختلف في أن الآية هل هي محكمة أو منسوخة بآية المواريث مع أن النسبة بين الآيتين ليست نسبة التناقض لان آية المواريث تعين فرائض الورثة وهذه الآية تدل على غيرهم وجوبا أو ندبا في الجملة من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ وخاصة بناءا على كون الرزق مندوبا كما أن الآية لا تخلو من ظهور فيه. قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية الخشية التأثر القلبى مما يخاف نزوله مع شائبة تعظيم وإكبار وسداد القول وسدده كونه صوابا مستقيما. ولا يبعد أن تكون الآية متعلقة نحو تعلق بقوله للرجال نصيب الآية لاشتماله على إرث الايتام الصغار بعمومه فتكون مسوقة سوق التهديد لمن يسلك مسلك تحريم صغار الورثة من الارث ويكون حينئذ قوله وليقولوا قولا سديدا كناية عن اتخاذ

[ 201 ]

طريقة التحريم والعمل بها وهضم حقوق الايتام الصغار والكناية بالقول عن الفعل للملازمة بينهما غالبا شائع في اللسان كقوله تعالى وقولوا للناس حسنا الآية: البقرة - 83 ويؤيده توصيف القول بالسديد دون المعروف واللين ونحوهما فإن ظاهر السداد في القول كونه قابلا للاعتقاد والعمل به لا قابلا لان يحفظ به كرامة الناس وحرمتهم وكيف كان فظاهر قوله الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم أنه تمثيل للرحمة والرأفة على الذرية الضعاف الذين لا ولى لهم يتكفل أمرهم ويذود عنهم الذل والهوان وليس التخويف والتهديد المستفاد من الآية مخصوصا بمن له ذرية ضعفاء بالفعل لمكان لو في قوله لو تركوا ولم يقل لو تركوا ذريتهم الضعاف بل هو تمثيل يقصد به بيان الحال والمراد الذين من صفتهم أنهم كذا أي أن في قلوبهم رحمة إنسانية ورأفة وشفقة على ضعفاء الذرية الذين مات عنهم آباؤهم وهم الايتام والذين من صفتهم كذا هم الناس وخاصة المسلمون المتأدبون بأدب الله المتخلقون بأخلاقه فيعود المعنى إلى مثل قولنا وليخش الناس وليتقوا الله في أمر اليتامى فإنهم كأيتام أنفسهم في أنهم ذرية ضعاف يجب أن يخاف عليهم ويعتنى بشأنهم ولا يضطهدوا ولا يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا من خاف الذل والامتهان فليشتغل بالكسب وكل يخاف ذلك. ولم يؤمر الناس في الآية بالترحم والترؤف ونحو ذلك بل بالخشية واتقاء الله وليس إلا أنه تهديد بحلول ما أحلوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم وأكل مالهم ظلما بايتام أنفسهم بعدهم وارتداد المصائب التى أوردوها عليهم إلى ذريتهم بعدهم. وأما قوله وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا فقد تقدم أن الظاهر أن المراد بالقول هو الجرى العملي ومن الممكن أن يراد به الرأي.

( كلام في انعكاس العمل إلى صاحبه )

 من ظلم يتيما في ماله فإن ظلمه سيعود إلى الايتام من أعقابه وهذا من الحقائق العجيبة القرآنية وهو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أن بين الاعمال الحسنة والسيئة وبين الحوادث الخارجية ارتباطا وقد تقدم بعض الكلام فيه في البحث عن

[ 202 ]

أحكام الاعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب. الناس يتسلمون في الجملة أن الانسان إنما يجنى ثمر عمله وأن المحسن الخير من الناس يسعد في حياته والظلوم الشرير لا يلبث دون أن يذوق وبال عمله وفي القرآن الكريم آيات تدل على ذلك باطلاقها كقوله تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها: حم السجدة - 46 وقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره: الزلزال - 8 وكذا قوله تعالى قال أنا يوسف وهذا أخى قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين: يوسف - 90 وقوله له في الدنيا خزى: الحج - 9 وقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم الآية: الشورى - 30 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الخير والشر من العمل له نوع انعكاس وارتداد إلى عامله في الدنيا. والسابق إلى أذهاننا المأنوسة بالافكار التجربية الدائرة في المجتمع من هذه الآيات أن هذا الانعكاس إنما هو من عمل الانسان إلى نفسه إلا أن هناك آيات دالة على أن الامر أوسع من ذلك وأن عمل الانسان خيرا أو شرا ربما عاد إليه في ذريته وأعقابه قال تعالى وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك: الكهف - 82 فظاهر الآية أن لصلاح أبيهما دخلا فيما أراده الله رحمة بهما وقال تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية. وعلى هذا فأمر إنعكاس العمل أوسع وأعم والنعمة أو المصيبة ربما تحلان بالانسان بما كسبت يدا شخصه أو أيدى آبائه. والتدبر في كلامه تعالى يهدى إلى حقيقة السبب في ذلك فقد تقدم في الكلام على الدعاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب في قوله تعالى وإذا سألك عبادي عنى: البقرة - 186 دلالة كلامه تعالى على أن جميع ما يحل الانسان من جانبه تعالى إنما هو لمسألة سألها ربه وأن ما مهده من مقدمة وداخله من الاسباب سؤال منه لما ينتهى إليه من الحوادث والمسببات قال تعالى يسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن: الرحمن - 29 وقال تعالى وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة

[ 203 ]

الله لا تحصوها: ابراهيم - 34 ولم يقل وإن تعدوه لا تحصوه لان فيما سألوه ما ليس بنعمة والمقام مقام الامتنان بالنعم واللون على كفرها ولذا ذكر بعض ما سألوه وهو النعمة. ثم إن ما يفعله الانسان لنفسه ويوقعه على غيره من خير أو شر يرتضيه لمن أوقع عليه وهو إنسان مثله فليس إلا أنه يرتضيه لنفسه ويسأله لشخصه فليس هناك إلا الانسانية ومن ههنا يتضح للانسان أنه أن احسن لاحد فانما سأل الله ذلك الاحسان لنفسه دعاءا مستجابا وسؤالا غير مردود وإن أساء على أحد أو ظلمه فانما طلب ذلك لنفسه وارتضاه لها وما يرتضيه لاولاد الناس ويتاماهم يرتضيه لاولاد نفسه ويسأله لهم من خير أو شر قال تعالى ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات: البقرة - 148 فان معناه أن استبقوا الخيرات لتكون وجهتكم خيرا. والاشتراك في الدم ووحدة الرحم يجعل عمود النسب وهو العترة شيئا واحدا فأي حال عرضت لجانب من جوانب هذا الواحد وأي نازلة نزلت في طرف من أطرافها فانما عرضت ونزلت على متنه وهو في حساب جميع الاطراف وقد مر شطر من الكلام في الرحم في أول هذه السورة. فقد ظهر بهذا البيان أن ما يعامل به الانسان غيره أو ذرية غيره فلا محيص من أن ينعكس إلى نفسه أو ينقلب إلى ذريته إلا أن يشاء الله وإنما استثنينا لان في الوجود عوامل وجهات غير محصورة لا يحيط بجميعها إحصاء الانسان ومن الممكن أن تجرى هناك عوامل وأسباب لم نتنبه لها أو لم نطلع عليها توجب خلاف ذلك كما يشير إليه بعض الاشارة قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير: الشورى - 30. قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية يقال أكله وأكله في بطنه وهما بمعنى واحد غير أن التعبير الثاني أصرح والآية كسابقتها متعلقة المضمون بقوله للرجال نصيب الآية وهى تخويف وردع للناس عن هضم حقوق اليتامى في الارث. والآية مما يدل على تجسم الاعمال على ما مر في الجزء الاول من هذا الكتاب في

[ 204 ]

قوله تعالى إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما: البقرة - 26 ولعل هذا مراد من قال من المفسرين أن قوله إنما يأكلون في بطونهم نارا كلام على الحقيقة دون المجاز وعلى هذا لا يرد عليه ما أورده بعض المفسرين أن قوله يأكلون اريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله وسيصلون سعيرا عليه وهو فعل دخل عليه حرف الاستقبال فلو كان المراد به حقيقة الاكل ووقته يوم القيامة لكان من اللازم أن يقال سيأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا فالحق أن المراد به المعنى المجازى وأنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه نارا انتهى ملخصا وهو غفلة عن معنى تجسم الاعمال. وأما قوله وسيصلون سعيرا فهو إشارة إلى العذاب الاخروي والسعير من أسماء نار الآخرة يقال صلى النار يصلاها صلى وصليا أي احترق بها وقاسى عذابها.

( بحث روائي )

 في المجمع: في قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان الآية - اختلف الناس في هذه الآية على قولين - أحدهما أنها محكمة غير منسوخة وهو المروى عن الباقر عليه السلام أقول وعن تفسير على بن إبراهيم أنها منسوخة بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم الآية ولا وجه له وقد ظهر في البيان السابق أن الآية بيان كلى لحكم المواريث ولا تنافى بينها وبين سائر آيات الارث المحكمة حتى يقال بانتساخها بها. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن عكرمة في الآية قال نزلت في ام كلثوم وابنة أم كحلة أو ام كحلة - وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الانصار - كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت يا رسول الله - توفى زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها - يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تنكى عدوا - ويكسب عليها ولا تكتسب فنزلت للرجال نصيب الآية أقول وفي بعض الروايات عن ابن عباس أنها نزلت في رجل من الانصار مات وترك ابنتين فجاء ابنا عمه وهما عصبته فقالت امرأته تزوجا بهما وكان بهما دمامة

[ 205 ]

فأبيا فرفعت الامر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت آيات المواريث الرواية ولا بأس بتعدد هذه الاسباب كما مر مرارا. وفي المجمع في قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولوا القربى الآية - اختلف الناس في هذه الآية على قولين - أحدهما أنها محكمة غير منسوخة قال - وهو المروى عن الباقر عليه السلام: وفي نهج البيان للشيباني أنه مروى عن الباقر والصادق عليهما السلام أقول وفي بعض الروايات أنها منسوخة بآية المواريث وقد تقدم فط البيان المتقدم أنها غير صالحة للنسخ. وفي تفسير العياشي عن أبى عبد الله وأبى الحسن عليهما السلام: إن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين - أما إحديهما فعقوبة الآخرة النار وأما الاخرى فعقوبة الدنيا - قوله وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا - خافوا عليهم وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا - قال يعنى بذلك ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى: أقول وروى مثله في الكافي عن الصادق عليه السلام وفي المعاني عن الباقر عليه السلام وفيه عن عبد الاعلى مولى آل سام قال أبو عبد الله عليه السلام مبتدئا: من ظلم سلط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه - قال فذكرت في نفسي فقلت - يظلم هو فيسلط على عقبه وعقب عقبه - فقال لي قبل أن أتكلم إن الله يقول - وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا - خافوا عليهم وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال اتقوا الله في الضعيفين - اليتيم والمرأة أيتمه ثم أوصى به وابتلاه وابتلى به أقول والاخبار في أكل مال اليتيم وأنها كبيرة موبقة من طرق الفريقين كثيرة مستفيضة = يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن

[ 206 ]

نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس من بعد وصية يوصى بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11) - ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم (12) - تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) - ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14)).

[ 207 ]

( بيان )

 

قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين الايصاء والتوصية هو العهد والامر وقال الراغب في مفردات القرآن الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ انتهى. وفي العدول عن لفظ الابناء إلى الاولاد دلالة على أن حكم السهم والسهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة وأما أولاد الاولاد فنازلا فحكمهم حكم من يتصلون به فلبنت الابن سهمان ولابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم كما أن الحكم في أولاد الاخوة والاخوات حكم من يتصلون به وأما لفظ الابن فلا يقضى بنفى الواسطة كما أن الاب أعم من الوالد. وأما قوله تعالى في ذيل الآية آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فسيجئ أن هناك عناية خاصة تستوجب إختيار لفظ الابناء على الاولاد. وأما قوله للذكر مثل حظ الانثيين ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء فكأنه جعل أرث الانثى مقررا معروفا وأخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الاصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولا عليه يعرف بالاضافة إليه ولو لا ذلك لقال للانثى نصف حظ الذكر وإذن لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق معه كما ترى هذا ما ذكره بعض العلماء ولا بأس به وربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلا إلا لسهام النساء وإن صرحت بشئ من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية والآية التى في آخر السورة. وبالجملة قوله للذكر مثل حظ الانثيين في محل التفسير لقوله يوصيكم الله في أولادكم واللام في الذكر والانثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم أنثيين وهذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر وانثى معا فللذكر ضعفا الانثى سهما ولم يقل للذكر مثل حظى الانثى أو مثلا حظ الانثى ليدل الكلام على سهم الانثيين إذا انفردتا بإيثار الايجاز على ما سيجئ.

[ 208 ]

وعلى أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور والاناث كان لكل ذكر سهمان ولكل انثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم. قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ظاهر وقوع هذا الكلام بعد قوله للذكر مثل حظ الانثيين أنه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنه قيل هذا إذا كانوا نساءا ورجالا فإن كن نساءا إلخ وهو شائع في الاستعمال ومنه قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فان احصرتم فما استيسر من الهدى: البقرة - 196 وقوله أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر: البقرة - 184. والضمير في كن راجع إلى الاولاد في قوله في أولادكم وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر والضمير في قوله ترك راجع إلى الميت المعلوم من سياق الكلام. قوله تعالى وإن كانت واحدة فلها النصف الضمير إلى الولد المفهوم من السياق وتأنيثه باعتبار الخبر والمراد بالنصف نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه. ولم يذكر سهم الانثيين فإنه مفهوم من قوله للذكر مثل حظ الانثيين فإن ذكرا وانثى إذا اجتمعا كان سهم الانثى الثلث للآية وسهم الذكر الثلثين وهو حظ الانثيين فحظ الانثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالا وليس في نفسه متعينا للفهم إذ لا ينافى ما لو كان قيل بعده وإن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلا لكن يعينه السكوت عن ذكر هذا السهم والتصريح الذى في قوله فإن كن نساء فوق اثنتين فإنه يشعر بالتعمد في ترك ذكر حظ الانثيين. على أن كون حظهما الثلثين هو الذى عمل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجرى العمل عليه منذ عهده صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهدنا بين علماء الامة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس. وهذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الانثيين قال الكليني رحمه الله في الكافي إن الله جعل حظ الانثيين الثلثين بقوله للذكر مثل حظ الانثيين وذلك أنه إذا ترك الرجل بنتا وابنا فللذكر مثل حظ الانثيين وهو الثلثان فحظ الانثيين الثلثان واكتفا بهذا البيان أن يكون ذكر الانثيين بالثلثين انتهى ونقل مثله عن

[ 209 ]

أبي مسلم المفسر أنه يستفاد من قوله تعالى للذكر مثل حظ الانثيين وذلك أن الذكر مع الانثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الانثيين انتهى وإن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفا فليتأمل فيه. وهناك وجوه أخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم إن المراد بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين الاثنتان وما فوقهما فهذه الجملة تتضمن بيان حظ الانثيين والنساء فوق اثنتين جميعا ومثل قول بعضهم أن حكم البنتين ههنا معلوم بالقياس إلى حكم الاختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك مما يجعل عن أمثالها كلامه تعالى. قوله تعالى ولابويه لكل واحد منهما السدس إلى قوله فلامه السدس في عطف الابوين في الحكم على الاولاد دلالة على أن الابوين يشاركان الاولاد في طبقتهم وقوله وورثه أبواه أي انحصر الوارث فيهما وفي قوله فإن كان له إخوة الخ بعد قوله فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه دلالة على أن الاخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الابناء والبنات لا ترث مع وجودهم غير أن الاخوة تحجب الام عن الثلث. قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين أما الوصية فهى التى تندب إليها قوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية " البقرة - 180 ولا ينافي تقدمها في الآية على الدين ما ورد في السنة أن الدين مقدم على الوصية لان الكلام ربما يقدم فيه غير الاهم على الاهم لان الاهم لمكانته وقوة ثبوته ربما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد والتشديد ومنه التقديم وعلى هذا فقوله أو دين في مقام الاضراب والترقى طبعا. وبذلك يظهر وجه توصيف الوصية بقوله يوصى بها ففيه دلالة على التأكيد ولا يخلو مع ذلك من الاشعار بلزوم إكرام الميت ومراعاة حرمته فيما وصى به كما قال تعالى فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه الآية: البقرة - 181. قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا الخطاب للورثة أعنى لعامة المكلفين من حيث إنهم يرثون أمواتهم وهو كلام ملقى للايماء

[ 210 ]

إلى سر اختلاف السهام في وراثة الآباء والابناء ونوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان لا تدرون وأمثال هذه التعبيرات شائعة في اللسان. على أنه لو كان الخطاب لغير الورثة أعنى للناس من جهة أنهم سيموتون ويورثون آباءهم وأبناءهم لم يكن وجه لقوله أقرب لكم نفعا فإن الظاهر أن المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث وهو إنما يعود إلى الورثة دون الميت. وتقديم الآباء على الابناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعا من الابناء كما في قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله: البقرة - 158 وقد مرت الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أبدء بما بدء الله الحديث. والامر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم واعتبار العواطف الانسانية فإن الانسان أرأف بولده منه بوالديه وهو يرى بقاء ولده بقاءا لنفسه دون بقاء والديه فأباء الانسان أقوى ارتباطا وأمس وجودا به من أبنائه وإذا بنى الانتفاع الارثي على هذا الاصل كان لازمه أن يذهب الانسان إذا ورث أباه مثلا بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلا وإن كان ربما يسبق إلى الذهن البدوى أن يكون الامر بالعكس. وهذه الآية أعنى قوله آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا من الشواهد على أنه تعالى بنى حكم الارث على أساس تكويني خارجي كسائر الاحكام الفطرية الاسلامية. على أن الآيات المطلقة القرآنية الناظرة إلى أصل التشريع أيضا كقوله فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: الروم - 30 تدل على ذلك وكيف يتصور مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزامية وفرائض غير متغيرة وليس لها أصل في التكوين في الجملة. وربما يمكن أن يستشم من الآية أعنى قوله آباؤكم وأبناؤكم إلخ تقدم أولاد الاولاد على الاجداد والجدات فإن الاجداد والجدات لا يرثون مع وجود الاولاد وأولاد الاولاد. قوله تعالى فريضة من الله الخ الظاهر أنه منصوب بفعل مقدر والتقدير خذوا أو ألزموا ونحو ذلك وتأكيد بالغ أن هذه السهام المذكورة قدمت إليكم وهي مفرزة

[ 211 ]

معينة لا تتغير عما وضعت عليه. وهذه الآية متكفلة لبيان سهام الطبقة الاولى وهى الاولاد والاب والام على جميع تقاديرها إما تصريحا كسهم الاب والام وهو السدس لكل واحد منهما مع وجود الاولاد والثلث أو السدس للام مع عدمهم على ما ذكر في الآية وكسهم البنت الواحدة وهو النصف وسهم البنات إذا تفردن وهو الثلثان وسهم البنين والبنات إذا اجتمعوا وهو للذكر مثل حظ الانثيين ويحلق بها سهم البنتين وهو الثلثان كما تقدم. وإما تلويحا كسهم الابن الواحد فانه يرث جميع المال لقوله للذكر مثل حظ الانثيين وقوله في البنت وإن كانت واحدة فلها النصف وكذا الابناء إذا تفردوا لما يفهم من قوله للذكر مثل حظ الانثيين أن الابناء متساوون في السهام وأمر الآية في إيجازها عجيب. واعلم أيضا أن مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال وإمتاع الورثة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين سائر الناس وقد تقدم نظير هذا الاطلاق أو العموم في قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب الآية وما ربما قيل إن خطابات القرآن العامة لا تشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجريانها على لسانه فهو مما لا ينبغى أن يصغى إليه. نعم هاهنا نزاع بين أهل السنة والشيعة في أن النبي هل يورث أو أن ما تركه صدقة ومنشأه الرواية التى رواها أبو بكر في قصة فدك والبحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب ولذلك نرى التعرض له هاهنا فضلا فليراجع محله المناسب له. قوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم إلى قوله توصون بها أو دين المعنى ظاهر وقد استعمل النصف بالاضافة فقيل نصف ما ترك والربع بالقطع فقيل ولهن الربع مما تركتم فإن القطع عن الاضافة يستلزم التتميم بمن ظاهرة أو مقدرة ومن هذه تفيد معنى الاخذ والشروع من الشئ وهذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشئ المبتدء منه وكالمستهلك فيه وهذا إنما يناسب ما إذا كان المدخول قليلا أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدء منه كالسدس والربع

[ 212 ]

والثلث من المجموع دون مثل النصف والثلثين ولذا قال تعالى السدس مما ترك وقال فلامه الثلث وقال ولكم الربع بالقطع عن الاضافة في جميع ذلك وقال ولكم نصف ما ترك وقال فلهن ثلثا ما ترك بالاضافة وقال فلها النصف أي نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه. قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الاحاطة ومنه الاكليل لاحاطته بالرأس ومنه الكل بضم الكاف لاحاطته بالاجزاء ومنه الكل بفتح الكاف لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كل عليه قال الراغب الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة قال وروى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الكلالة فقال من مات وليس له ولد ولا والد فجعله اسما للميت وكلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا انتهى. اقول وعلى هذا فلا مانع من كون كان ناقصة ورجل اسمها ويورث وصفا للرجل وكلالة خبرها والمعنى وإن كان الميت كلالة للوارث ليس أبا له ولا ابنا ويمكن أن يكون كان تامة ورجل يورث فاعله وكلالة مصدرا وضع موضع الحال ويؤول المعنى أيضا إلى كون الميت كلالة للورثة وقال الزجاج على ما نقل عنه من قرأ يورث بكسر الراء فكلالة مفعول ومن قرأ يورث بفتح الراء فكلالة منصوب على الحال. وقوله غير مضار منصوب على الحال والمضارة هو الاضرار وظاهره أن المراد به الاضرار بالدين من قبل الميت كأن يعتمل بالدين للاضرار بالورثة وتحريمهم الارث أو المراد المضارة بالدين كما ذكروا بالوصية بما يزيد على ثلث المال. قوله تعالى تلك حدود الله إلى آخر الآيتين الحد هو الحاجز بين الشيئين الذى يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وارتفاع التمايز بينهما كحد الدار والبستان والمراد بها أحكام الارث والفرائض المبينة وقد عظم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته وإطاعة رسوله فيها والعذاب الخالد المهين على المعصية

( كلام في الارث على وجه كلي )

 هاتان الآيتان اعني قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم إلى آخر الآيتين والآية

[ 213 ]

التى في آخر السورة يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى آخر الآية مع قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان الآية ومع قوله تعالى واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله: الاحزاب - 6 الانفال - 75 خمس آيات أو ستة هي الاصل القرآني للارث في الاسلام والسنة تفسرها أوضح تفسير وتفصيل. والكليات المنتزعة المستفادة منها التى هي الاصل في تفاصيل الاحكام امور. منها ما تقدم في قوله آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ويظهر منها أن للقرب والبعد من الميت تأثيرا في باب الارث وإذا ضمت الجملة إلى بقية الآية أفادت أن ذلك مؤثر في زيادة السهم وقلته وعظمه وصغره وإذا ضمت إلى قوله تعالى واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أفادت أن الاقرب نسبا في باب الارث يمنع الابعد. فأقرب الاقارب إلى الميت الاب والام والابن والبنت إذ لا واسطة بينهم وبين الميت والابن والبنت يمنعان أولاد أنفسهما لانهم يتصلون به بواسطتهم فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها. وتتلوها المرتبة الثانية وهم إخوة الميت وأخواته وجده وجدته فإنهم يتصلون بالميت بواسطة واحدة وهى الاب أو الام وأولاد الاخ والاخت يقومون مقام أبيهم وامهم وكل بطن يمنع من بعده من البطون كما مر. وتتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميت وأخواله وعماته وخالاته فإن بينهم وبين الميت واسطتين وهما الجد أو الجدة والاب أو الام والامر على قيام ما مر. ويظهر من مسألة القرب والبعد المذكورة أن ذا السببين مقدم على ذى السبب الواحد ومن ذلك تقدم كلالة الابوين على كلالة الاب فلا ترث معها وأما كلالة الام فلا تزاحمها كلالة الابوين. ومنها أنه قد اعتبر في الوراث تقدم وتأخر من جهة اخرى فإن السهام ربما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عين له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه ومثله الزوجة في ربعها وثمنها

[ 214 ]

وكالام تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس والاب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد وعدمه ومنهم من عين له سهم ثم إذا زاحمه آخر سكت عنه ولم يذكر له سهم بعينه كالبنت والبنات والاخت والاخوات يذهبن بالنصف والثلثين وقد سكت عن سهامهم عند الزحام ويستفاد منه أن اولئك المقدمين لا يزاحمون ولا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الاصل وإنما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام. ومنها أن السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج وأخوه وأخوات من كلالة الابوين فهناك نصف وثلثان وهو زائد على مخرج المال وكذا لو فرض أبوان وبنتان وزوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنها سدسان وثلثان وربع. وكذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحد أو بنتان فقط وهكذا والسنة المأثورة التى لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أنه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الذين لم يعين لهم إلا سهم واحد وهم البنات والاخوات دون غيرهم وهو الاب والام والزوج الذين عين الله فرائضهما بحسب تغير الفروض وكذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يرد الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت وأب فللاب السدس وللبنت نصف المال بالفريضة والباقى بالرد. وقد سن عمر بن الخطاب أيام خلافته في صورة زيادة السهام العول وعمل الناس في الصدر الاول في صورة زيادة التركة بالتعصيب وسيجئ الكلام فيهما في البحث الروائي الآتى إن شاء الله تعالى. ومنها أن التأمل في سهام الرجال والنساء في الارث يفيد أن سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلا في الابوين فإن سهم الام قد يربو على سهم الاب بحسب الفريضة ولعل تغليب جانب الام على جانب الاب أو تسويتهما لكونها في الاسلام أمس رحما بولدها ومقاساتها كل شديدة في حمله ووضعه وحضانته وتربيته قال تعالى ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته امه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا: الاحقاف - 15 وخروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حد المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعا.

[ 215 ]

وأما كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلا وكون الانفاق اللازم على عهدته قال تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم: النساء - 34 والقوام من القيام وهو إدارة المعاش والمراد بالفضل هو الزيادة في التعقل فإن حياته حياة تعقلية وحياة المرأة إحساسية عاطفية وإعطاء زمام المال يدا عاقلة مدبرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يدا ذات إحساس عاطفي وهذا الاعطاء والتخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالى يكون تدبير ثلثى الثروة الموجودة إلى الرجال وتدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقل على تدبير الاحساس والعواطف فيصلح أمر المجتمع وتسعد الحياة. وقد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف وعندها الثلث الذى تتملكها وبيدها أمر ملكه ومصرفه. وحاصل هذا الوضع والتشريع العجيب أن الرجل والمرأة متعاكسان في الملك والمصرف فللرجل ملك ثلثى ثروة الدنيا وله مصرف ثلثها وللمرأة ملك ثلث الثروة ولها مصرف ثلثيها وقد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقل على روح الاحساس والعواطف في الرجل والتدبير المالى بالحفظ والتبديل والانتاج والاسترباح أنسب وأمس بروح التعقل وغلبة العواطف الرقيقة والاحساسات اللطيفة على روح التعقل في المرأة وذلك بالمصرف أمس وألصق فهذا هو السر في الفرق الذى اعتبره الاسلام في باب الارث والنفقات بين الرجال والنساء. وينبغى أن يكون زيادة روح التعقل بحسب الطبع في الرجل ومزيته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الذى ذكره الله سبحانه في قوله عز من قائل الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية دون الزيادة في البأس والشدة والصلابة فإن الغلظة والخشونة في قبيل الرجال وإن كانت مزية وجودية يمتاز بها الرجل من المرأة وتترتب عليها في المجتمع الانساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع والحفظ والاعمال الشاقة وتحمل الشدائد والمحن والثبات والسكينة في الهزاهز والاهوال وهذه شؤون ضرورية في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.

[ 216 ]

لكن النساء أيضا مجهزات بما يقابلها من الاحساسات اللطيفة والعواطف الرقيقة التى لا غنى للمجتمع عنها في حياته ولها آثار هامة في أبواب الانس والمحبة والسكن والرحمة والرأفة وتحمل أثقال التناسل والحمل والوضع والحضانة والتربية والتمريض وخدمة البيوت ولا يصلح شأن الانسان بالخشونة والغلظة لو لا اللينة والرقة ولا بالغضب لو لا الشهوة ولا أمر الدنيا بالدفع لو لا الجذب. وبالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل والمرأة يتعادل بهما كفتا الحياة في المجتمع المختلط المركب من القبيلين وحاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم (1) ولا يظلم ربك أحدا (2) وهو القائل بعضكم من بعض: آل عمران - 195 وقد أشار إلى هذا الالتيام والبعضية بقوله في الآية بما فضل الله بعضهم على بعض. وقال أيضا ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ؟ ؟ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون: الروم - 21 فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف الانسان وهو الرجل بقرينة المقابلة بالانتشار وهو السعي في طلب المعاش وإليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسل إلى القوة والشدة حتى ما في المغالبات والغزوات والغارات ولو كان للانسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكر وآخر يفر. لكن الله سبحانه خلق النساء وجهزهن بما يوجب أن يسكن اليهن الرجال وجعل بينهم مودة ورحمة فاجتذبن الرجال بالجمال والدلال والمودة والرحمة فالنساء هن الركن الاول والعامل الجوهرى للاجتماع الانساني. ومن هنا ما جعل الاسلام الاجتماع المنزلى وهو الازدواج هو الاصل في هذا الباب قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 فبدأ بأمر ازدواج الذكر والانثى

_________________________________

(1) سورة النور: 50. (2) سورة الكهف 49.

[ 217 ]

وظهور التناسل بذلك ثم بنى عليه الاجتماع الكبير المتكون من الشعوب والقبائل. ومن ذيل الآية يظهر أن التفضيل المذكور في قوله الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية إنما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيوية أعنى المعاش أحسن تنظيم ويصلح به حال المجتمع إصلاحا جيدا وليس المراد به الكرامة التى هي الفضيلة الحقيقية في الاسلام وهى القربى والزلفى من الله سبحانه فإن الاسلام لا يعبأ بشئ من الزيادات الجسمانية التى لا يستفاد منها إلا للحياة المادية وإنما هي وسائل يتوسل بها لما عند الله. فقد تحصل من جميع ما قدمنا أن الرجال فضلوا على النساء بروح التعقل الذى أوجب تفاوتا في أمر الارث وما يشبهه لكنها فضيلة بمعنى الزيادة وأما الفضيلة بمعنى الكرامة التى يعتنى بشأنها الاسلام فهى التقوى أينما كانت

( بحث روائي )

 في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في سننه من طرق جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين - فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه - ثم رش على فأفقت فقلت ما تأمرني أن أصنع في مالى يا رسول الله - فنزلت يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين. أقول قد تقدم مرارا أن أسباب النزول المروية لا تأبى أن تتعدد وتجتمع عدة منها في آية ولا تنافى عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها ولا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضر بالرواية ما فيها من قول جابر ما تأمرني أن أصنع بمالى يا رسول الله فنزلت الخ مع أن قسمة المال لم يكن عليه حتى يجاب بالآية وأعجب منه ما رواه أيضا عن عبد بن حميد والحاكم عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني وأنا مريض - فقلت كيف اقسم مالى بين ولدى - فلم يرد على شيئا ونزلت يوصيكم الله في أولادكم

[ 218 ]

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى قال ": كان أهل الجاهلية لا يورثون الجوارى ولا الضعفاء من الغلمان - لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال - فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر - وترك امرأة له يقال لها ام كحة - وترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله - فشكت ام كحة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فأنزل الله هذه الآية فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك - وإن كانت واحدة فلها النصف ثم قال في ام كحة - ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن وفيه أيضا عنهما عن ابن عباس قال ": لما نزلت آية الفرائض - التى فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والانثى والابوين - كرهها الناس أو بعضهم وقالوا - تعطى المرأة الربع أو الثمن وتعطى الابنة النصف - ويعطى الغلام الصغير - وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة - وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية - لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الاكبر فالاكبر أقول وكان منه التعصيب وهو إعطاء الميراث عصبة الاب إذا لم يترك الميت ابنا كبيرا يطيق القتال وقد عمل به أهل السنة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب السهام التركة وربما وجد شئ من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيت عليهم السلام بنفى التعصيب وأن الزائد على الفرائض يرد على من ورد عليه النقص وهم الاولاد والاخوة من الابوين أو الاب وإلى الاب في بعض الصور والذى يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مر. وفيه أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال ": أول من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه وركب بعضها بعضا - قال والله ما أدرى كيف أصنع بكم - والله ما أدرى أيكم قدم الله وأيكم أخر - وما أجد في هذا المال شيئا أحسن من ان اقسمه عليكم بالحصص - ثم قال ابن عباس وأيم الله - لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة - فقيل له وأيها قدم الله قال - كل فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلا إلى فريضة - فهذا ما قدم الله - وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقى - فتلك التى أخر الله فالذي قدم كالزوجين والام - والذى أخر كالاخوات والبنات - فإذا اجتمع من قدم الله وأخر بدئ بمن قدم فاعطي حقه كاملا - فإن بقى شئ كان

[ 219 ]

لهن وإن لم يبق شئ فلا شئ لهن وفيه أيضا أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال ": أ ترون الذى أحصى رمل عالج عددا - جعل في المال نصفا وثلثا وربعا - إنما هو نصفان وثلاثة أثلاث وأربعة أرباع وفيه أيضا عنه عن عطاء قال ": قلت لابن عباس - إن الناس لا يأخذون بقولى ولا بقولك - ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثا على ما تقول - قال فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن - ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا أقول وهذا المعنى منقول عن ابن عباس من طرق الشيعة أيضا كما يأتي. في الكافي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض من المواريث - فقال ابن عباس سبحان الله العظيم - أترون الذى أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا - فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث - فقال له زفر بن أوس البصري - يا أبا العباس فمن أول من أعال هذه الفرائض - فقال عمر بن الخطاب لما التفت عنده الفرائض - ودفع بعضها بعضا قال والله ما أدرى أيكم قدم الله وأيكم أخر - وما أجد شيئا أوسع من أن اقسم عليكم هذا المال بالحصص - وأدخل على كل ذى حق حقه فادخل عليه من عول الفرائض - وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت الفريضة فقال له زفر ابن أوس وأيها قدم وأيها أخر - فقال كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة - فهذا ما قدم الله وأما ما أخر الله - فكل فريضة إذا زالت عن فرضها - لم يكن لها إلا ما بقى فتلك التى أخر - فأما التى قدم فالزوج له النصف - فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شئ - و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شئ - والام لها الثلث - فإذا زالت عنه صارت إلى السدس ولا يزيلها عنه شئ - فهذه الفرائض التى قدم الله عز وجل - وأما التى أخر ففريضة البنات والاخوات لها النصف والثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقى - فتلك التى أخر الله فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدء بما قدم الله - فاعطى حقه كاملا - فإن بقى شئ كان لمن أخر وإن لم يبق شئ فلا شئ له - فقال له زفر فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر فقال هيبته

[ 220 ]

اقول وهذا القول من ابن عباس مسبوق بقول على عليه السلام بنفى العول وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام كما يأتي. في الكافي عن الباقر عليه السلام في حديث قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول - إن الذى أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو تبصرون وجهها لم تجز ستة أقول في الصحاح إن عالج موضع بالبادية به رمل وقوله عليه السلام إن السهام لا تعول على ستة أي لا تميل على الستة حتى تغيرها إلى غيرها والستة هي السهام المصرحة بها في الكتاب وهى النصف والثلث والثلثان والربع والسدس والثمن. وفيه عن الصادق عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: الحمد لله الذى لا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم - ثم ضرب بإحدى يديه على الاخرى - ثم قال يا أيتها الامة المتحيرة بعد نبيها - لو كنتم قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله - وجعلتم الولاية والوراثة حيث جعلها الله ما عال ولي الله - ولا عال سهم من فرائض الله - ولا اختلف اثنان في حكم الله - ولا تنازعت الامة في شئ من أمر الله - إلا وعند على علمه من كتاب الله - فذوقوا وبال أمركم وما فرطتم فيما قدمت أيديكم - وما الله بظلام للعبيد وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون أقول وتوضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مر أن الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ست النصف والثلثان والثلث والسدس والربع والثمن وهذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنه قد يجتمع النصف والسدسان والربع في الطبقة الاولى كبنت وأب وأم وزوج فتزيد السهام على الاصل وكذا الثلثان والسدسان والربع كبنتين وأبوين وزوج فتتزاحم وكذلك يجتمع النصف والثلث والربع والسدس في الطبقة الثانية كأخت وجدين للاب والام وزوجة وكذا الثلثان والثلث والربع والسدس كأختين وجدين وزوج. فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول وإن حفظنا فريضة الابوين والزوجين وكلالة الام وهى الثلث والسدس والنصف والربع والثمن عن ورود النقص عليها لان الله عين هذه السهام ولم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت والاخت الواحدة لابوين أو لاب فما زادت وبخلاف سهام الذكر والانثى عند

[ 221 ]

الوحدة والكثرة ورد النقص دائما على الاولاد والاخوة والاخوات لما مر. وأما كيفية الرد فليراجع فيها إلى جوامع الحديث وكتب الفقه. وفي الدر المنثور أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت: أنه كان يحجب الام بالاخوين فقالوا له - يا أبا سعيد إن الله يقول فإن كان له إخوة - وأنت تحجبها بأخوين - فقال إن العرب تسمى الاخوين إخوة اقول وهو المروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وإن كان المعروف أن الاخوة جمع الاخ ولا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: لا يحجب الام عن الثلث - إلا أخوان أو أربع أخوات لاب وام أو لاب أقول والاخبار في ذلك كثيرة وأما الاخوة لام فإنهم يتقربون بالام وهى بوجودها تمنعهم وفي أخبار الفريقين أن الاخوة يحجبون الام ولا يرثون لوجود من يتقدم عليهم في الميراث وهو الابوان فحجب الاخوة الام مع عدم إرثهم إنما هو نوع مراعاة لحال الاب من حيث رد الزائد على الفريضة إليه ومنه يعلم وجه عدم حجب الاخوة للام فإنهم ليسوا عالة للاب. وفي المجمع: في قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين - عن أمير المؤمنين عليه السلام إنكم تقرؤون في هذه الآية الوصية قبل الدين - وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدين قبل الوصية: أقول ورواه السيوطي في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع والتفاسير وفي الكافي: في معنى الكلالة عن الصادق عليه السلام - من ليس بوالد ولا ولد وفيه عنه عليه السلام: في قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة الآية إنما عنى بذلك الاخوة والاخوات من الام خاصة أقول والاخبار في ذلك كثيرة وقد رواها أهل السنة وقد استفاضت الروايات بذلك وأن حكم كلالة الاب والابوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية.

[ 222 ]

ومن الشواهد على ذلك أن الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد ومن المستفاد من سياق الآيات وذكر الفرائض أنه تعالى يرجح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما يقرب من ذلك مهما أمكن والكلالة إنما يتقرب إلى الميت من جهة الام والاب أو أحدهما فالتفاوت المراعى في جانب الاب والام يسرى إليهم فيترجح لا محالة فرائض كلالة الابوين أو الاب على كلالة الام ويكشف بذلك أن القليل لكلالة الام والكثير لغيره. وفي المعاني بإسناده إلى محمد بن سنان: أن أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله - علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث - لان المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يعطى - فلذلك وفر على الرجال - وعلة اخرى في إعطاء الذكر مثلى ما تعطى الانثى - لان الانثى من عيال الذكر إن احتاجت - وعليه أن يعولها وعليه نفقتها - وليس على المرأة أن تعول الرجل - ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر على الرجال لذلك - وذلك قول الله عز وجل الرجال قوامون على النساء - بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم وفي الكافي بإسناده عن الاحول قال قال ابن أبى العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا ويأخذ الرجال سهمين - فذكر ذلك بعض أصحابنا لابي عبد الله عليه السلام - فقال إن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة فإنما ذلك على الرجال - فلذلك جعل للمرأة سهما واحدا وللرجل سهمين أقول والروايات في هذا المعنى كثيرة وقد مر دلالة الكتاب أيضا على ذلك

( بحث علمي في فصول )

 1 - ظهور الارث كأن الارث أعنى تملك بعض الاحياء المال الذى تركه الميت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الانساني وقد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الامم والملل الحصول على مبدأ حصوله ومن طبيعة الامر أيضا ذلك فإنا نعلم بالتأمل في طبيعة الانسان الاجتماعية أن المال وخاصة لو كان مما لا يد عليه يحن

[ 223 ]

إليه الانسان ويتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه وحيازته وخاصة فيما لا مانع عنه من دؤوبه الاولية القديمة والانسان في ما كونه من مجتمعه همجيا أو مدنيا لا يستغنى عن اعتبار القرب والولاية المنتجين للاقربية والاولوية بين أفراد المجتمع الاعتبار الذى عليه المدار في تشكل البيت والبطن والعشيرة والقبيلة ونحو ذلك فلا مناص في المجتمع من كون بعض الافراد أولى ببعض كالولد بوالديه والرحم برحمه والصديق بصديقه والمولى بعبده وأحد الزوجين بالآخر والرئيس بمرؤوسه حتى القوى بالضعيف وإن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافا شديدا يكاد لا تناله يد الضبط. ولازم هذين الامرين كون الارث دائرا بينهم من أقدم العهود الاجتماعية. 2 - تحول الارث تدريجيا: لم تزل هذه السنة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الانسانية تتحول من حال إلى حال وتلعب به يد التطور والتكامل منذ أول ظهورها غير أن الامم الهمجية لما لم تستقر على حال منتظم تعسر الحصول في تواريخهم على تحوله المنتظم حصولا يفيد وثوقا به. والقدر المتيقن من أمرهم أنهم كانوا يحرمون النساء والضعفاء الارث وإنما كان يختص بالاقوياء وليس إلا لانهم كانوا يعاملون مع النساء والضعفاء من العبيد والصغار معاملة الحيوان المسخر والسلع والامتعة التى ليس لها إلا أن ينتفع بها الانسان دون أن تنتفع هي بالانسان وما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعية التى لا تتجاوز النوع الانساني. ومع ذلك كان يختلف مصداق القوى في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة وتارة رئيس البيت وتارة اخرى أشجع القوم وأشدهم بأسا وكان ذلك يوجب طبعا تغير سنة الارث تغيرا جوهريا. ولكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الانسانية من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغير والتبدل حتى أن الملل المتمدنة التى كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجرى مجراها من السنن المعتادة الملية كان شأنهم ذلك كالروم واليونان وما عمر قانون من قوانين الارث الدائرة بين الامم حتى اليوم مثل ما عمرت سنة الارث الاسلامية فقد حكمت في الامم الاسلامية منذ أول ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرنا.

[ 224 ]

3 - الوراثة بين الامم المتمدنة من خواص الروم أنهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالا مدنيا يفصله عن المجتمع العام ويصونه عن نفوذ الحكومة العامة في جل ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعية فكان يستقل في الامر والنهى والجزاء والسياسة ونحو ذلك. وكان رب البيت هو معبودا لاهله من زوجة وأولاد وعبيد وكان هو المالك من بينهم ولا يملك دونه أحد ما دام أحد أفراد البيت وكان هو الولى عليهم القيم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم وكان هو يعبد رب البيت السابق من أسلافه. وإذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الابناء فيما ملكه بإذن رب البيت اكتسابا أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقا وأذن لها رب البيت أو بعض الاقارب فإنما كان يرثه رب البيت لانه مقتضى ربوبيته وملكه المطلق للبيت وأهله. وإذا مات رب البيت فإنما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممن في وسعه ذلك وورثه الابناء فإن انفصلوا وأسسوا بيوتا جديدة كانوا أربابها وإن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الرب الجديد أخيهم مثلا هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته وولايته المطلقة. وكذا كان يرثه الادعياء لان الادعاء والتبنى كان دائرا عندهم كما بين العرب في الجاهلية. وأما النساء كالزوجة والبنت والام فلم يكن يرثن لئلا ينتقل مال البيت بانتقالهن إلى بيوت اخرى بالازدواج فإنهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر وهذا هو الذى ربما ذكره بعضهم فقال إنهم كانوا يقولون بالملكية الاشتراكية الاجتماعية دون الانفرادية الفردية وأظن أن مأخذه شئ آخر غير الملك الاشتراكي فإن الاقوام الهمجية المتوحشة أيضا من أقدم الازمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدوية فيما حازوه من المراعى والاراضي الخصبة وحموه لانفسهم وكانوا يحاربون عليه ويدفعون عن محمياتهم وهذا نوع من الملك العام الاجتماعي الذى مالكه هيئة المجتمع الانساني دون أفراده وهو مع ذلك لا ينفى أن يملك كل فرد من المجتمع شيئا من هذا الملك العام اختصاصا.

[ 225 ]

وهذا ملك صحيح الاعتبار غير أنهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره والاستدرار منه وقد احترمه الاسلام كما ذكرناه فيما تقدم قال تعالى خلق لكم ما في الارض جميعا: البقرة - 29 فالمجتمع الانساني وهو المجتمع الاسلامي ومن هو تحت ذمته هو المالك لثروة الارض بهذا المعنى ثم المجتمع الاسلامي هو المالك لما في يده من الثروة ولذلك لا يرى الاسلام إرث الكافر من المسلم. ولهذا النظر آثار ونماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملك الاجانب شيئا من الاراضي والاموال غير المنقولة من أوطانهم ونحو ذلك. ولما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال وتمام في نفسه كان قد استقر فيه هذه العادة القديمة المستقرة في الطوائف والممالك المستقلة. وكان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنة في بيوت الروم مع سنتهم في التزويج من منع الازدواج بالمحارم أن القرابة انقسمت عندهم قسمين أحدهما القرابة الطبيعية وهى الاشتراك في الدم وكان لازمها منع الازدواج في المحارم وجوازه في غيرهم والثاني القرابة الرسمية وهى القانونية ولازمها الارث وعدمه والنفقة والولاية وغير ذلك فكان الابناء أقرباء ذوى قرابة طبيعية ورسمية معا بالنسبة إلى رب البيت ورئيسه وفي ما بينهم أنفسهم وكانت النساء جميعا ذوات قرابة طبيعية لا رسمية فكانت المرة لا ترث والدها ولا ولدها ولا أخاها ولا بعلها ولا غيرهم هذه سنة الروم القديم. وأما اليونان فكان وضعهم القديم في تشكل البيوت قريبا من وضع الروم القديم وكان الميراث فيهم يرثه أرشد الاولاد الذكور ويحرم النساء جميعا من زوجة وبنت واخت ويحرم صغار الاولاد وغيرهم غير أنهم كالروميين ربما كانوا يحتالون لايراث الصغار من أبنائهم ومن أحبوها وأشفقوا عليها من زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم بحبل متفرقة تسهل الطريق لامتاعهن بشئ من الميراث قليل أو كثير بوصية أو نحوها وسيجئ الكلام في أمر الوصية. وأما الهند ومصر والصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقا

[ 226 ]

وحرمان ضعفاء الاولاد أو بقاؤهم تحت الولاية والقيمومة قريبا مما تقدم من سنة الروم واليونان. وأما الفارس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم وتعدد الزوجات كما تقدم ويرون التبني وكانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء وترث كما يرث الابن والدعي بالسوية وكانت تحرم بقية الزوجات والبنت المزوجة لا ترث حذرا من انتقال المال إلى خارج البيت والتى لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن فكانت الزوجات غير الكبيرة والبنت المزوجة محرومات وكانت الزوجة الكبيرة والابن والدعي والبنت غير المزوجة بعد مرزوقين. وأما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقا والصغار من البنين ويمتعون أرشد الاولاد ممن يركب الفرس ويدفع عن الحرمة فإن لم يكن فالعصبة. هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الارث ذكرها وتعرض لها كثير من تواريخ آداب الملل ورسومهم والرحلات وكتب الحقوق وأمثالها من أراد الاطلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها. وقد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنهن زوجة أو ام أو بنت أو اخت إلا بعناوين اخرى مختلفة وعلى حرمان الصغار والايتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية والقيمومة الدائمة غير المنقطعة. 4 ما ذا صنع الاسلام والظرف هذا الظرف قد تقدم مرارا أن الاسلام يرى أن الاساس الحق للاحكام والقوانين الانسانية هو الفطرة التى فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله وقد بنى الارث على أساس الرحم التى هي من الفطرة والخلقة الثابتة وقد ألغى إرث الادعياء حيث يقول تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم: الاحزاب - 5. ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الارث وأفردها عنوانا مستقلا يعطى به ويؤخذ وإن كانوا يسمون التملك من جهة الايصاء إرثا وليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية

[ 227 ]

فإن لكل من الوصية والارث ملاكا آخر وأصلا فطريا مستقلا فملاك الارث هو الرحم ولا نفوذ لارادة المتوفى فيها أصلا وملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد وفاته وإن شئت قل حين ما يوصى في ما يملكه في حياته واحترام مشيته فلو ادخلت الوصية في الارث لم يكن ذلك إلا مجرد تسمية. وأما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلا إرثا فلم يكن لاعتبارهم في سنة الارث أحد الامرين إما الرحم وإما احترام إرادة الميت بل حقيقة الامر أنهم كانوا يبنون الارث على احترام الارادة وهى إرادة الميت بقاء المال الموروث في البيت الذى كان فيه تحت يد رئيس البيت وربه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبه الميت ويشفق عليه فكان الارث على أي حال يبتنى على احترام الارادة ولو كان مبتنيا على أصل الرحم واشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه وحرم كثير من المرزوقين. ثم إنه بعد ذلك عمد إلى الارث وعنده في ذلك أصلان جوهريان أصل الرحم وهو العنصر المشترك بين الانسان وأقربائه لا يختلف فيه الذكور والاناث والكبار والصغار حتى الاجنة في بطون أمهاتهم وإن كان مختلف الاثر في التقدم والتأخر ومنع البعض للبعض من جهة قوته وضعفه بالقرب من الانسان والبعد منه وانتفاء الوسائط وتحققها قليلا أو كثيرا كالولد والاخ والعم وهذا الاصل يقضى باستحقاق أصل الارث مع حفظ الطبقات المتقدمة والمتأخرة. وأصل اختلاف الذكر والانثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزهما بالتعقل والاحساسات فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقل كما أن المرأة مظهر العواطف والاحساسات اللطيفة الرقيقة وهذا الفرق مؤثر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك وصرفه في الحوائج وهذا الاصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل والمرأة وإن وقعا في طبقة واحدة كالابن والبنت والاخ والاخت في الجملة على ما سنبينه. واستنتج من الاصل الاول ترتب الطبقات بحسب القرب والبعد من الميت لفقدان الوسائط وقلتها وكثرتها فالطبقة الاولى هي التى تتقرب من الميت بلا واسطة وهى الابن والبنت والاب والام والثانية الاخ والاخت والجد والجدة وهى تتقرب من

[ 228 ]

الميت بواسطة واحدة وهى الاب أو الام أو هما معا والثالثة العم والعمة والخال والخالة وهى تتقرب إلى الميت بواسطتين وهما أب الميت أو امه وجده أو جدته وعلى هذا القياس والاولاد في كل طبقة يقومون مقام آبائهم ويمنعون الطبقة اللاحقة وروعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة ولا يمنعان طبقة. ثم استنتج من الاصل الثاني اختلاف الذكر والانثى في غير الام والكلالة المتقربة بالام بأن للذكر مثل حظ الانثيين. والسهام الستة المفروضة في الاسلام النصف والثلثان والثلث والربع والسدس والثمن وإن اختلفت وكذا المال الذى ينتهى إلى أحد الوراث وإن تخلف عن فريضته غالبا بالرد أو النقص الوارد وكذا الاب والام وكلالة الام وإن تخلفت فرائضهم عن قاعدة للذكر مثل حظ الانثيين ولذلك يعسر البحث الكلى الجامع في باب الارث إلا أن الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للاحق يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر واستخلاف الطبقة المولدة وهم الآباء والامهات للطبقة المتولدة وهم الاولاد والفريضة الاسلامية في كل من القبيلين أعنى الازواج والاولاد للذكر مثل حظ الانثيين. وينتج هذا النظر الكلى أن الاسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث والثلثين فللانثى ثلث وللذكر ثلثان هذا من حيث التملك لكنه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج ويأمر بالعدل المقتضى للتساوي في المصرف ويعطى للمرأة استقلال الارادة والعمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه وهذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في ثلثى ثروة الدنيا الثلث الذى تملكها ونصف الثلثين اللذين يملكهما الرجل وليس في قبال تصرف الرجل إلا الثلث.

 5 - علام استقر حال النساء واليتامى في الاسلام

 أما اليتامى فهم يرثون كالرجال الاقوياء ويربون وينمى أموالهم تحت ولاية الاولياء كالاب والجد أو عامة المؤمنين أو الحكومة الاسلامية حتى إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم واستووا على مستوى الحياة المستقلة وهذا أعدل السنن المتصورة في حقهم.

[ 229 ]

وأما النساء فإنهن بحسب النظر العام يملكن ثلث ثروة الدنيا ويتصرفن في ثلثيها بما تقدم من البيان وهن حرات مستقلات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة دائمة ولا موقتة ولا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف. فالمرأة في الاسلام ذات شخصية تساوى شخصية الرجل في حرية الارادة والعمل من جميع الجهات ولا تفارق حالها حال الرجل إلا في ما تقتضيه صفتها الروحية الخاصة المخالفة لصفة الرجل الروحية وهى أن لها حياة إحساسية وحياة الرجل تعقلية فاعتبر للرجل زيادة في الملك العام ليفوق تدبير التعقل في الدنيا على تدبير الاحساس والعاطفة وتدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرف وشرعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة وتدورك ذلك بالصداق وحرمت القضاء والحكومة والمباشرة للتقال لكونها امورا يجب بناؤها على التعقل دون الاحساس وتدورك ذلك بوجوب حفظ حماهن والدفاع عن حريمهن على الرجال ووضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق والانفاق عليها وعلى الاولاد وعلى الوالدين ولها حق حضانة الاولاد من غير إيجاب وقد عدل جميع هذه الاحكام بامور اخرى دعين إليها كالتحجب وقلة مخالطة الرجال وتدبير المنزل وتربية الاولاد. وقد أوضح معنى امتناع الاسلام عن إعطاء التدابير العامة الاجتماعية كتدبير الدفاع والقضاء والحكومة للعاطفة والاحساس ووضع زمامها في يدها النتائج المرة التى يذوقها المجتمع البشري إثر غلبة الاحساس على التعقل في عصرنا الحاضر وأنت بالتأمل في الحروب العالمية الكبرى التى هي من هدايا المدنية الحاضرة وفي الاوضاع العامة الحاكمة على الدنيا وعرض هذه الحوادث على العقل والاحساس العاطفي تقف على تشخيص ما منه الاغراء وما إليه النصح والله الهادى. على أن الملل المتمدنة من الغربيين لم يألوا جهدا ولم يقصروا حرصا منذ مئات السنين في تربية البنات مع الابناء في صف واحد وإخراج ما فيهن من استعداد الكمال من القوة إلى الفعل وأنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة ورجال القضاء والتقنين وزعماء الحروب وقوادها وهي الخلال الثلاث المذكورة الحكومة القضاء القتال لم تجد فيه شيئا يعتد به من أسماء النساء ولا عددا يقبل المقايسة إلى المئات والالوف من الرجال وهذا في نفسه أصدق شاهد على أن طباع النساء لا تقبل الرشد

[ 230 ]

والنماء في هذه الخلال التى لا حكومة فيها بحسب الطبع إلا للتعقل وكلما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة وخسرانا. وهذا وأمثاله من أقطع الاجوبة للنظرية المشهورة القائلة أن السبب الوحيد في تأخر النساء عن الرجال في المجتمع الانساني هو ضعف التربية الصالحة فيهن منذ أقدم عهود الانسانية ولو دامت عليهن التربية الصالحة الجيدة مع ما فيهن من الاحساسات والعواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدمن عليهم في جهات الكمال. وهذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإن اختصاصهن بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهن هو الموجب لتأخرهن فيما يحتاج من الامور إلى قوة التعقل وتسلطه على العواطف الروحية الرقيقة كالحكومة والقضاء وتقدم من يزيد عليهن في ذلك وهم الرجال فإن التجارب القطعي يفيد أن من اختص بقوة صفة من الصفات الروحية فإنما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد والمآرب ولازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة والقضاء ويمتازوا عنهن في نيل الكمال فيها وأن تنجح تربيتهن فيما يناسب العواطف الرقيقة ويرتبط بها من الامور كبعض شعب صناعة الطب والتصوير والموسيقى والنسج والطبخ وتربية الاطفال وتمريض المرضى وأبواب الزينة ونحو ذلك ويتساوى القبيلان فيما سوى ذلك. على أن تأخرهن فيما ذكر من الامور لو كان مستندا إلى الاتفاق والصدفة كما ذكر لانتقض في بعض هذه الازمنة الطويلة التى عاش فيها المجتمع الانساني وقد خمنوها بملايين من السنين كما أن تأخر الرجال فيما يختص من الامور المختصة بالنساء كذلك ولو صح لنا أن نعد الامور اللازمة للنوع غير المنفكة عن مجتمعهم وخاصة إذا ناسبت امورا داخلية في البنية الانسانية من الاتفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلة طبيعية فطرية من خلال الانسانية العامة كميل طباعه إلى المدنية والحضارة وحبه للعلم وبحثه عن أسرار الحوادث ونحو ذلك فإن هذه صفات لازمة لهذا النوع وفي بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدها لذلك صفات فطرية نظير ما نعد تقدم النساء في الامور الكمالية المستظرفة وتأخرهن في الامور التعقلية والامور الهائلة والصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهن وكذلك تقدم الرجال وتأخرهم في عكس ذلك. فلا يبقى بعد ذلك كله إلا انقباضهن من نسبة كمال التعقل إلى الرجال وكمال

[ 231 ]

الاحساس والتعطف إليهن وليس في محله فإن التعقل والاحساس في نظر الاسلام موهبتان إلهيتان مودعتان في بنية الانسان لمأرب إلهية حقه في حياته لا مزية لاحداهما على الاخرى ولا كرامة إلا للتقوى وأما الكمالات الاخر كائنة ما كانت فإنما تنمو وتربو إذا وقعت في صراطه وإلا لم تعد إلا أوزارا سيئة. 6 - قوانين الارث الحديثة هذه القوانين والسنن وإن خالفت قانون الارث الاسلامي كما وكيفا على ما سيمر بك إجمالها غير أنها استظهرت في ظهورها واستقرارها بالسنة الاسلامية في الارث فكم بين موقف الاسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا وبين موقفهن من الفرق. فقد كان الاسلام يظهر أمرا ما كانت الدنيا تعرفه ولا قرعت أسماع الناس بمثله ولا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين وآبائهم الاولين وأما هذه القوانين فإنها أبديت وكلف بها امم حينما كانت استقرت سنة الاسلام في الارث بين الامم الاسلامية في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الاخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون ومن البديهيات في أبحاث النفس أن وقوع أمر من الامور في الخارج ثم ثبوتها واستقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها وكل سنة سابقة من السنن الاجتماعية مادة فكرية للسنن اللاحقة المجانسة بل الاولى هي المادة المتحولة إلى الثانية فليس لباحث اجتماعي أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الارث بما تقدمها من الارث الاسلامي وتحوله إليها تحولا عادلا أو جائرا. ومن أغرب الكلام ما ربما يقال قاتل الله عصبية الجاهلية الاولى إن القوانين الحديثة إنما استفادت في موادها من قانون الروم القديمة وأنت قد عرفت ما كانت عليه سنة الروم القديمة في الارث وما قدمته السنة الاسلامية إلى المجتمع البشرى وأن السنة الاسلامية متوسطة في الظهور والجريان العملي بين القوانين الرومية القديمة وبين القوانين الغربية الحديثة وكانت متعرفة متعمقة في مجتمع الملايين ومئات الملايين من النفوس الانسانية قرونا متوالية متطاولة ومن المحال أن تبقى سدى وعلى جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقننين. وأغرب منه أن هؤلاء القائلين يذكرون أن الارث الاسلامي مأخوذ من الارث الرومي القديم.

[ 232 ]

وبالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربية وإن اختلفت في بعض الخصوصيات غير أنها كالمطبقة على تساوى الرجال والنساء في سهم الارث فالبنات والبنون سواء و الامهات والآباء سواء في السهام وهكذا. وقد رتبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو 1 البنون والبنات 2 الآباء والامهات والاخوة والاخوات 3 الاجداد والجدات 4 الاعمام والعمات والاخوال والخالات وقد أخرجوا علقة الزوجية من هذه الطبقات وبنوها على أساس المحبة والعلقة القلبية ولا يهمنا التعرض لتفاصيل ذلك وتفاصيل الحال في سائر الطبقات من أرادها فليرجع إلى محلها. والذى يهمنا هو التأمل في نتيجة هذه السنة الجارية وهى اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العام الذى تقدم غير أنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حق لها في تصرف مالى في شئ من أموالها الموروثة إلا بإذن زوجها وعاد بذلك المال منصفا بين الرجل والمرأة ملكا وتحت ولاية الرجل تدبيرا وإدارة وهناك جمعيات منتهضة يبذلون مساعيهم لاعطاء النساء الاستقلال وإخراجهن من تحت قيمومة الرجال في أموالهن ولو وفقوا لما يريدون كانت الرجال والنساء متساويين من حيث الملك ومن حيث ولاية التدبير والتصرف. 7 - مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض ونحن بعد ما قدمنا خلاصة السنن الجارية بين الامم الماضية وقرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض والقضاء على كل منها بالتمام والنقص ونفعه للمجتمع الانساني وضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة ثم قياس ما سنه شارع الاسلام إليها والقضاء بما يجب أن يقضى به. والفرق الجوهرى بين السنة الاسلامية والسنن غيرها في الغاية والغرض فغرض الاسلام أن تنال الدنيا صلاحها وغرض غيره أن تنال ما تشتهيها وعلى هذين الاصلين يتفرع ما يتفرع من الفروع قال تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون: البقرة - 216 وقال تعالى وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا: النساء - 19.

[ 233 ]

8 - الوصية قد تقدم أن الاسلام أخرج الوصية من تحت الوراثة وأفردها عنوانا مستقلا لما فيها من الملاك المستقل وهو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته وقد كانت الوصية بين الامم المتقدمة من طرق الاحتيال لدفع الموصى ماله أو بعض ماله إلى غير من تحكم السنة الجارية بإرثه كالاب ورئيس البيت ولذلك كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدها ويسد بنحو هذا الطريق المؤدى إلى إبطال حكم الارث ولا يزال يجرى الامر في تحديدها هذا المجرى حتى اليوم وقد حدها الاسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهى غير نافذة في الزائد عليه وقد تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أن النظرين مختلفان ولذلك كان الاسلام يحث عليها والقوانين تردع عنها أو هي ساكتة. والذى يفيده التدبر في آيات الوصية والصدقات والزكاة والخمس ومطلق الانفاق أن في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الاموال والثلثان من منافعها للخيرات والمبرات وحوائج طبقة الفقراء والمساكين لتقرب بذلك الطبقات المختلفة في المجتمع ويرتفع الفواصل البعيدة من بينهم وتقام به أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفية تصرف المثرين في ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين ولتفصيل ذا البحث محل آخر سيمر بك إن شاء الله تعالى = واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) - واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16))

(بيان)

 قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة إلى قوله منكم يقال أتاه وأتى

[ 234 ]

به أي فعله والفاحشة من الفحش وهو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة وقد شاع استعمالها في الزنا وقد اطلقت في القرآن على اللواط أو عليه وعلى السحق معا في قوله تعالى إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين: العنكبوت - 28. والظاهر أن المراد بها ههنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسرين ورووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر عند نزول آية الجلد - أن الجلد هو السبيل الذي جعله الله لهن إذا زنين ويشهد بذلك ظهور الآية في أن هذا الحكم سينسخ حيث يقول تعالى أو يجعل الله لهن سبيلا ولم ينقل أن السحق نسخ حده بشئ آخر ولا أن هذا الحد اجرى على أحد من اللاتي يأتينه وقوله أربعة منكم يشهد بأن العدد من الرجال. قوله تعالى فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت إلى آخر الآية رتب الامساك وهو الحبس المخلد على الشهادة لا على أصل تحقق الفاحشة وإن علم به إذا لم يشهد عليه الشهود وهو من منن الله سبحانه على الامة من حيث السماحة والاغماض. والحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله حتى يتوفاهن الموت غير أنه لم يعبر عنه بالحبس والسجن بل بالامساك لهن في البيوت وهذا أيضا من واضح التسهيل والسماحة بالاغماض وقوله حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا أي طريقا إلى التخلص من الامساك الدائم والنجاة منه. وفي الترديد إشعار بأن من المرجو أن ينسخ هذا الحكم وهكذا كان فإن حكم الجلد نسخه فإن من الضروري أن الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الامساك في البيوت فالآية على تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد والسبيل المذكور فيها هو الجلد بلا ريب. قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما الآيتان متناسبتان مضمونا والضمير في قوله يأتيانها راجع إلى الفاحشة قطعا وهذا يؤيد كون الآيتين جميعا مسوقتين لبيان حكم الزنا وعلى ذلك فالآية الثانية متممة الحكم في الاولى فإن الاولى لم تتعرض إلا لما للنساء من الحكم و الثانية تبين الحكم فيهما معا وهو الايذاء فيتحصل من مجموع الآيتين حكم الزاني والزانية معا وهو إيذاؤهما وإمساك النساء في البيوت.

[ 235 ]

لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد فإن تابا واصلحا فاعرضوا عنهما فإنه لا يلائم الحبس المخلد فلا بد أن يقال إن المراد بالاعراض الاعراض عن الايذاء دون الحبس فهو بحاله. ولهذا ربما قيل تبعا لما ورد في بعض الروايات وسننقلها إن الآية الاولى لبيان حكم الزنا في الثيب والثانية مسوقة لحكم الابكار وإن المراد بالايذاء هو الحبس في الابكار ثم تخلية سبيلهن مع التوبة والاصلاح لكن يبقى أولا الوجه في تخصيص الاولى بالثيبات والثانية بالابكار من غير دليل يدل عليه من جهة اللفظ وثانيا وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الاولى وذكرهما معا في الآية الثانية واللذان يأتيانها منكم. وقد عزي إلى أبي مسلم المفسر أن الآية الاولى لبيان حكم السحق بين النساء والآية الثانية تبين حكم اللواط بين الرجال والآيتان غير منسوختين. وفساده ظاهر أما في الآية الاولى فلما ذكرناه في الكلام على قوله و اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم وأما في الآية الثانية فلما ثبت في السنة من أن الحد في اللواط القتل وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من عمل منكم عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول وهذا إما حكم ابتدائى غير منسوخ وإما حكم ناسخ لحكم الآية وعلى أي حال يبطل قوله. ومن الممكن أن يقال في معنى الآيتين نظرا إلى الظاهر السابق إلى الذهن من الآيتين والقرائن المحفوف بها الكلام وما تقدم من الاشكال فيما ذكروه من المعنى والله أعلم أن الآية متضمنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الازواج ويدل عليه تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال وإطلاق النساء على الازواج شائع في اللسان وخاصة إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله نسائكم قال تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة: النساء - 4 وقال تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن: النساء - 23. وعلى هذا فقد كان الحكم الاولى المؤجل لهن الامساك في البيوت ثم شرع لهن الرجم وليس نسخا للكتاب بالسنة على ما استدل به الجبائى فإن السنخ إنما هو رفع الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد وهذا حكم مقرون بما يشعر بأنه مؤجل

[ 236 ]

سينقطع بانقطاعه وهو قوله أو يجعل الله لهن سبيلا لظهوره في أن هناك حكما سيطلع عليهن ولو سمى هذا نسخا لم يكن به بأس فإنه غير متضمن لما يلزم نسخ الكتاب بالسنة من الفساد فإن القرآن نفسه مشعر بأن الحكم سيرتفع بانقطاع أمده والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مبين لمرادات القرآن الكريم. والآية الثانية متضمنة لحكم الزنا من غير إحصان وهو الايذاء سواء كان المراد به الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك والآية على هذا منسوخة بآية الجلد من سورة النور وأما ما ورد من الرواية في كون الآية متضمنة لحكم الابكار فمن الآحاد وهي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالارسال والله أعلم هذا ولا يخلو مع ذلك من وهن. قوله تعالى فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إلخ تقييد التوبة بالاصلاح لتحقيق حقيقة التوبة وتبيين أنها ليست مجرد لفظ أو حالة مندفعة.

(بحث روائي)

 في الصافي عن تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة الآية هي منسوخة - والسبيل هي الحدود وفيه عن الباقر عليه السلام: سئل عن هذه الآية فقال هي منسوخة - قيل كيف كانت - قال كانت المرأة إذا فجرت - فقام عليها أربعة شهود ادخلت بيتا ولم تحدث - ولم تكلم ولم تجالس - واوتيت بطعامها وشرابها - حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا - قال جعل السبيل الجلد والرجم - الحديث قيل قوله واللذان يأتيانها منكم - قال يعني البكر - إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب فآذوهما - قال تحبس أقول القصة أعني كون الحكم المجرى عليهن في صدر الاسلام الامساك في البيوت حتى الوفاة مما رويت بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم ونقل عن السدى أن الحبس في البيوت كان حكما للثيبات والايذاء الواقع في الآية الثانية كان حكما للجواري والفتيان الذين لم ينكحوا وقد عرفت ما ينبغي أن يقال في المقام

_________________________________

(1) فان اشعار المنسوخ بالنسخ لا ينافي النسخ " منه ".

[ 237 ]

= إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) - وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما (18)):

(بيان)

 مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين فإنهما قد اختتمتا بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك وهاتان الآيتان مع ذلك متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه وهو إحدى الحقائق العالية الاسلامية والتعاليم الراقية القرآنية وهي حقيقة التوبة وشأنها وحكمها. قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب التوبة هي الرجوع وهي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة والانصراف عن الاعراض عن العبودية ورجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه وقد مر مرارا أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم. وذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة والحسنات من الله والقوة لله جميعا فمن الله توفيق الاسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة والرجوع احتاج في التطهر من هذه الالواث وزوال هذه القذارات والورود و الاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة.

[ 238 ]

وهذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد ورجوعه قال تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 118 وهذه هي التوبة الاولى وقال تعالى فاولئك أتوب عليهم: البقرة - 160 وهذه هي التوبة الثانية وبين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت. وأما قوله على الله للذين لفظة على واللام تفيدان معنى النفع والضرر كما في قولنا دارت الدائرة لزيد على عمرو وكان السباق لفلان على فلان ووجه إفادة على واللام معنى الضرر والنفع أن على تفيد معنى الاستعلاء واللام معنى الملك والاستحقاق ولازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما ويتضرر بها الآخر كالحرب والقتال والنزاع ونحوها فيكون أحدهما الغالب والآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك وعلى المغلوب معنى الاستعلاء وكذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر والمؤثر ومعنى العهد والوعد بين المتعهد والمتعهد له والواعد والموعود له وهكذا فظهر أن كون على واللام لمعنى الضرر والنفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ. ولما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال ههنا إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف سواء سمى ذلك الغير بالعقل أو نفس الامر أو الواقع أو الحق أو شيئا آخر تعالى عن ذلك وتقدس بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم وهو لا يخلف الميعاد فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب وهو أيضا معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل وظاهر الآية أولا أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد وإن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم فإن توبة الله سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد وهذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح. وثانيا أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك والكفر بالايمان أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الايمان فإن القرآن يسمى الامرين جميعا بالتوبة قال

[ 239 ]

تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك: المؤمن - 7 يريد للذين آمنوا بقرينة أول الكلام فسمى الايمان توبة وقال تعالى ثم تاب عليهم: التوبة - 118. والدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية وليست التوبة الخ فإنها تتعرض لحال الكافر والمؤمن معا وعلى هذا فالمراد بقوله يعملون السوء ما يعم حال المؤمن والكافر معا فالكافر كالمؤمن الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لان الكفر من عمل القلب والعمل أعم من عمل القلب والجوارح أو لان الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من الجوارح فالمراد من الذين يعملون السوء بجهالة الكافر والفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر و المعصية. وأما قوله تعالى بجهالة فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلا من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة وأن الارادة إنما تكون عن حب ما وشوق ما سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيئات المذمومة لهوى نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم وغاب عنه عقله المميز الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم وظهر عليه الهوى وعندئذ يسمى حاله في علمه وإرادته جهالة في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق نوعا من العلم لكن لما لم يؤثر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل وذمه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة الحق بالعدم فكان هو جاهلا عندهم حتى أنهم يسمون الانسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلا لغلبة الهوى وظهور العواطف والاحساسات النيئة على نفسه ولذلك أيضا تراهم لا يسمون حال مقترف السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى والعاطفة جهالة بل يسمونها عنادا وعمدا وغير ذلك. فتبين بذلك أن الجهالة في باب الاعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق ومن خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو

[ 240 ]

بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الانسان إلى العلم وزالت الجهالة وبانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شئ من القوى والعواطف والاميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والاميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله. نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحق فيتواضع للحق ويدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة وفي الحقيقة كل معصية جهالة من الانسان وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية. ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى ثم يتوبون من قريب أي إن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب وهو قبل ظهور آيات الآخرة وقدوم الموت. وكل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندامة والتبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل والدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيئات الاعمال قال تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون: الانعام - 28. والدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية وليست التوبة إلى قوله قال إنى تبت الآن. وعلى هذا يكون قوله ثم يتوبون من قريب كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة. ويتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله بجهالة وقوله ثم يتوبون من قريب احترازيان يراد بالاول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله وبالثاني منهما

[ 241 ]

أن لا يؤخر الانسان التوبة إلى حضور موته كسلا وتوانيا ومماطلة إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرجوع ولا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية ومع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية قال تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: الانعام - 158 وقال تعالى فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون: المؤمن - 85 إلى غير ذلك من الآيات. وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلل لله ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت. ويمكن أن يكون قوله بجهالة قيدا توضيحيا ويكون المعنى للذين يعملون السوء ولا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس وتعرض لعذاب أليم أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية وما يترتب عليها من المحذور ولازمه كون قوله ثم يتوبون من قريب إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإن من يأتي بالمعصية استكبارا ولا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا الفرض بقوله ثم يتوبون من قريب لا بقوله بجهالة وعلى هذا لا يمكن الكناية بقوله ثم يتوبون عن التكاهل والتوانى فافهم ذلك ولعل الوجه الاول أوفق لظاهر الآية. وقد ذكر بعضهم أن المراد بقوله ثم يتوبون من قريب أن تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفا متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر. وهو فاسد لافساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله إنما التوبة على الله للذين إلخ والآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة ولم يذكر في

[ 242 ]

الآية إلا موردان هما التوبة للمسئ المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت والتوبة للكافر بعد الموت ولو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق اخر لم تذكر في الآية. قوله تعالى فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما الاتيان بإسم الاشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم وتعظيم أمرهم كما يدل قوله يعملون السوء بجهالة على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ وقد اختير لختم الكلام قوله وكان الله عليما حكيما دون أن يقال وكان الله غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد وما يؤديهم إليه ضعفهم وجهالتهم ولحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام وإصلاح الامور وهو تعالى لعلمه وحكمته لا يغره ظواهر الاحوال بل يختبر القلوب ولا يستزله مكر ولا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق الاجابة. قوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ في عدم إعادة قوله على الله مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة والعناية الالهية عنهم كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم وحفظها عليهم كما تقدمت الاشارة إليه. وتقييد قوله يعملون السيئات بقوله حتى إذا جاء أحدهم الموت المفيد لاستمرار الفعل إما لان المساهلة في المبادرة إلى التوبة وتسويفها في نفسه معصية مستمرة متكررة أو لانه بمنزلة المداومة على الفعل أو لان المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالبا عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها. وفي قوله حتى إذا حضر أحدهم الموت دون أن يقال حتى إذا جاءهم الموت دلالة على الاستهانة بالامر والاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هينا هذا الهوان سهلا هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه ويختاروا ما يشاؤونه ولا يبالون وكلما عرض لاحدهم عارض الموت قال إنى تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب ومهلكة

[ 243 ]

مخالفة الامر الالهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الامر. ومن هنا يظهر معنى تقييد قوله قال إنى تبت بقوله الآن فإنه يفيد أن حضور الموت ومشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى إني تائب لما شاهدت الموت الحق والجزاء الحق وقد قال تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون: السجدة - 12. فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لان اليأس من الحياة الدنيا وهول المطلع هما اللذان أجبراه على أن يندم على فعله ويعزم على الرجوع إلى ربه ولات حين رجوع حيث لا حياة دنيوية ولا خيرة عملية. قوله تعالى ولا الذين يموتون وهم كفار هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة وهو الانسان يتمادى في الكفر ثم يموت وهو كافر فإن الله لا يتوب عليه فان إيمانه وهو توبته لا ينفعه يومئذ وقد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا نجاة معه بعد الموت وأنهم لا يجابون وإن سألوا قال تعالى إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فاولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار اولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون: البقرة - 162 وقال تعالى إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملؤ الارض ذهبا ولو افتدى به اولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين: آل عمران - 91 ونفى الناصرين نفي للشفاعة في حقهم كما تقدم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب. وتقييد الجملة بقوله وهم كفار يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار ولا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية اختيارية و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة والرحمة يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين وهذا في نفسه من الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلا بالتبع.

[ 244 ]

قوله تعالى أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما اسم الاشارة يدل على بعدهم من ساحة القرب والتشريف والاعتاد والاعداد أو الوعد.

(كلام في التوبة)

 التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الايمان عن كفر وشرك وإن كانت دائرة في سائر الاديان الالهية كدين موسى وعيسى عليهما السلام لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة وتسريتها إلى الايمان بل باسم أن ذلك إيمان. حتى أنه يلوح من الاصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع التوبة واستحالة أن يستفيد منها الانسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب والفداء وقد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب. هذا وقد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الافراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة وتتجر بها وكان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم لكن القرآن حلل حال الانسان بحسب وقوع الدعوة عليه وتعلق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال والكرامة والسعادة الواجبة له في حياته الاخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني: فاطر - 15 وقال ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا: الفرقان - 3. فهو واقع في مهبط الشقاء ومنحط البعد ومنعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين: التين - 5 وقوله وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا: مريم - 72 وقوله فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى: طه - 117. وإذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة واستقراره في مستقر السعادة يتوقف على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء ومنحط البعد وانقلاعه عنه برجوعه إلى ربه

[ 245 ]

وهو توبته إليه في أصل السعادة وهو الايمان وفي كل سعادة فرعية وهي كل عمل صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء وهو الشرك بالله سبحانه وعن فروعات الشقاء وهي سيئات الاعمال بعد الشرك فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله والانخلاع عن ألواث البعد والشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالايمان والتنعم بأقسام نعم الطاعات والقربات وبعبارة اخرى يتوقف القرب من الله ودار كرامته على التوبة من الشرك ومن كل معصية قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: النور - 31 فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما وغيرهما على ما سيجئ إن شاء الله. ثم إن الانسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا ولا سعادة قط إلا بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره وإعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية والمسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق والاعانة وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 118 وكذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب وتطهيره من القذارات وألواث البعد وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى فاولئك يتوب الله عليهم الآية. وإذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد وإلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها وبعدها وربما كان مع عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله ولا الذين يموتون وهم كفار وأن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة ومن هذا الباب قوله تعالى والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (1). وكذلك القرب والبعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه ومراحله إلى بعض ويصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه وأقرب إلى ربه كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الانبياء وهم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه: البقرة - 37 وقوله تعالى وإذ يرفع

_________________________________

(1) سورة النساء آية 27.

[ 246 ]

إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل إلى قوله وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم: البقرة - 128 وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام سبحانك تبت اليك وأنا أول المؤمنين: الاعراف - 143 وقوله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار: المؤمن - 55 وقوله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة: التوبة - 117. وهذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التى يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى غافر الذنب وقابل التوب: المؤمن - 3 وقوله تعالى يقبل التوبة عن عباده: الشورى - 25 إلى غير ذلك. فتلخص مما مر أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه وإزالة ظلمة المعاصي عن قلبه سواء في ذلك الشرك وما دونه توبة منه تعالى لعبده وأن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيه سواء في ذلك الشرك وغيره توبه منه إلى ربه. ويتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك وتندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن المعاصي. وثانيا أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة واللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام وإيجاب يرد عليه تعالى من غيره وليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى وقابل التوب " غافر - 3 وقوله وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " النور - 31 " وقوله إن الله يحب التوابين الآية: البقرة - 222 وقوله فاولئك يتوب الله عليهم الآية من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة والنادبة إلى التوبة الداعية إلى الاستغفار والانابة وغيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام والله سبحانه لا يخلف الميعاد. ومن هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد ويرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم

[ 247 ]

" آل عمران - 90 " ويمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " النساء - 137 " ومن عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون وتوبته حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين: يونس - 91. قال ما محصله ان الآية لا تدل على رد توبته وليس في القرآن أيضا ما يدل على هلاكه الابدي وانه من المستبعد عند من يتامل سعة رحمة الله وسبقتها غضبه أن يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته وكرامته متذللا مستكينا بالخيبة واليأس والواحد منا إذا أخذ بالاخلاق الانسانية الفطرية من الكرم والجود والرحمة ليرحم أمثال هذا الانسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين وأكرم الاكرمين وغياث المستغيثين. وهو مدفوع بقوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا جاء أحدهم الموت قال إنى تبت الآن الآية وقد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الانسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب ونزول البلاء. ولو كان كل ندم توبة وكل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة وأسروا الندامة لما رأوا العذاب: سبأ - 33 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا والرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. وإياك أن تتوهم أن الذى سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق وذلك أن البحث في باب السعادة والشقاء والصلاح والطلاح الانسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال الانسان العادى في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم والتربية في الانسان وجدناه خاليا في نفسه عن الصلاح والطلاح الاجتماعيين قابلا للامرين جميعا ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح ويتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الاسباب على خروجه من

[ 248 ]

الحال الذى فيه وذلك يحاذي التوبة الاولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم انتزاعه وانصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال وقيد التثبط والاهمال وهو توبه بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد ووصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر فيه وصف الكمال ونور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح والطلاح معا وهذا يحاذي قبول التوبة والمغفرة فيما نحن فيه وكذلك يجرى في مرحلة الصلاح الاجتماعي الذى يسير فيه الانسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الاحكام والآثار جريا على الفطرة التى فطر الله الناس عليها. وثالثا أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة وغيرها إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الانسانية من حيث إصلاحها وإعدادها للصلاح الانساني الذى فيه سعادة دنياه وآخرته وبعبارة اخرى التوبة إنما تنفع إذا نفعت في إزالة السيئات النفسانية التى تجر إلى الانسان كل شقاء في حياته الاولى والاخرى وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة وأما الاحكام الشرعية والقوانين الدينية فهى بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية. نعم ربما ارتبط بعض الاحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل وهذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الاحكام قال تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما: النساء - 16 وقال تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم: المائدة - 34 إلى غير ذلك. ورابعا أن الملاك الذى شرعت لاجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب وبوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: النور - 31 ومن فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد والركود فإن الانسان لا يستقيم سيره الحيوى إلا بالخوف والرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره وينجذب إلى ما ينفعه ولو لا ذلك لهلك قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم

[ 249 ]

لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم: الزمر - 54 ولا يزال الانسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة وجد في العزيمة والسعى ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل امنيته استولى عليه اليأس وانسلت به أركان عمله وربما انصرف بوجهه عن مسيره آئسا من النجاح خائبا من الفوز والفلاح والتوبة هي الدواء الوحيد الذى يعالج داءه ويحيى به قلبه وقد أشرف على الهلكة والردى. ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية وتحريصا على ترك الطاعة فإن الانسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله والانغمار في لجج المعاصي والذنوب فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب. وجه سقوطه أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلى بالكرامات على غفران الذنوب للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره وأما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الانسان كل معصية بنية أن يعصى ثم يتوب فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية ولا انقلاع في هذا الذى يأتي به والدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية ولا معنى للندامة أعنى التوبة قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل والتوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصود بقصد واحد مكرا وخديعة يخدع بها رب العالمين ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله. وخامسا أن المعصية وهى الموقف السوء من الانسان ذو أثر سئ في حياته لا يتاب منها ولا يرجع عنها إلا مع العلم والايقان بمساءتها ولا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولا والندم تأثر خاص باطني من فعل السئ ويتوقف على استقرار هذا الرجوع ببعض الافعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانيا. وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم والاستغفار والتلبس بالعمل الصالح والانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الاخبار وتعرض له كتب الاخلاق.

[ 250 ]

وسادسا أن التوبة وهى الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار وهو الحياة الدنيا التى هي مستوى الاختيار وأما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح والطلاح والسعادة والشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه وقد تقدم ما يتضح به ذلك. ومن هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه وأما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتة لان الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم وعد التعدي إلى أحدهم في شئ من ذلك ظلما وعدوانا وحاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم بذلك وقد قال عز من قائل إن الله لا يظلم الناس شيئا: يونس - 44. إلا أن الاسلام وهو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة وتبعة ماضية متعلقة بالفروع كما يدل عليه قوله عليه السلام: الاسلام يجب ما قبله وبه تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له: الزمر - 54. ومن هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق وقد وردت أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لان العاصى أحدث فيها حدثا له آثار يبقى ببقائها ولا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه وبين ربه عز اسمه. وسابعا أن التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله: البقرة - 275 على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب بل ظاهر قوله تعالى إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا: الفرقان - 71 وخاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الايمان والعمل الصالح توجب تبدل السيئات

[ 251 ]

حسنات إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها ثم إمحائها بالتوبة فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهى إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي وعثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم قال تعالى قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الآيات الحجر - 42 وقال تعالى حكاية عن إبليس أيضا في القصة ولا تجد أكثرهم شاكرين: الاعراف - 17. فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين.

(بحث روائي)

 في الفقيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في آخر خطبة خطبها - من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه - ثم قال إن السنة لكثيرة ومن تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه - ثم قال وإن الشهر لكثير ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه - ثم قال وإن اليوم لكثير ومن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه - ثم قال وإن الساعة لكثيرة من تاب وقد بلغت نفسه هذه - وأهوى بيده إلى حلقه تاب الله عليه وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل - وليست التوبة للذين يعملون السيئات - حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن قال - ذلك إذا عاين أمر الآخرة أقول الرواية الاولى رواها في الكافي مسندا عن الصادق عليه السلام وهي مروية من طرق أهل السنة وفي معناها روايات اخر. والرواية الثانية تفسر الآية وتفسر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأن المراد من حضور الموت العلم به ومشاهدة آيات الآخرة ولا توبة عندئذ وأما الجاهل بالامر فلا مانع من قبول توبته ونظيرها بعض ما يأتي من الروايات. وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا بلغت النفس هذه

[ 252 ]

وأهوى بيده إلى حنجرته - لم يكن للعالم توبة وكانت للجاهل توبة وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب - قيل وما وقوع الحجاب قال تخرج النفس وهي مشركة وفيه أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال - إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال - وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح - فقال الله تبارك وتعالى - وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه وفي الكافي عن على الاحمسي عن أبي جعفر عليه السلام قال: والله ما ينجو من الذنوب إلا من أقر بها - قال وقال أبو جعفر عليه السلام كفى بالندم توبة وفيه بطريقين عن ابن وهب قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله تعالى فستر عليه - فقلت وكيف يستر عليه قال - ينسى ملكيه ما كانا يكتبان عليه - ثم يوحى الله إلى جوارحه وإلى بقاع الارض - أن اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه - وليس شئ يشهد عليه بشئ من الذنوب وفيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السلام قال: يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له - فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة - أما والله إنها ليست إلا لاهل الايمان - قلت فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد في التوبة - فقال يا محمد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه - فيستغفر الله منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته - قلت فإن فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب ويستغفر - فقال كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة - وإن الله غفور رحيم يقبل التوبة - ويعفو عن السيئات فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال - لهذه الآية تفسير يدل على ذلك التفسير - أن الله لا يقبل من عبد عملا إلا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير - وما اشترط فيه على المؤمنين - وقال إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة - يعنى كل ذنب عمله العبد - وإن كان به عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه - وقد قال في ذلك

[ 253 ]

يحكى قول يوسف لاخويه - هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون - فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله أقول والرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن والظاهر أن المراد بالصدر أن العمل إنما يقبل إذا وفي به العبد ولم ينقضه فالتوبة إنما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية عن الذنب ولو حينا وقوله وقال إنما التوبة الخ كلام مستأنف أراد به بيان أن قوله بجهالة قيد توضيحي وأن في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدم وقد روى هذا الذيل في المجمع أيضا عنه عليه السلام = يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19) - وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20) - وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21) - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (22))

(بيان)

 رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر مما يتعلق بهن والآيات مع ذلك مشتملة على قوله وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله

[ 254 ]

فيه خيرا كثيرا فإنه أصل قرآني لحياة المرأة الاجتماعية. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم إلى قوله كرها كان أهل الجاهلية على ما في التاريخ والرواية يعدون نساء الموتى من التركة إذا لم تكن المرأة أما للوارث فيرثونهن مع التركة فكان أحد الوراث يلقي ثوبا على زوجة الميت ويرثها فإن شاء تزوج بها من غير مهر بل بالوراثة وإن كره نكاحها حبسها عنده فإن شاء زوجها من غيره فانتفع بمهرهاوإن شاء عضلها ومنها النكاح وحبسها حتى تموت فيرثها إن كان لها مال. والآية وإن كان ظاهرها أنها تنهى عن سنة دائرة بينهم وهي التي ذكرناها من إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنة السيئة على ما ذكره بعض المفسرين إلا أن قوله في ذيل الجملة كرها لا يلائم ذلك سواء أخذ قيدا توضيحيا أو احترازيا. فإنه لو كان قيدا توضيحيا أفاد أن هذه الوراثة تقع دائما على كره من النساء وليس كذلك وهو ظاهر ولو كان قيدا احترازيا أفاد أن النهي إنما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضى منهن وليس كذلك. نعم الكره أمر متحقق في العضل عن الازدواج طمعا في ميراثهن دائما أو غالبا بعد القبض عليهن بالارث فالظاهر أن الآية في مقام الردع عن هذا الارث على كره وأما نكاحهن بالارث فالمتعرض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية وأما تزويجهن من الغير والذهاب بمهرهن فينهى عنه مثل قوله تعالى وللنساء نصيب مما اكتسبن: النساء - 32 ويدل على الجميع قوله تعالى فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف: البقرة 234. وأما قوله بعد ولا تعضلوهن لتذهبوا الخ فهو غير هذا العضل عن الازدواج للذهاب بالمال إرثا لما في تذييله بقوله لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من الدلالة على أن المراد به الذهاب ببعض المهر الذي آتاه الزوج العاضل دون المال الذي امتلكته من غير طريق هذا المهر وبالجملة الآية تنهي عن وراثة أموال النساء كرها منهن دون وراثة أنفسهن فإضافة الارث إلى النساء إنما هي بتقدير الاموال أو يكون مجازا عقليا. قوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا إلى قوله مبينة إما معطوف على

[ 255 ]

قوله ترثوا والتقدير ولا أن تعضلوهن وإما نهى معطوف على قوله لا يحل لكم لكونه في معنى النهى والعضل هو المنع والتضييق والتشديد والفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا والمبينة المتبينة وقد نقل عن سيبويه أن أبان واستبان وبين وتبين بمعنى واحد تتعدى ولا تتعدى يقال أبان الشئ واستبان وبين وتبين ويقال أبنت الشئ واستبنته وبينته وتبينته والآية تنهى عن التضييق عليهن بشئ من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شئ من الصداق لفك عقدة النكاح والتخلص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرم على الزوج إلا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبينة فله حينئذ أن يعضلها ويضيق عليها لتفارقه بالبذل والآية لا تنافى الآية الاخرى في باب البذل ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به: البقرة - 229 وإنما هو التخصيص تخصص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة وأما البذل الذي في آية البقرة فإنما هو واقع على تراض منهما فلا تخصص بها هذه الآية. قوله تعالى وعاشروهن بالمعروف إلى آخر الآية المعروف هو الامر الذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه ويجهلوه وحيث قيد به الامر بالمعاشرة كان المعنى الامر بمعاشرتهن المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين. والمعاشر التي يعرفها الرجال ويتعارفونه بينهم أن الواحد منهم جزء مقوم للمجتمع يساوى سائر الاجزاء في تكوينه المجتمع الانساني لغرض التعاون والتعاضد العمومي النوعي فيتوجه على كل منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتنى ما ينتفع به فيعطى ما يستغنى عنه ويأخذ ما يحتاج إليه فلو عومل مع واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة وليس إلا أن يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئية فيؤخذ تابعا ينتفع به ولا ينتفع هو بشئ يحاذيه وهذا هو الاستثناء. وقد بين الله تعالى في كتابه أن الناس جميعا رجالا ونساءا فروع أصل واحد إنساني وأجزاء وأبعاض لطبيعة واحدة بشرية والمجتمع في تكونه محتاج

[ 256 ]

إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى اولئك على حد سواء كما قال تعالى بعضكم من بعض: النساء - 25. ولا ينافى ذلك اختصاص كل من الطائفتين بخصلة تختص به كاختصاص الرجال بالشدة والقوة نوعا واختصاص النساء بالرقة والعاطفة طبعا فإن الطبيعة الانسانية في حياتها التكوينية والاجتماعية جميعا تحتاج إلى بروز الشدة وظهور القوة كما تحتاج إلى سريان المودة والرحمة والخصلتان جميعا مظهرا الجذب والدفع العامين في المجتمع الانساني. فالطائفتان متعادلتان وزنا وأثرا كما أن أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن والتأثير في هذه البنية المكونة مع اختلافهم في شؤونهم الطبيعية والاجتماعية من قوة وضعف وعلم وجهل وكياسة وبلادة وصغر وكبر ورئاسة ومرؤوسية ومخدومية وخادمية وشرف وخسة وغير ذلك. فهذا هو الحكم الذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسط الجاري على سنة الفطرة من غير انحراف وقد قوم الاسلام أود الاجتماع الانساني وأقام عوجه فلا مناص من أن يجرى فيه حكم التسوية في المعاشرة وهو الذى نعبر عنه بالحرية الاجتماعية وحرية النساء كالرجال وحقيقتها أن الانسان بما هو إنسان ذو فكر وإرادة له أن يختار ما ينفعه على ما يضره مستقلا في اختياره ثم إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار ما لم يزاحم سعادة المجتمع الانساني مستقلا في ذلك من غير ان يمنع عنه أو يتبع غيره من غير اختيار. وهذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الافراد من طبقة واحدة بمزايا أو محروميته عن مزايا كاختصاص الرجال في الاسلام بالقضاء والحكومة والجهاد ووجوب نفقتهن على الرجال وغير ذلك وكحرمان الصبيان غير البالغين عن نفوذ الاقرار والمعاملات وعدم توجه التكاليف إليهم ونحو ذلك فجميع ذلك خصوصيات أحكام تعرض الطبقات وأشخاص المجتمع من حيت اختلاف أوزانهم في المجتمع بعد اشتراكهم جميعا في أصل الوزن الانساني الاجتماعي الذي ملاكه أن الجميع إنسان ذو فكر وإرادة. ولا تختص هذه المختصات بشريعة الاسلام المقدسة بل توجد في جميع القوانين

[ 257 ]

المدنية بل في جميع السنن الانسانية حتى الهمجية قليلا أو كثيرا على اختلافها والكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى وعاشروهن بالمعروف على ما تبين. وأما قوله تعالى فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا فهو من قبيل إظهار الامر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتقاء من تيقظ غريزة التعصب في المخاطب نظير قوله تعالى قل من يرزقكم من السموات والارض قل الله وإنا أو إياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون: سبأ - 25. فقد كان المجتمع الانساني يومئذ عصر نزول القرآن لا يوقف النساء في موقفها الانساني الواقعي ويكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوم بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدهن طفيليات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها وما يعدهن إنسانا ناقصا في الانسانية كالصبيان والمجانين إلا أنهن لا يبلغن الانسانية أبدا فيجب أن يعشن تحت الاتباع والاستيلاء دائما ولعل قوله تعالى فإن كرهتموهن حيث نسب الكراهة إلى أنفسهن دون نكاحهن إشارة إلى ذلك. قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج إلى آخر الآية الاستبدال استفعال بمعنى طلب البدل وكأنه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام أخرى بالاستبدال ولذلك جمع بين قوله أردتم وبين قوله استبدال الخ مع كون الاستبدال مشتملا على معنى الارادة والطلب وعلى هذا فالمعنى وإن أردتم أن تقيموا زوجا مقام اخرى بالاستبدال. والبهتان ما بهت الانسان أي جعله متحيرا ويغلب استعماله في الكذب من القول وهو في الاصل مصدر وقد استعمل في الآية في الفعل الذي هو الاخذ من المهر وهو في الآية حال من الاخذ وكذا قوله إثما والاستفهام إنكاري. والمعنى إن أردتم أن تطلقوا بعض أزواجكم وتتزوجوا باخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الذى آتيتموها شيئا وإن كان ما آتيتموها مالا كثيرا وما تأخذونه قليلا جدا.

[ 258 ]

قوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض إلى آخر الآية الاستفهام للتعجيب والافضاء هو الاتصال بالمماسة وأصله الفضاء بمعنى السعة. ولما كان هذا الاخذ إنما هو بالبغي والظلم ومورده مورد الاتصال والاتحاد أوجب ذلك صحة التعجب حيث إن الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من الافضاء والاقتراب كشخص واحد ومن العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه ويؤذيها أو يؤذى بعض أجزائه بعضا. وأما قوله وأخذن منكم ميثاقا غليظا فالظاهر أن المراد بالميثاق الغليظ هو العلقه التي أبرمها الرجل بالعقد ونحوه ومن لوازمها الصداق الذي يسمى عند النكاح وتستحقه المرأة من الرجل. وربما قيل إن المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى وربما قيل إن المراد به حكم الحلية المجعول شرعا في النكاح ولا يخفى بعد الوجهين جميعا بالنسبة إلى لفظ الآية

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن هاشم بن عبد الله عن السري البجلي قال: سألته عن قوله ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن قال - فحكى كلاما ثم قال كما يقول النبطية إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره - وكان هذا في الجاهلية وفي تفسير القمى في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها - فإنه كان في الجاهلية في أول ما أسلموا من قبائل العرب - إذا مات حميم الرجل وله امرأة - ألقى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه - الذى كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله - فلما مات أبو قيس بن الاسلت - ألقى محصن بن أبى قيس ثوبه على امرأة أبيه - وهى كبيشة بنت معمر بن معبد فورث نكاحها - ثم تركها لا يدخل بها ولا ينفق عليها - فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا رسول الله - مات أبو قيس بن الاسلت فورث محصن ابنه نكاحي - فلا يدخل على ولا ينفق على ولا يخلي سبيلي فألحق بأهلي - فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارجعي

[ 259 ]

إلى بيتك - فإن يحدث الله في شأنك شيئا أعلمتك فنزل - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا فلحقت بأهلها - وكانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهن كما ورث نكاح كبيشة غير أنه ورثهن من الابناء فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها أقول آخر الرواية لا يخلو عن اضطراب في المعنى وقد وردت هذه القصة ونزول الآيات فيها في عدة من روايات أهل السنة أيضا غير أن الروايات أو معظمها تذكر نزول قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا الآية في القصة وقد عرفت في البيان السابق عدم مساعدة السياق على ذلك. ومع ذلك فتحقق القصة وارتباط الآيات بوجه بها بالعادة الجارية فيما بينهم عند النزول في الجملة لا ريب فيه فالمعول في ذلك ما قدمناه في البيان السابق. وفي المجمع: في قوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة مبينة الآية - قال الاولى حمل الآية على كل معصية - قال وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وفي تفسير البرهان عن الشيباني: الفاحشة يعني الزنا - وذلك إذا اطلع الرجل منها على فاحشة فله أخذ الفدية - وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وفي الدر المنثور أخرج أبن جرير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله - واستحللتم فروجهن بكلمة الله - وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن حق ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ولا يعصينكم في معروف وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. أقول: وقد تقدم ما يتبين به معنى هذه الروايات. وفي الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: وأخذن منكم ميثاقا غليظا قال: الميثاق الكلمة التي عقد بها النكاح الرواية. وفي المجمع قال: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.

[ 260 ]

أقول: وهذا المعنى منقول عن عدة من مفسري السلف كابن عباس وقتادة وأبي مليكة والآية لا تأباه بانظر إلى أن ذلك حكم يصدق عليه أنه ميثاق مأخوذ على الرجال والنساء وإن كان الاظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج. وفي الدر المنثور أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عبد الله بن مصعب قال قال عمر ": لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية - فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال - فقالت امرأة ما ذاك لك قال ولم - قالت لان الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا الآية - فقال عمر امرأة أصابت ورجل أخطأ: أقول ورواه أيضا عن عبد الرزاق وابن المنذر عن عبد الرحمن السلمي وأيضا عن سعيد بن منصور وأبي يعلى بسند جيد عن مسروق وفيه أربعمائة درهم مكان أربعين أوقية وأيضا عن سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن بكر بن عبد الله المزني والروايات متقاربة المعنى. وفيه أخرج ابن جرير عن عكرمة: في قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - قال نزلت في أبي قيس بن الاسلت - خلف على ام عبيد بنت ضمرة كانت تحت الاسلت أبيه - وفي الاسود بن خلف وكان خلف على بنت أبي طلحة - بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار - وكانت عند أبيه خلف - وفي فاختة ابنة الاسود بن المطلب بن أسد - كانت عند امية بن خلف فخلف عليها صفوان بن امية - وفي منظور بن رباب وكان خلف على مليكة ابنة خارجة - وكانت عند أبيه رباب بن سيار وفيه أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان الرجل إذا توفى عن امرأة - كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء - إن لم يكن امه أو ينكحها من شاء - فلما مات أبو قيس بن الاسلت قام ابنه محصن - فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا - فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له - فقال ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية ونزلت لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها أقول وقد تقدم ما يدل على ذلك من روايات الشيعة. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال ": كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الاب والجمع بين الاختين - فأنزل الله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم

[ 261 ]

من النساء وأن تجمعوا بين الاختين أقول وفي معناه أخبار أخر = حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم و أخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23) - والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24) - ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب

[ 262 ]

ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25) - يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) - والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) - يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا (28)) - 26

(بيان)

 آيات محكمة تعد محرمات النكاح وما احل من نكاح النساء والآية السابقة عليها المبينة لحرمة نكاح ما نكح الآباء وإن كانت بحسب المضمون من جملتها إلا أن ظاهر سياقها لما كان من تتمة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع كونها بحسب المعنى ملحقة بها. وبالجملة جملة الآيات متضمنة لبيان كل محرم نكاحي من غير تخصيص أو تقييد وهو الظاهر من قوله تعالى بعد تعداد المحرمات واحل لكم ما وراء ذلكم الآية ولذلك لم يختلف أهل العلم في الاستدلال بالآية على حرمة بنت الابن والبنت وام الاب أو الام وكذا على حرمة زوجة الجد بقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية وبه يستفاد نظر القرآن في تشخيص الابناء والبنات بحسب التشريع على ما سيجئ إن شاء الله. قوله تعالى حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت هؤلاء هن المحرمات بحسب النسب وهي سبعة أصناف والام من اتصل إليها نسب الانسان بالولادة كمن ولدته من غير واسطة أو بواسطة كوالدة الاب أو الام فصاعدة والبنت من اتصل نسبها بالانسان بسبب ولادتها منه كالمولودة من صلبه بلا واسطة وكبنت الابن والبنت فنازلة والاخت من اتصل نسبها بالانسان من جهة ولادتهما معا من الاب أو الام أو منهما جميعا بلا واسطة والعمة اخت

[ 263 ]

الاب وكذا اخت الجد من جهة الاب أو الام والخالة اخت الام وكذا اخت الجدة من جهة الاب أو الام. والمراد بتحريم الامهات وما يتلوها من الاصناف حرمة نكاحهن على ما يفيده الاطلاق من مناسبة الحكم والموضوع كما في قوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم " المائدة - 3 " أي أكلهما وقوله تعالى فإنها محرمة عليهم: المائدة - 26 أي سكنى الارض وهذا مجاز عقلي شائع هذا. ولكنه لا يلائم ما سيأتي من قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم فإنه استثناء من الوطئ دون علقة النكاح على ما سيجئ وكذا قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين على ما سيجئ فالحق أن المقدر هو ما يفيد معنى الوطئ دون علقه النكاح وإنما لم يصرح تأدبا وصونا للسان على ما هو دأب كلامه تعالى. واختصاص الخطاب بالرجال دون أن يقال حرم عليهن أبنائهن الخ أو يقال مثلا لا نكاح بين المرأة وولدها الخ لما أن الطلب والخطبة بحسب الطبع إنما يقع من جانب الرجال فحسب. وتوجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالامهات والبنات الخ تفيد الاستغراق في التوزيع أي حرمت على كل رجل منكم امه وبنته إذ لا معنى لتحريم المجموع على المجموع ولا لتحريم كل ام وبنت لكل رجل مثلا على كل رجل لاوله إلى تحريم أصل النكاح فمآل الآية إلى أن كل رجل يحرم عليه نكاح امه وبنته واخته الخ. قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة شروع في بيان المحرمات بالسبب وهي سبع ست منها ما في هذه الآية وسابعتها ما يتضمنه قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية. والآية بسياقها تدل على جعل الامومة والبنوة بين المرأة ومن أرضعته وكذا الاخوة بين الرجل واخته من الرضاعة حيث ارسل الكلام فيها إرسال المسلم فالرضاعة تكون الروابط النسبية بحسب التشريع وهذا مما يختص بالشريعة الاسلامية على ما ستجئ الاشارة إليه.

[ 264 ]

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الفريقان أنه قال: إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب ولازمه أن تنتشر الحرمة بالرضاع فيما يحاذي محرمات النسب من الاصناف وهي الام والبنت والاخت والعمة والخالة وبنت الاخ وبنت الاخت سبعة أصناف. وأما ما به يتحقق الرضاع وما له في نشره الحرمة من الشرائط من حيث الكم والكيف والمدة وما يلحق بها من الاحكام فهو مما يتبين في الفقه والبحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب وأما قوله: وأخواتكم من الرضاعة فالمراد به الاخوات الملحقة بالرجل من جهة إرضاع امه إياها بلبن أبيه وهكذا. قوله تعالى " وامهات نسائكم " سواء كانت النساء أي الازواج مدخولا بهن أو غير مدخول بهن فإن النساء إذا اضيفت إلى الرجال دلت على مطلق الازواج والدليل على ذلك التقييد الآتي في قوله تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن الآية. قوله تعالى " وربائبكم اللاتي في حجوركم " إلى قوله " فلا جناح عليكم " الربائب جمع الربيبة وهي بنت زوجة الرجل من غيره لان تدبير أمر من مع المرأة من الولد إلى زوجها فهو الذي يربها ويربيها في العادة الغالبة وإن لم يكن كذلك دائما. وكذلك كون الربيبة في حجر الزوج أمر مبني على الغالب وإن لم يجر الامر عليه دائما ولذلك قيل: إن قوله: اللاتي في حجوركم قيد مبني على الغالب فالربيبة محرمة سواء كانت في حجر زوج امها أو لم يكن فالقيد توضيحي لا احترازي. ومن الممكن أن يقال إن قوله اللاتي في حجوركم إشارة إلى ما يستفاد من حكمة تشريع الحرمة في محرمات النسب والسبب على ما سيجئ البحث عنه وهو الاختلاط الواقع المستقر بين الرجل وبين هؤلاء الاصناف من النساء والمصاحبة الغالبة بين هؤلاء في المنازل والبيوت فلولا حكم الحرمة المؤبدة لم يمكن الاحتراز من وقوع الفحشاء بمجرد تحريم الزنا (على ما سيجئ بيانه). فيكون قوله " اللاتي في حجوركم " مشيرا إلى أن الربائب لكونهن غالبا في حجوركم وفي صحابتكم تشارك سائر الاصناف في الاشتمال على ملاك التحريم وحكمته.

[ 265 ]

وكيفما كان ليس قوله اللاتي في حجوركم قيدا احترازيا يتقيد به التحريم حتى تحل الربيبة لرابها إذا لم تكن في حجره كالبنت الكبيرة يتزوج الرجل بامها والدليل على ذلك المفهوم المصرح به في قوله تعالى: " فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " حيث ذكر فيه ارتفاع قيد الدخول لكون الدخول دخيلا في التحريم ولو كان الكون في الحجور مثله لكان من اللازم ذكره وهو ظاهر. وقوله: فلا جناح عليكم أي في أن تنكحوهن حذف إيثارا للاختصار لدلالة السياق عليه. قوله تعالى وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم الحلائل جمع حليلة قال في المجمع والحلائل جمع الحليلة وهي بمعنى محللة مشتقة من الحلال والذكر حليل وجمعه أحلة كعزيز وأعزة سميا بذلك لان كل واحدة منهما يحل له مباشرة صاحبه وقيل هو من الحلول لان كل واحد منهما يحال صاحبه أي يحل معه في الفراش انتهى. والمراد بالابناء من اتصل بالانسان بولادة سواء كان ذلك بلا واسطة أو بواسطة ابن أو بنت وتقييده بقوله الذين من أصلابكم احتراز عن حليلة من يدعى ابنا بالتبني دون الولادة. قوله تعالى وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف " المراد به بيان تحريم نكاح اخت الزوجة ما دامت الزوجة حية باقية تحت حبالة الزوجية فهو أوجز عبارة وأحسنها في تأدية المراد وإطلاق الكلام ينصرف إلى الجمع بينهما في النكاح في زمان واحد فلا مانع من أن ينكح الرجل إحدى الاختين ثم يتزوج بالاخرى بعد طلاق الاولى أو موتها ومن الدليل عليه السيرة القطعية بين المسلمين المتصلة بزمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما قوله إلا ما قد سلف فهو كنظيره المتقدم في قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ناظر إلى ما كان معمولا به بين عرب الجاهلية من الجمع بين الاختين والمراد به بيان العفو عما سلف من عملهم بالجمع بين الاختين قبل نزول هذه الآية دون ما لو كان شئ من ذلك في زمان النزول بنكاح سابق فإن الآية تدل على منعه لانه جمع بين الاختين بالفعل كما يدل عليه أيضا ما تقدم نقله من أسباب نزول قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية حيث فرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول

[ 266 ]

الآية بين الابناء وبين نساء آبائهم مع كون النكاح قبل نزول الآية. ورفع التحريم وهو الجواز عن نكاح سالف لا يبتلى به بالفعل والعفو عنه من حيث نفس العمل المنقضي وإن كان لغوا لا أثر له لكنه لا يخلو عن الفائدة من حيث آثار العمل الباقية بعده كطهارة المولد واعتبار القرابة مع الاستيلاد ونحو ذلك. وبعبارة اخرى لا معنى لتوجيه الحرمة أو الاباحة إلى نكاح سابق قد جمع بين الاختين إذا ماتتا مثلا أو ماتت إحديهما أو حل الطلاق بهما أو بإحديهما لكن يصح رفع الالغاء والتحريم عن مثل هذا النكاح باعتبار ما استتبعه من الاولاد من حيث الحكم بطهارة مولدهم ووجود القرابة بينهم وبين آبائهم المولدين لهم وسائر قرابات الآباء المؤثر ذلك في الارث والنكاح وغير ذلك. وعلى هذا فقوله " إلا ما قد سلف " استثناء من الحكم باعتبار آثاره الشرعية لا باعتبار أصل تعلقه بعمل قد انقضى قبل التشريع ومن هنا يظهر أن الاستثناء متصل لا منقطع كما ذكره المفسرون. ويمكن أن يرجع الاستثناء إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن يختص بقوله وأن تجمعوا بين الاختين " فإن العرب وإن كانت لا ترتكب من هذه المحرمات إلا الجمع بين الاختين ولم تكن تقترف نكاح الامهات والبنات وسائر ما ذكرت في الآية إلا أن هناك امما كانت تنكح أقسام المحارم كالفرس والروم وسائر الامم المتمدنة وغير المتمدنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه والاسلام يعتبر صحة نكاح الامم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم فيحكم بطهارة مولدهم ويعتبر صحة قرابتهم بعد الدخول في دين الحق هذا لكن الوجه الاول أظهر. قوله تعالى إن الله كان غفورا رحيما تعليل راجع إلى الاستثناء وهو من الموارد التي تعلقت فيها المغفرة بآثار الاعمال في الخارج دون الذنوب والمعاصي. قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم المحصنات بفتح الصاد اسم مفعول من الاحصان وهوالمنع ومنه الحصن الحصين أي المنيع يقال أحصنت المرأة إذا عفت فحفظت نفسها وامتنعت عن الفجور قال تعالى التي أحصنت فرجها " التحريم - 12 " أي عفت ويقال أحصنت المرأة بالبناء للفاعل والمفعول

[ 267 ]

إذا تزوجت فأحصن زوجها أو التزوج إياها من غير زوجها ويقال أحصنت المرأة إذا كانت حره فمنعها ذلك من أن يمتلك الغير بضعها أو منعها ذلك من الزنا لان ذلك كان فاشيا في الاماء. والظاهر أن المراد بالمحصنات في الآية هو المعنى الثاني أي المتزوجات دون الاول والثالث لان الممنوع المحرم في غير الاصناف الاربعة عشر المعدودة في الآيتين هو نكاح المزوجات فحسب فلا منع من غيرها من النساء سواء كانت عفيفة أو غيرها وسواء كانت حرة أو مملوكة فلا وجه لان يراد بالمحصنات في الآية العفائف مع عدم اختصاص حكم المنع بالعفائف ثم يرتكب تقييد الآية بالتزويج أو حمل اللفظ على إرادة الحرائر مع كون الحكم في الاماء أيضا مثلهن ثم ارتكاب التقييد بالتزويج فإن ذلك أمر لا يرتضيه الطبع السليم. فالمراد بالمحصنات من النساء المزوجات وهي التي تحت حبالة التزويج وهو عطف على موضع امهاتكم والمعنى وحرمت عليكم كل مزوجة من النساء ما دامت مزوجة ذات بعل. وعلى هذا يكون قوله إلا ما ملكت أيمانكم " رفعا لحكم المنع عن محصنات الاماء على ما ورد في السنة أن لمولى الامة المزوجة أن يحول بين مملوكته وزوجها ثم ينالها عن استبراء ثم يردها إلى زوجها. وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله إلا ما ملكت أيمانكم إلا ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو بملك الرقبة من العفائف فالمراد بالملك ملك الاستمتاع والتسلط على المباشرة ففيه أولا أنه يتوقف على أن يراد بالمحصنات العفائف دون المزوجات وقد عرفت ما فيه وثانيا أن المعهود من القرآن إطلاق هذه العبارة على غير هذا المعنى وهو ملك الرقبة دون التسلط على الانتفاع ونحوه. وكذا ما ذكره بعض آخر أن المراد بما ملكته الايمان الجواري المسبيات إذا كن ذوات أزواج من الكفار وأيد ذلك بما روي عن أبي سعيد الخدري: أن الآية نزلت في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين وكانت لهن أزواج في دار الحرب فلما نزلت نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا غير الحبالى حتى يستبرأن.

[ 268 ]

وفيه مضافا إلى ضعف الرواية أن ذلك تخصيص للآية من غير مخصص فالمصير إلى ما ذكرناه. قوله تعالى كتاب الله عليكم أي الزموا حكم الله المكتوب المقضي عليكم وقد ذكر المفسرون أن قوله " كتاب الله عليكم " منصوب مفعولا مطلقا لفعل مقدر والتقدير كتب الله كتابا عليكم ثم حذف الفعل واضيف المصدر إلى فاعله واقيم مقامه ولم يأخذوا لفظ عليكم اسم فعل لما ذكره النحويون أنه ضعيف العمل لا يتقدم معموله عليه هذا. قوله تعالى واحل لكم ما وراء ذلكم ظاهر التعبير بما الظاهرة في غير اولى العقل وكذا الاشارة بذلكم الدال على المفرد المذكر وكذا قوله بعده أن تبتغوا بأموالكم أن يكون المراد بالموصول واسم الاشارة هو المقدر في قوله حرمت عليكم امهاتكم المتعلق به التحريم من الوطئ والنيل أو ما هو من هذا القبيل والمعنى واحل لكم من نيلهن ما هو غير ما ذكر لكم وهو النيل بالنكاح في غير من عد من الاصناف الخمسة عشر أو بملك اليمين وحينئذ يستقيم بدليه قوله أن تبتغوا بأموالكم من قوله واحل لكم ما وراء ذلكم كل الاستقامة. وقد ورد عن المفسرين في هذه الجملة من الآية تفاسير عجيبة كقول بعضهم إن معنى قوله واحل لكم ما وراء ذلكم احل لكم ما وراء ذات المحارم من أقاربكم وقول بعض آخر إن المراد احل لكم ما دون الخمس وهي الاربع فما دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح وقول بعض آخر إن المعنى احل لكم ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم وقول بعض آخر معناها احل لكم ما وراء ذات المحارم والزيادة على الاربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين. وهذه وجوه سخيفة لا دليل على شئ منها من قبل اللفظ في الآية على أنها تشترك في حمل لفظة ما في الآية على اولي العقل ولا موجب له كما عرفت آنفا على أن الآية في مقام بيان المحرم من نيل النساء من حيث أصناف النساء لا من حيث عدد الازواج فلا وجه لتحميل إراده العدد على الآية فالحق أن الجملة في مقام بيان جواز نيل النساء فيما سوى الاصناف المعدودة منهن في الآيتين السابقتين بالنكاح أو بملك اليمين. قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين بدل أو عطف بيان

[ 269 ]

من قوله ما وراء ذلكم يتبين به الطريق المشروع في نيل النساء ومباشرتهن وذلك أن الذي يشمله قوله واحل لكم ما وراء ذلكم من المصداق ثلاثة النكاح وملك اليمين والسفاح وهو الزنا فبين بقوله أن تبتغوا بأموالكم الخ المنع عن السفاح وقصر الحل في النكاح وملك اليمين ثم اعتبر الابتغاء بالاموال وهو في النكاح المهر والاجرة ركن من أركانه وفي ملك اليمين الثمن وهو الطريق الغالب في تملك الاماء فيؤول معنى الآية إلى مثل قولنا احل لكم فيما سوى الاصناف المعدودة أن تطلبوا مباشرة النساء ونيلهن بإنفاق أموالكم في اجرة المنكوحات من النساء نكاحا من غير سفاح أو انفاقها في ثمن الجواري والاماء. ومن هنا يظهر أن المراد بالاحصان في قوله محصنين غير مسافحين إحصان العفة دون إحصان التزوج وإحصان الحرية فإن المراد بابتغاء الاموال في الآية أعم مما يتعلق بالنكاح أو بملك اليمين ولا دليل على قصرها في النكاح حتى يحمل الاحصان على إحصان التزوج وليس المراد بإحصان العفة الاحتراز عن مباشرة النساء حتى ينافي المورد بل ما يقابل السفاح أعني التعدي إلى الفحشاء بأي وجه كان بقصر النفس في ما أحل الله وكفها عما حرم الله من الطرق العادية في التمتع المباشري الذي اودع النزوع إليه في جبلة الانسان وفطرته. وبما قدمناه يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن قوله أن تبتغوا بأموالكم بتقدير لام الغاية أو ما يؤدي معناها والتقدير لتبتغوا أو إرادة أن تبتغوا. وذلك أن مضمون قوله أن تبتغوا بوجه عين ما اريد بقوله ما وراء ذلكم لا أنه أمر مترتب عليه مقصود لاجله وهو ظاهر. وكذا ما يظهر من كلام بعضهم أن المراد بالمسافحة مطلق سفح الماء وصبه من غير أن يقصد به الغاية التي وضع الله سبحانه هذه الداعية الشهوية الفطرية في الانسان لاجلها وهي غرض تكوين البيت وإيجاد النسل والولد وبالمقابلة يكون الاحصان هو الازدواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد والتناسل هذا. وإني لست أرى هذا القائل إلا أنه اختلط عليه طريق البحث فخلط البحث في ملاك الحكم المسمى بحكمة التشريع بالبحث عن نفس الحكم فلزمه ما لا يسعه الالتزام به من اللوازم.

[ 270 ]

وأحد البحثين وهو البحث عن الملاك عقلي والآخر وهو البحث عن الحكم الشرعي وما له من الموضوع والمتعلق والشرائط والموانع لفظي يتبع في السعة والضيق البيان اللفظي من الشارع وإنا لا نشك أن جميع الاحكام المشرعة تتبع مصالح وملاكات حقيقية وحكم النكاح الذي هو أيضا أحدها يتبع في تشريعه مصلحة واقعية وملاكا حقيقيا وهو التوالد والتناسل ونعلم أن نظام الصنع والايجاد أراد من النوع الانساني البقاء النوعي ببقاء الافراد ما شاء الله ثم احتيل إلى هذا الغرض بتجهيز البنية الانسانية بجهاز التناسل الذي يفصل أجزاء منه فيربيه ويكونه إنسانا جديدا يخلف الانسان القديم فتمتد به سلسلة النوع من غير انقطاع واحتيل إلى تسخير هذا الجهاز للعمل والانتاج بإيداع القوة الشهوانية التي يحن بها أحد القبيلين الذكر والانثى من الافراد إلى الآخر وينجذب بها كل إلى صاحبه بالوقوع عليه والنيل ثم كمل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل الذي يندب إليه نظام الخلقه. وفي عين أن نظام الخلقة بالغ أمره وواجد غرضه الذي هو بقاء النوع لسنا نجد أفراد هذه الاتصالات المباشرية بين الذكر والانثى ولا أصنافها موصلة إلى غرض الخلقة دائما بل إنما هي مقدمة غالبية فليس كل ازدواج مؤديا إلى ظهور الولد ولا كل عمل تناسلي كذلك ولا كل ميل إلى هذا العمل يؤثر هذا الاثر ولا كل رجل أو كل امرأة ولا كل ازدواج يهدي هداية اضطرارية إلى الذواق فالاستيلاد فالجميع امور غالبية. فالتجهز التكويني يدعو الانسان إلى الازدواج طلبا للنسل من طريق الشهوة والعقل المودوع فيه يضيف إلى ذلك التحرز وحفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة العيش الهادم لاساس البيوت القاطع للنسل. وهذه المصلحة المركبة أعني مصلحة الاستيلاد والامن من دبيب الفحشاء هي الملاك الغالبي الذي بني عليه تشريع النكاح في الاسلام غير أن الاغلبية من أحكام الملاك وأما الاحكام المشرعة لموضوعاتها فهي لا تقبل إلا الدوام. فليس من الجائز أن يقال إن النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض والملاك المذكور وجودا وعدما فلا يجوز نكاح إلا بنية التوالد ولا يجوز نكاح العقيم

[ 271 ]

ولا نكاح العجوز التي لا ترى الحمرة ولا يجوز نكاح الصغيرة ولا يجوز نكاح الزاني ولا يجوز مباشرة الحامل ولا مباشرة من غير إنزال ولا نكاح من غير تأسيس بيت ولا يجوز... ولا يجوز.... بل النكاح سنة مشروعة بين قبيلي الذكر والانثى لها أحكام دائمية وقد اريد بهذه السنة المشروعة حفظ مصلحة عامة غالبية كما عرفت فلا معنى لجعل سنة مشروعة تابعة لتحقق الملاك وجودا وعدما والمنع عما لا يتحقق به الملاك من أفراده أو أحكامه. قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة كأن الضمير في قوله به راجع إلى ما يدل عليه قوله واحل لكم ما وراء ذلكم وهو النيل أو ما يؤدي معناه فيكون ما للتوقيت وقوله منهن متعلقا بقوله استمتعتم والمعنى مهما استمتعتم بالنيل منهن فآتوهن اجورهن فريضة. ويمكن أن يكون ما موصولة واستمتعتم صلة لها وضمير به راجعا إلى الموصول وقوله منهن بيانا للموصول والمعنى ومن استمتعتم به من النساء الخ. والجملة أعني قوله فما استمتعتم الخ تفريع لما تقدمها من الكلام لمكان الفاء تفريع البعض على الكل أو تفريع الجزئي على الكلي بلا شك فإن ما تقدم من الكلام أعني قوله أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين كما تقدم بيانه شامل لما في النكاح وملك اليمين فتفريع قوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن عليه يكون من تفريع الجزء على الكل أو تفريع بعض الاقسام الجزئية على المقسم الكلي. وهذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى كقوله عز من قائل أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر الآية: البقرة - 184 وقوله فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية: البقرة - 196 وقوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله الآية: البقرة - 256 إلى غير ذلك. والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك فإن الآية مدنية نازلة

[ 272 ]

في سورة النساء في النصف الاول من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها وهذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك وقد أطبقت الاخبار على تسلم ذلك سواء كان الاسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن فأصل وجوده بينهم بمرئى من النبي ومسمع منه لا شك فيه وكان اسمه هذا الاسم ولا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ فلا مناص من كون قوله فما استمتعتم به منهن محمولا عليه مفهوما منه هذا المعنى كما أن سائر السنن والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشئ من تلك الاسماء بإمضاء أو رد أو امر أو نهي لم يكن بد من حمل الاسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الاصلية. وذلك كالحج والبيع والربا والربح والغنيمة وسائر ما هو من هذا القبيل فلم يمكن لاحد أن يدعي أن المراد بحج البيت قصده وهكذاو كذلك ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الموضوعات الشرعية ثم شاع الاستعمال حتى عرفت بأساميها الشرعية كالصلاة والصوم والزكاة وحج التمتع وغير ذلك لا مجال بعد تحقق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية الاصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية أو المتشرعية فيها. فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة أو لم نقل فإنما هو أمر آخر. وجملة الامر أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة وهو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة والتابعين كابن عباس وابن مسعود وابي بن كعب وقتادة ومجاهد والسدي وابن جبير والحسن وغيرهم وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام. ومنه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية أن المراد بالاستمتاع هو النكاح فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها هذا وربما ذكر بعضهم أن السين والتاء في استمتعتم للتأكيد والمعنى تمتعتم.

[ 273 ]

وذلك لان تداول نكاح المتعة بهذا الاسم ومعروفيته بينهم لا يدع مجالا لخطور هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين. على أن هذا المعنى على تقدير صحته وانطباق معنى الطلب على المورد أو كون استمتعتم بمعنى تمتعتم لا يلائم الجزاء المترتب عليه أعني قوله فآتوهن اجورهن فإن المهر يجب بمجرد العقد ولا يتوقف على نفس التمتع ولا على طلب التمتع الصادق على الخطبة وإجراء العقد والملاعبة والمباشرة وغير ذلك بل يجب نصفه بالعقد ونصفه الآخر بالدخول. على أن الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع تقاديره فلا وجه لتكرار بيان الوجوب وذلك كقوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة الآية: النساء - 4 وقوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا الآيتان: النساء - 20 وقوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره إلى أن قال وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم الآيتان: البقرة - 237. وما احتمله بعضهم أن الآية أعني قوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة مسوقة للتأكيد يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات وخاصة سياق ذيل قوله وإن أردتم استبدال الآيتين أشد وآكد لحنا من هذه الآية فلا وجه لكون هذه مؤكدة لتلك. وأما النسخ فقد قيل إن الآية منسوخة بآية المؤمنون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون: المؤمنون - 7 وقيل منسوخة بآية العدة يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن: الطلاق - 1 والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية: البقرة - 228 حيث إن انفصال الزوجين إنما هو بطلاق وعدة وليسا في نكاح المتعة وقيل منسوخة بآيات الميراث ولكم نصف ما ترك أزواجكم

[ 274 ]

الآية: النساء - 12 حيث لا إرث في نكاح المتعة وقيل منسوخة بآية التحريم حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم الآية فإنها في النكاح وقيل منسوخة بآية العدد فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع الآية: النساء - 3 وقيل منسوخة بالسنة نسخها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام خيبر وقيل عام الفتح وقيل في حجه الوداع وقيل ابيحت متعة النساء ثم حرمت مرتين أو ثلاثا وآخر ما وقع واستقر عليه من الحكم الحرمة. أما النسخ بآية المؤمنون ففيه أنها لا تصلح للنسخ فإنها مكية وآية المتعة مدنية ولا تصلح المكية لنسخ المدنية على أن عدم كون المتعة نكاحا والمتمتع بها زوجة ممنوع وناهيك في ذلك ما وقع في الاخبار النبوية وفي كلمات السلف من الصحابة والتابعين من تسميتها نكاحا والاشكال عليه بلزوم التوارث والطلاق وغير ذلك سيأتي الجواب عنه. وأما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث وآية الطلاق وآية العدد ففيه أن النسبة بينها وبين آية المتعة ليست نسبة الناسخ والمنسوخ بل نسبة العام والمخصص أو المطلق والمقيد فإن آية الميراث مثلا يعم الازواج جميعا من كل دائم ومنقطع والسنة تخصصها بإخراج بعض أفرادها وهو المنقطع من تحت عمومها وكذلك القول في آية الطلاق وآية العدد وهو ظاهر ولعل القول بالنسخ ناش من عدم التمييز بين النسبتين. نعم ذهب بعض الاصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الاثبات والنفي إلى أن العام ناسخ للخاص لكن هذا مع ضعفه على ما بين في محله غير منطبق على مورد الكلام وذلك لوقوع آيات الطلاق وهي العام في سورة البقرة وهي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة وكذلك آية العدد واقعة في سورة النساء متقدمة على آية المتعة وكذلك آية الميراث واقعة قبل آية المتعة في سياق واحد متصل في سورة واحدة فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن العام على أي حال. وأما النسخ بآية العدة فبطلانه أوضح فإن حكم العدة جار في المنقطعة كالدائمة وإن اختلفتا مدة فيؤول إلى التخصيص أيضا دون النسخ. وأما النسخ بآية التحريم فهو من أعجب ما قيل في هذا المقام أما اولا فلان مجموع

[ 275 ]

الكلام الدال على التحريم والدال على حكم نكاح المتعة كلام واحد مسرود متسق الاجزاء متصل الابعاض فكيف يمكن تصور تقدم ما يدل على المتعة ثم نسخ ما في صدر الكلام لذيله ؟ وأما ثانيا فلان الآية غير صريحة ولا ظاهرة في النهي عن الزوجية غير الدائمة بوجه من الوجوه وإنما هي في مقام بيان أصناف النساء المحرمة على الرجال ثم بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين ونكاح المتعة نكاح على ما تقدم فلا نسبة بين الامرين بالمباينة حتى يؤول إلى النسخ. نعم ربما قيل إن قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين حيث قيد حلية النساء بالمهر وبالاحصان من غير سفاح ولا إحصان في النكاح المنقطع ولذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا لعدم كونه محصنا يدفع كون المتعة مرادة بالآية. لكن يرد عليه ما تقدم أن المراد بالاحصان في قوله محصنين غير مسافحين هو إحصان العفة دون إحصان التزوج لكون الكلام بعينه شاملا لملك اليمين كشموله النكاح ولو سلم أن المراد بالاحصان هو إحصان التزوج عاد الامر إلى تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع المحصن بحسب السنة دون الكتاب فإن حكم الرجم غير مذكور في الكتاب من أصله. وأما النسخ بالسنة ففيه مضافا إلى بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه مخالفا للاخبار المتواترة الآمرة بعرض الاخبار على الكتاب وطرح ما خالفه والرجوع إلى الكتاب ما سيأتي في البحث الروائي. قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات الطول الغنى والزيادة في القدرة وكلا المعنيين يلائمان الآية والمراد بالمحصنات الحرائر بقرينه مقابلته بالفتيات وهذا بعينه يشهد على أن ليس المراد بها العفائف وإلا لم تقابل بالفتيات بل بها وبغير العفائف وليس المراد بها ذوات الازواج إذ لا يقع عليها العقد ولا المسلمات وإلا لاستغنى عن التقييد بالمؤمنات. والمراد بقوله فمما ملكت أيمانكم ما ملكته أيمان المؤمنين غير من يريد الازدواج والا فتزوج الانسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع وقد نسب ملك

[ 276 ]

اليمين إلى المؤمنين وفيهم المريد للتزوج بعد الجميع واحدا غير مختلف لاتحادهم في الدين واتحاد مصالحهم ومنافعهم كأنهم شخص واحد. وفي تقييد المحصنات وكذا الفتيات بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير المؤمنات من كتابية ومشركة ولهذا الكلام تتمة ستمر بك إن شاء الله العزيز في أوائل سورة المائدة. ومحصل معنى الآية أن من لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته على تحمل أثقال المهر والنفقة فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير ان يتحرج من فقدان القدرة على الحرائر ويعرض نفسه على خطرات الفحشاء ومعترض الشقاء. فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم والآية في سياق التنزل أي إن لم يمكنكم كذا فيمكنكم كذا وإنما قصر الكلام في صورة التنزل على بعض أفراد المنزل عنه أعني على النكاح الدائم الذي هو بعض أفراد النكاح الجائز لكون النكاح الدائم هو المتعارف المتعين بالطبع في نظر الانسان المريد تأسيس البيت وإيجاد النسل وتخليف الولد ونكاح المتعة تسهيل ديني خفف الله به عن عباده لمصلحة سد طريق الفحشاء وقطع منابت الفساد. وسوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة إلى الذهن وخاصة في مقام تشريع الاحكام والقوانين كثير شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر: البقرة - 185 مع أن العذر لا ينحصر في المرض والسفر وقوله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا: النساء - 43 والاعذار وقيود الكلام كما ترى مبنية على الغالب المعروف إلى غير ذلك من الآيات. هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم ولا يوجب ذلك من حيث اشتماله على معنى التنزل والتوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم وكون قوله فما استمتعتم به منهن غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهمه بعضهم لان هذا التنزل والتوسعة واقع بطرفيه (المنزل عنه والمنزل إليه) في نفس هذه الآية أعني قوله:

[ 277 ]

فمن لم يجد منكم طولا الخ. على أن الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح الشامل للدائم والمنقطع كما سيتضح بالكلام على بقية فقراتها. قوله تعالى والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض لما كان الايمان المأخوذ في متعلق الحكم أمرا قلبيا لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الاسباب وربما أوهم تعليقا بالمتعذر أو المتعسر وأوجب تحرج المكلفين منه بين تعالى أنه هو العالم بإيمان عباده المؤمنين وهو كناية عن أنهم إنما كلفوا الجرى على الاسباب الظاهرية الدالة على الايمان كالشهادتين والدخول في جماعة المسلمين والاتيان بالوظائف العامة الدينية فظاهر الايمان هو الملاك دون باطنه. وفي هداية هؤلاء المكلفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالاماء نقص وقصور آخر في الوقوع موقع التأثير والقبول وهو أن عامة الناس يرون لطبقة المملوكين من العبيد والاماء هوانا في الامر وخسة في الشأن ونوع ذلة وانكسار فيوجب ذلك انقباضهم وجماح نفوسهم من الاختلاط بهم والمعاشرة معهم وخاصة بالازدواج الذى هو اشتراك حيوى وامتزاج باللحم والدم. فأشار سبحانه بقوله بعضكم من بعض إلى حقيقة صريحة يندفع بالتأمل فيها هذا التوهم الفاسد فالرقيق إنسان كما أن الحر إنسان لا يتميزان في ما به يصير الانسان واجدا لشؤون الانسانية وإنما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم بها المجتمع الانساني في إنتاجه سعادة الناس ولا عبرة بهذه التميزات عند الله والذى به العبرة هو التقوى الذى به الكرامة عند الله فلا ينبغى للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهمية التى تبعدهم عن حقائق المعارف المتضمنة سعادتهم وفلاحهم فإن الخروج عن مستوى الطريق المستقيم وإن كان حقيرا في بادى أمره لكنه لا يزال يبعد الانسان من صراط الهداية حتى يورده أودية الهلكة. ومن هنا يظهر أن الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط والتنزل أعنى قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم إنما هو جرى في الكلام على مجرى الطبع والعادة وليس إلزاما للمؤمنين

[ 278 ]

على الترتيب بمعنى أن يتوقف جواز نكاح الامة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرة بل لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض ونبه مع ذلك على أن الحر والرق من نوع واحد بعض أفراده يرجع إلى بعض. ومن هنا يظهر أيضا فساد ما ذكره بعضهم في قوله تعالى في ذيل الآية وأن تصبروا خير لكم أن المعنى وصبركم عن نكاح الاماء مع العفة خير لكم من نكاحهن لما فيه من الذل والمهانة والابتذال هذا فإن قوله بعضكم من بعض ينافى ذلك قطعا. قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن إلى قوله أخدان المراد بالمحصنات العفائف فإن ذوات البعولة لا يقع عليهن نكاح والمراد بالمسافحات ما يقابل متخذات الاخدان والاخدان جمع خدن بكسر الخاء وهو الصديق يستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع وإنما اتى به بصيغة الجمع للدلالة على الكثرة نصا فمن يأخذ صديقا للفحشاء لا يقنع بالواحد والاثنين فيه لان النفس لا تقف على حد إذا اطيعت فيما تهواه. وبالنظر إلى هذه المقابلة قال من قال إن المراد بالسفاح الزنا جهرا وباتخاذ الخدن الزنا سرا وقد كان اتخاذ الخدن متداولا عند العرب حتى عند الاحرار والحرائر لا يعاب به مع ذمهم زنا العلن لغير الاماء. فقوله فانكحوهن بإذن أهلهن إرشاد إلى نكاح الفتيات مشروطا بأن يكون بإذن مواليهن فإن زمام أمرهن إنما هو بيد الموالى لا غير وإنما عبر عنهم بقوله أهلهن جريا على ما يقتضيه قوله قبل بعضكم من بعض فالفتاة واحدة من أهل بيت مولاها ومولاها أهلها. والمراد بإتيانهن اجورهن بالمعروف توفيتهن مهور نكاحهن وإتيان الاجور إياهن إعطاؤها مواليهن وقد أرشد إلى الاعطاء بالمعروف عن غير بخس ومماطلة وإيذاء. قوله تعالى فإذا احصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قرئ احصن بضم الهمزة بالبناء للمفعول وبفتح الهمزة بالبناء للفاعل وهو الارجح. الاحصان في الآية إن كان هو إحصان الازدواج كان أخذه في الشرط المجرد

[ 279 ]

كون مورد لكلام في ما تقدم ازدواجهن وذلك أن الامة تعذب نصف عذاب الحرة إذا زنت سواء كانت محصنة بالازدواج أو لا من غير أن يؤثر الاحصان فيها شيئا زائدا. وأما إذا كان إحصان الاسلام كما قيل ويؤيده قراءة فتح الهمزة تم المعنى من غير مؤونة زائدة وكان عليهن إذا زنين نصف عذاب الحرائر سواء كن ذوات بعولة أو لا والمراد بالعذاب هو الجلد دون الرجم لان الرجم لا يقبل الانتصاف وهو الشاهد على أن المراد بالمحصنات الحرائر غير ذوات الازواج المذكورة في صدر الآية واللام للعهد فمعنى الآية بالجملة أن الفتيات المؤمنات إذا أتين بفاحشة وهو الزنا فعليهن نصف حد المحصنات غير ذوات الازواج وهو جلد خمسين سوطا. ومن الممكن أن يكون المراد بالاحصان إحصان العفة وتقريره أن الجوارى يومئذ لم يكن لهن الاشتغال بكل ما تهواه أنفسهن من الاعمال بما لهن من اتباع أوامر مواليهن وخاصة في الفاحشة والفجور وكانت الفاحشة فيهن لو اتفقت بأمر من مواليهن في سبيل الاستغلال بهن والاستدرار من عرضهن كما يشعر به النهى الوارد في قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: النور - 33 فالتماسهن الفجور واشتغالهن بالفحشاء باتخاذها عادة ومكسبا كان فيما كان بأمر مواليهن من دون أن يسع لهن الاستنكاف والتمرد وإذا لم يكرههن الموالى على الفجور فالمؤمنات منهن على ظاهر تقوى الاسلام وعفة الايمان وحينئذ إن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وهو قوله تعالى فإذا احصن فإن أتين بفاحشة الخ. ومن هنا يظهر أن لا مفهوم لهذه الشرطية على هذا المعنى وذلك أنهن إذا لم يحصن ولم يعففن كن مكرهات من قبل مواليهن مؤتمرات لامرهم كما لا مفهوم لقوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: النور - 33 حيث إنهن إن لم يردن التحصن لم يكن موضوع لاكراههن من قبل الموالى لرضاهن بذلك فافهم.

[ 280 ]

قوله تعالى ذلك لمن خشى العنت منكم العنت الجهد والشدة والهلاك وكأن المراد به الزنا الذى هو نتيجة وقوع الانسان في مشقة الشبق وجهد شهوة النكاح وفيه هلاك الانسان والاشارة على ما قيل إلى نكاح الجوارى المذكور في الآية وعليه فمعنى قوله وأن تصبروا خير لكم أن تصبروا عن نكاح الاماء أو عن الزنا خير لكم ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى وجوب نكاح الاماء أو وجوب مطلق النكاح لو استفيد شئ منهما من سابق سياق الآية والله أعلم. وكيف كان فكون الصبر خيرا إن كان المراد هو الصبر عن نكاح الاماء إنما هو لما فيه من حقوق مواليهن وفي أولادهن على ما فصل في الفقه وإن كان المراد الصبر عن الزنا إنما هو لما في الصبر من تهذيب النفس وتهيئة ملكة التقوى فيها بترك اتباع هواها في الزنا من غير ازدواج أو معه والله غفور رحيم يمحو بمغفرته آثار خطرات السوء عن نفوس المتقين من عباده ويرحمهم برحمته. قوله تعالى يريد الله ليبين لكم إلى آخر الآية بيان وإشارة إلى غاية تشريع ما سبق من الاحكام في الآيات الثلاث والمصالح التى تترتب عليها إذا عمل بها فقوله يريد الله ليبين لكم أي أحكام دينه مما فيه صلاح دنياكم وعقباكم وما في ذلك من المعارف والحكم وعلى هذا فمعمول قوله يبين محذوف للدلالة على فخامة أمره وعظم شأنه ويمكن أن يكون قوله يبين لكم وقوله ويهديكم متنازعين في قوله سنن الذين. قوله تعالى ويهديكم سنن الذين من قبلكم أي طرق حياة السابقين من الانبياء والامم الصالحة الجارين في الحياة الدنيا على مرضاة الله الحائزين به سعادة الدنيا والآخرة والمراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة لا سننهم بتفاصيلها وجميع خصوصياتها فلا يرد عليه أن من احكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها كازدواج الاخوة بالاخوات في سنة آدم والجمع بين الاختين في سنة يعقوب عليه السلام وقد جمع عليه السلام بين الاختين ليا ام يهودا وراحيل ام يوسف على ما في بعض الاخبار هذا. وهنا معنى آخر قيل به وهو أن المراد الهداية إلى سنن جميع السابقين سواء كانوا على الحق أو على الباطل يعني أنا بينا لكم جميع السنن السابقة من حق وباطل لتكونوا على بصيرة فتأخذوا بالحق منها وتدعوا الباطل.

[ 281 ]

وهذا معنى لا بأس به غير أن الهداية في القرآن غير مستعمل في هذا المعنى وإنما استعمل فيما استعمل في الايصال إلى الحق أو إرادة الحق كقوله إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء: القصص - 56 وقوله إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا: الانسان - 3 والاوفق بمذاق القرآن أن يعبر عن أمثال هذه المعاني بلفظ التبيين والقصص ونحو ذلك. نعم لو جعل قوله يبين وقوله ويهديكم متنازعين في قوله سنن الذين من قبلكم وقوله ويتوب عليكم أيضا راجعا إليه وآل المعنى إلى أن الله يبين لكم سنن الذين من قبلكم ويهديكم إلى الحق منها ويتوب عليكم فيما ابتليتم به من باطلها كان له وجه فإن الآيات السابقة فيها ذكر من سنن السابقين والحق والباطل منها والتوبة على ما قد سلف من السنن الباطلة. قوله تعالى ويتوب عليكم والله عليم حكيم التوبة المذكورة هو رجوعه إلى عبده بالنعمة والرحمة وتشريع الشريعة وبيان الحقيقة والهداية إلى طريق الاستقامة كل ذلك توبة منه سبحانه كما أن قبول توبة العبد ورفع آثار المعصية توبة. وتذييل الكلام بقوله والله عليم حكيم ليكون راجعا إلى جميع فقرات الآية ولو كان المراد رجوعه إلى آخر الفقرات لكان الانسب ظاهرا أن يقال والله غفور رحيم. قوله تعالى والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين الخ كأن تكرار ذكر توبته للمؤمنين للدلالة على أن قوله ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما إنما يقابل من الفقرات الثلاث في الآية السابقة الفقرة الاخيرة فقط إذ لو ضم قوله ويريد الذين الخ إلى الآية السابقة من غير تكرار قوله والله يريد الخ أفاد المقابلة في معنى جميع الفقرات ولغى المعنى قطعا. والمراد بالميل العظيم هتك هذه الحدود الالهية المذكورة في الآيات بإتيان المحارم وإلغاء تأثير الانساب والاسباب واستباحة الزنا والمنع عن الاذأ بما سنه الله من السنة القويمة. قوله تعالى يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا كون الانسان

[ 282 ]

ضعيفا لما ركب الله فيه القوى الشهوية التي لا تزال تنازعه في ما تتعلق به من المشتهيات وتبعثه إلى غشيانها فمن الله عليهم بتشريع حلية ما تنكسر به سورة شهوتهم بتجويز النكاح بما يرتفع به غائلة الحرج حيث قال واحل لكم ما وراء ذلكم وهو النكاح وملك اليمين فهداهم بذلك سنن الذين من قبلهم وزادهم تخفيفا منه لهم لتشريع نكاح المتعة إذ ليس معه كلفة النكاح وما يستتبعه من أثقال الوظائف من صداق ونفقة وغير ذلك. وربما قيل إن المراد به إباحة نكاح الاماء عند الضرورة تخفيفا وفيه أن نكاح الاماء عند الضرورة كان معمولا به بينهم قبل الاسلام على كراهة وذم والذي ابتدعته هذه الآيات هو التسبب إلى نفى هذه الكراهة والنفرة ببيان أن الامة كالحرة إنسان لا تفاوت بينهما وأن الرقية لا توجب سقوط صاحبها عن لياقة المصاحبة والمعاشرة. وظاهر الآيات بما لا ينكر أن الخطاب فيها متوجه إلى المؤمنين من هذه الامة فالتخفيف المذكور في الآية تخفيف على هذه الامة والمراد به ما ذكرناه. وعلى هذا فتعليل التخفيف بقوله وخلق الانسان ضعيفا مع كونه وصفا مشتركا بين جميع الامم هذه الامة والذين من قبلهم وكون التخفيف مخصوصا بهذه الامة إنما هو من قبيل ذكر المقتضى العام والسكوت عما يتم به في تأثيره فكأنه قيل إنا خففنا عنكم لكون الضعف العام في نوع الانسان سببا مقتضيا للتخفيف لو لا المانع لكن لم تزل الموانع تمنع عن فعلية التخفيف وانبساط الرحمة في سائر الامم حتى وصلت النوبة اليكم فعمتكم الرحمة وظهرت فيكم آثاره فبرز حكم السبب المذكور وشرع فيكم حكم التخفيف وقد حرمت الامم السابقة من ذلك كما يدل عليه قوله ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا: البقرة - 286 وقوله هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج: الحج - 78. ومن هنا يظهر أن النكتة في هذا التعليل العام بيان ظهور تمام النعم الانسانية في هذه الامة

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21403208

  • التاريخ : 19/04/2024 - 20:31

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net