00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 254 ـ 338 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء السادس)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبى جعفر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى لعيسى: " أأنت قلت للناس اتخذوني وامى إلهين من دون الله " قال: لم يقله وسيقوله، إن الله إذا علم أن شيئا كائن أخبر عنه خبر ما قد كان. اقول: وفيه أيضا عن سليمان بن خالد عن أبى عبد الله عليه السلام مثله، وحاصله أن الاتيان بصيغة الماضي في الامر المستقبل للعلم بتحقق وقوعه، وهو شائع في اللغة. وفيه عن جابر الجعفي عن أبى جعفر عليه السلام في تفسير هذه الاية: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " قال: إن اسم الله الاكبر ثلاثة وسبعون حرفا فاحتجب الرب تبارك وتعالى منها بحرف فمن ثم لا يعلم أحد ما في نفسه عزوجل. أعطى آدم اثنين وسبعين حرفا فتوارثها الانبياء حتى صار إلى عيسى عليه السلام فذلك قول عيسى: " تعلم ما في نفسي " يعنى اثنين وسبعين حرفا من الاسم الاكبر يقول: أنت علمتنيها فأنت تعلمها " ولا أعلم ما في نفسك " يقول: لانك احتجبت بذلك الحرف فلا يعلم أحد ما في نفسك.

[ 254 ]

اقول: سيجئ البحث المبسوط عن أسماء الله الحسنى واسمه الاعظم الاكبر في تفسير قوله تعالى: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " الاية (الاعراف: 180) ويتبين هناك أن الاسم الاكبر أو الاسم الاعظم ليس من نوع اللفظ حتى يتألف من حروف الهجاء وإنما المراد بالاسم في أمثال هذه الموارد هو المحكى عنه بالاسم اللفظى وهو الذات مأخوذا بصفة من صفاته ووجه من وجوهه، ويعود الاسم اللفظى حينئذ اسم الاسم على ما سيتضح بعد. وعلى هذا فقوله (ع): " إن الاسم الاكبر مؤلف من ثلاثة وسبعين حرفا " ونظيره ما ورد في روايات كثيرة في هذا الباب من أن الاسم الاعظم مؤلف من كذا حرفا، وأنها متفرقة مبثوثة في كذا سورة أو أنه في كذا آية، كل ذلك بيانات مبنية على الرمز، وأمثال مضروبة لتفهيم ما يسع تفهيمه من الحقائق فما كل حقيقة ميسورا بيانها بالصراحة من غير كناية، وبالعين دون المثل. والذى يتضح به معنى الحديث بعض الاتضاح هو أن يقال: إنه لا شك أن أسماء الله تعالى الحسنى وسائط لظهور الكون بأعيانه وحدوث حوادثه التى لا تحصى، فإنا لا نشك في أن الله سبحانه خلق خلقه لانه خالق جواد مبدئ مثلا لا لانه منتقم شديد البطش، وأنه إنما يرزق من يرزق لانه رازق معط مثلا لا لانه قابض مانع، وأنه إنما يفيض الحياة للاحياء لانه الحى المحيى لا لانه مميت معيد، والايات القرآنية أصدق شاهد على هذه الحقيقة، فإنا نرى المعارف المبينة في متون الايات معللة بالاسماء المناسبة لمعانيها في ذيلها فربما اختتمت الاية لبيان ما تضمه من المعنى باسم، وربما اختتمت باسمين يفيدان بمجموعهما المعنى المذكور فيها. ومن هنا يظهر أن الواحد منا لو رزق علم الاسماء وعلم الروابط التى بينها وبين الاشياء وما تقضيه أسماؤه تعالى مفردة ومؤلفة علم النظام الكونى بما جرى وبما يجرى عليه عن قوانين كلية منطبقة على جزئياتها واحدا بعد واحد. وقد بين القرآن الشريف على ما يفهم من ظواهره قوانين عامة كثيرة في المبدأ والمعاد وما رتبه الله تعالى من أمر السعادة والشقاوة ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ".

[ 255 ]

لكنها جميعا قوانين كلية ضرورية إلا أنها ضرورية لا في أنفسها، وباقتضاء من ذواتها بل بما أفاده الله سبحانه عليها من الضرورة واللزوم، وإذا كانت هذه الحكومة العقلية القطعية من جهته تعالى وبأمره وإرادته فمن البين أن فعله تعالى لا يجبره تعالى على مؤدى نفسه، ولا يغلبه في ذاته فهو سبحانه القاهر الغالب فكيف يغلبه ما ينتهى إليه تعالى من كل جهة ويفتقر إليه في عينه وأثره، فافهم ذلك. فمن المحال أن يكون العقل الذى يحكم بما يحكم بإفاض، الله ذلك عليه أو تكون الحقائق التى إنما وجدت أحكامها وآثارها به تعالى، حاكمة عليه تعالى مقتضية فيه بالحكم والاقتضاء اللذين هو المبقى لهما القاهر الغالب عليهما، وبعبارة اخرى: ما في الاشياء من اقتضاء وحكم إنما هو أثر التمليك الذى ملكه الله إياها، ولا معنى لان يملك شئ بالملك الذى ملكه الله بعينه منه تعالى شيئا فهو تعالى مالك على الاطلاق غير مملوك بوجه من الوجوه أصلا. فلو أثاب الله المجرم أو عاقب المثيب أو فعل أي فعل أراد لم يكن عليه ضير، ولا منعه مانع من عقل أو خارج إلا أنه تعالى وعدنا وأوعدنا بالسعادة والشقاء وحسن الجزاء وسوء الجزاء، وأخبرنا أنه لا يخلف الميعاد وأخبرنا من طريق الوحى أو العقل بامور ثم ذكر أنه لا يقول إلا الحق فسكنت نفوسنا به واطمأنت قلوبنا إليه بما لا طريق للريب إليه، قال تعالى: " إن الله لا يخلف الميعاد " (آل عمران: 9)، (الرعد: 31) وقال تعالى: " والحق أقول " (ص: 84) وفي معناهما الضرورة العقلية في أحكامها. وهذا الذى بينه هو مقتضى أسمائه تعالى فيما علمنا بتعليمه منها لكن من وراء ذلك أنه تعالى هو المالك على الاطلاق له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " (الانبياء: 23)، وهذا المعنى بعينه اسم من أسمائه تعالى مجهول الكنه لا طريق إلى تعلق العلم به لاحد من خلقه فإن كل ما نعلمه من أسمائه فهو مما يحكيه مفهوم من المفاهيم ثم نشخص بنسبته آثاره في الوجود وأما الاثار التى لا طريق إلى تشخيصها في الوجود فهى لا محالة آثار لاسم لا طريق إلى الحصول على معناها وإن شئت فقل: إنه اسم لا يصطاد بمفهوم، وإنما يشير إليه صفة ملكه المطلق نوعا من الاشارة.

[ 256 ]

فقد تبين أن من أسمائه تعالى ما لا سبيل إليه لاحد من خلقه وهو الذى احتجب تعالى به فافهم ذلك. (كلام في معنى الادب) نبحث فيه عن الادب الذى أدب به أنبياءه ورسله عليهم السلام في عدة فصول: 1 - الادب - على ما يتحصل من معناه - هو الهيئة الحسنة التى ينبغى أن يقع عليه الفعل المشروع إما في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم كآداب الدعاء وآداب ملاقاة الاصدقاء وإن شئت قلت: ظرافة الفعل. ولا يكون إلا في الامور المشروعة غير الممنوعة فلا أدب في الظلم والخيانة والكذب ولا أدب في الاعمال الشنيعة والقبيحة، ولا يتحقق أيضا إلا في الافعال الاختيارية التى لها هيئات مختلفة فوق الواحدة حتى يكون بعضها متلبسا بالادب دون بعض كأدب الاكل مثلا في الاسلام، وهو أن يبدأ فيه باسم الله ويختم بحمد الله ويؤكل دون الشبع إلى غير ذلك، وأدب الجلوس في الصلاة وهو التورك على طمأنينة ووضع الكفين على الوركين فوق الركبتين والنظر إلى حجره ونحو ذلك. وإذ كان الادب هو الهيئة الحسنة في الافعال الاختيارية والحسن وإن كان بحسب أصل معناه وهو الموافقة لغرض الحياة مما لا يختلف فيه أنظار المجتمعات لكنه بحسب مصاديقه مما يقع فيه أشد الخلاف، وبحسب اختلاف الاقوام والامم والاديان والمذاهب وحتى المجتمعات الصغيرة المنزلية وغيرها في تشخيص الحسن والقبح يقع الاختلاف بينهم في آداب الافعال. فربما كان عند قوم من الاداب مالا يعرفه آخرون، وربما كان بعض الاداب المستحسنة عند قوم شنيعة مذمومة عند آخرين كتحية أول اللقاء فإنه في الاسلام بالتسليم تحية من عند الله مباركة طيبة، وعند قوم برفع القلانس، و عند بعض برفع اليد حيال الرأس، وعند آخرين بسجدة أو ركوع أو انحناء بطأطأة الرأس، وكما أن

[ 257 ]

في آداب ملاقاة النساء عند الغربيين امورا يستشنعها الاسلام ويذمها، إلى غير ذلك. غير أن هذه الاختلافات جميعا إنما نشأت في مرحلة تشخيص المصداق وأما أصل معنى الادب، وهو الهيئة الحسنة التى ينبغى أن يكون عليها الفعل فهو مماأطبق عليه العقلاء من الانسان وأطبقوا أيضا على تحسينه فلا يختلف فيه اثنان. 2 - لما كان الحسن من مقومات معنى الادب على ما ذكر في الفصل السابق، وكان مختلفا بحسب المقاصد الخاصة في المجتمعات المختلفة أنتج ذلك ضرورة اختلاف الاداب الاجتماعية الانسانية فالادب في كل مجتمع كالمرآة يحاكى خصوصيات أخلاق ذلك المجتمع العامة التى رتبها فيهم مقاصدهم في الحياة، وركزتها في نفوسهم عوامل اجتماعهم وعوامل مختلفة أخر طبيعية أو اتفاقية. وليست الاداب هي الاخلاق لما أن الاخلاق هي الملكات الراسخة الروحية إلى تتلبس بها النفوس، ولكن الاداب هيئات حسنة مختلفة تتلبس بها الاعمال الصادرة عن الانسان عن صفات مختلفة نفسية، وبين الامرين بون بعيد. فالاداب من منشئات الاخلاق والاخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بحسب غايته الخاصة فالغاية المطلوبة للانسان في حياته هي التى تشخص ادبه في أعماله، وترسم لنفسه خطا لا يتعداه إذا أتى بعمل في مسير حياته والتقرب من غايته. 3 - وإذ كان الادب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة فالادب الالهى الذى أدب الله سبحانه به أنبياءه ورسله عليهم السلام هو الهيئة الحسنة في الاعمال الدينية التى تحاكي غرض الدين وغايته، وهو العبودية على اختلاف الاديان الحقة بحسب كثرة موادها وقلتها وبحسب مراتبها في الكمال والرقى. والاسلام لما كان من شأنه التعرض لجميع جهات الحياة الانسانية بحيث لا يشذ عنه شئ من شؤونها يسير أو خطير دقيق أو جليل فلذلك وسع الحياة أدبا، ورسم في كل عمل هيئة حسنة تحاكي غايته. وليس له غاية عامة إلا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد والعمل جميعا أي (6 - الميزان - 17)

[ 258 ]

أن يعتقد الانسان ان له إلها هو الذى منه بدئ كل شئ و إليه يعود كل شئ، له الاسماء الحسنى والامثال العليا، ثم يجرى في الحياة و يعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديته وعبودية كل شئ عنده لله الحق عز اسمه، و بذلك يسرى التوحيد في باطنه وظاهره، وتظهر العبودية المحضة من اقواله و افعاله وسائر جهات وجوده ظهورا لا ستر عليه ولا حجاب يغطيه. فالادب الالهى - أو أدب النبوة - هي هيئة التوحيد في الفعل. 4 - من المعلوم بالقياس ويؤيده التجربة القطعية أن العلوم العملية - وهى التى تتعلم ليعمل بها - لا تنجح كل النجاح ولا تؤثر أثرها الجميل دون أن تلقى إلى المتعلم في ضمن العمل، لان الكليات العلمية ما لم تنطبق على جزئياتها ومصاديقها تتثاقل النفس في تصديقها والايمان بصحتها لاشتغال نفوسنا طول الحياة بالجزئيات الحسية وكلالها بحسب الطبع الثانوي من مشاهدة الكليات العقلية الخارجة عن الحس فالذي صدق حسن الشجاعة في نفسها بحسب النظر الخالى عن العمل ثم صادف موقفا من المواقف الهائلة التى تطير فيها القلوب أدى به ذلك إلى النزاع بين عقله الحاكم بحسن الشجاعة ووهمه الجاذب إلى لذة الاحتراز من تعرض الهلكة الجسمانية وزوال الحياة المادية الناعمة فلا تزال النفس تتذبذب بين هذا وذاك، وتتحير في تأييد الواحد من الطرفين المتخاصمين، والقوة في جانب الوهم لان الحس معه. فمن الواجب عند التعليم أن تتلقى المتعلم الحقائق العلمية مشفوعة بالعمل حتى يتدرب بالعمل ويتمرن عليه لتزول بذلك الاعتقادات المخالفة الكائنة في زوايا نفسه ويرسخ التصديق بما تعلمه في النفس، لان الوقوع أحسن شاهد على الامكان. ولذلك نرى أن العمل الذى لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له فإذا وقع لاول مرة بدا كأنه انقلب من امتناع إلى إمكان وعظم أمر وقوعه وأورث في النفس قلقا واضطرابا، ثم إذا وقع ثانيا وثالثا هان أمره وانكسر سورته والتحق بالعاديات التى لا يعبأ بأمرها، وإن الخير عادة كما أن الشر عادة. ورعاية هذا الاسلوب في التعليمات الدينية وخاصة في التعليم الدينى الاسلامي من أوضح الامور فلم يأخذ شارع الدين في تعليم مؤمنيه بالكليات العقلية والقوانين العامة

[ 259 ]

قط بل بدأ بالعمل وشفعه بالقول والبيان اللفظى فإذا استكمل احدهم تعلم معارف الدين وشرائعه استكمله وهو مجهز بالعمل الصالح مزود بزاد التقوى. كما أن من الواجب أن يكون المعلم المربى عاملا بعلمه، فلا تأثير في العلم إذا لم يقرن بالعمل لان للفعل دلالة كما أن للقول دلالة فالفعل المخالف للقول يدل على ثبوت هيئة مخالفة في النفس يكذب القول فيدل على أن القول مكيدة ونوع حيلة يحتال بها قائله لغرور الناس واصطيادهم. ولذلك نرى الناس لا تلين قلوبهم ولا تنقاد نفوسهم للعظة والنصيحة إذا وجدوا الواعظ به أو الناصح بإبلاغه غير متلبس بالعمل متجافيا عن الصبر والثبات في طريقه، وربما قالوا: " لو كان ما يقوله حقا لعمل به " إلا أنهم ربما اشتبه عليهم الامر في استنتاج منه فإن النتيجة أن القول ليس بحق عند القائل إذ لو كان حقا عنده لعمل به، وليس ينتج أن القول ليس بحق مطلقا كما ربما يستنتجونه. فمن شرائط التربية الصالحة أن يكون المعلم المربى نفسه متصفا بما يصفه للمتعلم متلبسا بما يريد أن يلبسه، فمن المحال العادى أن يربى المربى الجبان شجاعا باسلا، أو يتخرج عالم حر في آرائه وأنظاره من مدرسة التعصب واللجاج وهكذا. قال تعالى: " أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن يهدى إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون " (يونس: 35) وقال: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " (البقرة: 44) وقال حكاية عن قول شعيب لقومه: " وما أريد أن اخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت " (هود: 88) إلى غير ذلك من الايات. فلذلك كله كان من الواجب أن يكون المعلم المربى ذا ايمان بمواد تعليمه وتربيته. على أن الانسان الخالى عن الايمان بما يقوله حتى المنافق المتستر بالاعمال الصالحة المتظاهر بالايمان الصريح الخالص لا يتربى بيده إلا من يمثله في نفسه الخبيثة فإن اللسان وإن أمكن القاء المغايرة بينه وبين الجنان بالتكلم بما لا ترضى به النفس ولا يوافقه السر إلا أن الكلام من جهة اخرى فعل، والفعل من آثار النفس ورشحاتها، وكيف يمكن مخالفة الفعل لطبيعة فاعله ؟.

[ 260 ]

فالكلام من غير جهة الدلالة اللفظية الوضعية حامل لطبيعة نفس المتكلم من إيمان أو كفر أو غير ذلك، وواضعها وموصلها إلى نفس المتعلم البسيطة الساذجة فلا يميز جهة صلاحه - وهو جهة دلالته الوضعية - من جهة فساده - وهو سائر جهاته - إلا من كان على بصيرة من الامر، قال تعالى في وصف المنافقين لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " ولتعرفنهم في لحن القول " (سورة محمد: 30) فالتربية المستعقبة للاثر الصالح هوما كان المعلم المربى فيها ذا إيمان بما يلقيه إلى تلامذته مشفوعا بالعمل الصالح الموافق لعلمه، وأما غير المؤمن بما يقوله أو غير العامل على طبق علمه فلا يرجى منه خير. ولهذه الحقيقة مصاديق كثيرة وأمثلة غير محصاة في سلوكنا معاشر الشرقيين والاسلاميين خاصة في التعليم والتربية في معاهدنا الرسمية وغير الرسمية فلا يكاد تدبير ينفع ولا سعى ينجح. وإلى هذا الباب يرجع ما نرى أن كلامه تعالى يشتمل على حكاية فصول من الادب الالهى المتجلى من أعمال الانبياء والرسل عليهم السلام مما يرجع إلى الله سبحانه من أقسام عباداتهم وأدعيتهم وأسئلتهم أو يرجع إلى الناس في معاشراتهم ومخاطباتهم فإن إيراد الامثلة في التعليم نوع من التعليم العملي بإشهاد العمل. قال الله تعالى بعد ذكر قصة إبراهيم في التوحيد مع قومه: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم، ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين، ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم، ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون، اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين، اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " (الانعام: 90)، يذكر تعالى أنبيائه الكرام عليهم السلام ذكرا جامعا ثم يذكر أنه أكرمهم بالهداية الالهية وهى الهداية إلى التوحيد فحسب والدليل عليه قوله: " ولو أشركوا لحبط عنهم "، فلم يذكر منافيا لما حباهم به من الهداية إلا الشرك فلم يهدهم إلا إلى التوحيد.

[ 261 ]

غير أن التوحيد حكمه سار إلى أعمالهم متمكن فيها، والدليل عليه قوله: " لحبط عنهم ما كانوا يعملون " فلو لا أن الشرك جار في الاعمال متسرب فيها لم يستوجب حبطها فالتوحيد المنافى له كذلك. ومعنى سراية التوحيد في الاعمال كون صورها تمثل التوحيد وتحاكيه محاكاة المرآة لمرئيها بحيث لو فرض أن التوحيد تصور لكان هو تلك الاعمال بعينها، ولو أن تلك الاعمال تجردت اعتقادا محضا لكانت هي هو بعينه. وهذا المعنى كثير المصداق في الصفات الروحية فإنك ترى أعمال المتكبر يمثل ما في نفسه من صفة الكبر والخيلاء، وكذلك البائس المسكين يحاكى جميع حركاته وسكناته ما في سره من الذلة والاستكانة وهكذا. ثم ادب تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فأمره أن يقتدى بهداية من سبقه من الانبياء عليهم السلام لا بهم، والاقتداء إنما يكون في العمل دون الاعتقاد فإنه غير اختياري بحسب نفسه أي أن يختار أعمالهم الصالحة المبنية على التوحيد الصادرة عنهم عن تأديب عملي إلهى. ونعنى بهذا التأديب العملي ما يشير إليه قوله تعالى: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين " (الانبياء: 37) فإن إضافة المصدر في قوله " فعل الخيرات " (الخ) تدل على أن المراد به الفعل الصادر منهم من خيرات فعلوهاو صة له أقاموها وزكاة آتوها دون مجرد الفعل المفروض فهذا الوحى المتعلق بالافعال في مرحلة صدورها منهم وحى تسديد وتأديب، وليس هو وحى النبوة والتشريع، ولو كان المراد به وحى النبوة لقيل: " وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات وأقيموا الصلاه ة وآتوا الزكاة " كما في قوله تعالى: " ثم أوحينا اليك أن اتبع " (النحل: 123) وقوله: " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة " يونس: 87) إلى غير ذلك من الايات ومعنى وحى التسديد أن يخص الله عبدا من عباده بروح قدسي يسدده في أعمال الخير والتحرز عن السيئة كما يسددنا الروح الانساني في التفكر في الخير والشر، والروح الحيوانى في اختيار مانشتهيه من الجذب والدفع بالارادة، وسيجئ الكلام المبسوط في ذلك إن شاء الله. وبالجملة فقوله: " فبهداهم اقتده " تأديب إلهى إجمالي له صلى الله عليه وآله وسلم بأدب التوحيد

[ 262 ]

المنبسط على أعمال الانبياء عليهم السلام المنزهة من الشرك. ثم قال تعالى - بعد ما ذكر عدة من أنبيائه عليهم السلام - في سورة مريم: " اولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (مريم: 60). فذكر تعالى أدبهم العام في حياتهم أنهم يعيشون على الخضوع عملا وعلى الخشوع قلبا لله عز اسمه فإن سجودهم عند ذكر آيات الله تعالى مثال الخضوع، وبكاءهم وهو لرقة القلب وتذلل النفس آية الخشوع وهما معا كناية عن استيلاء صفة العبودية على نفوسهم بحيث كلما ذكروا بآية من آيات الله بان أثره في ظاهرهم كما استولت الصفة على باطنهم فهم على أدبهم الالهى وهو سمة العبودية إذا خلوا مع ربهم وإذا خلوا للناس، فهم يعيشون على أدب إلهى مع ربهم ومع الناس جميعا. ومن الدليل على أن المراد به الادب العام قوله تعالى في الاية الثانية: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات " فإن الصلاة وهى التوجه إلى الله هي حالهم مع ربهم واتباع الشهوات حالهم مع غيرهم من الناس، وحيث قوبل اولئك بهؤلاء أفاد الكلام أن أدب الانبياء العام أن يراجعوا ربهم بسمة العبودية وأن يسيروا بين الناس بسمة العبودية أي تكون بنية حياتهم مبنية على أساس أن لهم ربا يملكهم ويدبر أمرهم، منه بدؤهم واليه مرجعهم فهذا هو الاصل في جميع أحوالهم وأعمالهم. والذى ذكره تعالى من استثناء التائبين منهم أدب آخر إلهى بدأ فيه بآدم عليه السلام أول الانبياء حيث قال: " وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " (طه: 132) وسيجئ بعض القول فيه إن شاء الله تعالى. وقال تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا " (الاحزاب: 39). أدب عام أدب الله سبحانه به أنبياءه عليهم السلام وسنة جارية له فيهم أن لا

[ 263 ]

يتحرجوا في ما قسم لهم من الحياة ولا يتكلفوا في أمر من الامور إذ كانوا على الفطرة والفطرة لا تهدى إلا إلى ما جهزها الله بما يلائمها في نيله، ولا تتكلف الاستواء على ما لم يسهل الله لها الارتقاء على مستواه، قال تعالى حكاية عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " وما أنا من المتكلفين " (ص: 86) وقال تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " (البقرة: 286) وقال تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " (الطلاق: 7) وإذ كان التكلف خروجا عن الفطرة فهو من اتباع الشهوة والانبياء في مأمن منه. وقال تعالى وهو أيضا من التأديب بأدب جامع: " يا أيها الرسل كلوامن الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم، وإن هذه امتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون " (المؤمنون: 52) أدبهم تعالى أن يأكلوا من الطيبات أي أن يتصرفوا في الطيبات من مواد الحياة ولا يتعدوها إلى الخبائث التى تتنفر منها الفطرة السليمة وأن يأتوا من الاعمال بالصالح منها وهو الذى يصلح للانسان أن يأتي به مما تميل إليه الفطرة بحسب ما جهزها الله من أسباب تحفظ بعملها بقائه إلى حين، أو أن يأتوا بالعمل الذى يصلح أن يقدم إلى حضرة الربوبية، والمعنيان متقاربان، فهذا أدب يتعلق بالانسان الفرد. ثم وصله تعالى بأدب اجتماعي فذكر لهم أن الناس ليسوا إلا امة واحدة: المرسلون والمرسل إليهم، وليس لهم إلا رب واحد فليجتمعوا على تقواه، ويقطعوا بذلك دابر الاختلافات والتحزبات، فإذا التقى الامران أعنى الادب الفردى والاجتماعي تشكل مجتمع واحد بشرى مصون عن الاختلاف يعبد ربا واحدا، ويجرى الاحاد منه على الادب الالهى فاتقوا خبائث الافعال وسيئات الاعمال فقد استووا على أريكة السعادة. وهذا ما جمعته آية اخرى وهى قوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " (الشورى: 13). وقد فرق الله الادبين في موضع آخر فقال: " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " (الانبياء: 25) فأدبهم بتوحيده وبناء

[ 264 ]

العبادة عليه، وهذا هو أدبهم بالنسبة إلى ربهم، وقال: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة يأكل منها - إلى أن قال - وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " (الفرقان: 20) فذكر أن سيرة الانبياء جميعا وهو أدبهم الالهى هو الاختلاط بالناس ورفض التحجب والاختصاص والتميز من بين الناس فكل ذلك مما تدفعه الفطرة، وهذا أدبهم في الناس. 6 - من أدب الانبياء عليهم السلام في توجيههم الوجوه إلى ربهم ودعائهم إياه ما حكاه الله تعالى من قول آدم عليه السلام وزوجته: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " (الاعراف: 23) كلمة قالاها بعد ما أكلا من الشجرة التى نهاهما الله أن يقربا منها، وإنما كان نهى إرشاد ليس بالمولوى، ولم يعصياه عصيان تكليف بل كان ذلك منهما مخالفة نصيحة في رعايتها صلاح حالهما، وسعادة حياتهما في الجنة الامنة من كل شقاء وعناء، وقد قال لهما ربهما في تحذيرهما عن متابعة إبليس: " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " (طه: 119). فلما وقعا في المحنة وشملتهما البلية، وأخذت سعادة الحياة يوادعهما وداع ارتحال لم يشتغلا بأنفسهما اشتغال اليائس البائس، ولم يقطع القنوط ما بينهما وبين ربهما من السبب الموصول بل بادرا إلى الالتجاء بالله الذى إليه أمرهما وبيده كل خير يأملانه لانفسهما فأخذا وتعلقا بصفة ربوبيته المشتملة على كل ما يدفع به الشر ويجلب به الخير، فالربوبية هي الصفة الكريمة يربط العبد بالله سبحانه. ثم ذكراالشر الذى يهددهما بظهور آياته وهو الخسران - كأنهما اشتريا لذة الاكل بطاعة الارشاد الالهى فبان لهما أن سعادتهما قد أشرفت بذلك على الزوال - في الحياة، وذكرا حاجتهما إلى ما يدفع هذا الشر عنهما فقالا: " وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " أي إن خسران الحياة يهددنا وقد أطل بنا وما له من دافع إلا مغفرتك للذنب الصادر عنا وغشيانك إيانا بعد ذلك برحمتك وهى السعادة لما أن الانسان بل كل موجود مصنوع يشعر بفطرته المغروزة أن من شأن الاشياء الواقعة في منزل الوجود

[ 265 ]

ومسير البقاء أن تستتم ما يعرضها من النقص والعيب، وإن السبب الجابر لهذا الكسر هو الله سبحانه وحده فهو من عادة تاربوبية. ولذلك كان يكفى مجرد إظهار الحال، وإبرار ما نزل على العبد من مسكنة العمدة - أوقفا أنفسها بما صدر عنهما من المخالفة موقف الذلة والمسكنة التى لا وجه معها ولا كرامة، فنتجب لهما التسليم المحض لما يصدرفى ذلك من ساحة العزة ومن الحكم فكفا عن كل مسألة واقتراح غير أنهما ذكراأنه ربهما فأشارا إلى ما يطمعان فيه منه مع اعترافهما بالظلم. فكان معنى قولهما: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ": أسأنا فيما ظلمنا أنفسنا فأشرنا بذلك على الخخسران المهدد لعامة سعادتنا في الحياة فهو ذا الذلة والمسكنة أحاطت بنا، والحاجة إلى إمحاء وسمعة الظلم وشمول الرحمة شملتنا، ولم يدع ذلك لنا وجهة ولا كرامة نسألك بها، فها نحن مسلمون لحكمك أيها الملك العزيز فلك الامر ولك الحكم غير أنك ربنا ونحن مربوبان لك نأمل منك ما يأمله مربوب من ربه. ومن أدبهم ما حكاه الله تعالى من دعوة نوح عليه السلام في ابنه: " وهى تجرى بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، قال سآوى إلى جبل يعصمني من الماء - إلى أن قال - ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإن لا تغفر لى وترحمني أكن من الخاسرين " (هود: 47). لا ريب أن الظاهر من قول نوح عليه السلام أنه كان يريد الدعاء لابنه بالنجاة غير أن التدبر في آيات القصة يكشف الغطاء عن حقيقة الامر بنحو آخر: فمن جانب أمره الله بركوب السفينة هو وأهله والمؤمنون بقوله: " احمل فيها من

[ 266 ]

كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن " (هود: 40) فوعده بإنجاء أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول، وقد كانت امرأته كافرة كما ذكرها الله في قوله: " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط " (التحريم: 10) وأما ابنه فلم يظهر منه كفر بدعوة نوح، والذى ذكره الله من أمره مع أبيه وهو في معزل إنما هو معصية بمخالفة أمره عليه السلام وليس بالكفر الصريح فمن الجائز أن يظن في حقه أنه من الناجين لظهور كونه من أبنائه وليس من الكافرين فيشمله الوعد الالهى بالنجاة. ومن جانب قد أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام حكمه المحتوم في أمر الناس كما قال: " وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " (هود: 37) فهل المراد بالذين ظلموا الكافرون بالدعوة أو يشمل كل ظلم أو هو مبهم مجمل يحتاج إلى تفسير من لدن قائله تعالى ؟. فكأن هذه الامور رابته عليه السلام في أمر ابنه ولم يكن نوح عليه السلام بالذى يغفل من مقام ربه وهو أحد الخمسة أولى العزم سادات الانبياء، ولم يكن لينسى وحى ربه: ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " ولا ليرضى بنجاة ابنه ولو كان كافرا ماحضا في كفره، وهو عليه السلام القائل فيما دعا على قومه: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " (نوح: 26) ولو رضى في ابنه بذلك لرضى بمثله في امرأته. ولذلك لم يجترء عليه السلام على مسألة قاطعة بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعا على أمر ابنه، بل بدأ بالنداء باسم الرب لانه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل ثم قال: " إن ابني من أهلى وإن وعدك الحق " كأنه يقول وهذا يقضى بنجاة ابني " وأنت أحكم الحاكمين " لا خطأ في أمرك ولا مغمض في حكمك فما أدرى إلى م انجر أمره ؟. وهذا هو الادب الالهى أن يقف العبد على ما يعلمه، ولا يبادر إلى مسألة ما لا يدرى وجه المصلحة فيه. فألقى نوح عليه السلام القول على وجد منه كما يدل عليه لفظ النداء في قوله: " ونادى نوح ربه " فذكر الوعد الالهى ولما يزد عليه شيئا ولا سأل أمرا.

[ 267 ]

فأدركته العصمة الالهية وقطعت عليه الكلام، وفسر الله سبحانه له معنى قوله في الوعد: " وأهلك " أن المراد به الاهل الصالحون وليس الابن بصالح، وقد قال تعالى من قبل: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " وقد أخذ نوح عليه السلام بظاهر الاهل وأن المستثنى منهم هو امرأته الكافرة فقط، ثم فرع عليه النهى عن السؤال فيما ليس له به علم، وهو سؤال نجاة ابنه على ما كان يلوح إليه كلامه أنه سيسألها. فانقطع عنه السؤال بهذا التأديب الالهى، واستأنف عليه السلام بكلام آخر صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر لما أنعم الله بهذا الادب الذى هو من النعمة فقال: " رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم " فاستعاذ إلى ربه مما كان من طبع كلامه أن يسوقه إليه وهو سؤال نجاة ابنه ولا علم له بحقيقة حاله. ومن الدليل على أنه لم يقع منه سؤال بعد هو قوله: " أعوذ بك أن أسألك " (الخ) ولم يقل: " أعوذ بك من سؤال ما ليس لى به علم " لتدل إضافة المصدر إلى فاعله وقوع الفعل منه. " لا تسألن " (الخ) ولو كان سأله لكان من حق الكلام أن يقابل بالرد الصريح أو يقال مثلا: " لا تعد إلى مثله " كما وقع نظيره في موارد من كلامه تعالى كقوله: " قال رب أرنى أنظر اليك قال لن تراني " (الاعراف: 143)، وقوله: " إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم - إلى أن قال - يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا " (النور: 17). ومن دعاء نوح عليه السلام ما حكاه الله تعالى بقوله: " رب اغفر لى ولوالدي ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا " (نوح: 28) حكاه الله تعالى عنه في آخر سورة نوح بعد آيات كثيرة أوردها في حكاية شكواه عليه السلام الذى بثه لربه فيما جاهد به من دعوة قومه ليلا ونهارا فيما يقرب من ألف سنة من مدى حياته، وما قاساه من شدتهم وكابده من المحنة في جنب الله سبحانه، وبذل من نفسه مبلغ جهدها، وصرف منها في سبيل هدايتهم منتهى طوقها فلم ينفعهم دعاؤه إلا فرارا، ولم يزدهم نصحه إلا استكبارا. ولم يزل بعد ما بثه فيهم من النصيحة والموعظة الحسنة وقرعه أسماعهم من الحق والحقيقة، ويشكو إلى ربه ما واجهوه به من العناد والاصرار على الخطيئة، وقابلوه

[ 268 ]

به من المكر والخديعة حتى هاج به الوجد والاسف وأخذته الغيرة الالهية فدعا عليهم فقال: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا، إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " (نوح: 27). وما ذكره من إضلالهم عباد الله إن تركهم الله على الارض هو الذى ذكره عنهم في ضمن كلامه السابق المحكى عنه: " وقد أضلوا كثيرا " وقد أضلوا كثيرا من المؤمنين به فخاف إضلالهم الباقين منهم، وقوله: " ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " إخبار ببطلان استعداد أصلابهم وأرحامهم أن يخرج منها مؤمن، ذكره - وهو من أخبار الغيب - عن تفرس نبوى ووحى إلهى. وإذا دعا على الكافرين لغيرة إلهية أخذته، وهو النبي الكريم أول من جاء بكتاب وشريعة، وانتهض لانقاذ الدنيا من غمرة الوثنية ولم يلبه من المجتمع البشرى إلا قليل - وهو قريب من ثمانين نسمة على ما في الاخبار - فكان من أدب هذا الموقف أن لا ينسى المؤمنين بربه الاخذين بدعوته، ويدعو لهم إلى يوم القيامة بالخير. فقال: " رب اغفر لي " فبدأ بنفسه لان الكلام في معنى طلب المغفرة لمن يسلك سبيله فهو إمامهم وأمامهم " ولوالدي " وفيه دليل على إيمانهما " ولمن دخل بيتى مؤمنا " وهم المؤمنون به من أهل عصره " وللمؤمنين والمؤمنات " وهم جميع المؤمنين أهل التوحيد فإن قاطبتهم أمته، ورهن منته إلى يوم القيامة، وهو أول من أقام الدعوة الدينية في الدنيا بكتاب وشريعة، ورفع أعلام التوحيد بين الناس، ولذلك حياه الله سبحانه بأفضل تحيته إذ قال: " سلام على نوح في العالمين " (الصافات: 79) فعليه السلام من نبى كريم كلما آمن بالله مؤمن، أو عمل له بعمل صالح، وكلما ذكر لله عز اسمه اسم، وكلما كان في الناس من الخير والسعادة رسم، فذلك كله من بركة دعوته، وذنابة نهضته، صلى الله عليه وعلى سائر الانبياء والمرسلين أجمعين. ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن ابراهيم عليه السلام في محاجته قومه: " قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الاقدمون، فإنهم عدو لى إلا رب العالمين، الذى خلقني فهو يهدين، والذى هو يطعمنى ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذى يميتني ثم يحيين، والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتي يوم الدين، رب هب لى حكما وألحقني

[ 269 ]

بالصالحين، واجعل لى لسان صدق في الاخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لابي إنه كان من الضالين، ولا تخزني يوم يبعثون " (الشعراء: 87). دعاء يدعو عليه السلام به لنفسه، ولابيه عن موعدة وعدها إياه، وقد كان هذا أول أمره ولم ييأس بعد من إيمان أبيه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. وقد بدأ فيه بالثناء على ربه ثناء جميلا على ما هو أدب العبودية وهذا أول ثناء مفصل حكاه الله سبحانه عنه عليه السلام، وما حكى عنه قبل ذلك ليس بهذا النحو كقوله: " يا قوم إنى برئ مما تشركون، إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض " (الانعام: 79) وقوله لابيه: " سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا " (مريم: 47). وقد استعمل عليه السلام من الادب في ثنائه أن أتى بثناء جامع أدرج فيه عناية ربه به من بدء خلقه إلى أن يعود إلى ربه، وأقام فيه نفسه مقام الفقر والحاجة كلها، ولم يذكر لربه إلا الغنى والجود المحض، ومثل نفسه عبدا داخرا لا يقدر على شئ وتقلبه المقدرة الالهية حالا إلى حال من خلق ثم اطعام وسقى وشفاء عن مرض ثم إماتة ثم إحياء ثم إشخاص إلى جزاء يوم الجزاء، وليس له إلا الطاعة المحضة والطمع في غفران الخطيئة. ومن الادب المراعى في بيانه نسبة المرض إلى نفسه في قوله: " وإذا مرضت فهو يشفين " لما أن نسبته إليه تعالى في مثل المقام وهو مقام الثناء لا يخلو عن شئ، والمرض وإن كان من جملة الحوادث وهى لا تخلو عن نسبة إليه تعالى، لكن الكلام ليس مسوقا لبيان حدوثه حتى ينسب إليه تعالى بل لبيان أن الشفاء من المرض من رحمته وعنايته تعالى، ولذلك نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه بدعوى أنه لا يصدر منه إلا الجميل. ثم أخذ في الدعاء واستعمل فيه من الادب البارع أن ابتدأ باسم الرب وقصر مسألته على النعم الحقيقية الباقية من غير أن يلتفت إلى زخارف الدنيا الفانية، واختار مما اختاره ما هو أعظم وأفخم فسأل الحكم و هو الشريعة واللحوق بالصالحين وسأل لسان صدق في الاخرين وهو أن يبعث الله بعده زمانا بعد زمان، وحينا بعد حين من يقوم بدعوته، ويروج شريعته، وهو في الحقيقة سؤال أن يخصه بشريعة باقية إلى يوم

[ 270 ]

القيامة ثم سأل وراثة الجنة ومغفرة أبيه وعدم الخزى يوم القيامة. وقد أجابه الله تعالى إلى جميع ما سأله عنه على ما ينبئ به كلامه تعالى إلا دعاءه لابيه وحاشا رب العالمين أن يذكر دعاء عبد من عباده المكرمين مما ذهب سدى لم يستجبه، قال تعالى: " ملة أبيكم إبراهيم " (الحج: 78) وقال: " وجعله كلمة باقية في عقبه " (الزخرف: 28) وقال: " لقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصالحين " (البقرة: 130) وحياه بسلام عام إذ قال: " سلام على إبراهيم " (الصافات: 109). وسير التاريخ بعده عليه السلام يصدق جميع ما ذكره القرآن الشريف من محامده وأثنى فيه عليه فإنه عليه السلام هو النبي الكريم قام وحده بدين التوحيد وإحياء ملة الفطرة وانتهض لهدم أركان الوثنية، وكسر الاصنام على حين اندرست فيه آيات التوحيد، وعفت الايام فيها رسوم النبوة ونسيت الدنيا اسم نوح والكرام من أنبياء الله، فأقام دين الفطرة على ساق، وبث دعوة التوحيد بين الناس ودين التوحيد حتى اليوم وقد مضى من زمنه ما يقرب من أربعة آلاف سنة حى باسمه باق في عقبه فإن الذى تعرفه الدنيا من دين التوحيد هو دين اليهود ونبيهم موسى، ودين النصارى ونبيهم عيسى، وهما من آل إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ودين الاسلام الذى بعث به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ومما ذكره الله من دعائه قوله: " رب هب لى من الصالحين " (الصافات: 100) يسأل الله فيه ولدا صالحا، وفيه اعتصام بربه، وإصلاح لمسألته الذى هي بوجه دنيوية بوصف الصلاح ليعود إلى جهة الله وارتضائه. ومما ذكره تعالى من دعائه ما دعا به حين قدم إلى أرض مكة وقد أسكن إسماعيل وأمه بها، قال تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فامتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " (البقرة: 126). يسأل ربه أن يتخذ أرض مكة - وهى يومئذ أرض قفرة وواد غير ذى زرع - حرما لنفسه ليجمع بذلك شمل الدين، ويكون ذلك رابطة أرضية جسمانية بين الناس وبين ربهم يقصدونه لعبادة ربهم، ويتوجهون إليه في مناسكهم، ويراعون حرمته

[ 271 ]

فيما بينهم فيكون ذلك آية باقية خالدة لله في الارض يذكر الله كل من ذكره، ويقصده كل من قصده وتتشخص به الوجهة، وتتحد به الكلمة. والدليل على أنه عليه السلام يريد بالامن الامن التشريعي الذى هو معنى اتخاذه حرما دون الامن الخارجي من وقوع المقاتلات والحروب وسائر الحوادث المفسدة للامن المخلة بالرفاهية قوله تعالى:: " أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ " (القصص: 57) فإن في الاية امتنانا عليهم بأمن الحرم وهو المكان الذى احترمه الله لنفسه فاتصف بالامن من جهة ما احترمه الناس لا من جهة عامل تكويني يقيه من الفساد والقتل، والاية نزلت وقد شاهدت مكة حروبا مبيدة بين قريش وجرهم فيها، وكذا من القتل والجور والفساد ما لا يحصى، وكذا قوله تعالى: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " (العنكبوت: 67) أي لا يتخطفون من الحرم لاحترام الناس إياه لمكان الحرمة التى جعلناها. وبالجملة كان مطلوبه عليه السلام هو أن يكون لله في الارض حرم تسكنه ذريته، وكان لا يحصل ذلك إلا ببناء بلد يقصده الناس من كل جانب فيكون مجمعا دينيا يؤمونه بالسكونة واللواذ والزيارة إلى يوم القيامة فلذلك سأل أن يجعله بلدا آمنا، وقد كان غير ذى زرع فسأل أن يرزقهم من الثمرات حتى يعمر بسكانه ولا يتفرقوا منه. ثم لما أحس أن دعاءه بهذا التشريف يشمل المؤمن والكافر قيد مسألته بإيمان المدعو لهم بالله واليوم الاخر فقال: " من آمن منهم بالله واليوم الاخر " وأما أن ذلك كيف يمكن في بلد لو اتفق أن يسكن فيه المؤمنون والكفار معا واختلفوا، أو إذا قطن فيه الكفار فقط ؟ وكيف يرزقون من الثمرات والارض بطحاء غير ذى زرع ؟ فلم يتعرض له في مسالته. وهذا من أدبه ععليه السلام في مقام الدعاء فإن من فضول القول أن يعلم الداعي ربه كيف يقضى حاجته ؟ وما هو الطريق إلى إجابة مسألته ؟ وهو رب عليم حكيم قدير إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. لكن الله سبحانه إذ كان يريد أن يقضى حاجته على السنة الجارية في الاسباب العادية ولا يفرق فيها بين المؤمن والكافر تمم دعاءه عليه السلام بما قيد به كلامه من قوله:

[ 272 ]

" ومن كفر فامتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ". وهذا الدعاء الذى أدى إلى تشريع الحرم الالهى وبناء الكعبة المقدسة التى هي أول بيت وضع للناس ببكة مباركة وهدى للعالمين هو إحدى ثمرات همته العالية المقدسة التى امتن به على من بعده من المسلمين إلى يوم القيامة. ومما دعا عليه السلام دعاؤه في آخر عمره على ما حكاه الله تعالى بقوله: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الاصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم، ربنا إنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئده ة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون، ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الارض ولا في السماء، الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء، رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب " (إبراهيم: 41). وهذا مما دعا عليه السلام به في أواخر عمره الشريف وقد بنيت بلدة مكة، والدليل عليه قول فيه: " الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق وقوله: " اجعل هذا البلد آمنا " ولم يقل كما في دعائه السابق: " واجعل هذا بلدا آمنا ". ومما استعمل فيه من الادب تمسكه بالربوبية في دعائه، وكلما ذكر ما يختص بنفسه قال: " رب " وكلما ذكر ما يشاركه فيه غيره قال: " ربنا ". ومن الادب المستعمل في دعائه أن كلما ذكر حاجة من الحوائج يمكن أن يسأل لغرض مشروع أو غير مشروع ذكر غرضه الصحيح من حاجته، وفيه من إثارة الرحمة الالهية ما لا يخفى فلما قال: " اجنبني وبنى " " الخ "، ذكر بعده قوله: " رب إنهن أضللن " (الخ)، وحيث قال: " ربنا إنى أسكنت " (الخ)، قال بعده: " ربنا ليقيموا الصلاة " وإذ دعا بقوله: " فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات " ذيلة بقوله: " لعلهم يشكرون ". ومن أدبه فيه أنه أردف كل حاجة ذكرها بما يناسب مضمونها من اسماء الله

[ 273 ]

الحسنى كالغفور والرحيم وسميع الدعاء، وكرر اسم الرب كلما ذكر حاجة من حوائجه فإن الربوبية هي السبب الموصول بين العبد وبين الله تعالى، وهو المفتاح لباب كل دعاء. ومن ادبه فيه قوله: " ومن عصاني فإنك غفور رحيم " حيث لم يدع عليهم بشئ يسوء غير أنه ذكر مع ذكرهم اسمين من أسماء الله تعالى هما الواسطتان في شمول نعمة السعادة على كل إنسان أعنى الغفور الرحيم حبا منه لنجاة امته وانبساط جود ربه. ومن ذلك ما حكاه الله عنه وعن ابنه إسماعيل وقد اشتركا فيه، وهو قوله تعالى: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا منا سكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم " (البقرة: 129). دعاء دعوا به عند بنائهما الكعبة، وفيه من الادب الجميل ما في سابقه. ومن ذلك ما حكاه الله عن إسماعيل عليه السلام في قصة الذبح قال تعالى: " فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " (الصافات: 102). وصدر كلامه وإن كان من أدبه مع أبيه إلا أن الذيل فيما بينه وبين ربه على أن التأدب مع مثل إبراهيم خليل الله عليه السلام، تأدب مع الله تعالى. وبالجملة لما ذكر له أبوه ما رآه في المنام، وكان أمرا إلهيا بدليل قول إسماعيل: " أفعل ما تؤمر " أمره أن يرى فيه رأيه، وهو من أدبه ععليه السلام مع ابنه فقال له إسماعيل: " يا أبت افعل ما تؤمر، الخ " ولم يذكر أنه الرأى الذى رآه هضما لنفسه وتواضعا لابيه كأنه لا رأى له قبال رأيه ولذلك صدر القول بخطابه بالابوة، ولم يقل: " إن شئت فافعل ذلك ليكون مسألته القطعية تطييبا لنفس أبيه، ولانه ذكر في كلامه أنه أمر أمر به إبراهيم، ولا يتصور في حق مثله أن يتروى أو يتردد في فعل ما أمر به دون أن يمتثل أمر ربه.

[ 274 ]

ثم في قوله: " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " تطييب آخر لنفس أبيه، وكل ذلك من أدبه مع أبيه عليه السلام. وقد تأدب مع ربه إذ لم يأت بما وعده إياه في صورة القطع والجزم دون أن أستثنى بمشيئة الله فإن في القطع من غير تعليق الامر بمشيئة الله شائبة دعوى الاستقلال في السببية، ولتخل عنها ساحة النبوة، وقد ذم الله لذلك قوما إذ قطعوا أمرا ولم يعلقوا كما قال في قصة اصحاب الجنة: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون " (القلم: 18) وقد أدب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه بأن يستثنى في قوله تأديبا بكناية عجيبة إذ قال: " ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله " (الكهف: 24). ومن ذلك ما حكاه الله عن يعقوب ععليه السلام حين رجع بنوه من مصر وقد تركوا بنيامين ويهودا بها قال تعالى: " وتولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى يكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثى وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون " يوسف: 86). يقول لبنيه إن مداومتى على ذكر يوسف شكاية منى سوء حالى إلى الله ولست بائس من رحمة ربى أن يرجعه إى من حيث لا يحتسب، وذلك أن من ادب الانبياء مع ربهم أن يتوجهوا في جميع أحوالهم إلى ربهم ويوردوا عامة حركاتهم وسكناتهم في سبيله فإن الله سبحانه ينص على أنه هداهم إليه صراطا مستقيما قال: " اولئك الذين هدى الله " (الانعام: 90) وقال في خصوص يعقوب: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا " (الانعام: 84) ثم ذكر أن اتباع الهوى ضلال عن سبيل الله فقال تعالى: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " (ص: 26). فالانبياء وهم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتة فعواطفهم النفسانية وأميالهم الباطنية من شهوة أو غضب أو حب أو بغض أو سرور أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال وبنين ونكاح ومأكل وملبس ومسكن وغير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق وسبيل يتبع فيه الهوى، وإن شئت قلت: سبيل ذكر الله

[ 275 ]

وسبيل نسيانه. والانبياء عععليهم السلام إذ كانوا مهديين إلى الله لا يتبعون الهوى كانوا على ذكر من ربهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى، ولا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الاسباب بمعنى أنهم إذا تعلقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربهم وأن الامر إليه تعالى لا انهم ينفون الاسباب نفيا مطلقا لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصور مطلقا فإن ذلك مما لا مطمع فيه، ولا أنهم يرون ذوات الاشياء وينفون عنها وصفة السببية فإن في ذلك خروجا عن صراط الفطرة الانسانية بل التعلق به أن لا يرى لغيره استقلالا، ويضع كل شئ موضعه الذى وضعه الله فيه. واذ كان حالهم عليهم السلام ما ذكرنا من تعلقهم بالله حق التعلق تمكن منهم هذا الادب الالهى ان يراقبوا مقام ربهم ويراعوا جانب ربوبيته فلا يقصدوا شيئا إلا الله، ولا يتركوا شيئا إلا لله، ولا يتعلقوا بسبب الا وهم متعلقون بربهم قبله ومعه وبعده، فهو غايتهم على كل حال. فقوله عليه السلام: " إنما اشكوا بثى وحزني إلى الله " يريد به ان ذكرى المستمر ليوسف وأسفى عليه ليس على حد ما يلغو احدكم إذا اصابته مصيبة ففقد نعمة من نعم الله فيذكرها لمن لا يملك منه نفعا ولا ضرا بجهل منه، وانما ذلك شكوى منى إلى لله فيما دخلنى من فقد يوسف، وليس ذلك مسألة منى في امر لا يكون فإنى اعلم من الله ما لا تعلمون. ومن ذلك ما حكاه الله عن يوسف الصديق حين هددته امرأة العزيز بالسجن ان لم يفعل ما كانت تأمره به: " قال رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عنى كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين " (يوسف: 33). يذكر عليه السلام لربه ان امره يدور عندهن في موقفه ذاك بين السجن وبين إجابتهن إلى ما يسألنه، وأنه بعلمه الذى اكرمه الله به، وهو المحكى عنه في قوله تعالى: " ولما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما " (يوسف: 22) يختار السجن على إجابتهن غير ان الاسباب منضودة على طبق ما يرجونه منه قوية غالبة فهى تهدده بالجهل بمقام ربه وإبطال ما عنده من العلم بالله، ولا حكم في ذلك إلا له تعالى كما قال لصاحبه في السجن:

[ 276 ]

" ان الحكم إلا لله " (يوسف: 40) ولذلك تأدب عليه السلام ولم يذكر لنفسه حاجة لانه حكم بنحو، بل لوح إلى تهديد الجهل إياه بإبطال نعمة العلم الذى اكرمه بها ربه، وذكر ان نجاته من مهلكة الجهل واندفاع كيدهن تتوقف إلى صرفه تعالى فسلم الامر إليه وسكت. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن وهو الصبوة وإلا فالسجن فتخلص من السجن والصبوة جميعا، ومنه يعلم ان مراده من كيدهن هو الصبوة والسجن جميعا، واما قوله عليه السلام: " رب السجن احب إلى، الخ " فإنما هو تمايل قلبى الى السجن على تقدير تردد الامر وكناية عن النفرة والمباغضة للفحشاء وليس بسؤال منه للسجن كما قال عليه السلام: الموت اولى من ركوب العار * والعار اولى من دخول النار لا كما ربما يظن انه سأل بذلك السجن فقضى له به، والدليل على ما ذكرناه قوله تعالى بعده: " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الايات ليسجننه حتى حين " (يوسف: 35) لظهور الاية ان سجنه كان عن رأى بدا لهم بعد ذلك، وقد كان الله سبحانه صرف عند قبل ذلك كيدهن بالدعوة إلى انفسهن والتهديد بالسجن. ومنه ما حكى الله سبحانه من ثنائه ودعائه عليه السلام حيث قال: " فلما دخلوا على يوسف آوى إليه ابويه وقال ادخلوا مصر ان شاء الله آمنين، ورفع ابويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا وقد احسن بى إذ اخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد ان نزغ الشيطان بينى وبين اخوتى ان ربى لطيف لما يشاء انه هو العليم الحكيم، رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث فاطر السماوات والارض انت وليى في الدنيا والاخرة توفنى مسلما وألحقني بالصالحين " (يوسف: 101). فليتدبر الباحث فيما يعطيه الايات من أدب النبوة وليمثل عنده ما كان عليه يوسف عليه السلام من الملك ونفوذ الامر وما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، وما كان عليه إخوته من التواضع وهم جميعا على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه وهو عزيز مستو على عرش العزة والهيمنة.

[ 277 ]

لم يشق عليه السلام فما بكلام إلا ولربه فيه نصيب أو كل النصيب إلا ما أصدره من الامر بقوله: " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " فأمرهم بالدخول وحكم لهم بالامن، ولم يستتم الكلام حتى استثنى فيه بمشيئة الله لئلا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله، وهو ععليه السلام القائل: " إن الحكم إلا لله ". ثم شرع في الثناء على ربه فيما جرى عليه منذ فارقهم إلى أن اجتمع بهم وبدأ في ذلك بقصة رؤياه وتحقق تأويلها وصدق فيه أباه لا فيما عبرها به فقط بل حتى فيما ذكره في آخر كلامه من علم الله وحكمته توغلا منه في الثناء على ربه حيث قال له أبوه: " وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك - إلى أن قال - إن ربك عليم حكيم " (يوسف: 6) وقال له يوسف هيهنا بعد ما صدقه فيما عبر به رؤياه: " إن ربى لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم " (يوسف: 100). ثم أشار إلى إجمال ما جرى عليه ما بين رؤياه وتأويلها فنسبها إلى ربه ووصفها بالحسن وهو من الله إحسان، ومن ألطف أدبه توصيفه ما لقى من إخوته حين ألقوه في غيابة الجب إلى أن شروه بثمن بخس دراهم معدودة، واتهموه بالسرقة بقوله: " نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى ". ولم يزل يذكر نعم ربه ويثنى عليه ويقول: ربى وربى حتى غشيه الوله وأخذته جذبة إلهية فاشتغل بربه وتركهم كأنه لا يعرفهم، وقال: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث، فأثنى على ربه بحاضر نعمه عنده، وهو الملك والعلم بتأويل الاحاديث، ثم انتقلت نفسه الشريفة من ذكر النعم إلى أن ربه الذى أنعم عليه بما أنعم لانه فاطر السماوات والارض، ومخرج كل شئ من العدم البحت إلى الوجود من غير أن يكون لشئ من الاشياء جدة من نفسه يملك به ضراأو نفعا أو نعمة أو نقمة أو صلاحية أن يدبر أمر نفسه في دنيا أو آخره. وإذ كان فاطر كل شئ فهو ولى كل شئ، ولذلك ذكر بعد قوله: " فاطر السماوات والارض " أنه عبد داخر لا يملك تدبير نفسه في دنيا ولا آخرة بل هو تحت ولاية الله سبحانه يختار له من الخير ما يشاء ويقيمه أي مقام أراد فقال: " أنت وليى في الدنيا والاخرة " وعندئذ ذكر ما له من مسألة يحتاج فيها إلى ربه وهو أن ينتقل من الدنيا

[ 278 ]

إلى الاخرة وهو في حال الاسلام إلى ربه على حد ما منحه الله آباؤه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قال تعالى: " ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم - وهو الاصطفاء - قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " (البقرة: 132). وهو قوله: " توفنى مسلما وألحقني بالصالحين " يسأل التوفى على الاسلام ثم اللحوق بالصالحين، وهو الذى سأله جده إبراهيم عليه السلام بقوله: " رب هب لى حكما وألحقني بالصالحين " (الشعراء: 83) فاجيب إليه كما في الايات المذكورة، آنفا وهذا آخر ما ذكر الله من حديثه وختم به قصته، وأن إلى ربك المنتهى، وهذا مما في السياقات القرآنية من عجيب اللطف. ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن نبيه موسى عليه السلام في أوائل نشوئه بمصر حين وكز القبطى فقضى عليه: " قال رب إنى ظلمت نفسي فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم " (القصص: 16) وقوله حين فر من مصر فبلغ مدين وسقى لابنتي شعيب ثم تولى إلى الظل فقال: " رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير " (القصص: 24). وقد استعمل عليه السلام في مسألتيه من الادب بعد الالتجاء بالله والتعلق بربوبيته أن صرح في دعائه الاول بالطلب لانه كان متعلقا بالمغفرة والله سبحانه يحب أن يستغفر كما قال: " واستغفروا الله إن الله غفور رحيم " (البقرة: 199) وهو الذى دعا إليه نوح فمن بعده من الانبياء عليهم السلام، ولم يصرح بحاجته بعينه في دعائه الثاني الذى ظاهره بحسب دلالة المقام أنه كان يريد رفع حوائج الحياة كالغذاء والمسكن مثلا بل إنما ذكر الحاجة ثم سكت فما للدنيا عند الله من قدر. واعلم أن قوله عليه السلام: " رب إنى ظلمت نفسي فاغفر لى " يجرى في الاعتراف بالظلم وطلب المغفرة مجرى قول آدم وزوجته: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " بمعنى أن المراد بالظلم هو ظلمه على نفسه لاقترافه عملا يخالف مصلحة حياته كما أن الامر كان على هذا النحو في آدم وزوجته. فإن موسى ععليه السلام إنما فعل ما فعل قبل أن يبعثه الله بشريعته الناهية عن القتل وإنما قتل نفسا كافرة غير محترمة، ولا دليل على وجود النهى عن مثل هذا القتل قبل

[ 279 ]

شريعته وكان الامر في عصيان آدم وزوجته على هذه الوتيرة فقد ظلما أنفسهما بالاكل من الشجرة قبل أن يشرع الله شريعة بين النوع الانساني فإنما أسس الله الشرائع كائنة ما كانت بعد هبوطهما من الجنة إلى الارض. ومجرد النهى عن اقتراب الشجرة لا دليل على كونه مولويا مستلزما لتحقق المعصية المصطلحة بمخالفته، مع أن القرائن قائمة على كون النهى المتعلق بهما إرشاديا كما في آيات سورة طه على ما بيناه في تفسير قصة جنة آدم في الجزء الاول من الكتاب. على أن الكتاب الالهى نص في كون موسى عليه السلام مخلصا، وأن إبليس لا سبيل له إلى إغواء المخلصين من عباد الله تعالى ومن الضرورى ان لا معصية بدون إغواء إبليس قال الله تعالى: " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا " (مريم: 51) وقال تعالى " " قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين " (ص: 83). ومن هنا يظهر أن المراد بالمغفرة المسؤلة في دعائه كما في دعائهما (ع) ليست هي إمحاء العقاب الذى يكتبه الله على المجرمين كما في المعاصي المولوية بل إمحاء الاثار السيئة التى كان يستتبعها الظلم على النفس في مجرى الحياة فقد كان موسى عليه السلام يخاف أن يفشو أمره ويظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه ويغفره، والمغفرة في عرف القآن أعم من إمحاء العقاب بل هي امحاء الاثر السيئ كائنا ما كان، ولا ريب أن امر الجميع بيد الله سبحانه. ونظير هذا من وجه قول نوح عليه السلام فيما تقدم منن دعائه " وإن لم تغفر لي وترحمني " أي وإن لم تؤدبنى بأنك، ولم تعصمني بعصمتك ووقايتك وترحمني بذلك أكن من الخاسرين، فافهم ذلك. ومنه دعاؤه عليه السلام أول ما القي إليه الوحي وبععث بالرسالة إلى قومه على ما حكاه الله قل تعالى: " قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي امري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون اخخي * اشدد به أزري * وأشركه في امري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا " (طه: 35 ".

[ 280 ]

ينصح عليه السلام لما بعث لها من الدعوة الدينية ويذكر لربه - على ما يفيده الكلام بإعانة من المقام - انك كنت بصيرا بحالى أنا منذ نشأنا نحب تسبيحك، وقد حملتني الليلة ثقل الرسالة وفى نفسي من الحدة وفى لساني من العقدة ما أنت أعلم به وإنى أخاف ان يكذبونى ان دعوتهم اليك وبلغتهم رسالتك فيضيق صدري ولا ينطلق لساني فاشرح لى صدري، ويسر لي امري، وهذا رفع التحرج الذي ذكره الله بقوله: " ما كام على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل " (الاحزاب: 38) واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وأخي هارون أفصح منى لسانا وهو من أهلى فأشركه في هذا الامر واجعله وزيرا لي كي نسبحك - كماكنا نحبه - كثيرا ونذكرك عند ملا الناس بالتعاضد كثيرا، فهذا محصل ما سأله عليه السلام ربه من أسباب الدعوة والتبليغ، والادب الذى استعمل فيه أن ذكر غايته وغرضه من اسئلته لئلا يوهم كلامه أنه يسأل ما يسأل لنفسه فقال: " كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا " واستشهد على صدقه في دعواه بعلم الله نفسه بإلقاء أنفسهما بين يديه وعرضها عليه فقال: " إنك كنت بنا بصيرا " وعرض السائل المحتاج نفسه في حاجتها على المسؤول الغنى الجواد من أقوى ما يهيج عاطفة الرحمة لانه يفيد إراءة نفس الحاجة فوق ما يفيده ذكر الحاجة باللسان الذى لا يمتنع عليه ان يكذب. ومنه ما حكى الله عنه مما دعا به على فرعون وملائه إذ قال: " وقال موسى ربنا انك آتيت فرعون وملاءه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على اموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم، قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " (يونس: 89). الدعاء لموسى وهارون ولذلك صدر بكلمة " ربنا " ويدل عليه ما في الاية التالية: " قال قد أجيبت دعوتكما " دعوا أولا على اموالهم ان يطمس الله عليها ثم على انفسهم ان يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم فلا يقبل إيمانهم كما قال تعالى: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا " (الانعام: 158) أي انتقم منهم بتحريم الايمان عليهم بمفاجأة العذاب كماحرموه على عبادك باضلالهم، وهذا أشد ما يمكن ان يدعى به على أحد فإنه الدعاء بالشقوة الدائمة ولا شئ شرا منه بالنسبة إلى انسان.

[ 281 ]

والدعاء بالشر غير الدعاء بالخير حكما فإن الرحمة الالهية سبقت غضبه وقد قال لموسى فيما أوحى إليه:: " عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ " (الاعراف: 156) فسعة الرحمة الالهية تقضى بكراهية اصابة الشر والضر لعبد من عباده وإن كان ظالما، يشهد بذلك ما يفيض الله سبحانه من نعمه عليهم وسترهم بكرمه وأمره عباده بالحلم والتصبر عند جهالتهم وخرقهم اللهم إلا في إقامة حق لازم، أو عند اضطرار في مظلمة إذا كانوا على علم بأن مصلحة ملزمة كمصلحة الدين أو أهل الدين تقتضي ذلك. على أن جهات الخير والسعادة كلما كانت ارق لطافة وأدق رتبة كانت أوقع عند النفوس بالفطرة التى فطر الله الناس عليها بخلاف جهات الشر والشقاء فإن الانسان بحسب طبعه يفر من الوقوف عليها، ويحتال أن لا يلتفت إلى أصلها فضلا عن تفاصيل خصوصياتها، وهذا المعنى يوجب اختلاف الدعاءين أعنى الدعاء بالخير والدعاء بالشر من حيث الاداب. فمن أدب الدعاء بالشر أن تذكر الامور التى بعثت إلى الدعاء بالتكنية وخاصة في الامور الشنيعة الفظيعة بخلاف الدعاء بالخير فإن التصريح بعوامل الدعاء فيه هو المطلوب، وقد راعاه عليه السلام في دعائه حيث قال: " ليضلوا عن سبيلك ولم يأت بتفاصيل ما كانت تأتى به آل فرعون من الفظائع. ومن أدبه الاكثار من الاستغاثة والتضرع وقد راعاه فيما يقول: " ربنا " وتكرره مرات في دعائه على قصره. ومن أدبه أن لا يقدم عليه إلا مع العلم بأنه على مصلحة الحق من دين أو أهله من دون أن يجرى على ظن أو تهمة، وقد كان عععليه السلام على علم منه وقد قال الله فيه: " ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى " (طه: 56) وكأنه لذلك أمره الله سبحانه وأخاه عند ما أخبرهما بالاستجابة بقوله: " فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " والله أعلم. ومن دعاء موسى ما حكاه الله عنه في قوله: " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا

[ 282 ]

وارحمنا وأنت خير الراحمين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفى الاخرة إنا هدنا إليك " (الاعراف: 156). يبتدئ الدعاء من قوله: " فاغفر لنا، الخ " غير أن الموقف لما كان موقفا صعبا قد أخذهم الغضب الالهى والبطش الذى لا يقوم له شئ، وما مسألة المغفرة والرحمة من سيد ساخط قد هتكت حرمته وأهين على سؤدده كمسألة من هو في حال سوى فلذلك قدم عليه السلام ما تسكن به فورة الغضب الالهى حتى يتخلص إلى طلب المغفرة والرحمة. فقال: " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى " يريد عليه السلام - كما تدل عليه قرينة المقام - رب إن نفسي ونفوسهم جميعا قبض قدرتك، وطوع مشيئتك، لو شئت أهلكتهم وأنا فيهم قبل اليوم كما أهلكتهم اليوم وأبقيتنى، فما ذا أقول لقومي إذا رجعت إليهم واتهمونى بأنى قتلتهم، وحالهم ما أنت أعلم به ؟ وهذا يبطل دعوتي ويحبط عملي. ثم عد ععليه السلام إهلاك السبعين إهلاكا له ولقومه فذكر أنهم سفهاء من قومه لا يعبأ بفعلهم فأخذ ربه برحمته حيث لم يكن من عادته تعالى أن يهلك قوما بفعل السفهاء منهم، وليس ذلك إلا موردا من موارد الامتحان العام الذى لا يزال جاريا على الانسان فيضل به كثير، ويهتدى به كثير، ولم تقابلها إلا بالصفح والستر. وإذ كان بيدك أمر نفسي ونفوسنا تقدر على إهلاكنا متى شئت، وكانت هذه الواقعة غير بدع في مسير امتحانك العام الذى يعقب ضلال قوم وهداية آخرين، ولا ينتهى إلا إلى مشيئتك فأنت ولينا الذى يقوم بأمرك ومشيئتك تدبير أمورنا، ولا صنع لنا فيها فاقض فينا بالمغفرة والرحمة فإن من جملة صفاتك أنك خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا عيشة آمنة من العذاب وهى التى يستحسنها من أحاط به غمر السخط الالهى، وفى الاخرة حسنة بالمغفرة والجنة. وهذا ما ساقه عليه السلام في مسألته، وقد أخذتهم الرجفة وشملتهم البلية، فانظر كيف استعمل جميل أدب العبودية واسترحم ربه، ولم يزل يستوهب الرحمه، ويسكن بثنائه فورة السخط الالهى حتى أجيب إلى ما لم يذكره من الحاجة بين ما ذكره، وهو إعادة حياتهم إليهم بعد الاهلاك، وأوحى إليه بما حكاه الله تعالى: " قال عذابي

[ 283 ]

أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " (الاعراف: 156) فما ظنك به تعالى بعد ما قال لموسى عليه السلام جوابا لمسألته: " ورحمتي وسعت كل شئ " ؟. وقد ذكر تعالى صريح عفوه عن هؤلاء، وإجابته إلى مسألته موسى عليه السلام بإعادة الحياة إليهم وقد اهلكوا وردهم إلى الدنيا بقوله: " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " (البقرة: 56) ويقرب من ذلك ما في سورة النساء. وقد استعمل عليه السلام من الادب في كلامه حيث قال: " تضل بها من تشاء " لم يذكر أن ذلك من سوء اختيار هؤلاء الضالين لينزهه تعالى لفظا كما كان ينزهه قلبا فيكون على حد قوله تعالى: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " (البقرة: 26) لان المقام كان يصرفه عن التعرض إلا لكونه تعالى وليا على الاطلاق ينتهى إليه كل التدبير لا غير. ولم يورد في الذكر أيضا عمدة ما في نفسه من المسألة وهو أن يحييهم الله سبحانه بعد الاهلاك لان الموقف على ما كان فيه من هول وخطر كان يصرفه عن الاسترسال، وإنما أشار إليه إشارة بقوله: " رب لو شئت أهلكتهم وإياى، الخ ". ومن دعائه عليه السلام ما دعا به حين رجع إلى قومه من الميقات فوجدهم قد عبدوا العجل من بعده، وقد كان الله سبحانه أخبره بذلك قال تعالى " وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه، قال ابن ام إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بى الاعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين " (الاعراف: 150) فعند ذلك رق له ودعا له ولنفسه ليمتازا بذلك من القوم الظالمين: " قال رب اغفر لي ولاخى وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " (الاعراف: 151). ولم يكن يريد التميز منهم وأن يدخلهما الله في رحمته إلا لما كان يعلم أن الغضب الالهى سينال القوم بظلمهم كما ذكره الله بقوله بعد ذلك: " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا " (الاعراف: 152) ويعرف بما تقدم وجوه من الادب في كلامه.

[ 284 ]

ومن دعائه عليه السلام - وهو في معنى الدعاء على قومه إذقالوا له حين أمرهم بدخول الارض المقدسة: " يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هيهنا قاعدون " (المائدة: 24) - ما حكاه الله تعالى بقوله: " قال رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " (المائدة: 25). وقد أخذ عليه السلام بالادب الجميل حيث كنى عن الامساك عن أمرهم وتبليغهم أمر ربهم ثانيا بعد ما جبهوا أمره الاول بأقبح الرد وأشنع القول بقوله: " رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى " أي لا يطيعني فيما أمرته إلا نفسي وأخى أي أنهم ردوا على بما لا مطمع فيهم بعده، فها أنا أكف عن أمرهم بأمرك وإرشادهم إلى ما فيه صلاح جماعتهم. وإنما نسب ملك نفسه وأخيه إلى نفسه لان مراده من الملك بقرينة المقام ملك الطاعة ولو كان هو الملك التكويني لم ينسبه إلى نفسه إلا مع بيان أن حقيقته لله سبحانه، وإنما له من الملك ما ملكه الله إياه، ولما عرض لربه من نفسه الامساك واليأس عن إجابتهم إليه أحال الحكم في ذلك فقال: " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ". ومن ذلك ما دعا به شعيب عليه السلام على قومه إذ قال: " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " (الاعراف: 89). وهذا استنجاز منه للوعد الالهى بعد ما يئس من نجاح دعوته فيهم، ومسألة للقضاء بينه وبينهم بالحق على ما قاله الله تعالى: " ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " (يونس: 48). وإنما قال " بيننا " لانه ضم المؤمنين به إلى نفسه، وقد كان الكافرون من قومه هددوا أياه والمؤمنين به جميعا إذ قالوا:: " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " (الاعراف: 88) فضمهم إلى نفسه وهاجر قومه في عملهم وسار بهم إلى ربه وقال: " ربنا افتح بيننا، الخ ". وقد استمسك في دعائه باسمه الكريم: " خير الفاتحين لما مر أن التمسك بالصفة المناسبة لمتن الدعاء تأييد بالغ بمنزلة الاقسام، وهذا بخلاف قول موسى عليه السلام: " رب

[ 285 ]

إنى لا أملك إلا نفسي وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " المنقول آنفا لما تقدم أن لفظه عليه السلام ليس بدعاء حقيقة بل هو كناية عن الامساك عن الدعوة وإرجاع للامر إلى الله فلا مقتضى للاقسام بخلاف قول شعيب. ومن ذلك ما حكاه الله من ثناء داود وسليمان عليهما السلام قال تعالى: " ولقد آتينا داود و سليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " (النمل: 15.) وجه الادب في حمدهما وشكرهما ونسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى الله سبحانه ظاهر، فلم يقولا مثل ما حكى عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الارض بماله: " إنما أوتيته على علم عندي " (القصص: 78) وكما حكى الله عن قوم آخرين: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " (المؤمن: 83). ولا ضير في الحمد على تفضيل الله إياهما على كثير من المؤمنين فإنه من ذكر خصوص النعمة وبيان الواقع، وليس ذلك من التكبر على عباد الله حتى يلحق به ذم، وقد ذكر الله عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل ومدحهم على علو طبعهم وسمو همتهم حيث قال: " والذين يقولون ربنا - إلى أن قال - واجعلنا للمتقين إماما " (الفرقان: 74). ومن ذلك ما حكاه عن سليمان عليه السلام في قصة النملة بقوله: " حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنودخ وهم لا يشعرون، قتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التى أنعمت علي وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " (الفرقان: 19). ذكرته النملة بما قالته ماله من الملك العظيم الذى شيدت أركانه بتسخير الريح تجرى بأمره، والجن يعملون له ما يشاء، والعلم بمنطق الطير وغيره غير أن هذا الملك لم يقع في ذكره عليه السلام في صورة أجلى امنية يبلغها الانسان كما فينا ولم ينسه عبوديته ومسكنته بل إنما وقع في نفسه في صورة نعمة أنعمها عليه ربه فذكر ربه ونعمته أنعمها عليه وعلى والديه بما خصهم به، وهو من مثله عليه السلام والحال هذا الحال أفضل الادب مع ربه. وقد ذكر نعمته به، وهى وإن كانت كثيرة في حقه غير أن مورد نظره عليه السلام والمقام - هو الملك العظيم والسلطة القاهرة ج ولذلك ذكر العمل الصالح

[ 286 ]

سأل ربه أن يوزعه ليعمل صالحا لان العمل الصالح والسيرة الحسنة هو المطلوب ممن استوى على عرش الملك. فلذلك كله سأل ربه أولا أن يوزعه على شكر نعمته، وثانيا أن يعمل صالحا ولم يرض بسؤال العمل الصالح دون أن قيده بقوله: " ترضاه " فإنه عبد لا شغل له بغير ربه، ولا يريد الصالح من العمل إلا لان ربه يرضاه، ثم تمم مسألة التوفيق لصلاح العمل بمسألة صلاح الذات فقال: " وأدخلني برحمتك في عبادك الصلحين ". ومن ذلك ما حكاه الله عن يونس عليه السلام وقد دعا به وهو في بطن الحوت الذى التقمه قال تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين " (الانبياء: 87). كان عليه السلام - على ما يقصه القرآن - قد سأل ربه أن ينزل على قومه العذاب فأجابه إلى ذلك فأخبرهم به فلما أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربهم فرفع عنهم العذاب، ولما شاهد يونس ذلك ترك قومه، وذهب لوجهه حتى ركب السفينة فاعترضها حوت فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه وينصرف عن الباقين، فخرجت القرعة باسمه فالقى في البحر فالتقمه الحوت فكان يسبح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر، ولم يكن ذلك إلا تأديبا إلهيا يؤدب به أنبياءه على حسب ما يقتضيه مختلف أحوالهم، وقد قال تعالى: " ولو لا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " (الصافات: 144) فكان حاله في تركه العود إلى قومه وذهابه لوجهه يمثل حال عبد أنكر على ربه بعض عمله فغضب عليه فأبق منه وترك خدمته وما هو وظيفة عبوديته فلم يرتض الله له ذلك فأدبه فابتلاه وقبض عليه في سجن لا يقدر فيه أن يتوسع قدر أنملة في ظلمات بعضها فوق بعض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين. ولم يكن ذلك كله إلا لان يتمثل له على خلاف ما كان يمثله حاله أن الله سبحانه قادر على أن يقبض عليه ويحبسه حيث شاء، وأن يصنع به ما شاء فلا مهرب من الله سبحانه إلا إليه، ولذلك لقنه الحال الذى تمثل له وهو في سجنه من بطن الحوت أن يقر لله بأنه هو المعبود الذى لا معبود غيره، ولا مهرب عن عبوديته فقال: " لا

[ 287 ]

إله إلا أنت " ولم يناده تعالى بالربوبية، وهذا أوحد دعاء من أدعية الانبياء عليهم السلام لم يصدر باسم الرب. ثم ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إياهم بما أنزل عليهم من العذاب فأثبت الظلم لنفسه ونزه الله سبحانه عن كل ما فيه شائبة الظلم والنقص فقال: " سبحانك إنى كنت من الظالمين ". ولم يذكر مسألته - وهى الرجوع إلى مقامه العبودي السابق - عدا لنفسه دون لياقة الاستعطاء واستحقاق العطاء استغراقا في الحياء والخجل، والدليل على مسألته قوله تعالى بعد الاية السابقة: " فاستجبنا له ونجيناه من الغم " (الانبياء: 88). والدليل على أن مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى: " فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين، وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا به فمتعناهم إلى حين " (الصافات: 148). ومن ذلك ما ذكره الله تعالى عن أيوب (ع) بعد ما أزمنه المرض وهلك عنه ماله وولده حيث قال: " وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين " (الانبياء: 83). وجوه التأدب فيه ظاهرة مما تقدم بيانه، ولم يذكر (ع) حاجته صريحا على حد ما تقدم من أدعية آدم ونوح وموسى ويونس عليهم السلام هضما لنفسه واستحقارا لامره، وأدعية الانبياء كما تقدم ويأتى خالية عن التصريح بالحاجة إذا كان مما يرجع إلى امور الدنيا وإن كانوا لا يريدون شيئا من ذلك اتباعا لهوى أنفسهم. وبوجه آخر ذكره السبب الباعث إلى المسألة كمس الضر والصفة الموجودة في المسؤول المطمعة للسائل في المسألة ككونه تعالى أرحم الراحمين، والسكوت عن ذكر نفس الحاجة، أبلغ كناية عن أن الحاجة لا تحتاج إلى ذكر فإن ذكرها يوهم أن الاسباب المذكورة ليست بكافية في إثارة رحمة من هو أرحم الراحمين بل يحتاج إلى تأييد بالذكر وتفهيم باللفظ. ومن ذلك ما حكاه عن زكريا (ع): حيث قال: " ذكر رحمة ربك عبده

[ 288 ]

زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا، قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا، وإنى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لى من لدنك وليا، يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " (مريم: 6). إنما حثه على هذا الدعاء ورغبه في أن يستوهب ولدا من ربه ما شاهده من أمر مريم ابنة عمران في زهدها وعبادتها، وما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبودية، وخصها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى: " وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " (آل عمران: 38). فغشيه شوق شديد إلى ولد طيب صالح يرثه ويعبد ربه عبادة مرضية كما ورثت مريم عمران وبلغت جهدها في عبادة ربها ونالت منه الكرامة غير أنه وجد نفسه وقد نال منه الشيب، وانهدت منه القوى، وكذلك امرأته وقد كانت عاقرة في سنى ولادتها فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيب الرضى ما الله أعلم به، لكن لم يملك نفسه مما هاج فيه من الغيرة الالهية والاعتزاز بربه دون أن رجع إلى ربه وذكر له ما يثور به الرحمة والحنان من حاله أنه لم يزل عالقا على باب العبودية والمسألة منذ وحداثة سنه حتى وهن عظمه واشتعل رأسه شيبا، ولم يكن بدعائه شقيا، وقد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه وليهب له وارثا رضيا. والدليل على ما ذكر نا أنه إنما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد والحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحى إليه بالاستجابة بقوله: " قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا، قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " (مريم: 9) فإنه ظاهر في أنه (ع) لما سمع الاستجابة صحا عن حاله وأخذ يتعجب من غرابة المسألة والاجابة حتى سأل ربه عن ذلك في صورة الاستبعاد وسأل لنفسه عليه آية فاجيب إليها أيضا. وكيف كان فالذي استعمله عليه السلام في دعائه من الادب هو ما ساقه إليه حال الوجد والحزن الذى ملكه، ولذلك قدم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربه

[ 289 ]

فقد صرف دهره في سلوك سبيل الانابة والمسألة حتى وقف موقفايرق له قلب كل ناظر رحيم ثم سأل الولد وعلله بأن ربه سميع الدعاء. فهذا معنى ما ذكره مقدمة لمسألته لا أنه كان يمتن بطول عبوديته على ربه - حاشا مقام النبوة - فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران: " رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " أنى أسألك ما أسألك لا لان لطول عبوديتي - وهو دعاؤه المديد - قدرا عندك أو فيه منة عليك بل لانى أسألك، وقد وجدتك سميعا لدعاء عبادك ومجيبا لدعوة السائلين المضطرين، وقد اضطرني خوف الموالى من ورائي، والحث الشديد لذرية طيبة يعبدك أن أسألك. وقد تقدم أن من الادب الذى استعمله في دعائه أن ألحق تخوف الموالى قوله: " واجعله رب رضيا " والرضى وإن كان طبعه يدل بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه، والرضا يشمل بإطلاقه رضى الله ورضى زكريا ورضى يحيى لكن قوله في آية آل عمران: " ذرية طيبة " يدل على أن المراد بكونه رضيا كونه مرضيا عند زكريا لان الذرية إنما تكون طيبة لصاحبها لا غير. ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله: " قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين " (المائدة: 114). القصة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريين عيسى عليه السلام نزول مائدة من السماء عليهم تدل بسياقه أن هذه المسألة كانت من الاسئلة الشاقة على عيسى عليه السلام لان ما حكى عنهم من قولهم له: " يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " كان أولا مشتملا بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه، ولا يوافق ذلك أدب العبودية وإن كان حاق مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإن حزازة اللفظ على حالها. وكان ثانيا متضمنا لاقتراح آية جديدة مع أن آياته عليه السلام الباهرة كانت قد أحاطت بهم من كل جهة فكانت نفسه الشريفة آية، وتكلمه في المهد آية، وإحياؤه

[ 290 ]

الموتى وخلقه الطير وإبراؤه الاكمه والابرص وإخباره عن المغيبات وعلمه بالتوراة والانجيل والكتاب والحكمة آيات إلهية لا تدع لشاك شكا ولا لمرتاب ريبا فاختيارهم آية لانفسهم وسؤالهم إياه كان بظاهره كالعبث بآيات الله واللعب بجانبه، ولذلك وبخهم بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ". لكنهم أصروا على ذلك ووجهوا مسألتهم بقولهم: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " وألجأوه إلى السؤال فسأل. أصلح عليه السلام بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدم إلى حضرة العزة والكبرياء فعنونه أولا بعنوان أن يكون عيدا لهم يختصون هو وامته به فإنها آية اقتراحية عديمة النظير بين آيات الانبياء عليهم السلام حيث كانت آياتهم إنما تنزل لاتمام الحجة أو لحاجة الامة إلى نزولها، وهذه الاية لم تكن على شئ من هاتين الصفتين. ثم أجمل ثانيا ما فصله الحواريون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها وعلمهم بصدقه عليه السلام وشهادتهم عليها، في قوله: " وآية منك ". ثم ذكر ثالثا ما ذكروه من عرض الاكل وأخره وإن كانوا قدموه في قولهم: " نريد أن نأكل منها، الخ " وألبسه لباسا آخر أوفق بأدب الحضور فقال: " وارزقنا " ثم ذيله بقوله: " وأنت خير الرازقين " ليكون تأييدا للسؤال بوجه، وثناء له تعالى من وجه آخر. وقد صدر مسألته بندائه تعالى: " اللهم ربنا " فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الانبياء عليهم السلام من قولهم " رب " أو " ربنا " لان الموقف صعب كما تقدم بيانه. ومنه مشافهته عليه السلام ربه المحكية بقوله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت انت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "

[ 291 ]

" المائدة: 118 ". تأدب عليه السلام في كلامه أولا بأن صدره بتنزيهه تعالى عما لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه " (الانبياء: 26). وثانيا بأن اخذ نفسه أدون واخفض من أن يتوهم في حقه ان يقول مثل هذا القول حتى يحتاج إلى أن ينفيه، ولذلك لم يقل من أول مقالته إلى آخرها: " ما قلت " أو " ما فعلت " وإنما نفى ذلك مرة بعد مرة على طريق الكناية وتحت الستر فقال: " ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " فنفاه بنفى سببه أي لم يكن لى حق في ذلك حتى يسعنى أن أتفوه بمثل ذاك القول العظيم، ثم قال: " إن كنت قلته فقد علمته، الخ " فنفاه بنفى لازمه أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لان علمك أحاط بى وبجميع الغيوب. ثم قال: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم " فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر بما وإلا أي إنى قلت لهم قولا ولكنه هو الذى أمرتنى به وهو ان اعبدوا الله ربى وربكم، وكيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتخذوني وامى إلهين من دون الله ؟. ثم قال: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " وهو نفى منه عليه السلام لذلك كالمتمم لقوله: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به " (الخ) وذلك لان معناه: ما قلت لهم شيئا مما ينسب إلى والذى قلت لهم إنما قلته عن أمر منك، وهو " أن اعبدوا الله ربى وربكم " ولم يتوجه إلى أمر فيما سوى ذلك، ولا مساس بهم إلا الشهادة والرقوب لاعمالهم ما دمت، فلما توفيتنى انقطعت عنهم، وكنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العام قبل أن توفيتنى وبعده وعليهم وعلى كل شئ غيرهم. وإذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجه له عليه السلام أن ينفى ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمم للوجوه التى ذكرها، وبه يحصل تمام النفى فقال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك، (الخ) يقول - على ما يؤيده السياق - وإذا كان الامر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم وهم بمعزل منى فأنت وعبادك هؤلاء إن تعذبهم فإنهم عبادك، وللسيد الرب أن يعذب عبيده بمخالفتهم وإشراكهم به وهم مستحقون للعذاب، وإن تغفر لهم فلا

[ 292 ]

عتب عليك لانك عزيز غير مغلوب وحكيم لا يفعل الفعل السفهى اللغو، وإنما يفعل ما هو الاصلح. وبما بينا يظهر وجوه لطيفة من أدب العبودية في كلامه عليه السلام ولم يورد جملة في كلامه إلا وقد مزجها بأحسن الثناء بأبلغ بيان وأصدق لسان. ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ألحق به في ذلك المؤمنين من امته فقال تعالى: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخدنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " (البقرة: 286). كلامه تعالى - كما ترى - يحكى إيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من اصول المعارف، وفيما اشتمل عليه من الاحكام الالهية جميعا، ثم يلحق به صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين من امته دون المعاصرين الحاضرين عنده صلى الله عليه وآله وسلم منهم فحسب، بل المؤمنين من جميع الامة على ما هو ظاهر السياق. ولازم ذلك أن يكون ما ذكر فيه من إقرار أو ثناء أو دعاء بالنسبة إلى بعضهم محكيا عن لسان حالهم، وإن أمكن أن يكون ذلك مما قاله آخرون بلسان قالهم، أو يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القائل ذلك مشافها ربه عن نفسه الشريفة وعن المؤمنين لانهم بإيمانهم من فروع شجرة نفسه الطيبة المباركة. والايتان تشتملان على ما هو كالمقايسة والموازنة بين أهل الكتاب وبين مؤمنى هذه الامة من حيث تلقيهم ما أنزل إليهم في كتاب الله، وإن شئت قلت: من حيث تأدبهم بأدب العبودية تجاه الكتاب النازل إليهم، فإنه ظاهر ما أثنى الله سبحانه على هؤلاء وخفف الله عنهم في الايتين بعين ما وبخ اولئك عليه وعيرهم به في الايات السابقة من سورة البقرة فقد ذم أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة الله فأبغضوا جبريل وأحبوا غيره، وبين كتب الله المنزلة فكفروا بالقرآن وآمنوا بغيره، وبين رسل الله فآمنوا

[ 293 ]

بموسى أو به وبعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم، بين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب الله وكفروا ببعض، والمؤمنون من هذه الامة آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله. فقد تأدبوا مع ربهم بالتسليم لما أحقه الله من المعارف الملقاة إليهم ثم تأدبوا بالتلبية لما ندب الله إليه من أحكامه إذ قالوا: " سمعنا وأطعنا " لا كقول اليهود: " سمعنا وعصينا " ثم تأدبوا فعدوا أنفسهم عبادا مملوكين لربهم لا يملكون منه شيئا ولا يمتنون عليه بإيمانهم وطاعتهم فقالوا: " غفرانك ربنا " لا كما قالت اليهود: " سيغفر لنا " وقالت: " إن الله فقير ونحن أغنياء " و قالت: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " إلى غير ذلك من هفواتهم. ثم قال الله سبحانه: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " فإن التكليف الالهى يتبع بحسب طبعه الفطرة التى فطر الناس عليها، ومن المعلوم أن الفطرة التى هي نوع الخلقة لا تدعو إلا إلى ما جهزت به، وفي ذلك سعادة الحياة البتة. نعم لو كان الامر على ضرب من الاهمية القاضية بزيادة الاهتمام به، أو خرج العبد المأمور عن حكم الفطرة وزى العبودية جاز بحكم آخر من قبل الفطرة أن يوجه المولى أو كل من بيده الامر إليه من الحكم ما هو خارج عن سعته المعتادة كأن يأمره بالاحتياط بمجرد الشك، واجتناب النسيان والخطأ إذا اشتد الاهتمام بالامر، نظير وجوب الاحتياط في الدماء والفروج والاموال في الشرع الاسلامي، أو يحمل عليه الكلفة ويزيد في التضييق عليه كلما زاد في اللجاج وألح في المسألة كما أخبر الله بنظائر ذلك في بنى إسرائيل. وكيف كان فقوله: " لا يكلف الله نفسا " إما ذيل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون، وإنما قالوه تقدمة لقولهم: " ربنا لا تؤاخذنا، الخ " ليجرى مجرى الثناء عليه تعالى ودفعا لما يتوهم أن الله سبحانه يؤاخذ بما فوق الطاقة ويكلف بالحرجى من الحكم فيندفع بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وأن الذى سألوه بقولهم: " ربنا لا تؤاخذنا، الخ " إنما هو الاحكام بعناوين ثانوية ناشئة من قبل الحكم أو من قبل المكلفين بالعناد

[ 294 ]

لا من قبله تعالى. وإما كلام له تعالى موضوع بين فقرتين من دعائم المحكى في كلامه أعنى قولهم: " غفرانك ربنا، الخ " وقولهم: " ربنا لا تؤاخذنا، الخ " ليفيد ما مر من الفائدة ويكون تأديبا وتعليما لهم منه تعالى فيكون جاريا مجرى كلامهم لانهم مؤمنون بما أنزل الله، وهو منه، وعلى أي حال فهو مما يعتمد عليه كلامهم، ويتكئ عليه دعاؤهم. ثم ذكر بقية دعائهم وإن شئت فقل: طائفة اخرى من مسائلهم: " ربنا لا تؤاخذنا " الخ " ربنا لا تحمل علينا إصرا " الخ " ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا " وكأن مرادهم به العفو عما صدر منهم من النسيان والخطأ وسائر موجبات الحرج " واغفر لنا وارحمنا " في سائر ذنوبنا وخطيئاتنا، ولا يلزم من ذكر المغفرة هيهنا التكرار بالنظر إلى قولهم سابقا: " غفرانك ربنا " لانها كلمة حكيت عنهم لفائدة قياس حالهم وأدبهم مع ربهم على أهل الكتاب في معاملتهم مع ربهم وبالنسبة إلى كتابهم المنزل إليهم، على أن مقام الدعاء لا يمانع التكرار كسائر المقامات. واشتمال هذا الدعاء على أدب العبودية في التمسك بذيل الربوبية مرة بعد مرة والاعتراف بالمملوكية والولاية، والوقوف موقف الذلة ومسكنة العبودية قبال رب العزة مما لا يحتاج إلى بيان. وفى القرآن الكريم تأديبات إلهية وتعليمات عالية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بأقسام من الثناء يثنى بها على ربه أو المسألة التى يسأله بها كما في قوله تعالى: " قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء " إلى آخر الايتين " (آل عمران: 26) وقوله تعالى: " قل اللهم فاطر السماوات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك " (الزمر: 46) وقوله تعالى: " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى " (النمل: 59) وقوله تعالى: " قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله " (الخ) (الانعام: 162) وقوله تعالى: " وقل رب زدنى علما " (طه: 114) وقوله: " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين " (الخ) (لمؤمنون: 97) إلى غير ذلك من الايات وهى كثيرة جدا. ويجمعها جميعا أنها تشتمل على أدب بارع أدب الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وندب هو إليه أمته.

[ 295 ]

7 - رعايتهم الادب عن ربهم فيما حاوروا قومهم، وهذا أيضا باب واسع وهو ملحق بالادب في الثناء على الله سبحانه، وهو من جهة اخرى من أبواب التبليغ العملي الذى لا يقصر أو يزيد أثرا على التبليغ القولى. وفى القرآن من ذلك شئ كثير قال تعالى في محاورة جرت بين نوح وقومه: " قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين، ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم واليه ترجعون " (هود: 34) ينفى عليه السلام عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الاية ليعجزوه به، وينسبه إلى ربه ويبالغ في الادب بقوله: " إن شاء " ثم بقوله " وما أنتم بمعجزين " أي لله، ولذلك نسبه إليه تعالى بلفظ " الله " دون لفظ " ربى " لان الله هو الذي ينتهى إليه كل جمال وجلال، ولم يكتف بنفى القدرة على إتيان الاية عن نفسه وإثباته حتى ثناه بنفى نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به فأكمل بذلك نفى القدرة عن نفسه وإثباته لربه، وعلل ذلك بقوله: " هو ربكم واليه ترجعون ". فهذه محاورة غاصة بالادب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوح عليه السلام الطغاة من قومه محاجا لهم، وهو أول نبى من الانبياء عليهم السلام فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد، وانتهض على الوثنية على ما يذكره القرآن الشريف. وهذا أوسع هذه الابواب مسرحا لنظر الباحث في أدب الانبياء عليهم السلام يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدبا وكمالا فإن جميع اقوالهم أفعالهم وحركاتهم وسكناتهم مبنية على أساس المراقبة والحضور العبودي، وإن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربه وغاب عنه ربه سبحانه قال تعالى: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون " (الانبياء: 20). وقد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود وصالح وإبراهيم وموسى وشعيب ويوسف وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم من الانبياء عليهم السلام في حالات لهم مختلفة كالشدة والرخاء والحرب والسلم والاعلان ولاسرار والتبشير والانذار وغير ذلك.

[ 296 ]

تدبر في قوله تعالى: " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى " (طه: 86) يذكر موسى عليه السلام إذ رجع إلى قومه وقد امتلا غيظا وحنقا لا يصرفه ذلك عن رعاية الادب في ذكر ربه. وقوله تعالى: " وراودته التى هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب و قالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون " (يوسف: 23) وقوله تعالى: " قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " (يوسف: 92) يذكر يوسف في خلاء المراودة الذى يملك من الانسان كل عقل، ويبطل عنده كل حزم لا يشغله ذلك عن التقوى ثم عن رعاية الادب في ذكر ربه ومع غيره. وقوله تعالى: " فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربى ليبلونئ أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم " (النمل: 40) وهذا سليمان عليه السلام وقد اوتى من عظيم الملك ونافذ الامر وعجيب القدرة أن أمر بإحضار عرش ملكة سبأ من سبأ إلى فلسطين فاحضر في أقل من طرفة عين فلم يأخذه كبر النفس وخيلاؤها، ولم ينس ربه ولم يمكث دون أن أثنى على ربه في ملائه بأحسن الثناء. وليقس ذلك إلى ما ذكره الله من قصة نمرود مع إبراهيم عليه السلام إذ قال: " ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربى الذى يحيى ويميت قال إنا احيى واميت " (البقرة: 258) وقد قال ذلك إذ أحضر رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الاخر. أو إلى ما ذكره فرعون مصر إذ قال كما حكاه الله: " يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين، فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب " (الزخرف: 53) يباهى بملك مصر وأنهاره ومقدار من الذهب كان يملكه هو وملاؤه ولا يلبث دون أن يقول كما حكى الله: " أنا ربكم الاعلى " وهو الذى كانت تستذله آيات موسى يوما بعد يوم من طوفان وجراد وقمل

[ 297 ]

وضفادع وغير ذلك. وقوله تعالى: " إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " (التوبة: 40) وقوله: " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا - إلى أن قال - فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأنى العليم الخبير " (التحريم: 3) فلم يهزهزه صلى الله عليه وآله وسلم شدة الامر والهول والفزع في يوم الخوف أن يذكر أن ربه معه ولم تنجذب نفسه الشريفة إلى ما كان يهدده من الامر، وكذا ما أسر به إلى بعض أزواجه في الخلوة في اشتماله على رعاية الادب في ذكر ربه. وعلى وتيرة هذه النماذج المنقولة تجرى سائر ما وقع في قصصهم عليهم السلام في القرآن الكريم من الادب الرائع والسنن الشريفة، ولو لا أن الكلام قد طال بنا في هذه الابحاث لاستقصينا قصصهم وأشبعنا فيها البحث. 8 - أدب الانبياء عليهم السلام مع الناس في معاشرتهم ومحاورتهم، مظاهر هذا القسم هي الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن مع الكفار، والمحاورات التى حاوروا بها المؤمنين منهم، ثم شئ يسير من سيرتهم المنقولة. أما الادب في القول فإنك لا تجد فيما حكى من شذرات أقوالهم مع العتاة والجهلة أن يخاطبوهم بشئ مما يسوؤهم أو شتم أو إهانة أو إزراء وقد نال منهم المخالفون بالشتم والطعن والاستهزاء والسخرية كل منال فلم يجيبوهم إلا بأحسن القول وأنصح الوعظ معرضين عنهم بسلام وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. قال تعالى: " فقال الملا الذين كفروا من قومه - يعنى قوم نوح - ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " (هود: 28). وقال تعالى حكاية عن عاد قوم هود: " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برئ مما تشركون، من دونه " (هود: 55) يريدون باعتراء بعض آلهتهم إياه بسوء ابتلاءه عليه السلام بمثل جنون أو سفاهة ونحو ذلك. وقال تعالى حكاية عن آزر: " قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم

[ 298 ]

تنته لارجمنك واهجرني مليا، قال سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا " (مريم: 47). وقال تعالى حكاية عن قوم شعيب عليه السلام: " قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين، قال يا قوم ليس بى سفاهة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين " (الاعراف: 68). وقال تعالى: " قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السماوات والارض وما بينهما - إلى أن قال - قال إن رسولكم الذى ارسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " (الشعراء: 28). وقال تعالى حكاية عن قوم مريم: " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا اخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت امك بغيا، فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " (الخ) (مريم: 30). وقال تعالى يسلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيما رموه به من الكهانة والجنون والشعر: " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين " (الطور: 31). وقال: " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " (الفرقان: 9). إلى غير ذلك من أنواع الشتم والرمى والاهانة التى حكى عنهم في القرآن، ولم ينقل عن الانبياء عليهم السلام أن يقابلوهم بخشونة أو بذاء بل بالقول الصواب والمنطق الحسن اللين اتباعا للتعليم الالهى الذى لقنهم خير القول وجميل الادب قال تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام: " إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " (طه: 44) وقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا " (الاسراء: 28). ومن أدبهم في المحاورة والخطاب أنهم كانوا ينزلون أنفسهم منزلة الناس فيكلمون كل طبقة من طبقاتهم على قدر منزلته من الفهم، وهذا ظاهر بالتدبر فيما حكى من

[ 299 ]

محاوراتهم الناس على اختلافهم المنقولة عن نوح فمن بعده، وقد روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إنا معاشر الانبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم ". وليعلم أن البعثة بالنبوة إنما بنيت على أساس الهداية إلى الحق وبيانه والانتصار له فعليهم أن يتجهزوا بالحق في دعوتهم، وينخلعوا عن الباطل ويتقوا شبكات الضلال أيا ما كانت سواء وافق ذلك رضى الناس أو سخطهم، واستعقب طوعهم أو كرههم ولقد ورد منه تعالى أشد النهى في ذلك لانبيائه وأبلغ التحذير حتى عن اتباع الباطل قولا وفعلا بغرض نصرة الحق فإن الباطل باطل سواء وقع في طريق الحق أو لم يقع، والدعوة إلى الحق لا يجامع تجويز الباطل ولو في طريق الحق، والحق الذى يهدى إليه الباطل وينتجه ليس بحق من جميع جهاته. ولذلك قال تعالى: " وما كنت متخذ المضلين عضدا " (الكهف: 51) وقال: " ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف المماة ثم لا تجد لك علينا نصيرا " (الاسراء: 75) فلا مساهلة ولا ملابسة ولا مداهنة في حق ولا حرمة لباطل. ولذلك جهز الله سبحانه رجال دعوته وأولياء دينه وهم الانبياء عليهم السلام بما يسهل لهم الطريق إلى اتباع الحق ونصرته، قال تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا " (الاحزاب: 39) فأخبر أنهم لا يتحرجون فيما فرض الله لهم ويخشونه ولا يخشون أحدا غيره فليس أي مانع من إظهارهم الحق ولو بلغ بهم أي مبلغ وأوردهم أي مورد. ثم وعدهم النصر فيما انتهضوا له فقال: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون " (الصافات: 173) وقال: " إنا لننصر رسلنا " (المؤمن: 51). ولذلك نجدهم فيما حكى عنهم لا يبالون شيئا في إظهار الحق وقول الصدق وإن لم يرتضه الناس واستمروه في مذاقهم، قال تعالى حاكيا عن نوح يخاطب قومه: " ولكني أراكم قوما تجهلون " (هود: 29) وقال عن قول هود: " إن أنتم إلا مفترون "

[ 300 ]

(هود: 50) وقوله لقومه: " قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان " (الاعراف: 71)، وقال تعالى يحكى عن لوط: " بل أنتم قوم مسرفون " (الاعراف: 81) وحكى عن إبراهيم من قوله لقومه: " أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " (الانبياء: 67) وحكى عن موسى في جواب قول فرعون له: " إنى لاظنك يا موسى مسحورا " قال لقد علمت ما انزل هؤلاء إلا رب السماوات والارض بصائر وإنى لاظنك يا فرعون مثبورا " (الاسراء: 102) أي ممنوعا من الايمان بالحق مطرودا هالكا، إلى غير ذلك من الموارد. فهذه كلها من رعاية الادب في جنب الحق واتباعه، ولا مطلوب أعز منه ولا بغية أشرف منه وأغلى، وإن كان في بعضها ما ينافى الادب الدائر بين الناس لابتناء حياتهم على اتباع جانب الهوى والسلوك إلى أمتعة الحياة بمداهنة المبطلين والخضوع والتملق إلى المفسدين والمترفين سياسة في العمل. وجملة الامر أن الادب كما تقدم في أول هذه المباحث إنما يتأتى في القول السائغ والعمل الصالح، ويختلف حينئذ باختلاف مسالك الحياة في المجتمعات والاراء والعقائد التى تتمكن فيهاو تتشكل هي عنها، والدعوة الالهية التى تستند إليها المجتمع الدينى إنما تتبع الحق كى الاعتقاد والعمل، والحق لا يخالط الباطل ولا يمازجه ولا يستند إليه ولا يعتضد به، فلا محيص عن إظهاره واتباعه، والادب الذى يتأتى فيه أن يسلك في طريق الحق أحسن المسالك ويتزيى فيه بأظرف الازياء كاختيار لين القول إذا صح أن يتكلم بلينة وخشونة، واخختيار الاستعجال في الخير إذا أمكن فيه كل من المسارعة والتبطى. وهذا هو الذى يأمر به في قوله تعالى: " وكتبنا له - أي لموسى - في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " (الاعراف: 145) وبشر عباده الاخذين به في قوله: " فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب " (الزمر: 18) فلا أدب في باطل ولا أدب في ممزوج من حق وباطل فإن الخارج من صريح الحق ضلال لا يرتضيه ولى الحق وقد قال: " فماذا بعد الحق إلا الضلال " (يونس: 32).

[ 301 ]

وهذا هو الذى دعا أنبياء الحق إلى صراحة القول وصدق اللهجة وإن كان ذلك في بعض الموارد مما لا يرتضيه سنة المداهنة والتساهل والادب الكاذب الدائر في المجتمعات غير الدينية. ومن أدبهم مع الناس في معاشرتهم وسيرتهم فيهم احترام الضعفاء والاقوياء على حد سواء والاكثار والمبالغة في حق أهل العلم والتقوى منهم فإنهم لما بنوا على أساس العبودية وتربية النفس الانسانية تفرع عليه تسوية الحكم في الغنى والفقير والصغير والكبير والرجل والمرأة والمولى والعبد والحاكم والمحكوم والامير والمأمور والسلطان والرعية، وعند ذلك لغى تمايز الصفات، واختصاص الاقوياء بمزايا اجتماعية، وبطل تقسم الوجدان والفقدان والحرمان والتنعم والسعادة والشقاء بين صفتي الغنى والفقر والقوة والضعف، وان للقوى والغنى من كل مكانة أعلاها، ومن كل عيشة أنعمها، ومن كل مجاهدة أروحها وأسهلها، ومن كل وظيفة أخفها بل كان الناس في ذلك شرعا سواء، قال: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13) وتبدل استكبار الاقوياء بقوتهم ومباهاة الاغنياء بغنيتهم تواضعا للحق ومسارعة إلى المغفرة والرحمة، وتسابقا في الخيرات وجهادا في سبيل الله وابتغاء لمرضاته. واحترم حينئذ للفقراء كما للاغنياء وتؤدب مع الضعفاء كما مع الاغنياء بل اختص هؤلاء بمزيد شفقة ورأفة ورحمة، قال تعالى يؤدب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " (الكهف: 28) وقال تعالى: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين " (الانعام: 52)، وقال: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين، وقل إنى أنا النذير المبين " (الحجر: 89). ويشتمل على هذا الادب الجميل ما حكاه الله من محاورة بين نوح عليه السلام وقومه إذ قال: " فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم

[ 302 ]

لها كارهون، ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون أي في تحقيركم أمر الفقير الضعيف - ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون، ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك - أي لا أدعى شيئا يميزنى منكم بمزية إلا أنى رسول إليكم ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم - أي من الخير والسعادة اللذين يرجيان منهم - إنى إذا لمن الظالمين " (هود: 31). ونظيره في نفى التمييز قول شعيب لقومه على ما حكاه الله: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن اريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب " (هود: 88)، وقال الله تعالى يعرف رسوله صلى الله عليه وآله وسلم للناس: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " (التوبة: 128) وقال أيضا: " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم " (التوبة: 61) وقال أيضا: " وإنك لعلى خلق عظيم " (القلم: 4) وقال أيضا وفيه جماع ما تقدم: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (الانبياء: 107). وهذه الايات وإن كانت بحسب المعنى المطابقى ناظرة إلى أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم الحسنة دون أدبه الذى هو أمر وراء الخلق إلا أن نوع الادب - كما تقدم بيانه - يستفاد من نوع الخلق، على أن نفس الادب من الاخلاق الفرعية.

(بحث روائي آخر)

 الايات القرآنية التى يستفاد منها خلقه صلى الله عليه وآله وسلم الكريم وأدبه الجميل أكثرها واردة في صورة الامر والنهى، ولذلك رأينا أن نورد في هذا المقام روايات من سننه صلى الله عليه وآله وسلم فيها مجامع أخلاقه التى تلوح إلى أدبه الالهى الجميل، وهى مع ذلك متأيدة بالايات الشريفة القرآنية. 1 - في معاني الاخبار بطريق عن أبى هالة التميمي عن الحسن بن على عليهما السلام وبطريق آخر عن الرضا عن آبائه عن على بن الحسين عن الحسن بن على عليهم السلام،

[ 303 ]

وبطريق آخر عن رجل من ولد أبى هالة عن الحسن بن على عليهما السلام: قال: سألت خالي هند بن أبى هالة، وكان وصافا للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أشتهى أن يصف لى منه شيئا لعلى أتعلق به فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخما مفخما يتلالا وجهه تلالؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن تفرقت عقيقته فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة اذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، مفلج، أشنب، مفلج الاسنان، دقيق المشربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا، سواء البطن والصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، عريض الصدر، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجرى كالخط، عارى الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعلى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الاطراف، سبط القصب، خمصان الاخمصين، فسيح القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفؤا، ويمشى هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط في صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الارض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدر من لقيه بالسلام. قال: فقلت له: صف لى منطقه، فقال: كان صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الاحزان، دائم الفكر ليس له راحة، طويل الصمت لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا ليس بالجافى ولا بالمهين، يعظم عنده النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئا غير أنه كان لا يذم ذواقا ولا يمدحه، ولا تغضيه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطى الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شئ حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وانشاح، وإذا غضب غض طرفه جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام. قال الصدوق: إلى هنا رواية القاسم بن المنيع عن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد، والباقى رواية عبد الرحمن اإى آخره: قال الحسن عليه السلام: فكتمتها الحسين عليه السلام زمانا ثم حدثته به فوجدته قد سبقني

[ 304 ]

إليه فسألته عنه فوجدته قد سأل أباه عليه السلام عن مدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومخرجه ومجلسه وشكله فلم يدع منه شيئا. قال الحسين عليه السلام قد سألت أبى عليه السلام عن مدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كان دخوله في نفسه مأذونا له في ذلك، فإذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لاهله، وجزء لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم منه شيئا. وكان من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جزء الامة إيثارأهل الفضل بأدبه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم والامة من مسألته عنهم، وبإخبارهم بالذى ينبغى، ويقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يقدر على إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون روادا، ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة. وسألته عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف كان يصنع فيه ؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلا عما كان يعنيه، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم و يوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عن الناس ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الامر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا ويميلوا، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة وموازرة. قال عليه السلام فسألته عن مجلسه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، لا يوطن الاماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهى به المجلس ويأمر بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أبا، وكانوا عنده في

[ 305 ]

الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة، ولا ترفع فيه الاصوات، ولا يؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته، متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب. فقلت: كيف كانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جلسائه ؟ فقال عليه السلام: كان صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهى، فلا يؤيس منه ولا يخيب منه مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والاكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عثراته ولا عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كان على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوليتهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه حتى أن كان أصحابه يستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام. قال: فسألته عن سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال غليه السلام كان سكوته صلى الله عليه وآله وسلم على أربع: على الحلم والحذر و التقدير والتفكير: فأما التقدير ففى تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاده الرأى في صلاح امته، والقيام فيما جمع له خير الدنيا والاخرة. أقول: ورواه في مكارم الاخلاق نقلا من كتاب محمد بن إسحاق بن إبراهيم الطالقاني بروايته عن ثقاته عن الحسن والحسين عليهما السلام، قال في البحار: والرواية من الاخبار المشهورة روته العامة في أكثر كتبهم، انتهى. وقد روى في معناها أو معنى بعض أجزائها روايات كثيرة عن الصحابة. قوله: " المربوع " الذى بين الطويل والقصير، والمشذب الطويل الذى لا كثير

[ 306 ]

لحم على بدنه، ورجل الشعر من باب علم فهو رجل بالفتح والسكون أي كان بين السبط والجعد، والعقيقة الخصلة السبطة من الشعر، وأزهر اللون أي لونه مشرق صاف، والازج من الحاجب مارق وطال، والسوابغ من الحاجب هي الواسعة، والقرن بفتحتين اقتران ما بينها، والشمم ارتفاع قصبة الانف مع حسن واستواء، وكث اللحية المجتمع شعرها إذا كثف من غير طول، وسهل الخد مستوية من غير لحم كثير، وضليع الفم أي وسيعه ويعد في الرجال من المحاسن، والمفلج من الفلجة بفتحتين إذا تباعد ما بين قدميه أو يديه أو أسنانه، والاشنب أبيض الاسنان. والمشربة الشعر وسط الصدر إلى البطن، والدمية بالضم الغزال، والمنكب مجتمع رأس الكتف والعضد، والكراديس جمع كردوس وهو العظمان إذا التقيا في مفصل، وأنور المتجرد كأن المتجرد اسم فاعل من التجرد وهو التعري من لباس ونحوه، والمراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان جميل الظاهر حسن الخلقة في بدنه إذا تجرد عن اللباس. واللبة بالضم فالتشديد موضع القلادة من الصدر والسرة معروفة، والزند موصل الذراع من الكف، ورحب الراحة أي وسيعها، والشثن بفتحتين الغلظ في القدمين والكفين، وسبط القصب أي سهل العظام مسترسلها من غير نتو، أخمص القدم، الموضع الذى لا يصل الارض منها، والخمصان ضامر البطن فخمصان الاخمصين أي كونهما ذا نتو وارتفاع بالغ من الارض، والفسحة هي الوسعة، والقلع بفتحتين القوة في المشى. والتكفؤ في المشى الميد والتمايل فيه، وذريع المشية أي السريع فيها، والصبب ما انحدر من الطريق أو الارض، وخافض الطرف تفسيره ما بعده من قوله: " نظره إلى الارض " (الخ). والاشداق جمع شدق - بالكسر فالسكون - وهو زاوية الفم من باطن الخدين، وافتتاح الكلام واختتامه بالاشداق كناية عن الفصاحة، يقال: تشدق أي لوى شدقه للتفصح، والدمث من الدماثة وتفسيره ما بعده وهو قوله: " ليس بالجافى ولا بالمهين " والذواق بالفتح مايذاق من طعام، وانشاح من النشوح أي أعرض، ويفتر عن مثل حب الغمام افتر الرجل افترارا أي ضحك ضحكا حسنا، وحب الغمام البرد، والمراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يضحك ضحكا حسنا يبدو به أسنانه.

[ 307 ]

وقوله: " فيرد ذلك بالخاصة على العامة " (الخ) المراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان في جزئه الذى لنفسه خلا بنفسه عن الناس لكنه لا ينقطع عنهم بالكلية بل يرتبط بواسطة خاصته بالناس فيجيبهم في مسائلهم ويقضى حوائجهم، ولا يدخر عنهم من جزء نفسه شيئا، والرواد جمع رائد وهو الذى يتقدم القوم أو القافلة يطلب لهم مرعى أو منزلا ونحو ذلك. وقوله: " لا يوطن الاماكن وينهى عن إيطانها " المراد بها المجالس أي لا يعين لنفسه مجلسا خاصا بين الجلساء حذرا من التصدر والتقدم فقوله: " وإذا انتهى " (الخ) كالمفسر له، ولا تؤبن فيه الحرم أي لا تعاب عنده حرمات الناس، والابنة بالضم العيب، والحرم بالضم فالفتح جمع حرمة. وقوله: " ولا تثنى فلتاته " من التثنية بمعنى التكرار، والفلتات جمع فلتة وهى العثرة أي إذا وقعت فيه فلتة من أحد جلسائه بينها لهم فراقبوا للتحذر من الوقوع فيها ثانيا، والبشر بالكسر فالسكون بشاشة الوجه، والصخاب الشديد الصياح. وقوله: " حديثهم عنده حديث أوليتهم " الاولية جمع ولى، وكأن المراد به التالى التابع والمعنى أنهم كانوا يتكلمون واحدا بعد آخر بالتناوب من غير أن يداخل أحدهم كلام الاخر أو يتوسطه أو يشاغبوا فيه، وقوله: " حتى أن كان أصحابه يستجلبونهم " أي يريدون جلبهم عنه وتخليصه منهم. وقوله: " ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ " أي في مقابل نعمة أنعمها على أحدهم وهو الشكر الممدوح من كافأه بمعنى جازاه، أو من المكافأة بمعنى المساواة أي ممن يثنى بما يستحقه من الثناء على ما أنعم به من غير إطراء وإغراق، وقوله: " ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز " أي يتعدى عن الحق فيقطعه حينئذ بنهي أو قيام، والاستفزاز الاستخفاف والازعاج. 2 - وفى الاحياء: كان صلى الله عليه وآله وسلم أفصح الناس منطقا وأحلاهم - إلى أن قال - وكان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير كأنه يتبع بعضه بعضا، بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه، كان جهير الصوت أحسن الناس نغمة. 3 - وفى التهذيب بإسناده عن إسحاق بن جعفر عن أخيه موسى عن آبائه عن

[ 308 ]

على عليه السلام قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: بعثت بمكارم الاخلاق ومحاسنها. 4 - وفى مكارم الاخلاق عن أبى سعيد الخدرى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه. 5 - وفى الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يذكر أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملك فقال: إن الله يخيرك أن تكون عبدا رسولا متواضعا أو ملكا رسولا. قال: فنظر إلى جبرئيل وأومأ بيده أن تواضع فقال: عبدا رسولا متواضعا، فقال الرسول: مع أنه لا ينقصك مما عند ربك شيئا، قال: ومعه مفاتيح خزائن الارض. 6 - وفي نهج البلاغة قال عليه السلام: فتأس بنبيك الاطهر الاطيب - إلى أن قال - قضم الدنيا قضما، ولم يعرهأ طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا عرضا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فإبغضه، وصغر شيئا فصغره، ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما إبغض الله وتعظيمنا لما صغر الله لكفى به شقاقا لله ومحادة عن إمر الله، ولقد كان رسول الله يإكل على الارض ويجلس جلسه العبد، ويخصف بيده نعله، ويركب الحمار العارى ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فيكون عليه التصاوير فيقول: يا فلانة - لاحدى إزواجه - غيبيه عنى فإنى إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب أن يغيب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا، ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وإن يذكر عنده. 7 - وفى الاحتجاج عن موسى بن جفر عن أبيه عن آبائه عن الحسن بن على عن أبيه على عليهم السلام في خبر طويل: وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبكى حتى يبتل مصلاه خشية من الله عزوجل من غير جرم، الحديث. 8 - وفى المناقب: وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبكى حتى يغشى عليه فقيل له: أليس قد غفر

[ 309 ]

الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا ؟ وكذلك كان غشيات على بن أبى طالب وصيه في مقاماته. اقول: بناء سؤال السائل على تقدير كون الغرض من العبادة هو الامن من العذاب وقد ورد: أنه عبادة العبيد، وبناء جوابه صلى الله عليه وآله وسلم على كون الداعي هو الشكر لله سبحانه، وهو عبادة الكرام، وهو قسم آخر من أقسام العبادة، وقد ورد في المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: أن من العبادة ما تكون خوفا من العقاب وهو عبادة العبيد، ومنها ما تكون طمعا في الثواب وهو عبادة التجار، ومنها ما تكون شكرا لله سبحانه، وفى بعض الروايات حبا لله تعالى، وفى بعضها لانه أهل له. وقد استقصينا البحث في معنى الروايات في تفسير قوله تعالى: " وسيجزى الله الشاكرين " (آل عمران: 144) في الجزء الرابع من الكتاب، وبينا هناك أن الشكر لله في عبادته هو الاخلاص له، وأن الشاكرين هم المخلصون (بفتح اللام) من عباد الله المعنيون بمثل قوله تعالى: " سبحان الله عما يصفون، إلا عباد الله المخلصين " (الصافات: 160). 9 - وفى إرشاد الديلمى: أن إبراهيم عليه السلام كان يسمع منه في صلاته أزيز كأزيز الوجل من خوف الله تعالى، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك. 10 - وفى تفسير أبى الفتوح عن أبى سعيد الخدرى قال: لما نزل قوله تعالى: " واذكروا الله ذكرا كثيرا " اشتغل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الله حتى قال الكفار: إنه جن. 11 - وفى الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة، قلت: أكان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه ؟ قال: لا ولكن كان يقول: أتوب إلى الله، قلت كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوب ولا يعود، ونحن نتوب ونعود، قال: الله المستعان. 12 - وفى مكارم الاخلاق نقلا من كتاب النبوة عن على عليه السلام: أنه كان إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قال: كان أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه،

[ 310 ]

ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وآله وسلم. 13 - وفى الكافي بإسناده عن عمر بن على عن أبيه عليه السلام قال: كانت من أيمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا وأستغفر الله. 14 - وفي إحياء العلوم: كان صلى الله عليه وسلم إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته الكريمة. 15 - وفيه: وكان صلى الله عليه وسلم أسخى الناس لا يثبت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شئ ولم يجد من يعطيه وفجأ الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله. لا يسأل شيئا إلا أعطاه ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى أنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شئ، قال: وينفذ الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه، قال: ويمشى وحده بين أعدائه بلا حارس، قال: لا يهوله شئ من امور الدنيا. قال: ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوى رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه. قال: وكان له عبيد وإماء من غير أن يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس، لا يمضى له وقت من غير عمل لله تعالى أو لما لا بد منه من صلاح نفسه، يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحتقر مسكينا لفقره أو زمانته، ولا يهاب ملكا لملكه، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستويا. 16 - وفيه قال: وكان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضى، وكان أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وأنفع الناس للناس. 17 - وفيه قال: وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر ورضى فهو أحسن الناس رضى، فإن وعظ وعظ بجد، وإن غضب - ولا يغضب إلا لله - لم يقم لغضبه شئ، وكذلك كان في اموره كلها، وكان إذا نزل به الامر فوض الامر إلى الله، وتبرأ من الحول والقوة، واستنزل الهدى.

[ 311 ]

اقول: والتوكل على الله وتفويض الامور إليه والتبرى من الحول والقوة واستنزال الهدى من الله يرجع بعضها إلى بعض وينشأ الجميع من أصل واحد، وهو أن للامور استنادا إلى الارادة الالهية الغالبة غير المغلوبة والقدرة القاهرة غير المتناهية، وقد أطبق على الندب إلى ذلك الكتاب والسنة كقوله تعالى: " وعلى الله فليتوكل المتوكلون " (إبراهيم: 12) وقوله: " وأفوض أمرى إلى الله " (المؤمن: 44) وقوله: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " (الطلاق: 3) وقوله: " ألا له الخلق والامر " (الاعراف: 54) وقوله: " وإن إلى ربك المنتهى " (النجم: 42) إلى غير ذلك من الايات، والروايات في هذه المعاني فوق حد الاحصاء. والتخلق بهذه الاخلاق والتأدب بهذه الاداب على أنه يجرى بالانسان مجرى الحقائق ويطبق عمله على ما ينبغى أن ينطبق عليه من الواقع، ويقره على دين الفطرة فإن حقيقة الامر هو رجوع الامور بحسب الحقيقة إلى الله سبحانه كما قال: " ألا إلى الله تصير الامور " (الشورى: 53)، له فائدة قيمة هي أن اتكاء الانسان واعتماده على ربه - وهو يعرفه بقدرة غير متناهية وإرادة قاهرة غير مغلوبة - يمد ارادته ويشيد أركان عزيمته فلا ينثلم عن كل مانع يبدو له، ولا تنفسح عن كل تعب أو عناء يستقبله، ولا يزيلها كل تسويل نفساني ووسوسة شيطانية تظهر لسره في صورة الخطورات الوهمية ه.

(من سننه وأدبه في العشرة)

 18 - وفى إرشاد الديلمى قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على الارض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، ويصافح الغنى والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها هو، ويسلم على من استقبله من غنى وفقير وكبير وصغير، ولا يحقر ما دعى إليه ولو إلى حشف التمر. وكان صلى الله عليه وآله وسلم خفيف المؤنة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساما من غير ضحك، محزونا من غير عبوس، متواضعا من غير مذلة، جوادا من غير سرف رقيق القلب، رحيما بكل مسلم، ولم يتجش من شبع قط، ولم يمد يده إلى طمع قط. 19 - وفي مكارم الاخلاق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان ينظر في المرآة ويرجل

[ 312 ]

جمته ويتمشط، وربما نظر في الماء وسوى جمته فيه، ولقد كان يتجمل لاصحابه فضلا على تجمله لاهله، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمل. 20 - وفي العلل والعيون والمجالس بإسناده عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس لا أدعهن حتى الممات: الاكل على الارض مع العبيد، وركوبي مؤكفا، وحلبي العنز بيدى، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدى. 21 - وفى الفقيه عن على عليه السلام أنه قال لرجل من بنى سعد: ألا أاحدثك عنى وعن فاطمة - إلى أن قال - فغدا علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في لحافنا فقال: السلام عليكم فسكتنا واستحيينا لمكاننا ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: السلام عليكم فسكتنا، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: السلام عليكم فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك فيسلم ثلاثا فإن اذن له وإلا انصرف، فقلنا: وعليك السلام يا رسول الله ادخل فدخل، الخبر. 22 - وفى الكافي بإسناده عن ربعى بن عبد الله عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآلبه وسلم يسلم على النساء ويرددن عليه السلام، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يسلم على النساء وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن، ويقول: أتخوف أن يعجبنى صوتها فيدخل على أكثر مما أطلب من الاجر. اقول: ورواه الصدوق مرسلا، وكذا سبط الطبرسي في المشكاة نقلا عن كتاب المحاسن. 23 - وفيه بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنى رفعه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس ثلاثا: القرفصاء وهو أن يقيم سا قيه ويستقبلهما بيده، ويشد يده في ذراعه، وكان يجثو على ركبتيه، وكان يثنى رجلا واحدة ويبسط عليها الاخرى، ولم ير متربعا قط. 24 - وفى المكارم نقلا من كتاب النبوة عن على عليه السلام قال: ما صافح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدا قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذى ينزع يده، وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه أحد قط الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت، وما رئى مقدما رجله

[ 313 ]

بين يدى جليس له قط. ولا خير بين أمرين إلا أخذ بأشدهما، وما انتصر لنفسه من مظلمة حتى ينتهك محارم الله - فيكون حينئذ غضبه لله تبارك وتعالى، وما أكل متكئا قط حتى فارق الدنيا، وما سئل شيئا قط فقال لا، وما رد سائل حاجة قط إلا أتى بها أو بميسور من القول، وكان أخف الناس صلاة في تمام، وكان أقصر الناس خطبة وأقلهم هذرا، وكان يعرف بالريح الطيب إذا أقبل، وكان إذا أكل مع القوم كان أول من يبدأ وآخر من يرفع يده، وكان إذا أكل أكل مما يليه، فإذا كان الرطب والتمر جالت يده، وإذا شرب شرب ثلاثة أنفاس، وكان يمص الماء مصا ولا يعبه عبا، وكان يمينه لطعامه وشرابه وأخذه وعطائه فكان لا يأخذ إلا بيمينه، ولا يعطى إلا بيمينه، وكان شماله لما سوى ذلك من بدنه وكان يحب التيمن في جميع اموره في لبسه وتنعله وترجله. وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا تكلم تكلم وترا، وإذا استأذن استأذن ثلاثا، وكان كلامه فصلا يتبينه كل من سمعه، وإذا تكلم رئى كالنور يخرج من بين ثناياه، وإذا رأيته قلت: أفلج وليس بأفلج. وكان نظره اللحظ بعينه، وكان لا يكلم أحدا بشئ يكرهه، وكان إذا مشى كأنما ينحط في صبب، وكان يقول: إن خياركم أحسنكم أخلاقا، وكان لا يذم ذواقا ولا يمدحه، ولا يتنازع أصحاب الحديث عنده، وكان المحدث عنه يقول: لم أر بعينى مثله قبله ولا بعده صلى الله عليه وآله وسلم. 25 - وفى الكافي بإسناده عن جميل بن دراج عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية: قال: ولم يبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجليه بين أصحابه قط، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده من يده حتى يكون هو التارك فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه مال بيده فنزعها من يده. 26 - وفي المكارم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حدث بحديث تبسم في حديثه. 27 - وفيه عن يونس الشيباني قال: قال لى أبو عبد الله عليه السلام: كيف مدابعة بعضكم بعضا ؟ قلت: قليلا. قال: هلا تفعلوا ؟ فإن المدابعة من حسن الخلق، وإنك

[ 314 ]

لتدخل بها السرور على أخيك، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يداعب الرجل يريد به أن يسره. 28 - وفيه عن أبى القاسم الكوفى في كتاب الاخلاق عن الصادق عليه السلام قال: ما من مؤمن إلا وفيه دعابة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يداعب ولا يقول إلا حقا. 29 - وفى الكافي بإسناده عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت: جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيمضى بينهم كلام يمزحون ويضحكون ؟ فقال: لا بأس ما لم يكن، فظننت أنه عنى الفحش. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتيه الاعرابي فيأتى إليه بالهدية ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديتنا فيضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا اغتم يقول: ما فعل الاعرابي ليته أتانا. 30 - وفي الكافي بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبى عبد الله عليه السلام: قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ما يجلس تجاه القبلة. 31 - وفى المكارم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بالصبى الصغير ليدعو له بالبركة فيضعه في حجره تكرمة لاهله، وربما بال الصبى عليه فيصيح بعض من رآه حين يبول فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزرموا بالصبى حتى يقضى بوله ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته، ويبلغ سرورأهله فيه، ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده. 32 - وفيه روى: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يدع أحدا يمشى معه إذا كان راكبا حتى يحمله معه فإن أبى قال: تقدم أمامى وأدركني في المكان الذى تريد. 33 - وفيه عن أبى القاسم الكوفى في كتاب الاخلاق: وجاء في الاثار: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتقم لنفسه من أحد قط بل كان يعفو ويصفح. 34 - وفيه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فقد الرجل من أخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده. 35 - وفيه: عن أنس قال: خدمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسع سنين فما أعلم أنه قال لى

[ 315 ]

قط، هلا فعلت كذا وكذا ؟ ولا عاب على شيئا قط. 36 - وفى الاحياء قال: قال أنس: والذى بعثه بالحق ما قال لى في شئ قط كرهه: لم فعلته ؟ ولا لامنى نساؤه إلا قال: دعوة إنما كان هذا بكتاب وقدر. 37 - وفيه عن أنس: وكان صلى الله عليه وسلم لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلا قال: لبيك. 38 - وفيه عنه: ولقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه بكناهم إكراما لهم واستمالة لقلوبهم، ويكنى من لم يكن له كنية فكان يدعى بما كناه به، ويكنى أيضا النساء اللاتى لهن الاولاد واللاتي لم يلدن، ويكنى الصبيان فيستلين به قلوبهم. 39 - وفيه: وكان صلى الله عليه وسلم يؤثر الداخل عليه بالوسادة التى تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل. 40 - وفى الكافي بإسناده عن عجلان قال: كنت عند أبى عبد الله عليه السلام فجاء سائل فقام عليه السلام إلى مكيل فيه تمر فملا يده فناوله، ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله، ثم جاء آخر فقال (ع): الله رازقنا وإياك. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئا إلا أعطاه فأرسلت إليه امرأة ابنا لها فقالت: انطلق إليه فاسأله فإن قال: ليس عندنا شئ فقل: أعطني قميصك، قال: فأخذ قميصه فرمى به (وفي نسخة اخرى فأعطاه) فأدبه الله على القصد فقال: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ". 41 - وفيه باسناده عن جابر عن أبى جعفر (ع) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ه. 42 - وفيه عن موسى بن عمران بن بزيع قال: قلت الرضا (ع) جعلت: فداك إن الناس رووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أخذ في طريق رجع في غيره ! كذا كان ؟ قال: فقال نعم فأنا أفعله كثيرا فافعله، ثم قال لى: أما إنه أرزق لك. 43 - وفى الاقبال باسناده عن أبى جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج بعد طلوع الشمس.

[ 316 ]

44 - وفى الكافي باسناده عن عبد الله بن المغيرة عمن ذكره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل. اقول: ورواه سبط الطبرسي في المشكاة نقلا عن المحاسن وغيره. 45 - ومن سننه وآدابه صلى الله عليه وآله وسلم في التنظف والزينة ما في المكارم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا غسل رأسه ولحيته غسلهما بالسدر. 46 - وفى الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن على عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجل شعره، وأكثر ما كان يرجل بالماء، ويقول: كفى بالماء طيبا للمؤمن. 47 - وفى الفقيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن المجوس جزوا لحاهم ووفروا شواربهم، وإنا نحن نجز الشوارب ونعفى اللحى. 48 - وفى الكافي بإسناده عن أبى عبد الله عليه السلام قال: من السنة تقليم الاظفار. 49 - وفى الفقيه: روى: من السنة دفن الشعر والظفر والدم. 50 - وفيه بإسناده عن محمد بن مسلم أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن الخضاب فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يختضب، وهذاشعره عندنا. 51 - وفي المكارم: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطلى فيطليه من يطلى حتى إذا بلغ ما تحت الازار تولاه بنفسه. 52 - وفي الفقيه: قال على عليه السلام: نتف الابط ينفى الرائحة الكريهة وهو طهور وسنة مما أمر به الطيب عليه السلام. 53 - وفى المكارم: كان له صلى الله عليه وآله وسلم مكحلة يكتحل بها في كل ليلة وكان كحله الاثمد. 54 - وفى الكافي بإسناده عن أبى اسامة عن أبى عبد الله عليه السلام قال: من سنن المرسلين السواك

[ 317 ]

55 - وفى الفقيه بإسناده عن على عليه السلام في حديث الاربعمائة قال: والسواك مرضاة الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومطهرة للفم. اقول: والاخبار في استنانه صلى الله عليه وآله وسلم بالسواك من طرق الفريقين كثيرة جدا. 56 - وفى الفقيه: قال الصادق عليه السلام أربع من أخلاق الانبياء: التطيب والتنظيف بالموسى وحلق الجسد بالنورة وكثرة الطروقة. 57 - وفى الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممسكة إذا هو توضأ أخذها بيده وهى رطبة فكان إذا خرج عرفوا أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 58 - وفى المكارم: كان لا يعرض له طيب إلا تطيب، ويقول: هو طيب ريحه خفيف محمله، وإن لم يتطيب وضع إصبعه في ذلك الطيب ثم لعق منه. 59 - وفيه: كان صلى الله عليه وآله وسلم يستجمر بالعود القمارى. 60 - وفى ذخيرة المعاد: وكان أي المسك أحب الطيب إليه صلى الله عليه وآله وسلم. 61 - وفى الكافي بإسناده عن إسحاق الطويل العطار عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى اللله عليه وآله وسلم ينفق في الطيب أكثر مما ينفق في الطعام. 62 - وفيه بإسناده عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلاك: الطيب في الشارب من أخلاق النبيين وكرامة للكاتبين. 63 - وفيه بإسناده عن السكن الخزاز قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: حق على كل محتلم في كل جمعة أخذ شاربه و أظفاره ومس شئ من الطيب، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان يوم الجمعة ولم يكن عنده طيب دعا ببعض خمر نسائه فبلها في الماء ثم وضعها على وجهه. 64 - وفى الفقيه بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى بطيب يوم الفطر بدأ بنسائه. 65 - وفى المكارم: وكان يدهن صلى الله عليه وآله وسلم بأصناف من الدهن، قال وكان صلى الله عليه وآلله وسلم

[ 318 ]

يدهن بالبنفسج ويقول: هو أفضل الادهان. 66 - ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في السفر ما في الفقيه بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبى جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسافر يوم الخميس. اقول: وفى هذا المعنى أحاديث كثيرة. 67 - وفى أمان الاخطارو مصباح الزائر قال: ذكر صاحب كتاب عوارف المعارف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سافر حمل معه خمسة أشياء: المرآة والمكحلة والمذرى والسواك، قال: وفي رواية اخرى: والمقراض. أقول: ورواه في المكارم والجعفريات. 68 - وفى المكارم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مشى مشى مشيا يعرف أنه ليس بعاجز ولا كسلان. 69 - وفى الفقيه بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفره إذا هبط هلل وإذا صعد كبر. 70 - وفى لب اللباب للقطب: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يرتحل من منزل إلا وصلى فيه ركعتين، وقال: حتى يشهد على بالصلاة. 71 - وفى الفقيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودع المؤمنين قال: زودكم الله التقوى، ووجهكم إلى كل خير، وقضى لكم كل حاجة، وسلم لكم دينكم ودنياكم، وردكم سالمين إلى غانمين. اقول: والروايات في دعائه صلى الله عليه وآله وسلم عند الوداع مختلفة لكنها على اختلافها متفقة في الدعاء بالسلامة والغنيمة. 72 - وفى الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن على عليهم السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول للقادم من مكة: تقبل الله نسكك، وغفر ذنبك، وأخلف عليك نفقتك. 73 - ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في الملابس وما يتعلق بها ما في الاحياء: كان صلى الله عليه وسلم يلبس

[ 319 ]

من الثياب ما وجد من إزار أو رداء، أو قميص أو جبة أو غير ذلك، وكان يعجبه الثياب الخضر، وكان أكثر ثيابه البياض، ويقول: ألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم. وكان يلبس القباء المحشو للحرب وغير الحرب، وكان له قباء سندس فيلبسه فيحسن خضرته على بياض لونه، وكانت ثيابه كلها مشمرة فوق الكعبين، ويكون الازار فوق ذلك إلى نصف الساق وكان قميصه مشدود الازار وربما حل الازار في الصلاة وغيرها. وكانت له ملحفة مصبوغة بالزعفران، وربما صلى بالناس فيها وحدها، وربما لبس الكساء وحده ليس عليه غيره، وكان له كساء ملبد يلبسه ويقول: إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، وكان له ثوبان لجمعته خاصة سوى ثيابه في غير الجمعة، وربما لبس الازار الواحد ليس عليه غيره، ويعقد طرفيه بين كتفيه، وربما أم به الناس على الجنائز، وربما صلى في بيته في الازار الواحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه ويكون ذلك الازر الذى جامع فيه يومئذ، وكان ربما صلى بالليل في الازار ويرتدى ببعض الثوب مما يلى هدبه، ويلقى البقية على بعض نسائه فيصلى كذلك. ولقد كان له كساء أسود فوهبه فقالت له ام سلمة، بأبى انت وامى ما فعل ذلك الكساء الاسود ؟ فقال: كسوته. فقالت: ما رأيت شيئا قط كان أحسن من بياضك على سواده. وقال أنس: وربما رأيته يصلى بنا الظهر في شملة عاقدا بين طرفيها، وكان يتختم، وربما خرج وفي خاتمه الخيط المربوط يتذكر بها الشئ، وكان يختم به على الكتب ويقول: الخاتم على الكتاب خير من التهمة. وكان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير عمامة، وربما نزع قلنسوته من رأسه فجعلها سترة بين يديه ثم يصلى إليها، وربما لم تكن العمامة فيشد العصابة على رأسه وعلى جبهته، وكانت له عمامة تسمى السحاب فوهبها من على فربما طلع على فيها فيقول صلى الله عليه وسلم: أتاكم على في السحاب. وكان إذا لبس ثوبا لبسه من قبل ميامنه ويقول: الحمدلله الذى كسانى ما أوارى به عورتى وأتجمل به في الناس، وإذا نزع ثوبه أخرجه من مياسره، وكان إذا لبس جديدا أعطى خلق ثيابه مسكينا ثم يقول: ما من مسلم يكسو مسلما من سمل ثيابه،

[ 320 ]

لا يكسوه إلا لله إلا كان في ضمان الله وحرزه وخيره ما واراه حيا وميتا. وكان له فراش من أدم حشوه ليف طوله ذراعان أو نحوه وعرضه ذراع وشبر أو نحوه، وكانت له عباءة تفرش له حيثما تنقل تثنى طاقين تحته، وكان ينام على الحصير ليس تحته شئ غيره. وكان من خلقه تسمية دوابه وسلاحه ومتاعه، وكان اسم رايته العقاب، وسيفه الذى يشهد به الحروب ذاالفقار، وكان له سيف يقال له: المخذم، وآخر يقال له: الرسوب، وآخر يقال له القضيب، وكانت قبضة سيفه محلاة بالفضة، وكان يلبس المنطقة من الادم فيها ثلاث حلق من فضة، وكان اسم قوسه الكتوم وجعبته الكافور، وكان اسم ناقته العضباء، واسم بغلته الدلدل، وكان اسم حماره يعفور، واسم شاته التى يشرب لبنها عينة. وكان له مطهرة من فخار يتوضأ فيها ويشرب منها فيرسل الناس أولادهم الصغار الذين قد عقلوا فيدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدفعون عنه، فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه ومسحوا على وجوههم وأجسادهم يبتغون بذلك البركة. 74 - وفى الجعفريات عن جعفر بن محمد عن آبائه عن على عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس من القلانس المضربة، إلى أن قال - وكان له درع يقال له ذات الفضول وكانت له ثلاث حلقات من فضة، بين يديها واحدة واثنتان من خلفها، الخبر. 75 - وفى العوالي: روى أنه كان له صلى الله عليه وآله وسلم عمامة سوداء يتعمم بها ويصلى فيها. اقول: وروى أن عمامته صلى الله عليه وآله وسلم كانت ثلاث أكوار أو خمسا. 76 - وفى الخصال بإسناده عن على في الحديث الاربعمائة قال: البسوا الثياب القطن فإنها لباس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن يلبس الشعر والصوف إلا من علة. أقول: ورواه الصدوق أيضا مرسلا، ورواه الصفوانى في كتاب التعريف، ويتبين بهذا معنى ما مر من لبسه صلى الله عليه وآله وسلم الصوف وأنه لا منافاة. 77 - وفى الفقيه بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنزة في أسفلها عكاز يتوكأ عليها ويخرجها في العيدين يصلى إليها.

[ 321 ]

أقول: ورواه في الجعفريات. 78 - وفى الكافي بإسناده عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ورق. 79 - وفيه بإاسناده عن أبى خديجة قال: قال: الفص مدور، وقال: هكذا كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 80 - وفى الخصال بإسناده عن عبد الرحيم بن أبى البلاد عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتمان: أحدهما عليه مكتوب لا إله ألا الله محمد رسول الله، والاخر: صدق الله. 81 - وفيه بإاسناده عن الحسين بن خالد عن أبى الحسن الثاني عليه السلام في حديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين والحسن والحسين والائمك‍ عليهم السلام كانوا يتختمون في اليمين. 82 - وفى المكارم عن الصادق عن على عليهما السلام قال: لبس الانبياء القميص قبل السراويل. اقول: ورواه في الجعفريات، وفي المعاني السابقة أخبار أخر كثيرة. 83 - ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في مسكنه وما يتعلق به ما في كتاب التحصين لابن فهد قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما وضع لبنة على لبنة. 84 - وفى لب اللباب قال: قال عليه السلام: المساجد مجالس الانبياء. 85 - وفى الكافي بإسناده عن السكوني عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج في الصيف من البيت خرج يوم الخميس، وإذا أراد أن يدخل في الشتاء من البرد دخل يوم الجمعة. اقول: ورواه أيضا في الخصال مرسلا. 86 - وعن كتاب العدد القوية للشيخ على بن الحسن بن المطهر أخ العلامة رحمهما

[ 322 ]

الله عن خديجة رضى الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المنزل دعا بالاناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلى ركعتين يوجز فيهما ثم يأوى إلى فراشه. 87 - وفى الكافي باسناده عن عباد بن صهيب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ما بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدوا قط. 88 - وفى المكارم: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة، وكانت مرفقته من أدم حشوها ليف فثنيت ذات ليلة فلما أصبح قال: لقد منعتني الليلة الفراش الصلاة فأمر أن يجعل له بطاق واحد، وكان له فراش من أدم حشوه ليف، وكانت له عباءة تفرش له حيثما انتقل، وتثنى ثنتين. 89 - وفيه: عن أبى جعفر عليه السلام قال: ما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نوم قط إلا خر لله ساجدا. 90 - ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في المناكح والاولاد ما في رسالة المحكم والمتشابه للمرتضى باسناده إلى تفسير النعماني عن على عليه السلام قال: إن جماعة من الصحابة كانوا قد حرموا على أنفسهم النساء والافطار بالنهار والنوم بالليل فأخبرت ام سلمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلى أصحابه فقال: أترغبون عن النساء ؟ فإنى آتى النساء وآكل بالنهار وأنام بالليل فمن رغب عن سنتى فليس منى، الخبر. اقول: وهذا المعنى مروى في كتب الفريقين بطرق كثيرة. 91 - وفى الكافي باسناده عن إسحاق بن عمار عن أبى عبد الله عليه السلام قال: من أخلاق الانبياء حب النساء. 92 - وفيه باسناده عن بكار بن كردم وغير واحد عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جعل قرة عينى في الصلاة ولذتي في النساء. اقول: ويقرب منه ما روى بطرق اخرى. 93 - وفى الفقيه: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يتزوج بامرأة بعث إليها من ينظر إليها، الخبر. 94 - وفى تفسير العياشي: عن الحسين بن بنت إلياس قال: سمعت أبا الحسن

[ 323 ]

الرضا عليه السلام يقول: إن الله جعل الليل سكنا، وجعل النساء سكنا، ومن السنة التزويج بالليل وإطعام الطعام. 95 - وفى الخصال باسناده عن على عليه السلام في حديث الاربعمائة قال: عقوا عن أولادكم يوم السابع، وتصدقوا بوزن شعورهم فضة على مسلم، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحسن والحسين وسائر أولاده. 96 - ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في الاطعمة والاشربة وما يتعلق بالمائدة ما في الكافي باسناده عن هشام بن سالم وغيره عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ما كان شئ أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن يظل جائعا خائفا في الله. 97 - وفى الاحتجاج باسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عن الحسين بن على عليهم السلام في حديث طويل في أسئلة اليهودي الشامي عن أمير المؤمنين عليه السلام - إلى أن قال - قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه كان زاهدا !، قال له على عليه السلام: كان كذلك و، محمد صلى الله عليه وآله وسلم أزهد الانبياء كان له ثلاث عشرة نسوة سوى من يطيف به من الاماء ما رفعت له مائدة قط وعليها طعام، وما أكل خبز بر قط، ولا شبع من خبز شعير قط ثلاث ليال متواليات. 98 - وفى أمالى الصدوق عن العيص بن القاسم قال: قلت للصادق عليه السلام: حديث يروى عن أبيك ؟ أنه قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز بر قط أهو صحيح ؟ فقال: لا ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبز بر قط ولا شبع من خبز شعير قط. 99 - وفى الدعوات للقطب قال: وروى ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئا إلا مرة ثم جلس فقال: اللهم إنى عبدك ورسولك. اقول: وروى هذا المعنى الكليني والشيخ بطرق كثيرة والصدوق والبرقي والحسين بن سعيد في كتاب الزهد. 100 - وفى الكافي باسناده عن زيد الشحام عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئا منذ بعثه الله حتى قبض كان يأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد. قلت: ولم ؟ قال: تواضعا لله عزوجل.

[ 324 ]

101 - وفيه باسناده عن أبى خديجة قال: سأل بشير الدهان عن أبى عبد الله عليه السلام وأنا حاضر فقال: هل كان يأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئا على يمينه وعلى يساره ؟ فقال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل متكئا على يمينه ولا على يساره، ولكن يجلس جلسه العبد، قلت: ولم ذاك ؟ قال: تواضعا لله عزوجل. 102 - وفيه باسناده عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وكان يأكل على الحضيض وينام على الحضيض. 103 - وفى الاحياء: كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس يأكل جمع بين ركبتيه وبين قدميه كما يجلس المصلى إلا أن الركبة فوق الركبة والقدم فوق القدم، ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد. 104 - وفى كتاب التعريف للصفواني عن على عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قعد على المائدة قعد قعدة العبد، وكان يتكئ عن (1) فخذه الايسر. 105 - وفى المكارم: عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الارض، ويعتقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك. 106 - وفى المحاسن بإسناده عن حماد بن عثمان عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلعق أصابعه إذا أكل. 107 - وفى الاحتجاج نقلا من كتاب مواليد الصادقين قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل كل الاصناف من الطعام ة وكان يأكل ما أحل الله له مع أهله وخدمه إذا أكلوا ومع من يدعوه من المسلمين على الاكل، وعلى ما أكلوا عليه وما أكلوا إلا أن ينزل بهم ضيف فيأكل مع ضيفه - إلى أن قال - وكان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف. اقول: قوله: " وعلى ما أكلوا عليه " يريد أمثال المائدة والصحفة، وقوله: " وما أكلوا " ما موصولة أو توقيتية، وقوله: " إلا أن ينزل، الخ " استثناء من قوله: " مع أهله وخدمه " و " الضفف " كثرة العيال ونحوها والضفة بالفتح الجماعة.

_____________________________

(1) كذا. (*)

[ 325 ]

108 - وفى الكافي بإسناده عن ابن القداح عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أكل مع القوم طعاما كان أول من يضع يده وآخر من يرفعها ليأكل القوم. 109 - وفى الكافي بإسناده إلى محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: عشاء النبيين بعد العتمة فلا تدعوا العشاء فإن ترك العشاء خراب البدن. 110 - وفى الكافي بإسناده عن عنبسة بن نجاد عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ما قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعام فيه تمر إلا بدأ بالتمر. 111 - وفى الكافي وصحيفة الرضا بإسناده عن آبائه عليهم السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أكل التمر يطرح النوى على ظهر كفه ثم يقذف به. 112 - وفى الاقبال نقلا من الجزء الثاني من تاريخ النيسابوري في ترجمة الحسن ابن بشر بإسناده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمد الله بين كل لقمتين. 113 - وفى الكافي بإسناده عن وهب بن عبد ربه قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام يتخلل فنظرت إليه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخلل، وهو يطيب الفم. 114 - وفى المكارم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان إذا شرب بدأ فسمى - إلى أن قال: ويمص الماء مصا ولا يعبه عبا، ويقول: إن الكباد من العب. 115 - وفى الجعفريات عن جعفر بن محمد عن آبائه عن على عليه السلام قال: تفقدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة، وهو إذا شرب تنفس ثلاثا مع كل واحدة منها تسمية إذا شرب وتحميد إذا انقطع فسألته عن ذلك فقال: يا على شكرا لله تعالى بالحمد وتسمية من الداء. 116 - وفى المكارم كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يتنفس في الاناء إذا شرب فإن أراد أن يتنفس أبعد الاناء عن فيه حتى يتنفس. 117 - وفى الاحياء: وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل اللحم لم يطاطئ رأسه إليه ويرفعه إلى فيه رفعا ثم ينهشه انتهاشا ثم قال: وكان إذا أكل اللحم خاصة غسل يديه غسلا جيدا ثم مسح بفضل الماء على وجهه.

[ 326 ]

118 - وفى المكارم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان يأكل الاصناف من الطعام. اقول: ثم ذكر الطبرسي أصنافا من الطعام كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكلها كالخبز واللحم على أقسامه والبطيخ والخربز والسكر والعنب والرمان والتمر واللبن والهريسة والسمن والخل والهندباء والباذروج والكرنب. وروى أنه كان يحب التمر. وروى أنه كان يعجبه العسل. وروى أنه كان أحب الثمرات إليه الرمان. 119 - وفي أمالى الطوسى بإسناده عن أبى أسامة عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشعير إذا وجده، وحلواه التمر، ووقوده السعف. 120 - وفي المكارم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان لا يأكل الحار حتى يبرد و يقول: إن الله لم يطعمنا نارا إن الطعام الحار غير ذى بركة. وكان إذا أكل سمى، ويأكل بثلاث أصابع، ومما يليه ولا يتناول من بين يدى غيره، ويؤتى بالطعام فيشرع قبل القوم ثم يشرعون، وكان يأكل بأصابعه الثلاث: الابهام والتى تليها والوسطى وربما استعان بالرابعة، وكان يأكل بكفه كلها، ولم يأكل بإصبعين، ويقول: إن الاكل بإصبعين هو أكل الشيطان، ولقد جاء أصحابه يوما بفالوذج فأكل معهم وقال: مم هذا ؟ فقالوا: نجعل السمن والعسل فيأتى كما ترى فقال: إن هذا طعام طيب. وكان يأكل خبز الشعير غير منخول، وما أكل خبز برقط، ولا شبع من خبز شعير قط، ولا أكل على خوان حتى مات، وكان يأكل البطيخ والعنب، ويأكل الرطب ويطعم الشاة النوى، وكان لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث ولا العسل الذى فيه المغافير، والمغافير ما يبقى من الشجر في بطون النحل فيلقيه في العسل فيبقى له ريح في الفم. وما ذم طعاما قط. كان إذا أعجبه أكله، وإذا كرهه تركه ولا يحرمه على غيره، وكان يلحس القصعة ويقول: آخر الصحفة أعظم الطعام بركة، وكان إذا فرغ لعق أصابعه الثلاث التى أكل بها واحدة واحدة، وكان يغسل يده من الطعام حتى ينقيها، وكان لا يأكل وحده. اقول: قوله: " الابهام والتى تليها والوسطى " من جميل أدب الراوى حيث لم

[ 327 ]

يقل: الابهام والسبابة (الخ) صونا له صلى الله عليه وآله وسلم عن إطلاق السبابة على إصبعه الشريفة لما في اللفظ من الايهام. والذى رواه من أكله صلى الله ععليه وآله وسلم الفالوذج يخالف ما في المحاسن مسندا عن يعقوب ابن شعيب عن أبى عبد الله عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام في الرحبة في نفر من أصحابه إذ أهدى إليه خوان فالوذج فقال لاصحابه: مدوا أيديكم فمدوا أيديهم ومد يده ثم قبضها وقال: إنى ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأكله فكرهت أكله. 121 - وفى المكارم قال: وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشرب في أقداح القوارير التى يؤتى بها من الشام، ويشرب في الاقداح التى تتخذ من الخشب والجلود والخزف. اقول: وروى قريبا من صدره في الكافي والمحاسن، وفيه: ويعجبه أن يشرب في القدح الشامي وكان يقول: هي أنظف آنيتكم. 122 - وفي المكارم عن النبي أنه كان يشرب بكفه يصب الماء فيها، ويقول: ليس إناء أطيب من اليد. 123 - وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذبح يوم الاضحى كبشين أحدهما عن نفسه والاخر عمن لم يجد من أمته. 124 - ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في الخلوة ما في شرح النفلية للشهيد الثاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم ير على بول ولا غائط. 125 - وفي الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن على عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يتخنع غطى رأسه ثم دفنه، وإذا أراد أن يبزق فعل مثل ذلك، وكان إذا أراد الكنيف غطى رأسه. اقول: واتخاذ الكنيف في العرب مما حدث بعد الاسلام، وكانوا قبل ذلك يخرجون إلى البر على ما يستفاد من بعض الروايات. 126 - وفي الكافي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبى الحسن الثاني عليه السلام قال: قلت له: إنا روينا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستنجى وخاتمه في إصبعه، وكذلك كان يفعل إمير المؤمنين عليه السلام، وكان نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: محمد رسول الله ؟

[ 328 ]

قال: صدقوا، قلت: فينبغي لنا أن نفعل، قال: إن اولئك كانوا يتختمون في اليد اليمنى وإنكم أنتم تتختمون في اليسرى، الحديث. اقول: وروى قريب منه في الجعفريات وفي المكارم نقلا عن كتاب اللباس للعياشي عن الصادق عليه السلام. 127 - ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم عند المصائب والبلايا وفي الاموات وما يتعلق بها ما في المكارم: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى من جسمه بثرة أعاذ بالله واستكان له وجأر إليه فيقال له: يا رسول الله ما هو ببأس، فيقول: إن الله إذا أراد أن يعظم صغيرا عظم، وإذا أراد أن يصغر عظيما صغر. 128 - وفي الكافي بإسناده عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام قال السنة أن يحمل السرير من جوانبه الاربع، وما كان بعد ذلك من حمل فهو تطوع. 129 - وفي قرب الاسناد عن الحسين بن طريف عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه أن الحسن بن على عليهما السلام كان جالسا ومعه أصحاب له فمر بجنازة فقام بعض القوم ولم يقم الحسن ععليه السلام فلما مضوا بها قال بعضهم: ألا قمت عافاك الله فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم للجنازة إذا مروا بها ؟ فقال الحسن عععليه السلام: إنما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة، وذلك أنه مر بجنازة يهودى وقد كان المكان ضيقا فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكره أن يعلوا رأسه. 130 - وفي دعوات القطب قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتبع جنازة غلبته كأبه، وأكثر حديث النفس، وأقل الكلام. 131 - وفي الجعفريات باسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن على عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحثو ثلاث حثيات من تراب على القبر. 132 - وفي الكافي باسناده عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع بمن مات من بنى هاشم خاصة شيئا لا يصنعه بأحد من المسلمين: كان إذا صلى بالهاشمي ونضح قبره بالماء وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين، فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه أثر كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: من مات من آل محمد ؟.

[ 329 ]

133 - وفي مسكن الفؤاد للشهيد الثاني عن على عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عزى قال: آجركم الله ورحمكم، وإذا هنأ قال: بارك الله لكم وبارك الله عليكم. 134 - ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في الوضوء والغسل ما في آيات الاحكام للقطب عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال عمر: يا رسول الله صنعت شيئا ما كنت صنعته، فقال: عمدا فعلته. 135 - وفي الكافي باسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفر (ع) ألا أحكى لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقلنا: بلى، فدعا بقعب فيه شئ من ماء فوضعه بين يديه، ثم حسر عن ذراعيه، ثم غمس فيه كفه اليمنى ثم قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة ثم غرف ملاها ماء فوضعها على جبينه، ثم قال: بسم الله وسدله على أطراف لحيته ثم أمر يده على وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملاها - ثم وضعه على مرفقه اليمنى فأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ثم غرف بيمينه ملاها فوضعه على مرفقه اليسرى فأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه، ومسح مقدم رأسه وظاهر قدميه ببلة يساره وبقية بلة يمناه. قال: وقال ابو جعفر عليه السلام: إن الله وتر يحب الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك، وما بقى من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى. قال زرارة: قال ابو جعفر عليه السلام سأل رجل امير المؤمنين عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكى له مثل ذلك. اقول: وهذا المعنى مروى عن زرارة وبكير وغيرهما بطرق متعددة رواها الكليني والصدوق والشيخ والعياشي والمفيد والكراجكي وغيرهم، وأخبار أئمة اهل البيت عليهم السلام في ذلك مستفيضة تقرب من التواتر. 136 - وفي الامالى لمفيد الدين الطوسى باسناده عن ابى هريرة: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا توضأ بدأ بميامنه.

[ 330 ]

137 - وفى التهذيب باسناده عن ابى بصير قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن الوضوء فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ بمد من ماء ويغتسل بصاع. اقول: وروى مثله عن ابى جعفر عليه السلام بطريق آخر. 138 - وفي العيون باسناده عن الرضا عن آبائه عليهم السلام في حديث طويل: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة، وأمرنا بإسباغ الطهور، ولا ننزى حمارا على عتيقة. 139 - وفي التهذيب باسناده عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه السلام قال: المضمضة والاستنشاق مما سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 140 - وفيه باسناده عن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان رسول الله يغتسل بصاع، وإذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع ومد. اقول: وروى هذا المعنى الكليني في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عنه وفيه: يغتسلان جميعا من إناء واحد، وكذلك الشيخ بطريق آخر. 141 - وفى الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام قال: سأل الحسن بن محمد جابر، بن عبد الله عن غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغرف على رأسه ثلاث مرات فقال الحسن بن محمد: إن شعرى كثير كما ترى فقال جابر: يا حر لا تقل ذلك فشعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أكثر وإطيب. 142 - وفى الهداية للصدوق: قال الصادق عليه السلام غسل الجمعة سنة واجبة على الرجال والنساء في السفر والحضر - إلى أن قال - وقال الصادق عليه السلام: غسل يوم الجمعة طهور وكفارة لما بينهما من الذنوب من الجمعة إلى الجمعة، قال 6 والعلة في غسل الجمعة أن الانصار كانت تعمل لنواضحها وأموالها فإذا كان يوم الجمعة حضروا المسجد فيتأذى الناس بأرياح آباطهم فأمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغسل فجرت به السنة. اقول: وقد روى من سننه صلى الله عليه وآله وسلم في الغسل غسل يوم الفطر والغسل في جميع الاعياد وأغسال أخر كثيرة ربما يأتي بعضها فيما سيأتي إن شاء الله تعالى. 143 - ومن آدابه وسننه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وما يلحق بها ما في الكافي بإسناده عن الفضيل بن يسار وعبد الملك وبكير قالوا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان

[ 331 ]

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلى من التطوع مثلى الفريضة، ويصوم من التطوع مثلى الفريضة. اقول: ورواه الشيخ أيضا. 144 - وفيه بإسناده عن حنان قال: سأل عمرو بن حريث أبا عبد الله عليه السلام وأنا جالس فقال: جعلت فداك أخبرني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلى ثمان ركعات الزوال، وأربعا الاولى، وثماني بعدها، وأربعا العصر، وثلاثا المغرب، وأربعا بعد المغرب، والعشاء الاخرة أربعا وثماني صلاة الليل، وثلاثا الوتر، وركعتي الفجر، وصلاة الغداة ركعتين. قلت: جعلت فداك إن كنت أقوى على أكثر من هذا يعذبنى الله على كثرة الصلاة ؟ فقال: لا ولكن يعذبك على ترك السنة. اقول: ويظهر من الرواية أن الركعتين عن جلوس العشاء أعنى العتمة ليستا من الخمسين بل يتم بهما - محسوبتين بواحدة عن قيام - العدد إحدى وخمسين بل إنما شرعت العتمة بدلا من الوتر لو نزل الموت قبل القيام إلى الوتر فقد روى الكليني رحمه الله في الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام قال: من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يبيتن إلا بوتر. قلت: تعنى الركعتين بعد العشاء الاخرة ؟ قال: نعم إنهما بركعة فمن صلاهما ثم حدث به حدث مات على وتر فإن لم يحدث به حدث الموت يصلى الوتر في آخر الليل. فقلت: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هاتين الركعتين ؟ قال: لا. قلت: ولم ؟ قال: لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتيه الوحى، وكان يعلم أنه هل يموت في تلك الليلة أم لا ؟ وغيره لا يعلم فمن أجل ذلك لم يصلهما وأمر بهما، الخبر. ويمكن أن يكون المراد بقوله في الحديث: " لم يصلهما " أنه لم يداوم عليهما بل ربما صلى وربما ترك كما يستفاد من بعض آخر من الاحاديث، فلا يعارض ما ورد من أنه كان يصليهما. 145 - وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلى من النهار شيئا حتى تزول الشمس فإذا زالت قدر نصف إصبع صلى ثمانى ركعات فإذا فاء الفئ ذراعا صلى الظهر، ثم صلى بعد الظهر ركعتين،

[ 332 ]

ويصلى قبل وقت العصر ركعتين، فإذا فاء الفئ ذراعين صلى العصر، وصلى المغرب حتى حين ظ) تغيب الشمس، فإذا غاب الشفق دخل وقت العشاء، وآخر وقت المغرب إياب الشفق فإذا آب الشفق دخل وقت العشاء وآخر وقت العشاء ثلث الليل. وكان لا يصلى بعد العشاء حتى ينتصف الليل ثم يصلى ثلاث عشرة ركعة منها الوتر ومنها ركعتا الفجر قبل الغداة، فإذا طلع الفجر وأضاء صلى الغداة. اقول: ولم يستوعب تمام نافلة العصر في الرواية، وهى معلومة من روايات أخر. 146 - وفيه بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: وذكر صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بطهور فيخمر عند رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه، ثم ينام ما شاء الله فإذا استيقظ جلس ثم قلب بصره في السماء، ثم تلا الايات من آل عمران: " إن في خلق السماوات والارض " الايات، ثم يستن ويتطهر، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه، وسجوده على قدر ركوعه، يركع حتى يقال: متى يرفع رأسه ؟ ويسجد حتى يقال: متى يرفع رأسه. ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ ويجلس ويتلو الايات من آل عمران ويقلب بصره في السماء، ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد ويصلى الركعتين ثم يخرج إلى الصلاة. اقول: وروى هذا المعنى أيضا في الكافي بطريقين. 147 - وروى: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يوجز في نافلة الصبح يصليهما عند أول الفجر ثم يخرج إلى الصلاة. 148 - وفي المحاسن بإسناده عن عمر بن يزيد عن أبى عبد الله عليه السلام: أنه قال: من قال في وتره إذا أوتر: استغفر الله ربى وأتوب إليه سبعين مرة، وواظب على ذلك حتى قضى سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالاسحار. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر الله في الوتر سبعين مرة، ويقول: هذا مقام العائذ

[ 333 ]

بك من النار سبعا، الخبر. 149 - وفي الفقيه: كان النبي صلى الله ععليه وآله وسلم يقول في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت، وقنى شر ما قضيت، إنك تقضى ولا يقضى عليك، سبحانك رب البيت، استغفرك وأتوب اليك وأومن بك وأتوكل عليك، ولا حول ولا قوة إلا بك يا رحيم. 150 - وفي التهذيب بإسناده عن أبى خديجة عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآلهع وسلم إذا جاء شهر رمضان زاد في الصلاة وأنا أزيد فزيدوا. اقول: يعنى عليه السلام بالزيادة الالف ركعة - التراويح - نوافل شهر رمضان التى كان يصليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير الخمسين نوافل اليوم والليلة، وقد وردت في كيفيتها وتقسمها على ليالى شهر رمضان أخبار كثيرة، وورد من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصليها بغير جماعة، وينهى عن إتيانها بالجماعة، ويقول: لا جماعة في نافلة. وللنبى صلى الله عليه وآله وسلم صلوات خاصة اخرى منقولة عنه في كتب الادعية تركنا ذكرها لخروجها عن غرضنا في هذا المقام، وكذلك له صلى الله عليه وآله وسلم سنن في الصلوات والادعية والاوراد من أراد الوقوف عليها فليراجع مظان ذكرها. 151 - وفي الكافي بإسناده عن يزيد بن خليفة قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت قال: إذن لا يكذب علينا - إلى أن قال - قلت: وقال: إن وقت المغرب إذا غاب القرص إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جد به السير أخر المغرب ويجمع بينها وبين العشاء، فقال: صدق. 152 - وفي التهذيب بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في الليلة الممطرة يوجز في المغرب ويعجل في العشاء يصليهما جميعا، ويقول: من لا يرحم لا يرحم. 153 - وفيه بإسناده عن ابن أبى عمير عن حماد عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان في سفر أو عجلت به الحاجة يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء الاخرة، الخبر.

[ 334 ]

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة رواها الكليني والشيخ وابنه والشهيد الاول رحمهم الله. 154 - وفي الفقيه بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبى عبد الله عليه السلام أنه قال: كان المؤذن يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحر في صلاة الظهر فيقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبرد أبرد. اقول: قال الصدوق: يعنى عجل عجل أخذ ذلك من البريد، والظاهر أن المراد به التأخير ليزول شدة الحر كما يدل عليه ما في كتاب العلاء عن محمد بن مسلم قال: مر بى أبو جعفر عليه السلام بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا اصلى فلقينى بعد فقال: إياك أن تصلى الفريضة في تلك الساعة، أتؤديها في شدة الحر ؟ قلت: إنى كنت أتنفل. 155 - وفي الاحياء قال: وكان صلى الله عليه وسلم لا يجالس إليه أحد وهو يصلى إلا خفف صلاته وأقبل عليه فقال: ألك حاجة ؟ فإذا فرغ من حاجاته عاد إلى صلاته. 156 - وفي كتاب زهد النبي لجعفر بن أحمد القمى قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة تريد وجهه خوفا من الله، وكان لصدره أو لجوفه أزير كأزير الوجل. اقول: وروى هذا المعنى ابن الفهد وغيره أيضا. 157 - وفيه قال: وفي رواية اخرى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة كأنه ثوب ملقى. 158 - وفي البحار قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه. 159 - وفى المجالس لمفيد الدين الطوسى بإسناده إلى على عليه السلام في كتابه إلى محمد بن أبى بكر حين ولاه مصر - إلى أن قال - ثم انظر ركوعك وسجودك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أتم الناس صلاة، وأخفهم عملا فيها. 160 - وفي الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن على عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تثاءب في الصلاة ردها بيده اليمنى. اقول: وروى في الدعائم مثله. 161 - وفي العلل بإسناده عن هشام بن الحكم عن أبى الحسن موسى عليه السلام في

[ 335 ]

حديث قال: قلت له: لاى علة يقال في الركوع: سبحان ربى العظيم وبحمده ؟ ويقال في السجود: سبحان ربى الاعلى وبحمده ؟ فقال: يا هشام إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسرى به، وصلى وذكر ما رأى من عظمة الله ارتعدت فرائصه وابترك على ركبتيه، وأخذ يقول: سبحان ربى العظيم وبحمده، فلما اعتدل من ركوعه فإنما نظر إليه في موضع أعلى من ذلك خر على وجهه وهو يقول: سبحان ربى الاعلى وبحمده فلما قالها سبع مرات سكن ذلك الرعب فلذلك جرت به السنة. 162 - في تنبيه الخواطر للشيخ ورام بن أبى فراس عن النعمان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسوى صفوفنا كأنما يسوى بها القداح حتى رأى أنا قد أغفلنا عنه، ثم خرج يوما وقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلا بادئا صدره فقال: عباد الله لتسوون صفوفكم أو ليخالفن بين وجوهكم. 163 - وفيه عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح منا كبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، الخبر. 164 - وفى الفقيه بإسناده عن داود بن الحصين عن أبى العباس عن أبى عبد الله عليه السلام قال: اعتكف رسول الله صلى الله عاليه وآله وسلم في شهر رمضان في العشر الاول ثم اعتكف في الثانية في العشر الوسطى، ثم لم يزل يعتكف في العشر الاواخر. 165 - وفيه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كانت بدر في شهر رمضان ولم يعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما أن كان من قابل اعتكف عشرين: عشرا لعامه، وعشرا قضاء لما فاته اقول: ورواه والذى قبله الكليني في الكافي. 166 - وفي الكافي بإسناده عن الحلبي، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر الاواخر (يعنى من شهر رمضان) اعتكف في المسجد، وضربت له قبة من شعر، وشمر الميزر، وطوى فراشه وقال بعضهم: واعتزل النساء ؟ قال: أما اعتزال النساء فلا. اقول: وهذا المعنى مروى في روايات كثيرة، والمراد من نفى الاعتزال - كما ذكروه وتدل عليه الروايات - تجويز مخالطتهن ومعاشرتهن دون المجامعة.

[ 336 ]

167 - ومن آدابه وسننه صلى الله عليه وآله وسلم في الصيام ما في الفقيه بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم، ثم صام يوما وة فطر يوما، ثم صام الاثنين والخميس، ثم آل من ذلك إلى صيام ثلاثة أيام في الشهر: الخميس في أول الشهر، وأربعاء في وسط الشهر، والخميس في آخر الشهر، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ذلك صوم الدهر. وقد كان أبى عليه السلام يقول: ما من أحد أبغض إلى الله من رجل يقال له: كان رسول الله يفعل كذا وكذا فيقول: لا يعذبنى الله على أن أجتهد في الصلاة والصوم كأنه يرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك شيئا من الفضل عجزا منه. 168 - وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبى عبد الله عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول ما بعث يصوم حتى يقال: ما يفطر ويفطر حتى يقال: ما يصوم، ثم ترك ذلك وصام يوما وأفطر يوما وهو صوم داود، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الايام الغر، ثم ترك ذلك وفرقها في كل عشرة يوما: خميسين بينهما أربعاء فقبض صلى الله ععليه وآله وسلم وهو يعمل ذلك. اقول: وفى هذا المعنى روايات كثيرة مستفيضة. 169 - وفيه بإسناده عن عنبسة العابد قال: قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صيام شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كل شهر. 170 - وفى نوادر أحمد بن محمد بن عيسى عن على بن نعمان عن زرعة عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله ععليه السلام عن صوم شعبان أصامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: نعم ولم يصمه كله، قلت: كم أفطر منه ؟ قال: أفطر، فأعدتها وأعادها ثلاث مرات لا يزيدنى على أن أفطر، ثم سألته في العام القابل عن ذلك فأجابني بمثل ذلك، الخبر. 171 - وفي المكارم عن أنس قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شربة يفطر عليها وشربة للسحر، وربما كانت واحدة وربما كانت لبنا، وربما كانت الشربة خبزا يماث، الخبر. 172 - وفي الكافي بإسناده عن ابن القداح عن أبى عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول ما يفطر عليه في زمن الرطب الرطب وفي زمن التمر التمر. 173 - وفيه بإسناده عن السكوني عن جعفر عن أبيه غليهما السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صام ولم يجد الحلواء أفطر على الماء، وفي بعض الروايات: أنه ربما

[ 337 ]

أفطر على الزبيب. 174 - وفي المقنعة روى عن آل محمد عععليهم السلام أنهم قالوا: يستحب السحور ولو بشربة من الماء، وروى أن أفضله التمر والسويق لمكان استعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك. اقول: وهذا في سننه الجارية، وكان من مختصاته صوم الوصال وهو الصوم أكثر من يوم من غير فصل بالافطار، وقد نهى صلى الله عليه وآله وسلم الامة عن ذلك، وقال: إنكم لا تطيقون ذلك وإن لى عند ربى ما يطعمنى ويسقين. 175 - وفي المكارم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان يأكل الهريسة أكثر ما يأكل ويتسحر بها. 176 - وفي الفقيه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل. 177 - وفي الدعائم عن على ععليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوى فراشه ويشد ميزره في العشر الاواخر من شهر رمضان، وكان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وكان يرش وجوه النيام بالماء في تلك الليلة، وكانت فاطمة عليها السلام لا تدع أحدا من أهلها ينام تلك الليلة وتداويهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار، وتقول: محروم من حرم خيرها. 178 - وفي المقنع: والسنة أن يفطر الرجل في الاضحى بعد الصلاة وفي الفطر قبل الصلاة. 179 - ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في قراءة القرآن والدعاء ما في مجالس الشيخ بإسناده عن أبى الدنيا عن امير المؤمنين عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة. 180 - وفي مجمع البيان عن أم سلمة: كان النبي صلى الله ععليه وآله وسلم يقطع قراءته آية آية. 181 - وفي تفسير أبى الفتوح: كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يرقد حتى يقرأ المسبحات، ويقول: في هذه السور آية هي أفضل من ألف آية. قالوا: وما المسبحات ؟ قال: سورة الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن.

[ 338 ]

اقول: وروى هذا المعنى في مجمع البيان عن العرباص بن سارية. 182 - وفي درر اللئالى لابن أبى جمهور عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينام حتى يقرأ تبارك والم التنزيل. 183 - وفي مجمع البيان: وروى على بن أبى طالب عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب هذه السورة: سبح اسم ربك الاعلى، وأول من قال: " سبحان ربى الاعلى " ميكائيل. اقول: وروى أول الحديث في البحار عن الدر المنثور، وهنا أخبار اخر في ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند تلاوة القرآن أو عند تلاوة سور أو آيات مخصوصة، من أرادها فعليه بمظانها. وله صلى الله ععليه وآله وسلم خطب وبيانات يرغب فيها ويحث على التمسك بالقرآن والتدبر فيه، والاهتداء بهدايته، والاستنارة بنوره، وكان هو صلى الله عليه وآله وسلم أولى الناس بما يندب إليه من الكمال وأسبق الناس وأسرعهم إلى كل خير، وهو القائل - في الرواية المشهورة -: شيبتني (1) سورة هود، وقد روى (2) عن ابن مسعود قال: أمرنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أتلو عليه شيئا من القرآن فقرأت عليه من سورة يونس حتى إذا بلغت قوله تعالى: " وردوا إلى الله مولاهم الحق " الاية رأيته وإذا الدمع تدور في عينيه الكريمتين. فهذه شذرات (3) من آدابه وسننه صلى الله عليه وآله وسلم وقد استفاضت الروايات و تكرر النقل في كثير منها في كتب الفريقين، والكلام الالهى يؤيدها ولا يدفع شيئا منها، والله الهادى.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21339415

  • التاريخ : 29/03/2024 - 15:45

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net