00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 339 ـ آخر الكتاب )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء السادس)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(كلام في الرق والاستعباد)

 قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " (المائدة: 118) كلام منبئ عن معنى الرق والعبودية، والايات المتضمنة لهذا المعنى وإن كانت كثيرة في القرآن الكريم غير

_____________________________

(1) يشير صلى الله عليه وآله إلى قوله تعالى فيها: فاستقم كما امرت. (2) الرواية منقولة بالمعنى. (3) استخرجناها من رسالة عملناها سابقا في سنن النبي صلى الله عليه وآله. (*)

[ 339 ]

أن هذه الاية مشتملة على التعليل العقلي الكاشف عن أنه لو كان هناك عبد كان من المسلم عند العقل أن لمولاه أن يتصرف فيه بالعذاب لانه مولاه المالك له. والعقل لا يحق الحكم بجواز التعذيب، وتسويغ التصرف الذى يشقه إلا بعد حكمه بإباحة سائر التصرفات غير الشاقة فللمولى أن يتصرف في عبده كيف شاء وبما شاء، وإنما استثنى العقل التصرفات التى يستهجنها بما أنها تصرفات شنيعة مستهجنة لا بما أن العبد عبد. ولازم ذلك أيضا أن على العبد أن يطيع مولاه فيما كلفه به وأن يتبعه فيما أراد وليس له أن يستقل بشئ من العمل إن لم يرض به مولاه كما يشير إلى ذلك بعض الاشارة قوله تعالى: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " (الانبياء: 27) وقوله تعالى: " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون " (النحل: 75). واستقصاء البحث في جهات ما يراه القرآن الشريف في مسألة العبودية والرق يتوقف على فصول. 1 - اعتبار العبودية لله سبحانه: في القرآن الكريم آيات كثيرة جدا يعد الناس عبادا لله سبحانه، وتبنى على ذلك أصل الدعوة الدينية: الناس عبيد والله مولاهم الحق. بل ربما تعدى ذلك واخذ كل من في السماوات والارض موسوما بسمة العبودية كالحقيقة المسماة بالملك على كثرتها والحقيقة الاخرى التى يسميها القرآن الشريف بالجن قال تعالى: " إن كل من في السماوات والارض إلا آتى الرحمن عبدا " (مريم: 93). ولا ريب أن اعتبار العبودية لله سبحانه أمر مأخوذ بالتحليل وهو تحليل معنى العبودية إلى أجزائها الاصلية ثم الحكم بثبوت حقيقته بعد طرح خصوصياته الزائدة الطارئة على إصل المعنى في اولى العقل من الخليقة فهناك أفراد من الناس يسمى الواحد منهم عبدا، ولا يسمى به إلا لان نفسه مملوكة لغيره ملكا يسوغ لذلك الغير الذى هو مالكه ومولاه أن يتصرف فيه كيف يشاء وبما أراد، ويسلب عن العبد استقلال الارادة مطلقا. والتأمل في هذا المعنى يوجب الحكم بأن الانسان - وإن شئت وسعت وقلت:

[ 340 ]

كل ذى شعور وإرادة - عبد لله سبحانه بحقيقة معنى العبودية فإن الله سبحانه مالك كل ما يسمى شيئا بحقيقة معنى الملك فلا يملك شئ من نفسه ولا من غيره شيئا من ضر ولا نفع ولا موت ولا حياة ولا نشور، ولا يستقل أمر في الوجود بذات ولا وصف ولا فعل اللهم إلا ما ملكه الله ذلك تمليكا لا يبطل بذلك ملكه تعالى، ولا ينتقل به الملك عنه إلى غيره بل هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما عليه أقدرهم، وهو على كل شئ قدير، وبكل شئ محيط. وهذه السلطة الحقيقية والملك الواقعي هي المنشأ لوجوب انقيادهم لما يريده منهم بإرادته التشريعية، وما يصنع لهم من شرائع الدين وقوانين الشريعة مما يصلح به أمرهم وتحاز به سعادتهم في الدارين. والحاصل أنه تعالى هو المالك لهم ملكا تكوينيا يكونون به عبيده الداخرين لقضائه سواء عرفوه أم جهلوه أطاعوه في تكاليفه أم عصوه وهو المالك لهم ملكا تشريعيا يوجب له عليهم السمع والطاعة، ويحكم عليهم بالتقوى والعبادة. ويتميز هذا الملك والمولوية بحسب الحكم عن الملك والمولوية الدائر بين الناس - وكذا العبودية المقابلة له - بأن الله سبحانه لما كان مالكا تكوينا على الاطلاق لا مالك سواه لم يجز في مرحلة العبودية التشريعية اتخاذ مولى سواه ولا عبادة أحد غيره قال تعالى: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " (الاسراء: 23) بخلاف الموالى من الناس فإن الملك هناك لمن غلب بسبب من أسباب الغلبة. وأيضا لما لم يكن في عبيده تعالى المملوكين شئ غير مملوك له تعالى ولم ينقسموا في وجودهم إلى مملوك غير مملوك بل كانوا من حيث ذواتهم وأوصافهم وأحوالهم وأعمالهم مملوكين له تكوينا تبع ذلك التشريع فحكم فيهم بدوام العبودية واستيعابها لجميع ما يرجع إليهم بوجه من الوجوه فلا يسعهم أن يعبدوا الله من جهة بعض ما يرجع إليهم دون بعض مثل أن يعبدوه باللسان دون اليد كما لا يسعهم أن يجعلوا بعض عبادتهم لله تعالى وبعضها لغيره وهذا بخلاف المولوية الدائرة بين الناس فلا يسع للمولى عقلا ة ن يفعل ما يشاء، تأمل فيه. وهذا هو الذى يدل على إطلاق أمثال قوله تعالى: " ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع " (السجدة: 4) وقوله تعالى: " وهو الله لا إله إلا هو الحمد في الاولى

[ 341 ]

والاخرة وله الحكم " (القصص: 70)، وقوله: " يسبح لله ما في السماوات وما في الارض له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير " (التغابن: 1). وكيفما كان فالعبودية المعتبرة بالنسبة إليه تعالى معنى تحليلي مأخوذ من العبودية التى تعتبره العقلاء من الانسان في مجتمعهم فلها أصل في المجتمع الانساني فلننظر ما هو أصله ؟. 2 - استعباد الانسان وأسبابه: كان الاستعباد والاسترقاق دائرا في المجتمع الانساني شائعة معروفة إلى ما يقرب من سبعين سنة قبل هذا التاريخ، ولعلها توجد معمولة في بعض القبائل المتطرفة النائية في أفريقيا وآسيا حتى اليوم، وكان اتخاذ العبيد والاماء من السنن الدائرة بين الاقوام القديمة لا يكاد يضبط بدء تاريخي له، وكان ذا نظام مخصوص وأحكام وقوانين عامة بين الامم، وأخرى مخصوصة بامة امة. والاصل في معناه كون النفس الانسانية عند وجود شرائط خاصة سلعة مملوكة كسائر السلع المملوكة من حيوان ونبات وجماد، وإذا كانت النفس مملوكة كانت مسلوبة الاختيار مملوكة الاعمال والاثار يتصرف فيها كيف اريد. هذه سنتهم الدائرة بينهم في الاسترقاق غير أنه لم يكن متكئا على إرادة جزافية أو مطلقا غير مبنى على أي شرط فلم يكن يسع لاحدهم أن يتملك كل من أحب، ولا أن يملك كل من شاء وأراد ببيع أو هبة أو غير ذلك فلم يكن أصل المعنى متكئا على الجزاف، وإن كان ربما يوجد في تضاعيف القوانين المتبعة فيه بحسب اختلاف آراء الاقوام وسننهم أمور جزافية كثيرة. كانت الاستعباد مبنيا على نوع من الغلبة والسيطرة كغلبة الحرب التى تنتج للغالب الفاتح أن يفعل بخصمه المغلوب ما يشاء من قتل أو سبى أو غيره، وغلبة الرئاسة التى تصير الرئيس الجبار فعالا لما يشاء في حوزة رئاسته، واختصاص التوليد والانتاج الذى يضع ولاية أمر المولود الضعيف في كف والده القوى يصنع به ما بدا له حتى البيع والهبة والتبديل والاعارة ونحو ذلك. وقد تكرر في أبحاثنا السابقة: أن أصل الملك في المجتمع الانساني مبنى على القدرة المغروزة في الانسان على الانتفاع من كل شئ يمكنه أن ينتفع به بوجه - والانسان

[ 342 ]

مستخدم بالطبع - فالانسان يستخدم في سبيل إبقاء حياته كل ما قدر عليه واستخدامه والانتفاع بمنافع وجوده آخذا من المادة الاصلية فالعناصر فالمركبات الجمادية المتنوعة فالحيوان حتى الانسان الذى هو مثله في الانسانية. غير أن حاجته المبرمة إلى الاجتماع والتعاون اضطره إلى قبول الاشتراك مع سائر أفراد نوعه في الانتفاع بالمنافع المحصلة من الاشياء بأعمالهم المشتركة فهو وسائر الافراد من نوعه يكونون لذلك مجتمعا يختص كل جزء من أجزائه وكل طرف من أطرافه بعمل أو أعمال ثم ينتفع المجموع بالمجموع، وإن شئت فقل: ثم تقسم نتائج الاعمال بينهم فيتمتع كل واحد منهم بذلك على مقدار زنته الاجتماعية، ولذلك نرى أن الفرد من الانسان وهو اجتماعي كلما قوى واشتد أبطل المدنية الطبعية وأخذ يستخدم الناس بالغلبة، ويتملك رقابهم، ويحكم في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم بما يقترحه. ولاجل ذلك إذا تأملت تأملا حرا في سنتهم في استعباد الانسان وجدت أنهم لا يعتبرون تملك الانسان ما دام داخلا في المجتمع وجزء من أجزائه بل إما أن يكون الانسان المملوك محكوما بالخروج عن المجتمع كالعدو المحارب الذى لا هم له إلا أن يهلك الحرث والنسل ويمحى الانسان باسمه ورسمه فهو خارج عن مجتمع عدوه، وله أن يهلكه بالافناء ويتملك منه ما يشاء لان الحرمة مرفوعة، ومثله الاب بالنسبة إلى صغار أولاده والتابعين لنفسه فإنه يرى أنهم من توابعه في المجتمع من غير أن يكافئوه أو يماثلوه أو يوازنوه فله أن يتصرف فيهم حتى بالقتل والبيع وغيرهما. وإما أن يكون الانسان المالك ذا خصيصة تدعوه إلى أن يعتقد أنه فوق المجتمع من غير أن يعادلهم في وزن أو يشاركهم في نفع بل له نفوذ الحكم، والتمتع بصفوة ما يختار، والتصرف في نفوسهم حتى بالملك والاستعباد. فقد تبين أن الاصل الاساسى الذى كان يبنى عليه الانسان سنة الاستعباد والاسترقاق هو حق الاختصاص والتملك المطلق الذى يعتقده الانسان لنفسه، وأن الانسان لا يستثنى عنه أحدا إلا مشاركيه في مجتمعه الانساني ممن يعادله في الزنة الاجتماعية ويتحصن منه في حصن التعاون والتعاضد، وأما الباقون فلا مانع عنده من تملكهم واستعبادهم.

[ 343 ]

وعمدتهم في ذلك طوائف ثلاث: العدو المحارب، والاولاد الضعفاء بالنسبة إلى آبائهم وكذا النساء بالنسبة إلى أوليائهن، والمغلوب المستبذل بالنسبة إلى الغالب المتعزز. 3 - سير الاستعباد في التاريخ: سنة الاستعباد وإن كانت مجهولة من حيث تاريخ شيوعها في المجتمع الانساني غير أن الاشبه أن يكون ارقاء مأخوذين في أول الامر بالقتال والتغلب ثم يلحق به الاولاد والنساء، ولذلك نعثر في تاريخ الامم القوية الحربية من القصص والحكايات وكذا القوانين والاحكام المربوطة بالاسترقاق بالسبي على ما لا يوجد في غيرهم. وقد كان دائرا بين الامم المتمدنة القديمة كالهند واليونان والرومان وإيران، وبين المليين كاليهود والنصارى على ما يستفاد من التوراة والانجيل حتى ظهر الاسلام فأنفذ أصله مع تضييق في دائرته وإصلاح لاحكامه المقررة، ثم آل الامر إلى أن قرر مؤتمر بروسل إلغاء الاستعباد قبل سبعين سنة تقريبا. قال " فردينان توتل " في معجمه (1) لاعلام الشرق والغرب: كان الرق شائعا عند الاقدمين، وكان الرقيق يؤخذ من أسرى وسبايا الحرب ومن الشعوب المغلوبة، كان للرق نظام معروف عند اليهود واليونان والرومان والعرب في الجاهلية والاسلام. وقد ألغى نظام الرق تدريجا: في الهند (1843) وفي المستعمرات الافرنسية (1848) وفي الولايات المتحدة بعد حرب الانفصال (1865) وفي البرازيل (1888) إلى أن اتخذ مؤتمر بروسل قرارا بإلغاء الاستعباد (1890) غير أنه لا يزال موجودا فعلا بين بعض القبائل في أفريقيا وآسيا. ومبدء إلغاء الرق هو تساوى البشر بالحقوق والواجبات، انتهى. 4 - ما الذى رآه الاسلام في ذلك ؟ قسم الاسلام الاستعباد بحسب أسبابه، وقد تقدم أن عمدتها كانت ثلاثة: الحرب، والتغلب والولاية كالابوة ونحوها فألغى سببين من الثلاثة من أصله وهما التغلب والولاية. فاعتبر احترام الناس شرعا سواء من ملك ورعية وحاكم ومحكوم وأمير وجندي

_____________________________

(1) ص 219. (*)

[ 344 ]

ومخدوم وخادم بإلغاء الامتيازات والاختصاصات الحيوية، والتسوية بين الافراد في حرمة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، والاعتناء بشعورهم وإرادتهم - وهو الاختيار التام في حدود الحقوق المحترمة - وأعمالهم وما اكتسبوه وهو تسلطهم على أموالهم ومنافع وجودهم من الافعال فليس لوالى الامر في الاسلام إلا الولاية على الناس في إجراء الحدود والاحكام وفي أطراف المصالح العامة العائدة إلى المجتمع الدينى، وأماما تشتهيه نفسه وما يستحبه لحياته الفردية فهو كأحد الناس لا يختص من بينهم بخصيصة، ولا ينفذ أمره في الكثير مما يهواه لنفسه ولا في القليل، ويرتفع بذلك الاسترقاق التغلبي بارتفاع موضوعه. وعدل ولاية الاباء لابنائهم فلهم حق الحضانة والحفظ وعليهم حق التربية والتعليم وحفظ أموالهم ما داموا محجورين بالصغر فإذا بلغوا بالرشد فهم وآباؤهم سواء في الحقوق الاجتماعية الدينية، وهم أحرار في حياتهم، لهم الخيرة فيما رضوا لانفسهم. نعم اكدت التوصية لابائهم عليهم بالاحسان ومراعاة حرمة التربية، قال تعالى: " ووصينا الانسان بوالديه حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى " (لقمان: 15) وقال تعالى: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا " (الاسراء: 24) وقد عد في الشرع الاسلامي عقوقهما من المعاصي الكبيرة الموبقة. وأما النساء فقد وضع لهن من المكانة في المجتمع واعتبر لهن من الزنة الاجتماعية مالا يجوز عند العقل السليم التخطي عنه ولو بخطوة، فصرن بذلك أحد شقى المجتمع الانساني وقد كن في الدنيا محرومات من ذلك، وأعطين زمام الازدواج والمال وقد كن محرومات أو غير مستقلات في ذلك. وشاركن الرجال في امور واختصصن عنهم بامور واختص الرجال بامور كل ذلك عن مراعاة تامة لقوام وجودهن وتركيب بناهن، ثم سهل عليهن في امور شق فيها على الرجال كأمر النفقة وحضور معارك القتال ونحو ذلك.

[ 345 ]

وقد تقدم الكلام في ذلك كله تفصيلا في أواخر سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب، وفي أوائل سورة النساء في الجزء الرابع منه، وتبين هناك أن النساء مختصات في الاسلام من مزيد الارفاق بالنسبة إلى الرجال بما لا يوجد نحوه في سائر السنن الاجتماعية قديمها وحديثها. قال تعالى: " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " (النساء: 31) وقال تعالى: " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " (البقرة: 234) وقال تعالى: " ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف " (البقرة: 228) وقال: " أنى لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض " (آل عمران: 195) ثم جمع الجميع في بيان واحد فقال: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " (البقرة: 286) وقال: " ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر اخرى " (الانعام: 164) إلى غير ذلك من الايات المطلقة التى تأخذ الفرد من الانسان جزء تاما كاملا من المجتمع، ويعطيه من الاستقلال الفردى ما ينفصل به عن أي فرد آخر في نتائج أعماله من خير أو شر أو نفع أو ضر من غير أن يستثنى صغيرا أو كبيرا أو ذكرا أو أنثى. ثم سوى بينهم جميعا في العزة والكرامة ثم ألغى كل عزة وكرامة الا الكرامة الدينية المكتسبة بالتقوى والعمل فقال: " لله العزة ولرسوله وللمؤمنين " (المنافقون: 8) وقال: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13). وقد أبقى الاسلام السبب الثالث من الاسباب الثلاثة للاستعباد أعنى الحرب، وهو أن يسبى الكافر المحارب لله ورسوله والمؤمنين، وأما اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض فلا سبى فيه ولا استعباد بل يقاتل الباغى من الطائفتين حتى ينقاد لامر الله قال تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين اخويكم " (الحجرات: 10). وذلك إن العدو المحارب الذى لا هم له إلا أن يفنى الانسانية ويهلك الحرث والنسل لا ترتاب الفطرة الانسانية أدنى ريب في أنه يجب أن لا يعد جزء من المجتمع

[ 346 ]

الانساني الذى له التمتع بمزايا الحياة والتنعم بحقوق الاجتماع، وأنه يجب دفعه بالافناء فما دونه، وعلى ذلك جرت سنة بنى آدم منذ عمروا في الارض إلى يومنا هذا وعلى ذل‍ ك ستجري. والاسلام لما وضع بنية المجتمع - المجتمع الدينى - على أساس التوحيد وحكومة الدين الاسلامي ألغى جزئية كل مستنكف عن التوحيد وحكومة الدين من المجتمع الانساني إلا مع ذمة أو عهد فكان الخارج عن الدين وحكومته وعهده خارجا عن المجتمع الانساني لا يعامل معه إلا معاملة غير الانسان الذى للانسان أن يحرمه عن أي نعمة يتمتع بها الانسان في حياته، ويدفعه بتطهير الارض من رجس استكباره وإفساده فهو مسلوب الحرمة عن نفسه وعملة ونتائج أي مسعى من مساعيه، فللجيش الاسلامي أن يتخذ أسرى ويستعبد عند الغلبة. 5 - ما هو السبيل إلى الاستعباد في الاسلام ؟ يتأهب المسلمون على من يلونهم من الكفار فيتمون عليهم الحجة ويدعونهم إلى كلمة الحق بالحكمة والموعظة والمجادلة بالتى هي أحسن فإن أجابوا فإخوان في الدين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم وإن أبواإلا الرد فإن كانوا أهل كتاب وقبلوا الجزية تركوا وهم على ذمتهم، وإن أخذوا عهدا كانوا أهل كتاب أم لا وفى بعهدهم، وإن لم يكن شئ من ذلك أوذنوا على سواء وقوتلوا. يقتل منهم من شهر سيفا ودخل المعركة، ولا يقتل منهم من ألقى السلم، ولا يقتل منهم المستضعفون من الرجال والنساء والولدان، ولا يبيتون ولا يغتالون، ولا يقطع عنهم الماء، ولا يعذبون ولا يمثل بهم فيقاتلون حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين. فإذا غلبوهم ووضعت الحرب أوزارها فما تسلط عليه المسلمون من نفوسهم وأموالهم فهو لهم، وقد اشتمل تاريخ حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومغازيه على صحائف غر متلمعة مملوءة من السيرة العادلة الجميلة فيها لطائف الفتوة والمروة، وطرائف البر والاحسان. 6 - ما هي سيرة الاسلام في العبيد والاماء ؟ إذا استقرت العبودية على من استقرت

[ 347 ]

عليه صار ملك يمين، منافع عمله لغيره ونفقته على مولاه. وقد وصى الاسلام أن يعامل المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله وهو منهم فيساويهم في لوازم الحياة وحوائجها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤاكل عبيده وخدمه ويجالسهم، ولا يؤثر نفسه عليهم في مأكل ولا ملبس ونحوهما. وأن لا يشق عليهم ولا يعذبوا ولا يسبوا ولا يظلموا، وأجيز أن يتزوجوا فيما بينهم بإذن أهلهم، وإن يتزوج بهم الاحرار، وأن يشاركوهم في الشهادات، ويساهموهم في الاعمال حال الرق وبعد الانعتاق. وقد بلغ من إرفاق الاسلام في حقهم أن شاركوا الاحرار في عامة الامور، وقد قلد جمع منهم الولاية والامارة وقيادة الجيش على ما يضبطه تاريخ صدر الاسلام، ويوجد بين الصحابة الكبار عدة من الموالى كسلمان وبلال وغيرهما. وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتق جاريته صفية بنت حى بن أخطب وتزوج بها، وتزوج جويرية بنت الحارث بعد وقعة بنى المصطلق وقد كانت بين سباياهم، وكانوا مأتى بيت بالنساء والذراري، وصار ذلك سببا لانعتاق الجميع، وقد مر إجمال القصة في الجزء الرابع من الكتاب. ومن الضرورى من سيرة الاسلام أنه يقدم العبد المتقى على المولى الحر الفاسق، وأنه يبيح للعبد أن يتملك المال ويتمتع بعامة مزايا الحياة بإذن من أهله، هذا إجمال من صنيع الاسلام فيهم. ثم أكد الوصية وندب أجمل الندب إلى تحرير رقبتهم، و إخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جو الحرية ولا يزال يقل بذلك عددهم ويتبدل جمعهم موالى وأحرارا لوجه الله، ولم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرقبة أحد خصال الكفارات مثل كفارة القتل وكفارة الافطار، وأجاز لهم الاشتراط والكتابة والتدبير، كل ذلك عناية بهم وقصدا إلى تخليصهم وإلحاقا لهم بالمجتمع الانساني الصالح إلحاقا تاما يقطع دابر الاستذلال. 7 - محصل البحث في الفصول السابقة: تحصل مما مر أمور ثلاث: الاول: أن الاسلام لم يأل جهدا في إلغاء أسباب الاستعباد وتقليلها وتضعيفها حتى

[ 348 ]

وقف على واحد منها لا محيص عن اعتباره بحكم الفطرة القاطع، وهو جواز استعباد كل إنسان محارب للدين مضاد للمجتمع الانساني غير خاضع للحق بوجه من وجوه الخضوع. الثاني: أنه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرامهم - العبيد والاماء وتقريب شؤونهم الحيوية من حياة أجزاء المجتمع الحرة حتى صاروا كأحدهم وإن لم يصيروا أحدهم، ولم يبق عليهم إلا حجاب واحد رقيق، وهو أن الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم حياة متوسطة لمواليهم لا لهم، وإن شئت فقل: لا فاصل في الحقيقة بين الحر والعبد في الاسلام إلا إذن المولى في العبد. الثالث: أنه احتال بكل حيلة مؤثرة إلى الحاق صنف المماليك إلى مجتمع الاحرار بالترغيب والتحريص في موارد، وبالفرض والايجاب في اخرى كالكفارات، وبالتسويغ والانفاذ في مثل الاشتراط والتدبير والكتابة. 8 - سير الاستعباد في التاريخ، ذكروا (1) أن الاستعباد ظهر أول ما ظهر بالسبي والاسر، وكانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها ومقاتلها وأخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم ثم رأوا أن يتركوهم أحياء ويتملكوهم كسائر الغنائم الحربية لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحسانا في حقهم وحفظا للنوع واحتراما للقوانين الاخلاقية التى ظهرت فيهم بالترقى في صراط المدنية شيئا بعد شئ. وإنما ظهرت هذه السنة بين القبائل بعد ما ارتحلت عنهم طريقة الارتزاق لاصطياد إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوغ لهم الانفاق على العبيد والاماء حتى انتقلوا إلى عيشة النزول والارتحال وتمكنوا من ذلك. وبشيوع الاستعباد بين القبائل والامم على أي وتيرة كانت تحولت حياة الانسان الاجتماعية بظهور جهات من الانتظام والانضباط في المجتمعات أولا وتقسيم الاعمال ثانيا. ولم يكن الاستعباد إذ كان دائرا في الدنيا على وتيرة واحدة في أقطار المعمورة فلم يستن في بعض المناطق أصلا كاوستراليا وآسيا المركزية وسيبريا وأميركا الشمالية

_____________________________

(1) مأخوذ من 1 - دائرة المعارف: المذهب والاخلاق تأليف جانن هيسينيك طبعة بريطانية، 2 - مجمل التاريخ تأليف ه‍. ج‍. ولز طبعة بريطانية، 3 - روح القوانين تأليف مونيسكيو طبعة طهران. (*)

[ 349 ]

وإسكيمو وبعض المناطق بأفريقيا بشمال النيل وجنوب رامبيز. وبالعكس كان رائجا في جزيرة العرب وأفريقيا الوحشية واوروبا وأميركا الجنوبية وكان دائرا بين اليهود، وفي التوراة دعاء العبيد إلى طاعة مواليهم، وكذا بين النصارى وفي كتاب بولس إلى فيلمن أن إفسيموس كان عبدا شاردا رده بولس إلى سيده. وكانت اليهود أرفق الناس بعبيدهم، ومن الشواهد على ذلك أنا لم نعثر لهم من شواهق الابنية على ما يشبه الاهرام المعمولة بمصر والابنية الاشورية التاريخية فإنها كانت من أعمال العبيد الشاقة، وكانت الروم واليونان أكثر الامم تشديدا على العبيد. وقد ذاع في الروم الشرقي بعد قسطنطين فكر التحرير حتى لغى الرق فيها في القرن 13 الميلادى، وبقى في الروم الغربي على شكل آخر وهو أنهم كانوا يبيعون ويشترون المزارع بزراعها - وكانت الزراعة من مشاغل العبيد - لكن لغت بينهم الاعمال الاجبارية. وكان الاستعباد دائرا في معظم ممالك اوروبا إلى سنة 1772 الميلادية وقد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولتين إنجلترا وإسبانيا على أن يجبى الانجليز إليهم كل سنة أربعة آلاف وثمانمائة نسمة من رقيق أفريقيا إلى ثلاثين سنة ليبيعهم منهم قبال مبالغ خطيرة يأخذها منهم. وقد ثارت الافكار العامة سنة 1761 على الرق والاستعباد بينهم، وأقدم الطوائف التى قامت عليه منهم طائفة " لرزان " ا (1) لمذهبية، ولم يزالوا على ذلك حتى وضعت مادة قانونية سنة 1772 أن كل من دخل أرض بريطانيا فهو حر. وقد ظهر سنة 1788 بعد بحث دقيق أن إنجلترا يعامل كل سنة مأتى ألف نسمة رقيقا، وكان الذين يجلبون منهم من أفريقيا إلى أميركا وحدها مائة ألف. ولم يزل حتى ألغى الاستعباد في بريطانيا سنة 1833 وأدت الدولة إلى كمبانيات النخس عشرين ميلونا ليرة أثمان من حررته من رقيقهم العبيد والاماء، وانعتق في هذه الواقعة فيها (770380) نسمة.

_____________________________

(1)) * (. Quaker

[ 350 ]

ولغى الاستعباد في أميركا سنة 1862 بعد مجاهدات شديدة تحملتها أهالي أميركا وقد كان شمال هذه المملكة وجنوبها مختلفين في أخذ الرقيق: أما أميركا الشمالية فإنما كانت تأخذ العبيد والاماء للتجمل فحسب، وأما الجنوبية فكان معظم الاشغال فيها شغل الزراعة والحرث، وكانوا في حاجة شديدة إلى كثرة الايدى العمالة فكانوا يأخذون الارقاء استثمارا بإعمالهم، ولذلك كانوا يتحرجون من قبول التحرير العام. ولم يزل الاستعباد يلغى في مملكة بعد مملكة حتى انعقد قرار بروسل سنة (1890) الميلادية على إلغاء سنة الاستعباد، وأمضاها الدول وأجريت في الممالك، ولغت العبودية في الدنيا، وانعتقت بذلك الملايين من النسمات، انتهى ما ذكروه ملخصا. وأنت تجد بثاقب نظرك أن هذه المجاهدة الطويلة والمشاجرة ثم ما وضع من قوانين الالغاء وانفذ من الحكم كل ذلك إنما كان يدور حول الاسترقاق من طريق الولاية أو التغلب كما يشهد به أن جل الارقاء أو كلهم كانوا يجلبون من نواحى أفريقيا المعمول فيها ذلك، وأما الاسترقاق من طريق السبى الحربى الذى أنفذ الاسلام فلم يكن موردا للبحث قط. 8 - نظرة في بنائهم: هذه الحرية الفطرية التى نسميها بالحرية الموهوبة للانسان (ولسنا ندرى ما هو السبب الذى يسلبها عن سائر أنواع الحيوان وهى تماثل الانسان في الشعور النفساني والارادة الباعثة ؟ غير أن نقول إن الانسان هو الذى يسلبها ذلك لينتفع بها) لا تتفرع على أصل إلا على أن الانسان مجهز بشعور باطني يميز له ما يلتذ به وما يتألم به ثم بإرادة تبعثه إلى جذب ما يلذه ودفع ما يؤلمه فكان له أن يختار لنفسه ما يشاء. ولم يتقيد الشعور الانساني بأن يتعلق بشئ ولا يتعلق بآخر كأن لا يشعر الانسان الضعيف المستذل بما يشعر به الانسان القوى المتعزز، ولا تحددت الارادة الانسانية بحد يمنعها عن التعلق ببعض ما يستحبه أو يجبرها على التعلق بما تعلقت به إرادة غيره لتنطلق لنفع غيره وتنسى نفسها، فالانسان الضعيف المغلوب يريد لنفسه نظائر جميع ما يريده الانسان الذى غلبه وقهره لنفسه، ولا رابطة طبيعية بين إرادة الضعيف وإرادة القوى تجبر إرادة الضعيف على أن لا تتعلق بما تعلقت به إرادة القوى، أو تفنى في إرادة القوى فتعود الارادتان إرادة واحدة تجرى لنفع القوى، أو تتبع الارادة اتباعا يسلبها الاستقلال.

[ 351 ]

وإذ كان كذلك وكان من حق قوانين الحياة أن تبتنى على أساس البنية الطبيعية كان من الواجب أن يعيش الانسان حرا في نفسه وحرا في عمله، ومن هذا الثدى يرتضع إلغاء الاستعباد. لكن ينبغى لنا أن نتأمل هذه الحرية الموهوبة للانسان هل هي في المجتمع الانساني على إطلاقها منذ ولدت وعاشت في البنى الانسانية ؟. فلم يزل النوع الانساني - فيما نعلم - يعيش في حال الاجتماع ولا يسعه بحسب جهازه الوجودى إلا ذلك، ومن المحال أن يدوم مجتمع في حال الاجتماع ولو حينا ما إلا مع سنة مشتركة بين أفراد المجتمع سواء كانت سنة عادلة تعقلية أو سنة جائرة أو مجازفة أو بأى وصف اتصفت، وهذه السنة كيفما كانت تحدد الحرية الفردية. على أن الانسان لا يتأتى له أن يعيش إلا مع تصرف ما في المادة يضمن له البقاء ولا يتأتى له ذلك إلا بأن يختص بما يتصرف فيه نوعا من الاختصاص الذى نسميه بالملك - أعم من الحق والملك المصطلح عليه - فالذي يلبسه هذا حين يلبس لا يسع لذاك أن يلبسه والذى يأكله فرد أو يشربه أو يشغله بالتمكن فيه لا يمكن لغيره أن يستقل به، وليس ذلك إلا تحديدا لغير المتصرف في إطلاق إرادته، وتقييدا لحريته. ولم يزل الاختلاف يلازم هذا النوع منذ سكن الارض فلم يمض على هؤلاء الافراد المنتشرة في رحب الارض يوم إلا وتطلع فيه الشمس على اختلافات، وتغيب عن اختلافات تسير بهم إلى فناء نفوس وضيعة أعراض وانتهاب أموال، ولو كان الانسان يرى لنفسه - أي للانسانية - حرية مطلقة لم يكن لهذه الاختلافات بينهم أثر. وسنة المجازاة والمؤاخذة لم تزل دائرة معمولة بين المجتمعات المتنوعة مدينة كانت أو همجية، ولا معنى للمجازاة إلا أن يملك المجتمع من الانسان المجرم بعض ما وهبه له الخلقة من النعم، وأن يسلب عنه بعض الحرية فلولا أن المجتمع أو من بيده الامر في المجتمع يملك من المجرم القاتل المحكوم بالقصاص حياته لما وسعه ان يسلبها عنه، ولولا أن الاثم المأخوذ بإثمه المؤاخذ بأنواع التعذيب والكناية كالقطع والضرب والحبس وغير ذلك يملك الحكم والاجراء منه ما يسلبه من شؤن الحياة أو الراحة أو السلطة المالية لما صح ذلك، وكيف يصح منع الجائر المتعدى أن يجور ويتعدى ولا الذب عن حريم

[ 352 ]

نفس أو عرض أو مال إلا مع سلب بعض حرية المتغلب الممنوع ؟. وبالجملة فمها لا يشك فيه ذو مسكة أن بقاء الحرية الانسانية على إطلاقها في المجتمع الانساني ولو لحظة يوجب اختلال النظام الاجتماعي من وقته فهذا الاجتماع الذى هو أيضا فطرى للانسان ولا يعيش بدونه هو يقيد إطلاق الحرية الفطرية التى وهبته للانسان إرادته وشعوره الغريزيان فلا يأتي لمجتمع إنساني أن يعيش إلا مع تقييد ما لا طلاق الحرية كما لا يأتي له أن يعيش مع بطلان الحرية من أصلها، ولم يزل المجتمع الانساني يحفظ بين الحدين هذه الحرية التى يخيل لنامن كثرة التبليغات اللغربية أنهم الذين خلقوا اسمها بعد ما اخترعوا معناها، وحفظوها على إطلاقها. فهذا الاجتماع الفطري هو الذى يقيد تلك الحرية الفطرية ويحددها على حد تقييد القوى الطبيعية البدنية وغير البدنية بعضها بعضا، فيقف البعض عن الفعل اعتناء بشأن بعض آخر يزامله كقوة الابصار على الاطلاق تفعل فعلها حتى تكل لامسة العين أو تتعب القوة المفكرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيدا بفعل مزاملها، والذائقة تلتذ بالتقام الغذاء اللذيذ وازدراده وبلعه حتى تكل عضلات الفك فتقيد الذائقة فتكف عن مشتهاها. فالاجتماع الفطري لا يتم للانسان إلا بأن يجود ببعض حرية في العمل واسترساله في التمتع. 9 - ما مقدار التحديد: وأما المقدار الذى تحدد به الحرية الموهوبة من قبل الاجتماع الفطري ويتقيد به إطلاقها الفطري فهو يختلف باختلاف المجتمعات الانسانية بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة في المجتمع وقتلها فإن المقيد للحرية بعد أصل الاجتماع إنما هو القانون المجرى بين الناس فكلما زادت القوانين ودقت في رقوب أعمالهم زاد الحرمان من الحرية والاسترسال، وكلما نقصت نقص. لكن الذى لا مناص عنه في أي اجتماع لاى مجتمع فرض، والواجب الذى ليس في وسع الانسان الاجتماعي أن يستهين به ويتساهل في أمره: فهو حفظ وجود الاجتماع وكونه إذلا حياة للانسان دونه، وحفط السنن الدائرة والقوانين الجارية فيه من النقص والانتقاص، ولذلك لست تجد مجتمعا من المجتمعات البشرية إلا وفيه جهة دفاعية

[ 353 ]

تذب عن النفوس والذارارى وتقيهم من الفناء والهلاك، وولى يلى أمرهم ويحفط السنة الجارية والعادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض ببسط الامن الاجتماعي، وسياسة المتعدى الجائر، والموجود من التاريخ يصدق ذلك أيضا. وإذا كان كذلك فأول حق مشروع للمجتمع في الفطرة أن يسلب الحرية عن عدو المجتمع في أصل اجتماعية، وإن شئت فقل: أن يملك من عدوه المبيد لحياته المفسد لحرثه ونسله نفسه وعمله ويذهب بحرية إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، وأن يسلب عن عدو السنة والقانون حرية العمل والاسترسال في النقض، ويملك منه مايفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما. وكيف يسع الانسان - حتى الانسان الفرد - أن يذعن بحرية عدو لا لحياة مجتمعه يحترم فيواخيه ويشاركه ويمتزج به، ولا عن إبادة مجتمعه وإفنائه يغمض فيتركهم وشأنهم ؟ وهل الجمع بين العناية الفطرية بالاجتماع وبين ترك هذا العدو وحريته في العمل إلا جمعا بين المتناقضين صريحا وسفها أو جنونا ؟. فتبين مما مر أولا: أن البناء على إطلاق حرية الانسان أمر مخالف لصريح الحق الفطري المشروع للانسان الذى هو من أول الحقوق الفطرية المشروعة ؟. وثانيا: أن حق الاستعباد الذى اعتبره الاسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، وهو أن يستعبد أعداء الدين الحق المحاربين للمجتمع الاسلامي فيسلب عنهم حرية العمل، ويجلبوا إلى داخل المجتمع الدينى ويكلفوا بأن يعيشوا في زى العيودية حتى يتربوا بالتربية الصالحة الدينية، وينعتقوا تدريجا، ويلتحقوا بالمجتمع الحر سالمين غانمين، ولولى الامر أن يشتريهم ويعتقهم عن آخرهم إن رأى صلاح المجتمع الدينى في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقا آخر لا ينتسخ بذلك الاحكام الالهية. 10 - إلى م ال امر الالغاء ؟: أجرت الدول المعظمة قار مؤتمر بروسل ومنعوا بيع الرقيق أشد المنع وانعتقت الاماء والعبيد فلا يصطفون اليوم في دكاك النخاسين ولا يساقون سوق الاغنام، وتبع ذلك أن انتسخ اتخاذ الخصيان، ولا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء وأولئك ولو نماذج قليلة إلا ما ربما يذكر من أمر الاقوام الهمجية.

[ 354 ]

لكن هذا المقدار أعنى ارتفاع اسم الاستعباد والاسترقاق من الالسنة وغيبة المسمين بهذا الاسم عن الانظار هل يقنع الباحث الناقد في هذه المسألة ؟ أو ليس يسأل أن هذه المسألة هل هي مسألة لفظية يجزى فيها المنع من أن يذكر الاسم، ويكفى في إجرائها أن يسمى العبد حرا وإن سلب منافع عمله وتبع غيره في إرادته، أو أن المسألة معنوية يراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقتة وآثاره الخارجية ؟. فهاتيك الحرب العالمية الثانية لم يمض عليها إلا بضع عشرة سنة حملت الدول الفاتحة على عدوها المغلوب التسليم بلا شرط ثم احتلوا بلادهم، وأخذوا ملايين من أموالهم، وتحكموا على نفوسهم وذراريهم، ونقلوا الملايين من أسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاؤوا وكيف شاؤوا، والامر يجرى على ذلك حتى اليوم. فليت شعرى هل للاستعباد مصداق ليس به وإن منع من إطلاق لفظه ؟ وهل له م عنى إلا سلب إطلاق الحرية ؟ وتملك الارادة والعمل، وإنفاذ القوى المتعزز حكمه في الضعيف المستذل كيف شاء وأراد عدلا أو ظلما ؟. فيا لله العجب يسمى حكم الاسلام بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن استعبادا ولا يسمى حكمهم بذلك، والاسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه وأخفها وهم يأخذون بأشقها وأعنفها فقد رأينا محبتهم وصداقتهم حينما احتلوا بلادنا تحت عنوان المحبة والحماية والوقاية، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة والنكاية. ومن هنا يظهر أن قرار الالغاء لم يكن إلا لعبا سياسيا هو في الحقيقة أخذ في صورة الرد، أما الاستعباد عن حرب وقتال فقد أنفذه الاسلام وأنفذوه عملا وإن منعوا عن التلفظ باسمه لسانا، وأما الاستعباد من طريق بيع الاباء أبناءهم الذى منعوه فقد كان الاسلام منعه من قبل، وأما الاستعباد من طريق الغلبة والسلطة الحكمية فقد منعه الاسلام من قبل، وأما هؤلاء فقد أجمعوا على منعه لكن هل توقف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره أو تعداها إلى مرحلة المعنى ووافقه العمل ؟ !. يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تاريخ الاستعمارات الاروبية في آسيا وإفريقيا وأميركا، والفجائع التى ارتكبوها، والدماء والاعراض والاموال التى أهرقوها واستباحوها ونهبوها، والتحكمات التى أتوا بها وليس بالواحد

[ 355 ]

والمائة والالف. ليس يلزمك أن تسلك هذا السبيل على بعدها - إن كان بعيدا - فقد يجزيك أن تتأمل أخبار ما يقاسيه أهل الجزائر من فرنسا منذ سنين من إبادة النفوس وتخريب البلاد والتشديد على أهله، وما تلقاه الممالك العربية من الانجليز، وما يتحمله السودان والحمر في أميركا، والاوروبة الشرقية من الجمهوريات الاشتراكية، وما نكابده نحن من أيدى هؤلاء واولئك، كل ذلك في لفظه نصح وإشفاق، وفى معناه استعباد واسترقاق !. فظهر من جميع ما مر أنهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الاسلام من إباحة وسلب إطلاق الحرية عند وجود سببها الفطري الذى هو حرب من يريد هدم المجتمع وإهلاك الانسانية، وهو حكم مشروع في شريعة الفطرة له أصل واقعى لا يتغير وهو حاجة الانسانية في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجودا ويناقضها بقاء ثم أصل اجتماعي عقلائي لا يتبدل متفرع على أصله الواقعي وهو وجوب حفظ المجتمع الانساني عن الانعدام والانهدام. فهذا هو الذى راموه في عملهم وأخذوه معنى وأنكروه اسما غير أنهم تعدوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع وهو الاستعباد بسبب الغلبة والسلطة فلا يزالون يستعبدون الالوف والملايين قبل حديث الالغاء وبعده، ويبيعون ويشترون ويهبون ويعيرون إلا أنهم لا يسمون ذلك استعبادا، وإنما يسمى استعمارا أو استملاكا أو قيمومة أو حماية أو عناية وإعانة أو غير ذلك من الالفاظ التى لا يراد بشئ منها إلا أن يكون سترة على معنى الاستعباد، وكلما خلق أو خرق شئ منها رمى به وجئ بآخر. ولم يبق مما نسخه قرار بروسل ولا يزال يقرع به أسماع الدنيا وأهلها ويتباهى به الدول المتمدنة الذين هم رواد المدنية الراقية، وبأيديهم راية الحرية الانسانية إلا الاستعباد من طريق بيع الابناء والبنات والاخصاء ولا فائدة هامة فيه تعود إليهم مع كونه أشبه بالمسألة الفردية منه بالمسألة الاجتماعية، ونسخه مع ذلك حجة لفظية تبليغية بأيديهم كسائر حججهم التى لا تعدو مقام اللفظ وتؤثر أثر المعنى. نعم يبقى هناك محل بحث آخر وهو أن الاسلام يبدأ في غنائمه الحربية من رقيق أو مال غير الارض المفتوحة عنوة بالافراد من مجتمعة فيقسمها بينهم ثم ينتهى إلى الدولة

[ 356 ]

على ما سير به في صدر الاسلام وهؤلاء يحفظون الاستفادة منها حقا موقوفا على الدولة، وهذه مسألة اخرى غير مسألة أصل الاسترقاق لعلنا نوفق لاستقصاء البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة والخمس، والله المستعان. وبعد ذلك كله نعود إلى كلمة صاحب معجم الاعلام المنقولة سابقا: " مبدأ إلغاء الرق هو تساوى البشر في الحقوق والواجبات " فما معنى تساوى البشر في الحقوق (الخ)، فإن أريد به تساويهم في استحقاق ما لهم من الحقوق الواجبة مراعاتها وإن كانت نفس تلك الحقوق مختلفة غير متساوية البتة كاختلاف الرئيس والمرؤوس والحاكم والمحكوم والامر والمأمور والمطيع للقانون والمتخلف عنه والعادل والظالم من جهة اختلافهم في الزنة الاجتماعية. فهو كذلك لكنه لا يستلزم التسوية بين من هو جزء شريف نافع في المجتمع وبين من ليس في صلاحيته أن ينضم إلى المجتمع ولا كرامة، وإنما هو كالسم المهلك الذى أينما حل أبطل الحياة فإن من الحكم الفطري الصريح أن يفرق بينهما بإعطاء الحرية الكاملة للاول، وسلبها عن الثاني فلا حق للعدو على عدوه فيما يعاديه، ولا واجب للذئب في ذمة الغنم ولا للاسد على فريسته. وإن أريد به أن الانسانية لما كانت مشتركة بين أفراد الانسان وكان في قوة الفرد من الانسان كائنا من كان أن يرقى في المدنية وينال من السعادة ما يناله الاخر كان من حق الانسانية على المجتمع الراقي أن يجود بالحرية على كل إنسان ويربيه حتى يلحق المجتمع الصالح. فلذلك حق لكن ربما كان من شرائط التربية أن يسلب المربى حرية الارادة والعمل حينا حتى تتم التربية، ويتبصر النفس المرباة في استعمال إرادتها، وتتنعم بنعمة حريتها كما يعالج المريض بما يسوؤه ويربى الصغير بما يتحرج منه، وهذا هو الذى يراه الاسلام من سلب حرية الارادة والعمل عن الامة الكافرة المحاربة، واجتلابهم إلى داخل المجتمع الدينى، وتربيتهم فيها، وتخليصهم تدريجا إلى ساحة الحرية فإن السلوك سلوك اجتماعي ينبغى أن ينظر إليه وإلى نتيجته وأثره بنظر عام كلى، وليس بأمر فردي ينظر إليه بنظر فردي جزئي، ثم من العجب أن هؤلاء أيضا يجرون عملا بما جرت عليه السيرة الاسلامية وأن خالفوه في التسمية وحسن النية كما تقدم بيانه.

[ 357 ]

وإن أريد به أن من حق الحرية الانسانية أن تطرد في الجميع ويخلى بين كل إنسان وإرادته المطلقة. فمن الواضح الذى لا مرية فيه أن ذلك غير جائز التسليم ولا ميسور العمل على إطلاقه وخاصة في الخصم المحارب وهو المورد الوحيد الذى يعتنى به الاسلام في سلب إطلاق الحرية. ثم لو كان هذا حقا لم يكن فيه فرق بين الواحد والاثنين وبين الجماعة فما بالهم يسلمون للواحد من الحرية القانونية حتى مثل " الانتحار " وللاثنين مثل " دئل " ولا يسلمون لطائفة مساكين من أبناء نوعهم أن ينعزلوا في ملجأ أو مغارات ويشتغلوا بأنفسهم ويأكلوا رزق ربهم ويسلكوا سبيل حياتهم ؟. بقى هنا شئ وهو أنه ربما قال القائل: ما بال الاسلام لم يشرع للرقيق تملك المال حتى يستعين به على حوائجه الضرورية من غير أن يكون كلا على مولاه ؟ وما باله لم يحدد الرق بالاسلام حتى ينعتق العبد بالاسلام وينمحى عنه لوث المحرومية اللازمة له ولاعقابه إلى يوم القيامة. لكن ينبغى أن يتنبه هذا القائل إلى أن الحكم باستقرار الرق والحرمان من تملك المال إنما ظهوره ووقوعه بحسب نظر التشريع في أول زمان الاستيلاء عليه وحكم الفطرة عليهم - وهم الاعداء المحاربون - بجواز سلب الحرية إنما هو لابطال كيدهم وسلب قوتهم على المقاومة لهدم الاجتماع الدينى الصالح، ولا قوة ولا قدرة إلا بالملك فذا لم يملكوا عملا ولا نتاج عمل لم يقووا على المخاصمة والمحاربة. نعم أجاز الاسلام لهم أن يتملكوا في الجملة بتمليك الموالى، وهذا ملك في طول ملك، وليس فيه محذور الاستقلال بالتصرف. وأما تحديد رقهم بالايمان فهو أمر يبطل السياسة الدينية في حفظ بيضة الاسلام وإقامة المجتمع الدينى على ساقة وبسط التربية الدينية على هؤلاء المحاربين المستعلى عليهم بالعدة والقوة، ولولا ذلك لدخلوا في ظاهر الدين بمجرد أن استقرت عليهم سيطرة الدين، وضربت عليهم بذلة العبودية فحفظوا بذلك عدتهم وقوتهم ثم عادوا لما نهوا عنه.

[ 358 ]

وليرجع في ذلك إلى السنة الجارية بين الامم والاقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود التى يستطاع العثور فيها على تاريخ الانسانية فالامتان أو القبيلتان إذا تحاربتا وتقاتلتا ثم غلبت إحداهما الاخرى واستعلت عليها فإنها ترى من حقها المشروع لهافى الحرب أن تضع في عدوها السيف حتى يسلم لها الامر تسليما مطلقا من غير شرط. وليست ترضى من التسليم بمجرد أن تضع الامة المقاتلة المغلوبة أسلحتها على الارض فتتركهم وما يريدون بل بالتسليم لامر الامة الغالبة، والخضوع التام لما تحكم فيهم، وترى لهم أو عليهم، وتتصرف في نفوسهم وأموالهم. ومن سفه الرأى أن تقيد هذه السيطرة بقيد يفسد أثر هذا التسليم المطلق، ويبطل حكمه، ويمهد الطريق للعدو في الرجوع إلى كيده ومكره، ويجدد له رجاء العود إلى ما بدأ، وكيف يسوغ للامة الغالبة ذلك وقد فدت عن استقلال مجتمعها المقدس عندها بالنفوس والاموال ؟ وهل ذلك إلا ظلما لنفسها واستهانة بأعز ما عندها، وتبذيرا للدماء والاموال والمساعي. وليس لمعترض أن يعترض على أمة غالبة غلبت بتضحية النفوس والاموال فضربت على عدوها بالذلة والمسكنة، وحفظهم على حالة الرق: بأن رجالهم قاتلوا وقتلوا وأفسدوا فاخذوا بالاسر وجوزوا بسلب الحرية على ما يبيحه الحق المشروع للمحارب على محاربه فما ذنب الاصاغر من الذرارى المتولدين بعد ذلك، ولم يحملوا سلاحا، ولا سلوا سيفا، ولا دخلوا معركة ؟ وذلك أنهم ضحايا آبائهم. بعد ذلك كله لا ينبغى أن ينسى أن للحكومة الاسلامية أن يحتال في انعتاق الرقيق بشراء وعتق ونحو ذلك إذا أحرزت أن الاصلح بحال المجتمع الاسلامي ذلك والله أعلم.

(كلام في المجازاة والعفو في فصول)

 1 - ما معنى الجزاء ؟: لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات من تكاليف اجتماعية على أجزائه أن يحترموها فلا هم للمجتمع إلا أن يوافق بين أعمال الافراد ويقرب بعضها من بعض، ويربط جانبا منها بجانب حتى تأتلف وتجتمع وترفع بآثارها ونتائجها حوائج

[ 359 ]

الافراد بمقدار ما يستحقه كل واحد بعمله وسعيه. وهذه التكاليف لما كانت متعلقة بأمور اختيارية يسع الانسان أخذها وتركها، وهى بعينها لا تتم إلا مع سلب ما لحرية الانسان في إرادته وعمله لم يمتنع أن يتخلف عنها أو عن بعضها الانسان المتمائل بطبعه إلى الاسترسال وإطلاق الحرية. والتنبه إلى هذا النقص في التكاليف والفتور في بنى القوانين هو الذى بعث الانسان الاجتماعي على أن يتمم نقصها ويحكم فتورها بأمر آخر، وهو أن يضم إلى مخالفتها والتخلف عنها أمورا يكرهها الانسان المكلف فيدعوه ذلك إلى طاعة التكليف الذى يكلف به حذرا من أن يحل به ما يكرهه ويتضرر به. وهذا هو جزاء السيئة وهو حق للمجتمع أو لولى الامر على المتخلف العاصى، وله نظير في جانب طاعة التكاليف فمن الممكن أن يوضع للمطيع الممتثل بإزاء عمله بالتكليف أمر يؤثره ويحبه ليكون ذلك داعيا يدعوه إلى إتيان الواجب أو المطلوب مطلقا من التكاليف، وهو حق للمكلف المطيع على المجتمع أ لولى الامر، وهذا هو جزاء الحسنة، وربما يسمى جزاء السيئة عقابا وجزاء الحسنة ثوابا. وعلى هذه الوتيرة يجرى حكم الشريعة الالهية، قال تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى " (يونس: 26) وقال تعالى: " والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها " (يونس: 27) وقال: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (الشورى: 40). وللعقاب والثواب عرض عريض آخذا من الاستكراه والاستحسان والذم والمدح إلى آخر ما يتعلق به القدرة من الشر والخير، ويرتبطان في ذلك بعوامل مختلفة من خصوصيات الفعل والفاعل وولى التكليف ومقدار الضرر والنفع العائدين إلى المجتمع، ولعله يجمع الجميع أن العمل كلما زاد الاهتمام بأمره زاد عقابا في صورة المعصية وثوابا في صورة الطاعة. ويعتبر بين العمل وبين جزائه - كيف كان - نوع من المماثلة والمسانخة ولو تقريبا، وعلى ذلك يجرى كلامه تعالى أيضا كما هو ظاهر أمثال قوله تعالى: " ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى " (النجم: 31) وأوضح منه قوله تعالى وقد حكاه عن صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام: " وأن ليس للانسان إلا

[ 360 ]

ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الاوفى " (النجم: 41). وهذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر، قال تعالى: " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى " (البقرة: 178) وقال: " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله " (البقرة: 194). ولازم هذه المماثلة والمسانخة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل بمعنى أنه إذا عصى حكما اجتماعيا مثلا فإنما تمتع لنفسه بما يضر المجتمع أي بما يفسد تمتعا من تمتعات المجتمع فينقص من تمتعاته في نفسه ما يعادل ذلك من نفسه أو بدنه أو ماله أو جاهه أو نحو ذلك مما يعود بوجه إليه. وهذا هو الذى أومانا إليه في البحث عن معنى الاستعباد أن المجتمع أو من يلى أمره يملك من المجرم نفسه أو شأنا من شؤون نفسه يعادل الجرم الذى اجترمه ونقيصة الضرر الذى أوقعه على المجتمع فيعاقب بذلك أي يتصرف المجتمع أو ولى الامر استنادا إلى هذا الملك - وهو الحق - في حياة المجرم أو شأن من شؤون حياته، ويسلب حريته في ذلك. فلو قتل نفسا مثلا بغير نفس أو فساد في الارض في المجتمع الاسلامي ملك ولى الامر من المجرم نفسه حيث نقصهم نفسا محترمة، وحده الذى هو القتل تصرف في نفسه عن الملك الذى ملكه، ولو سرق ما يبلغ ربع دينار من حرز فقد أضر بالمجتمع بهتك ستر من أستار الامن العام الذى أسدلته يد الشريعة وحفظته يد الامانة، وحدها الذى هو القطع ليس حقيقته إلا أن ولى الامر ملك من السارق بإزاء ما أتى به شأنا من شؤون حياته وهو الشأن الذى تشتمل عليه اليد فيتصرف فيه بسلب ما له من الحرية ووسيلتها من هذه الجهة، وقس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع والسنن المختلفة. فيتبين من هنا ان الاجرام والمعصية الاجتماعية يستجلب نوعا من الرق والعبودية ولذلك كان العبد أظهر مصاديق المؤاخذة والعقاب قال تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " (المائدة: 118). ولهذا المعنى مظاهر متفرقة في سائر الشرائع والسنن المختلفة قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام إذ جعل السقاية في رحل أخيه ليأخذه إليه: " قالوا فما جزاؤه

[ 361 ]

إن كنتم كاذبين - أي في إنكاركم سرقة صواع الملك - قالوا من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين - أي نجزى السارق باسترقاقه - فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف - إلى أن قال - قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين - وهذا هو التبديل ونوع من الفدية - قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون " (يوسف: 79). وربما كان يؤخذ القاتل أسيرا مملوكا، وربما كان يفدى بواحدة من نسائه وحرمه كبنته وأخته إلى غير ذلك، وسنة الفدية بالتزويج كانت مرسومة إلى هذه الايام بين القبائل والعشائر في نواحينا لان الازدواج يعد عندهم نوعا من الاسترقاق والاسارة للنساء. ومن هنا ما ربما يعد المطيع عبدا للمطاع لانه بإطاعته يتبع إرادته إرادة المطاع فهو مملوكه المحروم من حرية الارادة قال تعالى: " ألم أعهد اليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن أعبدوني " (يس: 61) وقال: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " (الجاثية: 23). وبالعكس من تملك المجتمع أو ولى الامر المجرم المعاقب يملك المطيع المثاب من المجتمع أو ولى الامر ما يوازن طاعته من الثواب فإن المجتمع أو الولى نقص من المكلف المطيع بواسطة التكليف شيئا من حريته الموهوبة فعلية أن يتممه كما نقص. وهذا الذى ذكرناه هو السر في ما اشتهر: أن الوفاء بالوعد واجب دون الوعيد، وذلك أن مضمون الوعد في ظرف المولوية والعبودية هو الثواب على الطاعة كما أن مضمون الوعيد هو العقاب على المعصية، والثواب لما كان من حق المطيع على ولى الامر وفى ذمته وجب عليه تأديته وتفريغ ذمته منه بخلاف العقاب فإنه من حق ولى الامر على المكلف المجرم، وليس من الواجب أن يتصرف الانسان في ملكه ويستفيد من حقه إن كان له ذلك، وللكلام تتمة. 3 - العفو والمغفرة ؟: استنتجنا من البحث السابق جواز ترك المجازاة على المعصية بخلاف الطاعة، وهو حكم فطرى في الجملة مبنى على أن العقاب حق للمعصى على العاصى، وليس من الواجب إعمال الحق دائما.

[ 362 ]

غير أنه كما لا يجب إعمال حق العقاب دائما كذلك لا يجوز تركه دائما وإلا لغى القضاء الفطري بثبوت الحق، ولا معنى لثبوت شئ لا أثر له ولا في وقت من الاوقات على أن إلغاء حق العقاب من رأسه هدم للقوانين الموضوعة الحافظة لبنية الاجتماع وفى هدمها هدم الاجتماع بلا ريب. فالحكم - وهو جواز العفو عن الذنب - ثابت في الجملة، والقضية مهملة فإن كان هناك سبب مسوغ بحسب الحكمة للعفو جاز العفو وإلا وجبت المجازاة احتراما للقوانين الحافظة لبنية المجتمع وسعادة الانسان، وإليه الاشارة بقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: " وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " (المائدة: 118). ويوجد في القرآن الكريم من أسباب المغفرة مما تمضيه الحكمة الالهية سببان كليان: أحدهما: توبة العبد إلى الله سبحانه أعم من رجوعه من الكفر إلى الايمان أو رجوعه من المعصية إلى الطاعة على ما تقدم بيانه في الكلام على التوبة في الجزء الرابع من الكتاب، قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون - وهذه التوبة من الكفر الذى فيه وعيد العذاب الذى لا ينفع فيه ناصر شفيع - واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " (الزمر: 55) وهذه هي التوبة من المعصية إلى الطاعة، ولم ينف فيه نفع الشفاعة. وقال تعالى: " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الان ولا الذين يموتون وهم كفار اولئك اعتدنا لهم عذابا أليما " (النساء: 18). وثانيهما: الشفاعة يوم القيامة قال تعالى: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " (الزخرف: 86) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة المتعرضة لامر الشفاعة، وقد أشبعنا البحث فيها في الكلام على الشفاعة في الجزء الاول من الكتاب.

[ 363 ]

ويوجد في القرآن الكريم موارد متفرقة يذكر فيها العفو من غير ذكر سببه وإن كان التدبر فيها يهدى إلى إجمال ما روعى فيها من المصلحة وهى مصلحة الدين كقوله تعالى: " ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين " (آل عمران: 152)، وقوله تعالى: " أأشفقتم أن تقدموا بين يدى نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله " (المجادلة: 13)، وقوله تعالى: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم " (التوبة: 117) وقوله تعالى: " وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم " (المائدة: 71) وقوله تعالى: " الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور " (المجادلة: 3)، وقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم - إلى أن قال - عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام " (المائدة: 95). فهذه موارد متنوعة من العفو الالهى وقد بينا خصوصية كل منها في الكلام على الاية المشتملة عليه من الكتاب فليراجع. وليس من قبيل ما تقدم قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " (التوبة: 43) فإنه دعاء نظير قولنا: غفر الله لك لم فعلت كذا وكذا، ونظيره على الخلاف قوله تعالى " إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر " (المدثر: 19) وليس من ذاك القبيل أيضا قوله تعالى: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " (الفتح: 2)، ويدل على ذلك جعل المغفرة غاية متفرعة على فتحه تعالى مكة لنبيه ولا رابطة بين مغفرة الذنب بمعنى الاثم وبين الفتح، وسيجئ تمام الكلام في محله إن شاء الله. 4 - للعفو مراتب: لما كان العفو والمغفرة يتعلق بالذنب الذى يستتبع نوعا من المجازاة والعقاب، وللجزاء كما عرفت عرض عريض ومراتب مختلفة متشتتة أتبعه العفو في اختلاف المراتب حسب اختلافه، وليس الاختلاف الواقع في نفس الذنب أعنى التبعة السيئة التى يستتبعها العمل، فالاختلاف فيها مما لا سبيل إلى إنكاره، والجزاء

[ 364 ]

سواء كان عقابا أو ثوابا إنما يوزن بزنتها. فمما لا محيص عنه في بحثنا هذا هو البحث عن الذنب واختلاف مراتبه، والتأمل فيما يهدى إليه العقل الفطري فإن البحث وإن كان قرآنيا يراد به الحصول على ما يراه الكتاب الالهى في هذه الحقائق غير أنه تعالى على ما بين في كلامه يكلمنا على قدر عقولنا وبالموازين الفطرية التى نزن بها الاشياء في مرحلتي النظر والعمل، وقد مرت الاشارة إليه في موارد من الابحاث الموضوعة في هذا الكتاب، وقد استمد تعالى في موارد من بياناته بالعقل والفكر الانساني، وأيد به مقاصد كلامه فقال تعالى: أفلا تعقلون. أفلا تتفكرون، وما في معناهما. والذى يفيده الاعتبار الصحيح هو أن أول ما يتعلق به ويحترمه المجتمع الانساني هو الاحكام العملية والسنن المحترمة التى تحفظ بالعمل بها والمداومة عليها مقاصده الانسانية وتهديه إلى سعادته في الحياة، ثم تضع أحكاما جزائية يجازى على طبقها المتخلف العاصى عن القوانين الاجتماعية ويثاب المطيع الممتثل. وفي هذه المرحلة لا يسمى باسم الذنب إلا التخلف عن متون القوانين العملية، وتحاذى الذنوب لا محالة في اعددها عدد مواد الاحكام الاجتماعية، وهذا هو المغروز المركوز في أذهاننا معاشر المسلمين أيضا من معنى لفظ الذنب والالفاظ التى تقارنه في المعنى كالسيئة والمعصية والاثم والخطيئة والحوب والفسق ونحوها. لكن الامر لا يقف على هذا الحد فإن الاحكام العملية إذا عمل بها وروقبت وتحفظ عليها ساق المجتمع إلى أخلاق وأوصاف مناسبة لها ملائمة لمقاصد المجتمع التى هي غاية اجتماعهم، وهذه الاخلاق هي التى يسميها المجتمع بالفضائل الانسانية ويحرص ويحرض عليها، وتقابلها الرذائل. وهى وإن كانت مختلفة باختلاف السنن والمقاصد في المجتمعات إلا أن أصل إنتاج الاحكام الاجتماعية لها مما لا سبيل إلى سده وإعفائها عنه. وهذه الاخلاق الفاضلة وإن كانت أوصافا روحية لا ضامن لاجرائها في مقام العمل في المجتمعات، وكانت غير اختيارية بلا واسطة لكونها ملكات لكنها لكونها في تحققها تتبع تكرر العمل بالاحكام المقررة في المجتمع أو تكرر التخلف عن العمل كانت نفس

[ 365 ]

العمل بالاحكام ضامنة لاجرائها، وتعد اختيارية باختيارية مقدمتها وهى تكرر العمل، وتتصور في مواردها أوامر عقلية متعلقة بالاخلاق الفاضلة كالشجاعة والعفة والعدالة، ونواه عقلية تردع عن الاخلاق الرذيلة كالجبن والتهور والخمود والشره والظلم، وكذا يتصور لها عقاب وثواب يسميان بالعقاب والثواب العقليين كالمدح والذم. وبالجملة تتحقق بذلك مرتبة من مراتب الذنب فوق المرتبة السابق ذكرها، وهى مرتبة التخلف عن الاحكام الخلقية والاوامر العقلية المتعلقة بها. ولم تعد هذه الاوامر العقلية أوامر إلا من جهة التلازم بين الاعمال الواجبة التى تسوق إليها وبينها، فهناك حاكم يحكم بالوجوب ويأمر به وهو العقل الانساني ونظيره القول في تسمية النواهي العقلية نواهى، وهذا دأبنا في جميع موارد التلازم فإذا فرضنا العمل بأحد المتلازمين لا نلبث دون أن نأمر بإتيان الاخر ووجوبه، ونرى التخلف عن ذلك عصيانا لهذا الامر العقلي، وذنبا يستحق به نوع من المؤاخذة. ويظهر من هنا أمر آخر وهو أن هذه الفضائل لما كانت مشتملة على واجبات لا محيص عن التلبس بها - ومثله اشتمال الرذائل على المحرمات - وعلى امور مندوبة مستحبة هي كالزينة والهيئة الجميلة فيها - وهى الاداب الحسنة التى تتعلق بها أوامر عقلية استحسانية إلا أنها إذا فرضت ظرفا لاحد منا كان ما يلازمهامن الاداب وهى مندوبة في نفسها - مأمورا به عقلا أمرا إيجابيا قضاء لحق الظرفية المفروضة، مثال ذلك أن البدوى العائش عيشة العشائر البدوية لما كان ظرف حياته بعيدا من المستوى المتوسط في الحياة الحضرية لا يؤاخذ إلا بالضروريات من أحكام المجتمع والسنن العامة التى يناله عقله وفهمه، وربما أتى بالوقيح من الاعمال أو الركيك من الاقوال فيغمض عنه الحضرى معتذرا بقصور الفهم وبعد الدار من السواد الاعظم الذى تكرر مشاهدة الرسوم والاداب فيه أحسن معلم للناس القاطنين فيه. ثم المتوسط من الناس الحضريين لا يؤاخذ بما يؤاخذ به الاحاد النوادر من المجتمع الذين هم أهل الفهم اللطيف والادب الظريف، ولا عذر فيما يقع من المتوسط من الناس من ترك دقائق الادب وظرائف القول والفعل إلا أن فهمه على قدر ما يأتي به، لا يشعر من لوازم الادب بأزيد مما يأتي به وظرفه هو ظرفه.

[ 366 ]

وما يأتي به مما لا ينبغى هو مما يؤاخذ به الاوحديون من الرجال فربما يؤاخذون بلحن خفى في كلام أو بتبطؤ يسير في حركة أو بتفويت آن غير محسوس في سكون أو التفات أو غمض عين ونحو ذلك فيعد ذلك كله ذنبا منهم، وليس من الذنب بمعنى مخالفة المواد القانونية دينية كانت أو دنيوية، وقد اشتهر بينهم: أن حسنات الابرار سيئات المقربين. وكلما دق المسلك ولطف المقام ظهرت هنالك خفايا من الذنوب كانت قبل تحقق هذا الظرف مغفولا عنها لا يحس بها الانسان المكلف بالتكاليف، ولا يؤاخذ بها ولى المؤاخذة والمحاسبة. وينتهى ذلك - فيما يعطيه البحث الدقيق - إلى الاحكام الناشئة في ظرفي الحب والبغض فترى عين المبغض - وخاصة في حال الغضب - عامة الاعمال الحسنة سيئة مذمومة، ويرى المحب إذا تاه في الغرام واستغرق في الوله أدنى غفلة قلبية عن محبوبه ذنبا عظيما وإن اهتم بعمل الجوارح بتمام أركانه، وليس إلا ة نه يرى أن قيمة أعماله في سبيل الحب على قدر توجه نفسه و انجذاب قلبه إلى محبوبه فإذا انقطع عنه بغفلة قلبية فقد أعرض عن المحبوب و انقطع عن ذكره وأبطل طهارة قلبه بذلك. حتى أن الاشتغال بضروريات الحياة من أكل وشرب ونحوهما يعد عنده من الاجرام والعصيان نظرا إلى أن أصل الفعل وإن كان من الضرورى الذى يضطر إليه الانسان لكن كل واحد واحد من هذه الافعال الاضطرارية من حيث أصله اختياري في نفسه، والاشتغال به اشتغال بغير المحبوب وإعراض عنه اختيارا وهو من الذنب، ولذلك نرى أهل الوله والغرام وكذا المحزون الكئيب ومن في عداد هؤلاء يستنكفون عن الاشتغال بأكل أو شرب أو نحوهما. وعلى نحو من هذا القبيل ينبغى أن يحمل ما ربما يروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " إنه ليغان على قلبى فأستغفر الله كل يوم سبعين مرة "، وعليه يمكن أن يحمل بوجه قوله تعالى: " واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار " (المؤمن: 55) وقوله " فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " (النصر: 3) وعليه يحمل ما حكى تعالى عن عدة من أنبيائه الكرام كقول نوح: " رب اغفر لي

[ 367 ]

ولوالدي ولمن دخل بيتى مؤمنا " (نوح: 28) وقول إبراهيم: " ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب " (إبراهيم: 41) وقول موسى لنفسه وأخيه: " رب اغفر لي ولاخى وأدخلنا في رحمتك " (الاعراف: 151) وما حكى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " (البقرة: 285). فإن الانبياء عليهم السلام مع عصمتهم لا يتأتى أن تصدر عنهم المعصية، ويقترفوا الذنب بمعنى مخالفة مادة من المواد الدينية التى هم المرسلون للدعوة إليها، والقائمون قولا وفعلا بالتبليغ لها، و المفترض طاعتهم من عند الله، ولا معنى لافتراض طاعة من لا يؤمن وقوع المعصية منه، تعالى الله عن ذلك. وهكذا يحمل على هذا الباب ما حكى عن بعضهم عليهم السلام من الاعتراف بالظلم ونحوه كقول ذى النون: " لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين " (الانبياء: 87) إذ كما يجوز عدهم بعض الاعمال المباحة الصادرة عنهم ذنبا لانفسهم وطلب المغفرة من الله سبحانه، كذلك يجوز عده ظلما من أنفسهم لان كل ذنب ظلم. وقد مر أن هنالك محملا آخر وهو أن يكون المراد بالظلم هو الظلم على النفس كما في قول آدم وزوجته: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " (الاعراف: 23). وإياك أن تتوهم أن معنى قولنا في آية: إن لها محملا كذا ومحملا كذا هو تسليم أن ذلك من خلاف ظاهر الكلام ثم الاجتهاد في اختلاف معنى يحمل عليه الكلام، وتطبق عليه الايات القرآنية تحفظا على الاراء المذهبية، واضطرارا من قبل التعصب. وقد تقدم البحث الحر في عصمة الانبياء عليهم السلام بالتدبر في الايات أنفسها من غير اعتماد على المقدمات الغريبة الاجنبية في الجزء الثاني من الكتاب. وقد بينا هناك وفي غيره أن ظاهر الكلام لا يقتصر في تشخيصه على الفهم العامي المتعلق بنفس الجملة المبحوث عنها بل للقرائن المقاميه والكلامية المتصلة والمنفصلة - كالاية المتعرضة لمعنى آية أخرى - تأثير قاطع في الظواهر، وخاصة في الكلام الالهى الذى بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ويصدق بعضه بعضا.

[ 368 ]

والغفلة عن هذه النكتة هي التى أشاعت بين عدة من المفسرين وأهل الكلام إبداع التأويل بمعنى صرف الكلام إلى ما يخالف ظاهره، وارتكابه في الايات المخالفة لمذهبهم الخاص على زعمهم، فتراهم يقطعون القرآن قطعا ثم يحملون كل قطعة منها على ما يفهمه العامي السوقى من كلام سوقى مثله فإذا سمعوه تعالى يقول: " فظن أن لن نقدر عليه " حملوه على أنه عليهم السلام - وحاشاه - زعم أو أيقن أن الله سبحانه يعجز عن أخذه مع أن ما في الاية التالية: " وكذلك ننجي المؤمنين " يعده من المؤمنين، ولا إيمان لمن شك في قدرة الله فضلا عن أن يرجح أو يقطع بعجزه. وإذا سمعوه تعالى يقول: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر تفهموا منه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أذنب فغفر الله له كما يذنب الواحد منا بمخالفة أمر أو نهى مولوى من الله تنعقد بهما مسألة فرعية فقهية. ولم يهدهم التدبر حتى بمقدار أن يرجعوا إلى سابقة الاية: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " حتى ينجلى لهم أن هذا الذنب والمغفرة المتعلقة به لو كانا كالذنوب التى لنا والمغفرة التى تتعلق بها لم يكن وجه لتعليق المغفرة على فتح مكة تعليق الغاية على ذى الغاية وكذا لم يكن وجه لعطف ما عطف عليه أعنى قوله: " ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا " (الفتح: 3). وكذا إذا سمعوا سائر الايات التى تشتمل على عثرات الانبياء بزعمهم كالتى وردت في قصص آدم ونوح وإبراهيم ولوط ويعقوب ويوسف وداود وسليمان وأيوب ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم بادروا إلى الطعن في ساحة نزاهتهم، ولم ينقبضوا عن إساءة الادب إليهم وهم أنفسهم أولى بما رموا ولا شين كسوء الادب. فساقهم سوء الحظ ورداءة النظر إلى أن أبدلوا ربهم رب العالمين برب تنعته التوراة والاناجيل المحرفة قوة غيبية متجسدة تدير رحى الوجود كما يدير جبار من جبابرة الانسان مملكته لاهم له إلا إشباع طاغية شهوته وغضبه فجهلوا مقام ربهم ثم سهوا عن مقام النبوة وعفوا مدارجهم العالية الشريفة الروحية ومقاماتهم السامية الحقيقية فعادت بذلك هاتيك النفوس الطاهرة المقدسة تماثل النفوس الرديئة الخسيسة التى ليس لها من شرف الانسانية إلا التسمى باسمها، تهلك من (1) هذا نفسه وتخون من ذاك عرضه،

_____________________________

(1) راجع ما رووه في داود وسليمان وفى إبراهيم ولوط وغيرهم عليهم السلام. (*)

[ 369 ]

وتطمع من ذلك في ماله مع أنهم على ما لهم من الجهل لا يرضون بهذه الفضائح فيمن يتقلد أمرا من امور دنياهم أو يتصدى يوما للقيام بمصلحة بيتهم وأهلهم فكيف يرضون بنسبة هذه الفضائح إلى الله سبحانه وهو العليم الحكيم الذى أرسل رسله إلى عباده لئلا يكون لهم حجة بعدهم ؟ وليت شعرى أي حجة تقوم على كافر أو فاسق إذا جاز للرسول أن يكفر أو يفجر أو يدعو إلى الشرك والوثنية ثم يتبرأ منه وينسبه إلى الشيطان ؟. وإذا ذكروا ببعض مالانبياء الله عليهم السلام من العصمة الالهية، والمقامات الموهوبة والمواقف الروحية عدوا ذلك شركا بالله، وغلوا في حق عباد الله، وأخذوا في تلاوة قوله: " قل إنما أنا بشر مثلكم. وقد أصابوا في ردهم بوجه فإن ما يتصورونه من الرب عزاسمه وينعتونه بها من النعوت في ذاته وفعله دون ما يذكرون به من مقامات الانبياء عليهم السلام وأخفض منها منزلة وقدرا، وهذا كله من المصائب التى لقيتها الاسلام وأهله مما دسته أهل الكتاب وخاصة اليهود في الروايات وعملته أيديهم، وحركوا بها الرحى على غير محوره، واعتقدوا في الله سبحانه الذى ليس كمثله شئ أنه مثل الانسان المتجبر الذى يرى لنفسه أنه حر غير مسؤول فيما يفعل وهم المسؤولون، وأن ترتب المسببات على أسبابها واستيلاد المقدمات نتائجها، واقتضاء الخصائص الوجودية صورية أو معنوية لاثارها كل ذلك جزافي لا لرابطة حقيقية. وأن الله تعالى ختم بمحمد النبوة وأنزل عليه القرآن، وخص موسى بالتكليم، وعيسى بالتأييد بالروح لا لخصوصية في نفوسهم الشريفة بل لانه أراد أن يخصهم بكذا وبكذا، وأن ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت كضرب أحدنا بعصاه الحجر غير أن الله يفجر ذاك ولا يفجر هذا، وأن قول عيسى للموتى: قوموا بإذن الله مثل أن ينادى أحدنا بين المقابر: قوموا بإذن الله إلا أن الله يحيى اولئك ولا يحيى هؤلاء وهكذا. وليس ذلك كله إلا قياسا لنظام التكوين إلى نظام التشريع الذى لا قوام له إلا الوضع والاصطلاح والتعاهد الذى يتجاوز ظرف الاجتماع سعه، ولا يعدو دنيا الانسان المجتمع.

[ 370 ]

ولو أنهم تفطنوا قليلا وتدبروا في أطراف الايات المتعرضأ لامر الذنب والمعصية بالمعنى المصطلح عليه، وهى مخالفة الامر والنهى المولويين تنبهوا إلى أن من المغفرة ما هو فوق المغفرة المعروفة. فإن الله سبحانه يكرر في كلامه أن له عبادا يسميهم بالمخلصين مصونين عن المعصية لا مطمع فيهم للشيطان فلا ذنب - بالمعنى المعروف - لهم ولا حاجة إلى المغفرة المتعلقة بذلك الذنب، وقد نص في حق عدة من أنبيائه كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى أنهم مخلصون كقوله في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " (ص: 46) وقوله في يوسف: " إنه من عبادنا المخلصين " (يوسف: 24) وقوله في موسى: " إنه كان مخلصا " (مريم: 51) وقد حكى عنهم سؤال المغفرة كقول إبراهيم عليه السلام: " ربنا اغفر لي ولوالدي " (إبراهيم: 41) وقول موسى عليه السلام: " رب اغفر لي ولاخى وأدخلنا في رحمتك " (الاعراف: 151) ولو كانت المغفرة لا يتعلق إلا بالذنب بالمعنى المعروف لم يستقم ذلك. نعم ربما قال القائل: إنهم عليه السلام يعدون أنفسهم مذنبين تواضعا لله سبحانه ولا ذنب لهم لكن ينبغى لهذا القائل أن يتنبه إلى أنهم عليهم السلام لم يخطأوا في نظرهم هذا، ولم يجازفوا في قولهم فلشمول المغفرة لهم معنى صحيح والمسألة جدية. على أن في دعاء إبراهيم عليه السلام: " ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب " دعاء لكافة المؤمنين - وفيهم المخلصون - بالمغفرة، وكذا في دعاء نوح عليه السلام: " رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات " (نوح: 28) شمول بإطلاقه للمخلصين، ولا معنى لطلب المغفرة على من لا ذنب له يحتاج إلى المغفرة. فهذا كله ينبهنا إلى أن من الذنب المتعلق به المغفرة ما هو غير الذنب بالمعنى المتعارف وكذا من المغفرة ماهى غير المغفرة بمعناها المتعارف، وقد حكى الله تعالى عن إبراهيم قوله: " والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتي يوم الدين " (الشعراء: 82) ولعل هذا هو السبب فيما نشاهد أنه تعالى في موارد من كلامه إذا ذكر الرحمة أو الرحمة الاخروية التى هي الجنة قدم عليه ذكر المغفرة كقوله: " وقل رب اغفر وارحم " (المؤمنون: 118) وقوله: " واغفر لنا وارحمنا " (البقرة: 286) وقوله حكاية عن آدم وزوجته: " وإن

[ 371 ]

لم تغفر لنا وترحمنا " (الاعراف: 23) وقوله عن نوح عليه السلام: " وإلا تغفر لى وترحمني " (هود: 47). فتحصل من البيان السابق: أن للذنب مراتب مختلفة مترتبة طولا كما أن للمغفرة مراتب بحذائها، تتعلق كل مرتبة من المغفرة بما يحاذيها من الذنب، وليس من اللازم أن يكون كل ذنب وخطيئة متعلقا بأمر أو نهى مولوى فيعرفه ويتبينه الافهام العامية الساذجة، ولا أن يكون كل مغفرة متعلقة بهذا النوع من الذنب. فالذي تبين لنا من مراتب الذنب والمغفرة بحسب البحث السابق العام مراتب أربع: ولاها: الذنب المتعلق بالامر والنهى المولويين وهو المخالفة لحكم شرعى فرعى أو أصلى وإن عممت التعبير قلت: مخالفة مادة من المواد القانونية دينية كانت أو غير دينية، وتتعلق به مغفرة تحاذية مرتبة. والثانية: الذنب المتعلق بالحكم العقلي الخلقى والمغفرة المتعلقة به. والثالثة: الذنب المتعلق بالحكم الادبى ممن ظرف حياته ظرف الادب والمغفرة المتعلقة به، وهذان القسمان ربما لم يعدا بحسب الفهم العامي من الذنوب والمغفرات، وربما حسبوهما منها مجازا، وليس من المجاز في شئ لما عرفت من ترتب الاثار الحقيقية عليهما. والرابعة: الذنب الذى يحكم به ذوق الحب والمغفرة المتعلقة به، وفى ظرف البغض أيضا مايشبههما، وهذا النوع لا يعده الفهم العامي من الاقسام، وقد أخطأوا في ذلك لا لجور منهم في الحكم والقضاء بل لقصور فهمهم عن تعقله وتبين معناه. وربما قال القائل منهم: إنه من أوهام العشاق والمبرسمين أو تخيل شعرى لا يتكئ على حقيقأ عقلية، وقد غفل عن أن هذه التصورات على أنها أوهام وتخيلات في طريق الحياة الاجتماعية هي بعينها تعود حقائق - وأى حقائق - في طريق العبودية عن حب إلهى يذيب القلب ويوله اللب، ولا يدع للانسان شعورا يشعر بغير ربه، ولا إرادة يريد بها إلا ما يريده. وحينئذ يلوح له أن التفاتة يسيرة منه إلى نفسه أو إلى مشتهاها من شئ ذنب عظيم وحجاب غليظ لا ترفعه إلا المغفرة الالهية، وقد عد الله سبحانه الذنب حجابا للقلب

[ 372 ]

عن التوجه التام إلى ربه إذ قال: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " (المطففين: 15). فهذا ما يعطيه البحث الجدى الذى لا يلعب فيه بالحقائق، وربما أمكن أن يلوح لاولياء الله السالكين في عبوديتهم سبيل حبه تعالى دقائق من الذنب ولطائف من المغفرة لا تكاد تناله أيدى الابحاث الكلية العامة. 5 - هل المؤاخذة أو المغفرة تستلزم ذنبا ؟: الباحث في ديدن العقلاء من أهل الاجتماع يعثر على أنهم يبنون المؤاخذة والعقاب على التكليف الاختياري، ومن شرائط صحته عندهم العقل، وهناك شرائط أخر تختلف في أصلها وفى تحديد ماهياتها وحدودها المجتمعات، ولسنا هيهنا بصدد البحث عنها. وإنما كلامنا في العقل الذى هو قوة التمييز بين الحسن والقبح والنافع والضار والخير والشر بحسب المتوسط من حال الناس في مجتمعهم، فإن الناس من حيث النظر الاجتماعي يرون أن في الانسان مبدء فعالا هذا شأنه وإن كان البحث العلمي ربما أدى إلى أنه ليست قوة من القوى الطبيعية المودوعة في الانسان كالمتخيلة والحافظة، وإنما هي ملكة حاصلة من توافق عدة من القوى في الفعل كالعدالة. فالمجتمعات على اختلافها ترى أن التكليف منوط بهذا المسمى عقلا فيتفرع الثواب والعقاب المتفرعين على التكليف عليه لا محالة فيثاب العاقل بطاعته ويعاقب بجرمه. وأما غير العاقل كالصبى والمجنون والسفيه وكل مستضعف غيرهم فلا ثواب ولا عقاب على ما يأتون به من طاعة أو معصية بحقيقة معنى الثواب والعقاب، وإن كانوا ربما يثابون قبال طاعتهم ثوابا تشويقيا أو يؤاخذون ويساسون قبال جرمهم بما يسمى عقابا تأديبا وهذا شائع دائر في المجتمعات حتى المجتمع الاسلامي. وهؤلاء بالنظر إلى السعادة والشقاوة المكتسبتين بامتثال التكاليف ومخالفتها في الحياة الدنيا، لا سعداء ولا أشقياء إذ لا تكليف لهم فلا ثواب حتى يسعدوا به ولا عقاب حتى يشقوا به، وإن كانوا ربما يشوقون بخير أو يؤدبون بشر. وأما بالنسبة إلى الحياة الاخرة التى يثبتها الدين الالهى ثم يقسم الناس إلى قسمين

[ 373 ]

لا ثالث لهما: السعيد والشقى أو المثاب والمعاقب فالذي يذكره القرآن الشريف في ذلك أمر إجمالي لا يتبين تفصيله إذ لا طريق عقلا إلى تشخيص تفاصيل أحوالهم بعد الدنيا، قال تعالى: " وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم " (التوبة: 106)، وقال تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " (النساء: 99). والايات - كما ترى - تشتمل على العفو عنهم والتوبة عليهم ولا مغفرة في مورد لا ذنب هناك، وعلى عذابهم ولا عذاب على من لا تكليف له، غير أنك عرفت أن الذنب وكذا المغفرة والعقاب والثواب ذوات مراتب مختلفة: منها ما يتعلق بمخالفة التكليف المولوي أو العقلي، ومنها ما يتعلق بالهيئات النفسانية الرديئة وأدران القلب التى تحجب الانسان عن ربه، وهؤلاء وإن كانوا في معزل من تعلق التكليف المتوقف على العقل لكنهم ليسوا بمصونين من ألواث النفوس وأستار القلوب التى يحتاج التنعم بنعيم القرب، والحضور في ساحة القدس إلى إزالتها وعفوها والستر عليها ومغفرتها. ولعل هذا هو المراد مما ورد في بعض الروايات: " إن الله سبحانه يحشرهم ثم يخلق نارا ويأمرهم بدخولها فمن دخلها دخل الجنة ومن أبى أن يدخلها دخل النار " وسيجئ ما يتعلق بالروايات من الكلام في تفسير سورة التوبة إن شاء الله، وقد مر بعض الكلام في سورة النساء. ومن استعمال العفو والمغفرة في غير مورد الذنب في كلامه تعالى ما تكرر وقوعه في مورد رفع الحكم بقوله تعالى: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم " (المائدة: 3)، ونظيره ما في سورة الانعام، وقوله تعالى في رفع الوضوء عن فاقد الماء: " وإن كنتم مرضى أو على سفر - إلى أن قال - فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا " (النساء: 43)، وقوله في حد المفسدين في الارض: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " (المائدة: 34)، وقوله في رفع حكم الجهاد عن المعذورين: " ما على المحسنين

[ 374 ]

من سبيل والله غفور رحيم " (التوبة: 91)، إلى غير ذلك. وقال تعالى في البلايا والمصائب التى تصيب الناس: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير " (الشورى: 30). وينكشف بذلك أن صفة العفو والمغفرة منه تعالى كصفتى الرحمة والهداية تتعلق بالامور التكوينية والتشريعية جميعا فهو تعالى يعفو عن الذنوب والمعاصي فيمحوها من صحيفة الاعمال، ويعفو عن الحكم الذى له مقتض يقتضى وضعه فيمحوه فلا يشرعه، ويعفو عن البلايا والمصائب وأسبابها قائمة فيمحوها فلا تصيب الانسان. 6 - رابطة العمل والجزاء: قد عرفنا فيما تقدم من البحث أن الاوامر والنواهي العقلائية - القوانين الدائرة بينهم - تستعقب آثارا جميلة حسنة على امتثالها وهى الثواب، وآثارا سيئة على مخالفتها والتمرد منها تسمى عقابا، وأن ذلك كالحيلة يحتالون بها إلى العمل بها، فجعلهم الجزاء الحسن للامتثال إنما هو ليكون مشوقا للعامل، والجزاء السيئ على المخالفة ليكون العامل على خوف وحذر من التمرد. ومن هنا يظهر أن الرابطة بين العمل والجزاء رابطة جعلية وضعية من المجتمع أو من ولى الامر، دعاهم إلى هذا الجعل حاجتهم الشديدة إلى العمل ليستفيدوا منه ويرفعوا به الحاجة ويسدوا به الخلة، ولذلك تراهم إذا استغنوا وارتفعت حاجتهم إلى العمل ساهلوا في الوفاء على ما تعهدوا به من ثواب وعقاب. ولذلك أيضا ترى الجزاء يختلف كثرة وقلة والاجر يتفاوت شدة وضعفا باختلاف الحاجة إلى العمل فكلما زادت الحاجة زاد الاجر وكلما نقصت نقص، فالامر والمأمور والمكلف والمكلف بمنزلة البائع والمشترى كل منهما يعطى شيئا ويأخذ شيئا. والاجر والثواب بمنزلة الثمن، والعقاب بمنزلة الدرك على من أتلف شيئا فضمن قيمته واستقرت في ذمته. وبالجملة فهو أمر وضعي اعتباري نظير سائر العناوين والاحكام والموازين الاجتماعية التى يدور عليها رحى الاجتماع الانساني كالرئاسة والمرؤوسية والامر والنهى والطاعة والمعصية والوجوب والحرمة والملك والمال والبيع والشراء وغير ذلك، وإنما الحقائق

[ 375 ]

هي الموجودات الخارجية والحوادث المكتنفة بها التى لا تختلف حالها بغنى وفقر وعز وذل ومدح وذم كالارض وما يخرج منها والموت والحياة والصحة والمرض والجوع والشبع والظمأ والرى. فهذا ما عند العقلاء من أهل الاجتماع، والله سبحانه جارانا في كلامه مجاراة بعضنا بعضا فقلب سعادتنا التى يهدينا إليها بدينه في قالب السنن الاجتماعية فأمر ونهى ورغب وحذر، وبشر وأنذر، ووعد بالثواب وأوعد بالعقاب فصرنا نتلقى الدين على أسهل الوجوه التى نتلقى بها السنن والقوانين الاجتماعية، قال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " (النور: 21). ولم يهمل سبحانه أمر تعليم النفوس المستعدة لادراك الحقائق فأشار في آيات من كلامه إلى أن وراء هذه المعارف الدينية التى تشتمل عليها ظواهر الكتاب والسنة أمرا هو أعظم، وسرا هو أنفس وأبهى فقال تعالى: " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان " (العنكبوت: 64). فعد الحياة الدنيا لعبا لا بنية له إلا الخيال، ولا شأن له إلا أن يشغل الانسان عما يهمه، وهى الدار الاخرة وسعادة الانسان الدائمة التى لها حقيقة الحياة، والمراد بالحياة الدنيا إن كان هو عين ما نسميه حياة دون ما يلحق بها من الشؤون الحيوية من مال وجاه وملك وعزة وكرامة ونحوها فكونها لعبا ولهوا مع ما نراها من الحقائق يستلزم كون الشؤون الحيوية لعبا ولهوا بطريق أولى، وإن كان المراد الحياة الدنيوية بجميع لواحقها فالامر أوضح. فهذه السنن الاجتماعية والمقاصد التى يطلب بها من عز وجاه ومال وغيرها، ثم الذى يشتمل عليه التعليم الدينى من مواد ومقاصد هدانا الله سبحانه إليها بالفطرة ثم بالرسالة مثلها كمثل اللعب الذى يضعه الولى المربى العاقل للطفل الصغير الذى لا يميز صلاحه من فساده وخيره من شره ثم يجاريه فيه ليروض بدنه ويروح ذهنه ويهيئه لنظام العمل وابتغاء الفوز به، فالذي يقع من العمل اللعبى هو من الصبى لعب جميل يهديه إلى حد العمل، ومن الولى حكمة وعمل جدى ليس من اللعب في شئ. وقال تعالى: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين، وما خلقناهما

[ 376 ]

إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون " (الدخان: 39) والاية قريبة المضمون من الاية السابقة. ثم شرح تعالى كيفية تأدية هذه التربية الصورية إلى مقاصدها المعنوية في مثل عام ضربه للناس فقال: " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض " (الرعد: 17). فظهر من بيانه تعالى أن بين العمل والجزاء رابطة حقيقية وراء الرابطة الوضعية الاعتبارية التى بينهما عند أهل الاجتماع ويجرى عليها ظاهر تعليمه تعالى. 7 - والعمل يؤدى الرابطة إلى النفس: ثم بين تعالى أن العمل يؤدى هذه الرابطة إلى النفس من جهة الهيئة النفسانية التى تحصل لها من العمل والحالة التى تؤديها إليها فقال تعالى: " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " (البقرة: 225)، وقال: " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " (البقرة: 284) وفى هذا المعنى آيات أخر كثيرة. ويتبين بها أن جميع الاثار المترتبة على الاعمال من ثواب أو عقاب إنما تترتب بالحقيقة على ما تكسبه النفوس من طريق الاعمال، وأن ليس للاعمال إلا الوساطة. ثم بين تعالى أن الذى سيواجههم من الجزاء على الاعمال إنما هو نفس الاعمال بحسب الحقيقة لا كما يضع الانسان في مجتمعه عملا ثم يردفه بجزاء بل العمل محفوظ عند الله سبحانه بانحفاظ النفس العاملة ثم يظهره الله عليها يوم تبلى السرائر قال الله تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا " (آل عمران: 30) وقال تعالى: " لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " (التحريم: 7) ودلالة الايات ظاهرة، وتلحق بها في ذلك آيات أخر كثيرة. ومن أحسنها دلالة قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " (ق: 22) فإن هذا إشارة إلى مقام الجزاء الحاضر، وقد عده غافلا عنه في الدنيا بقرينة قوله: " اليوم " ولا معنى للغفلة إلا عن أمر موجود، ثم

[ 377 ]

ذكر كشف غطائه عنه، ولا وجه للغطاء إلا أن يكون هناك مغطى عليه، فقد كان ما يلقاه ويبصره من الجزاء يوم القيامة حاضرا موجودا في الدنيا غير أنه لم يكشف عنه. وهذه الايات تفسر الايات الاخر الظاهرة في المجازاة وبينونة العمل والجزاء لكون آيات المجازاة ناظرة إلى مرحلة الرابطة الاجتماعية الوضعية، وهذه الايات ناظرة إلى " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " (البقرة: 284) وفى هذا المعنى آيات أخر كثيرة. ويتبين بها أن جميع الاثار المترتبة على الاعمال من ثواب أو عقاب إنما تترتب بالحقيقة على ما تكسبه النفوس من طريق الاعمال، وأن ليس للاعمال إلا الوساطة. ثم بين تعالى أن الذى سيواجههم من الجزاء على الاعمال إنما هو نفس الاعمال بحسب الحقيقة لا كما يضع الانسان في مجتمعه عملا ثم يردفه بجزاء بل العمل محفوظ عند الله سبحانه بانحفاظ النفس العاملة ثم يظهره الله عليها يوم تبلى السرائر قال الله تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا " (آل عمران: 30) وقال تعالى: " لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " (التحريم: 7) ودلالة الايات ظاهرة، وتلحق بها في ذلك آيات أخر كثيرة. ومن أحسنها دلالة قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " (ق: 22) فإن هذا إشارة إلى مقام الجزاء الحاضر، وقد عده غافلا عنه في الدنيا بقرينة قوله: " اليوم " ولا معنى للغفلة إلا عن أمر موجود، ثم

[ 377 ]

ذكر كشف غطائه عنه، ولا وجه للغطاء إلا أن يكون هناك مغطى عليه، فقد كان ما يلقاه ويبصره من الجزاء يوم القيامة حاضرا موجودا في الدنيا غير أنه لم يكشف عنه. وهذه الايات تفسر الايات الاخر الظاهرة في المجازاة وبينونة العمل والجزاء لكون آيات المجازاة ناظرة إلى مرحلة الرابطة الاجتماعية الوضعية، وهذه الايات ناظرة إلى مرحلة الرابطة الحقيقية كما بيناه، وقد تعرضنا لهذا البحث بعض التعرض في تفسير قوله تعالى: " ختم الله على قلوبهم " (البقرة: 7) في الجزء الاول من الكتاب فليراجعه من شاء. والله الهادى. (تم والحمد لله)

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21394458

  • التاريخ : 16/04/2024 - 12:45

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net