00989338131045
 
 
 
 
 
 

 قصة طالوت 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الاول   ||   تأليف : الدكتور محمود البستاني

                              قصة طالوت

 

إنّ هذه القصة تحتل موقعا بالغ الأهمية من عمارة السورة الكريمة، فهي تتصل بسلوك الإسرائيليين الذين يحتلون ثلث السورة تقريباً، وتتصل بأهم ملامح السلوك الكاشف عن حجم تمرداتهم، حيث توضح هذه القصة موقفهم من (القتال) ـ وهو موضوع له صلته بفكرة القتال الذي ستطرحه السورة ـ وحصيلة سلوكهم الذي يطبعه الجبن والعناد والتمرد...الخ.

 

تلخيص القصة

 

تتلخص القصة في طلب وجهاء الإسرائيليين إلى أحد أنبيائهم أن يبعث لهم الله تعالى قائداً ينتشلهم من استذلال الجبابرة حيث أخرجوهم من ديارهم وسبوا ذراريهم واستحيوا نساءهم، وبعث الله تعالى لهم طالوت، إلا أنهم اعترضوا على ذلك بكونه غير منحدر من أسرة عسكرية أو دينية، وأجابهم نبيهم بأنه ذو كفاءة بدنية وعلمية، وحينئذ طلبوا دليلاً على صدق ما يقول، فأوضح لهم أن آية ذلك هو التابوت الذي يمثل واحداً من الآثار الإسرائيلية التي يعترفون بأهميتها، غير أنهم للمرة الثالثة صدر عنهم تمرد جديد هو عدم انصياعهم لأوامر القائد الذي طلب منهم ألاّ يشربوا من نهر خاص (وكان ذلك من أجل الاختبار)، ولما تجاوزوا ذلك، قال المتمردون: إنه لا طاقة لهم بمحاربة العدوّ... بيد أن المعركة حدثت وانتصر طالوت، وحُسم الموقف.

 

 

* * *

 

ما يعنينا من هذه القصة هو ملاحظة عمارتها الفنية من جانب، وصلتها بعمارة السورة من جانب آخر.

 

______________________________________________________

الصفحة 115

 

1 ـ من حيث الحوادث

 

أمّا عمارتها (أي القصة) فيلاحظ أن القصة بدأت من وسط الحوادث أو المواقف وهي مطالبة الإسرائيليين بأن يبعث الله تعالى لهم قائداً ليقاتلوا في سبيل الله، وعندما شكك نبيّهم بجدية ما يقولون، أجابوه بأنهم قد أخرجوا من ديارهم وأن الجبابرة قد استذلوهم...الخ، بمعنى أن القصة بدأت من وسط الحوادث وارتدّت إلى أولّها وهي استذلال الجبابرة لهم وإخراجهم من الديار. ولهذا الاستهلال من وسط الحوادث: دلالته الخاصة، حيث أن النص يستهدف لفت النظر إلى ظاهرة (القتال) كما أشرنا، ثم لفت النظر إلى عدم جدية الإسرائيليين حيث أبرز النص ذلك من خلال تشكيك نبيهم بهم حيث قال لهم (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألاّ تقاتلوا). وهذا التشكيك له أهميته العضوية في عمارة النص ما دام النص (أي سورة البقرة) وظّفت للكشف عن السلوك المنحرف لدى الإسرائيليين.

وهذا فيما يرتبط ببداية القصة وعلاقتها بعمارة السورة. أما ما يتصل بعمارة القصة ذاتها، فإن البداية التي شكّكت بجدية الإسرائيليين في القتال، أي: تشكيك نبيّهم بذلك في قوله (هل عسيتم... ألاّ تقاتلوا)، إن هذا التشكيك سوف ينعكس على عمارة القصة، حين نجد في وسطها حادثتين تعكس عدم جديتهم، وهما: عدم الانصياع لأوامر القائد بعدم الشرب من النهر، وهروبهم من المعركة قبل شروعها عندما قالوا: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) [البقرة: 249].

وأما انعكاس الحوادث الأخرى أحدها على الآخر بصورة عامة، فيتضح من الطرف الآخر من الشخوص ـ وهم القلة ـ الذين اهتموا بأوامر القائد (فشربوا منه إلا قليلاً)، وهم القلة ذاتها ممن لم يهربوا من المعركة ولم

 

______________________________________________________

الصفحة 116

 

يقولوا لا طاقة لنا بجالوت، بل قالوا: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة)، ومن الواضح أن لهذا القول أهميته العضوية في عمارة القصة، حيث انعكس ذلك على نتيجة المعركة التي انتهت بانتصارهم على عدوهم (فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت...) أي: أن قولهم (كم من فئة قليلة...) تنامى عضوياً ليصل إلى مرحلة تجسيد ذلك في عملية انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة كما قالوا.

وإذا تركنا الحوادث، واتجهنا إلى رسم الشخوص، نجد أن عمارة هذه القصة:

 

2 ـ من حيث الشخوص

 

عمارة هذه القصة من حيث شخوصها، تقوم على مبنى عضوي يتجانس من خلال رسم ملامحهم مع طبيعة الأفكار التي طرحتها القصة، فمثلاً نجد أن القصة رسمت ملامح طالوت على هذا النحو (وزاده بسطة في العلم والجسم) فالملاحظ أن الإسرائيليين قد اعترضوا على هذا القائد بكونه لم ينتسب إلى سلالتهم الموروثة من الملك، وبكونه فقيراً، ولكن النص أجابهم بأن الله تعالى: (زاده بسطة في العلم والجسم)، وهاتان الصفتان: قوة الجسم وسعة العلم، تشكّلان جواباً على اعتراضهم الهزيل، أنهم لم يبحثوا عن السمات الحقيقية للبطل بل انطلقوا من حسٍّ عنصري واقتصادي، وكلاهما لا علاقة لهما بالكفاءة العسكرية، ولذلك جاء الجواب ليقدّم لهم السمات التي ينبغي أن تتوفر في القائد العسكري، وهي: السمة الجسمية ـ أي قوة الجسم ـ، بخاصة أن المعارك قديماً تعتمد على بطولة الجسم، ثم: سمة العلم: ـ أي الخبرة العسكرية ـ التي تعني معرفة الخطط العسكرية في مواجهتهم العدو.

وبالفعل، نجد أن المعركة قد انتهت بهزيمة العدو، ممّا يكشف ذلك عن أنّ الرسم لهذا البطل من خلال سمتي الجسم والعلم، عكس آثاره على عمارة

 

______________________________________________________

الصفحة 117

 

القصة بالنحو الذي أوضحناه...

فإذا تركنا شخصية طالوت واتجهنا إلى شخصية النبيّ الذي تعامل مع الإسرائيليين، نجد أن القصة قد رسمته شخصية (مبهمة) لم تعرّفه بالاسم، ولم تحدّد الزمان أوالمكان اللذين وُجد فيهما النبيّ المذكور بل اكتفت بالقول بأنه (نبيّ) (من بعد موسى). ولهذا الإبهام لشخصية البطل وزمانه ومكانه: علاقة عضوية بعمارة القصة وبعمارة السورة أيضاً، فالمهم هو أن النص في صدد الكشف عن السلوك السلبي للإسرائيليين (الجبن، التمرّد، العناد، الهزال الفكري...الخ)، وقد وُظّفت هذه القصة لإنارة أو لإلقاء الضوء على السلوك المذكور، وحينئذٍ لا ضرورة للتعريف باسم النبيّ ولا ضرورة لتحديد زمانه ومكانه بل المهم هو أن تنتخب شخصية ذات موقع خاص ترتبط من جانب بالسماء ومن جانب آخر بالإسرائيليين، أما ارتباطها بالسماء وبهم فلأجل أنهم أرادوا تدخل السماء لإنقاذهم من استعباد العدوّ، فلابدّ حينئذٍ أن يحمل صفة (نبيّ) يكون واسطة بين السماء وبين الإسرائيليين. وأما تحديد الزمان بأنه (من بعد موسى) فتتمثل أهميته الهندسية من عمارة السورة في أن النص يتحدث عن الإسرائيليين بعامة، وقد سبق له أن تحدث عن سلوكهم في زمن موسى ـ عليه السلام ـ في القسم الثالث من النص، ووجدنا أن غالبية المفارقات التي عرضها النص كانت منصبّة على تعاملهم مع موسى، وحينئذٍ فإن تحديد الزمن ـ في هذه القصة ـ بكونه هو من بعد موسى دون الدخول في التفصيلات يكشف عن جملة خطوط هندسية ترتبط بعمارة السورة، منها: أن موسى هو الشخصية النبوية الرئيسة التي ينتسبون إليها إيديولوجيّاً ومنها: أن الكشف عن سلوكهم في زمانه قد انتُهي منه، ولابدّ من متابعة الكشف للأزمنة اللاحقة (وقد تمّ هذا أيضاً في القسم الثالث من النص)، فكان التحديد بأنه في زمان يعقب زمان موسى: تحديداً يكشف عن دلالة أنّهم يشكّلون سلسلة لا انقطاع لها من السلوك المنحرف طوال التاريخ.

 

______________________________________________________

الصفحة 118

 

وأما بالنسبة إلى عنصر (البيئة) في هذه القصة وعلاقة ذلك بعمارتها وعمارة السورة الكريمة، فيلاحظ تنوع هذه البيئة جغرافياً وصناعياً وتاريخياً...الخ، فالبيئة (النهرية) فرضت ضرورتها العضوية (إن الله مبتليكم بنهر) ما دامت القصة أساساً تتحدث عن السلوك الإسرائيلي والاختبارات التي فشلوا فيها... والبيئة الصناعية (وهي التابوت الذي يتضمن سكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون)، فتتضح علاقتها العضوية بالنص إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن النص هو في صدد الكشف عن جميع المستويات الهزيلة التي يصدرون عنها في سلوكهم، ومنها: العناد والمراوغة والرقاعة في طلباتهم... الخ، وحينئذ: لابدّ من تهيئة أية وسيلة اختبارية ترغمهم على قبول الواقع ومن ثم يتم الكشف عن استمرارية انحرافهم حتى بعد الإقرار بالواقع، وهذا ما تضمنته تجربة التابوت، حيث أن هذا التابوت يحمل تراث الإسرائيليين، فإذا شاهدوه حقيقة، تتمّ الحجة عليهم، وهذا ما حدث فعلاً حيث وافقوا على انتخاب طالوت: بعد أن طلبوا آية على ذلك، فكان التابوت. لكنهم مع ذلك ـ كما لحظنا ـ تمردوا على طالوت وهربوا من المعركة إلاّ قليلاً منهم.

إذن، جاء الرسم للبيئة وللشخوص وللحوادث، متجانساً مع طبيعة الأفكار التي تضمنتها القصة وعلاقتها بالأفكار المطروحة في السورة بعامة، بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

لحظنا، أن قصتي (الذين خرجوا من ديارهم) و(الملأ من بني إسرائيل)، جاءتا في سياق العرض لسلسلة الأحكام التي اضطلع بها القسم السادس من السورة، حيث أوضحنا العلاقة العضوية لهما بعمارة السورة الكريمة.

وفي الجزئية الجديدة التي نتحدث عنها، نواجه عنصراً قصصياً يتصل بفكرة (الإماتة والإحياء) التي تشكّل أحد المحاور الرئيسة للنص... إلاّ أنّ

 

______________________________________________________

الصفحة 119

 

الملاحظ، أن هذه الجزئية طرحت جملةً من الظواهر المتصلة بالأحكام وبغيرها من الظواهر التي تستهدف توصيلها في سياق الحديث عن هذا الجانب ومنها: ظاهرة (الإنفاق)، بصفتها إحدى الظواهر المتصلة بالأحكام، حيث طرحها النص في جملة من المواقع على نحو جزئي، وحيث سيطرحها مفصلاً بعد حديثه القصصي عن (الإماتة والإحياء).

ومن هذه الظواهر المطروحة، تواجهنا ظاهرة (الشفاعة) التي طرحها من القسم الثالث في السورة، ويطرحها الآن في سياق حديثه عن الإنفاق، ويطرحها بعد في آية الكرسي التي تتناول ظواهر عبادية مختلفة يستهدف النص لفت النظر إليها. إلا أن الخيط المشترك الذي يربط بين آيتي الكرسي والإنفاق والسلوك الإسرائيلي، هو: مفهوم (الشفاعة) حيث ينفيها النص عن المناخ غير المرتبط بمبادئ الله تعالى، لينتقل بعد ذلك إلى قصص الإحياء والإماتة، كما قلنا.

إذن، لنتحدث عن هذه القصص وبنائها الهندسي من جانب، وعلاقة ذلك ببناء السورة من جانب آخر.

 

قصص الإماتة والإحياء

 

نواجه في الجزئية الجديدة من القسم السادس من السورة، ثلاث قصص أو حكايات تصبّ جميعاً في فكرة (الإماتة والإحياء) التي تشكل أحد المحاور الرئيسة لأفكار السورة.

القصص هي:

1 ـ قصة إبراهيم مع نمرود.

2 ـ قصة المار على القرية.

3 ـ قصة الطيور الأربعة.

ونتحدث عن عمارة هذه القصص بمجموعها، وعمارة كل واحدة منها

 

______________________________________________________

الصفحة 120

 

والموقع العضوي لها من السورة الكريمة.

1 ـ عمارة القصص: الملاحظ، أن هذه القصص الثلاث تختلف عن قصتي (ذبح البقرة وإحياء القتيل) و(والألوف الذين أحياهم الله تعالى) في كونها مجموعة قصص متلاحقة وليست منفصلة أو متفرقة في مواقع متنوعة من السورة، وتختلف عنها بكونها جاءت في سياق واحد بالقياس إلى السياقين اللذين وردت فيهما القصتان السابقتان حيث وردت الأولى في سياق الكشف عن القاتل، والأخرى في سياق الهروب من الموت. أما هذه القصص الثلاث فقد وردت في سياق (الإحياء والإماتة) ذاتهما، أي: جاءت هذه القصص لبلورة فكرة الإحياء والإماتة. بحيث شكّلت هدفاً رئيساً، بينا جاءت القصتان السابقتان في سياق هدف ثانوي كما هو واضح.

ولعل السرّ الفني في ذلك هو أن القصتين السابقتين وما تضمنته الآيات القرآنية الأخرى من إشارات إلى ظاهرة الإماتة والإحياء، هذه جميعاً شكّلت تمهيداً أو توطئةً لهذه الفكرة التي حان الوقت للدخول في تفصيلاتها من خلال القصص الثلاث التي عبّرت عن هدفها بوضوح، حينما بدأت الأولى بعبارة (إذ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت) [البقرة: 258] وحيث بدأت الثانية بعبارة (قال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) [البقرة: 259]، وحيث بدأت الثالثة بعبارة (وإذ قال إبراهيم: ربّ أرني كيف تحيي الموتى) [البقرة: 260].

ومن الطبيعي، أنّ لهذا الاستهلال القصصي دلالته الفكرية التي تكشف ـ كما قلنا ـ عن أن هدف القصص هو التركيز على ظاهرة الإماتة والإحياء، كما أن لها دلالتها الهندسية التي تكشف عن ضخامة وجمالية وإحكام العمارة الفنية لهذه القصص.

إن أبرز ما يمكن ملاحظته في عمارة القصص، أنها تعدّ قُصصاً مستقلةً

 

______________________________________________________

الصفحة 121

 

من جانب وقصة متداخلة أو قصصاً داخل قصص من جانب آخر. أما المسوّغ الفني لكونها (قصصاً داخل قصص) فيتضح تماماً حين نأخذ بنظر الاعتبار أن هدفها واحد هو (الإحياء والإماتة)، وإن هذا الهدف يشكّل محوراً رئيساً وليس ثانوياً، وما دام الأمر كذلك، حينئذٍ فإن صياغتها ضمن عمارة قصصية واحدة (وليست منفصلة أو متفرقة) تحمل كامل مسوغات الفن القصصي كما هو واضح.

وأمّا المسوّغ الفني لجعلِها قصصاً مستقلة (في الآن ذاته) فيتضح تماماً حين نأخذ بنظر الاعتبار أن كل واحدة منها تتناول جانباً من مفهوم الإماتة والإحياء يختلف عن الآخر، فالأقصوصة الأولى تتحدث عن مطلق الإماتة والإحياء، والثانية تتحدث عن إماتة وإحياء مدينة، والثالثة تتحدث عن إحياء طيور، كما أن سياق كل واحد منها يختلف عن الآخر، فالأولى تتحدث عن شخصية كافرة تزعم أنها قادرة على أن تحيي وتميت (شخصية نمرود)، والثانية تتحدث عن شخصية مؤمنة ولكنها تستبعد إحياء المدينة من جديد، والثالثة تتحدث عن شخصية موقنة ولكنها تريد أن يطمئن قلبها وأن تشاهد تجربة الميت وإحياءه، إذن، كل قصة ذات جانب خاص وذات سياق خاص، مما يجعل صياغة كل واحدة مستقلة عن الأخرى، له مسوغاته الفنية، ولكن بما أنها جميعاً تصبّ في مفهوم واحد، وبما أنها تستهدف المفهوم المذكور بصورة رئيسة، حينئذٍ تأخذ ـ في الآن ذاته ـ مبنًى هندسياً خاصاً هو: تجميعها داخل قصة (موحّدة) كما لو افترضنا وجود ثلاث عمارات متجاورة ذات أحجام مختلفة ولكنها ذات تصميم واحد من حيث هدفها كأن تكون للسكن أو للتمثيل المسرحي أو لإلقاء المحاضرات أو لاستقبال الضيوف أو للتصنيع مثلاً...الخ.

ومما يجدر تأمله هنا (ونحن نتحدث عن المبنى العماري لهذه القصص

 

______________________________________________________

الصفحة 122

 

وعلاقتها فيما بينها وبين السورة الكريمة) أن قصّتين منها ـ وهما قصة إبراهيم مع نمرود وقصته مع الطيور الأربعة ـ ينتظمهما بطل واحد هو إبراهيم عليه السلام. ونحن نتذكر جيداً أن إبرهيم قد احتلّ الحديثُ عن شخصيته مساحة كبيرة من السورة لأسباب أوضحناها في حينه، وهذا يعني أن النص ـ في شبكة خطوطه العامة ـ لا يزال يصل بين خطوطها المتباعدة والمتقاربة حتى لا يفصل أحدهما عن جسم السورة الكريمة، لذلك فإنّ فكرة الإماتة والإحياء في هاتين القصتين تأخذ أبعاداً جديدة من الدلالة التي ينبغي لفت النظر إليها، فإبراهيم ـ عليه السلام ـ ـ في الحكاية الأولى ـ يتحدث باطمئنان عن قدرة الله تعالى في الإماتة والإحياء وفي القصة الثانية يطالب بتجربة عملية للاطمئنان، وهو أمر يكشف عن أن هدف النص هو تبيين جميع المستويات التي يصدر الإنسان عنها في استجابته وردّ فعله وتصوراته عن فكرة الإماتة والإحياء، فإذا ربطنا هذه الشخصية بشخصيتين أخريين هما نمرود والمارّ على القرية، وجدنا أن مستويات متفاوتة من التصورات هي التي قد أبرزتها الحكايات القصصية، وإن هذه المستويات قد تدرّجت في خط تصاعدي يفسّر لنا السرّ الهندسي الذي سلكته القصص الثلاث، حيث بدأت بقصة إبراهيم، فالمارّ على القرية، فالطيور، مع أنه كان من الممكن أن لا يُفصَل بين قصتي إبراهيم بقصة المارّ على القرية، ولكن بما أنّ القصة الأولى قد استهدفت من جانب أن تبرز مفروضية القدرة على الإحياء والإماتة، حينئذ رسمت شخصيتين إحداهما شخصية إبراهيم المطمئنة بذلك والأخرى شخصية نمرود الجاحدة، ولكن المحاجة أو المناقشة قد انتهت بتسليم الجاحد (فبهت الذي كفر) [البقرة: 258] أي: أقرّ بأنّ الإماتة والإحياء تنحصر فاعليتهما في الله تعالى بقرينة أن ما توهمه نمرود من إمكانية شخصه في الإحياء والإماتة، قد زال تماماً عندما طالبه إبراهيم بأن يأتي بالشمس من المغرب.

والآن، بعد أن حققت القصة الأولى المارّ على القرية هدفها، وهو

 

______________________________________________________

الصفحة 123

 

مفروضية القدرة، وكان من الممكن أن يتبع قصة إبراهيم مع الطيور الأربعة بقصته مع نمرود، ولكنه فَصلَ بين القصتين بقصة المار على القرية حيث لا يشكك بطلها بقدرته على الإماتة والإحياء بل استبعد ذلك تبعاً للقوانين التي يرسمها الله تعالى في توكيل ذلك إلى محله (كالانبعاث في اليوم الآخر مثلاً) ولكي يدلّل له النص على إمكانيته خرق القوانين أيضاً، حينئذٍ أماته مائة سنة وأحياه، أما إبراهيم ـ عليه السلام ـ فيمثل مرحلة تصاعدية تتناسب مع شخصيته التي أكسبها أهمية كبيرة طوال السورة الكريمة، أنه لم يستبعد خرق القوانين، بل أراد عملية تجريبية في خرق القوانين، فتمّ له ذلك.

إذن، كل واحدة من هذه الأقاصيص عالجت جانباً خاصاً قد تدرج بها النص من حالة تسليم بالشيء، إلى حالة استبعاد الخرق لقوانين ذلك الشيء، إلى حالة عدم استبعاد ذلك.

 

* * *

 

وبالنسبة إلى أدوات الصياغة القصصيّة، جاءت هذه الأدوات متجانسة مع طبيعة كل واحد من هذه القصص. فقصة إبراهيم مع نمرود اعتمدت (المناقشة) مع شخصية جاحدة حتى تفضي المناقشة إلى التسليم بحقيقة قدرته على الإماتة والإحياء، وقصة إبراهيم مع الطيور قد اعتمدت الطيور محطاً للتجربة، لإمكاناتها الحركية التي لا تتاح لغيرها من الحيوان، وقصة المارّ على القرية قد اعتمدت المارّ نفسه مضافاً إلى الراحلة والزاد. أما انتخاب الشخص نفسه (وكان بالمقدور إحياء المدينة ذاتها) فلأن المسألة تتصل بتساؤل شخص محدد، وحينئذٍ فإن إخضاعه نفسه للتجربة يكون أشد وقعاً من جانب، ولعدم المسوّغات لإحياء مدينة بائدة، إذا كان الهدف هو مجرد تحقق القناعة بإمكانية الخرق للقوانين، حيث أن إماتة الشخص نفسه وإحياءه كافٍ لتحقق القناعة المذكورة.

 

______________________________________________________

الصفحة 124

 

وأما انتخاب الطعام والدابة دون غيرهما من الظواهر، فتتضح مسوغاته الفنية إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن المارّ على القرية هو (مسافر) والمسافر لابدّ له من (راحلة) تنقله من مكان إلى آخر، ولابدّ له من (زاد) يحمله في سفره. ولذلك طالب النص هذه الشخصية أن تنظر إلى طعامها وشرابها، وأن تنظر إلى دابّتها، فتكون بذلك كل واحدة من الشخصية والراحلة والزاد أدوات متجانسة مع طبيعة الفكرة التي تستهدفها القصة، ومن ثم نتبيّن مدى إحكام وجمالية العمارة القصصية بنحوها الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

ونتجه إلى جزئية جديدة من هذا القسم من السورة الكريمة، فنجد أن (الظاهرة الاقتصادية) ـ وفي مقدمتها (الإنفاق) تأخذ المساحة المتبقية من السورة، حيث تختتم السورة بآيتين تتحدثان عن (الإيمان) وترتبطان عضويا بمقدمة السورة كما سنوضح ذلك في حينه.

وأما (الإنفاق) فيحتل ـ كما أشرنا ـ المساحة الغالبية من النص، ولا نجدنا بحاجة إلى تحديد الموقع الهندسي لها من عمارة السورة ما دمنا قد ألمحنا سابقاً عن الترابط العضوي بين الإنفاق والجهاد، وبينهما وبين الجزئية السابقة التي واكبت قصتي (الهاربين من الموت)، و(الملأ من بني إسرائيل) والطريقة الفنية التي سلكها النص في طرحه لظاهرتي الجهاد والإنفاق خلال ذلك كله.

إن الإنفاق يظل أشد الظواهر تأكيداً في النص القرآني، وقد سبق الوقوف عند جملة من المواقع التي طُرِح الإنفاق خلالها. ولا شك، أن النص عندما يكرر هذا الطرح (وقد كان طرحه في السابق سريعاً وعابراً ومختزلاً، تمهيداً لطرحه مفصلاً فيما بعد)، وعندما يخصص له مساحة كبيرة من النص، حيث تضطلع آيات متعددة بمعالجة هذا الجانب، حينئذ نستكشف أهمية مثل هذه

 

______________________________________________________

الصفحة 125

 

الظاهرة. ولعل ما يكسب هذه الظاهرة أهمية أخرى هي أن النص قد اعتمد عنصر (الصورة الفنية) في رسم هذه الظاهرة، فقدّم لنا حشداً هائلاً من الصور المدهشة والممتعة فنياً، بدأها بالنحو التالي (مثل الذين ينفقون أموالهم.... ولا هم يحزنون) [البقرة: 261 ـ 262].

لقد كان النص في الجزئية السابقة قد اعتمد عنصر (القصة) لبلورة مفهوم (الإماتة والإحياء)، وهنا قد اعتمد عنصر (الصورة) لبلورة مفهوم (الإنفاق) وهذا التنوع في أداة التعبير الفنية يكسب عمارة النص مزيداً من الجمالية كما هو واضح. ولكن دعنا نمعن النظر في صياغة العنصر الصوري هنا لملاحظة بنائه العضوي وتجانس هذا العنصر مع طبيعة الفكرة (أي الإنفاق).

الصورة الأولى التي تواجهنا هي تشبيه الإنفاق بالحبة التي تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والتعقيب على ذلك بأنه تعالى (يضاعف لمن يشاء).

إن استهلال هذه الظاهرة بالتشبيه المذكور، له أهميته الهندسية في عمارة المقطع كما سنرى، إلا أننا نستهدف تحليل هذه الصور وما بعدها حسب تسلسلها لنتبيّن جمالية العمارة بوضوح.

لقد شبّه النص الإنفاق بالحبّه واستتباعها مضاعفة ذلك إلى سبعمائة بل أكثر من حيث الثواب المادي والأخروي. طبيعياً، أن عملية (النموّ) للنبات تتجانس مع عملية النمو للمال وثوابه، حيث لا توجد ظاهرة حسية ملحوظة للعيان بمقدورها أن تتنامى إلا ظاهرة النبات الذي يتنامى بسرعة، وبكثرة، وبجمالية المرأى، وبعطاء الثمر...الخ.

بيد أن الإنفاق بمعطياته المذكورة، مشروط بجملة أمور، منها: أن يكون (في سبيل الله) وهذا ما استُهِلت به الآية (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله...الخ). ومنها:

 

______________________________________________________

الصفحة 126

 

ألاّ يكون مقروناً بالمن والأذى، وهذا ما تكفّلت بتوضيحه الآيات التي تلت هذا الاستهلال، حيث يقول النص (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). إن هذه الآية تشكل (وسطاً) يربط بين المقطع ونهايته، فبداية المقطع قد اشترطت الإنفاق في سبيل الله تعالى. وها هي الآية الثانية تستهل حديثها بالإنفاق في سبيل الله تعالى (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذىً). لنلاحظ (النمو العضوي) بين هاتين الآيتين، فالأولى تقول (الإنفاق في سبيل الله يُضاعف) والآية الثانية تطوّر هذا المفهوم لتقول (الإنفاق في سبيل الله مشروط بعدم المن والأذى). ثم ترسم الثواب المترتب على الإنفاق بلا منٍ وأذى تجانساً مع الآية الأولى التي رتّبت ثواباً على الإنفاق في سبيل الله تعالى.

أقول: إن الآية الثانية رتبت ثواباً على الإنفاق بلا منٍ وأذىً هو (لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)... إن هذه العبارة نفسها يُختم بها هذه الجزئية الخاصة بالإنفاق، حيث جاءت الآية الأخيرة بهذا النحو (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 274]. إذن، لحظنا كيف أن عمارة هذا المقطع الكبير قد استهلّ، وتنامى من خلال الوسط، وخُتم بالإنفاق وبثوابه الذي اضطلع الاستهلال والوسط بتوضيحه، وبذلك تكون عمارته قد أُحكم بناؤها الفني وارتبطت جزئياته بعضها مع الآخر بداية ووسطاً ونهاية. لكن، لا نزال بعد، نتحدث عن الخطوط العامة التي ربطت بين بداية المقطع ووسطه ونهايته، وأما تفصيلات ذلك، فنتابع الحديث عنها الآن.

بعد أن يوضّح النص أن الإنفاق ينبغي ألاّ يقرن بالمن والأذى، يقدّم لنا (بديلاً) هو (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذىً) [البقرة: 263].

 

______________________________________________________

الصفحة 127

 

إنّ هذا البديل لا يعني أفضلية عدم الإنفاق بقدر ما يعني أفضليته بالقياس إلى الإنفاق المصحوب بالأذى. ولكي يبلور لنا النص مدى المفارقات المترتّبة على الإنفاق المصحوب بالمن، يتقدّم بعنصر صوري جديد يقوم على نمط خاص من التشبيه هو (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا...) [البقرة: 264]. إن هذا التشبيه يعدّ واحداً من التشبيهات المتميزة في النص القرآني الكريم، أنه تشبيه يحفل بما هو معجز، ومدهش، ومثير، وممتع، ومكتنز بالدلالات التي لا حدود لتصور ما فيها من العمق والدقة والشمول والغنى والتنوّع والتفصيل. كما أنه ـ من حيث التركيب الصوري ـ ينتسب إلى نمط من (التشبيه المتداخل) الذي لا حدود لتصور جماليته. إنه أولاً يشبّه الصدقة المصحوبة بالمنّ، يشبهها بالمرائي، ثم يشبّه كلاً من المرائي والمتصدق بالمن، يشبههما بحجرٍ صافٍ يعلوه تراب فتصيبه أمطار غزيرة فتزيل ما عليه من التراب بحيث لا يقدر أحد على ردّ ذلك التراب إلى الحجر.

والسؤال هو: لماذا لا يُشبّه النصُ المنفق بالمنّ بالحجر مباشرةً إذا كان الهدف هو المقارنة بينه وبين الحجر الذي لا ينبت أو لا يمكن ردّ التراب إليه؟ لماذا شبّهه أولاً بالمرائي؟ ولماذا شبههما جميعاً بالحجر؟

هنا تبرز جمالية العمارة الصورية وطريقة بنائها. فالنص قد استهدف من جانبٍ إقحام حقيقة من الحقائق بطريق غير مباشر (وهذا هو أحد أساليب الفن) ألا وهي مدى مفارقة عمل المرائي، فالرياء هو أشد الأشكال الملتوية في السلوك، لأنه ببساطة عمل لغير الله تعالى مع أن المفروض عبادياً هو العمل لله تعالى. يضاف إلى ذلك، أن هناك تجانساً بين العملين عمل المنفق بالمن وعمل المرائي، فالمنان إنما يمنّ على صاحبه فلأنه يتحسس بالحاجة إلى

 

______________________________________________________

الصفحة 128

 

تقدير الآخرين لشخصيته، أنه يريد ثمناً لعطائه من الناس وهو تقديرهم لشخصيته، وهذا يعني كونه يستهدف رضا الناس وليس رضا الله تعالى، وكذلك المرائي، يستهدف رضا الناس وليس رضا الله تعالى. إذن: ثمة تجانس بين العملين من جانب، وثمة ظاهرة يستهدف النص لفتَ النظر إليها من جانب آخر، وهما يشكّلان المسوّغ الفني لأن تُبنى عمارةُ الصورة بهذا النحو.

يبقى أن نشير إلى نكتة فنية هي أن النص شبّه المنان بالمرائي أولاً، ثم شبههما بالحجر. سرّ ذلك، أن (المشبّه به) في الغالب يكون أقوى وجهاً بالنسبة إلى (المشبّه)، ولذلك فإن النص بهذا قد استهدف لفت النظر إلى شدة المفارقة التي يقوم عليها عمل المرائي، ومن ثم شدة المفارقة التي يقوم عليها عمل المنان، ويعزّز هذا، أن النص شبه كليهما بالحجر، أي أنه أولاً شبّه ما هو أضعف وجهاً (المنان) بما هو أقوى وجهاً (المرائي)، ثم شبّه كليهما بالحجر، وبذلك يكون قد جعلهما بمنزلة واحدة حينما شبههما بالحجر. وهذا هو أحد الأسرار الممتعة في صياغة الصورة، والتدرج بالشيء من درجته الأقل إلى درجة التساوي بينهما، وبذلك تكون عمارة هذه التركيبات الصورية قد خضعت لعملية النموّ العضوي كما هو واضح، مما يكشف عن الإحكام الهندسي لها.

وأما تشبيه المنان والمرائي بالحجر، فينطوي على أسرار فنية ترتبط بطبيعة الصورة وبطبيعة العمارة التي خصصت للحديث عن ظاهرة الإنفاق، حيث سنجد أن التشبيه بالحجر والوابل ونحوهما سوف ينعكس أثره على صورة لاحقة هي (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطلّ...) [البقرة: 265]. إن هذه الصورة (امتداد) للصورة السابقة، ولكنها

 

______________________________________________________

الصفحة 129

 

على نحو (التضاد) بين الصور، وبهذا نواجه عمارة صورية ذات خطوط جديدة تسهم في إكساب العمارة جماليةً جديدة. كيف ذلك؟.

إن الرابط العضوي بين الآيتين أو الصورتين يتمثل في عملية (الإنبات) وعدمه من خلال الأرض والماء (أو المطر). فالصورة الأولى تجسّد أرضاً صلبة لا نباتَ فيها، وإذا كان عليها شيء من التراب فإن (الوابل) ـ وهو المطر الشديد ـ عندما يصيبها يصبح لغير صالحها، لأنه سيزيل التراب عنها... وأما الصورة الثانية، فإن الأرض فيها أساساً عامرة بالنبات، أنها (جنة بربوة)، وحتى في حالة الافتراض بأن (الوابل) لا يصيبها، فإن (الطل) ـ وهو المطر القليل ـ عندما يصيبها، حينئذٍ تستفيد منه نظراً لموقعيتها الخصبة.

إذن نحن الآن أمام عمارة تقوم على خطوط من (التماثل) و(التضاد)، حيث أنّ كليهما يخلع على العمارة جمالية خاصة، فالتماثل هو الخطوط المتوازية، والتضاد هو الخطوط المتقابلة، والجمال يتجسّد في توازي الخطوط من جانب، أي مجاورة بعضها للآخر، ويتجسد في تقابل الخطوط من جانب آخر، أي وقوف أحدها مقابلاً للآخر. التماثل هو (التراب) و(الوابل)، والتضاد هو الإجداب والإخصاب.

لكن، هل أن هذه العمارة الصورية قد اكتمل رسمها؟ كلا. إنها تنتظر خطوطاً جديدة تتمثل في الآية الآتية: (أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت...) [البقرة: 266].

إن هذه الآية تنتسب إلى ما نسميه بـ(التشبيه القصصي) أي التشبيه من خلال التوكؤ على قصة أو حكاية تتحدث عن الإرث الذي يتركه أحد الأشخاص المعمّرين لذريته متمثلاً في مزرعة عامرة، ولكن الإعصار يصيبها فتحترق، فيُحرم هو وذريته من معطياتها. إن (الذرية) ترمز إلى نتائج عمل

 

______________________________________________________

الصفحة 130

 

الإنسان، وأن الجنة ونخيلها وأعنابها وأنهارها ترمز إلى ثواب الإنفاق مطلقاً، إلا أن هذا الثواب يحترق بإعصار المنّ والرياء ونحوهما. والمهم، أن التشبيه بالمزرعة وإبادتها يعدّ تتويجاً لما تقدمتها من الصور، ورمزاً عاماً أيضاً بحيث ينسحب على مطلق الأعمال التي لا تمارس في سبيل الله تعالى.

والآن، فإن العمارة الصورية تكون قد اكتمل بناؤها من خلال الرسم لكيفية الإنفاق من قبل صاحبه أي: المنفق.

وبقي رسمان، أحدهما يتصل برسم المال الذي ينفقه الشخص، والآخر رسم الجهة التي يُنفق عليها. وبكلمة بديلة، ما تقدّم يجسّد سمة المنفق، وما بقي يجسّد سمة الإنفاق وسمة المستحقّ. وأما سمة الإنفاق أو المال فيفصح عنه قوله تعالى (أنفقوا من طيبات ما كسبتم..) [البقرة: 267]، وأما سمة المستحقّ فيفصح عنه قوله تعالى (للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف...) [البقرة: 273].

وبهذا يكون النص قد رسَمَ خطوط (الإنفاق) بجميع مستوياته التي لحظناها، ثم خَتَم ذلك بعبارة (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانيةً، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 274].

واضح، أنّ هذه النهاية التي خُتم بها المقطع الخاص بالإنفاق، تفصح عن مدى الإحكام الهندسي لعمارة المقطع، حيث لخّص عملية الإنفاق، ورسمها عملية استمرارية (ينفقون أموالهم بالليل والنهار) ولخّص أسلوبها (سراً وعلانية) تأكيداً أو تتويجاً لما سبق أن طرحه في آية متقدمة (إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) [البقرة: 271]، ثم ختمها بما سبق أن طرحه في المقدمة التي قالت (الذين ينفقون

 

______________________________________________________

الصفحة 131

 

أموالهم في سبيل الله... لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) حيث جاء الختام في صياغة متماثلة هي قوله تعالى (الذين ينفقون أموالهم... فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). وبذلك يكون المقطع قد ارتبطت أجزاؤه بعضها مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

الجزئية الأخيرة من الظاهرة الاقتصادية التي ترتبط بسلسلة الأحكام، قد طرحها النص في ختام السورة، متمثلة في ظاهرة (الربا) ومن ثم في ظاهرة (الدَين)، حيث ربط النص بينهما (الربا والدين) بنحو فنيّ سنتعرض له بعد قليل. بيد أننا نعتزم الإشارة أولاً إلى الربط الفني بين ظاهرة (الإنفاق) التي انتهى رسمها وبين ظاهرة الربا، ثم الربط بينهما من خلال خضوعهما لطابع واحد هو الظاهرة الاقتصادية.

إن الربط الفني بين الإنفاق والربا يتمثل في كون (الإنفاق) عملية (إعطاء)، والربا عملية (أخذ)، ويتمثل في كون الإنفاق يستتبع عملية (نمو)، والربا يستتبع عملية (تناقص) حيث يقول النص (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) [البقرة: 276]. ومن الواضح، أن هذا النمط من الربط ـ مضافاً إلى جمالية عمارته التي تصل بين الخطين (الإنفاق والربا) ـ ينطوي على سمة جمالية أخرى هي (التضاد من خلال التماثل أو التماثل من خلال التضاد)، فنحن أمام عمليتين متضادتين (إنفاق وربا)، وأمام عمليتين إحداهما عملية (عطاء) وأخرى عملية (نهب)، وأمام عمليتين إحداهما تستتبع نمواً والأخرى تستتبع نقيصة. وبهذا نتبين مدى جمالية هذه العمارة التي (تتقابل) خطوطها واحداً أمام الآخر من جانب (التماثل) وأرضيتها من جانب آخر، بصفة أنهما ممارستان اقتصاديتان.

 

______________________________________________________

الصفحة 132

 

ويُلاحظ أن هذه العمارة التي نتساءل عن ظاهرة الربا قد انتظمتها خطوط أخرى أسهمت في إضفاء الجمالية عليها منها:

ـ عنصر الصورة التشبيهية التي قارنت بين المرابين وبين السكران الذي يترنح عندما يحاول القيام. وهذه الصورة خاصة بالجزاء الأخروي للمرابي في ساحة الموقف.

ـ عنصر الصورة التشبيهية التي نقلت القول عن المرابين بأن البيع كالربا. ومنها:

ـ إدخال ظواهر ثانوية في سياق الحديث عن الربا وهي الإيمان والعمل الصالح والصلاة والزكاة. ومنها:

ـ إدخال ظاهرة (الدين) في السياق المذكور.

هذه الظواهر الثلاث تحتل جميعاً موقعاً هندسياً محكماً من عمارة النص.

أما عنصر الصورة التشبيهية، فإن صلته بعمارة النص تتضح أولاً بكون الصورة خاصة بالربا، (والمقطع هو خاص بالربا) ويتضح ثانياً من خلال التجانس بين الإنفاق الذي اعتمد الصورة التشبيهية في المقطع السابق وبين الربا الذي اعتمد أيضاً عنصر الصورة ذاتها.

والأمر نفسه بالنسبة إلى الصورة التشبيهية الأخرى التي نقلت زعم المرابين بأن البيع كالربا.

وأما إدخال الظواهر المرتبطة بالصلاة والزكاة والعمل الصالح...الخ، فقد تمّ ـ كما هو مألوف في النص القرآني ـ من خلال كون هذه الظواهر يستهدف النص لفت النظر إليها، إلا أن هذه العملية تتم من خلال الترابط بين المقطع السابق والمقطع الحالي، حيث عقّب النص على هذه الظواهر بالقول

 

______________________________________________________

الصفحة 133

 

(لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وهي نفس العبارة التي وردت في أول المقطع السابق وفي نهايته حيث ربطت أجزاء المقطع بعضها مع الآخر، وحيث تربط الآن بين المقطع السابق والمقطع الحالي الخاص بالربا. وبهذا نتبيّن مدى عملية التشابك بين الخطوط التي ترسل امتداداتها داخل المقطعين المذكورين.

وأما إدخال ظاهرة (الدين)، فإن ارتباطها بظاهرة الربا لا تحتاج إلى تعقيب فضلاً عن أن النص من خلال شجبه لظاهرة الربا واستتباعه أخذ الزيادة من المدين، قد طرح ظاهرة إعسار المدين، فرسمَ توصية هي إنظاره إلى ميسرة، والأفضل له أن يتصدّق على المعسر.

وبهذا يكون الربط بين عملية التصدق وبين المقطع السابق الخاص بالإنفاق قد أكسب عمارة المقطع بعداً جديداً من الإتقان الهندسي ليس بين الربا والدين في هذا المقطع فحسب، بل بين (الإنفاق) في المقطع السابق وبين التصدق في المقطع الحالي، وبذلك تكون هذه العمارة بالغة الإحكام والجمالية في عملية هذا التشابك بين الخطوط المختلفة التي لحظناها.

 

* * *

 

ونتجه إلى آخر ظاهرة طرحها النص في السورة، وهي ظاهرة (الدَين) على هذا النحو (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم... والله بما تعملون عليم) [البقرة: 282 ـ 283]. ولا حاجة بنا إلى الحديث عن الرابطة العضوية بين هذا المقطع الخاص بالدين وبكتابته وملحقاته، وبين المقطع السابق الذي خُتِمَ بظاهرة (الدَين).

 

* * *

 

إذن، جاءت الظواهر الثلاث (الإنفاق، الربا، الدَين) وفق صياغة يرتبط كل واحدٍ منها مع الآخر برباط محكمٍ كما لحظنا. كما جاءت (من حيث

 

______________________________________________________

الصفحة 134

 

العمارة العامة لها) مندرجة ضمن ظاهرة عامة هي الظاهرة الاقتصادية. كما جاءت ضمن سلسلة عامة قد انتظمت القسم السادس من السورة ألا وهي سلسلة (الأحكام الشرعية). وجاءت أخيراً متجانسة مع سلسلة الأحكام، ومع أحد المحاور الثلاثة للسورة ألا وهو محور (الاتقاء) الذي مرّر شبكة إنارته على دروب السورة جميعاً كما لحظنا في حينه، وكما نلحظ ذلك لاحقاً حيث خُتم هذا المقطع الخاص بـ(الدَين) بظاهرة (الاتقاء) الذي شكّل رابطاً عضوياً بينه وبين سائر أجزاء النص.

 

* * *

 

أخيراً، نواجه ثلاث آيات (خُتِمت) بها السورة الكريمة (لله ما في السماوات.....الخ) [البقرة: 284]. الآية الأولى عرضت لظاهرة علم الله تعالى بما يبديه البشر ويخفيه، حيث أن الآية الأخيرة من المقطع السابق خُتِم بعبارة (والله بكل شيء عليم) فتشكّل بذلك تمهيداً لهذا الختام فضلاً عن صلة ذلك بإبداء الشهادة وإخفائها في المقطع السابق. وأما الآية الثانية (آمن الرسول) [البقرة: 285] فتشكّل تتويجاً لسلسلة الأحكام التي اضطلع بها القسم الأخير من السورة متمثلة في عبارة (بما أُنزل إليه)، فضلاً عن صلتها ببداية السورة التي تقول (يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك) [البقرة: 4] حيث تجانس هذه البداية التي تشير إلى الإيمان بما أُنزل على الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ والرسل قبله، مع ختام السورة التي تشير إلى هذه الدلالة ذاتها: مع ملاحظة أنّ النص في بداية السورة تحدث عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وما أُنزل عليه وقبله بضمير المخاطب، بينما جاء في ختام السورة بضمير الغائب.

وفي تصورنا أن السرّ الفني في ذلك، عائد إلى أن النص في ختام السورة يقدّم تلخيصاً لما عرضه فيها، وعملية العرض تُكتب بلغة الغائب في الأصل إلاّ في حالة استدعاء السياق لغة التخاطب أو التكلّم. يضاف إلى ذلك، أن هذا

 

______________________________________________________

الصفحة 135

 

التلخيص نقل لنا حصيلة مبادئ السماء والإيمان بها حيث آمن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قبل سواه بذلك، وهو ما يفسر لنا أيضاً سرّ الافتتاح بعبارة (آمن الرسول) ثم بقية المؤمنين (والمؤمنون كل آمن بالله...)، فضلاً عن أنّ الاختتام بعامة بغض النظر عن كونه بضمير المخاطب أو الغائب، يتناسب هندسياً مع كون رسالة محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ هي ختام الرسالات بعد أن كان القسم السادس من السورة خاصاً بسلسلة (الأحكام الشرعية) المجسدة لرسالة الإسلام كما هو واضح.

وأما الآية الأخيرة فهي امتداد لسابقتها التي قدّمت تلخيصاً لأحكام الشريعة كما قلنا، حيث أن التكليف بها مصحوبٌ بقدر طاقة الإنسان فيما (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة: 286]، وحيث أن الضعف البشري من الممكن أن يستجرّهم إلى الزلل حيناً، وهذا ما يدفعهم إلى أن يهتفوا (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا)، وأخيراً، بما أنّ كل ما تقدّم عرضه، يجسّد رسالة السماء، فحينئذٍ لابدّ من انتصارها على ما سواها من المبادئ المنعزلة عنها، وهو أمرٌ قد اضطلعت به العبارة الأخيرة القائلة (فانصرنا على القوم الكافرين).

 

______________________________________________________

الصفحة 137

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338822

  • التاريخ : 29/03/2024 - 11:59

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net