00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة آل عُمران من آية 1 ـ 25 ( من ص 375 ـ 445 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

سُورةُ آل عُمرانَ

مدنية

وعدد آياتِها مئتين آية

(375)

آل عمران

فضيلة تلاوة هذه السورة :

ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكلّ آية منها أماناً على جسر جهنم»(1).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله : «من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة يظلاّنه على رأسه مثل الغمامتين»(2).

محتوى السورة :

ذهب بعض المفسّرين المعروفين أنّ هذه السورة نزلت بين السنة الثانية والثالثة للهجرة أي بين غزوة بدر واُحد فهي تعكس في طيّاتها فترة من أشد الفترات حساسيّة في صدر الإسلام(3).

وعلى كلّ حال، فإنّ المحاور الأصلية في أبحاث هذه السورة عبارة عن :

1 ـ إنّ قسماً مهمّاً من هذه السورة يرتبط بمسألة التوحيد وصفات الله والمعاد والمعارف الإسلامية الاُخرى.

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 405.

2 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 309.

3 ـ تشير الآية (13) إلى «غزوة بدر» ومن آية (121) إلى (128) تشير إلى غزوة بدر واُحد، ثمّ تعقب في الآيات (139) إلى (144) إلى نفس المسألة وكذلك الآيات الاُخرى.

(376)

2 ـ وقسم آخر منها يتعلّق بمسألة الجهاد وأحكامه المهمّة والدقيقة، وكذلك الدروس المستفادة من غزوتي بدر واُحد، وبيان الإمداد الإلهي للمؤمنين، والحياة الخالدة الآخرويّة للشهداء في سبيل الله.

3 ـ وفي قسم من هذه السورة يدور الحديث حول سلسلة من الأحكام الإسلامية في ضرورة وحدة صفوف المسلمين وفريضة الحجّ وبيت الله الحرام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولّي والتبرّي ومسألة الأمانة والإنفاق في سبيل الله وترك الكذب وضرورة الإستقامة والصبر في مقابل الأعداء والمشكلات والامتحانات الإلهيّة المختلفة وذكر الله على كلّ حال.

4 ـ وتطرّقت هذه السورة إلى تكملة للأبحاث التي تتحدّث عن تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) ومنهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء وقصّة مريم وكرامتها ومنزلتها عند الله، وكذلك المؤامرات التي كان يحوكها أتباع الديانة اليهوديّة والمسيحيّة ضدّ الإسلام والمسلمين.

إنّ مواضيع هذه السورة منسجمة ومتناغمة بشكل كأنّها نزلت في وقت واحد.

* * *

(377)

الآيـات

الم (1) اللهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقّ ِ مُصَدِّقاً لِمّاَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالاِْنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدىً لِلّنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَـاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام (4)

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين : إنّ ثمانين آية ونيفاً من هذه السورة قد نزلت في وفد مسيحيّي نجران(1) الذي قدم المدينة للتحقيق في أمر الإسلام.

كان الوفد يتألّف من ستّين شخصاً، فيهم أربعة عشر شخصاً من أشراف نجران
وشخصيّاتها. ثلاثة من هؤلاء الأربعة عشر كانت لهم صفة الرئاسة، وإليهم يرجع المسيحيّون لحلّ مشاكلهم. أحدهم يدعى «عاقب» ويسمّى «عبدالمسيح» أيضاً،

_____________________________

1 ـ «نجران» منطقة في جبال اليمن الشمالية على بعد نحو عشرة منازل من صنعاء، وتسكنها قبائل همدان التي كان لها في الجاهلية صنم باسم «يعوق». ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان : نجران اسم لعدد من المواضع.

(378)

كان زعيم قومه المطاع بينهم. والثاني يدعى «السيّد» ويسمّونه «ايهم» أيضاً، وهو المسؤول عن تنظيم برنامج الرحلة ومعتمد المسيحيّين. والثالث «أبو حارثة» وكان عالماً وصاحب نفوذ، وبنيت كنائس عديدة باسمه. وحفظ عن ظهر قلب جميع كتب المسيحيّين الدينية.

دخل هؤلاء المدينة وهم بملابس قبيلة بني كعب، وجاؤوا إلى مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم). كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انتهى من صلاة العصر مع المسلمين. وأثار هؤلاء إنتباه المسلمين بملابسهم اللامعة الملوّنة الزاهية حتّى قال بعض صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما رأينا مبعوثين بهذا الجمال !

وعندما وصلوا إلى المسجد كان موعد صلاتهم قد أزف، فقرعوا نواقيسهم بحسب طقوسهم واتّجهوا نحو الشرق وشرعوا يصلّون، فحاول بعض أصحاب النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمنعهم، إلاَّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طلب من الصحابة أن يتركوهم وشأنهم.

وبعدالصلاة أقبل «عاقب» و «السيّد» على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدءا يحادثانه، فدعاهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الدخول في الإسلام والإستسلام لله.

قالا : قد أسلمنا قبلك.

قال : كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير.

قالا : إن لم يكن عيسى ولداً لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى.

فقال لهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلاَّ ويشبه أباه ؟

قالوا : بلى.

قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟

قالوا : بلى.

قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شيء ويحفظه ويرزقه ؟

(379)

قالوا : بلى.

قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟

قالوا :لا.

قال : ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟

قالوا : بلى.

قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلاَّ ما علّم ؟

قالوا : لا.

قال : فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث.

قالوا : بلى.

قال : ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أُمّه كما تحمل المرأة، ثمّ وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثمّ غذّي كما يغذّي الصبيّ، ثمّ كان يطعم ويشرب ويحدث ؟

قالوا : بلى.

قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية(1).

التّفسير

تفسير الحروف المقطّعة بالعقول الإلكترونية :

فيما يتعلّق بالحروف المقطّعة في القرآن، سبق الحديث عنها في بداية سورة
البقرة، فلا موجب لتكرار ذلك. وما ينبغي عرضه هنا هو النظرية المثيرة التي تقدّم بها مؤخّراً عالم مصري نورد هنا خلاصة لها لأهميّتها، لا شكّ أنّ الحكم على
صحتها أو بطلانها يستلزم بحوثاً دقيقة يقع عبؤها على الأجيال القادمة. إنّما

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان : ج 1 ص 406.

(380)

نوردها كنظرية لاغير(1).

مجلة «آخر ساعة» المصرية المعروفة نشرت تقريراً عن تحقيقات عجيبة قام بها عالم مصري مسلم بخصوص تفسير بعض آيات القرآن المجيد بوساطة العقول الإلكترونية أثارت إعجاب الناس في مختلف أنحاء العالم.

تلك التحقيقات التي أجراها الدكتور «رشاد خليفة» العالم الكيمياويّ المصري خلال ثلاث سنوات متواصلة، أثبتت أنّ هذا الكتاب السماويّ العظيم ليس من نتاج عقل بشري، وأنّ الإنسان غير قادر على الإتيان بمثله.

أجرى الدكتور رشاد تحقيقاته في مدينة «سانت لويس» بمقاطعة «ميسوري» الأمريكية واستخدم في تحقيقاته العقول الإلكترونية لفترات طويلة مع أنّ أُجرتها في كلّ دقيقة 10 دولارات تبرّع بها المسلمون المقيمون هناك.

كان كلّ جهد الاُستاذ المذكور ينصبّ على معرفة معاني الحروف المقطّعة في القرآن، مثل «ق، الم، يس». لقد استطاع بحسابات معقّدة أن يثبت وجود علاقة قوية بين هذين الحروف والسورة التي تقع في صدرها (فتأمّل).

لقد استعان بالعقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات الخاصّة لمعرفة أعداد حروف السور ونسبة وجود كلّ حرف منها، لا لتفسير القرآن.

ولولا هذه الأجهزة ما استطاع أحد أن يجري تلك الحسابات على الورق.

والآن نوجز الإكتشافات الذي توصّل إليه العالم المصري : يقول الدكتور رشاد : نعلم أنّ القرآن يضمّ 114 سورة، منها 86 سورة نزلت في مكّة و 28 سورة في المدينة، ومن بين مجموع سور القرآن 29 سورة تبدأ بحروف مقطعة.

من الجدير بالذكر أنّ مجموع هذه الحروف يبلغ نصف حروف الهجاء العربية، وهي (أ ـ ح ـ ر ـ س ـ ص ـ ط ـ ع ـ ق ـ ك ـ ل ـ م ـ ن ـ هـ ـ ي) وقد يصفونها بالحروف النيّرة.

_____________________________

1 ـ مع الأسف أن هذا العالم الذي يعيش في أمريكا، وقع تحت تأثير المحيط الفاسد هناك وقد أنكر بصراحة بعض المسائل والأحكام الإسلامية المسلمة ما دعا ادعاءات باطلة.

(381)

يقول الدكتور : منذ سنوات وأنا أحبّ أن أعرف معنى هذه الحروف التي تبدو في الظاهر أنّها مقطّعة وتتصدّر بعض السور. وعلى الرغم من رجوعي إلى تفاسير مشاهير المفسّرين فلم أعثر لديهم على جواب مقنع، فاستعنت بالله واتّكلت عليه وبدأت بحثي :

خطر لي مرّة أنّه ربما تكون هناك علاقة بين هذه الحروف وحروف كلّ سورة تتصدّرها. غير أنّ دراسة الحروف النيّرة الأربعة عشر كلّها ضمن حروف سور القرآن المائة وأربعة عشر واستخراج نسبة كلّ حرف والحسابات الكثيرة الأُخرى لم تكن من الأُمور التي يمكن إجراؤها دون الإستعانة بالعقول الإلكترونية. لذلك شرعت أوّلاً بتعيين تلك الحروف منفردة في جميع سور القرآن، ثمّ تعيين مجموع حروف كلّ سورة، وأعطيتها جميعاً إلى العقل الإلكتروني مع رقم كلّ سورة (لغرض القيام بالحسابات المعقّدة المطلوبة فيما بعد). لقد استغرق هذا العمل مع مقدّماته سنتين من الزمان.

ثمّ عملت على العقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات مدّة سنة كاملة. كانت النتائج لامعة جدّاً، وكشف الستار لأوّل مرّة في تاريخ الإسلام عن حقائق مذهلة أكّدت إعجاز القرآن (إضافة إلى أُمور أُخرى) من الناحية الرياضية ونسبة حروف القرآن.

لقد أوضحت لنا حسابات العقل الإلكتروني نسبة وجود كلّ من الحروف الأربعة عشر في كلّ سورة من سور القرآن المائة وأربعة عشر.

فمثلاً بالحسابات وجدنا أن نسبة حرف القاف، وهو أحد الحروف النورانية في القرآن في سورة «الفلق» تحوز أعلى نسبة (700/6%) وتحوز المرتبة الأولى بين سور القرآن، طبعاً بإستثناء سورة «ق». بعدها تأتي سورة «القيامة» التي يبلغ فيها عدد حروف القاف بالنسبة إلى حروف السورة (907/3%)، ثمّ تأتي سورة «والشمس» ونسبتها (906/3%) .

(382)

ونلاحظ من ذلك أنّ الفرق بين سورة «القيامة» وسورة «والشمس» يبلغ (001/0%).

وهكذا استخرجنا هذه النسبة في 114 سورة لهذا الحرف ولسائر الحروف النورانية الأُخرى، وبذلك ظهرت نسبة مجموعة حروف كلّ سورة إلى كلّ حرف من الحروف النورانية.

وفيما يلي النتائج المثيرة التي توصّل إليها التحقيق :

1 ـ نسبة حرف «ق» في سورة «ق» أكثر من نسبتها في أية سورة أُخرى بدون إستثناء. أي أنّ الآيات التي نزلت طوال 23 سنة ـ وهي فترة نزول القرآن ـ في 113 سورة استعملت فيها القاف بنسبة أقل، إنّه مثير ومدهش أن يكون إنسان قادر على مراقبة تعداد كلّ حرف من الحروف التي يستعملها على مدى 23 سنة، وفي الوقت نفسه يعرب بكلّ طلاقة وبدون أي تكلّف عمّا يريد بيانه. لاشكّ أنّ أمراً كهذا خارج عن نطاق قدرة الإنسان، بل أنّ مجرّد حساب ذلك يتعذّر على أعظم العقول الرياضية بدون الإلتجاء إلى العقل الإلكتروني.

وهذا كلّه يدلّ على أنّ سور القرآن وآياته ليست وحدها الموضوعة وفق حساب معيّن، بل حتّى حروفه موضوعة بحساب ونظام خاصّ لا يقدر عليه سوى الله تعالى.

كذلك دلّت الحسابات على أنّ حرف «ص» في سورة «ص» له هذه الخاصيّة نفسها، أي نسبة وجوده في هذه السورة أكثر من نسبة وجوده في أية سورة أُخرى من سور القرآن.

كما أنّ حرف «ن» في سورة «ن والقلم» يمتاز بنسبة أعلى من وجوده في أية سورة أُخرى.

الإستثناء الوحيد هو سورة «الحجر» التي فيها نسبة الحرف «ن» أكثر من سورة «ن والقلم». ولكن ما يلفت هو أنّ سورة «الحجر» تبدأ بالحروف «الر».

(383)

وسنجد أنّ السور التي تبدأ بحروف «الر» يجب أن تعتبر بحكم السورة الواحدة. فإذا فعلنا ذلك نصل إلى النتيجة المطلوبة أي أنّ عدد حرف «ن» في هذه السور سوف يكون أقلّ مما في سورة «ن والقلم».

2 ـ حروف «المص» في بداية سورة الأعراف إذا حسبنا حروف الألف والميم والصاد في هذه السورة نجدها أكثر ممّا هي في أية سورة أُخرى.

كذلك «المر» في بداية سورة «الرعد». و «كهيعص» في بداية سورة «مريم»، إذا حسبت الأحرف الخمس كان عددها في هذه السورة أكثر ممّا هي في السور الأخرى.

وهنا تواجهنا ظاهرة جديدة، فالحرف الواحد ليس هو وحده الذي يرد بحساب في السور، بل أنّ مجموعات الأحرف أيضاً تأتي هكذا بشكل مدهش.

3 ـ كان الكلام حتّى الآن يدور على الحروف التي تتصدّر سورة واحدة من سورة القرآن، أمّا الحروف التي تتصدّر سوراً متكرّرة، مثل«الر،ألم» فإنّها تتّخذ شكلاً آخر، فالحسابات الإلكترونية تقول إنّ مجموع هذه الحروف الثلاث، مثلاً «أل م» إذا حسبت في مجموع السور التي تتصدّرها، وتستخرج نسبتها إلى مجموع حروف هذه السور، نجد أنّ هذه النسبة أكبر من نسبة وجودها في السور الأُخرى من القرآن.

هنا أيضاً تتّخذ المسألة شكلاً مثيراً وهو أنّ حروف كلّ سورة من سور القرآن ليست هي وحدها التي تقع تحت الضبط والحساب. بل أنّ مجموع حروف السور المتشابهة تقع تحت حساب متشابه أيضاً.

وبهذه المناسبة يتّضح أيضاً لماذا تبدأ عدّة سور مختلفة بالحروف «الم» أو «الر» وهذا لم يكن من باب المصادفة والإتّفاق.

يقوم الدكتور رشاد بحسابات أعقد على السور التي تتصدّرها «حم» لا نتطرّق إليها إختصاراً.

* * *

(384)

ويصل الأستاذ المذكور من خلال دراساته هذه إلى حقائق وإستنتاجات أُخرى أيضاً نوردها للقرّاء الكرام :

1 ـ لابدّ من الإبقاء على إملاء القرآن الأصلي

يقول الدكتور : إنّ هذه الحسابات تصحّ في حالة الإبقاء على الإملاء الأصلي في كتابة القرآن، مثل : اسحق وزكوة وصلوة، فلا نكتبها اسحاق وزكاة وصلاة، وإلاَّ فإنّ الحسابات تختل.

2 ـ دليل على عدم تحريف القرآن

هذه التحقيقات تدلّ على أنّ أيّ تحريف ـ ولو في كلمة واحدة ـ لم يطرأ على القرآن من حيث الزيادة والنقصان، وإلاَّ لما ظهرت هذه الحسابات على هذه الصورة.

3 ـ إشارات عميقة المعنى

في كثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطّعة نلاحظ أنّه بعد الحروف تأتي الإشارة إلى صدق القرآن وعظمته، مثل : (الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه)(1)، وهذا في نفسه إشارة ظريفة إلى علاقة هذه الحروف بإعجاز القرآن.

نتيجة البحث

نستنتج من هذا البحث أنّ حروف القرآن الكريم الذي نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)على مدى 23 سنة تنتظم في حساب دقيق، فكلّ حرف من حروف الهجاء له مع مجموع حروف كلّ سورة نسبة رياضية دقيقة بحيث إنّ الحفاظ على هذا التنظيم والحساب يتعذّر على البشر بدون العقول الإلكترونية.

لاشكّ أنّ التحقيقات التي أجرها العالم المذكور ما زالت في بداية الطريق ولا تخلو من النقائص. فيجب أن تتظافر جهود الآخرين للتغلّب عليها.

_____________________________

1 ـ البقرة : 2.

(385)

في الآية الثانية يقول تعالى :(الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيّوم).

سبق أن شرحنا هذه الآية في سورة البقرة في الآية 255.

الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام وتقول : إنّ الله تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحقّ والحقيقة، وهو يتطابق تماماً مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة (التوراة والأنجيل) التي بشّرت(1) به وقد أنزلها الله تعالى أيضاً لهداية البشر : (نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والأنجيل من قبل هدىً للناس). ثمّ تضيف الآية (وأنزل الفرقان).

وبعد إتمام الحجّة بنزول الآيات الكريمة من الله تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة، ولذلك تقول الآية محلّ البحث بعد ذكر حقّانيّة الرسول الأكرم والقرآن المجيد : (إنّ الذين كفروا بآيات الله لهم عذابٌ شديد).

ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة الله تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية (والله عزيز ذو إنتقام)(2).

(عزيز) في اللّغة بمعنى كلّ شيء صعب وغير قابل للنفوذ، ولذلك يقال للأرض الصعبة العبور (عزاز) وكذلك يطلق على كلّ أمر يصعب الحصول عليه لقلّته وندرته (عزيز) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القويّ والمقتدر الذي يصعب التغلّب عليه أو يستحيل التغلّب عليه، وكلّما أطلقت كلمة (عزيز) على الله تعالى يراد بها هذا المعنى، أي أنّه لا أحد يقدر على التغلّب عليه، وأنّ كلّ المخلوقات خاضعة لمشيئته وإرادته.

وفي الجملة الآنفة الذكر ولكي يعرف الكفّار أنّ هذا التهديد جادّ تماماً تذكّرهم الآية بأنّ الله عزيزٌ، أي أنّه قاهر وما من أحد يستطيع أن يقف بوجه تنفيذ

_____________________________

1 ـ انظر الجزء الأول ص 146 في تفسير الآية 40 من سورة البقرة، شرح (مصدّقاً لما بين يديه).

2 ـ ذكر بعض المفسّرين أن «ذو» لها معناً أقوى من «صاحب» ولذلك لا نجد في صفات الله أنها تذكر معنى كلمة صاحب بل تذكر دائماً مع كلمة «ذو» البحر المحيط : ج 2 ص 379.

(386)

تهديداته وأنّه في الوقت الذي يكون فيه غفوراً رحيماً يكون شديد العقاب بالنسبة لمن لا يستحقّون هذه الرحمة.

كلمة (الانتقام) تستعمل غالباً في مفهومنا الحالي في لجوء شخص لا يستطيع أن يتسامح مع الآخرين ويغفر لهم أخطاءهم إلى عمل مقابل قد يكون عنيفاً لا يأخذ حتّى مصلحته الخاصّة بنظر الإعتبار، وبديهيٌّ أنّ هذه الصفة مذمومة، إذ أنّ على الإنسان في كثير من الحالات أن يعفو ويغفر بدلاً من الإنتقام، ولكنّ (الإنتقام) في اللّغة ليس بهذا المعنى بل يعني إنزال ا لعقاب بالمجرم، ولا شكّ أنّ معاقبة المجرمين العصاة فضلاً عن كونها من الأُمور الحسنة فإنّه لايجوز التهاون فيها وإهمالها لأنّ ذلك يجانب العدالة والحكمة.

هنا لابدّ من ملاحظة ما يلي :

1 ـ أصل (الحقّ) المطابقة والموافقة، لذلك يقال لما يطابق الواقع «الحق». كما أنّ وصف الله بالحقّ ناشيء من كون ذاته القدسية أعظم واقع غير قابل للإنكار. وبعبارة أُخرى «الحق» هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه.

والباء في «الحق» في هذه الآية للمصاحبة،أي يا أيّها النبيّ لقد أنزل عليك الله القرآن مصحوباً بدلائل الحقّ.

2 ـ «التوراة» لفظة عبرية تعني «الشريعة والقانون»، وأُطلقت على الكتاب الذي أنزل الله على موسى بن عمران (عليه السلام). وقد تطلق أيضاً على مجموعة كتب العهد القديم أو أسفاره الخمسة.

إنّ مجموعة كتب العهد القديم تتألّف من التوراة وعدد من الكتب الأُخرى. والتوراة تتألّف من خمسة أقسام، كلّ قسم يسمّى «سفراً» وهي : «سفر التكوين» و«سفر الخروج» و «سفر لاوي» و «سفر الاعداد» و «سفر التثنية». هذه الأقسام من العهد القديم تشرح تكوين العالم والإنسان والمخلوقات وبعضاً من سير الأنبياء السابقين وموسى بن عمران وبني إسرائيل والأحكام.

أمّا الكتب الأُخرى فهي ما كتبه المؤرّخون بعد موسى (عليه السلام) في شرح أحوال

(387)

الأنبياء والملوك والأقوام التي جاءت بعد موسى بن عمران (عليه السلام).

بديهيّ أنّ هذه الكتب ـ عدا الأسفار الخمسة ـ ليست كتباً سماوية واليهود أنفسهم لا يدّعون ذلك. وحتّى «زبور» داود الذي يطلقون عليه اسم «المزامير» هو شرح مناجاة داود ومواعظه.

أمّا أسفار التوراة الخمسة ففيها دلائل تشير إلى أنّها ليست من الكتب السماوية، بل هي كتب تاريخية دوّنت بعد موسى بن عمران (عليه السلام)، إذ فيها بيان موت موسى (عليه السلام)ومراسيم دفنه، وبعض الحوادث التي وقعت بعده، على الأخصّ الفصل الأخير من سفر التثنية الذي يثبت أنّ هذا الكتاب قد كتب بعد موت موسى (عليه السلام).

يضاف إلى ذلك أنّ في هذه الكتب الكثير من الخرافات وهي تنسب أُموراً فاضحة للأنبياء، وبعض الأقوال الصبيانية، ممّا يؤكّد زيف هذه الكتب. والشواهد التاريخية تؤكّد أنّ التوراة الأصلية قد ضاعت، وأنّ أتباع موسى هم الذين كتبوا هذه الكتب بعده(1).

3 ـ «الإنجيل» كلمة يونانية بمعنى «البشارة» أو «التعليم الجديد» وتطلق على الكتاب الذي نزل على عيسى بن مريم (عليه السلام). ومن الجدير بالتنويه أنّ القرآن كلّما أورد اسم كتاب عيسى (عليه السلام) «الإنجيل» جاء به مفرداً وعلى أنّه قد نزل من الله. وعليه فإنّ الأناجيل المتداولة بين أيدي المسيحيّين،وحتّى الأشهر منها، وهي الأناجيل الأربعة «لوقا، ومُرقُس، ومتّى، ويوحنا» ليست من الوحي الإلهي، وهذا ما لا ينكره المسيحيّون أنفسهم، إذ يقولون إنّ هذه الأناجيل قد كتبت بأيدي تلامذة السيّد المسيح (عليه السلام) بعده بمدّة طويلة. ولكنّهم يزعمون أن أُولئك التلامذة قد كتبوها بإلهام من الله.

هنا يحسن بنا أن نتعرّف ـ ولو بإيجاز ـ على «العهد الجديد» والأناجيل وكتّابها :

_____________________________

1 ـ انظر «الهدى إلى دين المصطفى» و «الرحلة المدرسية».

(388)

إنّ أهم كتاب ديني عند المسيحيّين والذي يعتمدونه على أنّه كتاب سماوي هو المجموعة التي يطلق عليها اسم «العهد الجديد».

«العهد الجديد» الذي يبلغ نحو ثلث «العهد القديم» يتألّف من 27 كتاباً ورسالة تشمل موضوعات عامّة متناثرة ومختلفة، على النحو التالي :

1 ـ إنجيل متّى(1) : وهو الإنجيل الذي كتبه «متّى» أحد حواريّي المسيح (عليه السلام)الاثني عشر في سنة 38 ميلادية، وبعض يقول في سنة 50 أو 60 ميلادية(2).

2 ـ إنجيل مُرقُس(3) : بحسب ما جاء في كتاب «القاموس المقدّس» صفحة 792، لم يكن مُرقُس من الحواريّين، ولكنّه كتب إنجيله بإشراف «بطرس». قتل مُرقُس سنة 68م.

3 ـ إنجيل لوقا : كان «لوقا» رفيق سفر «بولس» الرسول. كان «بولس» على عهد المسيح يهودياً متعصّباً، ولكنه اعتنق المسيحية بعده. يقال إنّه توفي في سنة 70 م، وحسبما يقول مؤلّف «القاموس المقدّس» ص 772 : «إنّ تاريخ كتابة إنجيل لوقا يعود إلى حوالي سنة 63 م».

4 ـ إنجيل يوحنا : «يوحنا» كان من تلامذة المسيح (عليه السلام) ومن أصحاب «بولس». يقول صاحب القاموس المذكور، اعتماداً على عدد من المحقّقين : إنّه أُلف في أواخر القرن الأول الميلادي(4).

يتّضح من محتويات هذه الأناجيل، التي تشرح عموماً حكاية صلب المسيح وما جرى بعد ذلك، أنّ جميع هذه الأناجيل قد كتبت بعد المسيح بسنوات وليست كتباً سماوية نزلت على المسيح (عليه السلام).

5 ـ أعمال الرسل : «أعمال الحواريّين ودعاة الصدر الأوّل».

_____________________________

1 ـ متّى : على وزن حتّى، بمعنى عطاء الله.

2 ـ كتاب القاموس المقدّس : ص 782.

3 ـ مُرقُس : على وزن قُنفُذ، وقيل على وزن أسهُم، جمع سهم.

4 ـ القاموس المقدّس : ص 966.

(389)

6 ـ رسائل بولس الأربعة عشرة إلى جهات مختلفة.

7 ـ رسالة يعقوب : «الرسالة العشرون من الرسائل السبع والعشرين في العهد الجديد».

8 ـ رسالتا بطرس : «الرسالتنا 21 و 22 من العهد الجديد».

9 ـ رسائل يوحنا : «الرسائل 23 و 24 و 25 من العهد الجديد».

10 ـ رسالة يهودا : «الرسالة 26 من العهد الجديد».

11 ـ مكاشفة يوحنا : «القسم الأخير من العهد الجديد».

إستناداً إلى المؤرّخين المسيحيّين وحسبما ورد في هذه الأناجيل والكتب والرسائل في العهد الجديد، فإنّ أيّاً منها ليس كتاباً سماوياً، بل هي كتب كتبت بعد المسيح (عليه السلام)، ونستنتج من ذلك أنّ الإنجيل الأصلي السماوي الذي نزل على المسيح (عليه السلام) قد فُقِد وليس له وجود الآن. إنّما تلامذة المسيح أدرجوا بعضاً منه في أناجيلهم ومزجوه ـ مع الأسف ـ بالخرافات.

أمّا القول بأنّ على المسلمين أن لا يشكّوا في صحّة الأناجيل والتوراة الموجودة ـ على اعتبار أنّ القرآن قد صدقّها وشهد لها ـ فإنّه قول مردود،وقد أجبنا عليه في المجلّد الأوّل عند تفسير الآية : (وآمنوا بما أنزلت مصدّقاً لما معكم).

4 ـ بعد ذكر التوراة والإنجيل، يشار إلى نزول القرآن، ولكنّه سمّي الفرقان، لأنّ لفظة «الفرقان» تستعمل في التفريق بين الحقّ والباطل وكلّ ما يميّز الحقّ عن الباطل يقال له «الفرقان». ولذلك يسمّي القرآن حرب بدر «يوم الفرقان»(1)، ففي ذلك اليوم انتصر فريق صغير مفتقر لكلّ أنواع المعدّات الحربيّة على جيش كبير مسلّح ومتفوّق تفوّقاً كبيراً. وكذلك يطلق على معجزات موسى (عليه السلام) العشر اسم «الفرقان» أيضاً(2).

* * *

_____________________________

1 ـ الأنفال : 41.

2 ـ البقرة : 53.

(390)

الآيتان

إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ (5)هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الاَْرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـه إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

التّفسير

علم الله وقدرته المطلقة :

هاتان الآيتان تكمّلان الآيات السابقة التي قرأنا فيها أنّ الله تعالى حيٌّ وقيّوم وهو مدبّر الكون بأجمعه وسيعاقب الكافرين المعاندين (حتّى لو لم يظهروا كفرهم وعنادهم) ومن البديهي أنّ هذه الإحاطة والقدرة لتدبير العالم بحاجة إلى علم غير محدود وقدرة مطلقة، ولهذا أشارت الآية الأُولى إلى علم الله تعالى، وفي الآية الثانية إلى قدرته المطلقة.

في البداية تقول الآية الشريفة (إنّ الله لايخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء).

فكيف يمكن أن يختفي عن أنظاره شيءٌ من الأشياء في حين أنّه حاضرٌ وناظرٌ في كلّ مكان، فلا يخلو منه مكان، وبما أنّ وجوده غيرمحدود، فلا يخلو منه

(391)

مكان معين، ولهذا فهو أقرب إلينا من كلّ شيء حتّى من أنفسنا، وفي نفس الوقت الذي يتنزّه فيه الله تعالى عن المكان والمحل، فإنّه محيطٌ بكل شيء، وهذه الإحاطة والحضور الإلهي بالنسبة لجميع المخلوقات بمعنى (العلم الحضوري) لا (العلم الحصولي)(1).

ثمّ تبيّن الآية التالية واحدة من علم وقدرة الله تعالى الرائعة، بل هي في الحقيقة إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارزٌ لعلم الله وقدرته المطلقة حيث تقول الآية (هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء) ثمّ تضيف (لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم).

إنّه لأمرٌ عجيب ومحيّر حقّاً أن يصوّر الله الإنسان وهو في رحم أُمّه صوراً جميلة ومتنوّعة في أشكالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها.

وهذه الآية تؤكّد أنّ المعبود الحقيقي ليس سوى الله القادر الحكيم الذي يستحقّ العبادة، فلماذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح (عليه السلام) ويعبدونها، ولعلّ هذه العبارة إشارة إلى سبب النزول المتقدّم في بداية السورة من أنّ المسيحيّين أنفسهم يوافقون على أنّ المسيح كان جنيناً في بطن أُمّه مريم، ثمّ تولّد منها، إذن فهو مخلوق وليس بخالق فكيف يكون معبوداً ؟ !

* * *

بحوث

1 ـ مراحل تطوّر الجنين من روائع الخلق

إنّ عظمة مفهوم هذه الآية تجلّت اليوم أكثر من ذي قبل نتيجة للتقدّم الكبير

_____________________________

1 ـ العلم الحضوري : يعني أن يكون المعلوم ذاته حاضراً عند العلم. أمّا في العلم الحصولي فإنّ الحاضر عند العالم هو صورة المعلوم ورسمه، فمثلاً أنّ علمي بنفسي علم حضوري لأنّ نفسي ذاتها حاضرة في نفسي، أمّا بالنسبة للموجودات الأُخرى فعلمنا بها حصولي، لأنّ صورتها فقط هي الحاضرة في أذهاننا.

(392)

في علم الأجنّة. فهذا الجنين يبدأ بخلية، لا شكل لها ولا هيكل ولا أعضاء ولا أجهزة. ولكنّها تتّخذ أشكالاً مختلفة كلّ يوم وهي في الرحم، وكأنَّ هناك فريقاً من الرسّامين المهرة يحيطون بها ويشتغلون عليها ـ ليلَ نهار وبسرعة عجيبة ـ ليصنعوا من هذه الذرّة الصغيرة وفي وقت قصير إنساناً سويّاً في الظاهر، وفي جوفه أجهزة دقيقة رقيقة متعقّدة ومحيّرة. لو أنّ فيلماً صوّر مراحل تطوّر الجنين ـ وقد صوّر فعلاً ـ وشاهده الإنسان يمرّ من أمام عينيه لأدرك بأجلى صورة عظمة الخلق وقدرة الخالق.

والعجيب في الأمر أنّ كلّ هذا الرسم يتمّ على الماء الذي يضرب به المثل في عدم احتفاظه بما يرسم عليه.

من الجدير بالذكر أنّه عندما يتمّ اللقاح ويُخلق الجنين للمرّة الأُولى يسرع بالإنقسام التصاعدي على هيئة ثمرة التوت التي تكون حبّاتها متلاصقة، ويطلق عليه اسم «مرولا». وفي غضون هذا التقدّم تُخلق «المشيمة» وتتكامل، وتتّصل من جهة قلب الأُم بوساطة شريانين ووريد واحد، ومن الجهة الأُخرى تتّصل بسرّة الجنين الذي يتغذّى على الدم القادم إلى المشيمة.

وبالتدريج وعلى أثر التغذية والتطور واتجاه الخلايا نحو الخارج يتجوّف باطن «المرولا»، وعندئذ يطلق عليه اسم «البلاستولا»، ولا تلبث هذه حتى يتكاثر عدد خلاياها، مؤلّفة كيساً ذا جدارين، ثمّ يحدث فيه إنخفاض يقسم الجنين إلى قسمي الصدر والبطن.

إلى هنا تكون جميع الخلايا متشابهة ولا اختلاف بينها في الظاهر. ولكن بعد هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتصوّر، وتتشكّل أجزاؤه بأشكال مختلفة بحسب وظيفتها المستقبلية، وتتكون الأنسجة والأجهزة، وتقوم كلّ مجموعة من الخلايا ببناء أحد أجهزة الجسم وصياغته، كالجهاز العصبي وجهاز الدورة الدموية،

(393)

وجهاز الهضم، وغيرها من الأجهزة، حتّى يصبح الجنين بعد هذه المراحل من التطوّر في مخبئه الخفي في رحم أُمّه إنساناً كامل الصورة. وسوف ندرج ـ بمشيئة الله ـ شرحاً كاملاً لتطوّر الجنين ومراحل تكامله في تفسير الآيه 12 من سورة «المؤمنون».

2 ـ (أرحام) جمع (رحم) يعني في الأصل محل نموّ الجنين في بطن الأُمّ، ثمّ أطلق على جميع الأقرباء الذين يشتركون في أُمّ واحدة المتولّدون من أُمّ واحدة، وبما أنّ حالة من المحبّة والعطف والحنان ترتبط بين هؤلاء الأفراد أطلقت هذه المفردة على كلّ عطف وحنان (رحمة)، ويرى البعض أنّ المفهوم من هذه الكلمة بالعكس، أي أنّ المفهوم الأصلي لها هو رقّة القلب والعطف والمحبّة، ولكن بما أنّ الأقرباء والأرحام يشتركون في هذه الصفة فيما بينهم أطلق على المكان الذي تولّدوا منه كلمة (رحم).

* * *

(394)

الآية

هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ وَأُخَرُ مُتَشَـابِهَـاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الاَْلْبَـابِ(7)

سبب النّزول

جاء في تفسير «نور الثقلين»(1) نقلاً عن كتاب «معاني الأخبار» حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) ما مضمونه : أنّ نفراً من اليهود ومعهم «حي بن أخطب» وأخوه، جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واحتجّوا بالحروف المقطّعة «الم» وقالوا : بموجب حساب الحروف الأبجدية، فإنّ الألف في الحساب الأبجدي تساوي الواحد، واللام تساوي 30، والميم تساوي 40، وبهذه فإنّ فترة بقاء أُمّتك لا تزيد على

_____________________________

1 ـ ج 1 ص 313.

(395)

إحدى وسبعين سنة ! ومن أجل أن يلجمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تساءل وقال ما معناه : لماذا حسبتم «ألم» وحدها ؟ ألم تروا أنّ في القرآن «المص» و «الر» ونظائرها من الحروف المقطّعة، فإذا كانت هذه الحروف تدلّ على مدّة بقاء أُمّتي، فلماذا لا تحسبونها كلّها ؟ (مع أنّ القصد من هذه الحروف أمر آخر) وعندئذ نزلت هذه الآية.

في تفسير «في ظلال القرآن» سبب نزول آخر ينسجم من حيث النتيجة مع سبب النزول المذكور، وهو أنّ جمعاً من نصارى نجران جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)متذرّعين بقول القرآن «كلمة الله وروحه» بشأن المسيح (عليه السلام) في محاولة منهم لاستغلالها بخصوص مسألة «التثليث» و «أُلوهيّة» المسيح، متجاهلين كلّ الآيات الأُخرى الصريحة في عدم وجود شريك أو شبيه لله إطلاقاً، فنزلت الآية المذكورة تردّ عليهم.

التّفسير

المحكم والمتشابه في القرآن :

تقدّم في الآيات السابقة الحديث عن نزول القرآن بعنوان أحد الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة لنبوّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي هذه الآية تذكر أحد مختصّات القرآن وكيفيّة بيان هذا الكتاب السماوي العظيم للمواضيع والمطالب فيقول في البداية : (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات).

أي آيات صريحة وواضحة والتي تعتبر الأساس والأصل لهذا الكتاب السماوي (هنّ أُم الكتاب)، ثمّ أنّ هناك آيات اُخرى غامضة بسبب علوّ مفاهيمها وعمق معارفها أو لجهات اُخرى (وآخر متشابهات).

هذه الآيات المتشابهة إنّما ذكرت لاختبار العلماء الحقيقيّين وتميزهم عن الأشخاص المعاندين اللجوجين الذين يطلبون الفتنة، فلذلك تضيف الآية :(فأمّا

(396)

الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله)فيفسّرون هذه الآيات المتشابه وفقاً لأهواءهم كيما يضلّوا الناس ويسبّهوا عليهم (فامّا الذين في قلوبهم زيغ(1) فيتبعون ما تشـابه منه ابتغاء الفتنة و إبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم).

ثمّ تضيف الآية : أنّ هؤلاء أي الراسخون في العلم بسبب دركهم الصحيح لمعنى المحكمات والمتشابهات (يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربنا) أجل (وما يذكّر إلاّ أولوا الألباب).

* * *

بحوث

في هذه الآية مباحث مهمّة ينبغي بحثها بشكل مستقل كلٌّ على حدة :

1 ـ ما المقصود بالآيات المحكمة والمتشابهة ؟

«المحكم» من «الإحكام» وهو المنع. ولهذا يقال للمواضيع الثابتة القويّة «محكمة» أي أنّها تمنع عن نفسها عوامل الزوال. كما أنّ كلّ قول واضح وصريح لا يعتوره أيّ احتمال للخلاف يقال له «قول محكم».

وعليه فإنّ الآيات المحكمات هي الآيات ذات المفاهيم الواضحة التي لا مجال للجدل والخلاف بشأنها، كآية : (قل هو الله أحد)(2) و (ليس كمثله شيء)(3) و (الله خالق كلّ شيء)(4) و (للذكر مثل حظّ الأُنثيين)(5) وآلاف أُخرى

_____________________________

1 ـ «زيغ» في الأصل بمعنى الإنحراف عن الخط المستقيم والتمايل إلى جهة، والزيغ في القلب بمعنى الإنحراف العقائدي عن صراط المستقيم.

2 ـ سورة الأخلاص : 1.

3 ـ الشورى : 11.

4 ـ الزمر : 26.

5 ـ النساء : 11.

(397)

مثلها ممّا تتعلّق بالعقائد والأحكام والمواعظ والتواريخ، فهي كلّها من «المحكمات».

هذه الآيات المحكمات تسمّى في القرآن «أُمّ الكتاب» أي هي الأصل والمرجع والمفسّرة والموضّحة للآيات الأُخرى.

و «المتشابه» هو ما تتشابه أجزاؤه المختلفة. ولذلك فالجمل والكلمات التي تكون معانيها معقّدة وتنطوي على احتمالات مختلفة، توصف بأنّها «متشابهة». وهذا هو المقصود من وصف بعض آيات القرآن بأنها «متشابهات»، أي الآيات التي تبدو معانيها لأوّل وهلة معقّدة وذات احتمالات متعدّدة، ولكنّها تتّضح معانيها بعرضها على الآيات المحكمات.

وعلى الرغم من أنّ المفسّرين أوردوا احتمالات متعدّدة في تفسير «المحكم» و «المتشابه»(1)، ولكن الذي قلناه يناسب المعنى الأصلي لهذين المصطلحين كما يتّفق مع سبب نزول الآية، وكذلك مع الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية، ومع الآية نفسها، لأنّنا نقرأ بعد ذلك أن المغرضين يتّخذون من الآيات المتشابهات وسيلة لإثارة الفتنة. وهم بالطبع يبحثون لهذا الغرض عن الآيات التي لها تفسيرات متعدّدة.وهذا نفسه يدلّ على أن معنى«المتشابه»هو ما قلناه.

ويمكن إدراج بعض الآيات التي تخصّ صفات الله والمعاد كنماذج من الآيات المتشابهات، مثل (يد الله فوق أيديهم)(2) بشأن قدرة الله، (والله سميعٌ عليمٌ)(3) بشأن علم الله، و (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)(4) بشأن طريقة حساب الأعمال.

_____________________________

1 ـ ذكر «الطبرسي» في مجمع البيان خمسة تفاسير لذلك، وذكر «الفخر الرازي» أربعة أقوال و «العلاّمة» في الميزان ستة عشر قولاً وفي «البحر المحيط» عشرين قولاً تقريباً عن تفسيرها.

2 ـ الفتح : 10.

3 ـ البقرة : 224.

4 ـ الأنبياء : 47.

(398)

بديهيّ أنّ الله لا يد له «بمعنى العضو» ولا أذن «بالمعنى نفسه» ولا ميزان مثل موازيننا يزن بها الأعمال. هذه كنايات عن مفاهيم كلّية لقدرة الله وعلمه وميزانه.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ كلمتي «المحكم والمتشابه» قد وردتا في القرآن بمعنى آخر. ففي أوّل سورة هود نقرأ : (كتابٌ أُحكمت آياته) فهنا أُشير إلى أنّ جميع آيات القرآن محكمات، والقصد هو قوّة الترابط والتماسك بينها. وفي الآية 23 من سورة الزمر نقرأ : (كتاباً متشابهاً) أي الكتاب الذي كلّ آياته متشابهات، وهي هنا بمعنى التماثل من حيث صحّتها وحقيقتها.

يتّضح ممّا قلنا بشأن المحكم والمتشابه أنّ الإنسان الواقعيّ الباحث عن الحقيقة لابدّ له لفهم كلام الله أن يضع الآيات جنباً إلى جنب ثمّ يستخرج منها الحقيقة. فإذا لاحظ في ظاهر بعض الآيات إبهاماً وتعقيداً، فعليه أن يرجع إلى آيات أُخر لرفع ذلك الإبهام والتعقيد ليصل إلى كنهها.

تعتبر الآيات المحكمات في الواقع أشبه بالشارع الرئيسي، والمتشابهات أشبه بالشوارع الفرعية، لاشكّ أنّ المرء إذا تاه في شارع فرعي سعى للوصول إلى الشارع الرئيسي ليتبيّن طريقه الصحيح فيسلكه.

إنّ التعبير عن المحكمات بأُم الكتاب يؤيّد هذه الحقيقة أيضاً، إذ أنّ لفظة «أُم» في اللغة تعني الأصل والأساس، وإطلاق الكلمة على «الأُم» أي الوالدة لأنّها أصل الأُسرة والعائلة والملجأ الذي يفزغ إليه أبناؤها لحلّ مشاكلهم. وعلى هذا فالمحكمات هي الأساس والجذر والأُم بالنسبة للآيات الأُخرى.

2 ـ لماذا تشابهت بعض آيات القرآن ؟

إنّ القرآن جاء نوراً لهداية عموم الناس، فما سبب احتوائه على آيات

(399)

متشابهات فيها إبهام وتعقيد بحيث يستغلّها المفسدون لاثارة الفتنة ؟ هذا موضوع
مهمّ جدير بالبحث والتدقيق. وعلى العموم يمكن أن تكون النقاط التالية هي السرّ في وجود المتشابهات في القرآن :

أوّلاً : إنّ الألفاظ والكلمات التي يستعملها الإنسان للحوار هي لرفع حاجته اليومية في التفاهم. ولكن ما إن نخرج عن نطاق حياتنا الماديّة وحدودها، كأن نتحدّث عن الخالق الذي لا يحدّه أيّ لون من الحدود، نجد بوضوح أنّ ألفاظنا تلك لا تستوعب هذه المعاني، فنضطّر إلى استخدام ألفاظ أُخرى وإن تكن قاصرة لا تفي بالغرض تماماً من مختلف الجهات. وهذا القصور في الألفاظ هو منشأ الكثير من متشابهات القرآن. إنّ آيات مثل (يد الله فوق أيديهم)(1) أو (الرحمن على العرش استوى)(2) أو(إلى ربها ناظرة)(3) التي سوف يأتي تفسيرها في موضعه، تعتبر من هذه النماذج. وهناك أيضاً تعبيرات مثل «سميع» و «بصير»، ولكن بالرجوع إلى الآيات المحكمات يمكن تفسيرها بوضوح.

ثانياً : كثير من الحقائق تختصّ بالعالم الآخر، أو بعالم ما وراء الطبيعة ممّا هو بعيد عن أُفق تفكيرنا، وإنّنا ـ بحكم وجودنا ضمن حدود سجن الزمان والمكان، غير قادرين على إدراك كنهها العميق. قصور أُفق تفكيرنا من جهة، وسمّو تلك المعاني من جهة أُخرى، سبب آخر من أسباب التشابه في بعض الآيات، كالتي تتعلّق بيوم القيامة مثلاً.

وهذ أشبه بالذي يريد أن يشرح لجنين في بطن أُمّه مسائل هذا العالم الذي لم يره بعد، فهو إذا لم يقل شيئاً يكون مقصّراً، وإذا قال كان لابدّ له أن يتحدّث

_____________________________

1 ـ الفتح : 10.

2 ـ طه : 5.

3 ـ القيامة : 3.

(400)

بأُسلوب يتناسب مع إدراكه.

ثالثاً : من أسرار وجود المتشابهات في القرآن إثارة الحركة في الأفكار والعقول وإيجاد نهضة فكرية بين الناس. وهذا أشبه بالمسائل الفكرية المعقّدة التي يعالجها العلماء لتقوية أفكارهم ولتعميق دقّتهم في المسائل.

رابعاً : النقطة الأُخرى التي ترد بشأن وجود المتشابهات في القرآن، وتؤيّدها أخبار أهل البيت (عليهم السلام)، هي أنّ وجود هذه الآيات في القرآن يصعّد حاجة الناس إلى القادة الإلهيّين والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأوصياء، فتكون سبباً يدعو الناس إلى البحث عن هؤلاء وإعتراف بقيادتهم عملياً والإستفادة من علومهم الاُخرى أيضاً. وهذا أشبه ببعض الكتب المدرسية التي أُنيط فيها شرح بعض المواضيع إلى المدرّس نفسه، لكي لا تنقطع علاقة التلاميذ بأُستاذهم، ولكي يستمرّوا ـ بسبب حاجتهم هذه ـ في التزوّد منه على مختلف الأصعدة.

وهذا أيضاً مصداق وصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(1).

3 ـ ما التأويل ؟

الكلام كثير بشأن معنى «التأويل»، والأقرب إلى الحقيقة هو أنّ «التأويل» من «الأول» أي الرجوع إلى الأصل، وهو إيصال العمل أو الكلام إلى الهدف النهائي المراد منه. فإذا أقدم أحد على عمل ولم يكن هدفه من هذا العلم واضحاً، ثمّ يتوضّح ذلك في النهاية، فهذا هو التأويل، كالذي نقرأه في حكاية موسى (عليه السلام) مع الحكيم الذي كان يقوم بأعمال غامضة الأهداف «مثل تحطيم السفينة» فكان هذا

_____________________________

1 ـ مستدرك الحاكم : ج 3 ص 148.

(401)

مدعاة لإنزعاج موسى، ولكن عندما شرح له الحكيم في نهاية المطاف وعند
الفراق أهداف تلك الأعمال، وأنّه قصد إلى تخليص السفينة من الوقوع في يد سلطان غاصب وظالم، ختم شرحه بقوله : (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً)(1).

كذلك إذا رأى الإنسان رؤيا لا تتّضح له نتيجتها، ثمّ تبيّن له تعبيرها بمراجعة شخص أو مشاهدة واقعة، فذلك هو تأويل الرؤيا، مثل يوسف (عليه السلام) الذي قال حين تحقّقت رؤياه الشهيرة عملياً، أو بعبارة اُخرى حين وصلت مرحلتها النهائية (هذا تأويل رؤياي من قبل)(2).

وهكذا إذا صدر عن الإنسان كلام فيه مفاهيم وأسرار خاصّة تشكّل الهدف النهائي لذلك الكلام، فذلك هو التأويل.

هذا هو معنى التأويل في الآية. أي أنّ في القرآن آيات ذات أسرار ومعان عميقة غير أنّ ذوي الأفكار المنحرفة والمقاصد الفاسدة يضعون من عندهم تفسيراً لا أساس له من الصحّة ويستندون إليه لخداع أنفسهم أو غيرهم.

وعليه، فإنّ المقصود من (ابتغاء تأويله) هو أنّ هؤلاء يريدون أن يؤولوا الآيات بصورة تخالف حقيقتها، أي ابتغاء تأويله على خلاف الحقّ.

وكما قرأنا في سبب نزول هذه الآية أنّ بعض اليهود أوّلوا تلك الحروف
المقطّعة في القرآن تأويلاً لا يتّفق مع الحقيقة، فقالوا إنّها تحدّد عمر الإسلام. وهكذا المسيحيّون أساؤوا تأويل «روح منه» ليثبتوا أُلوهيّة المسيح (عليه السلام). هذه كلّها من قبيل «التأويل بخلاف الحقّ»، وإرجاعها إلى مقاصد بعيدة عن الحقيقة.

4 ـ من هم الراسخون في العلم ؟

_____________________________

1 ـ سورة الكهف : 82.

2 ـ سورة يوسف : 100.

(402)

هذا التعبير القرآني ورد في موضعين. هذا أحدهما هنا والآخر في سورة
النساء، إذ يقول : (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل في قبلِك)(1).

وبحسب المعنى اللغوي لهذه الكلمة، فإنّها تعني الذين لهم قدم ثابتة في العلم والمعرفة.

طبيعي أن يكون معنى الكلمة واسعاً يضمّ جميع العلماء والمفكّرين، إلاَّ أنّ بين هؤلاء أفراداً متميّزين لهم مكانتهم الخاصّة، ويأتون على رأس مصاديق الراسخين في العلم وتنصرف إليهم الأذهان عند استعمال هذه الكلمة قبل غيرهم.

وهذا هو الذي تقول به بعض الأحاديث التي تفسّر الراسخين في العلم بأنّهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة الهُدى (عليهم السلام)، فقد سبق أن قلنا إنّ لكلمات القرآن ومفاهيمه معاني واسعة، ومن مصاديقها البارزة الشخصيّات النموذجية السامية التي تُذكر أحياناً وحدها في تفسير تلك الكلمات والمفاهيم.

عن بريد بن معاوية قال : قلت لأبي جعفر «الباقر» (عليه السلام) : قول الله (وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم) قال : «يعني تأويل القرآن كلّه، إلاَّ الله والراسخون في العلم، فرسول الله أفضل الراسخين، وقد علّمه جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله منزلاً عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه»(2).

وهناك أحاديث كثيرة أُخرى في أُصول الكافي(3) وسائر كتب الحديث بهذا الشأن، جمعها صاحبا تفسير «نور الثقلين» وتفسير «البرهان» في ذيل هذه الآية.

_____________________________

1 ـ النساء : 162.

2 ـ تفسير العيّاشي : ج 1 ص 164.

3 ـ اُصول الكافي : ج 1 ص 213.

(403)

وكما قلنا فإنّ تفسير الراسخين بالعلم بأنّهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة الهُدى (عليهم السلام)لايتعارض مع المفهوم الواسع الذي يشمله هذا التعبير، فقد نقل عن ابن عبّاس أنّه قال «أنا أيضاً من الراسخين في العلم» إلاَّ أنّ كلّ امريء يتعرّف على أسرار تأويل آيات القرآن بقدر سعته العلمية، فالذين يصدرون في علمهم عن علم الله اللامتناهي لا شكّ أعلم بأسرار تأويل القرآن، والآخرون يعلمون جزءاً من تلك الأسرار.

5 ـ الراسخون في العلم يعرفون معنى المتشابهات

ثمّة نقاش هامّ يدور بين المفسّرين والعلماء حول ما إذا كانت عبارة (الراسخون في العلم) بداية جملة مستقلّة، أم أنّها معطوفة على (إلاَّ الله). وبعبارة أُخرى : هل أنّ معنى الآية و أنّه (ما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم) ؟ أم أنّه (مايعلم تأويله إلاَّالله) (والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربنا) ؟

إنّ لكلّ فريق من مؤيّدي هذين الإتجاهين أدلّته وبراهينه وشواهده. أمّا القرائن الموجودة في الآية والأحاديث المشهورة المنسجمة معها فتقول إنّ (والراسخون في العلم) معطوفة على «الله»، وذلك :

أوّلاً : يُستبعد كثيراً أن تكون في القرآن آيات لا يعلم أسرارها إلاَّ الله وحده. ألم تنزل هذه الآيات لهداية البشر وتربيتهم ؟ فكيف يمكن أن لايعلم بمعانيها وتأويلها حتّى النبيّ الذى نزلت عليه ؟ هذا أشبه بمن يؤلّف كتاباً لا يفهم معاني بعض أجزائه سواه !

وثانياً : كما يقول المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» : لم يسبق أن رأينا بين علماء الإسلام والمفسّرين من يمتنع عن تفسير آية بحجّة أنّها من الآيات التي لا يعرف معناها سوى الله، بل كانوا جميعاً يجدّون ويجتهدون لكشف أسرار

(404)

القرآن ومعانيه.

وثالثاً : إذا كان القصد هو أنّ الراسخين في العلم يسلّمون لما لا يعرفونه، لكان الأولى أن يقال : والراسخون في الإيمان يقولون آمنّا به. لأنّ الرسوخ في العلم يتناسب مع العلم بتأويل القرآن، ولا يتناسب مع عدم العلم به والتسليم له.

ورابعاً : أنّ الأحاديث الكثيرة التي تفسّر هذه الآية تؤكّد كلّها أنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وعليه فيجب أن تكون معطوفة على «الله». الشيء الوحيد الباقي هو إنّ خطبة «الأشباح» للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة يستفاد منها أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل الآيات ويعترفون بعجزهم.

«وأعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب الحجوب»(1).

ولكن فضلاً عن كون هذه العبارة تناقض بعض الأحاديث المنقولة عنه (عليه السلام)التي قال فيها : إنّ الراسخين في العلم معطوفة على «الله» وإنّهم عالمون بتأويل القرآن، فإنّها لا تنسجم أيضاً مع الأدلّة التي سبق ذكرها(2). وعليه فيلزم تفسير هذه الجملة من خطبه «الأشباح» بما يتّفق والأسانيد الأُخرى التي بين أيدينا.

6 ـ نتيجة الكلام في تفسير الآية

من كلّ ما مرّ قوله تفسيراً لهذه الآية نستنتج أنّ آيات القرآن قسمان : قسم معانيها واضحة جدّاً بحيث لا يمكن إنكارها ولا إساءة تأويلها وتفسيرها، وهذه هي الآيات «المحكمات». وقسم آخر مواضيعها رفيعة المستوى، أو أنّها تدور حول عوالم بعيدة عن متناول أيدينا، كعلم الغيب، وعالم يوم القيامة، وصفات الله،

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 91.

2 ـ انظر تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 315.

(405)

بحيث إنّ معرفة معانيها النهائية وإدراك كنه أسرارها يستلزم مستوىً عالياً من العلم، وهذه هي الآيات «المتشابهات».

المنحرفون والشواذ من الناس يسعون لاستخدام إبهام هذه الآيات لتفسيرها بحسب أهوائهم وبخلاف الحقّ، لكي يثيروا الفتنة بين الناس ويضلّوهم عن الطريق المستقيم. بيدَ أنّ الله والراسخين في العلم يعرفون أسرار هذه الآيات ويشرحونها للناس، فهم بعلمهم الواسع يفهمون المتشابهات كما يفهمون المحكمات، ولذلك فإنّهم يسلّمون بها قائلين إنّها جميعاً من عند الله : (يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا).

وعلى هذا يكون الرسوخ في العلم سبباً في أن يزداد الإنسان معرفة بأسرار القرآن. ولا شكّ أنّ الذين رسخوا في العلم أكثر من غيرهم ـ كالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة الهُدى ـ يعلمون جميع أسرار القرآن، بينما الآخرون يعلمون منها كلّ بقدر سعة علمه. وهذه الحقيقة هي التي تدفع الناس، وحتّى العلماء منهم، للبحث عن المعلّمين الإلهيّين ليتعلّموا منهم أسرار القرآن.

7 ـ (وما يذّكر إلاَّ أُولوا الألباب).

تشير هذه الجملة في ختام الآية إلى أنّ هذه الحقائق يعرفها المفكّرون وحدهم، فهم الذين يدركون لماذا ينبغي أن يكون في القرآن «محكمات» و«متشابهات»، وهم الذين يعلمون أنّه يجب وضع المتشابهات إلى جانب المحكمات لكشفها. لذلك فقد نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال :

«من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هُدي إلى صراط مستقيم»(1)

_____________________________

1 ـ تفسير الصافي في تفسير الآية.

(406)

* * *

الآيتان

رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْم لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ  (9)

التّفسير

النجاة من الزيغ :

بالنظر لاحتمال أن تكون الآيات المتشابهات وأسرارها موضع زلل الناس، فإنّ الراسخين في العلم المؤمنين يلجأون إلى ربّهم إضافة إلى استعمال رأسمالهم العلمي في إدراك حقيقة الآيات. وهذا ما تبيّنه هاتان الآيتان على لسان الراسخين في العلم، وتقولان إنّ الراسخين في العلم والمفكّرين من ذوي البصيرة لا يفتأون يراقبون أرواحهم وقلوبهم لئلاّ ينحرفوا نحو الطرق الملتوية، فيطلبون لذلك العون من الله. فالغرور العلمي يخرج بعض العلماء عن مسيرهم إلى متاهات الضلال، لأنّهم يلتفتون إلى عظمة الخلق والخالق وتفاهة ما عندهم من علم، فيحرمون من

(407)

هداية الله. أمّا العلماء المؤمنون فيقولون : (ربّنا لا تزغ قلوبنا...).

وليس أشدّ تأثيراً في السيطرة على الميول والأفكار من الاعتقاد بيوم القيامة والمعاد. إنّ الراسخين في العلم يصحّحون أفكارهم عن طريق الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، ويحولون دون التأثّر بالميول والأحاسيس المتطرّفة التي تؤدّي إلى الزلل، ونتيجة لذلك يستقيمون على الصراط المستقيم بأفكار سليمة ودون عائق. نعم هؤلاء هم القادرون على الإستفادة من آيات الله كلّ الإستفادة.

في الحقيقة تشير الآية الأُولى إلى إيمان هؤلاء الكامل «بالمبدأ» ، وتشير الآية الثانية إلى إيمانهم الراسخ «بالمعاد».

* * *

(408)

الآيتان

إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُوْلَئكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعُوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَـاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

التّفسير

بعد بيان مواقف الكفّار والمنافقين والمؤمنين من الآيات «المحكمات» و«المتشابهات» في الآيات السابقة، تقول هذه الآية : إذا كان الكفّار المعاندون يحسبون أنّهم بثرواتهم وأبنائهم قادرون على الدفاع عن أنفسهم في الآخرة فهم على خطأ كبير، فهذه الوسائل قد يكون لها تأثيرها المؤقت في هذه الدنيا، ولكنّها عند الله لن يكون لها أيّ تأثير، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. لذلك ينبغي ألاّ يغترّ الإنسان بهذه الأُمور فتحمله على إرتكاب الإثم، وإلاَّ فإنّه يصلى ناراً سيكون هو حطبها.

(409)

 (وأُولئك هم وقود النار)(1)

يفيد هذا التعبير أنّ نار الجحيم مستعرة بوجود المذنبين، وهؤلاء المذنبون هم الذين يديمون أوارها ولهيبها. نعم ثمّة آيات تقول إنّ الحجارة أيضاً تكون وقود نار جهنم بالإضافة إلى المذنبين. ولكن ـ كما قلنا في تفسير الآية 24 من سورة البقرة في الجزء الأول ـ يمكن أن تكون هذه الحجارة هي الأصنام التي كانوا ينحتونها من الحجر. وعليه فإنّ نار جهنّم تستعر بأعمال المذنبين وبمعبوداتهم الباطلة.

ثمّ تشير الآية إلى نموذج من الاُمم السالفة التي كانت قد اُوتيت الثروة الإنسانية والمادية الكثيرة، ولم تستطيع هذه الثروة أن تكون مانع من هلاكهم.

(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب).

«الدأب» إدامة السير، والعادة المستمرّة دائماً على حالة واحدة. فهذه الآية تشبّه حال الكفّار المعاصرين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان آل فرعون قد اعتادوا عليه ـ وكذلك الأقوام السابقة ـ من تكذيب آيات الله، فأخذهم الله بذنبهم وأنزل بهم عقابه الصارم في هذه الدنيا.

هذا في الواقع إنذار للكافرين المعاندين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكي يعتبروا بمصير الفراعنة والأقوام السالفة، ويصحّحوا أعمالهم.

صحيح أنّ الله «أرحم الراحمين» ولكنه في المواضع ومن أجل تربية عبيده «شديد العقاب» أيضاً، ولا ينبغي أن يغترّ العبيد برحمة مولاهم الواسعة أبداً.

يستفاد أيضاً من «الدأب» أنّ هذه الإتّجاه الخطأ ـ أي العناد إزاء الحقيقة

_____________________________

1 ـ سبق أن قلنا إنّ «الوقود» هو ما تشتعل به النار كالحطب، لا ما تشتعل به النار كالكبريت.

(410)

وتكذيب آيات الله ـ أصبح عادة ثابتة فيهم، ولهذا يهدّدهم بعذاب شديد، وذلك لأنّه ما دام الإثم لم يصبح عادةً ونهجاً في الحياة فإنّ الرجوع عنه ميسور وعقابه خفيف، ولكنّه إذا نفذ إلى داخل أعماق الإنسان فالرجوع عنه متعذّر، والعقاب عليه شديد. فخير للكافرين أن ينتهزوا الفرصة قبل فوات الأوان ويرجعوا عن طريق الضلال.

* * *

(411)

الآية

قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)

سبب النّزول

بعد حرب بدر وانتصار المسلمين قال فريق من اليهود : إنّ النبيّ الأُميّ الذي بشرنا به موسى، ونجده في كتابنا بنعته وصفته، وأنّه لا تُردّ له راية، ثمّ قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتّى تنظروا إلى واقعة اُخرى.

فلمّا كان يوم اُحد، ونكَّب أصحاب رسول الله، شكّوا وقالوا : لا والله ما هو به، فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا. وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدّة لم تنقض، فنقضوا ذلك العهد قبل أجله، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكّة في ستين راكباً، فواقفوهم واجمعوا أمرهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لتكونن كلمتنا واحدة، ثمّ رجعوا إلى المدينة. عندئذ نزلت الآية المذكورة تقول لهم إنّ الحساب قريب وأنكم جميعاً ستكونون عمّا قريب من المغلوبين(1).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 413.

(412)

التّفسير

مع ما تقدّم في سبب النزول يتضح أن الكفّار المغرورين بأموالهم وأولادهم، وعددهم وعدّتهم يتوقعون هزيمة الإسلام، ولكن القرآن الكريم يصرح في هذه الآية بأنهم سيُغلبون، ويخاطب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يخبرهم بذلك وأن عاقبتهم في الدنيا والآخرة ليست سوى الهزيمة والذلّ والعذاب الأليم : (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد)(1).

تنّبؤ صريح

هناك أخبار غيبية كثيرة في القرآن الكريم تعتبر من أدلة عظيمته وإعجازه. والآية أعلاه واحدة من هذه الأخبار الغيبية.

وفي هذه الآية يبشّر الله نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالانتصار على جميع الأعداء، وينذر الكافرين بأنّهم فضلاً عن اندحارهم في هذه الدنيا، فإنّ لهم في الآخرة شرّ مصير.

إذا لاحظنا سبب نزول الآية، وكونها نزلت بعد فشل المسلمين في أُحد، 0وظهور ضعفهم الظاهري، وازدياد قوّة الأعداء باتّحادهم وتكاتفهم فإنّ هذا التنبّؤ الصريح وعلى الأخصّ عن المستقبل القريب : (ستُغلَبون) يكون أمراً مثيراً للإنتباه. ومن هنا يمكن اعتبار هذه الآية من آيات إعجاز القرآن، لوجود هذا التنبّؤ عن المستقبل فيه، في الوقت الذي لا تشير فيه الظواهر إلى احتمال انتصار المسلمين على الكفّار واليهود.

ولم تمض فترة طويلة حتّى تحقّقت نبوءة الآية وهُزم يهود المدينة «بنو قريضة، وبنو النضير»، وفي خيبر ـ أهم معقل من معاقلهم ـ اندحروا وتلاشت قواهم. كما هُزم المشركون في فتح مكّة هزيمة نكراء.

* * *

_____________________________

1 ـ «مهاد» بمعنى المكان المهيأ، كما يقول الراغب، وهي في الأصل من مادة (مَهْد) وهو محل استراحة الطفل.

(413)

الآية

قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَـاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُّوْلِي الاَْبْصَـارِ (13)

سبب النّزول

نزلت هذه الآية بشأن حرب «بدر». يقول المفسّرون إنّ عدد المسلمين يوم بدر كان 313 شخصاً، منهم 77 من المهاجرين و 236 من الأنصار. كان لواء المهاجرين بيد عليّ (عليه السلام)، وكان سعد بن عبادة صاحب لواء الأنصار. وكانت عُدّتهم لا تتجاوز 70 بعيراً، وفرسين، وستة دروع، وثمانية سيوف، خاضوا بها تلك الحرب الكبيرة، في وجه عدوّ يزيد عدده على الألف، مع الكثير من السلاح ومائة فرس. ومع ذلك فقد انتصر المسلمون بتقديم 22 شهيداً «14 من المهاجرين و 8 من الأنصار»، في مقابل 70 قتيلاً و 70 أسيراً من الأعداء، وعادوا إلى المدينة تزيّنهم أكاليل النصر. وهذه الآية تحكي جانباً من معركة بدر(1).

_____________________________

1 ـ ما ذكر أعلاه ورد في مجمع البيان ولكن ورد في «الكامل» لابن الأثير : ج 3 ص 136 أنه «وكان جميع مَن قُتلَ من المسلمين ببدر أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار».

(414)

التّفسير

معركة بدر والتأييد الإلهي :

تعقيباً على الآيات السابقة التي حذّر القرآن فيها الكافرين من الاغترار بالمال والأبناء والأتباع، جاءت هذه الآية شاهداً حيّاً على هذا الأمر، فتدعوهم إلى الاعتبار بما جرى في معركة بدر التاريخية.

(قد كان لكم آية في فئتين التقتا).

كيف لا تكون لهم عبرة، وهم يرون أنّ جيشاً صغيراً لا يملك شيئاً من العدّة، سوى الإيمان الراسخ، ينتصر على جيش يفوقه أضعافاً في العدد والعدّة. فلو كان المال والعدد ـ بغير إيمان ـ قادرين على شيء لظهر مفعولهما في معركة بدر، ولكن النتيجة كانت معكوسة.

(يرونهم مثليهم رأي العين).

تقول الآية : إنّ الكفّار كانوا يرون جند المسلمين ضعف عددهم. أي أنّهم إذا كانوا 313 شخصاً كان الكفّار يرونهم أكثر من 600 شخص(1). ليزيد من خوفهم، وكان هذا أحد أسباب هزيمة الكفّار.

وهذا ـ فضلاً عن كونه إمداداً غيبياً من الله انتصر به المسلمون، لأنّ الله يمدّ عباده المجاهدين المؤمنين بمختلف السبل ـ كان أمراً طبيعياً من حيث جانبه الظاهري، وذلك لأنّ الضربات الشديدة التي أنزلها المسلمون ـ بقوة إيمانهم وتربيتهم الإسلامية ـ على الأعداء، أثارت فيهم الرعب والهلع فظنّوا أنّ هناك قوّة

_____________________________

1 ـ هذا التفسير يعتمد على إرجاع الضمير في «يرون» إلى الكفّار، والضمير «هم» إلى المسلمين. وهذا اوضح التفاسير العديدة للآية.

   وسنشرح معركة بدر شرحاً وافياً عند تفسير الآيات 41 ـ 45 من سورة الانفال.

(415)

أُخرى التحقت بالمسلمين، ولذلك ظنّوا أنّ المسلمين يحاربون بضعف قوّتهم الأُولى ويسيطرون على ميدان الحرب سيطرة تامّة، مع أنهم قبل الدخول لم يكن يخطر لهم ذلك أبداً، بل كانوا يرون المسلمين أقلّ ممّا كانوا عليه. في الآية 44 من سورة الأنفال إشارة إلى ذلك أيضاً (وإذ يريكمُوهم إذا التقيتم في أعيُنِكم قليلاً ويُقلّلُكم في أعيُنِهم ليقضي اللهُ أمراً كان مفعولاً).

تذكّروا يوم لقائكم بهم في ميدان الحرب، فقد أظهرناكم في أعينهم قلّة لكي لا يتجنّبوا حرباً ستؤدّي إلى هزيمتهم ـ كما أظهرناهم في أعينكم قلّة لكي لا تضعف معنوياتكم في حرب مصيرية ـ . وما أن بدأ الحرب حتّى تبدّلت المشاهد، وظهر المسلمون في أعين الأعداء بأعداد مضاعفة، فكان هذا واحداً من أسباب هزيمتهم.

وجاء في بعض الروايات أن أحد المسلمين قال : قبل نشوب القتال في بدر قلت لرفيق لي : ألاّ تظن أن عدد الكفّار سبعون نفراً ؟ فقال : إني احسبهم مائة نفر، ولكن عندما انتصرنا في الحرب وأسرنا منهم عدداً غفيراً سمعنا أن عددهم ألف نفر(1).

(والله يؤيّد بنصره من يشاء).

تشير الآية إلى حقيقة أنّ الله ينصر من يشاء. لقد سبق أن قلنا إنّ مشيئة الله وإرادته لا تكون بغير حساب، بل هي تكون بموجب حكمته وفي حدود لياقة الأفراد، أي أنّ الله يؤيّد الذين يستحقّون ذلك.

جدير بالذكر أنّ النصر الإلهي للمسلمين في الحادثة التاريخية كان ذا جانبين، فقد كان «نصراً عسكرياً» و «نصراً منطقياً». فمن الناحية العسكرية :

_____________________________

1 ـ تفسير القرطبي : ج 2 ص 1268.

(416)

انتصر جيش صغير مفتقر إلى المعدّات الحربية على جيش يبلغ أضعافه عدداً وإمكانات. ومن الناحية المنطقية : فإنّ الله كان قد أخبر المسلمين صراحة بهذا النصر قبل بدء الحرب.

(إنّ في ذلك لعبرةً لأُولي الأبصار).

في ختام الآية يؤكّد سبحانه أنّ الذين وهبوا البصيرة بحيث يرون الحقائق كما هي، يعتبرون بهذا الانتصار الذي أحرزه أُناس مؤمنون، ويدركون أنّ أساس هذا الانتصار هو الإيمان... الإيمان وحده(1).

* * *

_____________________________

1 ـ «عبرة» في الأصل من مادة «عبور» بمعنى الانتقال من مرحلة إلى اُخرى أو من مكان إلى آخر ويقال لدمع العين «عَبرة» على وزن «حسرة» لأنه يعبر من العين، ويقال للكلمات التي تمر من خلال اللسان والاُذن «عبارات» أيضاً وكذلك يقال للحوادث «عِبرة» لأجل أن الإنسان عندما يراها يعلم بمخلفاتها من الحقائق.

(417)

الآية

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَـاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالاَْنْعَـامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَـاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَئَابِ(14)

التّفسير

جاذبية المتاع الدنيوي :

تعقيباً على الآيات السابقة التي اعتبرت الإيمان رأس المال الحقيقي للإنسان ـ لا المال والبنين والأنصار ـ تشير هذه الآية إلى حقيقة أنّ الزوجة والأبناء والأموال إنَّما هي ثروات تنفع في الحياة المادّية هذه، ولكنّها لا يمكن أن تشكّل هدف الإنسان الأصيل. صحيح أنّه بغير هذه الوسائل لا يمكن السير في طريق السعادة والتكامل المعنوي، إلاَّ أنّ الإستفادة منها في هذا السبيل شيء وحبّها وعبادتها ـ بغير أن تكون مجرّد وسيلة يستفاد منها ـ شيء آخر.

في هذه الآية بضع نقاط ينبغي الإلتفات إليها :

(418)

1 ـ مَن الذي جعل المادّيات زينة ؟

في تعبير (زُيِّنَ للناس حبُّ الشهوات...)(1) جاء الفعل مبنيّاً للمجهول، أي أنّ الفاعل المجهول قد زيَّن للناس حبّ الزوجة والأولاد والأموال. في هذه الحالة يخطر للمرء هذا السؤال : ترى من هو الذي زيَّن هذه الاُمور للناس ؟

بعض المفسّرين يرون أنّ هذه المشتهيات من عمل الشيطان الذي يزيّنها في أعين الناس، ويستدلّون على ذلك بالآية 24 من سورة النمل : (وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم) وأمثالها. إلاَّ أنّ هذا الاستدلال لا يبدو صحيحاً، لأنّ الكلام في الآية التي نبحث فيها لا تتكلّم عن «الأعمال»، بل عن الأموال والنساء والأبناء.

إنّ التفسير الذي يبدو صحيحاً هو أنّ الله هو الذي زيَّن للناس ذلك عن طريق الخلق والفطرة والطبيعة الإنسانية.

إنّ الله هو الذي جعل حبّ الأبناء والثروة في جبلّة الإنسان لكي يختبره ويسير به في طريق التربية والتكامل، كما يقول القرآن (إنّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أحسنُ عملاً)(2).

ممّا يثير الإلتفات في الآية أنّ الزوجة أو المرأة قد وردت أوَّلاً، وهذا هو ما يقول به علماء النفس اليوم، بأنّ الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز في الإنسان، كما أنّ التاريخ المعاصر والقديم يؤيّد أنّ كثيراً من الحوادث الإجتماعية ناشئة عن طغيان هذه الغريزة.

وينبغي القول أيضاً إنّ هذه الآية والآيات المشابهة لا تذمّ العلائق المعتدلة مع المرأة والأولاد والمال، لأنّ التقدّم نحو الأهداف المعنوية غير ممكن بدون الوسائل المادّية، وهي لا تتعارض مع نواميس الخلق الطبيعية. إنّما المذموم هو

_____________________________

1 ـ الشهوات : جمع شهوة، أي حبّ شيء من الأشياء حبّاً شديداً ، ولكنها في هذه الآية بمعنى المشتهيات.

2 ـ الكهف : 7.

(419)

الإفراط في هذه العلائق، وبعبارة أُخرى : المذموم هو عبادة هذه الأُمور.

2 ـ ما هي «القناطير المقنطرة» و «الخيل المسوّمة» ؟

«قناطير» جمع قنطار، وهو الشيء المحكم، ثمّ أُطلق على المال الكثير. وإطلاق «القنطرة» على الجسر، و «القِنْطَر» على الشخص الذكي إنّما هو لإحكام البناء أو الفكر. و «المقنطرة» اسم مفعول يدلّ على الكثرة والمضاعفة، وذكرهما متتاليين يعني التوكيد، كقولنا «آلاف مؤلّفة» ونقصد به الكثرة الكاثرة.

هناك من حدّد وزن القنطار بأنّه يساوي سبعين ألف دينار ذهباً، وقال بعض إنّه مائة ألف دينار، وقال آخرون إنّه يساوي اثني عشر ألف درهم، ويقول بعض إنّ القنطار كيس مملوء ذهباً أو فضة.

وفي رواية عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) أنّ القنطار مقدار من الذهب الذي يملأ جلد بقرة. إلاَّ ا نّ كلّ هذه تشير إلى المال الوفير.

«الخيل» اسم جمع للفرس، وتطلق على الفرسان أيضاً. والمقصود في الآية هو المعنى الأول طبعاً.

و «المسوّمة» بمعنى المعلّمة أي ذات العلامة، فقد تُعلّم الخيل لإبراز جمال هيكلها ورشاقتها، أو لمعرفة أنّها مدرّبة ومعدّة للركوب في ميادين القتال.

وعليه، فإنّ الآية تعدّد ستة من ثروات الحياة وهي : المرأة، والولد، والمال، والخيول الأصيلة، والمواشي والإبل، والزراعة، وهي أركان الحياة المادّية.

3 ـ ما هو المراد بـ (متاع الحياة الدنيا) ؟

«المتاع» هو الإنتفاع بالشيء بعض الوقت. والحياة الدنيا هي الحياة الواطئة الحقيرة. فيكون معنى الآية : إذا عشق أحد هذه الأشياء الستة وحدها باعتبارها الهدف النهائي للحياة، ولم يستفد منها كسلّم للصعود في مسيرة حياته، يكون قد اختار لنفسه حياة منحطّة.

(420)

وفي الحقيقة أنّ تعبير «الحياة الدنيا» إشارة إلى سير الحياة التكاملي، إذ أنّ هذه الحياة الدنيا تعتبر المرحلة الأُولى في ذلك السير. لذلك تشير الآية في النهاية إلى الحياة السامية التي تنتظر الإنسان فتقول (والله عنده حسن المآب).

4 ـ كما تقدّم في تفسير الآية، فقد اشارت الآية إلى النساء من بين النعم المادّية وقدّمتها على الجميع، لأنّها بالقياس الى النعم الاُخرى أقوى تأثيراً واشدّ جاذبية لأهل الدنيا وقد تدعوهم إلى ارتكاب أعظم الجنايات في هذا السبيل.

* * *

(421)

الآيات

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْر مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرضْوَانٌ مِنَ اللهِ واللهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّـابرِيِنَ وَالصَّـادِقِينَ وَالْقَـانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرينَ بِالاَْسْحَارِ(17)

التّفسير

هذه الآية توضّح الخطّ البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي اُشير إليه في الآية السابقة. تقول الآية : هل أُخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادّية المحدودة في الدينا، تلك الحياة فيها كلّ ما في هذه الحياة من النِعم لكنّها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين.

بساتينها، لا كبساتين الدنيا، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها : (تجري من تحتها الأنهار).

(422)

ونِعمها دائمة أبدية، لا كنِعم الدنيا السريعة الزوال : (خالدين فيها).

نساؤها خلافاً لكثير من غواني هذه الدنيا، ليس في أجسامهنّ ولا أرواحهنّ نقطة ظلام وخبث : (وأزواج مطهّرة).

كلّ هذا بانتظار المتّقين. وأسمى من ذلك كلّه، النِعم المعنوية التي تفوق كلّ تصورّ وهي (رضوان من الله).

نلاحظ أنّ الآية تبدأ بجملة : «أُونّبؤكم» الإستفهامية الموجّهة إلى الفطرة الإنسانية الواعية لكي تكون أنفذ في السامع وأعمق، ثمّ إنّ الإستفهام ينصّ على «الإنباء» التي تستعمل للإدلاء بخبر مهمّ جدير بالاستيعاب.

وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية الممزوجة بالمعصية، فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كلّ نقص وعيب. إلاَّ أنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتّعوا بها بصورة مشروعة.

هل في الجنّة لذائذ مادّية أيضاً ؟

يظنّ بعضهم أنّ اللذائذ المادّية مقتصرة على الحياة الدنيا، وأنّ الحياة الأُخرى خالية منها، وأنّ جميع ما جاء في القرآن عن الجنّات والفواكه والمياه الجارية والأزواج الطاهرة إنّما هي كناية عن مقامات ونِعم معنوية من باب «كلّم الناس على قدر عقولهم».

ولكنّنا ينبغي أن نقول : إنّنا بعد أن قبلنا بالمعاد الجسماني إستناداً إلى الكثير من آيات القرآن الصريحة، فلابدّ من وجود نِعم تناسب الجسم والروح وبمستوى أرفع وأعلى. وفي هذه الآية إشارة إلى كليهما : ما يناسب المعاد الجسمانى، وما يناسب المعاد الروحي.

(423)

في الواقع، إنّ الذين يعتبرون نِعم الآخرة المادّية كناية عن نِعم معنوية، إنّما يؤوّلون ظاهر آيات القرآن دون سبب، كما أنّهم ينسون المعاد الجسماني وما يقتضيه.

ولعلّ جملة (والله بصير بالعباد) التي جاءت في آخر الآية إشارة إلى هذه الحقيقة، أي أنّه يعلم ما يحتاجه الجسم والروح في العالم الآخر، وما هي متطلّبات كلّ منهما وهو يضمن إشباع هذه الحاجات على أحسن وجه.

(الذين يقولون ربّنا إنّنا...).

في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرّف على المتّقين الذين كانوا في الآية السابقة مشمولين بِنِعم الله العظيمة في العالم الآخر، فتعددان ستّ صفات من صفاتهم الممتازة.

1 ـ إنّهم يتوجّهون إلى الله بكلّ جوارحهم، والإيمان يضيء قلوبهم، ولذلك يحسّون بمسؤولية كبيرة في كلّ أعمالهم، ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة، فيطلبون مغفرته والنجاة من النار : (فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار).

2 ـ مثابرون صابرون ذوو همّة، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في مسيرة إطاعتهم لله وتجنّبهم المعاصي، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية والإجتماعية (الصابرين).

3 ـ صادقون ومستقيمون، وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر، ويتجنّبون النفاق والكذب والخيانة والتلوّث (والصادقين).

4 ـ في طريق العبودية لله خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك (والقانتين)(1).

5 ـ لاينفقون من أموالهم فحسب، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النِعم المادّية والمعنوية في سبيل الله، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع (والمنفقين).

_____________________________

1 ـ «قانتين» من مادة «قنوت» بمعنى الخضوع امام الله وأيضاً بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية.

(424)

6 ـ في أواخر الليل وعند السحر، أي عندما يسود الهدوء والصفاء وحين يغطّ الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادّي، يقوم ذوو القلوب الحيّة اليقظة، ويذكرون الله ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور الله وجلاله، وتلهج كلّ ذرّة من وجودهم بتوحيده سبحانه (والمستغفرين بالأسحار).

* * *

بحوث

1 ـ في تفسير هذه الآية، روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال : «من قال في آخر صلاة الوتر في السحر «استغفر الله وأتوب إليه» سبعين مرّة، وداوم على ذلك سنة كتبه الله من المستغفرين بالأسحار»(1).

2 ـ «السحر» في أصل اللغة هو «التغطية والإخفاء». ولمّا كانت ساعات الليل الأخيرة تغطّي كلّ شيء بستار خاصّ، فقد سمّيت بالسحر. و«السحر» ـ بكسر السين ـ من المادّة نفسها، لأنّ الساحر يقوم بأعمال تخفى أسرارها على الآخرين. وقد يطلق العرب اسم «السحر» ـ بوزن البشر ـ على الرئة لإختفاء ما فيها.

لماذا يشار إلى السحر من بين جميع ساعات الليل والنهار، مع أنّ الاستغفار وذكر الله مطلوبان في كلّ وقت ؟ السبب هو ما تتميّز به ساعات السحر من هدوء وسكون وابتعاد عن الأعمال المادّية، وللنشاط الذي يشعر به المرء بعد استراحته ونومه، فيكون أكثر استعداداً للتوجّه إلى الله. وهذا ما يسهل دركه بالتجربة، حتّى أنّ بعض العلماء يستثمرون وقت السحر لحلّ المسائل العلمية، إذا أنّ سراج الفكر وروح الإنسان أكثر تلألؤاً وسطوعاً في ذلك الوقت من أيّ وقت آخر. ولمّا كانت روح العبادة والاستغفار هي التوجّه وحضور القلب، فإنّ العبادة والاستغفار في هذا الوقت أسمى من أيّ وقت آخر.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان : ج 1 ص 273.

(425)

الآية

شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئَكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

التّفسير

الجميع يشهد بالوحدانية:

تعقيباً على البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين الحقيقيين، تشير هذه الآية إلى بعض أدلّة التوحيد ومعرفة الله فتقول بأن الله تعالى يشهد بوحدانيته (من خلال إيجاد النظام الكوني العجيب)، كما تشهد الملائكة، ويشهد بعد ذلك العلماء والذين ينظرون إلى حقائق العالم بنور العلم والمعرفة (شهِد الله أنّه لا إله إلاَّ هُوَ والملائكةُ وأُولوا العلم).

* * *

بحوث

1 ـ كيف يشهد الله على وحدانيّته ؟

المقصود من شهادة الله هنا هو الشهادة العملية والعقلية، لا الشهادة اللفظية.

(426)

أي أنّ الله بخلقه عالم المخلوقات الذي يسوده نظام موحّد، وتتشابه قوانينه في كلّ مكان، وتجري وفق برنامج واحد، لتكوّن «وحدة واحدة» و «نظاماً واحداً»، قد أظهر عملياً أنّ الخالق والمعبود في العالم ليس أكثر من واحد، وأنّ كلّ شيء ينطلق من ينبوع واحد. وعليه فإنّ خلق هذا النظام الواحد شهادة ودليل على وحدانيّته.

أمّا شهادة الملائكة والعلماء، فهي شهادة لفظية، فهم بالتعبير اللفظي الذي يناسبهم يعترفون بهذه الحقيقة. أنّ هذا اللون من التفكيك في الآيات القرآنية كثير في الآية (إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ)(1)، لا شكّ أنّ صلاة الله على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غير صلاة الملائكة عليه، فصلاة الله هي إرسال الرحمة، وصلاة الملائكة هي طلب الرحمة.

بديهيّ أنّ لشهادة الملائكة والعلماء جانبها العملي أيضاً، ذلك لأنّهم لا يعبدون سواه، ولا يخضعون لمعبود غيره.

2 ـ ما القيام بالقسط ؟

إنّ عبارة (قائماً بالقسط) حال من فاعل «شهد» وهو «الله». أي أنّ الله يشهد بوحدانيّته في حالة كونه قائماً بالعدالة في عالم الوجود. وهذا في الحقيقة دليل على شهادته، لأنّ العدالة هي إختيار الطريق الوسط والمستقيم، بمعزل عن كلّ إفراط وتفريط وانحراف. ونعلم أنّ الطريق الوسط المستقيم لابدّ أن يكون طريقاً واحداً، كما نقرأ في الآية 153 من سورة الأنعام (وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُبُل فَتَفَرَّقَ بِكم عن سبيلهِ).

تقول هذه الآية إنّ طريق الله واحد، بينما طرق المنحرفين والبعيدين عن الله

_____________________________

1 ـ الأحزاب : 56.

(427)

متعدّدة ومتناثرة، وذلك لورود الصراط المستقيم بصيغة المفرد، وسُبل المنحرفين بصيغة الجمع.

النتيجة هي أن «العدالة» تصاحب «النظام الواحد»، والنظام الواحد دليل على «المبدأ الواحد». وبناءً على ذلك فإنّ العدالة بمعناها الحقيقي في عالم الخلق دليل على وحدانية الخالق، فتأمّل.

3 ـ أهمية العلماء

العلماء في هذه الآية وضِعوا إلى جانب الملائكة، وهذا بذاته تمييز للعلماء على غيرهم. كما يستفاد من الآية أنّ العلماء إنّما امتازوا على غيرهم لأنّهم بعلمهم توصّلوا إلى معرفة الحقائق، وعلى رأسها معرفة وحدانية الله.

من الواضح أنّ الآية تشمل جميع العلماء، أمّا قول بعض المفسّرين بأنّ (أُولوا العلم) هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) فلأن الأئمّة من أظهر مصاديق ذلك.

ينقل المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» ضمن تفسير هذه الآية، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «ساعة من عالم يتّكىء على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاماً».

* * *

يتكرّر تعبير (لا إله إلاَّ هو) في نهاية الآية، ولعلّ التكرار إشارة إلى أنّه ما جاءت في البداية شهادة الله والملائكة والعلماء، كذلك على من يسمع هذه الشهادات أن يردّدها هو أيضاً معهم، ويشهد على وحدانية المعبود.

ولمّا كان قوله (لا إله إلاَّ هو) تعظيماً وإظهاراً لوحدانيّته، فقد اختتم بالصفتين «العزيز» و «الحكيم» لأنّ القيام بالقسط يتطلّب القدرة والحكمة، وأن الله القادر

(428)

على كلّ شيء، والعليم بكلّ شيء هو وحده القادر على إجراء العدالة في عالم الوجود.

هذه الآية من الآيات التي كانت موضع اهتمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دائماً وكان يردّدها في مواضع مختلفة.

وروي عن الزبير بن العوام قال : قلت لأدنونّ هذه العشية من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وهي عشية عرفة، حتّى أسمع ما يقول...، فسمعته يقول : (شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو) الآية، فما زال يرددها حتّى رفع(1).

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 2 ص 421.

(429)

الآية

إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الاِْسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَـاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

التّفسير

روح الدين التسليم للحقّ :

«الدِين» في الأصل بمعنى الجزاء والثواب، ويطلق على «الطاعة» والإنقياد للأوامر، و «الدين» في الإصطلاح : مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا، وأن يخطو في المسير الصحيح من حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية.

«الإسلام» يعني التسليم، وهو هنا التسليم لله. وعلى ذلك، فإنّ معنى (إنّ الدِين عند الله الإسلام) : إنّ الدين الحقيقي عند الله هو التسليم لأوامره وللحقيقة. في الواقع لم تكن روح الدين في كلّ الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة.

وإنّما أطلق اسم «الإسلام» على الدِين الذي جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)لأنّه أرفع الأديان.

(430)

وقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) هذا المعنى في بيان عميق فقال : «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل»(1).

فالإمام في كلمته هذه يضع للاسم ستّ مراحل، أولاها التسليم أمام الحقيقة، ثمّ يقول إنّ التسليم بغير يقين غير ممكن (إذ أنّ التسليم بغير يقين يعني الإستسلام الأعمى، لا التسليم الواعي). ثمّ يقول إنّ اليقين هو التصديق (أي أنّ العلم وحده لايكفي، بل لابدّ من الاعتقاد والتصديق القلبيّين) والتصديق هو الإقرار (أي لا يكفي أن يكون الإيمان قلبيّاً فحسب، بل يجب إظهاره بشجاعة وقوّة)، ثمّ يقول إنّ الإقرار هو الأداء (أي أنّ الإقرار لا يكون بمجرّد القول باللسان، بل هو إلتزام بالمسؤولية). وأخيراً يقول إنّ الأداء هو العمل (أي إطاعة أوامر الله وتنفيذ البرامج الإلهية) لأنّ الإلتزام وتحمّل المسؤولية لا يعنيان سوى العمل. أمّا الذين يسخّرون كلّ قواهم وطاقاتهم في عقد الجلسات تلو الجلسات وتقديم الإقتراحات وما إلى ذلك من الأُمور التي لا تتطلّب سوى الكلام فلا هم تحمّلوا إلتزاماً ولا مسؤولية، ولا هم وعوا روح الإسلام حقّاً.

هذا أجلى تفسير للإسلام من جميع جوانبه، ثمّ إنّ الآية تذكر علّة الاختلاف الديني على الرغم من الوحدة الحقيقية للدين الإلهي وتقول :

(وما اختلف الذين أُوتوا الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم).

فعلى هذا إن الاختلاف ظهر أوّلاً بعد العلم والإطلاع على الحقائق. وثانياً كانت الدوافع لذلك هي الظلم والطغيان والحسد. فاليهود اختلفوا في خليفة موسى ابن عمران (عليه السلام) واقتتلوا بينهم، والمسيحيون اختلفوا في أمر التوحيد حيث خلطوه

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة : قصار الكلمات، 120، اُصول الكافي : ج 2 ص 45 مع تفاوت يسير.

(431)

بالشرك والتثليث، وقد اختلف كلّ منهما في أمر الإسلام ودلائل صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)الواردة في كتبهم، فقبل بعضهم وانكر آخرون.

والخلاصة إنّ لكلّ دين سماوي دلائله الواضحة التي لا تترك إبهاماً أمام الباحث عن الحقيقة. فالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً ـ بالإضافة إلى أنّ المعجزات والدلائل الواضحة في نصوص دينه تؤكّد صدقه ـ وردت أوصافه وعلاماته في الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى، ولذلك بشّر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره، ولكنّهم بعد أن بُعث رأوا مصالحهم في خطر، فأنكروا كلّ ذلك، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.

(ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريعُ الحساب).

هذا بيان لمصير أمثال هؤلاء الذين لا يعترفون بآيات الله. إنّهم سوف يتلقّون نتائج عملهم هذا، فالله سريع في تدقيق حساباتهم(1).

المراد من «آيات الله» في هذه الآية ما يشمل جميع آياته وبراهينه وكتبه السماوية، ولعلّها تشمل أيضاً الآيات التكوينية في عالم الوجود، وما ذكره بعض المفسرين من أنها تعني آيات التوراة والإنجيل خاصة، لا دليل عليه.

* * *

ملاحظة

منشأ الإختلافات الدينية

ممّا يلفت النظر في هذه الآية هو أنّ سبب الإختلافات الدينية ليس الجهل وعدم المعرفة دائماً، بل هو على الأكثر الظلم والطغيان والإنحراف عن الحقّ

_____________________________

1 ـ انظر تفسير الآية 202 من سورة البقرة بشأن معنى «سريع الحساب».

(432)

واتّباع وجهات النظر الخاصّة، فلو تخلّى الناس ـ وعلى الأخصّ العلماء منهم ـ عن التعصّب، والحقد، وضيق النظر، والمصالح الخاصّة، وتجاوز الحدود، والإعتداء على الحقوق، وتعمّقوا في دراسة أحكام الله بنظرة واقعية وبروح من العدالة، فسيرون محجّة الحقّ منيرة وسيستطيعون حلّ الإختلافات بسرعة.

وهذه الآية في الواقع ردّ دامغ على الذين يقولون : «إنّ الدين هو سبب الخلافات إراقة الدماء بين البشر على امتداد التاريخ».

هؤلاء يخلطون بين «الدين» و «التعصّب الديني» والإنحرافات الفكرية. فنحن إذا درسنا تعاليم الأديان السماوية نجد أنّها جميعاً تسعى لتحقيق هدف واحد، وكلّها جاءت من أجل سعادة الإنسان، وإن كان قد تكاملت تدريجياً على مرور الزمن.

الأديان السماوية أشبه في الواقع بقطرات المطر النازلة من السماء حيث تكمن فيها الحياة، ولكنّها إذا نزلت على الأراضي السبخة، كالأرض المالحة، اكتسبت صبغة هذه الأرض. فهذه الإختلافات ليست من قطرات المطر، بل هي من تلك الأراضي. ولكن من حيث مبدأ التكامل، فإنّ آخر تلك الأديان يكون أكملها.

* * *

(433)

الآية

فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتـابَ وَالاُْمِّيِّنَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَواْ وَإِن تُوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ (20)

التّفسير

«المحاجّة» أن يسعى كلّ واحد في ردّ الآخر عن حجّته ومحجّته دفاعاً عن عقيدته.

من الطبيعيّ أن يقوم أتباع كلّ دين بالدفاع عن دينهم، ويرون أنّ الحقّ بجانبهم. لذلك يخاطب القرآن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً : قد يحاورك أهل الكتاب (اليهود والنصارى...) فيقولون إنّهم قد أسلموا بمعنى أنّهم قد استسلموا للحق، وربّما هم يصرّون على ذلك، كما فعل مسيحيّو نجران مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فالآية لا تطلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتجنّب محاورتهم ومحاججتهم، بل تأمره أن يسلك سبيلاً آخر، وذلك عندما يبلغ الحوار منتهاه، فعليه لكي يهديهم ويقطع الجدل والخصام أن يقول لهم : إنّني وأتباعي قد أسلمنا لله واتّبعنا الحقّ

(434)

 (فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعني).

ثمّ يسأل أهل الكتاب والمشركين إن كانوا هم أيضاً قد أسلموا لله واتّبعوا الحقّ فعليهم أن يخضعوا للمنطق (وقل للذين اُوتوا الكتاب والاُميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا) فإذا لم يستسلموا للحقيقة المعروضة أمامهم، فإنّهم لا يكونون قد أسلموا لله. عندئذ لا تمضي في مجادلتهم، لأنّ الكلام في هذه الحالة لا تأثير له، وما عليك إلاَّ أن تبلّغ الرسالة لا غير (وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ).

ومن الواضح أن المراد ليس هو التسليم اللساني والادعائي، بل التسليم الحقيقي والعملي في مقابل الحق، فلو أنهم خضعوا حقيقة للكلام الحق، فلابدّ أن يؤمنوا بدعوتك القائمة على المنطق والدليل الواضح، وإلاَّ فإنهم غير مستسلمين للحق.

والخلاصة : إن وظيفتك هي إبلاغ الرسالة المشفوعة بالدليل والبرهان، فلو كانت لديهم روحية البحث عن الحقيقة فسوف يؤمنون حتماً، وإلاَّ فإنك قد أديت واجبك تجاههم.

وفي الختام يقول : (والله بَصيرٌ بالعباد) فهو سبحانه يعلم المدّعي من الصادق وكذلك اغراض ودوافع المتحاجّين، ويرى أعمالهم الحسنة والقبيحة ويجازي كلّ شخص بعمله.

* * *

بحوث

1 ـ يستفاد من الآية ضمنيّاً لزوم تجنّب مجادلة المعاندين الذين لا يخضعون للمنطق السليم.

(435)

2 ـ المقصود بالأُميّين في هذه الآية هم المشركون، والسبب في وصف المشركين بالأُميّين في قبال أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ هو أنّ المشركين لا يملكون كتاباً سماوياً حتى يكون حافزاً لهم على تعلّم القراءة والكتابة.

3 ـ يتّضح من هذه الآية بكلّ جلاء أنّ اُسلوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن أُسلوب فرض الفكرة والعقيدة، بل كان اُسلوبه السعي إلى توضيح الحقائق أمام الناس، ثمّ يتركهم وشأنهم لكي يتّخذوا قرارهم في اتّباع الحقّ بأنفسهم.

* * *

(436)

الآيتان

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَـاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُون بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم (21) أُوْلَئكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَمَا لَهُم مِن نَّـاصِرِينَ (22)

التّفسير

علامات الطغيان :

تعقيباً للآية السابقة التي تضمّنت أنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا يجادلون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يستسلمون للحق، ففي الآية الاُولى إشارة إلى بعض علامات هذا الأمر حيث تقول الآية : (إنّ الّذين يكفرون...).

وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الّذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف الأنبياء، وكلّ واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معانداً ومتصلّباً بكفره وعدم تسليمه للحق، بل يسعى لخنق كلّ صوت يدعو إلى الحقّ.

التعبير بـ (يكفرون) و (يقتلون) جاء بصيغة الفعل المضارع وهو إشارة إلى

(437)

أنّ كفرهم وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط كان من جملة برنامجهم في الحياة فيرتكبون هذه الأعمال بصورة دائمة ومستمرّة (لأن الفعل المضارع يدلّ على الإستمراريّة).

وبطبيعة الحال إنّ هذه الأعمال كانت تصدر عادةً من اليهود حيث نلحظ إستمرارهم بهذه الأعمال في زماننا الحاضر بشكل آخر، ولكنّ هذا لا يمنع من عموميّة مفهوم الآية أيضاً.

ثمّ أنّ الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتّبة على إرتكاب هذه الذنوب، ففي البداية تشير الآية (فبشرّهم بعذاب أليم).

ثمّ تقول : (اُولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) فلو فرض أنّهم عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنّها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي يرتكبونها.

والثالث أنّ الآية تقول : (وما لهم من ناصرين) فلا أحد يحميهم من العقوبات الإلهيّة التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم.

وسبق وأن قلنا في تفسير الآية 61 من سورة البقرة أنّ هذه الآية تشير إلى تاريخ اليهود المضطرب، فهم فضلاً عن إنكارهم آيات الله تجرّؤا على قتل الأنبياء، كما كانوا يقتلون أتباع الأنبياء من المجاهدين، ولكنّ هذا العمل لايختصّ بهم وحدهم، بل يصحّ بالنسبة إلى جميع الأقوام التي فعلت وتفعل فعلهم.

* * *

بحوث

1 ـ وضعت الآية الداعين إلى العدالة والآمرين بالمعروف في مصافّ الأنبياء. وترى الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقتل هؤلاء، على مستوى واحد، وهذا منتهى اهتمام الإسلام بنشر العدالة في المجتمع.

(438)

ويتبيّن من الآية الثانية شدّة العقوبات التي ستنزل بالذين يقتلون أمثال هؤلاء الرجال الصالحين. وقد سبق أن قلنا إنّ «الحبط» لا يشمل جميع الذنوب، بل للذنوب الكبيرة التي تذهب بآثار الأعمال الصالحة(1) وأخيراً عدم قبول أيّة شفاعة بحقّهم، كدليل على عظم ذنوبهم.

2 ـ المقصود من (بغير حقّ) ليس إمكان جواز قتلهم بحق، بل المقصود هو القول بأنّ قتل الأنبياء كان دائماً ظلماً وبغير حقّ. فعبارة «بغير حقّ» قيد توضيحيّ للتوكيد.

3 ـ يستفاد من عبارة (فبشّرهم بعذاب أليم) أنّها تشمل الكفّار المعاصرين للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، مع أنّنا نعلم أنّ هؤلاء لم يقتلوا احداً من الأنبياء. وقد أشرنا من قبل إلى السبب وقلنا إذا رضي أحد بفعال قوم وسلوكهم وأفكارهم، فإنّه يكون شريكاً لهم في أعمالهم الخيّرة والسيّئة. ولمّا كانت هذه الجماعة المعاصرة للنبيّ من الكفّار ـ وخاصّة اليهود ـ تؤيّد أعمال أسلافهم وجرائمهم، فهم يشاركونهم فيما ينتظرهم من العقاب أيضاً.

4 ـ «البشارة» هي إخبار الرجل خبراً سارّاً يبسط أسارير وجهه. واستعمال هذه الكلمة في الإخبار بالعذاب في هذه الآية وفي غيرها إنّما هو نوع من التهديد والإستهزاء بأفكار المذنبين. وهذا أشبه بما هو متداول بيننا اليوم، إذ نقول ـ مستهزئين ـ لمن أساء الفعل : حسناً، سوف نكافؤك على ذلك.

5 ـ ورد في حديث عن أبي عبيدة الجراح أنّه قال سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عن أيّ الناس أشدّ عذاباً في الآخرة ؟

فقال : رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف أو نهى عن منكر ثمّ قرأ (ويقتلون

_____________________________

1 ـ انظر تفسير الآية 217 من سورة البقرة بخصوص «حبط».

(439)

النبيّين بغير حقّ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) ثمّ قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم، وهو الذي ذكره الله تعالى : (فبشرهم بعذاب إليهم)(1).

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و ج 2 ص 423.

(440)

الآيات

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِـّنَ الْكِتَـابِ يَدْعُوْنَ إِلَى كِتَـابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَات وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(24)  فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـاهُمْ لِيَوْم لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْس مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(25)

سبب النّزول

جاء في تفسير «مجمع البيان» عن ابن عبّاس أنّه حدث على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن إرتكب يهودي الزنا مع إمرأة محصنة، على الرغم من أنّ ما جاء في التوراة يقضي بالرجم على أمثال هؤلاء، فإنّهما لم ينالا عقاباً لأنّهما كانا من الأشراف، واتّفقا على الرجوع إلى رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون هو الحكم، آملين أن ينالا عقاباً أخف.

غير أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيّد العقاب المعيّن لهما، فاعترض بعض كبار اليهود

(441)

على حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنكروا أن يكون في اليهود مثل هذا العقاب.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «بيني وبينكم التوراة» فوافقوا، واستدعوا «ابن صوريا» أحد علمائهم، من فدك إلى المدينة، وعند وصوله عرفه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وسأله : أأنت ابن صوريا ؟ قال : نعم. فقال : أأنت أعلم علماء اليهود ؟ قال : هكذا يحسبونني، فأمر رسول الله أن يفتحوا أمامه التوراة حيث ذكر الرجم ليقرأه، ولكنّه لمّا كان مطّلعاً على تفاصيل الحادث قرأ جانباً من التوراة، وعندما وصل إلى عبارة الرجم وضع يده عليها وتخطّاها ولم يقرأها وقرأ ما بعدها. فأدرك «عبدالله بن سلام» ـ الذي كان من علماء اليهود ثمّ أسلم ـ مكر ابن صوريا وقام إليه ورفع يده عن الآية وقرأ ما كان قد أخفاه بيده، قائلاً : تقول التوراة : على اليهود، إذا ثبت زنا المحصن بالمحصنة رجماً. فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينفّذ العقاب بحقّهما بموجب شريعتهم. فغضب بعض اليهود، فنزلت هذه الآية بحقّهم(1).

التّفسير

هذه الآيات تصرّح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسّلون بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود الله، مع أنّ كتابهم كان صريحاً في بيان حكم الله بغير إبهام، وقد دُعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم (ألم تر إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يُدعَونَ إلى كتاب الله ليَحكُمَ بينهم).

ولكن عصيانهم كان ظاهراً ومصحوباً بالإعراض والطغيان واتّخاذ موقف المعارض لأحكام الله : (ثمّ يتولّى فريقٌ منهم وهم معرضون).

_____________________________

1 ـ في التوراة الموجودة حاليّاً، في سفر اللاويّين في الفصل العشرين، الجملة العاشرة نقرأ ما يلي : «إذا زنا أحد بامرأة غيره، أي بامرأة جاره (مثلاً) يجب قتل الزاني والزانية». على الرغم من أنّ الرجم نفسه لم يرد، فقد ورد العقاب بالموت، وربما يكون التصريح بالرجم قد ورد في النسخة التي كانت موجودة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(442)

يمكن الإستنتاج من (أُوتوا نصيباً من الكتاب) أنّ ما كان بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملاً، بل كان قسم منهما بين أيديهم، بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويّين قد ضاع أو حُرِّف.

هذه الآية تؤيّدها آيات أُخرى في القرآن، كما أنّ هناك شواهد ودلائل تاريخية تؤكّد ما ذهبنا إليه.

وفي الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمردّهم، وهو أنّهم كانوا يحملون فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز، وهم اليوم أيضاً يحملون هذه الفكرة الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالّة على الاستعلاء العنصري.

كانوا يظنّون أنّ لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه، حتّى أنّهم سمّوا أنفسهم «أبناء الله» كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية 18 من سورة المائدة قولهم : (نحن أبناء الله وأحبّاؤه). وبناءاً على ذلك كانوا يرون لأنفسهم حصانة تجاه العقوبات الربّانية، وكانوا ينسبون ذلك إلى الله نفسه. لذلك كانوا يعتقدون أنّهم لن يعاقَبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلاَّ لأيّام معدودات : (قالوا لن تمسّنا النار إلاَّ أيّاماً معدودات).

ولعلّ القصد من «الأيام المعدودات» هي الأربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل في غياب موسى (عليه السلام)، وكان هذا ذنباً لم يكونوا هم أنفسهم قادرين على إنكاره.

أو لعلّها أيّام قليلة من أعمارهم إرتكبوا فيها ذنوباً كبيرة غير قابلة للإنكار، ولم يستطيعوا حتّى على إخفائها.

هذه الإمتيازات الكاذبة المصطنعة، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى الله، صارت شيئاً فشيئاً جزءاً من معتقداتهم بحيث إنّهم اغترّوا بها وراحوا يخالفون أحكام الله ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأةً لا مزيد عليها (وغرّهم

(443)

في دينهم ما كانوا يفترون).

وتدحض الآية الثالثة كلّ هذه الخيالات الباطلة وتقول : لاشكّ أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوماً يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كلّ فرد قائمة أعماله، ويحصدون ناتج ما زرعوه، ومهما يكن عقابهم فهم لا يُظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفّيت كلّ نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون).

يتّضح من (ما كسبت) أنّ عقاب المرء وثوابه يوم القيامة وفوزه وخذلانه في العالم الآخر إنّما يرتبط بأعماله هو، ولا يؤثّر فيه شيء آخر. هذه حقيقة أُشير إليها في كثير من الآيات الكريمة.

* * *

سؤالان

1 ـ أيمكن للإنسان أن يختلق كذباً أو إفتراءاً وينسبه إلى الله، ثمّ يتأثّر به هو ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إليها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة لليهود ؟

ليس من العسير الردّ على هذا السؤال، وذلك لأنّ قضية خداع النفس من القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر. إنّ العقل الإنساني يسعى أحياناً إلى استغفال الضمير بأن يغيّر وجه الحقيقة في عين ضميره. كثيراً ما نشاهد أُناساً ملوّثين بالذنوب الكبيرة، كالقتل والسرقة وأمثالها، على الرغم من إدراكهم تماماً قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنّهم كانوا يستحقّون ما أصابهم لكي يسبغوا هدوءاً كاذباً على ضمائرهم، وكثيراً ما نرى المدمنين على المخدّرات يبرّرون فعالهم بأنّهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها.

ثمّ إنّ هذه الأكاذيب والإفتراءات عن تفوّقهم العنصري التي حاكتها الأجيال

(444)

السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف الكثير عن هذا الموضوع ـ ولم تعن بالبحث عن الحقيقة ـ بصورة عقائد مسلّم بها.

2 ـ يمكن أن يقال إنّ الاعتقاد «بالعذاب لأيام معدودات» منتشر بيننا نحن المسلمين أيضاً، لأنّنا نعتقد أنّ المسلمين لا يخلّدون في العذاب الإلهي، إذ أنّ إيمانهم سوف ينجيهم أخيراً من العذاب.

ولكن ينبغي التوكيد هنا أنّنا لا يمكن أن نعتقد بأنّ المسلم المذنب والملوّث بأنواع الآثام يعذّب بضعة أيّام فقط، بل أنّنا نعتقد أنّ عذاب هؤلاء يطول لسنوات وسنوات لا يعرف مداها إلاَّ الله، إلاَّ أنّ عذابهم لا يكون أبدياً خالداً. وإذا وجد حقّاً بين المسلمين من يحسبون أنّهم بالإحتماء بالإسلام والإيمان والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمّة الأطهار يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاؤون من الذنوب، ثمّ لا يصيبهم من العقاب سوى بضعة أيّام من العذاب، فإنّهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام وروح تشريعاته.

ثمّ إنّنا لا نعترف بأيّ إمتياز خاصّ للمسلمين، بل نعتقد أنّ كلّ أُمّة اتّبعت نبيّها في زمانها ثمّ أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضاً، بغضّ النظر عن عنصرها. أمّا اليهود فيخصّون أنفسهم بهذا الإمتياز دون غيرهم بزعم تفوّقهم العنصري. وقد ردّ عليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية 18 من سورة المائدة : (بل أنتم بشر ممّن خلق).

(445)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21334667

  • التاريخ : 28/03/2024 - 13:12

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net