00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة آل عمران من آية 26 ـ 46 ( من ص 446 ـ 502) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآيتان

قُلِ اللَّهُمَّ مَـالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلّ ِ شَىْء قَدِيرٌ (26)  تُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغْيْرِ حِسَاب (27)

سبب النّزول

يذكر المفسّر المعروف «الطبرسي» في «مجمع البيان» سببين لنزول هاتين الآيتين يتناولان حقيقة واحدة.

1 ـ عندما فتحت مكّة، بشّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بأنّ دولة الفرس ودولة الروم سرعان ما ستنضويان تحت لواء الإسلام. غير أنّ المنافقين الذين لم تكن قلوبهم قد استنارت بنور الإيمان ولم يدركوا روح الإسلام، اعتبروا ذلك مبالغة، وقالوا بدهشة : لم يقنع محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة ومكّة، وهو يطمع الآن بفتح فارس والروم، فنزلت الآية المذكورة.

(446)

2 ـ كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون مشغولون بحفر الخندق في أطراف المدينة،وانتظم المسلمون في جماعات يحفرون بسرعة وجدّ لكي ينجزوا هذا الحصن الدفاعي قبل وصول جيش الأعداء. وفجأةً ظهرت صخرة كبيرة بيضاء صلدة وسط الخندق عجز المسلمون عن كسرها أو تحريكها. فجاء «سلمان» إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرض عليه الأمر. فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الخندق وتناول المعوَل من سلمان وأنزل ضربة شديدة بالصخرة، فانبعث منها الشرر، فصاح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)مكبّراً تكبيرة الإنتصار، فردّد المسلمون التكبير وراح صوتهم يدوّي في كلّ مكان. ومرّة أُخرى أنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مِعوَله على الصخرة، فانبعث الشرر وكسرت قطعة منها، وارتفع صوت تكبير الإنتصار من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين بعده. وللمرّة الثالثة ارتفع مِعوَل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل على الصخرة، وللمرّة الثالثة انبعث الشرر من الضربة وأضاء ما حولها، وتحطّمت الصخرة، وارتفع صوت التكبير بين جنبات الخندق.

فقال سلمان : بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، لقد رأيت شيئاً ما رأيت منك قط. فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القوم وقال : رأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا : نعم يا رسول الله. قال : ضربت ضربتي الأُولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنّها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرئيل أنّ أُمّتي ظاهرة عليها، ثمّ ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أنّ أُمّتي ظاهرة عليها، ثمّ ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي قصور صنعاء كأنّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أن أُمّتي ظاهرة عليها. فابشروا، فاستبشر المسلمون وحمدوا الله. أمّا المنافقون فقد عبسوا وقالوا بلهجة المعترض : أمل باطل ووعد مستحيل ! هؤلاء يحفرون الخنادق خوفاً على أرواحهم من جيش صغير يخشون

(447)

مواجهته، ثمّ يحلمون فتح أعظم دول العالم. وعندئذ نزلت الآيات المذكورة.

التّفسير

بيده كلّ شيء :

دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة يقول تعالى : (قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء).

إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها. وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان، أو يسلبهما ممّن يشاء، فهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو القادر على كلّ هذه الأُمور، (وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كلّ شيء قدير).

ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب، بل أنّ مشيئته مبنيّة على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموماً. وبناءاً على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.

(بيدك الخير).

«خير» صيغة تفضيل يقصد بها تفضيل شيء على شيء، والكلمة تطلق أيضاً على كلّ شيء حسن. بدون مفهوم التفضيل، والظاهر من الآية مورد البحث أنها جاءت بالمعنى الثاني هذا، أي إن مصدر كلّ خير بيده ومنه سبحانه.

وعبارة (بيدك الخير) تحصر كلّ الخير بيد الله من جهتين :

(448)

1 ـ الألف واللام في «الخير» هما للإستغراق.

2 ـ أنّ تقديم الخبر «بيدك» وتأخير المبتدأ «الخير» دليل على الحصر كما هو معلوم. فيكون المعنى : «كلّ الخير بيدك وحدك لا بيد غيرك».

كذلك يستفاد من «بيدك الخير» أنّ الله هو منبع كلّ خير وسعادة فإذا أعزّ أحداً أو أذلّه، أو أعطى السلطنة والحكم لأحد الناس أو سلبها منه فذلك قائم على العدل، ولا شرّ فيه. فالخير للاشرار أن يكونوا في السجن، والخير للأخيار أن يكونوا أحراراً.

وبعبارة اُخرى : أنه لا وجود للشر في العالم، ونحن الذين نقلب الخيرات إلى شرور، فعندما تحصر الآية الخير بيده تعالى ولا تتحدث عن الشر إنّما هو بسبب ان الشر لا يصدر من ذاته المقدسة إطلاقاً.

(إنّك على كلّ شيء قدير).

هذه الآية جاءت دليلاً على الآية السابقة. أي ما دام الله ذا قدرة مطلقة، فليس ثمّة ما يمنع أن يكون كلّ خير خاضعاً لمشيئته.

الحكومات الصالحة وغير الصالحة :

يُطرح هنا سؤال هام يقول : قد يستنتج بعضهم من هذه الآية أنّ من يصل إلى مركز الحكم، أو يسقط منه، فذلك بمشيئة الله. ومن هنا فلابدّ من قبول حكومات الجبّارين والظالمين في التاريخ مثل حكومات جنكيز خان وهتلر وغيرهما. بل أنّنا نقرأ في التاريخ أنّ «يزيد بن معاوية» ـ تبريراً لحكمه الشائن الظالم ـ استشهد بهذه الآية(1). لذلك نرى في كتب التفسير توضيحات مختلفة بشأن هذه الشبهة. من

_____________________________

1 ـ إرشاد المفيد : نقلاً عن تفسير الميزان.

(449)

ذلك أنّ الآية تختصّ بالحكومات الإلهيّة، أو أنّها تقتصر على حكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي أنهت حكم جبّاري قريش.

ولكن الآية تطرح في الواقع مفهوماً عامّاً يقضي أنّ جميع الحكومات الصالحة وغير الصالحة مؤطّرة بقانون مشيئة الله، ولكن ينبغي أن نعلم أنّ الله قد أوجد مجموعة من الأسباب للتقدّم والنجاح في العالم، وأنّ الإستفادة من تلك الأسباب هي نفسها مشيئة الله. وعليه فإنّ مشيئة الله هي الآثار المخلوقة في تلك الأسباب والعوامل. فإذا قام ظَلَمة وطغاة ـ مثل جنكيز ويزيد وفرعون ـ باستغلال أسباب النجاح، وخضعت لهم شعوب ضعيفة وجبانة، وتحمّلت حكمهم الشائن، فذلك من نتائج أعمال تلك الشعوب وقد قيل : كيفما كنتم يولّى عليكم.

ولكن إذا كانت هذه الشعوب واعية، وانتزعت تلك الأسباب والعوامل من أيدي الجبابرة وأعطتها بيد الصلحاء، وأقامت حكومات عادلة، فإن ذلك أيضاً نتيجةً لأعمالها ولطريقة استفادتها من تلك العوامل والأسباب الإلهيّة.

في الواقع، أنّ الآية دعوة للأفراد والمجتمعات إلى اليقظة الدائمة والوعي واستفادة من عوامل النجاح والنصر، لكي يشغلوا المواقع الحسّاسة قبل أن يستولي عليها أُناس غير صالحين.

خلاصة القول : إنّ مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب، إنّما الإختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا.

في الآية التالية ولتأكيد حاكمية الله المطلقة على جميع الكائنات تضيف الآية :

1 ـ (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل...).

وبهذا تذكر الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة الله تعالى، ومنها مسألة التغيير التدريجي للّيل والنهار، بمعنى أن الليل يقصر مدّته في نصف من السنة، وهو

(450)

ما عُبّر عنه بدخوله في النهار، بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من السنة، وهو دخول وولوج النهار في الليل. وكذلك اخراج الموجودات الحية من الميّتة وبالعكس، وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص دون بعض، كلّها من علائم قدرته المطلقة.

* * *

بحوث

«الولوج» بمعنى الدخول. والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي نراه بين الليل والنهار طوال السنة. هذا التغيير ناشىء عن إنحراف محور الأرض عن مدارها بنحو 23 درجة واختلاف زاوية سقوط أشعّة الشمس عليها. لذلك نرى الشتاء في النصف الشمالي من خطّ الإستواء تطول أيّامه تدريجياً، وتقصر لياليه تدريجياً، حتّى أوائل الصيف، حيث ينعكس التغيير فتقصر أيّامه وتطول لياليه حتّى أوائل الشتاء. أمّا في جنوب خطّ الإستواء فالتناظر يكون معكوساً.

وبناءاً على ذلك فإنّ الله يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، دائماً، أي أنّه ينقص هذا ليزيد ذاك وبالعكس.

قد يقول قائل إنّ الليل والنهار في خطّ الإستواء الحقيقي وفي نقطتي القطبين في الشمال والجنوب متساويان وليس ثمّة أيّ تغيير فيهما، فالليل والنهار في خطّ الإستواء متساويان ويمتدّ كلّ منهما إثنتي عشرة ساعة على إمتداد السنة، وفي القطبين يمتدّ الليل ستة أشهر ومثله النهار، لذلك فإنّ الآية ليست عامّة.

في الجواب على هذا التساؤل نقول : إنّ خطّ الإستواء الحقيقي خطّ وهمي، والناس عادةً يعيشون على طرفي الخط. كذلك الحال في القطبين فهما نقطتان وهميّتان، وسكّان القطبين ـ إن كان فيهما سكّان ـ يعيشون في مناطق أوسع طبعاً

(451)

من نقطة القطب الحقيقية، وعليه فالإختلاف موجود في كلّ الحالات.

وقد يكون للآية معنى آخر بالإضافة إلى ما ذكر، وهو أنّ الليل والنهار لا يحدثان فجأةً في الكرة الأرضية بسبب وجود طبقات «الجو» حولها. فالنهار يبدأ بالتدريج من الفجر وينتشر، ويبدأ الليل من حمرة الأُفق الغربي والغسق، ثمّ ينتشر الظلام حتّى يعمّ جميع الأرجاء.

إنّ للتدرّج في تغيير الليل والنهار ـ بأيّ معنى كان ـ آثاراً مفيدة في حياة الإنسان والكائنات الأُخرى على الأرض. لأنّ نموّ النباتات وكثير من الحيوانات يتمّ في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجيّة. فمن بداية الربيع حيث يزداد بالتدريج نور الشمس وحرارتها، تطوي النباتات وكثير من الحيوانات كلّ يوم مرحلة جديدة من تكاملها. ولمّا كانت هذه الموجودات تحتاج بمرور الأيّام إلى مزيد من النور والحرارة، فإنّ حاجتها هذه تلّبى عن طريق التغييرات التدريجيّة للّيل والنهار، لتصل إلى نقطة تكاملها النهائيّة.

فلو كان الليل والنهار كما هو دائماً، لاختلّ نموّ كثير من النباتات والحيوانات، ولاختفت الفصول الأربعة التي تنشأ من اختلاف الليل والنهار ومن مقدار زاوية سقوط نور الشمس، ولخسر إلإنسان فوائد ذلك.

كذلك هي الحال إذا أخذنا بنظر الإعتبار المعنى الثاني في تفسير الآية أي أنّ حلول الليل والنهار تدريجي، لا فجائي، وأنّ هناك فترة بين الطلوعين تفصل بينهما، فمن ذلك يتّضح أنّ هذا التدرّج في حلول الليل والنهار نعمة كبرى لسكنة الأرض، لأنّهم يتعرّفون بالتدرج على الظلام أو الضياء، وبذلك تتطابق قِواهم الجسمية وحياتهم الإجتماعية مع هذا التغيير ، وإلاَّ حدثت حتماً مشاكل لهم.

2 ـ (وتُخرِجُ الحيَّ مِن الميِّت وتُخرِجُ الميِّتَ مِن الحيّ).

إنّ معنى خروج «الحيّ» من «الميّت» هو ظهور الحياة من كائنات عديمة

(452)

الحياة. فنحن نعلم أنّه في اليوم الذي استعدّت فيه الأرض لاستقبال الحياة، ظهرت كائنات حيّة من كائنات عديمة الحياة. أضف إلى ذلك أنّ مواد لا حياة فيها تصبح باستمرار أجزاءً من خلايانا الحيّة وخلايا جميع الكائنات الحيّة في العالم، وتتبدّل إلى مواد حيّة.

أمّا خروج «الميّت» من «الحيّ» فهو دائم الحدوث أمام أنظارنا.

إنّ الآية ـ في الواقع ـ إشارة إلى قانون التبادل الدائم بين الحياة والموت، وهو أعمّ القوانين التي تحكمنا وأعقدها، كما أنّه أروعها في الوقت نفسه.

لهذه الآية تفسير آخر أيضاً ـ لا يتعارض مع التفسير السابق ـ وهو مسألة الحياة والموت المعنويّين. فنحن كثيراً ما نرى أنّ بعض المؤمنين ـ وهم الاحياء الحقيقيّون ـ يخرجون من بعض الكافرين ـ وهم الأموات الحقيقيّون ـ . وقد يحدث العكس، حين يخرج الكفار من المؤمن.

إنّ القرآن يعبّر عن الحياة والموت المعنويّين بالإيمان والكفر في كثير من آياته.

وبموجب هذا التفسير يكون القرآن قد ألغى قانون الوراثة الذي يعتبره بعض العلماء من قوانين الطبيعة الثابتة. فالإنسان يتميّز بحرّية الارادة وليس مثل الكائنات غير الحيّة في الطبيعة التي تقع تحت تأثير مختلف العوامل وقوعاً إجبارياً. وهذا بذاته مظهر من مظاهر قدرة الله التي تغسل آثار الكفر في نفوس أبناء الكافرين ـ أُولئك الذين يريدون حقّاً أن يكونوا مؤمنين ـ ويغسل آثار الإيمان من أبناء المؤمنين ـ الذين يريدون حقّاً أن يكونوا كافرين ـ . وهذا الاستقلال في الإرادة، القادر على الإنتصار، حتّى في ظروف غير مؤاتية، من مظاهر قدرة الله أيضاً.

هذا المعنى يرد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما جاء في تفسير «الدرّ

(453)

المنثور» عن سلمان الفارسي أنّه قال : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسّر الآية (يخرج الحي من الميّت...) فقال : أي أنّه يخرج المؤمن من صلب الكافر، والكافر من صلب المؤمن.

3 ـ (وترزق من تشاء بغير حساب).

هذه الآية تعتبر من باب ذكر «العام» بعد «الخاص»، إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج من الرزق الإلهي، أمّا هنا فالآية تشير إلى جميع النِعم على وجه العموم، أي أنّ العزّة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد الله، بل بيده كلّ أنواع الرزق والنِعم أيضاً.

وتعبير (بغير حساب) يشير إلى أنّ بحر النِعم الإلهية من السعة والكبر بحيث إنّه مهما اعطى منه فلن ينقص منه شيء ولا حاجة به لضبط الحسابات. فالتسجيل في دفاتر الحساب من عادة ذوي الثروات الصغيرة المحدودة التي يخشى عليها من النفاذ والنقصان. فهؤلاء هم الذين يحسبون حسابهم قبل أن يهبوا لأحد شيئاً، لئلاّ تتبدّد ثرواتهم. أمّا الله فلا يخشى النقص فيما عنده، ولا أحد يحاسبه، ولا حاجه له بالحساب.

يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية لا تتعارض مع الآيات التي تبيّن التقدير الإلهي وتطرح موضوع لياقة الأفراد وقابليّتهم ومسألة التدبير في الخلقة.

4 ـ ليس في الأمر إجبار

وهنا يُطرح سؤال آخر وهو : إننا نعلم أنّ الإنسان حرّ في كسب رزقه بغير إجبار، وذلك بموجب قانون الخلق وحكم العقل ودعوة الأنبياء، فكيف تقول هذه الآية أنّ كلّ هذه الأُمور بيد الله ؟

في الجواب نقول : إن المصدر الأوّل لعالم الخلق وجميع العطايا والإمكانات الموجودة عند الناس هو الله، فهو الذي وضع جميع الوسائل في متناول الناس

(454)

لبلوغ العزّة والسعادة. وهو الذي وضع في الكون تلك القوانين التي إذا لم يلتزمها الناس انحدروا إلى الذلّ والتعاسة. وعلى هذا الأساس يمكن إرجاع كلّ تلك الأُمور إليه، وليس في ذلك أيّ تعارض مع حرّية إرادة البشر، لأنّ الإنسان هو الذي يتصرّف بهذه القوانين والمواهب والقوى والطاقات تصرّفاً صحيحاً أو خاطئاً.

* * *

(455)

الآية

(456)

لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَىْء إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (28)

التّفسير

العلاقة مع الأجنبي :

ذكرت الآيات السابقة أن العزّة والذلّة وجميع الخيرات بيد الله تعالى. وبهذه المناسبة فإن هذه الآية تحذّر المؤمنين من مصادقة الكافرين وتنهاهم بشدّة من موالاة الكفّار، لأنّه إذا كانت هذه الصداقة والولاء من أجل العزّة والقدرة والثروة. فإنها جميعاً بيد الله عزّوجلّ. ولذلك تقول الآية :

(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) ولو إرتكب أحد المؤمنين ذلك فإنه يقطع إرتباطه مع الله تماماً (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) وقد نزلت هذه الآية في وقت كانت هناك روابط بين المسلمين والمشركين مع اليهود والنصارى.

وهذه الآية درس سياسيّ وإجتماعيّ مهمّ للمسلمين، فتحذّرهم من إتّخاذ
الأجنبي صديقاً أو حامياً أو عوناً ورفيقاً، في أيّ عمل من أعمالهم، ومن الإنخداع
بكلامه المعسول وعروضه الجذّابة وتظاهره بالمحبّة الحميمة، لأنّ التاريخ قد أثبت بأنّ أقسى الضربات التي تلقّاها المؤمنون جاءت من هذا الطريق.

لو أنّنا طالعنا تاريخ الاستعمار للاحظنا أنّ المستعمرين جاؤوا دائماً في لبوس الصداقة والترحّم وحبّ الإعمار والبناء فتغلغلوا بين طبقات المجتمع.

إنّ كلمة «استعمار» التي تعني الإعمار والبناء دليل على هذا الخداع، فهم بعد أن يتمكّنوا من إنشاب مخالبهم في جذور المجتمع المستعمَر، يبدأون بامتصاص

(457)

دمائه بكلّ قسوة وبغير رحمة.

(من دون المؤمنين) إشارة إلى أنّ الناس في حياتهم الإجتماعية لابدّ لهم من إتّخاذ الأولياء والأصدقاء، فعلى المؤمنين أن يختاروا أولياءهم من بين المؤمنين، لا من بين الكافرين.

(ليس من الله في شيء).

تقول الآية : إن الذين يعقدون أواصر صداقتهم وولاءهم مع أعداء الله، ليسوا من الله في أيّ شيء من الأشياء، أي أنّهم يكونون قد تخلّوا عن إطاعة أوامر الله وقطعوا علاقتهم بالجماعة المؤمنة الموحّدة، وانقطعت إرتباطاتهم من جميع الجهات.

(إلاَّ أن تتّقوا منهم تقاة).

هذا إستثناء من الحكم المذكور، وهو أنّه إذا اقتضت الظروف ـ التقية ـ فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم. ولكن الآية تعود في الختام لتؤكّد الحكم الأوّل فتقول : (يحذّركم الله نفسه وإلى الله المصير) فالله ينذر الناس أوّلاً بغضب منه وبعقاب شديد، ثمّ إنّ مرجع الناس جميعاً إلى الله. وإن تولّوا أعداء الله نالوا عاجلاً نتيجة أعمالهم.

* * *

بحوث

1 ـ التقية أو الدرع الواقي

صحيح أنّ الإنسان قد يضحّي حتّى بحياته من أجل هدف كبير ولصيانة الشرف ونصرة الحقّ وقمع الباطل، ولكن هل يجيز عاقل لنفسه أن تتعرّض للخطر دون أن يكون أمامه هدف هام ؟

(458)

الإسلام يجيز الإنسان صراحة أن يمتنع عن إعلان الحقّ مؤقّتاً وأن يؤدّي واجبه في الخفاء حين يعرضه ذلك لخطر في النفس والمال والعرض وحين لا يكون للإعلان نتيجه مهمّة وفائدة كبيرة. كما جاء في هذه الآية، وكما جاء في الآية 106 من سورة النحل حيث يقول : (إلاَّ من أُكره وقلبه مطمئّن بالإيمان).

إن كتب التاريخ والحديث الإسلامي مازالت تحفظ حكاية «عمّار» وأبيه وأُمّه إذ وقعوا في قبضة عبدة الأصنام الذين راحوا يعذّبونهم لكي يرتدّوا عن الإسلام. فرفض والدا عمّار ذلك فقتلهما المشركون. غير أنّ عمّاراً قال بلسانه ما أرادوا أن يقوله، ثمّ هرع باكياً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خوفاً من الله، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إن عادوا لك فعد لهم» أي إذا قبضوا عليك مرّة أُخرى وطلبوا منك أن تقول شيئاً فقله، وبهذا هدأ روعه وزال عنه خوفه.

لابدّ من الإشارة إلى أنّ حكم التقية يختلف باختلاف الظروف، فهي قد تكون واجبة، وقد تكون حراماً، وقد تكون مباحة.

تجب التقية حيثما تتعرّض حياة الإنسان للخطر دونما فائدة تذكر. أمّا إذا كانت التقية سبباً في ترويج الباطل وضلالة الناس وإسناد الظالم فهي هنا حرام.

وهذا جواب لجميع الإعتراضات التي ترد بهذا الشأن. لو أنّ المعترضين دقّقوا في البحث لأدركوا أنّ الشيعة ليسوا منفردين بهذا الاعتقاد، بل أنّ التقية في موضعها حكم عقلي قاطع ويتّفق مع الفطرة الإنسانية.

فجميع عقلاء العالم ـ حين يرون أنفسهم أمام طريقين : إمّا الإعلان عن عقيدتهم والمخاطرة بالنفس والمال والكرامة، أو إخفاء معتقداتهم ـ يمعنون النظر في الظروف القائمة. فإن كان الإعلان عن العقيدة يستحقّ كلّ هذه التضحية بالنفس والمال والكرامة اعتبروا إعلانها عملاً صحيحاً، وإن لم يكن للإعلان نتيجة تذكر تركوا ذلك.

(459)

2 ـ التقية أو تغيير أُسلوب النضال :

في تاريخ النضالات الدينية والإجتماعية والسياسية حالات إذا أراد فيها المدافعون عن الحقّ أن يناضلوا علانية، فإنّهم يتعرّضون للإبادة هم ومبادؤهم أو يواجهون الخطر على الأقلّ، مثل الحالة التي مرّ بها شيعة علي (عليه السلام) على عهد بني أُمية. في مثل هذه الحالة يكون الطريق الصحيح والمعقول هو أن لا يبدّدوا قواهم، وأن يواصلوا نضالهم غير المباشر في الخفاء. التقية في مثل هذه الحالات أشبه بتغيير أُسلوب النضال الذي يجنّبهم الفناء ويحقّق لهم النصر في الكفاح. إنّ الذين يرفضون التقية كلّية ويفتون ببطلانها لا ندري ما الذي يقترحونه في مثل هذه الحالات ؟ أيرون الفناء خيراً، أم استمرار النضال بشكل صحيح ومنطقي ؟ هذاالطريق الثاني هو ا لتقية، وأمّا الطريق الأوّل فليس بمقدور أحد أن يجيزه.

ويتضح ممّا تقدّم أن التقية هي أصل قرآني مسلّم، ولكنّها تكون مشروعة في موارد معينة ووفق ضوابط خاصّة. وما نرى من بعض الجهلاء أنّهم تصوّروا أن التقية من إختلاقات أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فهو دليل على عدم اطلاعهم على القرآن بصورة كافية.

* * *

(460)

الآية

قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلّ ِ شَىْء قَدِيرٌ (29)

التّفسير

العالم بأسراركم :

نهت الآية السابقة عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهياً شديداً، واستثنت من ذلك حالة «التقية».

إلاَّ أنّ بعضهم قد يتّخذ من «التقية» في غير محلّها ذريعة لمدّ يد الصداقة إلى الكفّار أو الخضوع لولايتهم وسيطرتهم. وبعبارة اُخرى أنّهم قد يستغلّون «التقية» ويتّخذونها مبرّراً لعقد أواصر العلاقات مع أعداء الإسلام. فهذه الآية تحذّر أمثال هؤلاء وتأمرهم أن يضعوا نصب أعينهم علم الله المحيط بأسرار القلوب والعالِم بما ظهر وما خفي وتقول (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) ولا يقتصر علم الله الواسع على ذلك بل : (ويعلم ما في السّماوات والأرض).

في الواقع أنّ هذه الآية لكي تنبّه الناس إلى إحاطة الله بأسرارهم الخفية،

(461)

تشير إلى أنّ معرفة الله بأسرارهم إنّما هي جانب صغير من مدى علمه اللامحدود الذي يسع السماوات والأرض. وهو إضافة إلى علمه الواسع قادر على معاقبة المذنبين : (والله على كلّ شيء قدير).

* * *

(462)

الآية

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسِ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ (30)

التّفسير

حضور الأعمال يوم القيامة :

تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة، فيرى كلّ امريء ما عمل من خير وما عمل من شرّ حاضراً أمامه. فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرعب ويتمنّون لو أنّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها (تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً) فالآية لم تقل أنه يتمنّى فناء عمله وسيئاته، لأنه يعلم أن كلّ شيء في العالم لا يفنى فلذلك يتمنّى أن يبتعد عنه كثيراً.

«الأمد» في اللغة الزمان المحدود، و «الأبد» اللامحدود، والأمد يقصد من استعماله غالباً انتهاء الزمان، وإن استعمل أحياناً أيضاً في مطلق الزمان المحدود.

(463)

بناءاً على ذلك، فإنّ المذنبين ـ كما تقول الآية ـ يتمنّون أنّ يمتدّ الفاصل الزماني بينهم وبين ذنوبهم طويلاً، وهو تعبير عن ذروة ما يشعرون به من تعاسة جرّاء أعمالهم السيّئة، لأنّ طلب البُعد الزماني أبلغ فى التعبير عن هذا الإستياء من طلب البُعد المكاني، فاحتمال الحضور موجود في الفاصل المكاني، بينما ينتفي هذا الاحتمال تماماً في الفاصل الزماني.

فإذا عاش أحد ـ مثلاً ـ في فترة الحرب العالمية، شمله القلق والإضطراب وإن ابتعد مكانياً عن منطقة الحرب، لكن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية بعيدة عن الحرب لا يشعر بذلك القلق.

هذا مع أن بعض المفسّرين احتملوا أن يكون للفظة «الأمد» معنى البُعد المكاني أيضاً (كما ورد في مجمع البيان نقلاً عن بعض المفسّرين)، غير أن هذا لم يرد في اللغة على الظاهر.

(ويحذّركم الله نفسه واللهُ رؤوفٌ بالعباد).

في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر الله الناس من عصيان أوامره، وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته. ويبدو أنّ هذين الجزءين هما ـ على عادة القرآن ـ مزيج من الوعد والوعيد. ومن المحتمل أن يكون الجزء الثاني (والله رؤوف بالعباد) توكيداً للجزء الأوّل (ويحذّركم الله نفسه)، وهذا أشبه بمن يقول لك : إنّي أحذّرك من هذا العمل الخطر، وإنّ تحذيري إيّاك دليل على رأفتي بك، إذ لولا حبّي لك لما حذّرتك.

القرآن وتجسيد الأعمال وحضورها

هذه الآية تبيّن بكل وضوح تَجسُّد الأعمال وحضورها يوم القيامة. كلمة

(464)

«تجد» من الوجود ضدّ العدم. ولفظتا «خير» و «سوء» وردتا نكرتين لتفيدا العموم. أي أنّ الإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما تكن قليلة.

بعضهم أوّل هذه الآية وأشباهها وقال إنّ القصد من حضور الأعمال هو حضور ثوابها أو عقابها، أو حضور سجلّ الأعمال الذي دوّنت فيه الأعمال كلّها.

ولكن من الجلي أنّ ذلك لا ينسجم وظاهر الآية، لأنّ الآية تقول بوضوح إنّ الإنسان يوم القيامة «يجد» عمله. وتقول : إنّ المسيء يودّ لو أنّ بينه وبين «عمله» القبيح فواصل مديدة. فهنا «العمل» نفسه هو الذي يدور حوله الكلام. لا سجلّ الأعمال، ولا الثواب والعقاب.

كذلك نقرأ في الآية أنّ المسيء يودّ لو بَعُدَ عنه عمله، ولكنّه لا يتمنّى زوال عمله إطلاقاً. وهذا يعني أنّ زوال الأعمال غير ممكن، ولذلك فهو لا يتمنّاه.

هناك آيات كثيرة أُخرى تؤيّد هذا الأمر، كالآية 49 من سورة الكهف.

(وَ وَجَدوا مَا عَمِلُوا حاضِراً ولا يَظلِمُ رَبُّكَ أحَداً) والآيتان 7 و 8 من سورة الزلزال (فَمَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ).

سبق أن قلنا إنّ بعض المفسّرين يرون أنّ لفظ «الجزاء» مقدّر وهذا خلاف ظاهر الآية.

يستفاد من بعض الآيات أنّ الدنيا مرزعة الآخرة، وأنّ عمل الإنسان أشبه بالحبّ الذي يُزرع في التربة، فتنمو تلك الحبّة، ثمّ يحصد الإنسان معها حبّاً كثيراً. كذلك هي أعمال الإنسان التي تجري عليها تبدّلات وتغيّرات تناسب يوم القيامة، ثمّ تعود إلى الإنسان نفسه، كما جاء في الآية 20 من سورة الشورى : (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه).

ويستفاد من آيات أُخرى أنّ الأعمال الصالحة في هذه الدنيا تأتي في الآخرة بصورة نور وضياء، فيطلبه المنافقون من المؤمنين : (انظرُونا نَقتَبِس مِن نُورِكم)

(465)

فيقال لهم : (ارجعوا وراءكم فالتمِسُوا نوراً)(1).

هذه الآيات وغيرها العشرات تدلّ على أننا يوم القيامة نجد العمل عينه بشكل أكمل، وهذا هو تجسيد الأعمال الذي يقول به علماء الإسلام.

هناك روايات كثيرة أيضاً عن أئمّة الإسلام تؤكّد هذا المعنى، من ذلك :

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن طلب أن يعظه :

«لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميّت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، لا يحشر إلاَّ معك ولا تحشر إلاَّ معه، ولا تُسأل إلاَّ عنه، ولا تُبعث إلاَّ معه، فلا تجعله إلاَّ صالحاً، فإنّه إن كان صالحاً لم تستأنس إلاَّ به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاَّ منه، وهو عملك»(2).

ولإلقاء الضوء على هذا البحث لابدّ من معرفة كيفية الإثابة والعقاب على الأعمال.

رأي العلماء في الثواب والعقاب

للعلماء آراء مختلفة في الثواب والعقاب :

1 ـ يعتقد البعض أن جزاء الأعمال الاُخروي أمر اعتباري، مثل المكافأة والعقوبة في هذه الدنيا، أي كما أنّ هناك في هذه الدنيا عقاباً على كلّ عمل سَيّء أقرّه القانون الوضعي، كذلك وضع الله لكلّ عمل ثواباً أو عقاباً معيّنين. وهذه هي نظرة الأجر المعيّن والجزاء القانوني.

2 ـ ثمّة آخرون يعتقدون أنّ النفس البشرية تخلق الثواب والعقاب، فالنفس تخلق ذلك في العالم الآخر دون إختيار، أي أنّ الأعمال الحسنة والأعمال السيّئة

_____________________________

1 ـ الحديد : 13.

2 ـ البحار : طبعة كمباني : ج 3 ص 257.

(466)

في هذا العالم تخلق في النفس صفات حسنة أو سيّئة، وهذه الصفات تصبح جزءاً متمكّناً من ذات الإنسان، وتبدأ هذه بإيجاد صورة تناسبها من السعادة أو العذاب. فذو الباطن الحسن في هذا العالم يتعامل مع مجموعة من الأفكار والتصوّرات الحسنة، والأشرار والخبثاء مشغولون بأفكارهم الباطلة وتصوّراتهم الدنيئة في نومهم ويقظتهم.

وفي يوم القيامة تقوم هذه الصفات نفسها بخلق السكينة والعذاب أو الشقاء والسعادة. وبعبارة أُخرى أنّ ما نقرأه عن نِعم الجنّة وعذاب جهنّم ليس سوى ما تخلقه هذه الصفات الحسنة أو السيّئة في الإنسان.

3 ـ فريق ثالث من كبار علماء الإسلام اتّخذوا سبيلاً آخر دعموه بكثير من الآيات والأحاديث. يقول هؤلاء : إنّ لكلّ عمل من أعمالنا ـ حسناً كان أم سيّئاً ـ صورة دنيوية هي التي نراها، وصورة أُخروية كامنة في باطن ذلك العمل. وفي يوم القيامة، وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحوّلات كثيرة، يفقد صورته الدنيوية ويظهر بصورته الأُخروية فيبعث على راحة فاعله وسكينته، أو شقائه وعذابه.

هذه النظرة، من بين النظرات الأُخرى، تتّفق مع كثير من آيات القرآن، وبناءاً على ذلك، فإنّ أعمال الإنسان ـ وهي مظاهر مختلفة من الطاقة ـ لا تفنى بموجب قانون بقاء «المادة / الطاقة» وتبقى أبداً في هذه الدنيا، على الرغم من أنّ الناظر السطحي يظنّها قد تلاشت.

إنّ بقاء هذه الأعمال بقاءاً أبدياً يتيح من جهة أن يراها الإنسان عند محاسبته يوم القيامة ولا يبقى له مجال للإنكار، كما يتيح للإنسان من جهة أُخرى أن يعيش يوم القيامة بين أعماله، فيشقى أو يسعد. وعلى الرغم من أنّ علم الإنسان لم يبلغ بعد مرحلة اكتشاف الماضي، إلاَّ للحظات قليلة سابقة(1) ، فممّا لا شكّ فيه أنّه لو تمّ

_____________________________

1 ـ اكتشف العلماء جهاز تصوير يعمل بالأشعة ما تحت الحمراء تستطيع أن تصوّر حدثاً لم يمض عليه أكثر من بضع لحظات، إنّ الجهاز يعمل وفق نظام حراري يجتذب الأمواج الصادرة عن الأجسام، ويحوّلها بوساطة جهاز يدعى «ثرموجرام» إلى سالب وموجب، ثمّ يصوّرها بالأسود والأبيض ـ كما ذكرت وسائل الإعلام ـ وبهذا يمكن ـ أن نعرف كيفية وقوع جريمة وتصوير أعمال المجرمين السابقة ثمّ عرضها عليهم وكشف كذبهم.

(467)

صنع جهاز أدقّ وأكمل، أو لو كانت لنا «رؤية» و «إدراك» أكمل لاستطعنا أن نرى وندرك كلّ ما حدث في الماضي. (ليس هناك ما يمنع أن يكون جانب من الثواب والعقاب ذا طابع توافقي).

العلم وتجسيد الأعمال

لإثبات إمكان تجسيد الأعمال الماضية، يمكن الإستناد إلى مبادىء الفيزياء الثابتة اليوم، فقوانين الفيزياء تقول إنّ المادة تتحوّل إلى طاقة، وذلك لأنّ «المادّة» و «الطاقة» مظهران لحقيقة واحدة، كما تقول أحدث النظريات بهذا الخصوص، وأنّ المادّة طاقة متراكمة مضغوطة تتحوّل إلى طاقة في ظروف معيّنة. وقد تكون الطاقة الكامنة في غرام واحد من المادّة تعادل في قوة انفجارها أكثر من ثلاثين ألف طن من الديناميت.

ملخّص القول : إنّ المادّة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة، وبالنظر لعدم فناء الطاقة والمادّة، فليس هناك ما يحول دون تراكم الطاقات المنتشرة مرّة أُخرى وتتّخذ صورة مادّة أو جسم، فإذا كانت نتيجة الأعمال صالحة ظهرت بصورة نِعم مادّية جميلة، وإذا كانت شرّاً وسيئّة فإنّها تتجسّد في وسائل عذاب وعقاب.

* * *

(468)

الآيتان

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ (32)

سبب النّزول

لهاتين الآيتين روايتان في سبب نزولهما : إحداهما في تفسير «مجمع البيان» والأُخرى في تفسير «المنار».

الأُولى تقول : ادّعى جمع من الحاضرين في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّهم يحبّون الله، مع أنّ العمل بتعاليم الله كان أقلّ ظهوراً في أعمالهم. فنزلت هاتان الآيتان بشأنهم.

وتقول الأُخرى : حضر فريق من مسيحيّي نجران مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وزعموا في حديثهم أنّ مبالغتهم في تقديس المسيح (عليه السلام) إنّما ينطلق من حبّهم لله. فنزلت الآيتان تردّان عليهم.

(469)

التّفسير

الحب الحقيقي :

تقول الآية الأُولى إِنّ الحبّ ليس بالعلاقة القلبية فحسب، بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان. إنّ من يدّعي حبّ الله، فعليه أوّلاً اتّباع رسوله : (إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني).

في الواقع أنّ من آثار الحبّ الطبيعية انجذاب المحبّ نحو المحبوب والاستجابة له. صحيح أنّ هناك حبّاً ضعيفاً لا تتجاوز أشعّته جدران القلب، إلاَّ أنّ هذا من التفاهة بحيث لا يمكن إعتباره حبّاً. لا شكّ أنّ للحبّ الحقيقي آثاراً عملية تربط المحبّ بالحبيب وتدفعه للسعي في تحقيق طلباته.

والدليل على ذلك واضح، فحبّ المرء شيئاً لابدّ أن يكون بسبب عثوره على أحد الكمالات فيه. لا يمكن أنّ يحبّ الإنسان مخلوقاً ليس فيه شيء من قوّة الجذب، وعليه فإنّ حبّ الإنسان لله ناشيء من كونه منبع جميع الكمالات وأصلها. إنّ محبوباً هذا شأنه لابدّ أن تكون أوامره كاملة أيضاً، فكيف يمكن لإنسان يعشق الكمال المطلق أن يعصي أوامر الحبيب وتعاليمه، فإن عصى فذلك دليل على أنّ حبّه غير حقيقي.

هذه الآية لا تقتصر في ردّها على مسيحيّي نجران والذين ادّعوا حبّ الله على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هذا الردّ أصيل وعامّ في منطق الإسلام موجّه إلى جميع العصور والقرون. إنّ الذين لا يفتأون ـ ليلَ نهار ـ يتحدّثون عن حبّهم لله ولأئمّة الإسلام وللمجاهدين في سبيل الله وللصالحين والأخيار، ولكنّهم لايشبهون أُولئك في العمل، هم كاذبون.

أُولئك الغارقون في الذنوب من قمة الرأس حتّى أخمص القدم، ومع ذلك فهم يرون أن قلوبهم مليئة بحبّ الله ورسوله وأميرالمؤمنين والأئمّة العظام، أو الذين

(470)

يعتقدون أنّ الإيمان والحبّ والمحبّة قلبية فحسب، هم غرباء على منطق الإسلام تماماً.

جاء في «معاني الأخبار» عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «ما أحبّ الله من عصاه». ثمّ قرأ الأبيات :

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه هذا لعمرك في الفعال بديع

لوكان حبّك صادقاً لأطعته إنَّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

(يُحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم).

تقول هذه الآية : إذا كنتم تحبّون الله، وبدت آثار ذلك في أعمالكم وحياتكم، فإنّ الله سيحبّكم أيضاً، وسوف تظهر آثار حبّه أنه سيغفر لكم ذنوبكم، ويشملكم برحمته.

والدليل على هذا الحبّ المتقابل من قِبل الله واضح أيضاً، لأنّه سبحانه موجود كامل ولا متناه من كلّ الجهات، وسيرتبط ـ على أثر السنخية ـ بكل موجود يقطع خطوات على طريق التكامل برباط الحبّ.

يتبيّن من هذه الآية أن ليس هناك حبّ من طرف واحد، لأنّ الحبّ يدفع المحبّ إلى أن يحقّق عملياً رغبات حبيبه. وفي هذه الحالة لا يمكن للمحبوب إلاَّ أن يرتبط بالمحبّ.

قد يسأل سائل : إذا كان المحبّ دائم الإطاعة لأوامر المحبوب، فلا يبقى له ذنب فيغفر له، ولذلك فإن جملة (ويغفر لكم ذنوبكم) ليست ذات موضوع.

في الجواب نقول : أوّلاً يمكن أن تعني هذه الجملة غفران الذنوب السابقة. وثانياً أنّ المحبّ لا يستمرّ في عصيان المحبوب، ولكن قد يزلّ أحياناً بسبب طغيان الشهوات، وهذا هو الذي يغفره الله سبحانه.

(471)

الدين والحبّ

جاء في كثير من الأحاديث أنّ أئمّة الإسلام كانوا يقولون : ما الدين إلاَّ الحب. ومن ذلك ما جاء في «الخصال» و «الكافي» عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «وهل الدين إلاَّ الحبّ ؟» ثمّ تلا هذه الآية (إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني).

هذه الأحاديث تريد أن تبيّن أنّ حقيقة الدين وروحه هي الإيمان بالله وحبّه، ذلك الإيمان والعشق اللذين يعمّ نورهما كلّ الوجود الإنساني ويضيئانه، وتتأثر بهما الأعضاء والجوارح، ويظهر أثرهما في اتّباع أوامر الله.

(قل أطيعوا الله والرسول).

هذه الآية تتابع حديث الآية السابقة، وتقول : ما دمتم تدّعون الحبّ لله، إذاً اتّبعوا أمر الله ورسوله، وإن لم تفعلوا فلستم تحبّون الله، والله لا يحبّ هؤلاء (فإن تولّوا فإنّ الله لا يحبّ الكافرين).

ويستفاد من (أطيعوا الله والرسول) أنّ إطاعة الله وإطاعة رسوله لا تنفصلان، وأنّ إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إطاعة الله، وإطاعة الله هي إطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك فالآية السابقة تحدّثت عن إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، وهنا دار الكلام على إطاعتهما كليهما.

* * *

(472)

الآيتان

إِنَّ اللهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَـالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

التّفسير

في مبتدأ هذه الآية يشرع القرآن بسرد حكاية مريم وأجدادها ومقامهم، فهم النموذج الكامل لحب الله الحقيقي وظهور آثار هذا الحب في مقام العمل والذي أشارت إليه الآيات السابقة.

«اصطفى» من الصفو، وهو خلوص الشيء من الشوائب، ومنه «الصفا» للحجارة الصافية. وعليه فالإصطفاء هو تناول صفو الشيء.

تقول الآية : إنّ الله إختار آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران من بين الناس جميعاً. هذا الإختيار قد يكون «تكوينياً» وقد يكون «تشريعياً» أي أنّ الله قد خلق هؤلاء منذ البدء خلقاً متميّزاً، وإن لم يكن في هذا الإمتياز ما يجبرهم على إختيار طريق الحقّ، بل أنّهم بملء إختيارهم وحرّية إرادتهم إختاروه. غير أنّ ذلك التميّز أعدّهم للقيام بهداية البشر ثمّ على أثر إطاعتهم أوامر الله، والتقوى والسعي في

(473)

سبيل هداية الناس نالوا نوعاً من التميّز الإكتسابي، الذي إمتزج بتميّزهم الذاتي، فكانوا من المصطفين.

(ذرّية بعضها من بعض)(1).

تشير هذه الآية إلى أنّ هؤلاء المصطفين كانوا ـ من حيث الإسلام والطهارة والتقوى والجهاد في سبيل هداية البشر ـ متشابهين ، بمثل تشابه نسخ عدّة من كتاب واحد، يقتبس كلّ من الآخر : (بعضها من بعض).

(والله سميعٌ عليم).

في النهاية تشير الآية إلى حقيقة أنّ الله كان يراقب مساعيهم ونشاطهم، ويسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم. وفي هذا إشارة أيضاً إلى مسؤوليات المصطفين الثقيلة نحو الله ومخلوقات الله.

في هذه الآية إشارة إلى جميع الأنبياء من أُولي العزم، فبعد نوح الذي صرّح باسمه، يأتي آل إبراهيم الذين يضمّون نوحاً نفسه وموسى وعيسى ونبيّ الإسلام. وذكر آل عمران تكرار للإشارة إلى السيّدة مريم والمسيح، بالنظر لكون هذه الآية مقدّمة لبيان حالهما.

1 ـ امتياز الأنبياء :

هنا يبرز هذا السؤال : على الرغم من أنّ هذا التميّز لم يجبر الأنبياء على السير في طريق الحقّ، وأنّه لا يتعارض مع حرّية الإرادة والإختيار، ولكن ألا يعتبر نوعاً من التفضيل ؟

_____________________________

1 ـ «الذرية» أصلها الصغار من الأولاد. وقد يشمل الأبناء الصغار والكبار أيضاً بلا واسطة أو مع الواسطة، والكلمة من (الذرء)، بمعنى الخلق والإيجاد.

(474)

في الجواب نقول : إنّ خلقاً مصحوباً بنظام سليم يستتبع بالضرورة مثل هذا التفاضل، فتأمّل جسم الإنسان ـ مثلاً ـ مخلوق منظّم، وللحفاظ على هذا التنظيم لابدّ من الاعتراف بالتفاضل بين عضو وعضو، إذ لو كانت جميع الخلايا في جسم الإنسان تشبه في لطافتها خلايا شبكية العين، أو تشبه في صلابتها وقوّتها خلايا عظام الساق، أو تشبه خلايا الدماغ في حساسيّتها، أو تشبه خلايا القلب في حركتها، لاختلّ حتماً نظام الجسم. إذاً لابدّ من وجود خلايا مثل خلايا الدماغ لكي تتولّى إدارة سائر أعضاء الجسم وعضلاته، وخلايا العظام المتينة لتحفظ استقامة الجسم وخلايا الأعصاب الحسّاسة لتتسلّم أبسط الإيعازات، والخلايا المتحرّكة لتخلق الحركة في الجسم.

ما من أحد يستطيع أن يقول لماذا ليس الجسم كلّه دماغاً ؟ أو في النباتات، لماذا لا تكون الخلايا كلّها بلطافة خلايا أوراق الورد ؟ إنّ حالة كهذه ستهدم بناء النبات وتعرضه للفناء.

النقطة المهمّة هي أنّ هذا التميّز الذاتيّ الضروري لإيجاد بناء منظّم ليس بسيطاً، بل هو مصحوب بمسؤولية عظيمة، هذا «الإمتياز» وهذه المسؤولية الثقيلة نفسها تحفظ توازن كفّتي ميزان الخلق. أي أن نسبة تميّز الأنبياء على سائر البشر تتناسب مع أهميّة المسؤولية التي يضطلعون بها. كما أنّ الإختلاف في تميّز الآخرين يتناسب مع مسؤولياتهم.

فضلاً عن ذلك فإنّ التميّز الذاتي لا يكفي للإقتراب من الله، بل لابدّ معه من التميّز المكتسب.

في الآية بعض النقاط ينبغي ذكرها :

1 ـ ليست الآية بصدد ذكر جميع الذين اصطفاهم الله، بل تعدّد بعضاً منهم، فإذا لم يكن بعض الأنبياء من بين هؤلاء، فلا يعني ذلك أنهم ليسوا مصطفين. ثمّ إنّ

(475)

«آل إبراهيم» يشمل موسى بن عمران ونبيّ الإسلام والمصطفين من أهل أيضاً لأنّهم جمعاً من «آل إبراهيم».

2 ـ يرى «الراغب» في كتابه «المفردات» إنّ «الآل» من «الأهل»، ولكنّه خصّ بالإضافة إلى أقرباء العظماء من الناس والأشراف ودون الأزمنة والأمكنة. ولكن «الأهل» يضاف إلى الكلّ، كالزمان والمكان وغير ذلك، فيقال : أهل المدينة الفلانية، ولكن لا يقال : آل المدينة الفلانية.

3 ـ غنّي عن القول أنّ إصطفاء آل إبراهيم وآل عمران لا يعني إصطفاء جميع أبناء إبراهيم وعمران، إذ يحتمل أن يكون بينهم حتّى من الكفّار، إنّما المقصود هو «بعض» من آل إبراهيم وآل عمران.

4 ـ «عمران» في هذه الآية هو أبو مريم، لا أبو موسى، إذ كلّما ورد في القرآن اسم عمران كان المعنى به هو أبو مريم، كما يستدلّ على ذلك أيضاً من الآيات التالية التي تخصّ شرح حال مريم.

5 ـ في الأحاديث العديدة عن أهل البيت (عليهم السلام) اعتبرت هذه الآية دليلاً على عصمة الأنبياء والأئمّة، وذلك لأنّ الله لا يمكن أن يصطفي المذنبين الملوّثين بالشرك والكفر والفسق. بل لابدّ أن يقع إختياره على المطهّرين المعصومين. (يستدلّ كذلك من الآية أنّ هناك مراتب للعصمة).

6 ـ يستدلّ بعض الكتّاب المحدثين بهذه الآية على نظرية النشوء والإرتقاء، معتقدين أنّ الآية تدلّ على أنّ «آدم» لم يكن هو الإنسان الأوّل، بل كان هناك أُناس كثيرون فاصطفى الله من بينهم آدم الذي خلَّف نسلاً متميّزاً من أبنائه، وأنّ تعبير (على العالمين) دليل على ذلك. يقول هؤلاء : كان في عصر آدم مجتمع إنساني، ولذلك فليس ثمّة ما يمنع من أن يكون الإنسان الأوّل ـ الذي وجد قبل ذلك بملايين السنين ـ قد نشأ وتطوّر من حيوانات أُخرى متطوّرة، ويكون «آدم»

(476)

وحده الذي اصطفاه الله.

ولكن في مقابل هذا الرأي يمكن القول أن ليس هناك أيّ دليل على أنّ «عالمين» هم أُناس عاصروا آدم، بل قد يكون القصد هو مجموع المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ. وعلى هذا يكون معنى الآية : إنّ الله اصطفى من بين جميع المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ أفراد كان أوّلهم آدم، فنوحاً، فآل إبراهيم، فآل عمران. وبما أنّ كلّ واحد من هؤلاء كان يعيش في عصر غير عصر الآخر نفهم من ذلك أنّ القصد من «عالمين» هو البشر عموماً على إختلاف عصورهم وأزمانهم. لذلك ليس ثمّة ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنّ آدم كان يعاصره أُناس آخرون فاصطفاه الله من بينهم، فتأمّل.

* * *

(477)

الآيتان

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبّ ِ إِنّىِ نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِى مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ ِ إِنّىِ وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُْنثَى وَإِنّىِ سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنّىِ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ (36)

التّفسير

كيفية ولادة مريم :

تعقيباً على ما جاء في الآية السابقة من إشارة إلى آل عمران، تشرع هاتان الآيتان بالكلام على مريم بنت عمران وكيفية ولادتها وتربيتها وما جرى لهذه السيّدة العظيمة.

جاء في التواريخ والأخبار الإسلامية وأقوال المفسّرين أنّ «حنة» و «اشياع» كانتا أُختين، تزوّجت الأُولى «عمران»(1) أحد زعماء بني إسرائيل،

_____________________________

1 ـ تفيد بعض الأحاديث أنّ «عمران» كان نبيّاً ويوحى إليه. وعمران هذا غير عمران والد موسى، إذ بينهما 1800 سنة من الزمان. (مجمع البيان ـ وتفسير المراغي، ذيل الآية مورد البحث).

(478)

وتزوّجت الأُخرى «زكريّا» النبيّ.

مضت سنوات على زواج «حنة» بغير أن ترزق مولوداً. وفي أحد الأيّام بينما هي جالسة تحت شجرة، رأت طائراً يطعم فراخه. فأشعل هذا المشهد نار حبّ الأُمومة في قلبها، فتوجّهت إلى الله بمجامع قلبها طالبةً منه أن يرزقها مولوداً، فاستجاب الله دعاءها الخالص، ولم تمض مدّة طويلة حتّى حملت.

ورد في الأحاديث أنّ الله قد أوحى إلى «عمران» أنّه سيهبه ولداً مباركاً يشفي المرضى الميؤوس من شفائهم، ويحيي الموتى بإذن الله، وسوف يرسله نبيّاً إلى بني إسرائيل. فأخبر عمران زوجته «حنة» بذلك. لذلك عندما حملت ظنّت أنّ ما تحمله في بطنها هو الابن الموعود، دون أن تعلم أنّ ما في بطنها أُم الابن الموعود «مريم» فنذرت ما في بطنها للخدمة في بيت الله «بيت المقدس». ولكنّها إ ذ رأتها أُنثى إرتبكت ولم تدر ما تعمل، إذ أنّ الخدمة في بيت الله كانت مقصورة على الذكور، ولم يسبق أن خدمت فيه أُنثى.

والآن نباشر بالتفسير من خلاله نتعرّف على تتمّة الأحداث :

(إذ قالت امرأة عمران...).

هذه إشارة إلى النذر الذي نذرته امرأة عمران وهي حامل بأنّها تهب ابنها خادماً في بيت المقدس، لأنّها كانت تظنّه ذكراً بموجب البشارة التي أتاها بها زوجها، ولذلك قالت «محرّراً» ولم تقل «محرّرة» ودعت الله أن يتقبل نذرها : (فتقبّل منّي إنك أنت السميع العليم).

«المحرر» من التحرير، وكانت تطلق في ذلك الزمان على الأبناء المعيّنين للخدمة في المعبد ليتولّوا تنظيفه وخدماته، وليؤدّوا عباداتهم فيه وقت فراغهم. ولذلك سمّي الواحد منهم «المحرّر»، إذ هو محرّر من خدمة الأبوين،

(479)

وكان ذلك مدعاة لافتخارهم.

قيل إنّ الصبيان القادرين على هذه الخدمة كانوا يقومون بها بإشراف الأبوين إلى سنّ البلوغ، ومن ثمّ كان الأمر يوكل إليهم، إن شاؤوا بقوا، وإن شاؤوا تركوا الخدمة.

ويرى البعض أن إقدام امرأة عمران على النذر دليل على أن عمران توفي أيّام حمل زوجته، وإلاَّ كان من البعيد أن تستقل الاُم بهذا النذر.

(فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها أُنثى).

هذه الآية تشرح حال أُم مريم بعد ولادتها، فقد أزعجها أن تلد أُنثى، وراحت تخاطب الله قائلة : إنّها أُنثى، وأنت تعلم أنّ الذكر ليس كالأُنثى في تحقيق النذر، فالأُنثى لا تستطيع أن تؤدّي واجبها في الخدمة كما يفعل الذكر فالبنت بعد البلوغ لها عادة شهرية ولا يمكنها دخول المسجد، مضافاً إلى أن قواها البدنية ضعيفة، وكذلك المسائل المربوطة بالحجاب والحمل وغير ذلك. (وليس الذكر كالأُنثى).

ويظهر من القرائن في الآية والأحاديث الواردة في التفاسير أنّ هذا القول (وليس الذكر كالأُنثى) قول أُمّ مريم، لا قول الله كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين. ولكن كان ينبغي أن تقول «وليست الأُنثى كالذكر» باعتبارها قد ولدت أُنثى لا ذكراً. لذلك يمكن أن يكون في الجملة تقديم وتأخير، كما نلاحظه في كلام العرب وغير العرب. ولعلّ ما انتابها من الكدر والحزن لوضعها أُنثى جعلها تنطق بهذا الشكل، إذ كانت شديدة الاعتقاد بأنّ ما ستلده ذكر وأنّها ستفي بنذرها في جعله خادماً في بيت المقدس. وهذا الاعتقاد والتوقّع جعلاها تقدّم الذكر على الأُنثى، على الرغم من أنّ أُصول تركيب الجمل وجنس المولود يقتضيان تقديم الأُنثى.

(480)

والجملة المعترضة (والله أعلم بما وضعت) من قول الله. أي لم يكن يلزم أن تقول إنّها ولدت أُنثى، لأنّ الله كان أعلم منها بمولودها منذ انعقاد نطفته وتعاقب مراحل تصوّره في الرحم.

(وإني سمّيتها مريم...).

يتّضح من هذه الجملة أنّ أُم مريم هي التي سمّتها بهذا الإسم عند ولادتها. و «مريم» بلغتها تعني «العابدة». وفي هذا يظهر منتهى اشتياق هذه الأُمّ الطاهرة لوقف وليدها على خدمة الله. لذلك طلبت من الله ـ بعد أن سمّتها ـ أن يحفظها ونسلها من وسوسة الشياطين، وأن يرعاهم بحمايته ولطفه (وإنّي أُعيذها بِكَ وذُرّيتها من الشيطان الرجيم).

* * *

(481)

الآية

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُول حَسَن وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الِْمحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَـامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَاب (37)

التّفسير

تواصل هذه الآية سرد حكاية مريم. لقد أشرنا من قبل أنّ أُمّ مريم لم تكن تصدّق إمكان قبول الأُنثى خادمة في بيت الله، لذلك كانت تتمنّى أن تلد مولوداً ذكراً، إذ لم يسبق أن اختيرت أُنثى لهذا العمل. ولكن الآية تقول إنّ الله قد قبل قيام هذه الأُنثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية، لأوّل مرّة.

يقول بعض المفسّرين : إنّ دليل قبولها لهذه الخدمة أنّها لم تكن ترى العادة الشهرية أثناء خدمتها في بيت المقدس لكي لا تضطرّ إلى ترك الخدمة، أو أن حضور طعامها من الجنّة إلى محرابها دليل على قبولها. وقد يكون قبول النذر وقبول مريم قد أُبلغ للأُمّ عن طريق الإلهام.

(482)

وكلمة «أنبتها» إشارة إلى تكامل مريم أخلاقياً وروحياً. كما أنّه يتضمّن نكتة لطيفة هي أنّ عمل الله هو «الإنبات» و الإنماء. أي كما أنّ بذور النباتات تنطوي على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عندما يتعهّدها المزارع، كذلك توجد في الإنسان كلّ أنواع الإستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن خضعت لمنهج المربّين الإلهيّين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير، ويتحقّق الإنبات بمعناه الحقيقي.

(وكفّلها زكريّا).

«الكفالة» ضمّ شيء إلى آخر. لذلك يطلق على من يلتزم رعاية شؤون أحد الأطفال اسم «الكافل» أو «الكفيل»، أي أنّه يضمّ الطفل إليه. إذا استعملت الكلمة ثلاثية مجرّدة كانت فعلاً لازماً، وتتعدّى بنقلها إلى باب الثلاثي المزيد «كفّل» أي إنتخاب الكفيل لشخص آخر.

في هذه الآية يقول القرآن : إختار الله زكريّا كي يتكفّل مريم، إذ أنّ أباها عمران قد ودّع الحياة قبل ولادتها، فجاءت بها أُمّها إلى بيت المقدس وقدّمتها لعلماء اليهود وقالت : هذه البنت هديّة لبيت المقدس، فليتعهّدها أحدكم، فكثر الكلام بين علماء اليهود، وكان كلّ منهم يريد أن يحظى بهذا الفخر، وفي احتفال خاص ـ سيأتي شرحه في تفسير الآية 44 من هذه السورة ـ اختير زكريّا ليكفلها.

وكلّما شبّت وتقدّم بها العمر ظهرت آثار العظمة والجلال عليها أكثر إلى حدّ يقول القرآن عنها :

(كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً).

«المحراب» هو الموضع الذي يخصّص في المعبد لإمام المعبد أو لأفراد من النخبة. وذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم أوجه كثيرة، أوجهها ثلاثة : أحدها : إنّ

(483)

المحراب من «الحرب» سمّي بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والأهواء. والآخر : إنّ المحراب صدر المجلس، ثمّ أُطلق أيضاً على صدر المعبد. (كان بناء المحراب عند اليهود يختلف عن بنائه عندنا، فأُولئك كانوا يبنون المحراب مرتفعاً عن سطح الأرض بعدّة درجات بين حائطين مرتفعين يحفظانه، بحيث كانت تصعب رؤية من بداخل المحراب من الخارج).

والثالث : انه يطلق على كلّ المعبد، وهو المكان الذي يخصّص للعبادة ومجاهدة النفس والشيطان.

كَبُرت مريم تحت رعاية زكريّا، وكانت غارقة في العبادة والتعبّد. بحيث إنّها ـ كما يقول ابن عبّاس ـ عندما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النهار وتقوم الليل بالعبادة، وكانت على درجة كبيرة من التقوى ومعرفة الله حتّى أنّها فاقت الأحبار والعلماء في زمانها(1). وعندما كان زكريّا يزورها في المحراب يجد عندها طعاماً خاصّاً، فيأخذه العجب من ذلك. سألها يوماً : (يا مريمُ أنّى لك هذا). فقالت : (هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب).

الآية لا تذكر شيئاً عن ماهيّة هذا الطعام ومن أين جاء، لكنّ بعض الأحاديث الواردة في تفسير العيّاشي وغيره من كتب الشيعة والسنّة تفيد أنّه كان فاكهة من الجنّة في غير فصلها تحضر بأمر الله إلى المحراب. وليس ما يدعو إلى العجب في أن يستضيف الله عبداً تقيّاً.

كما أنّ اعتبار «الرزق» طعاماً من الجنّة يتبيّن من القرائن التي نراها في ثنايا الآية. فأوّلاً كلمة «رزقاً» النكرة دليل على أنّ زكريّا لم يعرف نوع هذا الرزق. وثانياً جواب مريم التي قالت «من عند الله» دليل آخر. وثالثاً انفعال زكريّا وطلبه

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان : ج 2 ص 436.

(484)

ولداً من الله ـ كما نقرأ في الآية التالية ـ دليل ثالث على ذلك.

بَيدَ أنّ بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ يرون أنّ «رزقاً» تعني هذا الطعام الدنيويّ المألوف. يقول ابن جرير : إنّ قحطاً أصاب بني إسرائيل يومئذ، ولم يعد زكريّا قادراً على سدّ جوعة مريم. لذلك اقترعوا فكانت من نصيب رجل نجّار، فأخذ هذا يقتطع من كسبه الطيّب الحلال ليهيّيء الطعام لها، فكان هذا هو الطعام الذي يراه زكريّا في محرابها ويعجب من وجوده في تلك الظروف الصعبة. وكان جواب مريم يعني أنّ الله قد سخّر لي مؤمناً فأحبّ القيام بهذه الخدمة الشاقّة.

ولكن ـ كما قلنا ـ هذا التفسير لا يتّسق مع القرائن الموجودة في الآية، ولا مع الأحاديث الواردة في تفسيرها، ومنها ما ورد في تفسير العيّاشي عن الإمام الباقر (عليه السلام) ما ملخّصه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل يوماً على ابنته فاطمة (عليها السلام) وهو يعلم أنّها لم تكن تملك طعاماً يذكر منذ أيّام، فوجد عندها طعاماً وافراً خاصّاً، فسألها عنه، فقالت : هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لعليّ (عليه السلام) : ألا أُحدّثك بمثلك ومثلها ؟ قال : بلى، قال : مثل زكريّا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقاً، قال : يا مريم أنّى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب...(1).

وفيما يتعلّق بعبارة «بغير حساب» فقد شرحنا ذلك في تفسير الآية 202 من سورة البقرة، والآية 27 من هذه السورة.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير العيّاشي : ج 1 ص 172.

(485)

الآيات

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ ِ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائَكَةُ وَهُوَ قَآئمٌ يُصَلِّي فِي الِْمحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَة مِنَ اللهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّن الصَّـالِحِينَ(39) قَالَ رَبّ ِ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنَىِ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ (40)

التّفسير

قلنا إنّ زوجة زكريّا وأُمّ مريم كانتا أُختين، وكانتا عاقرين، وعندما رزقت أُمّ مريم بلطف من الله هذه الذرّية الصالحة، ورأى زكريّا خصائصها العجيبة، تمنّى أن يرزق هو أيضاً ذرّية صالحة وطاهرة وتقيّة مثل مريم، بحيث تكون آية على عظمة الله وتوحيده. وعلى الرغم من كبر سن زكريّا وزوجته، وبُعدهما من الناحية الطبيعيّة عن أن يرزقا طفلاً، فإنّ حبّ الله ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها في محراب عبادة مريم، أترعا قلبه أملاً بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على

(486)

ثمرة الأُبوّة، لذلك راح يتضرّع إلى الله (قال ربِّ هب لي من لدنك ذرّية طيّبة إنّك سميع الدعاء).

لم يمض وقت طويل حتّى أجاب الله دعاء زكريّا.

(فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب).

وفيما كان يعبد الله في محرابه، نادته ملائكة الله وقالت له إنّ الله يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل أنهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتّى ذكروا للمولود خمس صفات :

أوّلاً : سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان : (مصدّقاً بكلمة من الله). و«كلمة الله» هنا وفي مواضع أُخرى من القرآن سيرد شرحها ـ تعني المسيح (عليه السلام) ـ وقد جاء في التاريخ أنّ يحيى كان يكبر عيسى ستة أشهر، وكان أول من آمن به. وإذا كان قد اشتهر بين الناس بالطهر والزهد، فقد كان لإيمانه هذا بالمسيح تأثير كبير على الناس، في توجيههم وحثّهم على الإيمان به.

وثانياً : سيكون من حيث العلم والعمل قائداً للناس (وسيّداً) ، كما أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا.

(وحصوراً).

«الحصور» من الحصر، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة، أو الذي يمتنع عن الزواج، وإلى هذا ذهب بعض المفسّرين، كما أُشير إليه في بعض الأحاديث.

والرابعة والخامسة من مميّزاته أيضاً أنّه سيكون «نبياً» (وجاءت هذه الكلمة بصيغه النكرة لدلالة على العظمة) وأنّه من الصالحين.

فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحاً وسروراً، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبّه من ذلك، فقال (ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر)

(487)

فأجابه الله تعالى (قال كذلك الله يفعل ما يشاء) فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته، قنع بذلك.

* * *

بحوث

1 ـ هل العزوبة فضيلة ؟

هنا يتبادر إلى الذهن سؤال يقول : إذا كان «الحصر» هو العزوف عن الزواج، فهل هذا مَحمَدة يمتاز بها الإنسان، بحيث يوصف بها يحيى ؟

في الجواب نقول : ليس هناك ما يدلّ على أنّ «الحصر» المذكور في الآية يقصد به العزوف عن الزواج، فالحديث المنقول بهذا الخصوص ليس موثوقاً به من حيث أسانيده. فلا يُستبعد أن يكون المعنى هو العزوف عن الشهوات والأهواء وحبّ الدنيا، وفي صفات الزاهدين.

ثانياً : من المحتمل أن يكون يحيى ـ مثل عيسى ـ قد عاش في ظروف خاصّة اضطرّته إلى الترحال من أجل تبليغ رسالته، فاضطرّ إلى حياة العزوبة. وهذا لا يمكن أن يكون قانوناً عامّاً للناس. فإذا مدحه الله لهذه الصفة فذلك لأنّه تحت ضغط ظروفه عزف عن الزواج، ولكنّه استطاع في الوقت نفسه أن يحصن نفسه من الزلل وأن يحافظ على طهارته من التلوّث. إنّ قانون الزواج قانون فطري، فلا يمكن في أيّ دين أن يشرع قانون ضدّه. وعليه فالعزوبة ليست صفة محمودة، لا في الإسلام ولا في الأديان الاُخرى.

2 ـ يحيى وعيسى

«يحيى» من الحياة وتعني البقاء حيّاً، وقد اختيرت هذه الكلمة اسماً لهذا

(488)

النبيّ العظيم، والمقصود بالحياة هنا هي الحياة المادّية والحياة المعنوية في نور الإيمان ومقام النبوّة والإرتباط بالله. هذا الاسم قد إختاره الله له قبل أن يولد، كما جاء في الآية 7 من سورة مريم (يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبلُ سمّياً) ومن هذا يتبيّن أيضاً أنّ أحداً لم يسبق أن سمّي بهذا الاسم.

قلنا فيما سبق أنّ زكريّا طلب من ربّه الذرّية بعد أن شاهد ما نالته مريم من عطاء معنوي سريع. وعلى أثر ذلك وهب الله له ولداً شبيهاً بعيسى بن مريم في كثير من الصفات : في النبوّة وهما صغيران، وفي معنى اسميهما (عيسى ويحيى كلاهما بمعنى البقاء حيّاً)، وفي تحية وسلام الله عليهما في المراحل الثلاث : الولادة، والموت، والحشر و جهات اُخرى.

3 ـ في هذه الآية يصف زكريّا شيخوخته بقوله (وقد بلغني الكِبَر) ولكنه في الآية 9 من سورة مريم يقول (وقد بلغت من الكِبَر عتياً). فالعبارة الأُولى تعني أنّ الكِبَر قد وصلني والثانية تعني أنّي وصلت الكِبَر، ولعلّ هذا الإختلاف في التعبير يعود إلى أنّ الإنسان ـ كلّما تقدّم نحو الكِبَر ـ يتقدّم الكَبر والموت نحوه أيضاً. كما قال عليّ (عليه السلام) «إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى»(1).

4 ـ «الغلام» الفتى الذي طرّ شاربه. و «عاقر» من «عُقر» بمعنى الأصل والأساس. أو بمعنى الحبس. ووصف المرأة التي لا تلد بأنّها عاقر يعني أنّها وصلت إلى عقرها وانتهت، أو أنّها حبست عن الولادة.

وقد يسأل سائل : لماذا استولى العجب على زكريّا مع أنّه عالم بقدرة الله التي لا تنتهي ؟

يتّضح الجواب بالرجوع إلى الآيات الأُخرى. كان يريد أن يعرف كيف يمكن

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة : الكلمات القصار : 28.

(489)

لامرأة عاقر ـ خلفت وراءها سنوات عديدة بعد سنة اليأس ـ أن تحمل وتلد ؟ ما الذي يتغيّر فيها ؟ أترجع إليها العادة الشهرية كسائر النساء المتوسّطات العمر ؟ أم أنّها ستحمل بصورة اُخرى ؟

ثمّ إنّ الإيمان بقدرة الله غير «الشهود والمشاهدة». زكريّا كان يريد أن يبلغ إيمانه مبلغ الشهود، مثل إبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد، ولكنّه طلب المشاهدة. كان يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الإيمان. وأنّه لأمر طبيعيّ أن يفكّر الإنسان، إذا ما صادفه أمر خارق للقوانين الطبيعية في كيفيّة حصول ذلك، ويودّ لو أنّه رأى دليلاً حسّياً على ذلك.

* * *

(490)

الآية

قَالَ رَبّ ِ اجْعَل لّيِ ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّام إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالاِْبْكَـارِ(41)

التّفسير

هنا يطلب زكريّا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى. إنّ إظهار دهشته ـ كما قلنا ـ وكذلك طلب علامة من الله، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد الله، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله : (كذلك الله يفعل ما يشاء). إنَّما كان يريد زكريّا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً. كان يريد أن يمتليء قلبه بالإطمئنان، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسّي.

(قال آيتك ألاَّ تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلاَّ رمزاً).

«الرمز» إشارة بالشفة، والصوت الخفي. ثمّ اتّسع المعنى في الحوار العادي، فأُطلق على كلّ كلام وإشارة غير صريحة إلى أمر من الأُمور.

أجاب الله طلب زكريّا هذا أيضاً، وعيَّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادراً على المحادثة العادية.

(491)

ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره. هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كلّ شيء. فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر الله. وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا.

هذا المضمون يرد في الآيات الأُولى من سورة مريم أيضاً.

وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر في طيّاتها، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية ـ وإن لم يكن أمراً محرّماً ولا مكروهاً ـ كان من نوع «ترك الأولى». لذلك قرّر له علامة، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة الله، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.

يتبادر هنا للذهن سؤال : أيتّسق بكم نبيّ مع مقام النبوّة وواجب الدعوة والتبليغ ؟

ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال، إذ أنّ هذه الحالة لا تتّسق مع مقام النبوّة عند استمرارها مدّة طويلة. أمّا حدوثها لفترة قصيرة يستطيع النبيّ خلالها اعتزال الناس والتوجّه إلى عبادة الله، فلا مانع فيه، كما أنّه خلال هذه المدّة يستطيع أن يخاطب الناس بالإيماء في الأُمور الضرورية، أو بتلاوة آيات الله، التي تعتبر ذكراً لله، وتبليغاً للرسالة الإلهية. وهذا ما قام به فعلاً، إذ كان يدعو الناس إلى ذكر الله بالإشارة.

(واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشيّ والإبكار).

«العشي» تطلق عادة على أوائل ساعات الليل، كما يقال «الإبكار» للساعات الأولى من النهار. وقيل إنّ «العشي» هو من زوال الشمس حتّى غروبها، و «الإبكار» من طلوع الفجر حتّى الظهر.

(492)

والراغب الاصفهاني يقول في «المفردات» : إنّ «العشي» من زوال الشمس حتّى الصباح، و«الإبكار» أوائل النهار.

وفي الآية يأمر الله زكريّا بالتسبيح. إنّ هذا التسبيح والذكر على لسان لا ينطق موقتاً دليل على قدرة الله على فتح المغلق، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر لله الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى.

من الآيات الأُولى لسورة مريم يستفاد أنّ زكريّا لم ينفّذ هذا البرنامج وحده، بل طلب من الناس إيماءاً أن يسبّحوا الله صباح مساء شكراً على ما أنعم عليهم من موهبة ترتبط بمصير مجتمعهم ومن قائد كفوء مثل يحيى. وأضحت هذه الأيام أيّام شكر وتسبيح عام.

* * *

(493)

الآيتان

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائَكَةُ يَـامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَـالَمِينَ (42) يَـامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّ اكِعِينَ (43)

التّفسير

الانتخاب الإلهي لمريم :

بعد الإشارات العابرة إلى مريم في الآيات السابقة التي دارت حول عمران وزوجته، هذه الآية تتحدّث بالتفصيل عن مريم.

تقول الآية إنّ الملائكة كانوا يكلّمون مريم : (وإذ قالت الملائكة يا مريم...).

ما أعظم هذا الإفتخار بأن يتحدّث الإنسان مع الملائكة ويحدثونه. وخاصة إذا كانت المحادثة بالبشارة من الله تعالى بإختياره وتفضيله. كما في مورد مريم بنت عمران. فقد بشرتها الملائكة بأن الله تعالى قد إختارها من بين جميع نساء العالم وطهّرها وفضلها بسبب تقواها وإيمانها وعبادتها.

والجدير بالذكر أن كلمة «اصطفاك» تكررت مرتين في هذه الآية، ففي المرّة

(494)

الاُولى كانت لبيان الاصطفاء المطلق، وفي الثانية إشارة إلى أفضليّتها على سائر نساء العالم المعاصرة لها.

هذا يعني أن مريم كانت أعظم نساء زمانها، وهو لا يتعارض مع كون سيّدة الإسلام فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيّدة نساء العالمين، فقد جاء في أحاديث متعدّدة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام الصادق (عليه السلام) قولهما :

«أمّا مريم فكانت سيّدة نساء زمانها. أمّا فاطمة فهي سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين»(1).

كما أنّ كلمة «العالمين» لا تتعارض مع هذا الكلام أيضاً، فقد وردت هذه الكلمة في القرآن وفي الكلام العام بمعنى الناس الذين يعيشون في عصر واحد، كما جاء بشأن بني إسرائيل (واني فضّلتكم على العالمين)(2). فلا شكّ أنّ تفضيل مؤمني بني إسرائيل كان على أهل زمانهم.

(يا مريم اقنتي لربّك).

هذه الآية تكملة لكلام الملائكة مع مريم. فبعد أن بشّرها بأنّ الله قد اصطفاها، قالوا لها : الآن اشكري الله بالركوع والسجود والخضوع له اعترافاً بهذه النعمة العظمى.

نلاحظ هنا أنّ الملائكة يصدرون إلى مريم ثلاثة أوامر :

الأول : القنوت أمام الله. والكلمة ـ كما سبق أن قلنا ـ تعني الخضوع و دوام الطاعة.

الثاني : السجود، الذي هو أيضاً دليل الخضوع الكامل أمام الله.

_____________________________

1 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 336، والبحار : ج 10 ص 24.

2 ـ البقرة : 47.

(495)

والثالث : الركوع، وهو أيضاً خضوع وتواضع.

أمّا القول : (واركعي مع الراكعين) فقد يكون إشارة إلى صلاة الجماعة، أو طلب إلتحاقها بجموع المصلّين الراكعين أمام الله. أي إركعي مع عباد الله المخلصين الذين يركعون لله.

في هذه الآية، الإشارة إلى السجود تسبق الإشارة إلى الركوع، وليس معنى هذا أنّ سجودهم قبل ركوعهم في صلاتهم، بل المقصود هو أداء العبادتين دون أن يكون القصد ذكر ترتيبهما، كما لو كنّا نطلب من أحدهم أن يصلّي، وأن يتوضّأ، وأن يتطهّر، إذ يكون قصدنا أن يقوم بكلّ هذه الأُمور. إنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب. ثمّ إنّ الركوع والسجود أصلاً بمعنى التواضع والخضوع، وما حركتا الركوع والسجود المألوفان سوى بعض مصاديق ذلك.

* * *

(496)

الآية

ذَلِك مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

التّفسير

كفالة مريم :

هذه الآية تشير إلى جانب آخر من قصة مريم وتقول بأن ما تقدّم من قصة مريم وزكريّا إنّما هو من أخبار الغيب (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) لأنّ هذه القصة بشكلها الصحيح والخالي من شوائب الخرافة لا توجد في أيِّ من الكتب السابقة. مضافاً إلى أن سند هذه القصة هو وحي السماء.

ثمّ تضيف الآية : (وما كنت لديهم اذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم اذ يختصمون)أي أنكِ لم تكن حاضراً حينذاك.بل جاءك الخبرعن طريق الوحي.

سبق أن قلنا إن أُمّ مريم بعد أن وضعتها لفّتها في قطعة قماش وأتت بها إلى المعبد وخاطبت علماء بني إسرائيل وأشرافهم بقولها : هذه المولودة قد نُذرت

(497)

لخدمة بيت الله، فليتعهّد أحدكم بتربيتها. ولمّا كانت مريم من أُسرة معروفة «آل عمران» ، أخذ علماء بني إسرائيل يتنافسون في الفوز بتعهّد تربيتها. وأخيراً اتّفقوا على إجراء القرعة بينهم، فجاؤوا إلى شاطىء نهر وأحضروا معهم أقلامهم وعصيّهم التي كانوا يقترعون بها. كتب كلّ واحد منهم اسمه على قلم من الأقلام، وألقوها في الماء، فكلّ قلم غطس في الماء خسر صاحبه، والرابح يكون من يطفو قلمه على الماء :غطس القلم الذي كتب عليه اسم زكريا، ثمّ عاد وطفا على سطحه،وبذلك أصبحت مريم في كفالته، وقد كان في الحقيقة أجدرهم بذلك، فهو نبيٌ وزوج خالة مريم.

الإقتراع الحلّ الأخير :

يستفاد من هذه الآية والآيات الأُخرى الخاصّة بيونس في سورة الصافّات أنّ من الممكن اللجوء إلى القرعة لحلّ النزاع والخصام الذي يصل إلى طريق مسدود بحيث لا يكون هناك أيّ حلّ مقبول من أطراف النزاع. هذه الآية بالإضافة إلى الأحاديث الواردة عن أئمّة الإسلام كانت سبباً في إعتبار القرعة قاعدة فقهية يجري بحثها في الكتب الإسلامية. ولكن شرط الإلتجاء إلى القرعة هو الوصول إلى طريق مسدود تماماً، كما قلنا : لذلك إذا كان من الممكن العثور على طريق لحلّ مشكلة مّا فلا يجوز اللجوء إلى القرعة.

ليس للإقتراع طريقة خاصّة في الإسلام، فيجوز إتّخاذ العصي، أو الحصى، أو الورق وغير ذلك وسيلة له، على أن لا يكون فيه أيّ تواطؤ.

من الواضح أنّ الإسلام لا يجيز الربح والخسارة عن طريق القرعة، لأنّ الربح والخسارة ليسا من المشاكل التي يستعصي حلّها ليلجأ فيها إلى القرعة. لذلك فالربح الناشىء عن القرعة غير مشروع في الإسلام.

(498)

لابدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ القرعة لا تقتصر على حلّ المنازعات والإختلافات بين الناس، بل يمكن بها حلّ المشاكل المستعصية الأُخرى أيضاً. فمثلاً، كما جاء في الأحاديث : وطأ شخص شاة، ثمّ أطلقها بين الغنم بحيث لا يمكن التعرّف عليها، فيجب عندئذ إخراج واحدة منها بطريق القرعة والإمتناع عن أكل لحمها، وذلك لأنّ الإمتناع عن أكل لحمها جميعاً يشكل ضرراً كبيراً، كما أنّ أكل لحومها جميعاً غير جائز. فهنا تحلّ القرعة المشكلة.

* * *

(499)

الآيتان

إِذْ قَالَتِ الْمَلائَكَةُ يَـامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاَ وَمِنَ الصَّـالِحِينَ (46)

التّفسير

هذه الآية تبيّن حادث ولادة المسيح الذي يبدأ بتقديم الملائكة البشارة لمريم بأمر من الله قائلين لها إنّ الله سوف يهب لكِ ولداً اسمه المسيح عيسى بن مريم، وسيكون له مقام مرموق في الدنيا والآخرة، وهو مقرّب عند الله.

(إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم).

ولابدّ من الإشارة هنا إلى بضع مسائل :

1 ـ في هذه الآية وفي آيتين أُخريين يوصف المسيح بأنّه «الكلمة» وهو تعبير موجود في كتب العهد الجديد أيضاً.

(500)

كلام المفسّرين كثير في بيان سبب إطلاق هذه الكلمة على المسيح. إلاّ أنّ أقربها إلى الذهن هو ولادة المسيح الخارقة للعادة والتي تقع ضمن : (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(1).

أو لأنّ البشارة بولادته قد جاءت في كلمة إلى أُمّه.

كما أنّ لفظة «الكلمة» وردت في القرآن بمعنى «المخلوق» : (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مدداً)(2).

ففي هذه الآية «كلمات ربي» هي مخلوقات الله. ولمّا كان المسيح أحد مخلوقات الله العظيمة فقد سمّي بالكلمة، وهذا يتضمّن أيضاً ردّاً على الذين يقولون بالوهيّة المسيح (عليه السلام).

2 ـ «المسيح» بمعنى الماسح أو الممسوح. وإطلاقها على عيسى إما لأنّه كان يمسح بيده على المرضى الميؤوس منهم فيشفيهم بإذن الله، إذ كانت هذه الموهبة قد خصّصت له منذ البداية، ولذلك أطلق الله عليه اسم المسيح قبل ولادته.

أو لأنّ الله قد مَسح عنه الدنس والإثم وطهّره.

3 ـ يصرّح القرآن في هذه الآية بأنّ عيسى هو ابن مريم، وهو تصريح يدحض مفتريات المفترين عن الوهيّة المسيح. إذ أنّ من يولد من امرأة وتطرأ عليه جميع التحوّلات التي تطرأ على الجنين البشري والكائن المادّي لا يمكن أن يكون إلهاً، ذلك الإله المنزّه عن كلّ أنواع التغيّرات والتحوّلات.

تشير الآية التي بعدها إلى إحدى فضائل ومعاجز عيسى (عليه السلام) وهي تكلّمه في المهد (ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين). فقد جاء في سورة مريم أنّه لدفع التهمة عن أُمّه تكلّم في المهد كلاماً فصيحاً أعرب فيه عن عبودّيته لله، وعن كونه نبيّاً.

_____________________________

1 ـ يس : 82 .

2 ـ الكهف : 109.

(501)

ولمّا لم يكن من الممكن أن يولد نبيّ في رحم غير طاهرة، فإنّه يؤكد بهذا الإعجاز طهارة أُمّه.

«المهد» هو كلّ مكان يعدّ لنوم المولود حديثاً، سواء أكان متحرّكاً أم ثابتاً والظاهر من آيات سورة مريم أنه (عليه السلام) تكلّم منذ بداية تولده ممّا يستحيل على كلّ طفل أن يقوم به في هذا العمر عادة، وبهذا كان كلامه في المهد معجزة كبيرة. ولكن الكلام في مرحلة الكهولة(1). امر عادي. ولعلّ ذكره في الآية اعلاه مقارناً للحديث في المهد إشارة أن كلامه في المهد مثل كلامه في الكهوله والكمال لم يجانب الصواب والحقّ والحكم.

وتشير الآية كذلك إلى أنّ المسيح لا ينطق إلاَّ بالحقّ منذ ولادته حتّى كهولته، وأنّه يواصل الدعوة إلى الله وإرشاد الناس ولا يفتر عن ذلك لحظة واحدة.

ولعلّ إيراد هذا التعبير عن المسيح ضرب من التنّبؤ بعودة المسيح إلى الدنيا، إذ أنّنا نعلم من كتب التاريخ أنّ عيسى (عليه السلام) قد رُفِع من بين الناس إلى السماء وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وهذا يتّفق مع كثير من الأحاديث الواردة عن عودة المسيح في عهد الإمام المهدي (عليه السلام) ويعيش معه بين الناس ويؤيّده.

وبعد ذكر مناقب المسيح المختلفة يضيف إليها (ومن الصالحين). ومن هذا يتّضح أنّ الصلاح من أعظم دواعي الفخر والإعتزاز، وتنضمّ تحت لوائه القيم الإنسانية الأُخرى.

* * *

_____________________________

1 ـ «الكهولة» هي متوسط العمر، وقيل إنّها الفترة ما بين السنة الرابعة والثلاثين حتّى الحادية والخمسين، وما قبلها «شاب» وما بعدها «شيخ».

(502)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338783

  • التاريخ : 29/03/2024 - 11:51

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net