00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النساء من آية (17 ـ 30 ) من ص (153 ـ 204 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[153]

الآيتان

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَـلَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً(17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الْئَـنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(18)

التّفسير

شرائط قبول التوبة:

في الآية السابقة بيّن الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزّنا إِذا تابوا وأصلحوا، ثمّ عقب ذلك بقوله: (إِنّ الله كان تواباً رحيماً) مشيراً بذلك إِلى قبول التوبة من جانب الله أيضاً.

وفي هذه الآية يشير سبحانه إِلى شرائط قبول التوبة إذ يقول: (إنّما التوبة على الله للذين يعملون السّوء بجهالة).

وهنا يجب أن نرى ماذا تعني «الجهالة» هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟

[154]

إِنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإِن كانت لها معان مختلفة، ولكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإِيمان، وفي هذه الصورة وإِن لم يفقد المرء العلم بالمعصية، إِلاّ أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا.

وأمّا إِذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة، بل كان عن إِنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء، فإِن إرتكاب مثل هذا الذنب ينبىء عن الكفر، ولهذا لا تقبل التوبة منه، إِلاّ أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإِنكاره وتمرده.

وفي الحقيقة إِنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة التي يذكرها الإِمام السجاد(عليه السلام)في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إِذ يقول: «إِلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي».

ثمّ إنّ الله سبحانه يشير إِلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إِذ يقول: (ثمّ يتوبون من قريب).

هذا وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من «قريب» فقد ذهب كثيرون إِلى أنّ معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت)الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة، ويشير إِلى أن التوبة لا تقبل إِذ ظهرت علامات الموت.

ولعل استعمال لفظة «قريب» إِنّما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة.

ولكن بعض المفسرين ذهب إِلى تفسير لفظة «من قريب» بالزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فوراً، ويندموا على ما فعلوه

[155]

بسرعة، ويتوبوا إِلى الله، لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب، ولا يمكن هذا إِلاّ إِذا تاب الإِنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية، إِذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإِنسانية، وتعشعش في خلايا قلبه، فالتوبة الكاملة ـ إِذن ـ هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت، ولفظة «قريب» أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.

صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من إرتكاب المعصية تقبل أيضاً، إِلاّ أنّها ليست التوبة الكاملة، ولعل التعبير بجملة «على الله» (أي على الله قبولها) كذلك إِشارة إِلى هذا المعنى، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقاً.

ثمّ أنّه سبحانه ـ بعد ذكر شرائط التوبة ـ يقول: (فأُولئك يتوب عليهم وكان الله عليماً حكيماً) مشيراً بذلك إِلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.

ثمّ يقول تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت قال إِنّي تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كافر ...) وهو إِشارة إِلى من لا تقبل توبته.

وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة، لأن الإِنسان عند الإِحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار، فيرى ما لم يكن يراه من قبل، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي إِرتكبها في هذه الدنيا، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة

[156]

محسوسة، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة، ويفرّ منها فرار الذي يرى إقتراب ألسنة اللهب من جسمه.

ومن المسلم أن التكليف الإِلهي والإِختيار الرباني للبشر لايقوم على أساس هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات، بل يقوم على أساس الإِيمان بالغيب، والمشاهدة بعيني العقل والقلب.

ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أنّ أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة، وللمثال نقرأ قول الله سبحانه عن فرعون إِذ يقول: (حتى إِذا أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إِله إِلاّ الذي آمنت به بنو إِسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين)(1).

كما يستفاد من بعض الآيات القرآنية (مثل الآية 12 من سورة السجدة) إِنّ العصاة يندمون عندما يشاهدون العذاب الإِلهي في الآخرة، ولكن لات حين مندم، فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت، إِن هؤلاء أشبه ما يكونون بالمجرمين الذين إِذا شاهدوا أعواد المشنقة وأحسوا بالحبل على رقابهم ندموا على جرائمهم وأفعالهم القبيحة، فمن الواضح أنّ مثل هذه التوبه وهذا الندم لا يعد فضيلة، ولا مفخرة ولا تكاملا، ولهذا لا يكون أي تأثير.

على أنّ هذه الآية لا تنافي الروايات التي نصت على إِمكان قبول التوبة حتى عند اللحظة الأخيرة من الحياة، لأن المراد في هذه الروايات هي اللحظات التي لم تظهر فيها بعد ملامح الموت وآثاره وطلائعه، وبعبارة أُخرى لم تحصل لدى الشخص العين البرزخية التي يقف بها على حقائق العالم الآخر.

هذا عن الطائفة الأُولى الذين لا تقبل توبتهم، وهم من يتوبون عندما تظهر أمام عيونهم ملامح الموت وتبدو عليهم آثاره.

____________________________

1 ـ يونس، 90 ـ 91.

[157]

وأمّا الطائفة الثّانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفاراً، إِذ يقول سبحانه: (ولا الذين يموتون وهم كفار).

ولقد ذكر الله سبحانه بهذه الحقيقة في آيات أُخرى في القرآن الكريم(1).

وهنا يطرح سؤال وهو: متى لا تقبل توبة الذين يموتون كفاراً؟

إِحتمل البعض أن لا تقبل توبتهم في العالم الآخر، واحتمل آخرون أن يكون المراد من التوبة ـ في هذا المقام ـ ليس هو توبة العباد، بل توبة الله، يعني عود الله على العبد وعفوه ورحمته له.

ولكن الظاهر هو أنّ الآية تهدف أمراً آخر وتقول: إِن الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإِيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر.

وتوضيح ذلك: إِنّنا نعلم إِن من شرائط قبول الأعمال «الموافاة على الإِيمان» بمعنى أن يموت الإِنسان مؤمناً، فالذين يموتون وهم كفار تحبط أعمالهم السابقة حتى الصالحة منها حسب صريح الآيات القرآنية(2). وتنتفي فائدة توبتهم من ذنوبهم حتى إِذا تابوا حال الإِيمان في هذه الصورة أيضاً.

وخلاصة القول إِنّ قبول التوبة مشروط بأمرين.

الأوّل: أنّ تتحقق التوبة قبل أن يرى الشخص علائم الموت.

والثّاني: أن يموت وهو مؤمن.

ثمّ أنّه يستفاد من هذه الآية أيضاً إن على الإِنسان أن لا يؤخر توبته، إِذ يمكن أن يأتيه أجله على حين غفلة، فتغلق في وجهه أبواب التوبة ولا يتمكن منها حينئذ.

والملفت للنظر أن تأخير التوبة الذي يعبر عنه بالتسويف قد أردف في الآية

____________________________

1 ـ آل عمران ـ 91، البقرة، 161، البقرة، 217 ، محمّد ـ 34.

2 ـ البقرة، 217.

[158]

الحاضرة بالموت حال الكفر، وهذا يكشف عن أهمية التسويف وخطورته البالغة في نظر القرآن.

ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية: (أُولئك إِعتدنا لهم عذاباً أليماً)، ولا حاجة إِلى التذكير بأنّ للتوبة مضافاً إِلى ما قيل شرائط اُخرى مذكورة في آيات مشابهة من الكتاب العزيز.

* * *

[159]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَيَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـحِشَة مُّبَيِّنَة وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً(19)

سبب النّزول

روي في مجمع البيان عن الإِمام محمّد الباقر(عليه السلام): «نزلت في الرجل يحبس المرأة ـ من دون أن يعاملوها كالزّوجة ـ عنده لا حاجة له إليها ينتظر موتها حتى يرثها»، أي فيأخذ أموالها من بعد وفاتها.

وروي عن ابن عباس أنّ الآية الحاضرة نزلت في الذين أمهروا نساءهم بمهور كبيرة ثمّ يحبسونهن من دون حاجة إِليهن، ولا يطلقونهن لغلاء المهر وثقله، ويؤذونهن حتى يقبلن بالطلاق بعد أن يتنازلن عن تلك المهور.

وقد روى جماعة من المفسرين سبباً آخر لنزول هذه الآية لا يناسب هذه الآية، بل يناسب الآية (22) من هذه السورة، وسنذكر ذلك الرأي عند تفسير تلك الآية بإِذن الله تعالى.

[160]

التّفسير

الدّفاع عن حقوق المرأة أيضاً:

قلنا في مطلع تفسير هذه السورة أنّ آيات هذه السورة تهدف إِلى مكافحة الكثير من الأعمال الظالمة والممارسات المجحفة التي كانت رائجة في العهد الجاهلي، وفي هذه الآية بالذات أُشير إِلى بعض هذه العادات الجاهلية المقيتة وحذر الله سبحانه فيها المسلمين من التورط بها، وتلك هي:

1 ـ لا تحبسوا النساء لترثوا أموالهنّ، فلقد كانت إحدى العادات الظالمة في الجاهلية ـ كما ذكرنا في سبب نزول الآية ـ أنّ الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات ذوات الشرف والمقام اللاتي لم يكن يحظين بالجمال، ثمّ كانوا يذرونهن هكذا فلا يطلقونهنّ، ولا يعاملونهنّ كالزوجات، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن، فقالت الآية الحاضرة: (يا أيّها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) وبهذا استنكر الإِسلام هذه العادة السئية.

2 ـ لا تضغطوا على أزواجكم ليهبنّ لكم مهورهنّ، فقد كان من عادات الجاهليين المقيتة أيضاً أنّهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل والطرق ليتخلين عن مهورهنّ، ويقبلن بالطلاق، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان المهر ثقيلا باهظاً، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها: (ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ) أي من المهر.

ولكن ثمّة استثناء لهذا الحكم قد أُشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية: (إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة) والفاحشة هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون بذلك زوجها، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن مهرها، وتهبه له ويطلقها عند ذلك، وهذا هو في الحقيقة نوع من العقوبة، وأشبه ما يكون بالغرامة في قبال ما ترتكبه هذه الطائفة من النساء.

هذا والمقصود من الفاحشة المبينة في الآية هل هو خصوص الزنا، أو كل

[161]

سلوك ناشز مع الزوج؟ فيه كلام بين المفسرين إِلاّ أنّه روي في حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) التصريح بأنه كل معصية من الزوجة(1) (طبعاً يستثنى من ذلك المعاصي الطفيفة لعدم دخولها في مفهوم الفاحشة التي تشير إِلى أهمية المعصية وخطرها، والذي يتأكد بكلمة «مبينة»).

3 ـ عاشروهن بالمعاشرة الحسنة، وهذا هو الشيء الذي يوصي به سبحانه الأزواج في هذه الآية بقوله: (وعاشروهن بالمعروف)، أي عاشروهن بالعشرة الإِنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة، ثمّ عقب على ذلك بقوله: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً).

فحتى إِذا لم تكونوا على رضا كامل من الزوجات، وكرهتموهنّ لبعض الأسباب فلا تبادروا إِلى الإِنفصال عنهن والطلاق، بل عليكم بمداراتهنّ ما استطعتم، إِذ يجوز أن تكونوا قد وقعتم في شأنهنّ في الخطأ وأن يكون الله قد جعل فيما كرهتموه خيراً كثيراً، ولهذا ينبغي أن لا تتركوا معاشرتهنّ بالمعروف والمعاشرة الحسنة ما لم يبلغ السيل الزبى، ولم تصل الأُمور إِلى الحدّ الذي لا يطاق، خاصّة وإِن أكثر ما يقع بين الأزواج من سوء الظن لا يستند إِلى مبرر صحيح، وأكثر ما يصدرونه من أحكام لا يقوم على أُسس واقعية إِلى درجة أنّهم قد يرون الأمر الحسن سيئاً والأمر السيء حسناً في حين ينكشف الأمر على حقيقة بعد مضي حين من الزمن، وشيء من المداراة.

ثمّ إنّه لابدّ من التذكير بأن للخير الكثير في الآية الذي يبشر به الأزواج الذين يدارون زوجاتهن مفهوماً واسعاً، ومن مصاديقه الواضحة الأولاد الصالحون والأبناء الكرام.

* * *

____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 257.

[162]

الآيتان

وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْج مَّكَانَ زَوْج وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ قِنَطاراً فَلاَتَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَـناً وَإِثْماً مُّبِيناً(20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعض وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـقاً غَلِيظاً(21)

سبب النّزول

كان التقليد المتبع قبل الإِسلام أنه إِذا أراد الرجل أن يطلق زوجته، ويتزوج بأُخرى أن يتّهم الزوجة الأُولى بالزنا والخيانة الزوجية فراراً من دفع مهرها، أو يعمد إِلى معاملتها بقسوة حتى ترد مهرها الذي قد أخذته من قبل إِلى الرجل، ليستطيع أن يعطي ذلك المبلغ للزوجة الجديدة التي يبغي الزواج بها، ويمهرها به.

فنزلت هذه الآيات تستنكر هذا العمل القبيح الظالم بشدّة، وتشجبه وتقبحه وتدعو إِلى إِنصاف الأزواج وعدم ظلمهنّ في مهورهنّ.

التّفسير

نزلت الآيتان الحاضرتان لتحميا قسماً آخر من حقوق المرأة، فقد جاءت الآية الأُولى تقول: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهنّ

[163]

قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً) فهي تخبر المسلمين ـ إِذا عزموا على تطليق الزوجة واختيار زوجة أُخرى ـ أنّه لا يحق لهم أبداً أن يبخسوا من صداق الزوجة الأُولى شيئاً أو يستردوا شيئاً من الصداق إِذا كانوا قد سلموه إِلى الزوجة مهما كان مقداره كثيراً وثقيلا، والذي عبّر عنه في الآية بالقنطار، والقنطار ـ كما سبق يعني المال الكثير وقد جاء في المفردات للراغب: أنّ القنطار جمع القنطرة، والقنطرة من المال ما فيه عبور الحياة تشبيهاً بالقنطرة(1).

لأن المفروض أن تطليق الزوجة الأُولى ـ هنا ـ يتمّ لأجل مصلحة الزوج، وليس لأجل انحراف الزوجة عن جادة العفاف والطهر، ولهذا لا معنى لأن تهمل حقوقها القطعية.

ثمّ إِنّ الآية تشير في مقطعها الأخير إِلى الأُسلوب السائد في العهد الجاهلي حيث كان الرجل يتّهم زوجته بالخيانة الزوجية لحبس الصداق عنها، إِذ تقول في استفهام إِنكاري: (أتأخذونه بهتاتاً وإِثماً مبيناً) أي هل تأخذون صداق الزوجة عن طريق بهتهنّ، واتهامهنّ بالفاحشة، وهو إِثم واضح ومعصية بيّنة، وهذا يعني أن أصل حبس الصداق عن الزوجة ظلم ومعصية، والتوسل لذلك بمثل هذه الوسيلة الأثيمة معصية اُخرى واضحة، وظلم آخر بيّن.

ثمّ أضاف سبحانه ـ في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين ـ وضمن استفهام إِنكاري بهدف تحريك العواطف الإِنسانية لدى الرجال بأنّه كيف يحق لكم ذلك، وقد عشتم مع الزوجة الأُولى زمناً طويلا، وكانت لكم معهنّ حياة مشتركة، واختليتم بهن واستمتع كل واحد منكما بالآخر كما لو كنتما روحاً واحدة في جسمين، أفبعد ما كانت بينكما هذه العلاقة الزوجية الحميمة يحق لكم ـ أيّها الأزواج ـ أن تبخسوا حق الزوجة الأُولى؟ وقد لخصّ سبحانه كل هذه بقوله:

____________________________

1 ـ ولمزيد التوضيح راجع الجزء الثاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (15) من سورة آل عمران.

[164]

(وكيف تأخذونه وقد أفضى(1) بعضكم إِلى بعض) أفيصح أن تفعلوا ذلك وكأنّكما غريبان لا رباط بينكما ولا علاقة؟

وهذا يشبه قولنا لمن عاشا صديقين حميمين زمناً طويلا ثمّ تنازعا: كيف تتنازعان وقد كنتما صديقين حميمين سنوات طويلة وأعواماً عديدة؟

وفي الحقيقة أن إرتكاب مثل هذا الفعل في حق الزوجة شريكة الحياة ما هو اِلاّ ظلم للنفس.

ثمّ أنّه سبحانه تعالى: (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) أي كيف تبخسون الزوجة حقّها في الصداق وقد أخذت منكم ـ لدى عقد الزواج بينكما ـ ميثاقاً غليظاً وعهداً موثقاً بأن تؤدوا إِليهنّ حقوقهنّ كاملة، فكيف تتنكرون لهذا الميثاق المقدس وهذا العهد المأخوذ منكم لها حالة العقد؟

ثمّ يجب أن نعرف أنّ الآية الحاضرة وإِن وردت في مقام تطليق الزوجة الأُولى لغرض إِحلال زوجة أُخرى مكانها إِلاّ أنّها لا تختصّ بهذا المورد خاصّة، بل تعمّ كل موارد الطلاق الذي يتمّ باقتراح من جانب الزوج ولا تكون لدى الزوجة رغبة في الإِفتراق، فإِنّه يجب على الزوج في هذه الحالة أن يعطي الصداق بكامله إِلى الزوجة إِذا أراد أن يطلقها، وأن لا يسترد شيئاً من الصداق إِذا كان قد أعطاه إِياها، سواء قصد أن يتزوج بامرأة أُخرى أو لا.

وعلى هذا تكون عبارة: (وإن أردتم استبدال زوج) ناظرة في الحقيقة إِلى ما كان سائداً في العهد الجاهلي، وليس له أي دخل في أصل الحكم، فهو ليس قيداً.

على أنّه ينبغي التنبيه أيضاً إِلى أن لفظة «استبدال» تعني طلب البديل، ولهذا يكون قد أخذ فيها قيد الإِرادة، فإِذا قرنت بكلمة «أردتم» فإِنما ذلك لأجل التنبيه

____________________________

1 ـ الإِفضاء أصله من الفضاء، وهو السعة، وبذلك يكون معنى الإِفضاء إيجاد السعة، لأن الإِنسان بسبب الإِتصال والتعايش مع شخص آخر يكون وكأنه وسع دائرة وجوده، ولهذا استعمل الإِفضاء بمعنى الملامسة والإِتصال.

[165]

إِلى نقطة في المقام، وهي أنكم ـ عند تهيئة المقدمات والعزم على استبدال زوجة اُخرى ـ يجب أن لا تبدأوا من المقدمات الغير المشروعة الظالمة، فتضيعوا مهر زوجتكم إِذا أردتم زوجة أُخرى.

* * *

[166]

الآية

وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَـحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلا(22)

سبب النّزول

كانت العادة في الجاهلية أنّه إِذا مات رجل وخلف زوجة وأولاداً، وكان الأولاد من زوجة أُخرى ورثوا زوجة أبيهم كما يرثون أمواله، أي أنّه كان يحق لهم أن يتزوجوا بها أو يزوجوها لأحد، وأن يتصرفوا فيها كما يتصرفون في المتاع والمال، وقد حدث مثل هذا ـ بعد ظهور الإِسلام ـ لأحد المسلمين، فقد مات أحد الانصار يُدعى «أبو قيس» وخلف زوجة وولداً من زوجة أُخرى، فاقترح الولد عليها الزواج بها، فقالت تلك المرأة له: إِني أعتبرك مثل ابني وأنت من صالحي قومك، ولكن آتي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فاستأمره واستوضحه الحكم، فأتته فأخبرته. فقال لها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «ارجعي إِلى بيتك» فأنزل الله هذه الآية تنهى عن هذا النوع من النكاح بشدّة.

التّفسير

هذه الآية ـ كما ذكرنا في شأن النّزول ـ تبطل عادة سيئة من العادات

[167]

الجاهلية المقيتة فتقول: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء) أي لا تنكحوا زوجة أبيكم.

ولكن حيث أنّ القانون لا يشمل ما سبق من الحالات الواقعة قبل نزول القانون عقب سبحانه على ذلك النّهي بقوله: (إِلاّ ما قد سلف).

ثمّ أنّه سبحانه لتأكيد هذا النهي يستخدم ثلاث عبارات شديدة حول هذا النوع من الزواج والنكاح إِذ يقول أوّلا: (إِنّه كان فاحشةً) ثمّ يضيف قائلا: (ومقتاً) أي عملا منفراً لا تقبله العقول، ولا تستسيغه الطباع البشرية السليمة، بل تمقته وتكرهه، ثمّ يختم ذلك بقوله: (وساء سبيلا) أى أنّها عادة خبيثة وسلوك شائن.

حتى أنّنا لنقرأ في التاريخ أنّ الناس في الجاهلية كانوا يكرهون هذا النوع من النكاح ويصفونه بالمقت، ويسمّون ما ينتج منه من ولد بالمقيت، أي الأولاد المبغوضين.

ومن الواضح أنّ هذا الحكم إِنّما هو لمصالح مختلفة وحكم متنوعة في المقام، فإِن الزواج بإمراة الأب هو من ناحية يشبه الزواج بالأُمّ، لأن امرأة الأب في حكم الأُمّ الثانية، ومن ناحية أُخرى إِعتداء على حريم الأب وهتك له، وتجاهل لاحترامه.

مضافاً إِلى أنّ هذا العمل يزرع عند أبناء الأب الميت بذور النفاق بسبب النزاع على نكاح زوجته، وبسبب الإِختلاف الواقع بينهم في هذا الأمر (أي في من يتزوج بها).

بل إِنّ هذا النوع من النكاح يوجب الإِختلاف والتنافس البغيض بين الأب والولد، لأنّ هناك تنافساً وحسداً بين الزوجة الأُولى والزوجة الثّانية غالباً، فإِذا تحقق هذا النكاح (أي نكاح زوجة الأب من جانب الولد) في حياة الوالد (أي بعد طلاقها من الأب طبعاً) كان السبب في الحسد واضحاً، لأنّ امرأة الأب

[168]

ستحظى بهذا الزواج منزلة أرفع، ممّا يؤدي إِلى تأجج نيران الحسد لدى الزوجة الاُخرى أكثر، وأمّا إِذا تحقق بعد وفاته فإِنّه من الممكن أن يوجد لدى الابن نوعاً من الحسد بالنسبة لأبيه.

هذا وليس من المستبعد أن تكون التعابير الثلاثة الواردة في ذم هذا النوع من النكاح إِشارات إِلى هذه الحِكَم الثلاث لتحريم نكاح إمرأة الأب على وجه الترتيب.

* * *

[169]

الآية

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهـتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَتُكُمْ وَعَمَّـتُكُمْ وَخَـلَـتُكُمْ وَبَنَاتُ الاَْخِ وَبَنَاتُ الاُْخْتِ وَأُمَّهَـتُكُمُ الَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَتُكُم مِّنَ الرَّضَـعَةِ وَأُمَّهَـتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَـئِبُكُمُ الَّتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ الَّـتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلـئِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاُْخْتَيْنِ إِلاَّ مَاقَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً(23)

التّفسير

تحريم الزّواج بالمحارم:

في هذه الآية أشار سبحانه إِلى النساء اللاتي يحرم نكاحهنّ والزواج بهنّ، ويمكن أن تنشأ هذه الحرمة من ثلاث طرق أو أسباب وهي:

1 ـ الولادة التي يعبّر عنها بالإِرتباط النّسبي.

2 ـ الزّواج الذي يعبّر عنه بالإِرتباط السّببي.

3 ـ الرّضاع الذي يعبّر عنه بالإِرتباط الرّضاعي.

وقد أشار في البداية إِلى النساء المحرمات بواسطة النّسب وهنّ سبع

[170]

طوائف إِذ يقول (حرمت عليكم أُمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأُخت).

ويجب التّنبيه إِلى أنّ المراد من «الأُمّ» ليس هي التي يتولد منها الإِنسان دونما واسطة فقط، بل يشمل الجدّة من ناحية الأب ومن ناحية الأُمّ وإن علون، كما أنّ المراد من البنت ليس هو البنت بلا واسطة، بل تشمل بنت البنت وبنت الابن وأولادهما وإن نزلن، وهكذا الحال في الطوائف الخمس الاُخرى.

ومن الواضح جدّاً أنّ الإِنسان يبغض النكاح والزواج بهذه الطوائف من النسوة، ولهذا تحرمه جميع الشعوب والجماعات (إِلاّ من شذ وهو قليل)، وحتى المجوس الذين كانوا يجوزون هذا النوع من النكاح في مصادرهم الأصلية ينكرونه ويشجبونه اليوم، وإِن حاول البعض أن يردّ هذه المبغوضية إِلى العادة والتقليد القديم، ولكن عمومية هذا القانون وشيوعه لدى جميع أفراد البشر وطوائفه وفي جميع القرون والأعصار تحكي ـ عادة ـ عن فطرية هذا القانون، لأن التقليد والعادة لا يمكن أن يكون أمراً عامّاً ودائمياً.

هذا مضافاً إِلى أنّ هناك حقيقة ثابتة اليوم، وهي أنّ الزواج بين الأشخاص ذوي الفئة المشابهة من الدم ينطوي على أخطار كثيرة، ويؤدي إِلى انبعاث أمراض خفية وموروثة، وتشددها و تجددها (لأنّ هذا النوع من الزواج يولد هذه الأمراض، بل يساعدها على التشدد والتجدد والإِنتقال) إِلى درجة أنّ البعض لا يستحسن حتى الزواج بالأقرباء البعيدين (فضلا عن المحارم المذكورة هنا) مثل الزواج الواقع بين أبناء وبنات العمومة(1) ويرون أنّه يؤدي هو الآخر أيضاً إِلى أخطار تصاعد الأمراض الوارثية.

____________________________

1 ـ طبعاً إنّ الإِسلام لم يحرّم التزاوج بين أبناء وبنات العمومة، لأنّ هذا النوع من التزاوج ليس مثل الزواج بالمحارم في الخطورة، واحتمال ظهور مثل هذه الحوادث الخطيرة في هذا النوع من الزواج أقل، وقد لاحظنا بأنفسنا موارد ونماذج عديدة من نتائج هذا النوع من الزواج حيث يكون الأولاد ـ في هذه الحالة ـ أكثر سلامة وأفضل فكراً وموهبة من غيرهم.

[171]

إِلاّ أنّ هذا النوع من الزواج إِذا لم يسبب أية مشكلة لدى الأقرباء البعيدين (كما هو الغالب) فإِنّه لا شك يسبب مضاعفات خطيرة لدى الأقرباء القريبين الذين تشتدّ عندهم ظاهرة وحدة الدم وتشابهه.

هذا مضافاً إِلى ضعف الرغبة الجنسية والتجاذب الجنسي لدى المحارم عادة، لأنّ المحارم ـ في الأغلب ـ يكبرون معاً، ويشبّون معاً، ولهذا لا ينطوي الزواج فيما بينهم على عنصر المفاجأة وصفة العلاقة الجديدة، لأنّهم تعودوا على التعامل فيما بينهم، فلا يكون أحدهم جديداً على الآخر، بل العلاقة لديهم علاقة عادية ورتيبة، ولا يمكن أن يكون بعض الموارد النادرة مقياساً لإِنتزاع القوانين الكلية العامّة أو سبباً لنقض مضاداتها، ونحن نعلم أن التجاذب الجنسي شرط أساسي لدوام العلاقة الزوجية واستمرار الرابطة العائلية، ولهذا إِذا تمّ التزواج بين المحارم فإن الرابطة الزوجية الناشئة من هذا الزواج ستكون رابطة ضعيفة مهزوزة وقصيرة العمر.

(وأُمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة)

يشير الله سبحانه في هذه الآية إِلى المحارم الرّضاعية والقرآن وإِن اقتصر في هذا المقام على الإِشارة إِلى طائفتين من المحارم الرضاعية، وهي الأُم الرضاعية والأُخت الرضاعية فقط، إِلاّ أنّ المحارم الرضاعية ـ كما يستفاد من روايات عديدة ـ لا تنحصر في من ذكر في هذه الآية، بل تحرم بالرّضاعة كل من يحرمن من النساء بسبب «النسب» كما يصرّح بذلك الحديث المشهور المروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب»(1).

على أن بيان مقدار الرّضاع الموجب للحرمة والشروط والكيفية المعتبرة فيه، وغير ذلك من التفاصيل والخصوصيات متروك للكتب الفقهية.

وفلسفة حرمة الزواج بالمحارم الرضاعية هي، أن نشوء ونبات لحم المرتضع

____________________________

1 ـ من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 155، وغيره.

[172]

وعظمه من لبن إمرأه معينة تجعله بمثابة إبنها الحقيقي، فالمرأة التي ترضع طفلا مقداراً معيناً من اللبن ينشأ وينبت معه ومنه للطفل لحم وعظم، فإِنّ هذا النوع من الرضاع يجعل الطفل شبيهاً بأبنائها وأولادها لصيرورته جزء من بدنها كما هم جزء من بدنها، فإِذا هم جميعاً (أي الأخوة الرضاعيون والأخوة النسبيون كأنّهم اُخوة بالنسب.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه يشير ـ في المرحلة الأخيرة ـ إِلى الطائفة الثالثة من النسوة اللاتي يحرم الزواج بهنّ ويذكرهنّ ضمن عدّة عناوين:

1 ـ (وأُمهات نسائكم) يعني أن المرأة بمجرّد أن تتزوج برجل ويجري عقد النكاح بينهما تحرم أُمها وأُم أُمها وإِن علون على ذلك الرجل.

2 ـ (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ) يعني أنّ مجرّد العقد على إمرأة لا يوجب حرمة نكاح بناتها من زوج آخر على زوجها الثّاني، بل يشترط أن يدخل بها أيضاً مضافاً على العقد عليها.

إِنّ وجود هذا القيد في هذا المورد (دخلتم بهنّ) يؤيد كون حكم أُمّ الزوجة الذي مرّ في الجملة السابقة (وأمهات نسائكم) غير مشروط بهذا الشرط، وبعبارة أُخرى إِن هذا القيد هنا يؤيد ويؤكّد إِطلاق الحكم هناك، فتكون النتيجة أن بمجرّد العقد على إمرأة تحرم أُمّ تلك المرأة على الرجل وإِن لم يدخل بتلك المرأة، لخلو ذلك الحكم من القيد المشروط هنا في مورد الرّبيبة.

ثمّ أنّ قيد (في حجوركم) وإِن كان ظاهره يفهم منه أنّ بنت الزوجة من زوج آخر إِذا لم ترب في حجر الزوج الثاني لا تحرم عليه، ولكن هذا القيد بدلالة الروايات، وقطعية هذا الحكم ـ ليس قيداً احترازياً ـ بل هو في الحقيقة إِشارة إِلى نكتة التحريم ـ لأن أمثال هذه الفتيات اللاتي تقدم أُمّهاتها على زواج آخر، هنّ في الأغلب في سنين متدنية من العمر، ولذلك غالباً ما يتلقين نشأتهنّ وتربيتهنّ في حجر الزوج الجديد مثل بناته، فالآية تقول إِن بنات نسائكم من غيركم

[173]

كبناتكم أنفسكم، فهل يتزوج أحد بابنة نفسه؟ واختيار وصف الربائب التي هي جمع الرّبيبة (لتربية الزوج الثاني إِيّاها فهي مربوبته) إِنّما هو لأجل هذا.

ثمّ يضيف سبحانه لتأكيد هذا المطلب عقيب هذا القسم قائلا: (فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم) أي إِذا لم تدخلوا باُمّ الرّبيبة جاز لكم نكاح بناتهنّ.

3 ـ (وحلائل(1) أبنائكم الذين من أصلابكم) والمراد من حلائل الأبناء زوجاتهم، وأمّا التعبير بـ «من أصلابكم» فهو في الحقيقة لأجل أن هذه الآية تبطل عادة من العادات الخاطئة في الجاهلية، حيث كان المتعارف في ذلك العهد أن يتبنى الرجل شخصاً ثمّ يعطي للشخص المتبني كل أحكام الولد الحقيقي، ولهذا كانوا لا يتزوجون بزوجات هذا النوع من الأبناء كما لا يتزوجون بزوجة الولد الحقيقي تماماً، والتبني والأحكام المرتبة عليها لا أساس لها في نظر الإِسلام.

4 ـ (وأن تجمعوا بين الأُختين) يعني أنّه يحرم الجمع بين الأُختين في العقد، وعلى هذا يجوز الزواج بالأُختين في وقتين مختلفين وبعد الإِنفصال عن الأُخت السابقة.

وحيث أنّ الزواج بأُختين في وقت واحد كان عادة جارية في الجاهلية، وكان ثمّة من ارتكبوا هذا العمل فإِن القرآن عقب على النهي المذكور بقوله: (إِلاّ ما قد سلف) يعني إِنّ هذا الحكم كالأحكام الاُخرى لا يشمل الحالات السابقة، فلا يؤاخذهم الله على هذا الفعل وإن كان يجب عليهم أن يختاروا إِحدى الأُختين، ويفارقوا الاُخرى، بعد نزول هذا الحكم.

____________________________

1 ـ الحلائل جمع الحليلة، وهي من مادة حل، وهي بمعنى المحللة، أي المرأة التي تحل للإِنسان، أو من مادة حلول معنى المرأة التي تسكن مع الرجل في مكان واحد وتكون بينهما علاقة جنسية، لأن كل واحد منهما يحل مع الآخر في الفراش.

[174]

يبقى أن نعرف أنّ سرّ تحريم هذا النمط من الزواج (أي التزوج بأُختين في وقت واحد) في الإِسلام لعلّه أن بين الأُختين بحكم ما بينهما من نسب ورابطة طبيعية ـ علاقة حبّ ومودّة، فإِذا أصبحتا متنافستين في ظل الإِنتماء إِلى زوج واحد لم يمكنهما الحفاظ على تلك المودّة والمحبّة والعلاقة الودية بطبيعة الحال، وبهذه الصورة يحدث هناك تضاد عاطفي في وجود كل من الأُختين يضرّ بحياتهما، لأن كلّ واحدة منهما ستعاني حينئذ وبصورة دائمية من صراع حالتين نفسيتين متضادتين هما دافع الحب، وغريزة التنافس، وهو صراع نفسي مقيت ينطوي على مضاعفات خطيرة لا تحمد عقباها.

ثمّ إن بعض المفسّرين احتمل أن تعود جملة (إِلاّ ما قد سلف) إِلى كل المحارم من النسوة اللاتي مرّ ذكرهنّ في مطلع الآية فيكون المعنى: إِذا كان قد أقدم أحد في الجاهلية على التزوج بإِحدى النساء المحرم عليه نكاحهنّ لم يشمله حكم تحريم الزواج بهنّ هذا، وكان ما نتج من ذلك الزواج الذي حرم في ما بعد من الأولاد شرعيين، وإِن وجب عليهم بعد نزول هذه الآية أن يتخلوا عن تلكم النساء، ويفارقوهنّ.

وتناسب خاتمة هذه الآية أعني قوله سبحانه وتعالى: (إِنّ الله كان غفوراً رحيماً) هذا المعنى الأخير.

* * *

[175]

الآية

وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ كِتَـبَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَلِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـفِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَأَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَجُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما تَرَضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(24)

التّفسير

هذه الآية تواصل البحث السابق حول النساء اللاتي يحرم نكاحهنّ والزواج بهنّ وتضيف قائلة:

(والمحصنات من النّساء) أي ويحرم الزواج بالنساء، اللاتي لهنّ أزواج.

والمحصنات جمع المحصنة وهي مشتقة من «الحصن»، وقد أُطلقت على المرأة ذات الزوج لأنّها بالزواج برجل تكون قد أحصنت فرجها من الفجور، وكذا أُطلقت على النساء العفيفات النقيات الجيب، أو اللاتي يعشن في كنف رجل وتحت كفالته وبذلك يحفظن أنفسهنّ ويحصنها من الفجور والزنا.

وقد تطلق هذه اللفظة على الحرائر مقابل الإِماء، لأن حريتهنّ تكون بمثابة حصن يحفظهنّ من أن يتجاوز حدوده أحد دون إِذنهنّ، إِلاّ أنّه من الواضح أن

[176]

المراد بها في الآية الحاضرة هو ذوات الأزواج.

إِن هذا الحكم لا يختص بالنساء المحصنات المسلمات، بل يشمل المحصنات حتى غير المسلمات، أي أنّه يحرم الزواج بهنّ مهما كان دينهنّ.

نعم يستثنى من هذا الحكم فقط النساء المحصنات الكتابيات اللاتي أسرّهنّ المسلمون في الحروب، فقد اعتبر الإِسلام أسرهنّ بمثابة الطلاق من أزواجهنّ، وأذن أن يتزوج بهنّ المسلمون بعد انقضاء عدتهنّ(1) أو يتعامل معهنّ كالإِماء كما قال سبحانه: (إِلاّ ما ملكت أيمانكم).

ولكن هذا الإِستثناء (استثناء منقطع يعني أن هذه النساء المحصنات اللاتي وقعن أسيرات في أيدي المسلمين لا يعتبرن محصنات لأن علاقتهنّ بأزواجهنّ قد انقطعت بمجرد وقوعهنّ أسيرات، تماماً كما تنقطع علاقة النساء غير المسلمات بأزواجهن باعتناقهنّ الإِسلام في صورة استمرار الزوج السابق على كفره، فيكن في مصاف النساء المجردات من الأزواج (أي غير المحصنات).

ومن هنا يتّضح أنّ الإِسلام لا يسمح مطلقاً بأن يتزوج المسلمون بالنساء المحصنات حتى الكتابيات وغيرهنّ من أهل الديانات الاُخرى، ولهذا قرّر لهنّ العدّة، ومنع من الزواج بهنّ في تلك الفترة.

وفلسفة هذا الحكم تتمثل في أن هذا النوع من النساء إمّا يجب أن تعاد إِلى دار الكفر، أو يبقين هكذا بدون زوج بين المسلمين، أو تقطع علاقتهنّ بالزوج السابق، ويتزوجن من جديد بزوج آخر، وحيث أن الصورة الأُولى تخالف الأُسس التربوية الإِسلامية، كما أن الصورة الثانية عملية ظالمة، ولهذا لا تبقى إِلاّ صورة واحدة وهي الصورة الثالثة.

ويظهر من بعض الروايات التي ينتهي إِسنادها إِلى أبي سعيد الخدري أنّ

____________________________

1 ـ مقدار عدتهن حيضة واحدة أو وضع حملهن إذا كن حبالى.

[177]

الآية نزلت في سبايا غزوة أوطاس(1) وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سمح للمسلمين بأن يتزوجوا بهن بعد التأكد من كونهنّ غير حبالى أو يعاملن كما تعامل الأمة، وهو يؤيد الصورة الثالثة التي أشرنا إِليها في ما سبق.

ثمّ أن الله سبحانه أكّد هذه الأحكام الواردة في شأن المحارم من النساء ومن شابههنّ حيث قال: (كتاب الله عليكم) وعلى هذا لا يمكن تغيير هذه الأحكام أو العدول عنها أبداً.

ثمّ إنّه يشير سبحانه إِلى حلّية الزواج بغير هذه الطوائف من المذكورات في هذه الآية والآيات السابقة إِذ يقول: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) أي أنّه يجوز لكم أن تتزوجوا بغير هذه الطوائف من النساء شريطة أن يتمّ ذلك وفق القوانين الإِسلامية وأن يرافق مبادىء الفقه والطهر ويبتعد عن جادة الفجور والفسق.

وعلى هذا يكون معنى «محصنين» في الآية والذي هو إِشارة إِلى حال الرجال هو «عفيفين»، وعبارة «غير مسافحين» تأكيد لهذا الوصف، لأن السفاح (الذي هو وزن كتاب) يعني الزنا وأصله من السفح وهو صب الماء أو الأعمال العابثة والأفعال الطائشة وحيث أنّ القرآن يستخدم ـ في مثل هذه الموارد ـ الكنايات يكون المراد من السفاح الزنا واللقاء الجنسي الغير المشروع.

وجملة (أن تبتغوا بأموالكم) إِشارة إِلى أنّ العلاقة الزوجية إمّا يجب أن تتمّ من خلال الزواج مع دفع صداق ومهر، أو من خلال تملك أمة في لقاء دفع قيمتها(2).

كما أن عبارة «غير مسافحين» في الآية الحاضرة لعلها إِشارة إِلى حقيقة أنّ

____________________________

1 ـ أوطاس منطقة وقعت فيها إحدى المعارك الإِسلامية وهو واد في ديار بني هوازن.

2 ـ لقد بحثنا بالتفصيل عن برنامج الإِسلام حول تحرير العبيد وما هناك من تخطيط دقيق في النظام الإِسلامي في هذا المجال عند تفسير الآيات المناسبة في سورة «محمّد»(صلى الله عليه وآله وسلم).

[178]

الهدف من الزواج يجب أن لا يكون فقط إِطفاء الشهوة، وتلبية الرغبة الجنسية، بل الزواج قضية حيوية هامّة تهدف غاية جد سامية يجب أن تكون الغريزة الجنسية في خدمتها أيضاً، ألا وهو بقاء النوع البشري، وحفظه من التلوث والإِنحراف.

الزّواج المؤقت في الإِسلام:

يقول سبحانه: (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة) أي أنّه يجب عليهم دفع أجور النساء اللاتي تستمتعون بهنّ، وهذا القسم من الآية إِشارة إِلى مسألة الزواج المؤقت أو ما يسمّى بالمتعة، ويستفاد منها أن أصل تشريع الزواج المؤقت كان قطعياً ومسلماً عند المسلمين قبل نزول هذه الآية، ولهذا يوصي المسلمون في هذه الآية بدفع أجورهنّ.

وحيث أن البحث في هذه المسألة من الأبحاث التّفسيرية والفقهية والإِجتماعية المهمة جداً يجب دراستها من عدّة جهات هي:

1 ـ القرائن الموجودة في هذه الآية التي تؤكد دلالتها على الزواج المؤقت.

2 ـ إِن الزواج المؤقت كان في عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينسخ.

3 ـ الحاجة بل والضرورة الإِجتماعية إِلى هذا النوع من الزواج.

4 ـ الإِجابة على بعض الإِشكالات.

وأمّا بالنسبة إِلى النقطة الأُولى فلابدّ من الإِلتفات إِلى أُمور:

أوّلا: إنّ كلمة المتعة التي اشتق منها لفظة «استمتعتم» تعني الزواج المؤقت، وبعبارة أُخرى المتعة حقيقة شرعية في هذا النوع من الزواج، ويدل على ذلك أن هذه الكلمة استعملت في هذا المعنى نفسه في روايات النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وكلمات الصحابة مراراً وتكراراً(1).

____________________________

1 ـ راجع كتاب كنز العرفان وتفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين والبرهان، والغدير، ج 6.

[179]

ثانياً: إِنّ هذه اللفظة إِذا لم تكن بالمعنى المذكور يجب أن تفسّر حتماً بمعناها اللغوي وهو «الإِنتفاع» فيكون معنى هذا المقطع من الآية هكذا: «إِذا انتفعتم بالنساء الدائمات فادفعوا إِليهنّ أجورهنّ» في حين أننا نعلم إِن دفع الصداق والمهر غير مقيد ولا مشروط بالإِنتفاع بالزوجات الدائمات بل يجب دفع تمام المهر ـ بناء على ما هو المشهور(1) بين الفقهاء ـ أو نصفه على الأقل إِلى المرأة بمجرد العقد للزواج الدائم عليها.

ثالثاً: إِنّ كبار «الصحابة» و «التابعين»(2) مثل ابن عباس العالم (المفسّر الإِسلامي الكبير) وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعمران بن الحصين، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة والسدي، وجماعة كبيرة من مفسّري أهل السنة، وجميع مفسّري أهل البيت، فهموا من الآية الحاضرة حكم الزواج المؤقت إِلى درجة أن الفخر الرازي ـ رغم ما عهد عنه من التشكيك الكثير في القضايا المرتبطة بالشيعة وعقائد هم قال بعد بحث مفصل: والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول أنّها منسوخة وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحاً في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضاً عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس فإِن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إِلاّ على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع فيه، إِنّما الذي نقوله أن النسخ طرأ عليه(3).

رابعاً: اتفق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وهم أعلم الناس بأسرار الوحي، على تفسير الآية المذكورة بهذا المعنى (أي بالزواج المؤقت) وقد وردت في هذا الصعيد روايات كثيرة منها.

____________________________

1 ـ المشهور أو الأشهر وجوب تمام المهر بمجرد عقد الزواج الدائم وإن كان الطلاق قبل الدخول يوجب إعادة نصفه إِلى الزوج.

2 ـ التابعون هم الذين جاؤوا بعد الصحابة ولم يدركوا عهد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

3 ـ التّفسير الكبير، ج 10، ص 53.

[180]

ما عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنّة من رسول الله»(1).

وعن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال في جواب سؤال أبي بصير حول المتعة: نزلت في القرآن (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة)(2).

وعن الإِمام الباقر(عليه السلام) أيضاً أنّه قال: في جواب عبد الله بن عمير الليثي الذي سأل عن المتعة: «أحلّها الله في كتابه وعلى لسان نبيّه فهي حلال إِلى يوم القيامة»(3).

هل نسخ هذا الحكم؟:

لقد إتفق عامّة علماء المسلمين، بل قامت ضرورة الدين على أنّ الزواج المؤقت (المتعة) كان أمراً مشروعاً في صدر الإِسلام (والكلام حول دلالة الآية الحاضرة على مشروعية المتعة لا ينافي قطعية وجود أصل الحكم لأنّ المخالفين يرون ثبوت مشروعية هذا الحكم في السنة النبوية)، بل كان المسلمون في صدر الإِسلام يعملوا بهذا الحكم، والعبارة المعروفة المروية عن عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا محرمهما ومعاقب عليهما، متعة النساء ومتعة الحج»(4)دليل واضح على وجود هذا الحكم في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، غاية ما في الأمر أن من خالف هذا الحكم ادعى أنّه قد نسخ في ما بعد، وحرم هذا النوع من الزواج.

ولكن الملفت للنظر هو أنّ الروايات الناسخة لهذا الحكم التي ادعوها مضطربة اضطراباً كبيراً، فبعضها يقول: إِنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه هو الذي نسخ هذا الحكم، وعلى هذا يكون الناسخ لهذا الحكم القرآني هو السنة النبوية، وبعضها

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 467، وتفسير البرهان، ج 1، ص 360.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ تفسير البرهان ذيل الآية (وقد ورد هذا الحديث والحديثان السابقان عليه في كتاب الكافي).

4 ـ كنز العرفان، ج 2، ص 158، ولقد روي الحديث المذكور عن تفسير القرطبي والطبري بعبارات تشابه العبارة أعلاه، كما أن هذا الحديث جاء في السنن الكبرى للبيهقي، ج 7، كتاب النكاح.

[181]

يقول: إِنّ ناسخه هو آية الطلاق إِذ يقول سبحانه: (إِذا طلقتم النساء فطلقوهنّ لعدّتهن) في حين أنّ هذه الآية لا ترتبط بالمسألة المطروحة في هذا البحث لأنّ هذه الآية تبحث في الطلاق، في حين أن الزواج المؤقت (أو المتعة) لا طلاق فيه، والإِفتراق بين الطرفين في هذا الزواج يتمّ بانتهاء المدّة المقررة.

إِنّ القدر المتيقن في المقام هو أن أصل مشروعية هذا النوع من الزواج في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر قطعي ومفروغ عنه، وليس ثمّة أي دليل يمكن الإِطمئنان إِليه ويثبت نسخ هذا الحكم، ولهذا فلابدّ من أن نحكم ببقاء هذا الحكم، بناء على ما هو مقرر وثابت في علم الأصول.

والعبارة المشهورة المروية عن «عمر» خير شاهد على هذه الحقيقة، وهي أنّ هذا الحكم لم ينسخ في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ... وإِلخ.

ثمّ إن من البديهي أنّه لا يحق لأحد إِلاّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينسخ الأحكام، فهو وحده يحق له ـ وبأمر من الله سبحانه وإِذنه ـ أن ينسخ بعض الأحكام، وقد سد باب نسخ الأحكام بعد وفاة النّبي تماماً، وإِلاّ لإستطاع كل واحد أن ينسخ شيئاً من الأحكام الإِلهية حسب اجتهاده ومزاجه، وحينئذ لا يبقى شيء من الشريعة الخالدة الأبدية، وهذا مضافاً إِلى أنّ الإِجتهاد في مقابل النص النّبوي لا ينطوي على أية قيمة أبداً.

والملفت للنظر أننا نقرأ في صحيح الترمذي الذي هو من صحاح أهل السنة المعروفة، وكذا عن الدارقطني(1) أن رجلا من أهل الشام سأل «عبد الله بن عمر» عن التمتع بالعمرة إِلى الحج، فقال ابن عمر: حسن جميل، قال: فإِن أباك كان ينهى عنها، فقال: ويلك فإِن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر به أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قم عنّي(2).

____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج 2، ص 762، ذيل الآية (195) البقرة.

2 ـ المراد من متعة الحج التي حرّمها عمر هو لو أننا صرفنا النظر عن حج التمتع، فإن حج التمتع عبارة عن الأمر التالي: إن يحرم الشخص أوّلا، ثمّ بعد الإِتيان بمناسك «العمرة» يخرج من احرامه (فيحلّ له كل شيء حتى الجماع) ثمّ يحرم من جديد ليؤدي مناسك الحج من تاسع ذي الحجّة، وقد كان الناس في الجاهلية يبطلون هذا العمل ويستغربون ممن يدخل مكّة أيام الحج ثمّ يأتي بالعمرة ويخرج من إحرامه قبل أن يأتي بالحج، ولكن الإِسلام أباح هذا وقد صرّح بهذا الأمر في الآية (186) من سورة البقرة.

[182]

وقد ورد نظير هذا الحديث وبنفس الصورة التي قرأتها حول زواج المتعة عن «عبد الله بن عمر» في صحيح الترمذي(1).

وجاء في كتاب «المحاضرات» للراغب أنّ رجلا من المسلمين كان يفعلها (أي المتعة) فقيل له: عمّن أخذت حلّها؟ فقال: عن عمر، فقالوا: كيف ذلك وعمر هو الذي نهى عنها وعاقب على فعلها؟ فقال: لقوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله، وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء، فأنا أقبل روايته في شرعيتها على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما أقبل نهيه من قبل نفسه(2).

ثمّ إن هناك مطلباً آخر لابدّ أن نذكر به هنا وهو أن الذين ادعوا نسخ هذا الحكم (أي انتساخه) قد واجهوا مشكلات عديدة.

أوّلا: أنّه صرّح في روايات عديدة في مصادر أهل السنة بأنّ هذا الحكم لم ينسخ في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أبداً، بل نهي عنه في عهد عمر، وعلى هذا يجب على مدعي النسخ أن يجيبوا على هذه الروايات البالغة ـ عدداً ـ عشرين رواية، جمعها العلاّمة الأميني(رحمه الله) مفصلة في الجزء السادس من «الغدير» وها نحن نشير إِلى نموذجين منها.

1 ـ روي في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه كان يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر حتى ـ ثمّ ـ نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث(3).

2 ـ وفي حديث آخر في كتاب «الموطأ» لمالك و«السنن الكبرى» للبيهقي

____________________________

1 ـ شرح اللمعة الدمشقية، ج 2، كتاب النكاح.

2 ـ كنز العرفان، ج 2، ص 159 الهامش.

3 ـ الغدير، ج 6، ص 205 و 206.

[183]

روي عن «عروة بن زبير» إنّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: إنّ ربيعة بن أميّة استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج عمر رضي الله عنه يجرّ رداءه فزعاً فقال: هذه المتعة لو كنت تقدمت فيه لرجمته، (أي أمنع منها من الآن)(1).

وفي كتاب «بداية المجتهد» تأليف «ابن رشد الأندلسي» نقرأ أيضاً أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري كان يقول: تمتعنا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر ونصفاً من خلافة عمر ثمّ نهى عنها عمر الناس(2).

والمشكلة الاُخرى هي أنّ الروايات التي تتحدث عن نسخ حكم المتعة في عهد رسول الله مضطربة ومتناقضة جدّاً، فبعضها يقول نسخ في خيبر وبعضها يقول: نسخ يوم فتح مكّة، وبعض يقول: في معركة تبوك وآخر يقول: يوم أوطاس وما شابه ذلك، ومن هنا يتبيّن إِن هذه الأحاديث المشيرة إِلى النسخ موضوعة برمتها لما فيها من التناقض البيّن والتضارب الواضح.

من كل ما قلناه اتّضح أنّ ما كتبه صاحب تفسير المنار حيث قال: «وقد كنّا قلنا في (محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع: من المنار أن عمر نهى عن المتعة اجتهاداً منه وافقه عليه الصحابة ثمّ تبيّن لنا أنّ ذلك خطأ فنستغفر الله منه»(3).

إِنّه حديث العصبية لأنّ هناك في مقابل الرّوايات المتضاربة المتناقضة التي تتحدث عن انتساخ حكم المتعة في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) روايات تصرّح باستمرار المسلمين على ممارسة هذا الأمر (أي المتعة) إِلى عهد عمر، وعلى هذا ليس المقام مقام الإِعتذار ولا الإِستغفار، فالشواهد التي ذكرناها سابقاً تشهد بأن

____________________________

1 ـ الغدير، ج1، ص205 و 206.

2 ـ بداية المجتهد كتاب النكاح.

3 ـ تفسير المنار، ج 5، ص 16.

[184]

كلامه الأوّل مقترن بالحقيقة وليس كلامه الثّاني كذلك.

ولا يخفى أنّه لا «عمر» ولا أي شخصية أُخرى حتى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)وهم خلفاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقادرين على نسخ أحكام ثبتت في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بل لا معنى للنسخ ـ أساساً ـ بعد وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وانسداد باب الوحي وانقطاعه، وحملهم كلام «عمر» على الإِجتهاد مثير للعجب، لأنّه من «الإِجتهاد» في مقابل «النص».

وأعجب من ذلك أن جماعة من فقهاء السنة اعتبروا الآيات المرتبطة بأحكام الزواج مثل الآية (6) من سورة المؤمنين ناسحة لآية المتعة، وكأنّهم تصوروا أن زواج المتعة ليس زواجاً أصلا، في حين أنّه أحد أقسام الزواج.

الزّواج المؤقت ضرورة إِجتماعية:

إِنّه قانون عام إِن الغريزة البشرية الطبيعية إِذا لم تلّب بصورة صحيحة سلك الإِنسان لإِشباعها وتلبيتها طريقاً منحرفاً، لأن من الحقائق المسلمة غير القابلة للإِنكار أن الغرائز الطبيعية لا يمكن أن يقضى عليها بالمرّة وحتى أننا إِذا استطعنا أن نقضي عليها ـ افتراضاً ـ لم يكن هذا العمل عملا صحيحاً، لأنّه حرب على قانون من قوانين الخلقة.

وعلى هذا فإِنّ الطريق الصحيح هو أن نشبع هذه الحاجة، ونلبي هذه الغريزة بطريقة معقولة، وأن نستفيد منها في سبيل البناء.

على أننا لا يمكننا أن ننكر أنّ الغريزة الجنسية هي إحدى أقوى الغرائز الإِنسانية إِلى درجة أن بعض المحللين النفسانيين إعتبرها الغريزة الإِنسانية الأصيلة التي إليها ترجع بقية الغرائز الاُخرى.

فإذا كان الأمر كذلك ينطرح سؤال في المقام وهو أنّه قد يكون هناك من لا يمكنه ـ وفي كثير من الظروف والأحوال ـ أن يتزوج بالزواج الدائم في سن

[185]

خاص، أو يكون هناك من المتزوجين من سافر في رحلة طويلة ومهمّة بعيدة عن الأهل فيواجه مشكلة الحاجة الجنسية الشديدة التي تتطلب منه التلبية والإِرضاء.

خاصّة وإِنّ هذه المسألة قد اتّخذت في عصرنا الحاضر الذي أصبح فيه الزواج ـ بسبب طول مدّة الدراسة وبعد زمن التخرج وبعض المسائل الإِجتماعية المعقدة التي قلّما يستطيع معها الشباب أن يتزوجوا في سن مبكرة، أي في السن التي تعتبر فترة الفوران الجنسي لدى كل شاب ـ اتّخذت صفة أكثر عنفاً وضراوة، ترى ما الذي يجب عمله في هذه الحالة؟

هل يجب حثّ الناس على أن يقمعوا هذه الغريزة (كما يفعل الرهبان والراهبات)؟

أو أنّه يجب أن يفسح لهم المجال لأن يتحرروا جنسياً فيفعلوا ما شاؤوا أن يفعلوا، فتتكرر الصورة المقرفة؟

أو أن نسلك طريقاً ثالثة تخلو عن مشاكل الزواج الدائم، كما وتخلو عن مفاسد التحرر الجنسي أيضاً؟

وخلاصة القول إِن الزواج الدائم لم يكن لا في السابق ولا في الحاضر بقادر على أن يلبي كل الإِحتياجات الجنسية، ولا أن يحقق رغبات جميع الفئات والطبقات في الناس، فنحن لذلك أمام خيارين لا ثالث لهما وهما: إمّا أن نسمح بالفحشاء والبغاء ونعترف به (كما هو الحال في المجتمعات المادية اليوم حيث سمحوا بالبغاء بصورة قانونية) أو أن نعالج المسألة عن طريق الزواج المؤقت (المتعة) فما هو يا ترى جواب الذين يعارضون فكرة البغاء، وفكرة المتعة، على هذا السؤال الملح؟

إِنّ أُطروحة الزواج المؤقت (المتعة) ليست مقيدة بشرائط النكاح الدائم لكي يقال بأنّها لا تنسجم ولا تتلاءم مع عدم القدرة المالية، أو لا تتلاءم مع ظروف

[186]

الدراسة، كما لا تنطوي على اضرار الفحشاء والبغاء ومفاسده وويلاته.

مؤاخذات على الزواج المؤقت:

نعم هناك مؤاخذات تؤخذ على الزواج المؤقت لابدّ أن نذكرها هنا، ونجيب عليها باختصار.

1 ـ ربّما يقال: ما الفرق بين «الزواج المؤقت» و«الزنا»، أليس كلاهما بيع للجسد لقاء دفع مبلغ معين، وفي الحقيقة ليس وصف الزواج المؤقت سوى ستار على وجه الفحشاء والزنا، نعم غاية الفرق بين الأمرين هو إِجراء ما يسمّى بالصيغة، وهي ليست سوى عبارة بسيطة.

والجواب هو: إِن الذين يرددون هذا الكلام كأنّهم لم يطّلعوا أصلا على مفهوم الزواج المؤقت وحقيقته، لأنّ الزواج المؤقت ليس عبارة عن مجرّد كلمتين تقال وينتهي كل شيء، بل ثمّة مقررات نظير ما في الزواج الدائم، يعني أن المرأة المتمتع بها تكون ـ طوال المدّة المضروبة في الزواج المؤقت خاصّة بالرجل المتمتع، ثمّ عندما تنتهي المدّة المذكورة يجب على المرأة أن تعتد، يعني أن تمتنع من الزواج مطلقاً برجل آخر لمدّة خمسة وأربعين يوماً على الأقل، حتى يتبيّن أنّها حملت من الرجل الأوّل أو لا، على أنّها يجب أن تعتد حتى إذا توسلت بوسائل لمنع الحمل أيضاً وإذا حملت من ذلك الرجل وأتت بوليد وجب أن يتكفله ذلك الرجل كما يتكفل أمر ولده من الزواج الدائم ويجري عليه من الأحكام كل ما يجري على الولد الناشىء من الزواج الدائم، في حين أن الزنا والبغاء لا ينطوي على أي شيء من هذه الشروط والحدود، فهل يمكن أن نقيس هذا الزواج بالبغاء؟

نعم إِنّ بين الزواج المؤقت والزواج الدائم بعض الفروق من حيث التوارث

[187]

بين الزوجتين(1) والنفقة وبعض الأحكام، ولكن هذه الفروق لا تسبب في أن يجعل «الزواج المؤقت» في رديف البغاء، خلاصة القول: إِنّ المتعة نوع من الزواج بمقررات الزواج والنكاح.

2 ـ إِنّ «الزواج المؤقت» يتيح لبعض الأشخاص من طلاب الهوى أن يسيء استعمال هذا القانون، وأن يرتكبوا كل فاحشة تحت هذا الستار لدرجة أن ذوي الشخصيات من الناس لا تقبل بمثل هذا الزواج، بل وتأنف منه كما أن ذوات الشخصية من النساء يأبين ذلك أيضاً.

والجواب هو: وأي قانون في عالمنا الراهن لم يسأ استعماله؟ وهل يجوز أن نمنع من الأخذ بقانون تقتضيه الفطرة البشرية وتمليه الحاجة الإِجتماعية الملحة بحجّة أن هناك من يسيء استعماله، أم أن علينا أن نمنع من سوء استخدام القانون الصحيح؟

لو أنّ البعض استغل موسم الحج لبيع المخدرات على الحجيج ـ افتراضاً ـ فهل يجب أن نمنع من هذا التصرف الشائن، أم نمنع من اشتراك الناس في هذا المؤتمر الإِسلامي العظيم؟

وهكذا الأمر في المقام، واذا لاحظنا بعض الناس من ذوي الشخصيات يكره الأخذ بهذا القانون الإِسلامي (أي الزواج المؤقت) لم يكشف ذلك عن عيب في القانون، بل يكشف عن عيب في العاملين به، أو بتعبير أصح: يكشف عن عيب في الذين يسيئون استخدام القانون.

فلو أنّ الزواج المؤقت اتّخذ في المجتمع المعاصر صورته الصحيحة، وقامت الحكومة الإِسلامية بتطبيقه على النحو الصحيح، وضمن ضوابطه ومقرراته الخاصّة به، أمكن المنع من سوء استخدام المستغلين لهذا القانون، كما لم يعد ذوو الشخصيات يكرهون هذا القانون ويرفضونه عند وجود ضرورة

____________________________

1 ـ طبعاً ليس هناك أي فرق بين أولاد الزواج المؤقت وأبناء الزواج الدائم من هذه النواحي.

[188]

إِجتماعية أيضاً.

3 ـ يقولون: إِنّ «الزواج المؤقت» يسبب في أن يحصل في المجتمع أطفال بلا أُسر، تماماً كما يحصل من البغاء من الأولاد الغير الشرعيين.

والجواب هو: إِنّ الإِجابة على هذه المؤاخذة تتّضح تماماً ممّا قلناه، لأنّ الأولاد غير الشرعيين غير مرتبطين بآبائهم ولا أُمهاتهم من الناحية القانونية، في حين إن الأولاد الناتجين من الزواج المؤقت لا يختلفون في أي شيء عن الأولاد الناشئين من الزواج الدائم حتى في الميراث وسائر الحقوق الإِجتماعية، وهذا الإِعتراض نشأ من عدم الإِنتباه إِلى هذه الحقيقة الساطعة في صعيد الزواج المؤقت.

«راسل» والزواج المؤقت:

في خاتمة هذا البحث من المفيد الإِشارة إِلى موضوع هام ذكره في هذا المجال العالم الإِنجليزي المعروف «برتراند راسل» في كتابه: «الزواج والأخلاق» تحت عنوان «زواج إِختياري».

لقد كتب راسل بعد أن ذكر اقتراحاً لأحد قضاة محاكم الشباب يدعى «بن بي ليندسي» في مجال «الزواج الودّي أو الزواج الإِختياري» قائلا: وفق هذا الإِقتراح يجب أن يكون الشباب قادرين على أن يدخلوا في نوع جديد من الزواج يختلف عن الزواج المتعارف (الدائم) من ثلاث نواح:

أوّلا: أن لا يقصد الطرفان الحصول على أبناء، ولهذا يجب أن يتعرفوا على أفضل السبل لمنع الحمل.

وثانياً: أن يتمّ الإِفتراق بين الطرفين بأبسط الطرق وأسهلها.

وثالثاً: أن لا تستحق المرأة أي نفقة من الرجل بعد وقوع الإِفتراق والطلاق بينهما.

[189]

ثمّ إنّ راسل بعد أن يذكر خلاصة ما اقترحه «ليندسي» يقول: وإِنّي لأتصور أن مثل هذا الأمر لو اعترف به القانون لأقبل جمهور كبير من الشباب وخاصّة الطلبة الجامعيين على الزواج المؤقت ولدخلوا في حياة مشتركة مؤقتة، حياة تتمتع بالحرية، وخالصة من كثير من التبعات والعواقب السئية للعلاقات الجنسية الطائشة، الراهنة»(1).

إِنّ هذا الطرح ـ كما تلاحظ أيّها القارىء الكريم ـ حول الزواج المؤقت يشابه إِلى حدّ كبير قانون الزواج المؤقت الإِسلامي، غاية ما هنالك إِنّ الشروط التي قرّرها الإِسلام في صعيد «الزواج المؤقت» أوضح وأكمل من نواحي كثيرة ممّا اعتبر في ذلك الطرح (الذي اقترحه ليندسي)، هذا مضافاً إِلى أن المنع من تكون الولد في الزواج المؤقت الإِسلامي غير محضور وإنّ الإِنفصال سهل، كما أنّه لا تجب النفقة في هذا الزواج على الرجل.

ثمّ إِنّ الله سبحانه قال: ـ بعد ذكر وجوب دفع المهر ـ (ولا جناح عليكم في ما تراضيتم به من بعد الفريضة) وهو بذلك يشير إِلى أنّه لا مانع من التغيير في مقدار الصداق إِذا تراضى طرفا العقد، وعلى هذا الأساس يكون الصداق نوعاً من الدين الذي يخضع للتغيير من زيادة أو نقصان إِذا تراضيا. (ولا فرق في هذا الأمر بين العقد المؤقت والعقد الدائم وإِن كانت الآية الحاضرة ـ كما شرحنا ذلك سلفاً ـ تدور حول الزواج المؤقت).

ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في تفسير الآية أيضاً وهو أنّه لا مانع من أن يقدم الطرفان ـ بعد انعقاد الزواج المؤقت على تمديد مدّة هذا الزواج وكذا التغيير في مقدار المهر برضا الطرفين، وهذا يعني أن مدّة الزواج المؤقت قابلة للتمديد حتى عند إِشرافها على الإِنتهاء (أي قبيل انتهائها) بأن يتفق الزوجات أن يضيفا على المدّة المتفق عليها في مطلع هذا الزواج، مدّة أُخرى معينة لقاء إِضافة مقدار معين

____________________________

1 ـ من كتاب (زناشوئي وأحلاق)، ص 189 ـ 190.

[190]

من المال إِلى الصداق المتفق عليه أوّلا (وقد أُشير في روايات أهل البيت(عليهم السلام) إِلى هذا التّفسير أيضاً).

ثمّ أنّه سبحانه قال: (إِنّ الله كان عليماً حكيماً) يريد بذلك أن الأحكام المذكورة في هذه الآية تتضمّن خير البشرية وصلاحها وسعادتها لأنّ الله عليم بمصالحهم، حكيم في ما يقرره لهم من القوانين.

* * *

[191]

الآية

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الُْمحْصَنَـتِ الْمُؤْمِنَـتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُم مِّن فَتَيَـتِكُمُ الْمُؤْمِنَـتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـنِكُم بَعْضُكُمْ مِّن بَعْض فَانِكحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَـت غَيْرَ مُسَـفِحَـت وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـحِشَة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الُْمحْصَنَـتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(25)

التّفسير

التّزوج بالإِماء:

تعقيباً على الأبحاث السابقة المتعلقة بالزواج نزلت هذه الآية تبيّن شروط التزويج بالإِماء، فتقول أولا: (ومن لم يستطع منكم طولا(1) أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) أي من لم يجد قدرة مالية على أن يتزوج بالحرائر من النساء المؤمنات، وليس لديه ما يقدر على

____________________________

1 ـ «الطول» على وزن «نوع» مأخوذ من الطول (على وزن النور) بمعنى القدرة والإِمكانية المالية وما شابه ذلك.

[192]

مهرهنّ ونفقتهنّ، فإِن له أن يتزوج ممّا ملكت أيمانكم من الإِماء، فإِن مهورهنّ أقل، ومؤنتهنّ أخفّ عادةً.

على أنّ المراد من الأَمة هنا هي أَمة الغير، إِذ لا يجوز لصاحب الأمة أن يتزوج بأمته ويتعامل معها كما يتعامل مع زوجته بشروط مذكورة في الكتب الفقهية.

كما أن التعبير بـ «المؤمنات» في الآية يستفاد منه أنّه يجب أن تكون «الأمة» التي يراد نكاحها مسلمة حتى يجوز التزوج بها، وعلى هذا لا يصح التزوج بالإِماء الكتابيات.

ثمّ إنّ الملفت للنظر في المقام هو أنّ القرآن عبر عن الإِماء بالفتيات جمع فتاة، هو مشعر عادة بالإِحترام الخاص الذي يولي للنساء، وهي تستخدم غالباً في الشّابات من الإِناث.

ثمّ إن الله سبحانه عقّب على هذا الحكم بقوله: (والله أعلم بإيمانكم) ويريد بذلك أنكم لستم مكلّفين ـ في تشخيص إِيمان الإِماء ـ إِلاّ بالظاهر، وأمّا الباطن فالله هو الذي يعلم ذلك، فهو وحده العالم بالسرائر، والمطلع على الضمائر.

وحيث إن البعض كان يكره التزوج بالإِماء ويستنكف من نكاحهنّ قال تعالى: (بعضكم من بعض) أي أنّكم جميعاً من أب واحد، وأُمّ واحدة، فإِذن يجب أن لا تستنكفوا من التزوج بالإِماء اللاتي لا يختلفن من الناحية الإِنسانية عنكم، واللائي يشبهنّ غيرهنّ من ناحية القيمة المعنوية، فقيمتهنّ تدور مدار التقوى والإِيمان لا غير.

وخلاصة القون إنّ الإِماء من جنسكم، وكلّكم كأعضاء جسم واحد.

نعم لابدّ أن يكون التزوج بالإِماء بعد إِذن أهلهنّ وإِلاّ كان باطلا، وإِلى هذا أشار سبحانه بقوله: (فانكحوهن بإِذن أهلهنّ) والتعبير عن المالك بالأهل إِنّما هو للإِشارة إِلى أنّه لا يجوز التعامل مع الإِماء على أنهنّ متاع أو بضاعة، بل يجب

[193]

أن يكون التعامل معهنّ على أنهنّ من أعضاء العائلة، فلابدّ أن يكون تعاملا إِنسانياً كاملا.

ثمّ إنّه سبحانه قال: (وآتوهنّ أجورهنّ بالمعروف) ومن هذه الجملة يستفاد أن الصّداق الذي يعطى لهنّ يجب أن يكون متناسباً مع شأنهن ومكانتهن، وأن يعطى المهر لهنّ، يعني أن الامة تكون هي المالكة للصداق، وإِن ذهب بعض المفسرين إِلى أن في الآية حذفاً، أي أن الأصل هو (وآتوا مالكهنّ أجورهنّ) غير أن التّفسير لا يوافق ظاهر الآية، وإِن كانت تؤيده بعض الروايات والأخبار.

هذا ويستفاد أيضاً من ظاهر الآية أنه يمكن للعبيد والإِماء أن يملكوا ما يحصلون عليه بالطرق المشروعة.

كما يستفاد من التعبير بـ «المعروف» أنّه لا يجوز أن تظلم الإِماء في تعيين مقدار المهر، بل هو حقهنّ الطبيعي الحقيقي الذي يجب أن يعطى إِليهنّ بالقدر المتعارف.

ثمّ إن الله سبحانه ذكر شرطاً آخر من شروط هذا الزواج، وهو أن يختار الرجل للزواج العفائف الطاهرات من الإِماء اللائي لم يرتكبن البغاء إِذ قال: (محصنات) سوآءً بصورة علنية (غير مسافحات) أو بصورة خفية (ولا متخذات أخذان)(1) أي أصدقاء وأخلاء في السرّ.

ويمكن أن يرد هنا سؤال هو أنّ النهي عن الزنا بلفظة (غير مسافحات)تكفي وتغني عن النهي عن اتّخاذ الأخدان، فلماذا الوصف الثاني أيضاً؟

ويجاب على هذا: بأن البعض ـ في عهد الجاهلية ـ كان يرى أنّ المذموم فقط هو الزنا العلني والسفاح الظاهر، وأمّا اتّخاذ الأخلاء والرفاق أو الرفيقات في

____________________________

1 ـ الأخدان جمع «خدن» وهي بمعنى الرفيق والخل في الأصل، ولكنها تستعمل عادة في الأشخاص الذين يقيمون علاقات جنسية غير مشروعة مع الجنس الآخر، ولابدّ أن نعرف أن القرآن أطلق لفظة الخدن على المرأة كما أطلقها على الرجل.

[194]

السرّ فلا بأس به، وبهذا يتّضح سبب ذكر القرآن وتصريحه بكلا النوعين.

ثمّ إن الله سبحانه قال: (فإِذا أحصنّ فإِن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب).

وتتضمن الآية بحثاً حول عقوبة الإِماء إِذا خرجن عن جادة العفة والطهر، وذلك بعد أن ذكر قبل هذا بعض أحكام الزواج بالإِماء، وبعض الأحكام حول حقوقهنّ.

والحكم المذكور في هذا المجال هو أن الإِماء إِذا زنين فجزاؤهنّ نصف جزاء الحرائر إِذا زنين، أي خمسون جلدة.

ثمّ إِنّ هاهنا نقطة جديرة بالإِنتباه هي أنّ القرآن الكريم يقول في هذا المقام (إِذا أحصنّ) فيكون معناه أنّ الجزاء المذكور إِنّما يترتب على زنا الأمة إِذا أحصنت، فماذا يعني ذلك؟

لقد احتمل المفسّرون هنا احتمالات عديدة، فبعضهم ذهب إِلى أنّ المراد هو الأمة ذات بعل (وذلك حسب الإِصطلاح الفقهي المعروف والآية السابقة).

وذهب آخرون إِلى أنّ المراد هي الأمة المسلمة، بيد أن تكرار لفظة المحصنة مرتين في الآية يقضي بأن يكون المعنى واحداً في المقامين، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإِن جزاء النساء المحصنات هو الرجم لا الجلد، فيتّضح أنّ التّفسير الأوّل وهو تفسير المحصنة بالأَمة ذات بعل غير مقبول، كما أنّ التّفسير الثّاني وهو كون المراد من المحصنة هو المسلمة ليس له ما يدل عليه.

فالحقّ هو أنّ مجيء لفظة (المحصنات) في القرآن الكريم بمعنى المرأة العفيفة الطاهرة ـ على الأغلب ـ يجعل من القريب إِلى النظر أن تكون لفظة المحصنة هنا في الآية الحاضرة مشيرة إِلى هذا المعنى نفسه، فيكون المراد أنّ الإِماء اللأتي كن يرتكبن الفاحشة بضغط وإجبار من أوليائهنّ لا يجري عليهنّ

[195]

الحكم المذكور (أي الجلد)، أمّا الإِماء اللاتي لم يتعرضن للضغط والإِجبار، ويمكنهنّ أن يعشن عفيفات نقيات، فإِنهنّ إِذا أتين بالفاحشة عوقبن كما تعاقب الحرائر وإِن كانت عقوبة هذا النوع من الإِماء على النصف من حدّ الحرائر في الزنا.

ثمّ قال سبحانه معقباً على الحكم السابق: (ذلك لمن خشي العنت منكم)و«العنت» (على وزن سند) يقال في الأصل للعظم المجبور ـ بعد الكسر ـ إِذا أصابه ألم وكسر آخر فهضّه قد أعنته، لأن هذا النوع من الكسر مؤلم جدّاً، ولهذا يستعمل في المشاكل الباهظة والأعمال المؤلمة.

ويقصد الكتاب العزيز من العبارة الحاضرة أنّ الزواج بالإِماء إِنّما يجوز لمن يعاني من ضغط شديد بسبب شدّة غلبة الغريزة الجنسية عليه ولم يكن قادراً على التزوج بالحرائر من النساء، وعلى هذا الأساس لا يجوز الزواج بالإِماء لغير هذه الطائفة.

ويمكن أن تكون فلسفة هذا الحكم في أنّ الإِماء خاصّة في تلك العهود لم يحظين بتربية جيدة، ولهذا كن يعانين من نواقص خلقية ونفسية وعاطفية، ومن الطبيعي أن يتّخذ الأطفال المتولدون من هذا الزواج صفة الأُمهات ويكتسبوا خصوصياتهنّ الخلقية، ولهذا السبب طرح الإِسلام طريقة دقيقة لتحرير العبيد تدريجاً حتى لا يبتلوا بهذا المصير السيء، وفي نفس الوقت فسح للأرقاء أنفسهم أن يتزوجوا فيما بينهم.

نعم، هذا الموضوع لا يتنافى مع وضع بعض الإِماء اللائي حظين بوضع استثنائي وخاص من الناحية الخلقية والتربوية، فالحكم المذكور أعلاه يرتبط بأغلبية الإِماء، وكون بعض أُمهات الأئمّة، من أهل البيت النبوي(عليهم السلام) من الإِماء هو من هذه الجهة، ولكن لابدّ من الإِنتباه إِلى أنّ ما قيل في مجال الإِماء من

[196]

«المنع في غير الضرورة» هو الزواج بهنّ، لا نكاحهنّ بسبب الملك، فإِنّه لا مانع منه حتى في غير الضرورة.

ثمّ عقب سبحانه على ذلك بقوله: (وإِن تصبروا خير لكم) أي إِن صبركم عن التزوج بالإماء ما استطعتم وما لم تقعوا في الزنا خير لكم ومن مصلحتكم: (والله غفور رحيم) أي يغفر الله لكم ما تقدم منكم بجهل أو غفلة فهو رحيم بكم.

* * *

[197]

الآيات

يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(26) وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيماً(27)يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الاِْنسَـنُ ضَعِيفاً(28)

التّفسير

هذه القيود لماذا؟:

بعد أن بيّن الله سبحانه في الآيات السابقة ما هناك من شروط وقيود وأحكام مختلفة في مجال الزواج، يمكن أن ينقدح سؤال في ذهن البعض وهو: ما المقصود من كلّ هذه القيود ولماذا الحدود القانونية؟ ألم يكن من الأفضل أن تترك للأفراد الحرية الكاملة في هذه المسائل، ليتاح لهم أن يستفيدوا من هذا الأمر وليتعرفوا في هذا المجال كما يفعل عبدة الدنيا حيث يتوسلون بكل وسيلة في طريق اللّذة؟

إِنّ الآيات الحاضرة هي في الحقيقة إِجابة على هذه التساؤلات إِذ يقول سبحانه: (يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم)أي أنّ الله يبيّن لكم الحقائق بواسطة هذه القوانين ويهديكم إِلى ما فيه مصالحكم،

[198]

مع العلم بأن هذه الأحكام لا تختص بكم، فقد سار عليها من سبقكم من أهل الحق من الأمم الصالحة، هذا مضافاً إِلى أنّ الله تعالى يريد أن يغفر لكم ويعيد عليكم نعمه التي قطعت عنكم بسبب إنحرافكم عن جادة الحقّ، وكل هذا إِنّما يكون إِذا عُدتم عن طريق الإِنحراف الذي سلكتموه في عهد الجاهلية وقبل الإِسلام.

(والله عليم حكيم) يعلم بأسرار الأحكام، ويشرعها لكم عن حكمة.

ثمّ إِن لله سبحانه أكّد ما مرّ بقوله: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشّهوات أن تميلوا ميلا عظيماً) أي أنّ الله يريد بتشريع هذه الأحكام لكم أن يعيد عليكم نعمه التي قطعت ومنعت عنكم بسبب ذنوبكم، وارتكابكم للشّهوات، ولكن الذين يريدون الإِنسياق وراء الشّهوات الغارقين في الآثام والذنوب يريدون لكم أن تنحرفوا عن طريق السعادة، إِنّهم يريدون أن تسايروهم في اتّباع الشّهوات وأن تنغمسوا في الآثار انغماساً كاملا، فهل ترون ـ والحال  هذه ـ إِنّ هذه القيود والحدود الكفيلة بضمان سعادتكم وخيركم ومصلحتكم أفضل لكم، أو الحرية المنفلتة المقرونة بالإِنحطاط الخلقي، والفساد والسقوط؟

إِنّ هذه الآيات في الحقيقة تجيب على تساؤل أُولئك الأفراد الذين يعيشون في عصرنا الحاضر أيضاً والذين يعترضون على القيود والحدود المفروضة في مجال القضايا الجنسية، وتقول لهم: إنّ الحريات المطلقة المنفلتة ليست أكثر من سراب، وهي لا تنتج سوى الإِنحراف الكبير عن مسير السعادة والتكامل الإِنساني، وكما توجب التورط في المتاهات والمجاهل، وتستلزم العواقب الشريرة التي يتجسد بعضها في ما نراه بأُم أعيننا من تبعثر العوائل، ووقوع أنواع الجريمة الجنسية البشعة، وظهور الأمراض التناسلية والآلام الروحية والنفسية المقيتة، ونشوء الأولاد غير الشرعيين حيث يكثر فيهم المجرمون القساة الجناة.

ثمّ إنّه سبحانه يقول بعد كل هذا: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإِنسان

[199]

ضعيفاً) وهذه الآية إِشارة إِلى أنّ النقطة التالية وهي أنّ الحكم السابق في مجال حرية التزوج بالإِماء بشروط معينة ما هو ـ في الحقيقة ـ إِلاّ تخفيف وتوسعة، ذلك لأنّ الإِنسان خلق ضعيفاً، فلابدّ وهو يواجه طوفان الغرائز المتنوعة الجامحة التي تحاصره وتهجم عليه من كل صوب وحدب أن تطرح عليه طرق ووسائل مشروعة لإِرضاء غرائزه، ليتمكن من حفظ نفسه من الإِنحراف والسقوط.

* * *

[200]

الآيتان

يَـأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـرَةً عَن تَرَاض مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً(29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً(30)

التّفسير

سلامة المجتمع ترتبط بسلامة الإِقتصاد:

الآية الأُولى من هاتين الآيتين تشكل ـ في الحقيقة ـ القاعدة الأساسية للقوانين الإِسلامية في مجال المسائل المتعلقة «بالمعاملات والمبادلات المالية» ولهذا يستدلّ بها فقهاء الإِسلام في جميع أبواب المعاملات والمبادلات المالية.

إِنّ هذه الآية تخاطب المؤمنين بقولها: (يا أيّها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وهذا يعني أنّ أي تصرف في أموال الغير بدون حق أو بدون أي مبرر منطقي ومعقول، ممنوع ومحرم من وجهة نظر الإِسلام، فقد أدرج الإِسلام كل هذه الأمور تحت عنوان «الباطل» الذي له مفهوم واسع وكبير.

والباطل كما نعلم يقابل «الحقّ» وهو شامل لكل ما ليس بحقّ وكلّ ما لا هدف له ولا أساس.

[201]

وفي آيات أُخرى من القرآن الكريم أكّد هذا المعنى بعبارات شبيهة بالعبارة المذكورة في الآية الحاضرة، فعندما يشنع على اليهود ويذكر أعمالهم القبيحة يقول: (وأكلهم أموال الناس بالباطل)(1) ويقول في الآية (188) من سورة البقرة (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) كمقدمة للنهي عن جر الناس إِلى المحاكم وأكل أموالهم بحجج واهية غير منطقية.

وعلى هذا الأساس يندرج تحت هذا العنوان الكلي كل لون من ألوان العدوان، والغش، وجميع المعاملات الرّبوية، والمعاملات المجهولة الخصوصيات تماماً، وتعاطي البضائع التي لا فائدة فيها بحكم العقلاء، والتجارة بأدوات اللهو والفساد والمعصية وما شاكل ذلك.

وتفسير بعض الروايات كلمة «الباطل» بالقمار والرّبا وما شابه ذلك إِنّما هو في الحقيقة من باب ذكر المصاديق الواضحة لهذا المفهوم، وليس من باب الحصر والقصر.

ولعلّنا لا نحتاج إِلى التذكير بأنّ التعبير بـ «الأكل» كناية عن كل تصرف، سواء تمّ بصورة الأكل المتعارف أو اللبس، أو السكنى أو غير ذلك، تعبير رائج في اللغة العربية وغير العربية، غير غريب على الإِستعمال.

ثمّ إِنّ الله سبحانه يقول معقباً على العبارات السابقة: (إِلاّ أن تكون تجارة عن تراض).

وهذه العبارة استثناء من القانون الكلي، وهو بحسب الإِصطلاح «استثناء منقطع»(2) وهو يعني إِن ما جاء في هذا العبارة لم يكن مشمولا للحكم السابق من الأساس، بل قد ذكر تأكيداً وتذكيراً، فهو في حدّ ذاته قانون كلي، وضابطة عامّة

____________________________

1 ـ النساء، 161.

2 ـ الإِستثناء المنقطع يأتي ـ غالباً ـ لتأكيد عمومية الحكم العام، وهو أمر صادق في المقام، هذا مضافاً إِلى أنه يكشف عن هذه الحقيقة، وهي أن تحريم التصرفات الباطلة لا يقفل عليكم أبواب الرزق والحياة، بل في إمكانكم أن تحققوا أهدافكم عن طريق التجارة المشروعة والكسب المباح شرعاً.

[202]

برأسها، لأنّه يقول: إِلاّ أن يكون التصرف في أموال الآخرين بسبب التجارة الحاصلة في ما بينكم، والتي تكون عن رضا الطرفين.

فبناء على هذا تكون جميع أنواع المعاملات المالية والتبادل التجاري الرائج بين الناس ـ في ما إذا تمّ برضا الطرفين وكان له وجه معقول ـ أمراً جائزاً من وجهة نظر الإِسلام (إِلاّ الموارد التي ورد فيها نهي صريح لمصالح خاصّة).

ثمّ أنّه تعالى ينهى في ذيل هذه الآية عن قتل الإِنسان لنفسه إِذ يقول: (ولا تقتلوا أنفسكم) وظاهر هذه الجملة بقرينة قوله: (إِنّ الله كان بكم رحيماً) النهي عن الإِنتحار، يعني أنّ الله الرحيم كما لا يرضى بأن تقتلوا أحداً، كذلك لا يسمح لكم ولا يرضى بأن تقتلوا أنفسكم بأيديكم، وقد فسّرت الآية الحاضرة في روايات أهل البيت(عليهم السلام) بالانتحار أيضاً(1).

وهنا يطرح سؤال وهو: أي ارتباط بين مسألة قتل الإِنسان لنفسه، و«التصرف الباطل في أموال الناس»؟

إنّ الجواب على هذا السؤال واضح تماماً، وفي الحقيقة يشير القرآن بذكر هذين الحكمين بصورة متتالية إِلى نكتة إجتماعية مهمّة، وهي أنّ العلاقات الإِقتصادية في المجتمع إِذا لم تكن قائمة على أساس صحيح، ولم يتقدم الإِقتصاد الإِجتماعي في الطريق السليم، ووقع الظلم والتصرف العدواني في أموال الغير أصيب المجتمع بنوع من الإِنتحار، وآل الأمر إِلى تصاعد حالات الإِنتحار الفردي مضافاً إِلى الإِنتحار الجماعي الذي هو من آثار الإِنتحار الفردي ضمناً.

إِنّ الحوادث والثورات التي تقع في المجتمعات العالمية المعاصرة خير شاهد وأفضل دليل على هذه الحقيقة، وحيث أنّ الله لطيف بعباده رحيم بخلقه فقد أنذرهم وحذرهم من مغبة الأمر، وحثّهم على تجنب المبادلات الإِقتصادية

____________________________

1 ـ راجع تفسير مجمع البيان، ذيل الآية، وتفسير نور الثقلين، ج 1، ص 472.

[203]

المالية الغير الصحيحة، وأخطرهم بأن الإِقتصاد المريض يؤدي بالمجتمع إِلى السقوط والإِنهيار، والفناء والإِندحار.

كما حذر قائلا: (ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه(1) ناراً) أي أن من يعصي هذه الأحكام ويتجاهل هذا التحذير، ويأكل أموال الآخرين بالباطل ودون استحقاق، أو ينتحر بيديه لم يصبه العذاب الإليم في الدنيا فحسب، بل ستصيبه نار الغضب الإِلهي، وهذا أمر هين على الله: (وكان ذلك على الله يسيراً).

* * *

____________________________

1 ـ «الصلي» يعني في الأصل الإِقتراب إِلى النار، ويطلق على التدفؤ والإِحتراق والإِكتواء بالنار أيضاً، وقد استعملت في الآية الحاضرة في معنى الإِحتراق بالنار إحتراقاً.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336021

  • التاريخ : 28/03/2024 - 19:40

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net