00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النساء من آية 31 ـ 43 من ( ص 204 ـ 250 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[204]

الآية

إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيماً(31)

التّفسير

المعاصي الكبيرة والصّغيرة:

هذه الآية تقول بصراحة: (إِن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم وندخلكم مُدخلا كريماً).

ومن هذا التعبير يستفاد أنّ المعاصي والذنوب على قسمين:

القسم الأوّل: هو ما يسمّيه القرآن الكريم بالمعصية الكبيرة.

والقسم الثّاني وهو ما يسمّيه القرآن الكريم بالسّيئة.

وقد عبّر في الآية (32) من سورة النجم «باللمم»(1) بدلا عن السيئة، وفي الآية (49) من سورة الكهف ذلك لفظة «الصّغيرة» في مقابل الكبيرة عندما يقول: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها).

ومن التعابير المذكورة يثبت ـ بوضوح ـ أنّ الذنوب والمعاصي على صنفين محددين، يعبر عنهما تارةً بالكبيرة والصغيرة، وتارةً أُخرى بالكبيرة والسيئة،

____________________________

1 ـ «اللمم» (على وزن القسم) تعني الأعمال الصغيرة غير الهامة.

[205]

وثالثة بالكبيرة و«اللمم».

والآن يجب أن نعرف ما هو الملاك والضابطة في تحديد الصّغيرة والكبيرة.

يذهب البعض إِلى أنّ هذين الوصفين من الأُمور النسبية، تكون كل معصية بالنسبة إِلى ما هو أكبر منها صغيرة، وبالنسبة إِلى ما هو أصغر منها كبيرة(1).

ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية الحاضرة، لأنّ الآية الحاضرة تقسم الذنوب إِلى صنفين مستقلين، وتعتبرهما نوعين متقابلين، وتعتبر الإِجتناب عن صنف موجباً للعفو والتكفير عن الصنف الآخر.

ولكننا إِذا راجعنا المعنى اللغوي للكبيرة وجدنا أنّ الكبيرة هي كل معصية بالغة الأهميّة من وجهة نظر الإِسلام، ويمكن أن تكون علامة تلك الأهمية أن القرآن لم يكتف بالنهي عنها فقط، بل أردف ذلك بالتهديد بعذاب جهنم، مثل قتل النفس والزنا وأكل الربا وأمثال ذلك، ولهذا جاء في روايات أهل البيت(عليهم السلام): «الكبائر التي أوجب الله عز وجل عليها النار»، وقد روي مضمون هذا الحديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) والإِمام الصادق(عليه السلام)، والإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)(2).

وعلى هذا الأساس تسهل معرفة المعاصي الكبيرة إِذا أخذنا بنظر الإِعتبار الضابطة المذكورة، وما قد ذكر في بعض الروايات من أنّ عدد الكبائر سبع وفي بعضها عشرون وفي بعضها سبعون لا ينافي ما ذكرناه قبل قليل، إِذ أن ّبعض هذه الروايات يشير ـ في الحقيقة ـ إِلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الأُولى، وبعضها الآخر يشير إِلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الثّانية، وبعضها الثالث يشير إِلى جميع الذّنوب الكبيرة.

____________________________

1 ـ وقد نسب العلاّمة الطبرسي(رحمه الله) في مجمع البيان هذا الإِعتقاد إلى علماء الشيعة في حين أنّ الأمر ليس كذلك، فلكثير من علماء الشيعة رأي آخر سنأتي على ذكره بالتفصيل.

2 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 473.

[206]

إشكال:

يمكن أن يقال أنّ هذه الآية تشجع الناس على ارتكاب المعاصي والذنوب الصغيرة إذاً، كأنّها تقول: لا بأس بارتكاب المعاصي الصغيرة شريطة ترك الكبائر من الذنوب.

الجواب:

إِنّ الجواب على هذا الإِشكال يتّضح من التعبير المذكور في الآية الحاضرة، إِذ يقول القرآن الكريم: (نكفّر عنكم سيئاتكم) يعني إنّ الإِجتناب عن الذنوب الكبار، خصوصاً مع توفر أرضية ارتكابها، يوجد حالة من التقوى الروحية لدى الإِنسان يمكنها أن تطهره من آثار الذنوب والمعاصي الصغيرة.

وفي الحقيقة أنّ الآية الحاضرة تشبه الآية (114) من سورة هود التي تقول: (إِنّ الحسنات يذهبن السيئات) فهي إِشارة إِلى أحد الآثار الواقعية للأعمال الصالحة وهو يشبه ما إِذا قلن:، إِذا اجتنب الإِنسان المواد السّامة الخطيرة وتوفرت له صحة جيدة ومناعة قوية أمكنه أن يتخلص من الآثار السيئة لبعض الأطعمة غير المناسبة لسلامة مزاجه، وبسبب مناعته الجسمية.

وبتعبير آخر إنّ التكفير عن الذنوب الصغيرة وغفرانها يعد نوعاً من «الأجر المعنوي» لتاركي المعاصي والذنوب الكبيرة، ولهذا ـ في الحقيقة ـ أثر تشجيعي قوي على ترك الكبائر، محفز على إجتنابها.

متى تنقلب الصّغيرة إِلى كبيرة؟:

إِلاّ أنّ هاهنا نقطة مهمّة لابدّ من الإِلتفات إِليها، وهي أنّ المعاصي الصغيرة تبقى صغيرة ما لم تتكرر، هذا مضافاً إِلى كونها لا تصدر عن استكبار أو غرور وطغيان، لأنّ الصغائر ـ كما يستفاد من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة ـ تتبدل إِلى الكبيرة في عدّة موارد هي:

1 ـ إِذا «تكررت الصغيرة»، قال الإِمام الصّادق(عليه السلام): «لا صغيرة مع الإِصرار».

[207]

2 ـ إِذا استصغر صاحب المعصية معصيته واستحقرها، فقد جاء في نهج البلاغة: «أشدّ الذّنوب ما استهان به صاحبه».

3 ـ إِذا ارتكبها مرتكبها عن عناد واستكبار وطغيان وتمرد على أوامر الله تعالى، وهذا هو ما يستفاد من آيات قرآنية متنوعة إِجمالا، من ذلك قوله تعالى: (فأمّا من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإِن الجحيم هي المأوى)(1).

4 ـ إِن صدرت المعصية ممن لهم مكانة إِجتماعية خاصّة بين الناس وممن لا تحسب معصيتهم كمعصية الآخرين، فقد جاء في القرآن الكريم حول نساء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة الإحزاب الآية (30): (يا نساء النّبي من يأتِ منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذلب ضعفين)، وقد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (من سن سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً).

5 ـ أن يفرح مرتكب المعصية بما إقترفه من المعصية، ويفتخر بذلك كما روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من أذنب ذنباً وهو ضاحك دخل النّار وهو باك».

6 ـ أن يعتبر تأخير العذاب العاجل عنه على المعصية دليلا على رضاه تعالى، ويرى العبد نفسه محصناً من العقوبة آمناً من العذاب، أو يرى لنفسه مكانة عند الله لا يعاقبه الله على معصية لأجلها، كما جاء في سورة المجادلة الآية (8) حاكياً عن لسان بعض العصاة المغرورين الذين يقولون في أنفسهم: (لولا يعذبنا الله بما نقول)، ثمّ يرد عليهم القرآن الكريم قائلا: (حسبهم جهنّم)(2).

* * *

____________________________

1 ـ النازعات، 37 ـ 39.

2 ـ المحجة البيضاء، ج 7، ص 61.

[208]

الآية

وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيماً(32)

سبب النّزول

قال المفسّر الشّهير الطّبرسي(رحمه الله) في «مجمع البيان»: قيل أن أُم سلمة (وهي من أزواج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)) قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإِنّما لنا نصف الميراث؟ فليتنا رجال ونغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال، فنزلت الآية تجيب على جميع هذه التساؤلات.

ونقرأ في تفسير المنار: إِنّ جماعة من الرجال المسلمين قالوا: نرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهنّ في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت جماعة من النساء المسلمات: إِنا نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فنزلت الآية.

وقد ذكر سبب النّزول هذا بعينه في تفسير «في ظلال القرآن» وتفسير «روح المعاني» مع فارق بسيط.

[209]

التّفسير

لقد أوجب التفاوت في سهم الرجال والنساء من الإِرث ـ كما قرأت في سبب النزول ـ تساؤلا لدى البعض، ويبدو أنّهم لم يلتفتوا إِلى أنّ هذا التفاوت إِنّما هو لأجل أن النفقة بكاملها على الرجل، وليس على النساء شيء من نفقات العائلة، بل نفقة المرأة هي الاُخرى مفروضة على الرجل، ولهذا يكون ما تصيبه المرأة ضعف ما يصيبه الرجل من الثروة، ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض)، لأنّ لكل نوع من أنواع هذا التفضيل والتفاوت أسرار خفيّة عنكم غير ظاهرة لكم، سواء كان التفاوت من جهة الخلقة والجنسية وبقية الصفات الجسمية والروحية التي تشكل أساس النظام الإِجتماعي فيكم، أو التفاوت من الناحية الحقوقية بسبب اختلاف الموقع والمكانة كالتفاوت في سهم الإِرث، إِنّ جميع أنواع هذا التفاوت قائم على أساس العدل والقانون الإِلهي الحكيم، ولو كانت مصلحتكم في غير ذلك لسنّه وبيّنه لكم.

وعلى هذا فإِن تمنّى تغيير هذا الوضع نوع من المخالفة للمشيئة الرّبانية التي هي عين الحق والعدالة.

على أنّه يجب أن لا نتصور خطأً أنّ الآية الحاضرة تشير إِلى التفاوت المصطنع الذي برز نتيجة الإِستعمار والإِستغلال الطبقي، بل تشير إِلى الفروق الطبيعية الواقعية، لأنّ الفروق المصطنعة لا هي من المشيئة الإِلهية في شيء، ولا أن تمني تغييرها مرفوض وغير صحيح، بل هي فروق ظالمة وغير منطقية يجب السعي في رفعها وإزالتها وتفنيدها، فللمثال: لا يمكن للنساء أن يتمنين أن يكُنّ رجالا، كما لا يمكن للرجال أن يتمنوا أن يكونوا نساء، لأنّ وجود هذين الجنسين أمر ضروري للنظام الإِجتماعي الإِنساني، ولكن هذا التفاوت الجنسي يجب أن لا يتّخذ ذريعة، لأن يسحق أحد الجنسين حقوق الجنس الآخر، ومن هنا فإنّ الذين اتّخذوا هذة الآية ذريعة لإِثبات التمييز الإِجتماعي الظالم أو

[210]

يتصوروها حجّة على هذا التمييز قد أخطاوا خطأً كبيراً.

ولذا عقب الله سبحانه على الجملة السابقة فوراً بقوله: (للرّجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب ممّا اكتسبن) أي لكلّ من الرجال والنساء نصيب من سعيه وجهده ومكانته سواء كانت مكانة طبيعية (كالتفاوت والفرق بين جنسي الرجل والمرأة) أو غير طبيعية ناشئة عن التفاوت بسبب الجهود الإِختيارية.

إنّ الجدير بالإِلتفات هنا هو: إنّ لكلمة «الإكتساب» التي هي بمعنى التحصيل مفهوماً واسعاً يشمل الجهود الإِختيارية، كما يشمل ما يحصل عليه الإِنسان بواسطة بنيانه الطبيعي.

ثمّ يقول: (واسألوا الله من فضله) أي بدل أن تتمنوا هذا التفضيل والتفاوت اطلبوا من فضل الله واسألوا من لطفه وكرمه أن يتفضل عليكم من نعمه المتنوعة وتوفيقاته ومثوباته الطيبة، لتكونوا ـ بنتيجة ذلك ـ سعداء رجالا ونساء، ومن أي عنصر كنتم، وعلى كل حال اطلبوا واسألوا ما هو خيركم وسعادتكم واقعاً، ولا تتمنوا ما هو خيال أو ما تتخيلونه (ولعلّ التعبير بلفظة «من فضله» إِشارة إِلى المعنى الأخير).

على أنّه من الواضح جدّاً أن طلب الفضل والعناية الرّبانية ليس بمعنى أن لا يسعى الإِنسان في الأخذ بأسباب كلّ شيء وعوامله، بل لابدّ من البحث عن فضل اللّه ورحمته من خلال الأسباب التي قرّرها وأرساها في الكون.

(إِنّ الله كان بكل شيء عليماً) أي يعلم ما يحتاج إِليه نظام المجتمع وما يلزمه من الفروق سواء من الناحية الطبيعية أو الحقوقية، ولهذا لا وجود للظلم والحيف ولا لأي شيء من التفاوت الظالم والتمييز غير العادل في أفعاله، كما أنّه تعالى خبير بما في بواطن الناس من الأسرار والخفايا والنوايا ويعلم من الذي يتمنى الأماني الخاطئة في قلبه، ومن يتمنى الأماني الإِيجابية الصحيحة البناءة.

[211]

التفاوت الطبيعي بين النّاس لماذا؟:

إِنّ ثمّة كثيرين يطرحون على أنفسهم السّؤال التالي: لماذا خلق البعض بمواهب وقابليات أكثر، وآخرون بمواهب وقابليات أقل، والبعض متحلين بالجمال، وآخرون خُلوٌ منه، أو بجمال قليل، والبعض بامتيازات جسمية عالية وقوية متفوقة، وآخرون عاديين، هل يتلاءم هذا التفاوت مع العدل الإِلهي؟؟.

في الإِجابة على هذه التساؤلات لابدّ من الإِلتفات إِلى النقاط التالية:

1 ـ إِنّ بعض الفروق الجسمية والروحية بين الناس ناشئة عن الإِختلافات الطبقية والمظالم الإِجتماعية، أو التفريط الفردي الذي لا علاقة له بنظام الخلق وجهاز الإِيجاد أبداً، فمثلا كثير من أبناء الأغنياء أقوى من أبناء الفقراء وأكثر جمالا وتقدماً من ناحية المواهب والقابليات بسبب أن الفريق الأوّل (أولاد الأغنياء) يحظى بإمكانيات أكبر من حيث الغذاء والجوانب الصحية، في حين يعاني الفريق الثاني من حرمان ونقصان من هذه الجهة. أو أن هناك من يخسر الكثير من طاقاته الجسمية والروحية بسبب التواني، والبطالة، والتفريط والتقصير.

إِنّنا يجب أن نعتبر هذه الفروق وهذا التفاوت تفاوتاً ومصطنعاً ومزيفاً، وغير مبرر، ويتحقق القضاء عليها من خلال القضاء على النظام الطبقي، وتعميم العدالة الإِجتماعية في الحياة البشرية، والقرآن الكريم والإِسلام لا يقرّ أي شيء من هذه الفروق، وأي لون من ألوان هذا التفاوت والتمييز أبداً.

2 ـ إِنّ القسم الآخر من الفروق وألوان التفاوت أمر طبيعي، وشيء لازم من لوازم الجبلة البشرية، بل وضرورة من ضرورات الحياة الإِنسانية، يعني أنّ مجتمعاً من المجتمعات حتى إِذا كان يحظى بالعدالة الإِجتماعية الكاملة لا يمكن أن يكون جميع أفراده متساوين وعلى نمط واحد وصورة واحدة مثل منتجات معمل. بل لابدّ أن يكون هناك بعض التفاوت، ولكن يجب أن نعلم أنّ المواهب

[212]

الإِلهية والقابليات الجسمية والروحية قد قسمت ـ في الأغلب ـ تقسيماً يصيب فيه كل واحد قسطاً من تلك المواهب والقابليات. لا أن يحظى بعض بجميع المواهب، ويحرم آخرون من أي شيء منها، وبمعنى أنّه قل أن يوجد هناك من تجتمع فيه كل المواهب جملة واحدة، بل هناك من يحظى بالمقدرة البدنية الكافية، وآخر يحظى بموهبة رياضية جيدة، ومن يحظى بذوق شعري رفيع، وآخر يحظى برغبة كبيرة في التجارة، ومن يتمتع بذكاء وافر في مجال الزراعة، وآخر بمواهب وقابليات خاصّة أُخرى.

المهم أن يكتشف المجتمع أو الأفراد أنفسهم تلك المواهب والقابليات، وأن يقوموا بتربيتها وتنميته في بيئة سليمة، حتى يتمكن كل إنسان إظهار ما ينطوي عليه من نقطة ضعف ويستفيد منها.

3 ـ يجب أن نذكر القارىء أيضاً بأنّ المجتمع مثل الجسد الإِنساني بحاجة إِلى الأنسجة والعضلات والخلايا المختلفة، يعني كما أنّ البدن لو تألف جميعه من خلايا دقيقة ورقيقة مثل خلايا العين والمخ لم يدم طويلا، ولو تألف جميعه من خلايا غليظة وخشنة لا تعرف انعطافاً مثل خلايا العظام، فقدت القدرة الكافية على القيام بوظائفها، بل لابدّ أن تكون الخلايا المكونة للجسم متنوعة، ليصلح بعضها للقيام بوظيفة التفكير، وبعضها للمشاهدة والنظر، وآخر على الإِستماع ورابع على التحدث، هكذا لابدّ لوجود «المجتمع الكامل» من وجود عناصر ذات مواهب وقابليات وأذواق، وتراكيب مختلفة متنوعة، بدنية وفكرية، لكن لا يعني هذا أن يعاني بعض أعضاء الجسد الإِجتماعي من حرمان، أو تستصغر خدماته أو يستحقر دوره، تماماً كما تستفيد كل خلايا البدن الواحد رغم ما بينها من تفاوت وفروق من الغذاء والهواء وغيرها من الحاجات بالمقدار اللازم لكل واحد.

وبعبارة أُخرى: إِنّ الفروق وأشكال التفاوت في البنية الروحية والجسمية

[213]

في الجوانب الطبيعة (التي لا هي ظالمة ولا هي مفروضة) إنّما هي في الحقيقة مقتضى «الحكمة الرّبانية»، والعدل لا يمكنه بحال أن ينفصل عن الحكمة.

فعلى سبيل المثال إِذا كانت خلايا الجسم البشري مخلوقة في شكل واحد كان ذلك بعيداً عن الحكمة كما أنّه خال عن العدل الذي يعني وضع كل شيء في محله وموضعه المناسب، وكذلك إذا تشابه الناس في يوم من الأيّام في التفكير أو تشابهوا في القابلية والموهبة لتهافت بنيان المجتمع برمته في ذلك اليوم.

إِذن فما ورد في هذه الآية في مجال التفضيل والتفاوت في جبلة الرجل والمرأة وخلقتهما إِنّما هو في الواقع إِشارة إِلى هذا الموضوع، لأنه من البديهي إِذا كان البشر جميعاً رجالا، أو كانوا جميعاً نساء لإنقرض النوع البشري عاجلا، هذا مضافاً إِلى إنتفاء قسم من ملاذ البشر المشروعة.

فإذا اعترض جماعة قائلين لماذا خلق البشر صنفين رجالا ونساء، وزعموا بأنّ هذا الأمر لا يتلاءم مع العدالة الإِلهية. لم يكن هذا الإِعتراض منطقياً، لأنهم لم يلتفتوا إِلى حكمة هذا التفاوت، ولم يتدبروا فيها.

* * *

[214]

الآية

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَلِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَلِدَانِ وَالاَْقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـنُكُمْ فَأَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيداً(33)

التّفسير

يعود القرآن مرّة أُخرى إِلى مسألة الإِرث إِذ يقول: (ولكلّ جعلنا موالي(1)ممّا ترك الوالدان والأقربون) أي لكل رجل أو امرأة جعلنا ورثة يرثون ممّا ترك الوالدان والأقربون الذي يجب أن يقسّم بينهم طبق برنامج خاص.

إنّ هذه العبارة هي ـ في الحقيقة ـ خلاصة أحكام الإرث التي مرّ ذكرها في الآيات السابقة في مجال الأقرباء، وهي مقدمة لحكم سيأتي بيانه في ما بعد.

ثمّ إنّ الله تعالى يضيف قائلا: (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) أي ادفعوا إِلى الذين عقدتم معهم عقداً نصيبهم من الإِرث.

والتعبير عن الميثاق بعقد اليمين (وهو العقد باليد اليمنى) لأجل أنّ الإِنسان

____________________________

1 ـ «الموالي» جمع مولى، وهي في الأصل من مادة الولاية بمعنى الإِتصال والإِرتباط، وتطلق على جميع الأفراد الذين يرتبط بعضهم ببعض بنوع من الإِرتباط، غاية ما هناك أنّها تكون في بعض الموارد بمعنى إرتباط الولي، مع أتباعه، وأمّا في الآية الحاضرة فتكون بمعنى الورثة.

[215]

غالباً ما يستفيد من يده اليمنى للقيام بأعماله، كما أنّ الميثاق يشبه نوعاً من العقد (في مقابل الحل).

والآن لننظر من هم الذين عقد معهم الميثاق، الذين لابدّ أن يعطوا نصيبهم من الإِرث؟

يحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد هو الزوج والزوجة لأنّهما عقدا في ما بينهما رابطة الزوجية.

ولكن هذا الإِحتمال يبدو مستبعداً، لأنّ التعبير عن الزواج بعقد اليمين ونظيره في القرآن الكريم قليل جداً، هذا مضافاً إِلى أنّه يعد تكراراً للمواضيع السابقة.

إنّ ما هو أقرب إِلى مفهوم الآية هو عقد «ضمان الجريرة» الذي كان رائجاً قبل الإِسلام، وقد عدله الإِسلام بعد أن أقرّه لما فيه من ناحية إِيجابية وهو: «أن يتعاقد شخصان فيما بينهما على أن يتعاونا فيما بينهما بشكل أخوي أن يعين أحدهما الآخر عند المشكلات، وإِذا مات أحدهما قبل الآخر ورثه الباقي» ولقد أقر الإِسلام هذا النوع من التعاقد الأخوي الودي، ولكنّه أكد على أنّ التوارث بسبب هذا الميثاق إنّما يمكن إِذا لم يكن هناك ورثة من طبقات الأقرباء، يعني إِذا لم يبق أحد من الأقرباء ورث ضامن الجريرة الذي وقع بينه وبين الآخر مثل هذا العقد (لمعرفة التفاصيل أكثر راجع بحث الإِرث في الكتب الفقهية)(1).

ثمّ ختم سبحانه الآية بقوله: (إنّ الله كان على كل شيء شهيداً) أي إِذا قصرتم في إعطاء نصيب الورثة ولم تعطوهم حقوقهم كاملة، علم الله بذلك ولم يخف عليه ما فعلتم، لأنّه على كل شيء شهيد وبكل شيء عليم.

* * *

____________________________

1 ـ صورة عقد ضمان الجريرة هكذا «عاقدتك على أن تنصرني وأنصرك وتعقل عني وأعقل عنك وترثني وأرثك» فيقول الآخر: «قبلت».

[216]

الآية

الرِّجَالُ قَوَّمُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَلِهِمْ فَالصَّـلِحَـتُ قَـنِتَـتٌ حَـفِظَـتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَالَّـتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيّاً كَبِيراً(34)

التّفسير

القوامة في النّظام العائلي:

قال الله تعالى في مطلع هذه الآية (الرّجال قوّامون على النّساء) ولابدّ لتوضيح هذه العبارة من الإِلتفات إِلى أنّ العائلة وحدة إجتماعية صغيرة، وهي كالإِجتماع الكبير لابدّ لها من قائد وقائم بأمورها، لأن القيادة والقوامة الجماعية التي يشترك فيها الرجل والمرأة معاً، لا معنى لها ولا مفهوم، فلابدّ أن يستقل الرجل أو المرأة بالقوامة، ويكون «رئيساً» للعائلة، بينما يكون الآخر بمثابة «المعاون» له الذي يعمل تحت إِشراف الرئيس.

إِنّ القرآن يصرّح ـ هنا ـ بأنّ مقام القوامة والقيادة للعائلة لابدّ أن يعطي للرجل (ويجب أن لا يساء فهم هذا الكلام، فليس المقصود من هذا التعبير هو

[217]

الإِستبداد والإِجحاف والعدوان، بل المقصود هو أن تكون القيادة واحدة ومنظمة تتحمل مسؤولياتها مع أخذ مبدأ الشورى والتشاور بنظر الإِعتبار).

إنّ هذه المسألة تبدو واضحة في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى، وهي أن أية هيئة حتى المؤلفة من شخصين مكلفة بالقيام بأمر لابدّ أن يتولى أحدهما زعامة تلك الهيئة فيكون رئيسها، بينما يقوم الآخر بمساعدته فيكون بمثابة (المعاون أو العضو)، وإلاّ سادت الفوضى أعمال تلك الهيئة واختلت نشاطاتها وأخفقت في تحقيق أهدافها المنشودة، وهكذا الحال بالنسبة إِلى العائلة، فلابدّ من إسناد إدارة العائلة إِلى الرجل.

وإِنّما تعطى هذه المكانة للرجل لكونه يتمتع بخصوصيات معينة مثل القدرة على ترجيح جانب العقل على جانب العاطفة والمشاعر، (على العكس من المرأة التي تتمتع بطاقة فياضة وطاغية من الأحاسيس والعواطف) ومثل امتلاك بنية داخلية وقوة بدنية أكبر ليستطيع بالأُولى أن يفكر ويخطط جيداً، ويستطيع بالثانية أن يدافع عن العائلة ويذّب عنها.

هذا مضافاً إِلى أنّه يستحق ـ لقاء ما يتحمله من الإِنفاق على الأولاد والزوجة، ولقاء ما تعهده من القيام بكل التكاليف اللازمة من مهر ونفقة وإِدارة مادية لائقة للعائلة ـ أن تناط إِليه وظيفة القوامة والرئاسة في النظام العائلي.

نعم يمكن أن يكون هناك بعض النسوة ممن يتفوقن على أزواجهنّ في بعض الجهات، إِلاّ أن القوانين ـ كما أسلفنا مراراً ـ تسن بملاحظة النوع ومراعاة الأغلبية لا بملاحظة الأفراد، فرداً فرداً، ولا شك أنّ الحالة الغالبة في الرجال أنّهم يتفوقون على النساء في القابلية على القيام بهذه المهمّة، وإِن كانت النسوة يمكنهنّ أن يتعهدن القيام بوظائف أُخرى لا يشك في أهميتها.

إنّ جملة (بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) إِشارة

[218]

أيضاً إِلى هذه الحقيقة، لأنّ القسم الأوّل من هذه الفقرة يقول: إن هذه القوامة إنّما هولأجل التفاوت الذي أوجده الله بين أفراد البشر من ناحية الخلق لمصلحة تقتضيها حياة النوع البشري، بينما يقول في القسم الثاني منها: وأيضاً لأجل أن الرجال كلفوا بالقيام بتعهدات مالية تجاه الزوجات والأولاد في مجال الإِنفاق والبذل.

ولكن غير خفي أن إِناطة مثل هذه الوظيفة والمكانة إِلى الرجل لا تدل على أفضلية شخصية الرّجل من الناحية البشرية، ولا يبرر تميزه في العالم الآخر (أي يوم القيامة) لأنّ التميز والأفضيلة في عالم الآخرة يدور مدار التقوى فقط، كما أنّ شخصية المعاونة الإِنسانية قد تترجح في بعض الجهات المختلفة على شخصية الرئيس، ولكن الرئيس يتفوق على معاونه في الإِرادة التي أنيطت إليه، فيكون أليق من المعاون في هذا المجال.

ثمّ إنّه سبحانه يضيف قائلا: (فالصّالحات قانتات حافظات للغيب)، وهذا يعني أن النساء بالنسبة إِلى الوظائف المناطة إِليهنّ في مجال العائلة على صنفين:

الطّائفة الأُولى: وهنّ «الصالحات» أي غير المنحرفات «القانتات» أي الخاضعات تجاه الوظائف العائلية «الحافظات للغيب» اللاتي يحفظن حقوق الأزواج وشؤونهم لا في حضورهم فحسب، بل يحفظنهم في غيبتهم، يعني أنهنّ لا يرتكبن أية خيانة سواء في مجال المال، أو في المجال الجنسي، أو في مجال حفظ مكانة الزوج وشأنه الإِجتماعي، وأسرار العائلة في غيبته، ويقمن بمسؤولياتهنّ تجاه الحقوق التي فرضها الله عليهنّ والتي عبّر عنها في الآية بقوله: (بما حفظ الله) خير قيام.

ومن الطبيعي أن يكون الرجال مكلفين باحترام أمثال هذه النسوة، وحفظ حقوقهنّ، وعدم إِضاعتها.

[219]

النّساء المقصرات النّاشزات

الطّائفة الثّانية: هنّ النسوة اللاتي يتخلفن عن القيام بوظائفهنّ وواجباتهنّ، وتبدو عليهنّ علائم النشوز واماراته فإِن على الرجال تجاه هذه الطائفة من النساء واجبات لابدّ من القيام بها مرحلة فمرحلة، وعلى كل حال يجب أن يراعوا جانب العدل ولا يخرجوا عن حدوده وإِطار، وهذه الوظائف هي بالترتيب:

1 ـ المواعظة

إِنّ المرحلة الأُولى التي على الرجال أن يسلكوها تجاه النساء اللاتي تبدو عليهنّ علائم التمرد والنشوز والعداوة، تتمثل في وعظهن كما قال سبحانه في الآية الحاضرة: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن)(1). وعلى هذا فإِن النساء اللاتي يتجاوزن حدود النظام العائلي وحريمه لابدّ قبل أي شيء أن يذكرن ـ من خلال الوعظ والإِرشاد ـ بمسؤولياتهنّ وواجباتهنّ ونتائج العصيان والنشوز.

2 ـ الهجر في المضاجع

وتأتي هذه المرحلة إِذا لم ينفع الوعظ ولم تنجع النصيحة (واهجروهنّ في المضاجع)، وبهذا الموقف والهجر وعدم المبالاة بالزوجة أظهروا عدم الرضا من الزوجة، لعل هذا الموقف الخفيف يؤثر في أنفسهنّ.

3 ـ الضرب:

وأمّا إِذا تجاوزن في عصيانهنّ، والتمرد على واجباتهنّ ومسؤولياتهنّ الحدّ، ومضين في طريق العناد واللجاج دون أن يرتدعن بالأساليب السابقة، فلا النصيحة تفيد، ولا العظة تنفع، ولا الهجر ينجح، ولم يبق من سبيل إلاّ استخدام العنف، فحينئذ يأتي دور الضرب (فاضربوهنّ) لدفعهنّ إِلى القيام بواجباتهنّ الزوجية لانحصار الوسيلة في هذه الحالة في استخدام شيء من العنف، ولهذا

____________________________

1 ـ «النشوز» من نشز (على وزن نذر) يعني الأرض المرتفعة، ويكنى به هنا عن الطغيان والترفع.

[220]

سمح الإِسلام في مثل هذه الصورة بالضغط عليهنّ ودفعهنّ إِلى القيام بواجباتهنّ من خلال التنبيه الجسدي.

اشكال:

يمكن أن يعترض معترض في هذا المقام قائلا: كيف سمح الإِسلام للرجال بأن يتوسلوا بأسلوب التنبيه الجسدي المتمثل بالضرب؟

الجواب:

إِنّ الجواب على هذا الإِعتراض يبدو غير صعب بملاحظة معنى الآية والروايات الواردة لبيان مفادها وما جاء في توضيحها في الكتب الفقهية، وأيضاً بملاحظة ما يعطيه علماء النفس اليوم من توضيحات علمية في هذا المجال، ونلخص بعض هذه الأمور في نقاط:

أوّلا: إِنّ الآية تسمح بممارسة التنبيه الجسدي في حق من لا يحترم وظائفة وواجباته، الذي لا تنفع معه أية وسيلة أُخرى، ومن حسن الصدف أن هذا الأسلوب ليس بأمر جديد خاص بالإِسلام في حياة البشر، فجميع القوانين العالمية تتوسل بالأساليب العنيفة في حق من لا تنجح معه الوسائل والطرق السلمية لدفعه إِلى تحمل مسؤولياته والقيام بواجباته، فإِن هذه القوانين ربّما لا تقتصر على وسيلة الضرب، بل تتجاوز ذلك ـ في بعض الموارد الخاصّة ـ إِلى ممارسة عقوبات أشد تبلغ حدّ الإِعدام والقتل.

ثانياً: إنّ التّنبيه الجسدي المسموح به هنايجب أن يكون خفيفاً، وأن يكون الضرب ضرباً غير مبرح، أي لا يبلغ الكسر والجرح، بل ولا الضرب البالغ حد السواد كما هو مقرر في الكتب الفقهية.

ثالثاً: إِنّ علماء التحليل النفسي ـ اليوم ـ يرون أن بعض النساء يعانين من حالة نفسية هي «المازوخية» التي تقتضي أن ترتاح المرأة لضربها وأن هذه الحالة قد تشتد في المرأة إِلى درجة تحس باللّذة والسكون والرضا إِذا ضربت

[221]

ضرباً طفيفاً.

وعلى هذا يمكن أن تكون هذه الوسيلة ناظرة إِلى مثل هؤلاء الأفراد الذين يكون التنبيه الجسدي الخفيف بمثابة علاج نفسي لهم.

ومن المسلم أنّ أحد هذه الأساليب لو أثر في المرأة الناشزة ودفعها إِلى الطاعة، وعادت المرأة إِلى القيام بوظائفها الزوجية لم يحق للرجل أن يتعلل على المرأة، ويعمد إِلى إِيذائها، ومضايقتها حتى تعود إِلى جادة الصواب واستقامت في سلوكها ولهذا عقب سبحانه على ذكر المراحل السابقة بقوله: (فإِن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا).

ولو قيل: إِن مثل هذا الطغيان والعصيان والتمرد على الواجبات الزوجية والعائلية قد يقع من قبل الرجال أيضاً، فهل تشمل هذه المراحل الرجال أيضاً؟ أي أيمكن ممارسة هذه الأمور ضد الرجل كذلك، أم لا؟

نقول في الإِجابة على ذلك: نعم إِنّ الرجال العصاة يعاقبون حتى بالعقوبة الجسدية أيضاً ـ كما تعاقب النساء العاصيات الناشزات ـ غاية ما هنالك أن هذه العقوبات حيث لا تتيسر للنساء، فإن الحاكم الشرعي مكلف بأن يذكر الرجال المتخلفين بواجباتهم وظائفهم بالطرق المختلفة وحتى بالتعزير (الذي هو نوع من العقوبة الجسدية).

وقصّة الرجل الذي أجحف في حق زوجته ورفض الخضوع للحق، فعمد الإِمام علي(عليه السلام) إِلى تهديده بالسيف وحمله على الخضوع، معروفة.

ثمّ أنّ الله سبحانه ذكّر الرجال مرّة أُخرى في ختام الآية بأن لا يسيئوا استخدام مكانتهم كقيمين على العائلة فيجحفوا في حق أزواجهم، وأن يفكروا في قدرة الله التي هي فوق كل قدرة (إِنّ الله كان علياً كبيراً).

* * *

[222]

الآية

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَـحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً(35)

التّفسير

محكمة الصّلح العائلية:

في هذه الآية إِشارة إِلى مسألة ظهور الخلاف والنزاع بين الزوجين، فهي تقول: (وإِن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها)ليتفاوضا ويقربا من أوجه النظر لدى الزوجين، ثمّ يقول تعالى: (إن يريدا إِصلاحاً يوفق الله بينهما) أي ينبغي أن يدخل الحكمان المندوبان عن الزوجين في التفاوض بنيّة صالحة ورغبة صادقة في الإِصلاح، فإنّهما إن كانا كذلك أعانهما الله ووفق بين الزوجين بسببهما.

ومن أجل تحذير (الحكمين) وحثّهما على استخدام حسن النّية، يقول سبحانه في ختام هذه الآية: (إِنّ الله كان عليماً خبيراً).

إِنّ محكمة الصلح العائلية التي أشارت إِليها الآية الحاضرة، هي إِحدى مبتكرات الإِسلام العظيمة، فإِن هذه المحكمة تمتاز بميزات تفتقر إِليها المحاكم

[223]

الاُخرى، من جملتها.

1 ـ إِن البيئة العائلية بيئة عاطفية، ولذلك فإِن المقياس الذي يجب أن يتبع في هذه البيئة، يختلف عن المقاييس المتبعة في البيئات الاُخرى، يعني كما أنّه لا يمكن العمل في «المحاكم الجنائية» بمقياس المحبّة والعاطفة، فإِنّه لا يمكن ـ في البيئة العائلية ـ العمل بمقياس القوانين الجافة. الضوابط الصارمة الخالية عن روح العاطفة، فهنا يجب حل الخلافات العائلية بالطرق العاطفية حدّ الإِمكان، ولهذا يأمر القرآن الكريم أن يكون الحكمان في هذه المحكمة ممن تربطهم بالزوجين رابطة النسب والقرابة ليمكنهما تحريك المشاعر والعواطف باتجاه الإِصلاح بين الزوجين، ومن الطبيعي أن تكون هذه الميزة هي ميزة هذا النوع من المحاكم خاصّة دون بقية المحاكم الاُخرى.

2 ـ إِنّ المدعي والمدعى عليه في المحاكم العادية القضائية مضطرين ـ تحت طائلة الدفاع عن النفس ـ أن يكشفا عن كل ما لديهما من الأسرار، ومن المسلم أنّ الزوجين لو كشفا عن الأسرار الزوجية أمام الأجانب والغرباء لجرح كل منهما مشاعر الطرف الآخر، بحيث لو اضطر الزوجان أن يعودا ـ بحكم المحكمة ـ إِلى البيت لما عادا إِلى ما كانا عليه من الصفاء والمحبة السالفة، بل لبقيا يعيشان بقية حياتهما كشخصين غريبين مجبرين على القيام بوظائف معينة، ولقد دلّت التجربة وأثبتت أنّ الزوجين اللذين يضطران إِلى التحاكم إِلى مثل هذه المحاكم لحل ما بينهما من الخلاف لم يعودا ذينك الزوجين السابقين.

بينما لا تطرح أمثال هذه الأُمور في محاكم الصلح العائلية للإِستحياء من الحضور، أو إذا اتفق أن طرحت هذه الأُمور فإنّها تطرح في جو عائلي، وأمام الأقرباء فإنّها لن تنطوي على ذلك الأثر السيء الذي أشرنا إليه.

3 ـ إِنّ الحكمين في المحاكم العادية المتعارفة لا يشعران عادة بالمسؤولية الكاملة في قضايا الخلاف والمنازعات، ولا تهمهما كيفية انتهاء القضية المرفوعة

[224]

إِلى المحكمة، هل يعود الزوجان إِلى البيت على وفاق، أو ينفصلا مع طلاق؟

في حين أنّ الأمر في محكمة الصلح العائلية على العكس من ذلك تماماً، فإِن الحكمين في هذه المحكمة حيث يرتبطان بالزوجين برابطة القرابة، فإِن لافتراق أو صلح الزوجين أثراً كبيراً في حياة الحكمين من الناحية العاطفية، ومن ناحية المسؤوليات الناشئة عن ذلك، ولهذا فإِنّهما يسعيان ـ جهد إِمكانهما ـ أن يتحقق الصلح والسلام والوفاق والوئام بين الزوجين اللذين يمثلانهما، وأن يعيدا المياه إِلى مجاريها كما يقول المثل.

4 ـ مضافاً إِلى كلّ ذلك فإِن مثل هذا المحكمة لا تعاني من أية مشكلات، ولا تحتاج إِلى أية ميزانيات باهظة، ولا تعاني من تلك الخسارة والضياع الذي تعاني منه المحاكم العادية، فهي تستطيع أن تقوم بأهدافها وتحقق أغراضها من دون أية تشريفات وفي أقل مدّة من الزمن.

ولا يخفى أنّه يجب أن يختار الحكمان من بين الأشخاص المحنّكين المطلعين المعروفين، في عائلتي الزوجين بالفهم وحسن التدبير.

مع هذه المميزات التي عددناها يتبيّن أنّ هذه المحكمة تحظى بفرصة للإِصلاح بين الزوجين.

إِنّ مسألة الحكمين وما يشترط فيهما من الشروط، ومدى صلاحيتهما وما يحكمان به في مجال الزوجين، قد ذكر في الكتب الفقهية بالتفصيل، منها أن يكون الحكمان بالغين عاقلين عادلين بصيرين بعملهما.

وأمّا مدى نفوذ حكمهما في حق الزوجين، فقد ذهب بعض الفقهاء إِلى نفوذ كل مايصدر أنّه من حكم في هذا المجال، وظاهر التعبير به «حكم» في الآية الحاضرة يفيد هذا المعنى أيضاً، لأن مفهوم الحكمية والقضاء هو نفوذ الحكم مهما كان، ولكن أكثر الفقهاء يرون نفوذ ما يراه الحكمان في مورد التوفيق بين

[225]

الزوجين ورفع الإِختلاف والنزاع بينهما، بل يرون نفوذ ما يشترطه الحكمان على الزوجين، وأمّا حكمهما في مجال الطلاق والإِفتراق بين الزوجين فغير نافذ لوحده، وذيل الآية الذي يشير إِلى مسألة الإِصلاح أكثر ملاءمة مع هذا الرأي، وللتوسع في هذا المجال يجب مراجعة الكتب الفقهية.

* * *

[226]

الآية

وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَـناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـمَى وَالْمَسَـكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُوراً(36)

التّفسير

الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإِسلامية بما فيها الحقوق الإِلهية، وحقوق العباد، وآداب العشرة مع الناس، ويستفاد منها عشرة تعاليم:

1 ـ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً

إِنّ الآية تدعو الناس قبل أي شيء إِلى عبادة الله والخضوع له وحده، وترك الشرك والوثنية التي هي أساس كل البرامج والمناهج الإِسلامية.

إِنّ الدّعوة إِلى التوحيد وعبادة الله وحده تطهر الروح، وتخلص النية، وتقوي الإِرادة، وتشدد من عزيمة الإِنسان على الإِتيان بأي برنامج مفيد.

وحيث أنّ الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإِسلامية لذلك فقد

[227]

أشارت إِلى حقّ الله على الناس قبل أي شيء وقبل أي حقّ وقالت: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً).

2 ـ وبالوالدين إحساناً

ثمّ إنّها تشير إِلى حقّ الوالدين وتوصي بالإِحسان إِليهما ولا شك أنّ حقّ الوالدين من القضايا التي يهتمّ بها القرآن الكريم كثيراً، وقلّما حظى موضوع بمثل هذا الإِهتمام والعناية، فقد جاءت التوصية بالوالدين بعد الدعوة إِلى التوحيد في العبادة في أربعة مواضع في القرآن الكريم(1).

من هذه التعابير المتكررة يستفاد أن ثمّة ارتباطاً بين هاتين المسألتين، والقضية في الحقيقة كالتالي: حيث إن أكبر نعمة هي نعمة الوجود والحياة وهي مأخوذة من جانب الله سبحانه في الدرجة الأُولى، فيما ترتبط بالوالدين في الدرجة الثانية، لأنّ الولد جزء من وجود الوالدين، لذلك كان ترك حقوق الوالدين وتجاهلها، في مصاف الشرك بالله سبحانه.

هذا ولنا أبحاث مفصلة حول حقوق الوالدين في ذيل الآيات المناسبة في سورة الإِسراء ولقمان بإِذن الله تعالى.

3 ـ وبذي القُربى

ثمّ أنّها توصي بالإِحسان إِلى كلّ الأقرباء، وهذا الموضوع من المسائل التي يهتم بها القرآن الكريم إهتماماً بالغاً تارة تحت عنوان «صلة الرحم» وأُخرى بعنوان «الإِحسان إِلى القُربى» وقد أراد الإِسلام بهذا ـ في الحقيقة ـ أن يقوي من أواصر العلاقة الواسعة بين جميع أفراد البشر مضافاً إِلى إيجاد أواصر و علاقات أقوى وأمتن منها في الوحدات الإِجتماعية التي هي أكثر انسجاماً مثل

____________________________

1 ـ سورة البقرة، الآية 83، سورة الأنعام، الآية 151، سورة الإِسراء، الآية 23 مضافاً إِلى الآية الحاضرة.

[228]

«العشيرة» و«العائلة» ليستطيعوا التعاون في ما بينهم عند ظهور المشاكل والحوادث، والتعاون على الدفاع عن حقوقهم.

4 ـ واليتامى

ثمّ أشارت إِلى حقوق «اليتامى» وأوصت المؤمنين ببرهم والإِحسان إِليهم، لأنّه يوجد في كل مجتمع أطفال أيتام على أثر الحوادث المختلفة، لا يهدد تناسيهم وإِهمالهم وضعهم الخاص فقط، بل الوضع الإِجتماعي بصورة عامّة، لأنّ الأطفال اليتامى لو تركوا دون ولاية أو حماية ولم ينالوا حاجتهم من المحبّة واللطف يتحولون إِلى أفراد منفلتين فاسدين، بل أشخاص خطرين جُناة.

وعلى هذا يكون الإِحسان إِلى اليتامى إِحساناً إِلى الفرد وإِلى المجتمع معاً.

5 ـ والمساكين

ثمّ يذكّر سبحانه ـ في هذه الآية ـ بحقوق الفقراء والمساكين، لأنّه قد يوجد حتى في المجتمع السليم الذي يسوده العدل من يعاني من نواقص وعاهات تعوقه عن الحركة والنشاط والفعالية، ولا شك أنّ تناسي هؤلاء أمر يخالف كل الأُسس والقيم الإِنسانية، فلابدّ من تقديم العون إِليهم، ومعالجة حرمانهم.

وأمّا إِذا كان الفقر والحرمان الذي يعاني منه الأفراد الأصحاء ناشئين عن الإِنحراف عن مبادىء وأُسس العدالة الإِجتماعية فإِنّه لابدّ من مكافحتهما أيضاً.

6 ـ والجار ذي القربى

ثمّ يوصي بالجيران من ذوي القربى، وهناك احتمالات متعددة حول المراد من «الجار ذي القربى» أبداها المفسرون، فبعضهم قال: معناه الجار القريب في النسب، غير أن هذا التّفسير يبدو بعيداً بملاحظة العبارات السابقة التي أشارت

[229]

إِلى حقوق الأقرباء في هذه الآية، فلابدّ أن يكون المراد هو القرب المكاني لا القرب النسبي، لأن الجيران الأقربين مكاناً يستحقون احتراماً وحقوقاً أكثر من غيرهم، أو أن يكون المراد الجيران الأقربين إِلى الإِنسان من الناحية الدينية والإِعتقادية.

7 ـ والجار الجنب

ثمّ إنها توصي بالجيران البعيدين، والمراد ـ كما أسلفنا ـ هو البعد المكاني، لأنّ كل أربعين داراً من بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله تعتبر من الجيران، كما تصرح بعض الروايات(1)، وهذا يستوعب في المدن الصغيرة كل المدينة تقريباً (لأنّنا لو فرضنا دار كل شخص مركز دائرة يقع في امتداد شعاعها من كل صوب أربعون بيتاً لإتّضحت من خلال محاسبة بسيطة مساحة هذه الدائرة التي يكون مجموع البيوت الواقعة فيها ما يقرب من خمسة الآف بيت، ومن المسلم أن المدن الصغيرة قلّما تتشكل من أكثر من هذا العدد من المنازل والبيوت.

والجدير بالتأمل أنّ القرآن يصرّح ـ في هذه الآية ـ مضافاً إِلى ذكر الجيران القربين ـ بحقّ الجيران البعيدين، لأنّ لفظة الجار لها في العادة مفهوم محدود وضيق وتشمل الجيران القريبين فقط، ولهذا لم يكن بدّاً في نظر الإِسلام أن يذكر بالجيران البعيدين أيضاً.

كما يمكن أن يكون المراد من الجيران البعيدين الجيران غير المسلمين، لأنّ حقّ الجوار غير منحصر في نظر الإِسلام بالجيران المسلمين، فهو يعمّ المسلمين وغير المسلمين (اللّهم إِلاّ الذين يحاربون المسلمين ويعادونهم).

إنّ لحقّ الجوار في الإِسلام أهميّة بالغة إلى درجة أنّنا نقرأ في وصايا الإِمام أمير المؤمنين(عليه السلام) المعروفة: «ما زال (رسول الله) يوصي بهم حتى ظننا أنّه

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 480.

[230]

سيورثهم»(1) (وقد ورد هذا الحديث في مصادر أهل السنة أيضاً فقد روي في تفسير المنار وتفسير القرطبي من البخاري مثل هذا المضمون عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً).

وروي في حديث آخر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال ذات يوم «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، فقيل: يا رسول الله ومن؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه»(2).

كما نقرأ في حديث آخر أيضاً أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إِلى جاره»(3).

وروي عن الإِمام الصّادق جعفر بن محمّد(عليهما السلام) أنّه قال: «حسن الجوار يعمر الدّيار ويزيد في الأعمار»(4).

في عالمنا المادي حيث لا يعرف الجار عن جاره شيئاً، بل وربّما لا يتعرف على اسم صاحبه بعد عشرين سنة من الجيرة والجوار يتألّق هذا التعليم الإِسلامي في حق الجار بشكل خاص، فإِنّ الإِسلام يقيم للعلاقات العاطفية والتعاون الإِنساني وزناً خاصّاً، ويوليها اهتماماً كبيراً، في حين تؤول هذه العلاقات والعواطف في الحياة الصناعية المادية إِلى الزوال يوماً بعد يوم، وتعطي مكانها إِلى القسوة والجفاء والخشونة.

8 ـ والصّاحب بالجنب

ثمّ أوصت بالرّفيق والصّاحب، غير أنّه لابدّ من الإِنتباه إِلى أنّ لـ «الصاحب بالجنب» معنى أوسع من الرفيق والصديق المتعارف، وفي الحقيقة تشمل كل من رافق أو صاحب الإِنسان مرافقة ما سواء كان صديقاً دائمياً أو صديقاً مؤقتاً

____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج 3، ص 1754.

2 ـ تفسير المنار، ج 5، ص 192، طبعة بيروت.

3 ـ تفسير الصافي، ص 130.

4 ـ تفسير الصافي، ص 120.

[231]

(كالذي يرافق الإِنسان في السفر بعض الوقت) وتفسير لفظة «الصاحب بالجنب» في بعض الروايات بالرفيق مثل «رفيقك في السفر» أو الذي يقصد الإِنسان رجاء نفعه مثل: (المنقطع إِليك يرجو نفعك» ليس المراد هو اختصاص هذا العنوان بهم، بل هو نوع من التوسعة في مفهوم هذه اللفظة بحيث تشمل هذه الموارد أيضاً، وبهذا الطريق تكون هذه الآية أمراً كلياً وجامعاً بحسن معاشرة كل من يرتبط بالمرء، سواء كان صديقاً واقعياً، أو زميلا، أو رفيق سفر، أو مراجعاً، أو تلميذاً، أو مشاوراً، أو خادماً.

وقد فسرت لفظة الصاحب بالجنب في بعض الروايات بالزّوجة، وقد روى صاحب تفسير المنار، وتفسير روح المعاني والقرطبي في ذيل هذه الآية هذا المعنى عن علي(عليه السلام)، ولكن لا يبعد أن يكون هذا من باب بيان أحد المصاديق أيضاً.

9 ـ وابن السبيل

وأمّا الصنف الآخر الذي أوصت بهم الآية هنا فهم الذين تحدث لهم حاجة السفر وبلاد الغربة، فابن السبيل هو الذي ينقطع في السفر وإِن كان يمكن أن يكون متمكّناً ذا مال في بلده، والتعبير عن هذا الشخص بابن السبيل (أي ابن الطريق) إِنّما هو لأجل أنّنا لا نعرفهم أصلا حتى ننسبهم إِلى عائلة أو قبيلة أو شخص، بل لابدّ أن نحميهم بمجرّد أنّهم مسافرون انقطعوا في السفر، وبرزت لديهم حاجة إِلى المساعدة والعون.

10 ـ وما ملكت أيمانكم

وفي نهاية المطاف توصي هذه الآية بالإِحسان إِلى العبيد والأرقاء، وبهذا تكون الآية ـ في الحقيقة ـ قد بدأت بحق الله، وختمت بحقوق العبيد، لعدم انفصال هذه الحقوق بعضها عن بعض.

[232]

على أنّ هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي توصي بالعبيد، بل لقد بحثت هذه المسألة في آيات مختلفة أُخرى أيضاً.

هذا مضافاً إِلى أنّ الإِسلام قد نظم برنامجاً دقيقاً لتحرير العبيد تدريجاً، والذي يؤول في النتيجة إِلى تحريرهم المطلق، وسوف نتحدّث حول هذه المسألة في ذيل الآيات المناسبة إِن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية (إِنّ الله لا يحبّ من كان مختالا فخوراً) وهو بذلك يحذر كل من يتمرّد ويعصي أوامر الله، ويتقاعس عن القيام بحقوق أقربائه ووالديه واليتامى والمساكين وابن السبيل والأصدقاء والأصحاب بدافع التكبر بأنّه سيكون معرضاً لسخط الله، وسيحرم من عنايته سبحانه، ولا ريب أنّ من حرم من اللطف الإِلهي والعناية الرّبانية حرم من كل خير وسعادة.

وتؤيد هذا المعنى روايات وأخبار قد رويت في ذيل هذه الآية منها ما عن أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: كنت عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأ هذه الآية «إِن الله لا يحبّ كل مختال فخور» فذكر الكبر فعظمه، فبكى ذلك الصحابي فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما يبكيك؟ فقال يا رسول الله: إِنّي لأُحب الجمال حتى أنّه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال: «فأنت من أهل الجنّة، أنّه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحقّ وغمص الناس»(1).

والخلاصة أنّ ما يستفاد من العبارة الاخيرة أنّ مصدر الشرك وهضم حقوق الاخرين هو الانانية والتكبر غالباً، ولا يتسنى للشخص اداء تلك الحقوق، وخاصّة حقوق الايتام والمساكين والارقاء إلاّ من تحلّى بروح التواضع و نكران الذات(2).

* * *

____________________________

1 ـ غمص الناس: احتقرهم واستصغرهم ولم يرهم شيئاً. انظر لسان العرب (غمص).

2 ـ «مختال» من مادة «خيال» حيث يرى الشخص نفسه بسبب بعض المتخيلات عظيماً وكبيراً، وسمي الخيل خيلا لأن مشيته تشبه مشية المتكبر، «فخور» من مادة «فخر» والفرق بينها وبين الأُولى ان المختال اشارة إِلى تخيلات الكبر في مجالها الذهني والاُخرى يراد بها الاعمال الصادرة عن كبر في المجال الخارجي.

[233]

الآيات

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَـهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً(37)وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَـنُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قَرِيناً(38)وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً(39)

التّفسير

الإِنفاق رياءً والإِنفاق قربةً:

الآية الأُولى من هذه الآيات الثلاث ـ هي في الحقيقة ـ تعقيب على الآيات السابقة وإِشارة إِلى المتكبرين إِذ تقول: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل)هذا مضافاً إِلى أنّهم يسعون دائماً أن يخفوا عن الآخرين ما تفضل الله عليهم به من الخير كيلا يتوقع المجتمع منهم شيئاً (ويكتمون ما أتاهم الله من فضله).

ثمّ يقول عن نهاية هذا الفرق من الناس وعاقبة أمرهم: (واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) ولعل السرّ في استخدام هذا التعبير في حق هذه الطائفة هو أن

[234]

«البخل» ينبع في الغالب من الكفر، لأنّ البخلاء لا يمتلكون الإِيمان الكامل بالمواهب الربانية المطلقة والوعود الإِلهية العظيمة للمحسنين. إِنّهم يتصورون أنّ مساعدة الآخرين وتقديم العون إِليهم يجرّ إِليهم التعاسة والشقاء.

وأمّا الحديث عن الخزي في عذاب هؤلاء، فلأن الجزاء المناسب للتكبر والإِستكبار هو العذب المهين.

ثمّ إنّه لابدّ من الإِلتفات إِلى أنّ البخل لا يختص بالأُمور المالية، بل يشمل كل نوع من أنواع الموهبة الإِلهية، فثمّة كثيرون لا يعانون من صفة البخل الذميمة في المجال المالي، ولكنّهم يبخلون عن بذل العلم أو الجاه أو الأُمور الاُخرى من هذا القبيل.

ثمّ إن الله سبحانه يذكر صفة أُخرى من صفات المتكبرين إِذ يقول: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إنّهم ينفقون أموالهم لا في سبيل الله وكسب رضاه، بل مراءاة الناس لكسب السمعة وجلب الشهرة والجاه، وبالتالي ليس هدفهم من الإِنفاق هو خدمة الناس وكسب رضا الله سبحانه، ولهذا فإِنّهم لا يتقيدون في من ينفقون عليه بملاك الإِستحقاق، بل يفكرون دائماً في أنّه كيف يمكنهم أن يستفيدوا من إِنفاقاتهم ويحققوا ما يطمحون إِليه من أغراض شخصية، وأهداف خاصّة، كتقوية نفوذهم وتكريس موقعهم في المجتمع مثلا، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولهذا السبب يفتقر إِنفاقهم إِلى الدافع المعنوي الذي ينبغي توفره في الإِنفاق، بل دافعهم هو الوصول إِلى الشّهرة والشّخصية الكاذبة المزيفة من هذا السبيل، وهذا هو أيضاً من آثار التكبر ونتائج الأنانية.

إِنّ هؤلاء اختاروا الشّيطان رفيقاً وقريناً لهم: (من يكن الشّيطان له قريناً فساء قريناً) إِنّه لن يكون له مصير أفضل من مصير الشّيطان، لأنّ منطقهم هو منطق الشيطان، وسلوكهم سلوكه سواء بسواء، إِنّه هو الذي يقول لهم: إِنّ الإِنفاق

[235]

بإِخلاص يوجب الفقر (الشّيطان يعدكم الفقر)(1) ولهذا فإمّا أن يبخلوا ويمتنعوا عن الإِنفاق والبذل (كما أُشير إلى هذا في الآية السابقة) أو أنّهم ينفقون إذا ضمن هذا الإنفاق مصالحهم الشخصية وعاد عليهم بفوائد شخصية (كما أُشير إِلى ذلك في الآية الحاضرة).

من هذه الآية يستفاد مدى ما للقرين السيء من الأثر في مصير الإِنسان، ذلك الأثر الذي ربّما يبلغ في آخر المطاف إِلى السقوط الكامل.

كما يستفاد أنّ علاقة «المتكبرين» بـ«الشيطان والأعمال الشيطانية» علاقة مستمرة ودائمة لا مؤقتة ولا مرحلية، ذلك لأنّهم اختاروا الشيطان قريناً ورفيقاً لأنفسهم.

وهنا يقول سبحانه وكأنّه يتأسف على أحوال هذه الطائفة من الناس (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا ممّا رزقهم الله ...) أي شيء عليهم لو تركوا هذا السلوك وعادوا إِلى جادة الصواب وأنفقوا ممّا رزقهم الله من الخير والنعمة في سبيل الله، بإِخلاص لا رياء، وكسبوا بذلك رضا الله، وتعرضوا للطفه وعنايته، وأحرزوا سعادة الدنيا والآخرة؟

فلماذا لا يفكر هؤلاء ولا يعيدون النظر في سلوكهم؟ ولماذا ترى يتركون طريق الله الأنفع والأفضل ويختارون طريقاً أُخرى لا تنتج سوى الشقاء، ولا تنتهي بهم إِلاّ إِلى الضرر والخسران؟

وعلى كل حال فإِنّ الله يعلم بأعمالهم ونواياهم ويجزيهم بما عملوا: (وكان الله بهم عليماً).

والجدير بالإِنتباه أنّ الإِنفاق في الآية السابقة التي كان الحديث فيها حول الإِنفاق مراءاة نُسب إِلى الأموال «ينفقون أموالهم»، وفي هذه الآية نسب إِلى (ممّا رزقهم الله)، وهذا التفاوت والإِختلاف في التعبير يمكن أن يكون إِشارة إِلى

____________________________

1 ـ البقرة، 268.

[236]

ثلاث نقاط:

أوّلا: إِنّه في الإِنفاق رياء لا تلحظ حلّية المال وحرمته، في حين تلحظ في الإِنفاق لله حلّية المال وأن يكون مصداق(ممّا رزقهم الله).

ثانياً: إِنّه في الإِنفاق رياء حيث أنّهم يحسبون أنّ المال الذي ينفقونه خاص بهم، لذلك فهم لا يمتنعون عن الكبر والمنّ، في حين أنّ المنفقين لله حيث يعتقدون بأنّ الله هو الذي رزقهم ما يملكون من المال، وأنّه لا مجال للمنّ إِذا هم أنفقوا شيئاً من ذلك، ولذلك يمتنعون من الكبر والمنّ.

ثالثاً: إِنّ الإِنفاق رياء ينحصر غالباً في المال، لأنّ أمثال هؤلاء محرمون من أي رأسمال معنوي لينفقوا منه، ولكن الإِنفاق لوجه الله تتسع دائرته فتشمل كل المواهب الإِلهية من المال، والعلم والجاه، والمكانة الإِجتماعية وما شابه ذلك من الأُمور المادية والمعنوية.

* * *

[237]

الآية

إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً(40)

التّفسير

ما هي «الذّرة»؟:

«الذّرة» في الأصل هي النملة الصغيرة التي لا ترى، وقال البعض: هي من أجزاء الهباء والغبار في الكّوة التي تظهر عند دخول شعاع الشمس خلالها، وقيل أيضاً أنّه الغبار الدقيق المتطاير من يدي الإِنسان إذا جعلهما على التراب وما شابهه ثمّ نفخهما.

ولكنّها أُطلقت تدريجاً على كل شيء صغير جدّاً، وتطلق الآن ويراد منها ما يتكون من الإِلكترون والبروتون أيضاً. لأنّها إِذا كانت تطلق سابقاً على أجزاء الغبار، فلأن تلك الأجزاء كانت أصغر أجزاء الجسم، ولكن حيث ثبت اليوم أنّ أصغر أجزاء «الجسم المركب» هو «المولوكول» أو الجزيئة، وأصغر أجزاء «الجسم البسيط» هو «الذّرات»، أختيرت لفظة «الذّرة» في الإِصطلاح العلمي على تلك الجزئيات التي لا ترى بالعين المجرّدة، بل لا يمكن أن ترى حتى بأقوى الميكروسكوبات الإِلكترونية، وإِنّما يحسّ بوجودها من خلال القوانين والمعادلات العلمية والتصوير بآلات مزودة بأدقّ الأجهزة وأقواها، وحيث أن

[238]

«مثقال» يعني الثقل، فإِنّ التعبير بمثقال ذرة يعني جسماً في غاية الدقة والصغر.

إِنّ الآية الحاضرة تقول: إِنّ الله لا يظلم قط زنة ذرة، بل يضاعف الحسنة إِذا قام بها أحد، ويعطي من لدنه على ذلك أجراً عظيماً: (إِنّ الله لا يظلم مثقال ذرة وإِن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنها أجراً عظيماً).

إِنّ هذة الآية ـ في الحقيقة ـ تقول للكافرين الذين يبخلون والذين مرّ الحديث عن أحوالهم في الآيات السابقة: إِنّ العقوبات التي تصيبكم ما هي في الحقيقة إلاّجزاء ما قمتم به من الأعمال، وأنّه لا يصيبكم أي ظلم من جانب الله، بل لو أنّكم تركتم الكفر والبخل وسلكتم طريق الله لنلتم المثوبات العظيمة المضاعفة.

ثمّ أنّه لابدّ من الإِنتباه إِلى أن لفظة «ضعف» و«المضاعف» تعني في اللغة العربية ما يعادل الشيء أو يربو عليه مرّات عديدة، وعلى هذا الأساس لاتنافي هذه الآية الآيات الاُخرى التي تقول: إِن أجر الإِنفاق قد يصل إِلى عشرة أضعاف، وقد يصل إِلى سبعمائة مرّة ... .

وعلى أي حال فإِنّها تحكي عن لطف الله بالنسبة إِلى عباده، حيث لا يعاقبهم على سيئاتهم وذنوبهم بأكثر ممّا عملوا، بينما يضاعف الأجر بمرات كثيرة إِذا أتوا بحسنة واحدة.

يبقى أن نعرف لماذا لا يظلم الله سبحانه؟ فإِنّ السبب فيه واضح، لأن الظلم عادة ـ إِمّا ناشىء عن الجهل ، وإمّا ناشىء عن الحاجة، وإمّا ناشىء عن نقص نفسي.

ومن كان عالماً بكل شيء، وكان غنيّاً عن كل شيء، ولم يكن يعاني من أي نقص، لا يمكن صدور الظلم منه، فهو لا يظلم أساساً، لا أنّه تعالى لا يقدر على الظلم، ولا أن الظلم غير متصوّر في حقّه (كما تذهب إِليه طائفة من الأشاعرة)، بل مع قدرته تعالى على الظلم ـ لا يظلم أبداً لحكمته وعلمه، فهو يضع كل شيء في عالم الوجود موضعه، ويعامل كل أحد حسب عمله، وطبقاً لسلوكه وسيرته.

* * *

[239]

الآيتان

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاَءِ شَهِيداً(41) يَوْمَئِذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْتُسَوَّى بِهِمُ الاَْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً(42)

التّفسير

شهود يوم القيامة:

تعقيباً على الآيات السابقة التي كانت تدور حول العقوبات والمثوبات المعدّة للعصاة والمطيعين. جاءت هذه الآية تشير إِلى مسألة الشهود في يوم القيامة فتقول: (فكيف إذا جئنا من كل أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)وهكذا يكون نبي كل أُمّة شهيداً عليها، مضافاً إِلى شهادة أعضاء الإِنسان وجوارحه، وشهادة الأرض التي عليها عاش، وشهادة ملائكة الله على أعماله وتصرفاته، ويكون نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخر أنبياء الله ورسله وأعظمهم، شاهداً على أُمّته أيضاً، فكيف يستطيع العصاة مع هذه الشهود إِنكار حقيقة من الحقائق، وتخليص أنفسهم من نتائج أعمالهم.

ثمّ إنّ نظير هذا المضمون قد جاء أيضاً في عدّة آيات قرآنية أُخرى، منها الآية (143) من سورة البقرة، والآية (89) من سورة النحل، والآية (78) من سورة الحج.

[240]

والآن يطرح هذا السؤال، وهو: كيف تتمّ شهادة الأنبياء على أعمال أممهم، وكيف تكون؟

إِذا كانت كلمة «هؤلاء» إِشارة إِلى المسلمين كما جاء في تفسير مجمع البيان، فإِن الجواب على هذا السؤال يكون واضحاً، لأنّ كل نبيّ ما دام موجوداً بين ظهراني أُمّته فهو شاهد على أعمالهم، وبعده يكون أوصياؤه وخلفاؤه المعصومون هم الشهداء على أعمال تلك الأُمّة، ولهذا جاء في حق المسيح(عليه السلام)أنّه يقول في يوم القيامة في جواب سؤال الله سبحانه إِيّاه: (ما قلت لهم إِلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربّي وربّكم، وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد)(1).

ولكن بعض المفسرين احتمل أن تكون لفظة «هؤلاء» إِشارة إِلى شهود الأُمم السابقة، يعني أنّنا نجعلك أيّها النّبي شهيداً على شهداء الأُمم من الأنبياء، وقد أُشير في بعض الروايات إِلى هذا التّفسير(2) وعلى هذا يكون معنى الآية هكذا: إِنّ كل نبيّ شاهد على أعمال أُمّته جميعها في حياته وبعد مماته عن طريق المشاهدة الباطنية والروحانية، وهكذا الحال بالنسبة إِلى رسول الإِسلام، فإِنّ روحه الطاهرة ناظرة ـ عن هذا الطريق أيضاً ـ على أعمال أُمّته وجميع الأُمم السابقة، وبهذا الطريق يمكنه أن تشهد على أفعالهم وأعمالهم، بل وحتى الصلحاء من الأُمّة والأبرار الأتقياء منها يمكنهم الإِطلاع والحصول على مثل هذه المعرفة، فيكون المفهوم من كل ذلك وجود روح النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من بدء الخلق، لأنّ معنى الشّهود هو العلم المقترن بالحضور، ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ما نقل عن السيد المسيح، لأنّ الآية المذكورة تقول: إِنّ المسيح لم يكن شاهداً على أُمّته جمعاء، بل كان شاهداً عليها مادام في الحياة (فتأمل).

____________________________

1 ـ المائدة، 117.

2 ـ راجع تفسير نور الثقلين والبرهان في ذيل الآية.

[241]

أمّا إِذا أخذنا الشهادة بمعنى الشهادة العملية، يعنى أن تكون أعمال «فرد نموذجي» مقياساً ومعياراً لأعمال الآخرين كان التّفسير حينئذ خالياً عن أي إِشكال، لأنّ كل نبيّ بما له من صفات متميزة وخصال ممتازة يعدّ خير معيار لأُمّته، إِذ يمكن معرفة الصالحين والطالحين بمشابهتهم أو عدم مشابهتهم له، وحيث إن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أعظم الأنبياء والرسل الإِلهيين كانت صفاته وأعماله معياراً لشخصية كل الأنبياء والرسل.

نعم لا يبقى هنا إِلاّ سؤال واحد هو: هل جاءت الشهادة بهذا المعنى، أم لا؟ بيد أنّه مع الإِنتباه إِلى أنّ أعمال الرجال المنوذجيين وتصرفاتهم وأفكارهم تشهد عملياً على أنّه من الممكن أن يرقى إِنسان ما إِلى هذه الدرجة، ويطوي هذه المقامات والمراحل المعنوية لم يبد مثل هذا المعنى بعيداً في النظر.

عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرّسول وعصوه، أي عندما رأوا بأُمّ أعينهم تلك المحكمة الإِلهية العادلة، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إِنكار شهاداتهم، إِنهم يندمون ندماً بالغاً لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا تراباً أو سووا بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إِذ يقول سبحانه: (يومئذ يودُّ الذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوى بهم الأرض).

وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إِذ يقول تعالى: (ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً).

ولكن لفظة (لو تسوى) تشير إِلى مطلب آخر أيضاً، وهو: إِنّ الكفار مضافاً إِلى أنّهم يتمنون أن يصيروا تراباً، يحبّون أن تضيع معالم قبورهم في الأرض أيضاً وتسوى بالأرض حتى ينسوا بالمرّة، ولا يبقى لهم ذكر ولا خبر ولا أثر.

إِنّهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا شيئاً: (ولا يكتمون الله حديثاً) لأنّه لا سبيل إِلى الإِنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود.

[242]

نعم، لا ينافي هذا الكلام ما جاء في الآيات الأُخر التي تقول: هناك من الكفار من يكتم الحقائق يوم القيامة أيضاً ويكذبون(1) لأنّ كذبهم وكتمانهم واقع قبل إِقامة الشهود وقيام الشهادة، وأمّا بعد ذلك فلا مجال لأي كتمان، ولا سبيل إِلى أي إِنكار، بل لابدّ من الإِعتراف بجميع الحقائق.

وقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في بعض خطبه أنّه قال عن يوم القيامة «ختم على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً».(2)

هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من (لا يكتمون الله حديثاً)أنّهم يتمنون لو أنّهم لم يكتموا في الدنيا أية حقيقة، خصوصاً في ما يتعلق برسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا تكون هذه العبارة عطفاً على جملة (لو تسوى بهم الأرض).

ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر «لا يكتمون» الذي هو فعل مضارع، ولو كان المراد ما ذكره هذا الفريق من المفسرين لوجب أن يقول: «لم يكتموا».

* * *

____________________________

1 ـ مثل الآية (22) و (23) من سورة الأنعام، والآية (18) من سورة المجادلة.

2 ـ تفسير نور الثّقلين، ج1، ص482 ـ 483، نقلاً عن تفسير العياشي.

[243]

الآية

يَـأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبَاً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيل حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَـمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً(43)

التّفسير

بعض الأحكام الفقهية:

تستفاد من الآية الحاضرة عدّة أحكام إِسلامية هي:

1 ـ حرمة الصّلاة في حال السكر، أي لا يجوز للسكارى أن يقربوا الصّلاة لبطلان صلاتهم في حالة السكر، وفلسفة ذلك واضحة، فإِن الصلاة حديث العبد إِلى ربّه ومناجاته ودعاؤه، ولابدّ أن يتمّ كل هذا في حالة الوعي الكامل، والسكارى أبعد ما يكونون عن هذه الحالة: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون).

وهنا يمكن أن يطرح أحد سؤالا هو: أليس مفهوم الآية هو المنع من شرب المسكرات إِذا بقي أثرها وسكرها إِلى وقت الصلاة، وهو ينطوي على دليل

[244]

جوازه في سائر الحالات؟

والإِجابة على هذا السؤال تأتي ـ بإِذن الله ـ مفصّلة عند تفسير الآية (90) من سورة المائدة، إِلاّ أن الجواب الإِجمالي هو: إِنّ الإِسلام استخدم لتطبيق الكثير من أحكامه أسلوب «التغيير التدريجي» فمثلا مسألة تحريم تعاطي الخمور هذه طبقها الإِسلام في مراحل، فهو أوّلا أعطاه صفة المشروب الغير المحبّذ في قبال «الرزق الحسن» (كما في الآية (67) من سورة النحل «ورزقاً حسناً») ثمّ منع من الإِقتراب إِلى الصلاة إِذا كان السكر الناشىء منها لا يزال باقياً (كما في الآية الحاضرة) ثمّ قارن بين منافعه ومضاره ورجحان مضاره ومساوئه، كما في سورة البقرة الآية (219)، وفي المرحلة الأخيرة نهى عن الخمر بصورة قاطعة وصريحة، كما في سورة المائدة الآية (90).

وأساساً ليس هناك من سبيل لتطهير المجتمع من جذور مفسدة إِجتماعية أو خلقية متجذرة في أعماق المجتمع واقتلاعها من الجذور أفضل من هذا الأُسلوب، وأجدى من هذا الطريق، وهو أن يهيأ الأفراد تدريجاً، ثمّ يتمّ الإِعلان عن الحكم النهائي.

كما أنّه لابدّ من الإِلتفات إِلى نقطة مهمّة، هي أنّ الآية الحاضرة لا تجيز بأي وجه من الوجوه شرب الخمر، بل هي تتحدث فقط عن مسألة الإِقتراب إِلى الصلاة في حال السكر، بينما التزمت الصمت بالنسبة إِلى حكم شرب الخمر في غير هذا المورد حتى يحين موعد المرحلة النهائية للحكم.

هذا مع الإِلتفات إِلى أنّ أوقات الصلوات الخمس خاصّة في ذلك الزمان الذي كانت العادة فيه إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، بحكم أنّها كانت متقاربة كان الإِتيان بالصلاة في حال الوعي يقتضي أن ينصرف الأشخاص عن تناول المسكرات في الفترات الواقعة بين أوقات الفرائض انصرافاً كلياً، لأنّ السكر كان يستمر غالباً إِلى حين حلول وقت الفريضة وعلى هذا كان الحكم

[245]

المذكور في الآية الحاضرة أشبه بالحكم النهائي والتحريم الأبدي المطلق.

كما أنّ هناك موضوعاً لابدّ من التذكير به، وهو أنّ الآية الحاضرة فسّرت في روايات عديدة في كتب الشيعة والسنة بسكر النوم، يعني لا تقربوا الصلاة ما لم تطردوا النوم عن عيونكم كاملة لتعلموا ما تقولون.

ولكن يبدو للنظر أن هذا التّفسير مستفاد من مفهوم: (حتى تعلموا ما تقولون)وإِن لم يدخل في مصداق «السكارى»(1).

وبعبارة أُخرى، يستفاد من جملة: (حتى تعلموا ما تقولون) المنع عن الصلاة في كل حالة لا يتمتع فيها الإِنسان بالوعي الكامل، سواء كان بسبب حالة السكر، أو بسبب ما تبقى من النوم.

كما أنّه يستفاد من هذه الجملة أيضاً أنّ الأفضل عدم إقامة الصلاة عند الكسل أو قلّة التوجه، لأنّ الحالة السابقة توجد في هذه الصورة بشكل ضعيف، ولعلّه لهذا السبب جاء في ما روي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) من أنّه قال: «لا تقم إِلى الصلاة متكاسلا، ولا متناعساً ولا متثاقلا وقد نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين أن يقوموا إِلى الصلاة وهم سكارى ...»(2).

2 ـ بطلان الصلاة في حال الجنابة الذي أشير إِليه بعبارة (ولا جنباً) ثمّ استثنى سبحانه من هذا الحكم بقوله: (إلاّ عابري سبيل) أي إِذا فقدتم الماء في السفر جاز لكم أن تقيموا الصلاة (شريطة أن تتيمموا كما يجيء في ذيل الآية).

غير أن هناك تفسيراً آخر جاء لهذه الآية في الروايات والأخبار(3)، هو أنّ المقصود من الصلاة في الآية هو محل الصلاة ـ أي المسجد ـ أي لا تدخلوا المساجد وأنتم على جنابة، ثمّ استثنى العبور في المسجد بقوله: (إلاّ عابري

____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 483، وتفسير القرطبي، ج 3، ص 1171.

2 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 483، وقد جاء نظير هذا المضمون في صحيح البخاري أيضاً.

3 ـ وسائل الشيعة، ج 1، ص 486.

[246]

سبيل) يعني يجوز لكم العبور في المسجد وأنتم على جنابة وإن لم يجز لكم المكث واللبث فيه.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ جماعة من المسلمين، وصحابة النّبي كانوا قد بنوا بيوتهم حول المسجد النّبوي بحيث تفتح أبوابها في المسجد، فسمح لهم بأن يعبروا من المسجد وهم على جنابة دون أن يتوقفوا فيه.

ولكن لابدّ أن ننتبه إِلى أن هذا التّفسير يستلزم أن تكون لفظة الصلاة في الآية الحاضرة قد أتت بمعنيين: أحدهما الصلاة نفسها، والآخر محل الصلاة، لوجود بيان حكمين مختلفين في الآية: أحدهما المنع والنهي عن الإِقتراب إِلى الصلاة في حالة السكر، والآخر الإِجتناب عن دخول المساجد في حالة الجنابة (طبعاً لا مانع ولا ضير في استعمال لفظة واحدة في معنيين أو أكثر كما قلنا في علم الأصول، ولكنّه خلاف الظاهر، وهو لا يجوز بدون قرينة، نعم يمكن أن تكون الروايات المذكورة قرينة على ذلك).

3 ـ جواز الصلاة، أو عبور المسجد بعد الإِغتسال، هو المبين بقوله: (حتى تغتسلوا).

4 ـ التيمم لذوي الأعذار، ثمّ تشير الآية إِلى حكم التيمم لذوي الأعذار فتقول: (وإِن كنتم مرضى أو على سفر) وفي هذه العبارة من الآية قد اجتمعت ـ في الحقيقة ـ كل موارد التيمم، فالمورد الأوّل هو ما إِذا كان في استعمال الماء ضرر على البدن، والمورد الآخر هو ما إِذا تعذر على الإِنسان الحصول على الماء (أم لم يمكن استعماله) وبقوله: (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء)إشارة إِلى علل الإِحتياج إِلى التيمم وأسبابه، ومعناه إِذا أحدثتم حدثاً أو جامعتم النساء (فلم تجدوا ماء) أي لم تقدروا على تحصيل الماء أو استعماله (فتيمموا صعيداً طبياً).

ثمّ أنّه سبحانه يبيّن طريقة التيمم بقوله: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم).

[247]

ثمّ أنّه في ختام الآية يشير إِلى حقيقة أنّ الحكم المذكور ضرب من التخفيف عنكم، لأنّ الله كثير الصفح كثير الستر لذنوب عبادة (إنّ الله كان عفواً غفوراً).

* * *

بحوث عند الآية:

هنا لابدّ من التنبيه إِلى نقاط عديدة:

1 ـ إِنّ عبارة (فلم تجدوا ماء) المبدؤة بفاء التفريع ترتبط بعبارة (أو على سفر) يعني أنّكم إِذا كنتم في سفر ولم تجدوا ماء للوضوء أو الغسل، فتحتاجون إِلى التيمم، لأنّ الإِنسان قلما تتفق له هذه الحالة وهو في البلد، ومن هنا يتبيّن بطلان ما قاله بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ من أن مجرّد السفر وحده كاف للتكليف بالتيمم بدل الوضوء حتى لو كان الشخص المسافر واجداً للماء، فإِنَّ فاء التفريع في قوله (فلم تجدوا) يبطل هذا الكلام، لأنّ المفهوم منه هو أنّ السفر قد يوجب أحياناً عدم التمكن من الماء، وهنا لا مناص من التيمم، لا أنّ السفر بوحده يسوغ التيمم، والعجب أنّ الكاتب المذكور تحامل على فقهاء الإِسلام في هذا المجال من دون مبرر لهذا التحامل.

2 ـ إنّ كلمة (أو) في قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) هي بمعنى (الواو) لأن مجرّد المرض أو السفر لا يوجب التيمم، بل يجب التيمم إِذا تحققت موجبات التيمم أو الغسل في هذا الحال.

3 ـ إِنّ «العفة في البيان» المعهودة من القرآن دفعت بالقرآن في هذه الآية ـ كما في الآيات الكثيرة الاُخرى ـ إِلى أن يعبّر عن قضاء الحاجة بعبارة تفهم المراد من جانب، ولا تكون غريبة وغير مناسبة من جانب آخر إِذ يقول: (أو جاء أحد منكم من الغائط).

[248]

وتوضيح ذلك أنّ «الغائط» ـ خلاف ما يفهم منه هذا اليوم ـ يعني في أصل اللغة المنخفض من الأرض الذي كان يقصده الإِنسان وسكان الصحارى والمسافرون في تلك العهود لقضاء الحاجة فيه ليسترهم عن أعين الناظرين، وعلى هذا يكون معنى هذه الجملة هو: إِذا عاد أحدكم من المكان المنخفض من الأرض الذي هو في جملته كناية عن قضاء الحاجة.

والملفت للنظر أن القرآن استعمل لفظة «أحد منكم» بدل ضمير الجمع المخاطب المصدر بالفعل أي «جئتم» ليحافظ على خصيصة «عفة البيان» التي تجلى بها القرآن الكريم أكثر فأكثر.

وهكذا الحال عند ما يتحدّث عن الجماع فإِنّ القرآن يشير إِلى هذا الموضوع بعبارة (أو لامستم النساء) ولفظة اللمس كناية جميلة عن المقاربة الجنسية.

4 ـ سنتحدث بتفصيل حول بقية خصوصيات التيمم عند تفسير قوله تعالى: (صعيداً طيباً) في ذيل الآية (6) من سورة المائدة إِن شاء الله.

فلسفة التيمم:

يتساءل كثيرون: ما الفائدة من ضرب اليدين بالتراب ومسح الجبين وظهر اليدين بهما خاصّة أنّنا نعلم أن كثيراً من الأتربة ملوثة، وناقلة للميكروبات والجراثيم؟

في جواب هذه الأسئلة نشير إِلى نقطتين مهمتين:

الأُولى: الفائدة الخلقية، فإِن التيمم إحدى العبادات، وتتجلى فيها روح العبادة بكل معنى الكلمة، لأن الإِنسان يمس جبهته التي هي أشرف الأعضاء في بدنه بيديه المتربتين ليظهر بذلك خضوعه لله وتواضعه في حضرته ولسان حاله يقول: يا ربّي إِنّ جبهتي وكذا يداي خاضعات أمامك إِلى أبعد حدود الخضوع والتواضع، ثمّ يتوجه عقيب هذا العمل إِلى القيام بالصلاة وسائر العبادات

[249]

المشروطة بالغُسل والوضوء، وبهذا الطريق يزرع التيمم في نفس الإِنسان روح الخضوع لله، وينمي فيه صفة التواضع في حضرة ذي الجلال، ويدرّبه على العبودية له سبحانه، والشكر لأنعمه تعالى.

الثّانية: الفائدة الصحية، فقد ثبت اليوم بأنّ التراب بحكم احتوائه على كميات كبيرة من البكتريا تزيل التلوثات، إِن البكتريات الموجودة في التراب والتي تعمل على تحليل الموارد العضوية وإبادة كل أنواع العفونة، توجد ـ في الأغلب ـ بوفرة في سطح الأرض، والأعماق القريبة التي يمكن لها الإِنتفاع بنور الشمس والهواء بصورة أكثر، ولهذا عند ما تدفن جثث الأموات من البشر أو الحيوان في الأرض، وكذا ما يشابهها من المواد العضوية، نجدها تتحلل في مدّة قصيرة تقريباً وتتلاشى بؤر التعفن على أثر هجوم البكتريات عليها، ومن المسلّم أنّ هذه الخاصّية لو لم تكن في التربة لتحولت الكرة الأرضية في مدّة قصيرة إِلى بؤرة عفونة قاتلة.

إِنّ للتربة خاصّية تشبه مواد «الأنتوبيوتيك» التي لها أثر فعال جدّاً في قتل وإِبادة الميكروبات.

وعلى هذا لا يكون التراب عارياً عن التلوث فقط، بل هو مطهر فعال للتلوثات، ويمكنه ـ من هذه الجهة ـ أن يحل محل الماء بفارق واحد، هو أن الماء يحلل الميكروبات، ويذهب بها معه، في حين أن مفعول التراب يقتصر على قتل الميكروبات فقط.

ولكن يجب الإِنتباه إِلى أنّ التراب الذي يستعمل في التيمم يجب أن يكون طاهراً نظيفاً، كما أشار اليه القرآن الكريم في تعبيره الجميل إِذا يقول: (طيباً).

والجدير بالإِنتباه أنّ التعبير بـ«الصعيد» المشتق من «الصعود» يشير إِلى أن أفضل أنواع التربة الذي ينبغي أن تختاره للتيمم هو التربية الموجودة في سطح الأرض، يعني تلك التربة التي هي عرضة لأشعة الشمس والمليئة بالهواء

[250]

والبكتريا المبيدة للميكروبات، فإِذا كانت تلك التربة المستعملة في التيمم طيبة وطاهرة أيضاً كان التيمم بها ينطوي على الآثار المذكورة من دون أن يكون فيه أي ضرر أو أية مضاعفات. (وسنتحدث في هذا المجال أيضاً عند تفسير المقطع الأخير من الآية (6) في سورة المائدة).

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337762

  • التاريخ : 29/03/2024 - 05:57

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net