00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الانعام من آية 80 ـ 99 من ( 355 ـ 406 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[355]

الآيات

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَـجُّونِّى فِى اللهِ وَقَدْ هَدَنِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْء عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ(80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزَّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـناً فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاَْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81) الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيَمـنَهُم بِظُلْم أَوْلَـئِكَ لَهُمُ الاَْمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـهَآ إِبْرَهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـت مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)

التّفسير

تعقيباً على ما جرى بحثه في الآيات السابقة بشأن استدلالات إِبراهيم(عليه السلام)التوحيدية، تشير هذه الآيات إِلى ما دار بين إِبراهيم والأقوام المشركة من عبدة الأصنام، الذين بدأوه بالمحاجة (وحاجه قومه).

فردّ عليهم إِبراهيم(عليه السلام) قائلا: لماذا تجادلونني في الله الواحد الأحد وتخالفونني فيه، وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إِلى

[356]

طريق التوحيد (قال أتحاجوني في الله وقد هدان).

يتّضح في هذه الآية بجلاء أنّ قوم إِبراهيم المشركين من عبدة الأصنام كانوا يحاولون جهدهم وبأي ثمن أن يبعدوا إِبراهيم عن عقيدته ويرجعوه إِلى عبادة الأصنام، ولكنّه بكل شجاعة وجرأة ردّ عليهم بالدلائل المنطقية الواضحة.

لا تشير هذه الآيات إِلى المنطق الذي توسل به قوم إِبراهيم لحمله على ترك عقيدته، ولكن يبدو من جواب إِبراهيم أنّهم قد حذروه وهددوه بغضب آلهتهم وعقابها في محاولة لإِرعابه وإِخافته، لأنّنا على أثر ذلك نسمع إِبراهيم يستهين بتهديدهم ويؤكّد لهم أنّه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوّة في إيصال أي أذى إليه (ولا أخاف ما أشركتم به...) فما من أحد ولا من شيء بقادر على أن يلحق بي ضرراً إِلاّ إِذا شاء الله: (إِلاّ أن يشاء ربّي شيئاً)(1).

يظهر من هذه الآية أنّ إِبراهيم(عليه السلام) سعى لإِتخاذ إِجراء وقائي تجاه حوادث محتملة، فيؤكّد أنّه إِذا أصابه في هذا الصراع شيء ـ فرضاً ـ فلن يكون لذلك أي علاقة بالأصنام، بل يعود إِلى إِرادة الله، لأنّ الصنم الذي لا روح فيه ولا قدرة له على أن ينفع نفسه أو يضرها، لا يتأتى له أن ينفع أو يضرّ غيره.

ويضيف إِلى ذلك مبيناً أنّ ربّه على درجة من سعة العلم بحيث يسع بعلمه كل شيء: (وسع ربّي كل شيء علماً).

هذه العبارة ـ في الواقع ـ دليل على العبارة السابقة التي تقول: إِنّ الأصنام لا قدرة لها على النفع والضرر، لأنّها لا تملك العلم ولا المعرفة اللازمين لمن يريد أن ينفع أو يضرّ، إِنّ الله الذي أحاط علمه بكل شيء هو وحده القادر على أن يكون منشأ النفع والضرر، فلم إِذن أخشى غضب غير الله؟!

ثمّ يحرك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلا: (أفلا تتذكرون).

_____________________________

1 ـ هذا أشبه بالإِستثناء المنقطع، فقد نفى عن الأصنام كلّ قدرة على النفع والضرر، وأثبتها لله، وللمفسّرين آراء أُخرى في تفسير هذه الآية، غير أن ما قلناه أقرب.

[357]

في الآية التّالية ينهج إِبراهيم منطقاً استدلالياً آخر، فيقول لعبدة الأصنام: كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي عليّ الخوف من تهديدكم، مع إنّي لا أرى في أصنامكم أثراً للعقل والإِدراك والشعور والقوة والعلم، أمّا أنتم فعلى الرغم من إِيمانكم بوجود الله وإِقراركم له بالعلم والقدرة، ومعرفتكم بأنّه لم يأمركم بعبادة هذه الأصنام، فانّكم لا تخافون غضبه: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنّكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً)(1).

إِنّنا نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا ينكرون وجود الله خالق السموات والأرض، ولكنّهم كانوا يشركون الأصنام في عبادته ويعتبرونها شفيعة لهم عنده، كونوا منصفين إِذن وقولوا: (فأي الفريقين أحق بالأمن إِن كنتم تعلمون).

يستند منطق إِبراهيم(عليه السلام) هنا إِلى منطق العقل القائم على الواقع، إِنّكم تهددونني بغضب الأصنام، مع أن تأثيرها وهمٌ من الأوهام، ولكنّكم بعدم خشيتكم من الله العظيم الذي نؤمن به جميعاً، ونعتقد بوجوب اتباع أمره تكونون قد تركتم أمراً ثابتاً، وتمسكتم بأمر وهمي فهو لم يصدر إِلينا أمراً بعبادة الأصنام.

في الآية التّالية جواب يدلي به إِبراهيم على سؤال كان هو قد ألقاه في الآية السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي، فقد يسأل المتكلم سؤالا عن لسان المخاطب ثمّ يبادر إِلى الإِجابة عليه مباشرة كدليل على أن الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص)، يقول: إِنّ المؤمنين الذين لم يمزجوا إِيمانهم بظلم، هم الآمنون وهم المهتدون (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم أُولئك لهم الأمن وهم مهتدون).

ثمّة رواية عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) تؤيد كون هذه الآية إِستكمالا لحوار

_____________________________

1 ـ «السلطان» بمعنى التفوق والإِنتصار، ولما كان الدليل والبرهان من أسباب الفوز والإِنتصار، فقد يوصفان بالسلطان أيضاً، كما هو الحال هنا، أي لا وجود لأي دليل على السماح بعبادتها وهذا ما لم يستطع إِنكاره عابد صنم، لأنّ أمراً كهذا ينبغي أن يصدر عن طريق العقل والمنطق، أو عن طريق الوحي والنبوة، وعبادة الأصنام مفتقرة إِلى كليهما.

[358]

إِبراهيم مع عبدة الأصنام(1).

بعض المفسّرين يرى أن من المحتمل أن تكون هذه الآية بياناً إِلهياً، وليست مقولة قالها إِبراهيم، إِلاّ أن ما ذكرناه ـ فضلا عن تأييد الرواية المذكورة له ـ أكثر إِنسجاماً مع ترتيب الآيات ووضعها، أمّا القول بأنّ هذه الآية لسان حال عبدة الأصنام، وإنّهم قالوها بعد تيقظهم على أثر سماع أدلة إِبراهيم، فأمر بعيد الإِحتمال جدّاً.

ما معنى «الظلم» هنا؟

يرى معظم المفسّرين أنّ معنى «الظلم» هنا هو «الشرك». وأنّ الآية (12) من سورة لقمان: (إِنّ الشّرك لظلم عظيم) دليل على ذلك.

وفي رواية منقولة عن ابن عباس أنّه عند نزول هذه الآية شقّ على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ (أي أنّ الآية تشملهم جميعاً)، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إِلى ما قال العبد الصالح:  (... يا بني لا تشرك بالله إِنّ الشرك لظلم عظيم)(2).

غير أنّ لآيات القرآن معاني متعددة في كثير من الحالات بحيث يمكن أن يكون أحدها أوسع وأشمل، وهذا الإِحتمال جائز في هذه الآية أيضاً، فيحتمل أن يكون «الأمن» عاماً يشمل الأمن من عقاب الله، والأمن من حوادث المجتمع المؤلمة، والأمن من الحروب والمفاسد، والجرائم وحتى الأمن النفسي لا يتحقق إِلاّ عندما يسود المجتمع مبدآن معاً: الإِيمان والعدالة الإِجتماعية، فإِذا ما تزلزلت قاعدة الإِيمان بالله، وزال الشعور بالمسؤولية أمام الله، وحل الظلم محل العدالة الإِجتماعية، فلن يكون في مثل هذا المجتمع أمان. لذلك فعلى الرغم من

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان في تفسير الآية.

2 ـ المصدر السابق.

[359]

المساعي والجهود التي يبذلها فريق من العلماء في العالم للحيلولة دون إِنعدام الأمن، فإِنّ الهوة بين العالم وحالة الأمن والإِستقرار تتسع يوماً بعد يوم إِنّ السبب هو ما جاء في الآية المذكورة: تزلزل أركان الإِيمان، وقيام الظلم مقام العدالة.

إِنّ تأثير الإِيمان في الإِطمئنان النفسي والهدوء الروحي لا يمكن إِنكاره، كما لا تخفى على أحد حالات تبكيت الضمير والقلق النفسي بسبب إِرتكاب المظالم.

روي عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم) قال: «بما جاء به محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) من الولاية، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان»(1).

هذا التّفسير يستهدف ـ في الحقيقة ـ بيان روح الموضوع في الآية الشريفة، إِذ أنّ الكلام يدور حول ولاية الله وعدم خلطها بولاية غيره، ولما كانت ولاية أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بموجب (إِنّما وليكم الله ورسوله ...) قبساً من ولاية الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) والولايات غير المعينة من قبل الله ليست كذلك، فإِنّ هذه الآية من خلال نظرة واسعة تشمل الجميع، وعليه ليس المقصود من هذا الحديث أن ينحصر معنى الآية في هذا فقط، بل إِنّ هذا التّفسير قبس من مفهوم الآية الأصلي.

لذلك نجد في حديث آخر عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه جعل هذه الآية تشمل الخوارج الذين خرجوا من ولاية الله ودخلوا في ولاية الشيطان(2).

الآية التّالية فيها إِشارة إِجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة الشرك كما جاء في لسان إِبراهيم: فتقول:(وتلك حجّتنا آتيناها إِبراهيم على قومه).

صحيح أنّ تلك الاستدلالات كانت منطقية توصّل إِليها إِبراهيم بقوّة العقل

_____________________________

1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 740.

2 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 538.

[360]

والإِلهام الفطري غير أن قوة العقل والإِلهام الفطري من الله، لذلك فإِنّ الله ينسبها إِلى نفسه ويوقعها في القلوب المستعدة كقلب إِبراهيم(عليه السلام).

ومن الجدير بالملاحظة أنّ «تلك» اسم إِشارة للبعيد، غير أنّها تستعمل أحياناً للقريب للدلالة على أهمية المشار إِليه وعلو مقامه، مثل ذلك ما جاء في أوّل سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه).

ثمّ تقول الآية: (نرفع درجات من نشاء)(1) ولكيلا يخامر بعضهم الشك في أنّ الله يحابي في إِعطاء الدرجات لمن يشاء، تقول: إِن الله متصف بالحكمة وبالعلم، فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك: (إِنّ ربّكم حكيم عليم).

* * *

_____________________________

1 ـ أنظر المجلد الثّالث، تفسير الآية (145) من سورة النساء لمعرفة الفرق بين «الدرجة» و«الدرك».

[361]

الآيات

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَـنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَـرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُْمحْسِنِينَ(84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَآسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّـلِحِينَ(85) وَإِسْمَـعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـلَمِينَ(86) وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـتِهِمْ وَإِخْوَنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَـهُمْ وَهَدَيْنَـهُمْ إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم(87)

التّفسير

في هذه الآيات إِشارة إِلى النعم التي اسبغها الله على إِبراهيم، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة، وهي من النعم الإِلهية العظيمة.

يقول سبحانه: (ووهبنا له إِسحاق ويعقوب) ولم تذكر الآية ابن إِبراهيم الآخر إِسماعيل، بل ورد اسمه خلال حديث آية تالية، ولعل السبب يعود إِلى أنّ ولادة إِسحاق من (سارة) العقيم العجوز تعتبر نعمة عجيبة وغير متوقعة.

ثمّ يبيّن أنّ مكانة هذين لم تكن لمجرّد كونهما ولدي نبي، بل لإِشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح: (كلاًّ هدينا).

[362]

ثمّ لكيلا يتصور أحد أنه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إِبراهيم، وأنّ التوحيد بدأ بإِبراهيم، يقول: (ونوحاً هدينا من قبل).

إِنّنا نعلم أن نوحاً هو أوّل أُولي العزم من الأنبياء الذين جاؤوا بدين وبشريعة.

فالإِشارة إلى مكانة نوح، وهو من أجداد إبراهيم، والإِشارة إِلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته، إِنّما هي توكيد لمكانة إِبراهيم المتميزة من حيث «الوراثة والأصل» و«الذّرية».

وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من أُسرة إِبراهيم: (ومن ذريّته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون)، ثمّ يبيّن أن منزلة هؤلاء ناشئة من أعمالهم الصالحة وهم لذلك ينالون جزاءهم: (وكذلك نجزي المحسنين).

هناك كلام كثير بين المفسّرين بشأن الضمير في (ومن ذرّيته) هل يعود إِلى إِبراهيم، أم إِلى نوح؟ غير أنّ أغلبهم يرجعه إِلى إِبراهيم، والظاهر أنّه لا مجال للشك في عودة الضمير إِلى إِبراهيم، لأنّ الكلام يدور على ما وهبه الله لإِبراهيم، لا لنوح(عليهما السلام)، كما أنّ الرّوايات التي سوف نذكرها تؤيد هذا الرأي.

النقطة الوحيدة التي حدت ببعض المفسّرين إِلى إِرجاع الضمير إِلى نوح هي ورود ذكر «يونس» و«لوط» في الآيات التّالية، إِذ المشهور في التّأريخ أنّ «يونس» لم يكن من أبناء إِبراهيم، كما أنّ «لوطاً» كان ابن أخي إِبراهيم أو ابن أُخته.

غير أنّ المؤرخين ليسوا مجمعين على نسب «يونس»، فبعضهم يراه من أُسرة إِبراهيم(1) وآخرون يرونه من أنبياء بني إِسرائيل(2).

ثمّ إِنّ الجاري عند المؤرخين أن يحفظوا النسب من جهة الأب، ولكن ما

_____________________________

1 ـ تفسير الآلوسي، ج 7، ص 184.

2 ـ دائرة المعارف فريد وجدي، ج 10، ص 1055 في مادة «يونس».

[363]

الذي يمنع من أن ينتسب «يونس» من جهة أُمّه إِلى إِبراهيم، كما هي الحال بالنسبة إِلى عيسى الذين نقرأ اسمه في الآيات؟

أمّا «لوط» فهو، وإِن لم يكن من أبناء إِبراهيم، فقد كان من أُسرته، فالعرب تطلق لفظة «لأب» على «العم»، وكذلك تعتبر ابن الأخ أو ابن الأُخت من «ذرية» المرء. وعلى هذا ليس لنا أن نتغاضى من ظاهر هذه الآيات فنعيد الضمير إِلى نوح، وهو ليس موضوع القول هنا.

في الآية الثانية يرد ذكر زكريا ويحيى وعيسى والياس على أنّهم جميعاً كانوا من الصالحين، أي أنّ مكانتهم المرموقة ليست من باب المجاملة الإِجبارية، بل هي بسبب أعمالهم الصالحة في سبيل الله: (وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين).

الآية الثالثة تذكر أربعة آخرين من الأنبياء والقادة الإِلهيين، وهم إِسماعيل واليسع ويونس ولوط الذين رفعهم ربّهم درجات على أهل زمانهم: (وإِسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاًّ فضلنا على العالمين).

لم يتفق المفسّرون بشأن اسم «اليسع» فقد قال بعض: إِنّه اسم عبري أصله «يوشع» ثمّ أُضيفت إِليه الألف وللام وأبدلت الشين سيناً، وبعض يرى أنّه اسم عربي من الفعل المضارع «يسع» وعلى كل حال هو اسم أحد الأنبياء من نسل إِبراهيم.

وفي الآية الأخيرة إِشارة عامّة إِلى آباء الأنبياء المذكورين وأبنائهم وإِخوانهم ممن لم ترد أسماؤهم بالتفصيل وهم جميعاً من الصالحين الذين هداهم الله: (ومن أبائهم وذرياتهم وإِخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلى صراط مستقيم).

* * *

[364]

ملاحظات

هنا لابدّ من الإِشارة إِلى بعض النقاط:

1 ـ أبناء النّبي:

في هذه الآيات اعتبر عيسى من أبناء إِبراهيم (وباحتمال من أبناء نوح) مع انّنا نعلم أنّ اتصاله بهما إِنّما هو من جهة الأُم، وهذا دليل على أنّ سلسلة النسب تتقدم من جهة الأب والأُم تقدماً متساوياً، ولذلك فإِنّ الأحفاد من الابن أو البنت هم ذرية المرء وأولاده.

وعلى هذا فإِنّ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وهو جميعاً من أحفاد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من ابنته يعتبرون أبناء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

إِنّ جاهلية ما قبل الإِسلام لم تكن تعترف للمرأة بأية مكانة أو قيمة، وكان النسب عندهم ما اتصل من جهة الأب فقط، غير أنّ الإِسلام أبطل هذه العادة الجاهلية، ومن المؤسف أنّ بعض أصحاب الأقلام الذين في نفوسهم شيء تجاه أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، سعوا إِلى إِنكار هذا الموضوع، وحاولوا العودة إِلى الجاهلية بالإِمتناع عن نسبة أبناء فاطمة إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ورفضوا اطلاق عبارة «ابن رسول الله» عليهم إِحياء للتقاليد الجاهلية.

هذا الموضوع نفسه كان قد عرض للمناقشة على عهود الأئمّة، فكانوا يجيبونهم بهذه الآية باعتبارها الدليل الدامغ والردّ الحاسم على ما يفترون.

من ذلك ما جاء في «الكافي» وفي تفسير العياشي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إِلى إِبراهيم(عليه السلام) من قبل النساء ثمّ تلا: (ومن ذريّته داود وسليمان ...) إِلى آخر الآيتين، وذكر عيسى.

وفي تفسير العياشي عن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إِلى يحيى بن معمر قال: بلغني أنّك تزعم أنّ الحسن والحسين من ذرية النّبي تجدونه في كتاب الله، وقد قرأت كتاب الله من أوّله إِلى آخره فلم أجده، قال: أليس تقرأ سورة الأنعام:

]365]

(ومن ذريته داود وسليمان) حتى بلغ (يحيى وعيسى) أليس عيسى من ذرية إِبراهيم وليس له أب؟ قال: صدقت.

وفي (عيون أخبار الرضا) في باب جمل من أخبار موسى بن جعفر(عليه السلام) مع هارون الرشيد ومع موسى بن المهدي حديث طويل بينه وبين هارون وفيه ... ثمّ قال: كيف قلتم: إنّا ذريّة النّبي، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعقب، وإِنّما العقب للذكر، لا للأُنثى وأنتم ولد لابنته، ولا يكون لها عقب، فقلت: «أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إِلاّ ما اعفيتني من هذه المسألة» فقال: لا، أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وإِمام زمانهم، كذا أنهى إِلي، وليست أُعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنّه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف ولا واو، إِلاّ تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم، فقلت: «تأذن لي في الجواب؟» قال: هات، فقلت: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (ومن ذريّته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى)» من أبو عيسى يا أميرالمؤمنين؟ قال: ليس لعيسى أب، فقلت: «إنّما الحق بذراري الأنبياء من طريق مريم(عليها السلام)، وكذلك ألحقنا بذراري النّبي من قبل أُمنا فاطمة(عليها السلام)»(1).

يلفت النظر أنّ بعض المتعصبين من أهل السنة تطرقوا إِلى هذا الموضوع عند تفسيرهم لهذه الآية، منهم الفخر الرازي في تفسيره حيث استدل بها أن الحسن والحسين من ذرية النّبي، لأنّ الله ذكر عيسى من ذرية إِبراهيم مع أنّه يرتبط به عن طريق الأُم فقط(2).

وصاحب المنار الذي لا يقل تعصباً عن الفخر الرازي يقول: بعد أن ينقل

_____________________________

1 ـ تفسير (نور الثقلين)، ج 1، ص 743.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 13، ص 66.

[366]

كلام الرازي، أنّ في هذا الباب حديثاً كره البخاري في صحيحه عن أبي بكر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال مشيراً إِلى الحسن بن علي(عليه السلام): «اّن ابني هذا سيد» بينما كانت لفظة (ابن) عند عرب الجاهلية لا تطلق على ابن البنت ... ثمّ يضيف، لهذا السبب، اعتبر الناس أولاد فاطمة أولاد رسول الله وعترته وأهل بيته.

لا شك أنّ أبناء البنت وأبناء الابن هم أبناء المرء ولا فرق بينهما، ولا هي قضية اختص بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، وما سبب الإِعتراض على هذا إِلاّ التعصب وإِلاّ التمسك بالأفكار الجاهلية، ولهذا نجد جميع التشريعات الإِسلامية، كالزواج والإرث، لا تفرق بينهما، إِنّ الإِستثناء الوحيد في هذا الباب هو في موضوع الخمس الذي ورد في كتب الفقه، حيث جعل لمن تحصل فيه عنوان السيادة.

2 ـ لماذا وردت أسماء الأنبياء في ثلاث مجموعات في ثلاث آيات؟

يحتمل بعض المفسّرين أنّ المجموعة الأُولى: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون هؤلاء الستة، كانوا بالإِضافة إِلى نبوتهم يمسكون بيدهم القيادة وزمان الحكم، ولعل ورود (كذلك نجزي المحسنين) إِشارة الى الأعمال الصالحة التي قاموا بها أثناء حكمهم.

أمّا المجموعة الثّانية: زكريا ويحيى وعيسى والياس، فهم بالإضافة إِلى نبوتهم كانوا معروفين بالزهد وإِعتزال الدنيا، فجاء تعبير: (كل من الصالحين) بعد ذكر أسمائهم.

والمجموعة الثّالثة: إِسماعيل واليسع ويونس ولوط، فهم يشتركون في كونهم قاموا برحلات طويلة وهاجروا في سبيل نشر دعوة الله، وعبارة (كلا فضلنا على العالمين) (إِذ اعتبرنا الإِشارة إِلى هؤلاء الأربعة، لا لجميع من ورد ذكرهم في هذه الآيات الثلاث) تعتبر إِشارة إِلى هجرة هؤلاء في أرجاء الأرض وبين الأقوام المختلفة.

[367]

3 ـ أهمية الأبناء الصالحين في تعريف شخصية الإِنسان:

وهذا موضوع آخر يستنتج من هذه الآيات، فلإِضفاء الأهمية على شخصية إِبراهيم(عليه السلام) بطل تحطيم الأصنام، يشير الله إِلى شخصيات إِنسانية عظيمة كانوا من ذريّته في العصور المختلفة، ويصفهم بصفات جليلة، بحيث نجد من بين مجموع خمسة وعشرين نبيّاً ورد ذكرهم في القرآن، ستة عشر منهم من ذرية إِبراهيم، وواحداً من أجداده، وهذا في الواقع درس كبير للمسلمين كافة لكي يدركوا أنّ أبناءهم جزء من كيانهم وشخصيتهم، وأنّ لقضاياهم التربوية والإِنسان أهمية كبيرة جداً.

4 ـ جواب على إعتراض:

لعل الذين يقرأون: (ومن آبائهم وذرياتهم وإِخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلى صراط مستقيم) يستنتجون أنّ آباء الإنبياء لم يكونوا جميعاً من المؤمنين وأنّ منهم من لم يكن موحداً، كما يقول بعض المفسّرين من أهل السنة عند تفسير هذه الآية، ولكنّنا يجب أن نلاحظ أنّ تعبير (اجتبيناهم وهديناهم)بالقرينة الموجودة في هذه الآيات تعني مقام النبوة وحمل الرسالة، وبهذا يتهاوى الإِعتراض، أي أنّ معنى هذه الآية سيكون هكذا: إِنّنا قد اخترنا بعضاً منهم لمقام النبوة، وهذا لا يعني أنّ الآخرين لم يكونوا موحدين وفي الآية (90) من هذه السورة وردت لفظة «الهداية» بمعنى النبوة(1).

* * *

_____________________________

1 ـ «من آبائهم» جار و مجرور متعلقان أمّا بجملة «فضلنا» الواردة في الآية السابقة أو بمحذوف تفسره الجملة التّالية فيكون الأصل «إجتبينا من آبائهم» ينبغي الإلتفات إِلى أن «من» في الآية تبعيضية حسب الظاهر.

[368]

الآيات

ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(88) أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَـفِرِينَ(89) أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَـلَمِينَ(90)

التّفسير

ثلاثة إِمتيازات مهمّة:

بعد ذكر مجموعات الأنبياء في الآيات السابقة، تتناول هذه الآيات الخطوط العامّة لحياتهم، وتبدأ القول: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده).

أي أنّ هؤلاء على الرغم من صلاحهم وإِسترشادهم بقوة العقل والفكر في سيرهم الحثيث على طريق الهداية، شملتهم عناية الهداية الإِلهية، وأخذت بأيديهم وإلاّ فاحتمال انحرافهم وانحراف كل انسان موجود دائماً.

ولكيلا يحسب البعض أنّ هؤلاء قد أجبروا على السير في هذا الطريق، أو

[369]

يظن أنّ الله ينظر إِلى هؤلاء نظرة خاصّة وإِستثنائية دونما سبب، يقول القرآن عنهم: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون).

فهم إِذن مشمولون بهذا القانون الإِلهي الذي يسري على غيرهم بغير محاباة.

الآية التّالية تشير إِلى ثلاثة إِمتيازات مهمّة هي أساس جميع إِمتيازات الأنبياء، وهي قوله: (أُولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوة).

ولا يعني هذا أنّهم جميعاً كانوا من أصحاب الكتب السماوية، ولكن الكلام يدور على المجموع، فنسب الكتاب إِلى المجموع أيضاً، وهذا كقولنا: الكتاب الفلاني ذكر العلماء وكتبهم، أي كتب من له تأليف منهم.

أمّا المقصود من «الحكم» فثمّة إِحتمالات ثلاثة:

1 ـ الحكم بمعنى «العقل والإِدراك»، أي: إنّنا فضلا عن إِنزال كتاب سماوي عليهم فقد وهبناهم القدرة على التعقل والفهم، إِذ أن وجود الكتاب بغير وجود القدرة على فهمه فهماً كاملا عميقاً لا جدوى فيه.

2 ـ بمعنى «القضاء» أي أنّهم بإِستنباط القوانين الإِلهية من تلك الكتب السماوية كانوا قادرين على أن يقضوا بين الناس بإِمتلاكهم لجميع شروط القاضي العادل.

3 ـ بمعنى «الحكومة» والإِمساك بزمان الإِدارة، بالإِضافة إِلى مقام النّبوة، إِنّ الدليل على المعاني المذكورة ـ بالإضافة إِلى المعنى اللغوي الذي ينطبق عليها ـ هو أنّ كلمة «الحكم» قد وردت بهذه المعاني نفسها أيضاً في آيات أُخرى من القرآن(1).

وليس ثمّة ما يمنع من أنّ يشمل استعمال الكلمة في هذه الآية المعاني الثلاثة مجتمعة، فالحكم أصلا ـ كما يقول «الراغب» في «مفرداته» هو المنع،

_____________________________

1 ـ جاءت في الآية (12) من سورة لقمان بمعنى العلم والفهم، وفي الآية (22) من سورة ص بمعنى القضاء، وفي الآية (26) من سورة الكهف بمعنى الحكومة.

[370]

ومن ذلك العقل الذي يمنع من وقوع الأخطاء والمخالفات، وكذلك القضاء الصحيح يمنع من وقوع الظلم، والحكومة العادلة تقف بوجه الحكومات غير العادلة، فهي قد استعملت في المعاني الثلاثة.

قلنا من قبل إِنّ جميع الأنبياء لم يكونوا يحظون بهذه الإِمتيازات كلها، وإِسناد حكم إِلى الجمع لا يعني شموله جميع أفراد ذلك الجمع، بل قد يكون لبعض أفراده، ومن ذلك مسألة إِيتاء الكتاب لهؤلاء الأنبياء.

ثمّ يقول: لئن رفضت هذه الجماعة (أي المشركون وأهل مكّة) تلك الحقائق، فإِن دعوتك لن تبقى بغير إِستجابة، إِذ إِنّنا قد أمرنا جمعاً آخر لا بقبولها فحسب، بل وبالحفاظ عليها فهم لا يسلكون طريق الكفر أبداً، بل يتبعون الحقّ: (فإِن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا قوماً ليسوا بها كافرين).

جاء في تفسير «المنار» وتفسير «روح المعاني» عن بعض المفسّرين أنّ المقصود بالقوم هم الفرس، وقد أسرعوا في قبول الإِسلام وجاهدوا في سبيل نشره، وظهر فيهم العلماء في شتى العلوم والفنون الإِسلامية وألفوا الكثير من الكتب(1).

الآية الأخيرة تجعل من منهاج هؤلاء الأنبياء العظام قدوة رفيعة للهداية تعرض على رسول لاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول له: (أُولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)(2).

تؤكّد هذه الآية مرّة أُخرى على أن أُصول الدعوة التي قام بها الأنبياء

_____________________________

1 ـ يحتمل أيضاً أن يكون المراد من «هؤلاء» هم الأنبياء أنفسهم، أي إِذا افترضنا المستحيل، وقلنا أنّ هؤلاء الأنبياء العظام تخلوا عن أداء الرسالة الإِلهية، فإنّ الرسالة كانت تواصل سيرها على أيدي قوم آخرين، هنالك تعبيرات مماثلة في القرآن، كما جاء في الآية (65) من سورة الزمر (لئن أشركت ليحبطن عملك).

2 ـ الهاء في «اقتده» ليست ضميراً، بل هي هاء السكت التي تلحق الكلمة المتحركة عند الوقف، مثل همزة الوصل التي يؤتى بها إذا كان حرف الإِبتداء في الكلمة ساكناً، وهي تسقط عند الوصل، مثل هاء السكت غير أنّ هذه الهاء بقيت في الكتابة القرآنية من باب الإِحتياط وارتوى الوقف هنا لكي تظهر هاء السكت.

[371]

واحدة، بالرغم من وجود بعض الإِختلافات الخاصّة والخصائص اللازمة التي تقتضيها الحاجة في كل زمان ومكان، وكل دين تال يكون أكمل من الدين السابق. بحيث تستمر مسيرة الدروس العلمية والتربوية حتى تصل إِلى المرحلة النهاية، أي الإِسلام.

ولكن ما المقصود من أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهتدي أُولئك الأنبياء؟

يقول بعض المفسّرين: إِنّ المقصود قد يكون هو الصبر وقوة التحمل والثبات في مواجهة المشاكل، ويقول بعض آخر إِنّه «التوحيد وإِبلاغ الرسالة» ولكن يبدو أنّ للهداية معنى واسعاً يشمل التوحيد وسائر الأُصول العقائدية، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الأُصول الأخلاقية والتربوية.

يتّضح ممّا سبق أنّ هذه الآية لا تتعارض مع القول بأنّ الإِسلام ناسخ الأديان والشرائع السابقة، إِذ أنّ النسخ إِنّما يشمل جانباً من أحكام تلك الشرائع لا الأُصول العامّة للدعوة.

ثمّ يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول للنّاس إِنّه مثل سائر الأنبياء لا يتقاضى أجراً لقاء عملية تبليغ الرسالة: (قل لا أسألكم عليه أجراً).

ليس الإِقتداء بالأِنبياء وبسنتهم الخالدة هو وحده الذي يوجب عليّ عدم طلب الأجر، بل أنّ هذا الدين الطاهر الذي جئتكم به وديعة إِلهية أضعها بين أيديكم، وطلب الأجر على ذلك لا معنى له.

ثمّ إِنّ هذا القرآن وهذه الرسالة والهداية إنْ هي إِلاّ إِيقاظ وتوعية للناس جميعاً: (إن هو إِلاّ ذكرى للعالمين).

إِنّ النعم العامّة الشاملة مثل نور الشمس والهواء والأمطار هي أُمور عامّة وعالمية، لا تباع ولا تشترى، ولا أجر يعطى لقاءها، هذه الهداية أو الرسالة ليست خاصّة ومقصورة على بعض دون بعض حتى يمكن طلب الأجر عليها، (ممّا قيل في تفسير هذه العبارة يتضح الترابط بينها وبين عبارات الآية الأُخرى، وبين ما

[372]

سبقها من آيات).

كما يتّضح من هذه الآية الأخيرة أنّ الدين الإِسلامي ليس قومياً ولا إِقليمياً، وإِنّما هو دين عالمي عام.

* * *

[373]

الآية

وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَر مِّن شَىْء قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـبَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91)

سبب النّزول

الغافلون عن الله:

روي عن ابن عباس أنّ جمعاً من اليهود قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمّد أحقاً أنزل الله عليك كتاباً؟ فقال: نعم، فقالوا: قسماً بالله إِنّه لم ينزل عليك كتاباً من السماء(1).

هنالك أقوال أُخرى في سبب نزول هذه الآية، ولكنّنا سنعرف فيما بعد أنّ ما قلناه أقرب وأنسب.

_____________________________

1 ـ تفاسير مجمع البيان وأبي الفتوح الرازي والمنار في تفسير الآية.

[374]

التّفسير

يختلف المفسّرون حول كون هذه الآية واردة بشأن اليهود أو المشركين، ولمّا لم تكن لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مباحثات مع اليهود في مكّة، بل بدأت في المدينة، وهذا السورة مكّية، لذلك يرى بعضهم أنّ هذه الآية قد نزلت في المدينة، إِلاّ أنّها وضعت في هذه السّورة المكية بأمر من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا في القرآن ما يشابهه.

لإِتضاح الحقيقة يجب أن نتعرف أوّلا على تفسير الآية الإِجمالي، ثمّ نبحث عمن تتحدث عنه الآية، وعمّا تستهدفه.

في البداية تقول الآية: إِنّهم لم يعرفوا الله معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب سماوي على أحد: (وما قدروا الله حق قدره إِذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء).

فيأمر الله رسوله أن (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس).

ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة، تظهرون منه ما ينفعكم وتخفون ما تظنونه يضرّكم: (تجعلونه في قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً).

إِنّكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي أُموراً كثيرة لم تكونوا أنتم ولا أباؤكم تعلمون عنها شيئاً: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم).

وفي ختام الآية يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر الله وأن يترك أُولئك في أباطيلهم وعنادهم ولعبهم: (قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون).

إِذا كانت هذه الآية قد نزلت في المدينة وكان اليهود هم المعنيين بها، يكون المعنى أنّ جمعاً من اليهود كانوا ينكرون نزول كتاب سماوي على الأنبياء.

ولكن هل يمكن أن ينكر اليهود ـ اتباع التّوراة ـ نزول كتاب سماوي؟ نعم، وسيزول عجبك إِذا علمت المسألة التّالية: لو أمعنا النظر في العهد الجديد

[375]

(الأنجيل) والعهد القديم (التّوراة والكتب الملحقة بها) نجد أنّ كل هذه الكتب تفتقر إِلى المسحة السماوية، أي أنّها ليست خطاباً موجهاً من الله إِلى البشر، بل إِنّها مقولات وردت على ألسنة تلامذة موسى والمسيح(عليهما السلام) وأتباعهما على شكل سرد لحوادث تاريخية وسير، والظاهر أنّ اليهود والمسيحيين اليوم لا ينكرون ذلك، إِذ أنّ حكاية موت موسى وعيسى وحوادث كثيرة أُخرى وقعت بعدهما وردت في هذه الكتب، لا باعتبارها تنبؤات عن المستقبل، بل سرداً لحوادث ماضية، فهل يمكن لكتب مثل هذه أن تكون قد نزلت على موسى وعيسى؟!

كل ما في الأمر أنّ المسيحيين واليهود يعتقدون أنّ هذه الكتب قد كتبت بأيدي أُناس عندهم أخبار عن الوحي، فاعتبروها كتباً مقدسة خالية من الخطأ ويمكن الإِعتماد عليها.

بناء على هذا يتضح لنا لماذا كان هؤلاء ينتابهم العجب لدى سماعهم أُسلوب القرآن بشكل خطاب من الله إِلى النّبي وإِلى عباد الله؟ وكما قرأنا في سبب نزول هذه الآية فإِنّهم قد انتابهم العجب فسألوا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إِن كان الله قد أنزل عليه ـ حقاً ـ كتاب، ثمّ أنكروا هذا الأمر كلياً ونفوا أن يكون أي كتاب قد نزل على أحد، حتى على موسى.

غير أنّ الله يردّ عليهم قائلا: إِنّكم ـ أنفسكم ـ تعتقدون أن ألواحاً ومواضيع قد نزلت على موسى، أي إنّ الكتاب الذي بين أيديكم وان لم يكن كتاباً سماوياً إلاّ أنّكم تؤمنون ـ على الأقل ـ بأنّ شيئاً مثل هذا قد نزل من قبل الله، وأنتم تظهرون قسماً منه وتخفون كثيراً منه: وعلى ذلك فلا يبقى مجال للشك في إِمكان إِنكار اليهود نزول كتاب سماوي.

أمّا إِذا كانت الآية كسائر آيات هذه السّورة تخصّ المشركين، فيكون المعنى أنّهم أنكروا نزول أي كتاب سماوي لانكار ونفي دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الله يبيّن

[376]

لهم منطقياً أنّهم لا يستطيعون إِنكار ذلك كلياً بالنظر لنزول التّوراة على موسى، وأنّ المشركين ـ وإِن لم يدينوا بدين اليهود ـ كانوا يعتبرون الأنبياء السابقين وإِبراهيم ـ وموسى أيضاً على أقوى احتمال ـ أنبياء في عصورهم وأقاليمهم، لذلك فهم عند ظهور نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) لجأوا إِلى أهل الكتاب يبحثون عندهم في كتبهم عن إِمارات ودلائل تتنبأ بظهور هذا النّبي، فلو لم يكونوا يؤمنون بأنّ تلك الكتب نازلة من السماء، لما لجأوا إِليها يطلبون ما طلبوا، لذلك فهم بعد أن سألوا اليهود، أظهروا ما كانت فيه مصلحتهم، وأخفوا ما عداه (كعلامات ظهور النّبي الجديد المذكورة في تلك الكتب)، وعلى هذا يمكن تطبيق هذه الآية على أقوال مشركي مكّة أيضاً.

لكن التّفسير الأوّل أقرب إِلى سياق الآية وسبب النّزول وما فيها من ضمائر.

ملاحظات

هنا لابدّ من الإِشارة إِلى بضع نقاط:

1 ـ «قراطيس» جمع «قرطاس» من أصل يوناني حسب قول بعضهم، وهو «ما يكتب فيه» كما يقول «الراغب» في «مفرداته» وبناءاً على ذلك فإِن الورق العادي وجلود الحيوانات والأشجار وأمثالها التي كانت تستخدم في الكتابة قدمياً، تنضوي تحت هذه الكلمة.

2 ـ قد يسأل سائل: لماذا تذم الآية اليهود كتابتهم الوحي الإِلهي على القراطيس، وهل في تلك ما يوجب الذم؟

وجواباً على ذلك نقول: إِنّ الذم لم يكن لهذا السبب، إِنّما السبب هو أنّهم كتبوه على قراطيس متفرقة بحيث يمكنهم أن يظهروا منه ما تقتضيه منافعهم، وأن يخفوا ما يؤدي إِلى ضررهم.

3 ـ إِنّ عبارة (وما قدروا الله حق قدره) في الواقع إِشارة إِلى أنّ من يعرف

[377]

الله معرفة صحيحة لا يمكن أن ينكر إِرساله الهداة والمرشدين ومعهم الكتب السماوية إِلى البشر، لأنّ حكمة الله توجب:

أوّلا: أن يعين الإِنسان في مسيرته المليئة بالمنعطفات لبلوغ هدفه التكاملي الذي خلق من أجله وإِلاّ انتقض الهدف من الخلقة، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه بغير الوحي والكتب السماوية والتعاليم السليمة من كل خطأ وسهو.

ثانياً: كيف يمكن لربوبية الله ذات الرحمة العامّة والخاصّة أن تترك الإِنسان وحيداً في طريق سعادته المليء بمختلف الموانع والعقبات والمتاهات، فلا يرسل إِليه قائداً ومرشداً يحمل التعاليم الشاملة للأخذ بيده وتوجيهه، وعليه فإِن حكمته ورحمته توجبان إِسال الرسل وإِنزال الكتب السماوية.

لا شك أن معرفة حقيقة الذات الالهية المقدسة وكنه صفاته غير ممكنة، وهذه الآية لا تقصد هذا الحدّ من معرفة الله، وإِنّما تريد أن تقول: لو حصل الإِنسان على المقدار الميسور من معرفة الله فلا يبقي شك بأنّ مثل هذا الربّ لا يمكن أن يترك عباده بدون هاد ودليل وكتاب سماوي.

* * *

[378]

الآية

وَهَـذَا كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ(92)

التّفسير

تعقيباً على البحث الذي دار في الآيات السابقة حول كتاب اليهود السماوي، تشير هذه الآية إِلى القرآن باعتباره كتاباً سماوياً آخر، والواقع أنّ ذكر التّوراة مقدمة لذكر القرآن لإزالة كل عجب وتخوف من نزول كتاب سماوي على فرد من البشر، فتبدأ بالقول: (وهذا كتاب أنزلناه) وهو كتاب «مبارك» لأنّه مصدر كل خير وبركة وصلاح وتقدم، ثمّ إِنّه يؤكّد الكتب التي نزلت قبله: (مصدق الذي بين يديه)، والمقصود من أنّ القرآن يصدق الكتب التي بين يديه هو أنّ جميع الإِشارات والإِمارات التي وردت فيها تنطبق عليه.

وهكذا نجد علامتين على أحقّية القرآن وردتا في عبارتين: الأُولى: وجود علامات في الكتب السابقة تخبر عنه، والثّانية: محتوى القرآن نفسه الذي يضم كل خير وبركة وسعادة، وبناءاً على ذلك فصدق القرآن يتجلى في محتواه من جهة، وفي المستندات التّأريخية من جهة أُخرى.

[379]

ثمّ يبيّن القرآن هدف نزوله وهو توجيه الإِنذار والتحذير لأُم القرى (مكّة) والساكنين حولها وتنبيههم إِلى مسؤولياتهم وواجباتهم: (ولتنذر أُم القرى ومن حولها)(1).

«الإِنذار» اخبار فيه تخويف من ترك الواجبات والمسؤوليات وهذا من أهم أهداف القرآن، خاصّة بالنسبة للطغاة المعاندين.

وفي الختام تقرر الآية أنّ الذين يعتقدون بيوم القيامة، يوم الحساب والجزاء، سيصدقون بهذا الكتاب، ويؤدون فريضة الصّلاة ولا يفرطون فيها: (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون).

* * *

بحوث

نلفت الإِنتباه هنا إِلى النقاط التّالية:

1 ـ الإِسلام دين عالمي

تبيّن آيات القرآن المختلفة بما لا يدع مجالا للشك أنّ الإِسلام دين عالمي، من ذلك: (لأنذركم به ومن بلغ)(2)و (إِنّ هو إِلاّ ذكر للعالمين)(3). و(وقل يا أيّها الناس إِنّي رسول الله إِليكم جميعاً)(4) وغيرها كثير في القرآن، ولكلّها تؤكّد هذه الحقيقة، وإنّه لمما يثير الإِنتباه أنّ معظم هذه الآيات قد نزلت في مكّة يوم لم يكن الإِسلام قد تخطى حدود تلك المدينة.

ولكن فيما يخص الآية التي نحن بصددها، يظهر لنا السؤال التالي: إنّ الآية

_____________________________

1 ـ يختلف المفسّرون في الجملة التي يمكن أن نعطف عليها جملة «ولتنذر» ولعلها معطوفة على جملة محذوفة بمعنى «لتبشر» أو مثلها.

2 ـ الأنعام، 19.

3 ـ الأنعام، 90.

4 ـ الأعراف، 158.

[380]

توجه الإنذار والهداية إلى اُم القرى ومن حولها، فكيف ينسجم هذا مع القول بأنّ الإِسلام عالمي؟

في الحقيقة أنّ هذا الإِعتراض جاء أيضاً على لسان اليهود وغيرهم من أتباع الأديان الأُخرى ظانين أنّهم قد أصابوا من عالمية الإِسلام مقتلا، باعتبار أنّ الآية تحدد مكانه بمنطقة خاصّة هي مكّة وأطرافها(1).

الجواب:

يتّضح الجواب من هذا الإِعتراض بالإِنتباه إِلى نقطتين، بحيث ندرك أنّ هذه الآية، فضلا عن كونها لا تتعارض مع عالمية الإِسلام، هي واحد من أدلة عالميته أيضاً:

القرية بلغة القرآن اسم لكل موضع يجتمع فيه الناس، سواء كان مدينة كبيرة أُم قرية صغيرة، ففي سورة يوسف ـ مثلا ـ جاء على لسان اخوة يوسف يخاطبون أباهم: (واسأل القرية التي كنا فيها)(2) ونحن نعلم أنّهم كانوا قد رجعوا لتوهم من عاصمة مصر حيث حجز عزيز مصر أخاهم (بنيامين) كذلك نقرأ: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)(3). بديهي أنّ المقصود هنا ليس القرى في الأرياف، بل هو كل منطقة مسكونة في العالم.

ومن جهة أُخرى هناك روايات عديدة تقول: إِنّ اليابسة قد انتشرت من تحت الكعبة، وهو ما أطلق عليه اسم «دحو الأرض».

كما أنّنا نعلم أنّه في البداية هطلت أمطار غزيرة فغطّى الماء الكرة الأرضية برمتها، ثمّ غاض الماء شيئاً فشيئاً واستقر في المنخفضات، وظهرت اليابسة من

_____________________________

1 ـ ورد اعتراض بعض المستشرقين بهذا الشأن ذكره صاحب المنار، ج 7، ص 621، وفي تفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 305.

2 ـ يوسف، 82.

3 ـ الأعراف، 96.

[381]

تحت الماء، وكانت مكّة أوّل نقطة يابسة ظهرت من تحت الماء، حسب الأحاديث الإِسلامية.

وكون مكّة ليست أعلى مكان على الكرة الأرضية في الوقت الحاضر، لا يتعارض أبداً مع هذا القول، لأن مئات الملايين من السنين تفصلنا اليوم عن ذاك الزمان، وقد حدثت خلال ذلك تغيرات جغرافية بدلت وجه الأرض كلياً، فبعض الجبال هبطت إِلى أعماق البحار، وبعض أعماق البحار ارتفع فصار جبلا، وهذا ثابت في علم التضاريس الأرضية والجغرافية الطبيعية.

أمّا كلمة «أُم» فتعني ـ كما سبق أن قلنا ـ الأصل والأساس والمبدأ لكل شيء.

من كل هذا يتبيّن أنه إِذا أطلق مكّة اسم «أُم القرى» فذلك يستند إِلى أنّها كانت مبدأ ظهور اليابسة على الأرض، «ومن حولها» أي جميع الناس الذين يسكنون الأرض برمتها.

وهذا ما تؤيده الآيات الأُخرى التي تؤكّد عالمية الاسلام، وكذلك الرسائل الكثيرة التي بعث بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى رؤساء العالم، مثل كسرى وقيصر، وقد جاء شرح ذلك في المجلد الثاني من هذا التّفسير.

2 ـ العلاقة بين الإِيمان بالقرآن والإِيمان بالآخرة

تبيّن هذه الآية: إِنّ الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون أيضاً بالقرآن، أي أنّهم يعلمون أن هذه الدنيا ما هي إِلاّ مقدمة لعالم الآخرة، وانّها أشبه بالمزرعة أو المدرسة أو المتجر، والوصول إِلى ذلك الهدف الرفيع والإِستعداد لذلك اليوم لا يكون إِلاّ عن طريق مجموعة من القوانين والمناهج والدساتير وإِرسال الأنبياء.

بعبارة أُخرى، إِنّ الله قد أرسل الإِنسان إِلى هذه الحياة ليطوي مسيرته التكاملية وليصل إِلى مستقره الأصلي في العالم الآخر، وهذا الغرض ينتقض إِذا

[382]

لم يرسل إِليه الأنبياء والكتب السماوية، من هنا يمكن أن نستنتج من الإِيمان بالله والمعاد، الإيمان بنبوة الأنبياء والكتب السماوية (تأمل بدقّة).

3 ـ أهمية الصّلاة

نلاحظ في هذه الآية أنّها تشير إِلى الصّلاة من بين جميع الفرائض الدينية، ونعلم أنّ الصّلاة هي مظهر الإِرتباط بالله، ولذلك كانت أرفع من جميع العبادات منزلة، ويرى بعضهم أنّه عند نزول هذه الآية كانت العبادة الوحيدة المفروضة حتى ذلك الوقت هي الصّلاة(1).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير المنار، ج 7، ص 622.

[383]

الآية

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّـلِمُونَ فِى غَمَرَتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَـتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ(93)

سبب النّزول

ثمّة روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية وردت في كتب الحديث والتّفسير، من ذلك أنّ الآية نزلت بشأن شخص يسمى «عبد الله بن سعد» من كتاب الوحي، ثمّ خان فطرده رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فراح يزعم أنّه قادر على قول مثل آيات القرآن، يقول جمع آخر من المفسّرين أنّ الآية، أو قسماً منها، نزلت بحق «مسيلمة الكذاب» الذي إدعى النبوة، ولكن بالنظر لأنّ مسيلمة الكذاب ظهر في أواخر حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه السورة مكّية، فإنّ مؤيدي هذا التّفسير يقولون: إِنّ هذه الآية نزلت في المدينة، ثمّ أُدخلت ضمن هذه السورة بأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

[384]

على كل حال هذه الآية، مثل سائر آيات القرآن، نزلت في ظروف خاصّة، وهي ذات محتوى عام يشمل كل من إدعى النبوة وأمثالهم.

التّفسير

في الآيات السابقة مرّت الإِشارة إِلى مزاعم اليهود الذين أنكروا نزول أي كتاب سماوي على أحد، وفي هذه الآية يدور الكلام على اشخاص آخرين يقفون على الطرف المعاكس تماماً لأولئك، فيزعمون كذباً أن الوحي ينزل عليهم.

وتتناول الآية ثلاث جماعات من هؤلاء بالبحث، ففي البداية تقول: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً).

والجماعة الثّانية هم الذين يدعون النّبوة ونزول الوحي عليهم، فلا هم أنبياء، ولا نزل عليهم وحي: (أو قال أوحي إِليّ ولم يوح إليه شيء).

والجماعة الثّالثة هم الذين أنكروا نبوة نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو زعموا ساخرين أنّهم يستطيعون أنّ يأتوا بمثل آيات القرآن، وهم في ذلك كاذبون ولا قدرة لهم على ذلك: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله).

نعم، هؤلاء كلّهم ظالمون، بل أظلم الظالمين، لأنّهم يغلقون طريق الحق بوجه عباد الله ويضلونهم في متاهات الضلال حائرين، ويحاربون قادة الحق، فهم ضالون مضلون، فمن أظلم ممن يدعي لنفسه القيادة الإِلهية وليست لديه صلاحية مثل هذا المقام.

على الرغم من أنّ الآية تخصّ أدعياء النبوة والوحي، إِلاّ أنّ روحها تشمل كل من يدعي كذباً لنفسه مكانة ليس أهلا لها.

ثمّ تبيّن العقاب الأليم الذي ينتظر أمثال هؤلاء فتقول: (ولو ترى إِذ

[385]

الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم)(1) أي لو أنك ـ أيّها النّبي ـ رأيت هؤلاء الظالمين وهم يمرون بشدائد الموت والنزع الأخير، وملائكة قبض الأرواح مادين أيديهم نحوهم ويقولون لهم: هيا أخرجوا أرواحكم، لأدركت العذاب الذي ينزل بهم.

عندئذ تخبرهم ملائكة العذاب بأنّهم سينالون اليوم عذاباً مذلا لأمرين: الأوّل: إنّهم كذبوا على الله، والآخر، إنّهم لم ينصاعوا لآياته: (اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون).

* * *

ملاحظات

ينبغي هنا ملاحظة النقاط التّالية:

1 ـ تعتبر الآية أدعياء النبوة والقادة المزيفين من أشد الظالمين، بل لا ظلم أشدّ من ظلمهم، لأنّهم يسرقون أفكار الناس ويهدمون عقائدهم ويغلقون بوجوههم أبواب السعادة ويحيلونهم إِلى مستعمرين فكرياً لهم.

2 ـ جملة (باسطوا أيديهم) قد تعني أنّ ملائكة قبض الأرواح تبسط أيديها إِليهم استعداداً لقبض أرواحهم، وقد تعني بسط أيديهم للبدء بتعذيبهم.

3 ـ (اخرجوا أنفسكم) تعني في الواقع ضرباً من التحقير تبديه الملائكة نحو هؤلاء الظالمين، وإِلاّ فإنّ إخراج الروح ليس من عمل هؤلاء، بل هو من واجب الملائكة، مثل ما يقال للمجرم عند إِعدامه: مت! ولعل هذا التحقير يقابل تحقيرهم لآيات الله وأنبيائه وعباده.

_____________________________

1 ـ «الغمرات» جمع غمرة (على وزن ضربة)، وأصل الغمر إزالة أثر الشيء، ثمّ استعملت للماء الكثير الذي ليستر وجه الشيء تماماً، كما تطلق على الشدائد والصعاب التي تغمر المرء.

[386]

وفي الوقت نفسه تعتبر هذه الآية دليلا آخر على استقلال الروح وانفصالها عن الجسد، كما يستفاد من الآية أنّ تعذيب هؤلاء يبدأ منذ لحظة قبض أرواحهم.

* * *

[387]

الآية

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَدَى كَمَا خَلَقْنَـكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَـؤُا لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان وتفسير الطبري وتفسير الآلوسي إنّ مشركاً إسمه النضربن الحارث قال: إِنّ اللآت والعزى (وهما من أصنام العرب المشهورة) سوف يشفعان لي يوم القيامة، فنزلت هذه الآية جواباً له ولأمثاله.

التّفسير

الضّالون:

أشارت الآية السابقة إِلى أحوال الظالمين وهم على شفا الموت، هنا في هذه الآية تعبير عن خطاب الله لهم عند الموت أو عند الورود إِلى ساحة يوم القيامة.

فيبدأ بالقول بأنّهم يأتون يوم القيامة منفردين كنا خلقوا منفردين: (ولقد

[388]

جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّة).

والأموال التي وهبناها لكم وكنتم تستندون إِليها في حياتكم، قد خلفتموها وراءكم، وجئتم صفر الأيدي: (وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم)(1).

ولا نرى معكم تلك الأصنام التي قلتم إِنّها سوف تشفع لكم وظننتم أنّها شريكة في تعيين مصائركم (وما نرى معكم شفعاء كم الذين زعتم أنّهم فيكم شركاء).

ولكن الواقع أنّ جمعكم قد تبدد، وتقطعت جميع الروابط بينكم: (لقد تقطع بينكم).

وكل ما ظننتموه وما كنتم تستندون إليه قد تلاشى وضاع: (وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون).

كان المشركون العرب يستندون في حياتهم إِلى أشياء ثلاثة: القبيلة أو العشيرة التي كانوا ينتمون إِليها، والأموال التي جمعوها لأنفسهم، والأصنام التي اعتبروها شريكة لله في تقرير مصير الإِنسان وشفيعة لهم عند الله، والآية في كل جملة من جملها الثلاث تشير إِلى واحدة من هذه الأُمور، وإِلى أنّها عند الموت تودعه وتتركه وحيداً فريداً.

هنا ينبغي الإِلتفات إِلى نقطتين:

1 ـ نظراً لمجيء هذه الآية في أعقاب الآية السابقة التي تحدثت عن قيام الملائكة بقبض الأرواح عند الموت، وكذلك بالنظر إِلى عبارة (وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم)، نفهم أنّ هذا الكلام يقال لهم عند الموت أيضاً، ولكن من جانب الله، غير أنّ بعض الرّوايات تقول: إِنّ هذا الخطاب يوجه إِليهم يوم القيامة، على أي حال فإِنّ الهدف لا يختلف في الحالين.

_____________________________

1 ـ «خولناكم» من «الخول» وهو إِعطاء ما يحتاج إِلى التعهد والتدبير والإِدارة، وهو النعم التي يسبغها الله تعالى على عباده.

[389]

2 ـ على الرغم من نزول هذه الآية بشأن مشركي العرب، فهي ليست بالطبع مقصورة عليهم.

ففي ذلك اليوم تنفصم العرى وتنفصل عن البشر كل الإِنشدادات المادية والمعبودات الخيالية المصطنعة وجميع ما اصطنعوه لأنفسهم في الحياة الدنيا ليكون سنداً لهم يستعينون به في يوم بؤسهم لا يبقى سوى الشخص وعمله، ويزول كل ما عدا ذلك، أو يضل عنهم بحسب تعبير القرآن وهو تعبير جميل يوحي بأنّ الشركاء سيكونون إِلى درجة من الصغر والحقارة والضياع أنّهم لايُروا بالعين.

* * *

[390]

الآيتان

إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُوْفَكُونَ(95) فَالِقُ الاِْصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)

التّفسير

فالق الاصباح:

مرّة أُخرى يوجه القرآن الخطاب إِلى المشركين، ويشرح لهم دلائل التوحيد في عبارات جذابة وفي نماذج حية من أسرار الكون ونظام الخلق وعجائبه.

في الآية الإُولى يشير إِلى ثلاثة أنواع من عجائب الأرض، وفي الآية الثّانية يشير إِلى ثلاثة من الظّواهر السماوية.

يقول القرآن الكريم أوّلا: (إِنّ الله فالق الحب والنوى).

«الفلق» شقّ الشيء وإِبانة بعضه عن بعض(1).

و«الحب» و«الحبة» تقال لانواع الحبوب الغذائية كالحنطة والشعير

_____________________________

1 ـ الراغب الأصفهاني (المفردات)، ص 385.

[391]

ونحوهما من المطعومات التي تحصد، كما يقال ذلك لبروز الرياحين أيضاً(1).

و«النوى» من النّواة، قيل إِنّه يخص نوى التمر، ولعل هذا يرجع إِلى كثرة التمر في بيئة العرب حتى كان العربي ينصرف ذهنه إِلى نوى التمر إِذا سمع هذه الكلمة.

ولننظر الآن إِلى ما يمكن في هذا التعبير:

ينبغي أن نعلم أنّ أهم لحظة في حياة الحبّة والنّوى هي لحظة الفلق، وهي أشبه بلحظة ولادة الطفل وانتقاله من عالم إِلى عالم آخر، إِذ في هذه اللحظة يحصل أهم تحول في حياته.

وممّا يلفت الإِنتباه أنّ الحبّة والنّواة غالباً ما تكونان صلبتين، فنظرة إِلى نوى التمر والخوخ وأمثالهما، وإِلى بعض الحبوب الصلبة، تكشف لنا أنّ تلك النطقة الحياتية التي هي في الواقع صغيرة، محصنة بقلعة مستحكمة تحيط بها من كل جانب، وانّ يد الخالق قد أعطت لهذه القلعة العصية على الإِختراق خاصية التسليم والليونة أمام إختراق نطفة النبات، كما منحت النطفة قوة إِندفاع تمكنها من فلق جدران قلعتها فتطلع النبتة بقامتها المديدة، هذه حقّاً حادثة عجيبة في عالم النبات لذلك يشير إِليها القرآن على أنّها من دلائل التوحيد.

ثمّ يقول: (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي).

يتكرر هذا التعبير كثيراً في القرآن مشيراً إِلى نظام الموت والحياة وتبديل هذا بذاك، فمرّة ترى الحياة تنبعث من مواد جامدة لا روح فيها في أعماق المحيطات ومجاهل الغابات والصحارى، فيخلق من تركيب مواد كل واحدة منها سم قاتل مواد حيوية، وأحياناً ترى العكس، فبإِجراء تغيير بسيط على كائنات حية قوية مفعمة بالحياة تراها قد تحولت إِلى كائن لا حياة فيه.

إِنّ موضوع الحياة والموت بالنسبة للكائنات الحية من أعقد المسائل التي

_____________________________

1 ـ المصدر نفسه، ص 105.

[392]

لم تستطيع العلوم البشرية الوصول إِلى كنه حقيقتها ورفع الستار عن أسرارها لتخطو إِلى أعماق مجهولاتها، ولتعرف كيف يمكن لعناصر الطبيعة وموادها الجامدة أن تطفر طفرة عظيمة فتتحول إِلى كائنات حية.

قد يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه الإِنسان أن يصنع كائناً حياً باستخدام التركيبات الطبيعية المختلفة وتحت ظروف معقدة خاصّة، وبطريقة تركيب أجزاء مصنعة، كما يفعلون بالمكائن والأجهزة، غير أن قدرة البشر «المحتملة» في المستقبل لا تستطيع أن تقلل من أهمية مسألة الحياة وتعقيداتها التي تبدأ من المبدع القادر.

لذلك نجد القرآن ـ وفي معرض إِثبات وجود الله ـ كثيراً ما يكرر هذا الموضوع، كما يستدل أنبياء عظام كإِبراهيم وموسى ـ على وجود مبدأ قادر حكيم بمسألة الحياة والموت لإِقناع جبابرة طغاة مثل نمرود وفرعون.

يقول إِبراهيم لنمرود: (ربّي الذي يحيي ويميت)(1)، ويقول موسى لفرعون: (وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى)(2).

ينبغي ألاّ ننسى أنّ ظهور الحي من الميت لا يختص في بداية ظهور الحياة على الأرض فقط، بل يحدث هذا في كل وقت بإِنجذاب الماء والمواد الأُخرى إِلى خلايا الكائنات الحية، فتكتسي كائنات غير حية بلباس الحياة، وعليه فإنّ القانون الطبيعي السائد اليوم والقائل بأنّه لا يمكن في الظروف الحالية التي تسود الأرض لأي كائن غير حي أن يتحول إِلى كائن حي، وحيثما وجد كائن حي فثمّة بذرة حية وجد منها هو قانون لا يتعارض مع ما قلناه، (فتأمل بدقّة)!

ويستفاد من روايات أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير هذه الآية والآيات المشابهة لها، أنّ ذلك يشمل الحياة والموت الماديين كما يشمل الحياة والموت

_____________________________

1 ـ البقرة، 258.

2 ـ طه، 53.

[393]

المعنويين أيضاً(1) فثمّة مؤمنون ولدوا لآباء غير مؤمنين، وآخرون مفسدون وأشرار ولدوا لآباء من المتقين الأخيار، ناقضين قانون الوراثة بإِرادتهم وإِختيارهم.

وهذا بذاته دليل آخر على عظمة الخلاق الذي أعطى الإِنسان هذه القدرة والإِرادة.

النقطة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هي أنّ «يخرج» الفعل المضارع و«مخرج» اسم الفاعل، يدلان على الاستمرار، أي أنّ نظام ظهور الحي من الميت وظهور الميت من الحي نظام دائم وعام في عالم الخلق.

وفي ختام الآية توكيد للموضوع: (ذلكم الله فأنى تؤفكون) أي هذا هو ربّكم وهذه هي قدرته وعلمه اللامتناهي، فكيف بعد هذا تنحرفون عن الحق وتميلون إِلى الباطل؟ (ذلكم الله فأنى تؤفكون)و

في الآية الثّانية يشير القرآن إِلى ثلاث نعم سماوية: فيقول أولا: (فالق الإِصباح) وذكرنا، أنّ «الفلق» هو شقّ الشيء وإِبانة بعضه عن بعض، و«الإِصباح» و«الصبح» بمعنى واحد.

إِنّه تعبير رائع، فظلام الليل قد شبه بالستارة السميكة التي يشقها نور الصباح شقاً، وهذه الحالة تنطبق على الصبح الصادق والصبح الكاذب كليهما، لأنّ الصبح الكاذب هو الضوء الخفيف الذي يظهر في آخر الليل عند المشرق على هيئة عمود، وكأنّه شق يبدأ من الشرق نحو الغرب في قبة السماء المظلمة، والصبح الصادق هو الذي يلي ذلك على هيئة شريط أبيض لامع جميل يظهر عند إِمتداد الأُفق الشرقي، وكأنّه يشق عباب الليل الأسود من الأسفل ممتداً من الجنوب إِلى الشمال، متقدماً في كل الأطراف حتى يغطي السماء كلها شيئاً فشيئاً.

كثيراً ما يشير القرآن إِلى نعمتي النّور والظلام والليل والنهار، ولكنّه هنا

_____________________________

1 ـ أُصول الكافى، ج 2، باب (طينة المؤمن الكفار)، تفسير البرهان، ج 1، ص 543.

[394]

يتناول «طلوع الصبح» كنعمة من نعم الله الكبرى، فنحن نعرف أنّ هذه الظاهرة تحدث لوجود جو الأرض، ذلك الغلاف الضخم من الهواء الذي يحيط بالأرض، فلو كانت الأرض ـ مثل القمر ـ عديمة الجو، لما كان هناك «طلوعان» ولا «فلق» ولا «إِصباح»، ولا «غسق» ولا «شفق» بل كانت الشمس تبزغ فجأة، بدون أية مقدمات ولسطع نورها في العيون التي اعتادت على ظلام الليل ولم تكد تفارقه، وعند الغروب تختفي فجأة، وتعم الظلمة الموحشة في لحظة واحدة كل الأرجاء، غير أنّ الجو الموجود حول الأرض والمؤدي إِلى حصول فترة فاصلة بين ظلام الليل وضياء النهار عند طلوع الشمس وغروبها يهيىء الإِنسان تدريجياً لتقبل هذين الإِختلافين المتضادين والإِنتقال من الظلمة إِلى النّور، ومن النّور إِلى الظلمة، شيئاً فشيئاً، بحيث إِنّه يستطيع أن يتحمل كل منهما، فنحن نشعر بالإِنزعاج إِذا كنّا في غرفة مضاءة وانطفأت الأنوار فجأة وعم الظلام، ثمّ إِذا استمر الظلام ساعة، وعاد النّور مرّة أُخرى فجأة، عادت معها حالة الإِنزعاج بسبب سطوع الضوء المفاجىء الذي يؤلم العين ويجعلها غير قادرة على رؤية الأشياء، وإِذا ما تكرر هذا الأمر فإِنّه لا شك سيؤذي العين، غير أنّ (فالق الإِصباح) قد جنب الإِنسان هذا الأذى بطريقة رائعة(1).

ولكيلا يظن أحد أنّ فلق الصبح دليل على أنّ ظلال الليل أمر غير مطلوب وأنّه عقاب أو سلب نعمة، يبادر القرآن إِلى القول: (وجعل الليل سكناً).

من الأُمور المسلم بها أنّ الإِنسان يميل خلال إِنتشار النّور والضياء إِلى العمل وبذل الجهد، ويتجه الدم نحو سطح الجسم وتتهيأ العضلات للفعالية والنشاط، ولذلك لا يكون النوم في الضوء مريحاً، بل يكون أعمق وأكثر راحة كلما كان الظلام أشد، حيث يتجه الدم فيه نحو الداخل، وتدخل الخلايا عموماً

_____________________________

1 ـ يقول علماء الفلك: يبدأ طلوع الصبح عندما تصل الشمس إِلى 18 درجة قبل الأُفق الشرقي، ويعم الظلام كل شيء ويختفي الشفق عندما تصل إِلى 18 درجة تحت الأُفق الغربي.

[395]

في نوع من السكون والراحة، لذلك نجد في الطبيعة أنّ النوم في الليل لا يقتصر على الحيوانات فقط، بل إِنّ النباتات تنام في الليل أيضاً، وعند بزوغ خيوط الصباح الأولى تشرع بفعاليتها ونشاطها، بعكس الإِنسان في هذا العصر الآلي، فهو يبقى مستيقظاً إِلى ما بعد منتصف الليل، ثمّ يظل نائماً حتى بعد ساعات من طلوع الشمس، فيفقد بذلك نشاطه وسلامته.

في الأحاديث الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) نجد التأكيد على ما ينسجم مع هذا التنظيم، من ذلك ما جاء في نهج البلاغة عن الإِمام علي(عليه السلام) أنّه قال يوصي أحد قواده «... ولا تسر أوّل الليل فإِنّ الله جعله سكناً وقدره مقاماً لا ضعنا، فارح فيه بدنك وروح ظهرك»(1).

وفي حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «تزوج بالليل فإِنّه جعل الليل سكناً»(2).

وفي كتاب الكافي عن الإِمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) أنّه كان يأمر بعدم ذبح الذبائح في الليل وقبل طلوع الفجر، وكان يقول: «إِنّ الله جعل الليل سكناً لكل شيء»(3).

ثمّ يشير الله تعالى إِلى الثالثة من نعمه ودلائل عظمته بجعل الشمس والقمر وسيلة للحساب: (والشمس والقمر حسباناً).

«الحسبان» بمعنى الحساب، ولعل القصد منه أنّ الدوران المنظم لهاتين الكرتين السماويتين وسيرهما الدائب (المقصود طبعاً حركتها في أنظارنا وهي الناشئة عن حركة الأرض) عون لنا على وضع مناهجنا الحياتية المختلفة وفق مواعيد محسوبة، كما ذكرنا في التّفسير.

_____________________________

1 ـ تفسير الصافي في تفسير الآية.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السّابق.

[396]

يرى بعض المفسّرين أنّ الآية تريد أن تقول إِن هاتين الكرتين السماويتين تتحركان في السماء وفق حساب وبرنامج ونظام.

وعليه فهي في الحالة الأُولى إِشارة إِلى إِحدى نعم الله على الإِنسان، وفي الحالة الثانية إِشارة إِلى واحد من أدلة التوحيد وإِثبات وجود الخالق، ولعلها إِشارة إِلى كلتيهما.

على كل حال، إنّه لموضوع مهم جدّاً أن تكون الأرض منذ ملايين السنين تدور حول الشمس والقمر يدور حول الأرض، وبذلك تنتقل الشمس في أنظارنا من برج إِلى برج بين الأبراج الفلكية الاثنتي عشرة، والقمر يدور في حركته المنتظمة من الهلال حتى المحاق، أنّ حساب هذا الدوران من الدقة والضبط بحيث إِنّه لا يتقدم ولا يتأخر لحظة واحدة، ولو لاحظنا أنّ الأرض تدور حول الشمس في مدار بيضوي معدل شعاعه 150 مليون كيلومتر ضمن جاذبية الشمس العظيمة، والقمر الذي يدوركل شهر حول الأرض في مدار شبه دائرة شعاعه نحو 374 ألف كيلومتر ولا يخرج من جاذبية الأرض العظيمة، فهو دائم الإِنجذاب نحوها، عندئذ يمكن أن ندرك مدى التعادل الدقيق بين قوة الجذب بين هذه الأجرام السماوية من جهة، والقوة الطاردة عن مراكزها (القوة المركزية) من جهة أُخرى، بحيث لا يمكن أنّ تتوقف لحظة واحدة أو تختلف قيد شعرة.

وهذا ما لا يمكن أن يكون إِلاّ في ظل علم وقدرة لا نهائيتين يضعان تخطيطه وينفذانه بدقّة، لذلك تنتهي الآية بقولها: (ذلك تقدير العزيز العليم).

* * *

[397]

الآية

وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَـتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَـتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ(97)

التّفسير

بعد شرح نظام دوران الشمس والقمر في الآية السابقة، تشير هذه الآية إِلى نعمة أُخرى من نعم الله على البشر، فجعل النجوم ليهتدي بها الانسان في ليالي البر والبحر: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر).

وتختتم الآية بالقول بأنّ الله قد بين آياته لأهل الفكر والفهم والإِدراك: (وقد فصلنا الآيات لقوم يعلمون).

منذ آلاف السنين والإِنسان يعرف النجوم في السماء ونظامها، وعلى الرغم من تقدم البشر في هذا المضمار تقدماً كبيراً، فإِنّه ما يزال يتابع وضع النجوم قليلا أو كثيراً، بحيث كانت له هذه النجوم خير وسيلة لمعرفة الإِتجاه في الأسفار البرية والبحرية، وعلى الأخص في المحيطات الواسعة التي كانت تخلو من كل إِمارة تشير إِلى الإِتجاه قبل إِختراع الإِسطرلاب.

إِنّ النجوم هي التي هدت ملايين البشر وأنقذتهم من الغرق وأوصلتهم إِلى بر السلامة.

[398]

لو تطلعنا إِلى السماء عدّة ليال متوالية لا نكشف لنا أنّ مواضع النجوم في السماء متناسقة في كل مكان، وكأنّها حبات لؤلؤ خيطت على قماش أسود، وانّ هذا القماش يسحب باستمرار من الشرق إِلى الغرب، وكلها تتحرك معه وتدور حول محور الأرض دون أن تتغير الفواصل بينها، إِنّ الإِستثناء الوحيد في هذا النظام هو عدد من الكواكب التي تسمى بالكواكب السيارة لها حركات مستقله وخاصّة، وعددها ثمانية: خمسة منها ترى بالعين المجرّدة، وهي (عطارد والزهرة، وزحل، والمريخ والمشتري) وثلاثة لا ترى إِلاّ بالتلسكوب وهي (أورانوس ونبتون وپلوتو) بالإِضافة إِلى كوكب الأرض التي تجعل المجموع تسعة.

ولعل إِنسان ما قبل التّأريخ كان يعرف شيئاً عن «الثوابت» و«السيارات» لأنّه لم يكن هناك ما يمكن أن يجلب انتباهه أكثر من السماء المرصعة بالنجوم في ليلة ظلماء، فلا يستبعد أن يكون هو أيضاً قد استخدم النجوم في الإِستهداء ومعرفة الإِتجاه.

يستفاد من بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام) أنّ لهذه الآية تفسيراً آخر، وهو أنّ المقصود بالنجوم القادة الإِلهيين والهداة إِلى طريق السعادة، أي الأئمّة الذين يهتدي بهم الناس في ظلام الحياة فينجون من الضياع، وسبق أن قلنا أنّ هذه التفاسير المعنوية لا تتنافى مع التفاسير الظاهرية، ومن الممكن أن تقصد الآية كلا التفسيرين.(1).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 750.

[399]

الآيتان

وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْس وَحِدَة فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَـتِ لِقَوْم يَفْقَهُونَ(98) وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْء فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّـت مِّنْ أَعْنَاب وَالزَّيْتُونَ وَالرَّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـبِه انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَوَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذَلِكُمْ لاََيَـت لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ(99)

التّفسير

هاتان الآيتان تتابعان دلائل التوحيد ومعرفة الله، والوصول إِلى هذا الهدف يأخذ القرآن بيد الإِنسان ويسيح به في آفاق العالم البعيدة وقد يسير به في داخل ذاته ويبيّن له آثار الله في جسمه وروحه، فيتيح له أن يرى الله في كل مكان.

فيبدأ بالقول: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة).

أي أنّكم، على اختلاف ملامحكم وأذواقكم وأفكاركم والتباين الكبير في مختلف جوانب حياتكم، قد خلقتم من فرد واحد، وهذا دليل على منتهى عظمة الخالق وقدرته التي أوجدت من المثال الأوّل كل هذه الوجوه المتباينة.

[400]

وجدير بالملاحظة أنّ هذه الآية تعبر عن خلق الإِنسان بالإِنشاء، والكلمة لغوياً تعني الإِيجاد والإِبداع مع التربية، أي أنّ الله قد خلقكم وتعهد بتربيتكم، ومن الواضح أنّ الخالق الذي يخلق شيئاً ثمّ يهمله لا يكون قد أبدى قدرة فائقة، ولكنّه إِذا استمر في العناية بمخلوقاته وحمايتها، ولم يغفل عن تربيتها لحظة واحدة، عندئذ يكون قد أظهر حقّاً عظمته وسعة رحمته.

بهذه المناسبة ينبغي ألا نتوهّم من قراءة هذه الآية، أنّ أُمَّنا الأُولى حواء قد خُلقت من آدم (كما جاء في الفصل الثّاني من سفر التكوين من التّوراة)، ولكن آدم وحواء خلقا من تراب واحد، وكلاهما من جنس واحد ونوع واحد، لذلك قال: إِنّهما خلقا من نفس واحدة، وقد بحثنا هذا الموضوع في بداية تفسير سورة النساء.

ثمّ يقول: إِنّ فريقاً من البشر «مستقر» وفريقاً آخر «مستودع» (فمستقر ومستودع).

«المستقر» أصله من «القُر» (بضم القاف) بمعنى البرد، ويقتضي السكون والتوقف عن الحركة، فمعنى «مستقر» هو الثابت المكين.

و«مستودع» من «ودع» بمعنى ترك، كما تستعمل بمعنى غير المستقر، والوديعة هي التي يجب أن تترك عند من أودعت عنده لتعود إِلى صاحبها.

يتّضح من هذا الكلام أنّ الآية تعني أنّ الناس بعض «مستقر» أي ثابت، وبعض «مستودع» أي غير ثابت، أمّا المقصود من هذين التعبيرين، فالكلام كثير بين المفسّرين، وبعض التفاسير تبدو أقرب إِلى الآية كما أنّها لا تتعارض فيما بينها.

من هذه التفاسير القول بأنّ «مستقر» صفة الذين كمل خلقهم ودخلوا «مستقر الرحم» أم مستقر وجه الأرض، و«المستودع» صفة الذين لم يكتمل خلقهم بعد وإنّما هو ما يزالون نطفاً في أصلاب آبائهم.

[401]

تفسير آخر يقول: إِنّ «مستقر» إِشارة إِلى روح الإِنسان الثابتة والمستقرة، و«مستودع» إِشارة إِلى جسم الإِنسان الفاني غير الثابت.

وقد جاء في بعض الرّوايات تفسير معنوي بهذين التعبيرين، وهو أنّ «مستقر» تعني الذين لهم إِيمان ثابت «ومستودع» تعني من لم يستقر إِيمانة(1).

وثمّة احتمال أن يكون هذان التعبيران إِشارة إِلى الجزئين الأولين في تركيب نطفة الإِنسان، إِنّ النطفة ـ كما نعلم ـ تتركب من جزئين: الأوّل هو «البويضة» من الأُنثى، والثاني هو «الحُيمن» أو «المني» من الذكر، أنّ البويضة في رحم الأُنثى تكان تكون مستقر، ولكن حيمن الذكر حيوان حي يتحرك بسرعة نحوها، وما أن يصل أوّل حيمن إِلى البويضة حتى يمتزج بها و«يخصبها» ويصد (الحيامن) الأُخرى، ومن هذين الجزئين تتكون بذرة الإِنسان الأولى.

وفي ختام الآية يعود فيقول: (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون).

عند الرجوع إِلى كتب اللغة يتبيّن لنا أنّ «الفقه» ليس كل معرفة أو فهم، بل هو التوصل إِلى علم غائب بعلم حاضر(2)، وبناء على ذلك فالهدف من التمعن في خلق الإِنسان واختلاف أشكاله وألوانه، هو أن يتوصل المرء المدقق من معرفة الخلق إِلى معرفة الخالق.

الآية الثانية هي آخر آية في هذه المجموعة التي تكشف لنا عن عجائب عالم الخلق وتهدينا إِلى معرفة الله بمعرفة مخلوقاته.

في البداية تشير الآية إِلى واحدة من أهم نعم الله التي يمكن أن تعتبر النعمة الأُم وأصل النعم الأُخرى، وهي ظهور النباتات ونموها بفضل النعمة التي نزلت من السماء: (وهو الذي أنزل من السماء ماء).

وإِنّما قال (من السماء) لأنّ سماء كل شيء أعلاه، فكل ما في الأرض من

_____________________________

1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 750.

2 ـ مفردات الراغب، ص 385.

[402]

مياه العيون والآبار والأنهار والقنوات وغيرها منشؤها الأمطار من السماء، وقلّة الأمطار تؤثر في كمية المياه في تلك المصادر كلها، وإِذا استمر الجفاف جفّت تلك المنابع، أيضاً.

ثمّ تشير إِلى أثر نزول الأمطار البارز: (فأخرجنا به نبات كل شيء).

يرى المفسّرون احتمالين في المقصود من (نبات كل شيء):

الأوّل: إِنّ المقصود من ذلك كل أنواع النباتات وأصنافها التي تسقى من ماء واحد، وتنبت في أرض واحدة وتتعذى من تربة واحدة، وهذه واحدة من عجائب الخلق، كيف تخرج كل هذه الأصناف من النباتات بأشكالها وألوانها وأثمارها المختلفة والمتباينة أحياناً من أرض واحدة وماء واحد!

والإِحتمال الثّاني: هو أنّ النباتات يحتاج إِليها كل مخلوق آخر من حشرات وطيور وحيوانات في البحر والبر، وانّه لمن العجيب أنّ الله تعالى يخرج من أرض واحدة وماء واحد الغذاء الذي يحتاجه كل هؤلاء، وهذا من روائع الأعمال المعجزة كأنّ يستطيع أحد أن يصنع من مادة معينة في المطبخ آلاف الأنواع من الأطعمة لآلاف الأذواق والأمزجة.

والأعجب من كل هذا أنّ نباتات الصحراء واليابسة ليست وحدها التي تنمو ببركة ماء المطر، بل إِنّ النباتات المائية الصغيرة التي تطفو على سطح البحر وتكون غذاء للأسماك تنمو بأشعة الشمس وقطرات المطر.

ولا أنسى ما قاله أحد سكّان المدن الساحلية وهو يشكو قلّة الصيد في البحر، ويذكر سبب ذلك بأنّه الجفاف وقلّة نزول المطر، فكان يعتقد أنّ قطرات المطر في البحار أشد تأثيراً منها في اليابسة.

ثمّ تشرح الآية ذلك وتضرب مثلا ببعض النباتات التي تنمو بفضل الماء، فتذكر أنّ الله يخرج بالماء سيقان النباتات الخضر من الأرض، ومن تلك الحبّة الصلبة يخلق الساق الأخضر الطري اللطيف الجميل بشكل يعجب الناظرين:

[403]

(فأخرجنا منه خضراً)(1).

ومن ذلك الساق الأخضر أخرجنا الحبّ متراصفاً منظماً: (نخرج منه حبّاً متراكباً)(2).

وكذلك بالماء نخرج من النخل طلعاً مغلقاً، ثمّ يتشقق فتخرج الاعذاق بخيوطها الرفيعة الجميلة تحمل حبات التمر، فتتدلى من ثقلها: (ومن النخل من طلعها قنوان دانية).

«الطلع» هو عذق التمر قبل أن ينفتح غلافه الأخضر، وإِذ ينفتح الطلع تخرج منه أغصان العذق الرفيعة، وهي القنوان ومفردها قنو.

و«دانية» أي قريبة، وقد يكون ذلك إِشارة إِلى قرب أغصان العذق من بعضها، أو إِلى أنّها تميل نحو الأرض لثقلها.

وكذلك بساتين فيها أنواع الأثمار والفواكه: (وجنات من أعناب والزيتون والرّمان).

ثمّ تشير الآية إِلى واحدة أُخرى من روائع الخلق في هذه الأشجار والأثمار، فتقول: (مشتبهاً وغير متشابه).

انظر تفسير الآية (141) من هذه السورة في شرح المتشابه وغير المتشابه للزّيتون والرّمان(3).

إِنّ شجرتي الرمان والزيتون متشابهتان من حيث الشكل الخارجي وتكوين الأغصان وهيئة الأوراق تشابهاً كبيراً، مع أنّهما من حيث الثمر وطعمه وفوائده مختلفتان، ففي الزيتون مادة زيتية قوية الأثر، وفي الرمان مادة حامضية أو سكرية، فهما متباينان تماماً، ومع ذلك فقد تزرع الشجرتان في أرض واحدة،

_____________________________

1 ـ كلمة «أخضر» تشمل كل أخضر في النبات، حتى براعم الأشجار، ولكن بما إنّها متبوعة مباشرة بالحب المتراكب فالمقصود في الآية هو زراعة الحبوب.

2 ـ «المتراكب» من الركوب وما ركب بعضه بعضاً، وأكثر الحبوب بهذا الشكل.

3 ـ يقول الراغب في مفرداته: إنّ «مشتبهاً» و«متشابهاً» بمعنى يكاد يكون واحداً.

[404]

وتشربان من ماء واحد، فهما متشابهان وغير متشابهين في آن واحد.

ومن المحتمل أنّ تكون الإِشارة إِلى أنواع مختلفة من أشجار الفاكهة التي يتشابه بعضها في الشجر وفي الثمر، ويختلف بعضها عن الآخر في ذلك، (أي أنّ كل واحدة من هاتين الصفتين تختص بمجموعة من الأشجار والأثمار، أمّا حسب التّفسير الأوّل، فإِنّ الصفتين لشيء واحد).

ثمّ تركز الآية من بين مجموع اجزاء شجرة على ثمرة الشجرة وعلى تركيب الثمرة إِذا أثمرت، وكذلك على نضج الثمرة إِذا نضجت، ففيها دلائل واضحة على قدرة الله وحكمته للمؤمنين من الناس: (انظروا إلى ثمره إِذا أثمر وينعه إِنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون).

ما نقرؤه اليوم في علم النبات عن كيفية طلوع الثمرة ونضجها يكشف لنا عن الأهمية الخاصّة التي يوليها القرآن للأثمار، إِذ إِنّ ظهور الثمرة في عالم النبات أشبه بولادة الأبناء في عالم الحيوان، فنطفة الذكر في النبات تخرج من أكياس خاصّة بطرق مختلفة (كالرياح أو الحيوانات) وتحط على القسم الأُنثوي في النبات، وبعد التلقيح والتركيب تتشكل البيضة الملقحة الأُولى، وتحيط بها مواد غذائية مشابهة لتركيبها، أنّ هذه المواد الغذائية تختلف من حيث التركيب وكذلك من حيث الطعم والخواص الغذائية والطبية. فقد تكون ثمرة (مثل العنب والرمان) فيها مئات من الحبّ، كل حبّة منها تعتبر جنيناً وبذرة لشجرة أُخرى، ولها تركيب معقد عجيب.

إِنّ شرح بنية الأثمار والمواد الغذائية والطبية خارج عن نطاق هذا البحث، ولكن من الحسن أنّ نضرب مثلا بثمرة الرمان التي أشار إِليها القرآن على وجه الخصوص في هذه الآية.

إِذا شققنا رمانة وأخذنا إِحدى حباتها نظرنا خلالها بإِتجاه الشمس أو مصدر ضوء آخر نجدها تتألف من أقسام أصغر، وكأنّها قوارير صغيرة مملوءة بماء

[405]

الرّمان قد رصفت الواحدة إِلى جنب الأُخرى. ففي حبّة الرمان الواحدة قد تكون المئات من هذه القوارير الصغيرة جداً، يجمع أطرافها غشاء رقيق هو غشاء حبّة الرمان الشفاف، ثمّ لكي يكون هذا التغليف أكمل وأمتن وأبعد عن الخطر ركّب عدد من الحبات على قاعدة في نظام معين، ولفت في غلاف أبيض سميك بعض الشيء، وبعد ذلك يأتي القشر الخارجي للرمانة،يلف الجميع ليحول دون نفوذ الهواء والجراثيم، ولمقاومة الضربات ولتقليل تبخر ماء الرمان في الحبات إِلى أقل حدّ ممكن.

إِنّ هذا الترتيب في التغليف لا يقتصر على الرمان، فهناك فواكه أُخرى ـ مثل البرتقال والليمون ـ لها تغليف مماثل، أمّا في الأعناب والرمان فالتغليف أدق وألطف.

ولعل الإِنسان حذا حذو هذا التغليف عندما أراد نقل السوائل من مكان إِلى مكان، فهو يصف القناني الصغيرة في علبة ويضع بينها مادة لينة، ثمّ يضع العلب الصغيرة في علب أكبر ويحمل مجموعها إِلى حيث يريد.

وأعجب من ذلك استقرار حبات الرمان على قواعدها الداخلية وأخذ كل منها حصتها من الماء والغذاء وهذا كله ممّا نراه بالعين، ولو وضعنا ذرات هذه الثمرة تحت المجهر لرأينا عالماً صاخباً وتراكيب عجيبة مدهشة محسوبة بأدق حساب.

فكيف يمكن لعين باحثة عن الحقيقة أن تنظر إِلى هذه الثمرة ثمّ تقول: إِنّ صانعها لا يملك علماً ولا معرفة!!

إِنّ القرآن إذ يقول (انظروا) إِنّما يريد هذه النظرة الدقيقة إِلى هذا القسم من الثمرة للوصول إِلى هذه الحقائق.

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإِن المراحل المتعددة التي تمر بها الثمرة منذ تولّدها حتى نضجها تثير الإِنتباه، لأنّ «المختبرات» الداخلية في الثمرة لا تنفك

[406]

عن العمل في تغيير تركيبها الكيمياوي إِلى أن تصل إِلى المرحلة النهائية ويثبت تركيبها الكيمياوي النهائي، أنّ كل مرحلة من هذه المراحل دليل على عظمة الخالق وقدرته.

ولكن لابدّ من القول ـ بحسب تعبير القرآن ـ إِنّ المؤمنين الذين يمعنون النظر في هذه الأُمور هم الذين يرون هذه الحقائق، وإِلاّ فعين العناد والمكابرة والإِهمال والتساهل لا يمكن أن ترى أدنى حقيقه.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336522

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:07

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net