00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الانعام من آية 100 ـ 123 من ( ص 407 ـ 453 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[407]

الآيات

وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَـت بِغَيْرِ عِلْم سُبْحَـنَهُ وَتَعَـلَى عَمَّا يَصِفُونَ(100) بَدِيعُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَـحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءوَهُوَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(101) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَـلِقُ كُلِّ شَىْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء وَكِيلٌ(102) لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَـرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)

التّفسير

خالق كل شيء:

هذه الآيات تشير إِلى جانب من العقائد السقيمة والخرافات التي يؤمن بها المشركون وأصحاب المذاهب الباطلة، وترد عليهم بالمنطق.

فأوّلا: قالوا: إِنّ لله شركاء من الجن (وجعلوا لله شركاء الجن).

فيما يتعلق بالجن، هل المقصود بهم هو المعنى اللغوي الذي يفيد كل كائن غير مرئي ومخفي عن حس الإِنسان، أم هم طائفة الجن التي يرد ذكرها مراراً في القرآن والتي سنشير إِليها قريباً؟ للمفسرين في هذا احتمالان.

[408]

على الإِحتمال الأوّل قد تكون الآية إِشارة إِلى الذين كانوا يعبدون الملائكة أو مخلوقات غير مرئية.

وعلى الإِحتمال الثّاني قد تكون الإِشارة إِلى الذين كانوا يعتبرون الجن شركاء لله أو زوجات له.

يقول الكلبي في كتاب «الأصنام»: إِنّ إِحدى الطوائف العربية، وتدعي «بنو مليح» وهي إِحدى أفخاذ قبيلة «خزاعة» كانت تعبد الجن(1)، كما يقال إِنّ عبادة الجن والاعتقاد بالوهيتها كانت منتشرة بين مذاهب اليونان الخرافية وفي الهند(2).

ويستدل من الآية (158) من سورة الصافات: (وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً)على أنّه كان بين العرب من يرى بين الله والجن نسباً وقرابة، ويذكر بعض المفسّرين أنّ قريشاً كانت تعتقد أنّ الله قد تزوج الجن، فكان الملائكة ثمرة ذلك الزواج(3).

فينكر الإِسلام عليهم ذلك، إِذ كيف يمكن ذلك وهو الذي خلق الجن: (وخلقهم) أي كيف يمكن أن يكون المخلوق شريكاً للخالق، لأنّ الشركة دليل التماثل والتساوي، مع أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون في مصاف خالقه أبداً!

الخرافة الأُخرى هي قولهم جهلا ـ إِنّ لله بنين وبنات: (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم).

أفضل دليل على أنّ هذه العقائد ليست سوى خرافة، هو أنّها تصدر عنهم (بغير علم) أي أنّهم لا يملكون أي دليل على هذه الأوهام.

من الملاحظ أنّ القرآن استعمل لفظة «خرقوا» من الخرق، وهو تمزيق الشيء بغير روية ولا حساب، وهي في النقطة المقابلة تماماً «للخلق» القائم على

_____________________________

1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 326 ـ الهامش.

2 ـ تفسير المنار، ج 8، ص 648.

3 ـ تفسير معجم البيان وتفاسير أُخرى.

[409]

الحساب، هاتان اللفظتان: «الخلق والخرق» قد تستعملان في حالات الكذب والإِختلاق، مع اختلاف بينهما هو أن (الخلق والإِختلاق) تستعمل في الأكاذيب المدروسة و(الخرق والإِختراق) فيما لا حساب فيه من الكذب.

أي أنّهم اختلقوا تلك الأكاذيب دون أن يدرسوا جوانب الموضوع وبدون أن يعدوا له ما يلزم من الأُمور.

أمّا الطوائف التي كانت تنسب لله البنين، فإِنّ القرآن يذكر في آيات أُخرى اسم طائفتين من هؤلاء:

الأُولى: هم المسيحيون الذين قالوا: إِنّ عيسى ابن الله.

والأُخرى: هم اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله.

يستفاد من الآية (30) من سورة التوبة، وممّا توصل إِليه المحققون عن دراسة الجذور المشتركة بين المسيحية والبوذية، وعلى الأخص في موضوع التثليت، أنّ المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين نسبوا إبناً لله، بل كان هذا موجوداً في المعتقدات الخرافية القديمة.

أمّا بشأن نسبة بنات لله، فالقرآن نفسه يوضح ذلك في آيات أُخرى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً)(1).

وكما سبقت الإِشارة إِليه، جاء في التفاسير والتواريخ إنّ قريشاً كانت ترى الملائكة بنات الله من زواجه بالجن.

والقرآن يرفض تماماً في نهاية الآية كل هذه الخرافات التي لا أساس لها، وبعبارة حاسمة قاطعة: (سبحان الله وتعالى عما يصفون).

والآية التّالية ترد على تلك العقائد الخرافية فتؤكّد أنّ الله هو ذلك الذي أبدع خلق السموات والأرض: (بديع السموات والأرض).

هل هناك غير الله من فعل ذلك أو يستطيع فعله كيما يكون شريكاً له في

_____________________________

1 ـ الزخرف، 19.

[410]

عبادته؟ كلا، الجميع مخلوقاته ويطيعون أمره ومحتاجون إِليه.

ثمّ كيف يمكن أن يكون له أبناء دون أن تكون له زوجة؟! (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة).

وما حاجته إِلى زوجة؟ ثمّ من التي تكون زوجته وهم جميعاً مخلوقاته؟ وفضلا عن ذلك كلّه أنّ ذاته القدسية منزهة عن كل الصفات الجسمانية، بينما الحاجة إِلى زوجة وأبناء من الصفات الجسمانية المادية.

ومرّة أُخرى تؤكّد الآية مقامه باعتباره خالقاً لكل شيء، ومحيطاً بكل شيء: (وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم).

الآية الثّالثة تؤكّد على سبيل الاستنتاج من كل ما سبق من ذكر خالقية الله لكل شيء، وإِبداعه السموات والأرض وإِيجادها، وكونه منزهاً عن الصفات والعوارض الجسمية وعن الحاجة إِلى الزوجة والأبناء وإِحاطته العلمية بكل شيء: (ذلكم الله ربّكم لا إِله إِلاّ هو خالق كل شيء فاعبدوه) فلا يستحق العبودية غيره.

ولكي ينقطع كل أمل بغير الله، وتنقلع كل جذور الشرك والإِعتماد على غير الله، تختتم الآية بالقول: (وهو على كل شيء وكيل).

أي أنّ مفتاح حل مشاكلكم بيده وحده، وما من أحد غيره قادر على حلها إِذ ما من أحد ـ غيره ـ إِلاّ وهو محتاج إِلى إِحسانه وكرمه، فلا موجب إِذن لأن تطرح مشاكلك على غيره، وتطلب حلّها من غيره.

لاحظ أنّ العبارة تقول: (على كل شيء وكيل) ولم تقل: لكلّ شيء وكيل، واختلاف المعنى واضح، لأنّ «على» تفيد التسلط ونفوذ الأمر، أمّا «اللام» فتفيد التبعية، أي أن التعبير الأوّل يدل على الولاية والرعاية، والثّاني يدل على التمثيل والوكالة.

الآية الاخيرة من الآيات مورد البحث، ومن أجل إثبات حاكمية الله

[411]

وإِحاطته بكل شيء وحفاظه على كل شيء، وكذلك لإِثبات أنّه يختلف عن كل شيء، تقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) أي أنّه الخبير بمصالح عبيده وبحاجاتهم، ويتعامل معهم بمقتضى لطفه.

في الحقيقة أنّ من يريد أن يكون حافظ كل شيء ومربيه وملجأه لابدّ أن يتصف بهذه الصفات.

كما أنّ الآية تقول: إِنّه يختلف عن جميع الأشياء في العالم، لأنّ أشياء العالم بعضها يَرى ويُرى، كالإِنسان، وبعضها لا يَرى ولا يُرى كصفاتنا الباطنية، وبعض آخر يُرى ولا يَرى، كالجمادات، فالوحيد الذي لا يُرى ولكنّه يَرى كلَّ شيء هو الله الواحد الأحد.

* * *

بحوث

هنا نشير إِلى بضع نقاط:

1 ـ لاتدركه الابصار:

تثبت الأدلة العقلية أنّ الله لا يمكن أن يرى بالعين، لأنّ العين لا تستطيع أن ترى إِلاّ الأجسام، أو على الأصح بعضاً من كيفيات الأجسام، فإِذا لم يكن الشيء جسماً ولا كيفية من كيفيات الجسم، لا يمكن أن تراه العين، وبتعبير آخر، إِذا أمكنت رؤية شيء بالعين، فلأن لهذا الشيء حيزاً واتجاهاً وكتلة، في حين أنّ الله أرفع من أن يتصف بهذه الصفات، فهو وجود غير محدود وهو أسمى من عالم المادة المحدود في كل شيء.

في كثير من الآيات، وعلى الأخص في الآيات التي تشير إِلى بني إِسرائيل وطلبهم رؤية الله، نجد القرآن ينفي بكل وضوح إِمكان رؤية الله (سوف يأتي

[412]

شرح ذلك في تفسير الآية 143 من سورة الأعراف إِن شاء الله).

ومن العجيب أنّ كثيراً من أهل السنة يعتقدون أنّ الله سيرى يوم القيامة، ويعبر صاحب تفسير المنار عن ذلك بقوله: هذا من مذاهب أهل السنة والعلم بالحديث.(1).

والأعجب من ذلك أنّ بعض المحققين المعاصرين الواعين يميلون ـ أيضاً ـ إِلى هذا الإِتجاه ويصرون عليه!

أمّا الواقع فإِنّ بطلان هذه الفكرة إِلى درجة من الوضوح بحيث لا يستوجب نقاشاً، لأنّ الأمر لا يختلف بين الدنيا والآخرة (إِذا قلنا بالمعاد الجسماني)، إِنّ الله فوق المادة، ولا يتبدل يوم القيامة إِلى وجود مادي، ولا يخرج من لا محدوديته ليصبح محدوداً، ولا يتحول في ذلك اليوم إِلى جسم أو إِلى كيفية من كيفيات الجسم! وهل الأدلة العقلية على عدم إِمكان رؤية الله في الدنيا هي غيرها في الآخرة»؟ أم هل يتغير حكم العقل بهذا الشأن يومذاك؟!

ولا يمكن تبرير هذه الفكرة بأنّ من المحتمل أن يصبح للإِنسان في الآخرة نوع آخر من الرؤية والإِدراك، لأنّ هذه الرؤية والإِدراك إِذا كانت في الآخرة فكرية وعقلانية، فإنّنا في هذه الدنيا أيضاً نشاهد الله وجماله بعين القلب وقوة العقل، أمّا إِذا كانت الرؤية هي نفسها التي نرى بها الأجسام، فإِنّ رؤية الله بهذا المعنى مستحيلة في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء.

وبناء على ذلك فإِنّ القول بأنّ الإِنسان لا يرى الله في هذه الدنيا، ولكن المؤمنين يرونه يوم القيامة غير منطقي وغير مقبول.

إنّ ما حمل هؤلاء على الذهاب إِلى هذا المذهب والدفاع عنه هو وجود أحاديث في كتبهم المعروفة تقول بإِمكان رؤية الله يوم القيامة، ولكن أليس من الأفضل أن نقول ببطلان هذا الرأي بالدليل العقلي، ونحكم باختلاق أمثال هذه

_____________________________

1 ـ تفسير المنار، ج 7، ص 653.

[413]

الرّوايات وعدم اعتبار الكتب التي أوردت مثل هذه الرّوايات، (اللهم إِلاّ إِذا قلنا أنّ المقصود من هذه الرؤية هي الرؤية القلبية) هل يصح أن نجانب حكم العقل والحكمة من أجل أمثال هذه الأحاديث؟!

أمّا الآيات القرآنية التي يبدو منها لأوّل وهلة أنّها تدل على رؤية، مثل (وجوه يومئذ ناضرة إِلى ربّها ناظرة)(1) و(يد الله فوق أيديهم)(2) فإِنّها من باب الكناية والرمز، إِنّنا نعلم أنّ أية آية قرآنية لا يمكن أن تخالف حكم العقل ومنطق الحكمة.

والملفت للنظر أنّ الأحاديث والرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) تستنكر هذه العقيدة الخرافية أشد إستنكار، وتنتقد القائلين بها أشد إِنتقاد، من ذلك أنّ أحد أصحاب الإِمام الصّادق(عليه السلام) واسمه (هشام) يقول: كنت عند الإِمام الصّادق(عليه السلام)فدخل عليه معاوية بن وهب (وهو من أصحاب الإِمام أيضاً) وسأله قائلا: يا بن رسول الله، ما قولك في ما جاء بشأن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قد رأى الله، فكيف رآه؟ وكذلك في الحديث المروي عنه أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إِنّ المؤمنين في الجنّة يرون الله. فبأي شكل يرونه؟ فتبسم الإِمام الصّادق إِبتسامة ألم، وقال: «يا معاوية بن وهب! ما أقبح أن يعيش المرء سبعين أو ثمانين سنة في ملك الله، ويتنعم بنعمه، ثمّ لا يعرفه حق المعرفة يا معاوية، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم ير الله رأي العين أبداً، إِنّ المشاهدة نوعان: المشاهدة القلبية، والمشاهدة البصرية، فمن قال بالمشاهدة القلبية فقد صدق، ومن قال بالمشاهدة البصرية فقد كذب وكفر بالله وبآياته فإِنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من شبه الله بالبشر فقد كفر»(3).

وفي (أمالي الصدوق) بإِسناده إِلى إِسماعيل بن الفضل قال: سألت الإِمام

_____________________________

1 ـ القيامة، 23 و24.

2 ـ الفتح، 10.

3 ـ معاني الأخبار، نقلا عن «الميزان»، ج 8، ص 268.

[414]

الصّادق(عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى، وهل يرى في المعاد؟ فقال: «سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، يا ابن الفضل، إنّ الأبصار لا تدرك إِلاّ ما له لون وكيفية، والله تعالى خالق الألوان والكيفية»(1).

من الجدير بالإِنتباه أنّ هذا الحديث يؤكّد كلمة «لون» ونحن اليوم نعلم أنّ الجسم بذاته لا يرى مطلقاً، وإِنما الذي نراه هو لونه، فإِذا لم يكن للجسم أي لون فلن يرى.

(في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحث بهذا الشأن في تفسير الآية (46) من سورة البقرة).

2 ـ الله خالق كل شيء

بعض المفسّرين من أهل السنة، ممن يذهب إِلى الجبر يتخذ من قوله تعالى (خالق كل شيء) دليلا على صحة مذهبهم في الجبر، فيقول: إِنّ أعمالنا وأفعالنا من «اشياء» هذا العالم أيضاً، لأنّ كلمة «شيء» تطلق على كل ذي وجود، مادياً كان أم غير مادي، وسواء كان من الذوات أم من الصفات، وعليه عندما نقول: إِنّ الله خالق كل شيء، لابدّ لنا أن نقبل أيضاً بأنّه خالق أفعالنا، وهذا هو الجبر بعينه.

بيد أنّ القائلين بحرية الإِرادة والإِختيار يردون بجواب واضح على أمثال هذه الإِستدلالات، وهو أنّ خالقية الله حتى بالنسبة لأفعالنا لا تتعارض مع حريتنا في الإِختيار، إِذ أنّ أفعالنا يمكن أن تنسب إِلينا وإِلى الله، فنسبتها إِلى الله قائمة على كونه قد وضح جميع مقدمات ذلك تحت تصرفنا، فهو الذي وهبنا القوة والقدرة والإِراده والإِختيار، فما دامت جميع المقدمات من خلقه، فيمكن أن تنسب أفعالنا إِليه بإِعتباره خالقها، ولكن من حيث إِتخاذ القرار النهائي فإِننا بالإِستفادة ممّا وهبه الله لنا من القدرة على الإِرادة والإِختيار نتخذ القرار بأداء

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 753.

[415]

الفعل أو تركه، فمن هنا تنسب هذه الأفعال إِلينا ونكون مسؤولين عنها.

وبتعبير الفلاسفة: لايوجد في هذا المقام علّتان أو خالقان للفعل في عرض واحد.

بل هما ممتدتان طولا، لأنّ وجود علّتين تامّتين في عرض واحد لا معنى له، لكنّهما إِذا كانا طوليين فلا مانع من ذلك، ولما كانت أفعالنا تستلزم المقدمات التي وهبها الله لنا، فيمكن أن ننسب هذه المتستلزمات إِليه أيضاً، إِضافة إِلى نسبتها إِلى فاعلها.

هذا الكلام أشبه بالذي يريد أن يختبر عماله فيترك لهم الحرية في عملهم وإختياراتهم، ويهيء لهم جميع ما تطلبه عملهم من مقدمات ووسائل، فطبيعي أن تعتبر أفعالهم منسوبة إِلى ربّ العمل، ولكن ذلك لا يسلبهم حرية العمل والإِختيار، بل يكونون مسؤولين عن أعمالهم.

وسنبحث فكرة الجبر والإِختيار ـ إِن شاء الله ـ بالتفصيل عند تفسير الآيات المرتبطة بالموضوع.

* * *

3 ـ ما معنى «بديع»؟

سبق أن ذكرنا أن «بديع» تعني موجد الشيء بغير سابق وجود، أي أنّ الله أوجد السموات والأرض بغير أن يسبق ذلك وجود مادة أو خطة سابقة.

هنا يعترض بعضهم بقوله: كيف يمكن إِيجاد شيء من عدم ونحن قد بحثنا هذا في تفسير الآية (117) من سورة البقرة، وذكرنا ما ملخصه: إِنّنا عندما نقول إِنّ الله أوجد الأشياء من العدم لا نعني أنّ المادة الأولية لخلقها هي «العدم» مثلما نقول: إِنّ النجار صنع الكرسي من الخشب، فهذا بالطبع مستحيل، لأنّ «العدم» لا يمكن أن يكون مادة «الوجود».

[416]

إِنّما المقصود هو أنّ موجودات هذا العالم لم تكن موجودة من قبل، ثمّ وجدت، وليس في هذا ما يصعب فهمه، وقد ضربنا لذلك أمثلة في تفسير آية (117) من سورة البقرة، ونضيف هنا قائلين: إِنّنا قادرون على أن نوجد في أذهاننا أشياء لم تكن فيها من قبل مطلقاً، ولا شك أنّ لهذه الموجودات الذهنية نوعاً من الوجود والكينونة، رغم أنّه ليس وجوداً خارجياً، ولكنّها موجودة في أُفق أذهاننا، وإِذا كان وجود الشيء بعد العدم مستحيلا، فما الفرق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي؟

وبناءً على ذلك فإِنّنا كما نستطيع أن نخلق في أذهاننا كائنات لم يكن لهم وجود من قبل، كذلك يفعل الله ذلك في العالم الخارجي، انّ قليلا من التأمل في هذا المثال أو في الأمثلة التي ضربناها هناك كاف لحل هذه المسألة.

4 ـ ما معنى «اللطيف»؟

«اللطيف» من مادة «لطف» وقد وردت هذه الصفة في الآيات السابقة كاحدى الصفات الالهية، واللطيف(1) إِذا وصف به الجسم دل على الخفيف المضاد للثقيل، ويعبر باللطافة واللطف عن الحركة الخفيفة وعن تعاطي الأُمور الدقيقة التي قد لا تدركها الحواس، ويصح أن يكون وصف الله تعالى باللطف على هذا الوجه لمعرفته بدقائق الأُمور، ولخلقه أشياء دقيقة لطيفة غير مرئية، وتتسم افعاله بالدقة المتناهية الخارجة عن قدرة الادراك.

يروي (الفتح بن يزيد الجرجاني) حديثاً عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام)يعتبر معجزة علمية في هذا المجال يقول: قال الإِمام(عليه السلام): «... إِنّما قلنا اللطيف، للخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف، أو لا ترى ـ وفقك الله وثبتك ـ إِلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان

_____________________________

1 ـ أصول الكافي، ج 1، ص 93.

[417]

الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأُنثى، والحدث المولود من القديم، لما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتداءه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإِفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إِليها ثمّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنّه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا، علمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأنّ كل صانع شيء فمن شيء صنعه والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء».

إِنّ هذا الحديث الذي يشير إِلى الجراثيم والكائنات المجهرية قبل أن يولد (پاستور) بقرون يفسر معنى اللطيف.

ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود من اللطيف هو أنّ ذاته المقدسة من اللطافة بحيث لا تدرك بالحواس، وعليه فإِنّه «اللطيف» لأنّ أحداً لا علم له به، وهو «الخبير» لأنّه عالم بكل شيء.

وقد ورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام) أيضاً(1) وليس هناك ما يمنع من إِرادة المعنيين من هذه الكلمة.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 548.

[418]

الآيات

قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ(104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَْيَـتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْم يَعْلَمُونَ(105) اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(106) وَلَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَـكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل(107)

التّفسير

ليس من واجبك الإِكراه:

تعتبر هذه الآيات نتيجة للآيات السابقة، ففي البداية تقول: (قد جاءكم بصائر من ربّكم).

«بصائر» جمع «بصيرة» من «البصر» بمعنى الرؤية، ولكنّها في الغالب رؤية ذهنية وعقلانية، وقد تطلق على كل ما يؤدي إِلى الفهم والإِدراك، وهذه الكلمة في هذه الآيات تعني الدليل والشاهد، وتشمل جميع الدلائل التي وردت في الآيات السابقة، بل إِنّها تشمل حتى القرآن نفسه.

[419]

ثمّ لكي تبيّن أنّ هذه الأدلة والبراهين كافية لإِظهار الحقيقة لأنّها منطقية، تقول: (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها)، أي أنّ إِبصارهم يعود بالنفع عليهم وعماهم يسبب الإِضرار بهم.

وفي نهاية الآية تقول، على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وما أنا عليكم بحفيظ).

للمفسّرين إِحتمالان في تفسير هذا المقطع من الآية:

الأوّل: إِنّي لست أنا المسؤول عن مراقبتكم والمحافظة عليكم وملاحظة أعمالكم، فالله هو الذي يحافظ على الجميع، وهو الذي يعاقب ويثيب الجميع، أنّ واجبي لا يتعدى إِبلاغ الرسالة وبذل الجهد لهداية الناس.

والآخر: أنا غير مأمور لأحملكم بالجبر والإِكراه على قبول الإِيمان، إِنّما واجبي هو أن أدعوكم إِلى ذلك بتبيان الحقائق بالمنطق والحجّة وأنتم الذين تتخذون قراركم النهائي.

وليس ما يمنع من إنطواء العبارة على كلا المعنيين.

الآية التّالية تؤكّد أنّ إِتخاذ القرار النهائي في إِختيار طريق الحقّ أو الباطل إِنّما يرجع للناس أنفسهم، وتقول: (وكذلك نصرف الآيات)(1) أي كذلك نبيّن الأدلة والبراهين بصور وأشكال متنوعة.

لكن جمعاً عارضوا، وقالوا ـ دونما دليل وبرهان ـ إِنّك تلقيت هذا من الآخرين (أي اليهود والنصارى): (وليقولوا درست)(2).

إِلاّ أنّ جمعاً آخر ممن لهم الإِستعداد لتقبل الحق لما لهم من بصيرة وفهم وعلم، يرون وجه الحقيقة ويقبلونها: (ولنبيّنه لقوم يعلمون).

إِنّ إِتهام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه إِقتبس تعاليمه من اليهود والنصارى قد تكرر

_____________________________

1 ـ «نصرف» من «التصرف» وهو بمعنى رد الشيء من حالة أو إِبداله بغيره، أي أنّ الآيات تنزل في صور وأشكال متنوعة ولمختلف المستويات العقلية والعقائدية والإِجتماعية.

2 ـ «اللام» في ليقولوا هي «لام العاقبة» لبيان العاقبة التي وصل إليها الأمر دون أن تكون هي الهدف المقصود، لقد كانت هذه تهمة يوجهها المشركون إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

[420]

من جانب المشركين، وما يزال المعارضون المعاندون يتابعونهم في ذلك، مع أنّ حياة الجزيرة العربية لم تكن فيها مدرسة ولا درس ليتعلم منها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)شيئاً، كما أنّ رحلاته إِلى خارج الجزيرة كانت قصيرة لا تدع مجالا لمثل هذا الإِحتمال، ثمّ إِنّ معلومات اليهود والمسيحيين الذين كانوا يسكنون الحجاز كانت على درجة من التفاهة وتسطير الخرافات بحيث لا يمكن ـ أصلا ـ مقارنتها بما في القرآن ولا بتعاليم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسنشرح هذا الموضوع ـ إِن شاء الله ـ عند تفسير الآية (103) من سورة النحل.

ثمّ تبيّن الآية واجب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في قبال معاندة المعارضين وحقدهم وإِتهاماتهم، فتقول:(اتبع ما أوحي إِليك من ربّك لا إِله إِلاّ هو) ومن واجبك أيضاً الإِعراض عما يوجهه إِليك المشركون من إِفتراءات: (واعرض عن المشركين).

هذا ـ في الواقع ـ ضرب من التسلية والتقوية المعنوية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكيلا ينتاب عزمه الراسخ الصلب أي ضعف في مواجهة أمثال هؤلاء المعارضين.

يتبيّن ممّا قلناه بجلاء أنّ عبارة (واعرض عن المشركين) لا تتعارض مطلقاً مع الأمر بدعوتهم إِلى الإِسلام ولا مع الجهاد ضدهم، فالمقصود هو أن لا يلقى اهتماماً إِلى أقوالهم الباطلة وإِتهاماتهم الكاذبة، بل يمضي في طريقه بثبات.

الآية الأخيرة يكرر القرآن فيما ـ مرّة أُخرى ـ القول بأنّ الله لايريدأن يكره المشركين ويجبرهم على الإِسلام، إِذ لو أراد ذلك لما كان هناك أي مشرك: (ولو شاء الله ما اشركوا) كما يؤكّد القول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّك لست مسؤولا عن أعمال هؤلاء، لأنّك لم تبعث لإِكراههم على الإِيمان: (وما جعلناك عليهم حفيظاً)، ولا من واجبك حملهم على عمل الخير: (وما أنت عليهم بوكيل).

«الحفيظ» هو من يراقب أمراً أو شخصاً ليحفظه من أن يصاب بضرر، أمّا «الوكيل» فهو من يسعى لإِحراز النفع لموكله.

[421]

لعل من المفيد أن نشير إِلى أنّ نفي هاتين الصفتين «الحفاظ والوكالة» عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يعني نفي الإِجبار على دفع ضرر أو اجتلاب نفع، وإِلاّ فإِنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعوهم ـ ضمن تبليغه الرسالة ـ إِلى عمل الخير وترك الشر بصورة طوعية وإِختيارية.

إِنّ الفكرة التي تسود هذه الآيات تستلفت النظر، فهي تقول: إِنّ الإِيمان بالله وبتعاليم الإِسلام لا يكون عن طريق الإِكراه والإِجبار، بل يكون عن طريق المنطق والإِستدلال والنفوذ إِلى أفكار الناس وأرواحهم، فالإِيمان بالإِكرام لا قيمة له، لأنّ المهم هو أن يدرك الناس الحقيقة فيتقبلوها بإِرادتهم وإِختيارهم.

كثيراً ما يؤكّد القرآن حقيقة كون الإِسلام بعيداً عن كل عنف وخشونة، كتلك الأعمال التي كانت ترتكبها الكنيسة في القرون الوسطى(1)، ومحاكم تفتيش العقائد.

أمّا صلابة الإِسلام في مواجهة المشركين فسوف نبحثها ـ إِنّ شاء الله ـ في بداية تفسير سورة البراءة.

* * *

_____________________________

1 ـ «القرون الوسطى» هي فترة الألف سنة التي إمتدت بين القرن السادس الميلادي حتى نهاية القرن الخاس عشر، كما يطلق عليها إسم (الفترة المظلمة» التي مرت على أوروبا والمسيحية، والجدير بالذكر أنّ «العصر الذهبي الإِسلامي» يقع في منتصف القرون الوسطى.

[422]

الآية

وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْم كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(108)

التّفسير

تناولت الآيات السابقة موضوع قيام تعاليم الإِسلام على أساس المنطق، وقيام دعوته على أساس الإِستدلال والإِقناع لا الإِكراه، وهذه الآية تواصل نفس التوجيهات فتنهى عن سب ما يعبد الآخرون ـ أي المشركون ـ لأنّ هذا سوف يدعوهم إِلى أن يعمدوا هم أيضاً ـ ظلماً وعدواناً وجهلا ـ إِلى توجيه السب إِلى ذات الله المقدسة: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم).

يروى أنّ بعض المؤمنين كانوا يتألمون عند رؤيتهم عبادة الأصنام، فيشتمون أحياناً الأصنام أمام المشركين، وقد نهى القرآن نهياً قاطعاً عن ذلك، وأكّد إِلتزام قواعد الأدب واللياقة حتى في التعامل مع أكثر المذاهب بطلاناً وخرافة.

إِنّ السبب واضح، فالسّب والشّتم لا يمنعان أحداً من المضي في طريق

[423]

الخطأ، بل إِنّ التعصب الشديد والجهل المطبق الذي يركب هؤلاء يدفع بهم إِلى التمادي في العناد واللجاجة وإِلى التشبث أكثر بباطلهم، ويستسهلون إطلاق ألسنتهم بسبّ مقام الرّبوبية جل وعلا، لأنّ كل أُمّة تتعصب عادة لعقائدها وأعمالها كما تقول العبارة التّالية من الآية: (كذلك زيّنا لكلّ أُمّة عملهم).

وفي الختام تقول الآية: (ثمّ إِلى ربّهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون).

بحوث

هنا ينبغي الإِنتباه إِلى ثلاث نقاط:

1 ـ هذه الآية نسبت إِلى الله تزيين الأعمال الحسنة والسيئة لكل شخص، وقد يثير هذا عجب بعضهم، إِذ كيف يمكن أن يزين الله أعمال المرء السيئة في نظره؟

سبق أن أجبنا مرات على مثل هذه الأسئلة فأمثال هذه التعبيرات تشير إلى صفة العمل وأثره، أي أنّ الإِنسان عندما يقوم بعمل ما بصورة متكررة، فإِنّ قبح عمله يتلاشي في نظره شيئاً فشيئاً، ويتخذ شكلا جذاباً، ولما كان علّة العلل وسبب الأسباب وخالق كل شيء هو الله، وأنّ جميع التأثيرات ترجع إِليه، فإِنّ هذه الآثار تنسب أحياناً في القرآن إِلى الله (تأمل بدقّة).

وبعبارة أوضح، إنّ عبارة (زيّنا لكل أُمّة عملهم) تفسر هكذا: لقد أقحمناهم في نتائج سوء أفعالهم إِلى الحد الذي أصبح القبيح جميلا في نظرهم.

يتضح من هذا أنّ القرآن ينسب ـ أحياناً ـ تزيين الأعمال إِلى الشيطان، وهذا لا يتعارض مع ما قلناه، لأنّ الشيطان يوسوس لهم لكي يرتكبوا الأعمال القبيحة، وهم يستسلمون لوسوسة الشيطان، فتكون النتيجة أنّهم يلاقون عاقبة أعمالهم السيئة، وبالتعبير العلمي نقول: إِنّ السببية من الله، ولكنّ هؤلاء هم الذين يوجدون

[424]

السبب، مدفوعين بوسوسة الشيطان (تأمل بدقّة)(1).

2 ـ الأحاديث الإِسلامية ـ أيضاً ـ تواصل منطق القرآن في ترك سبّ الضالين والمنحرفين، فقد أمر كبار قادة الإِسلام بضرورة الإِستناد إِلى المنطق والإِستدلال دائماً، وبلزوم تجنب شتم عقائد الآخرين، وقد جاء في نهج البلاغة أنّ الإِمام علي(عليه السلام) خاطب فريقاً من أصحابه الذين كانوا يسبون أتباع معاوية في حرب صفين، فقال: «إِني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر»(2).

3 ـ قد يعترض بعضهم قائلا: كيف يمكن لعبدة الأصنام أن يسبوا الله مع أنّهم في الغالب يؤمنون بالله ويعتبرون الأصنام مجرّد شفعاء إلى الله؟

ولكنّنا إِذا أمعنا النظر في حالة العامّة المعاندين المتعصبين أدركنا أنّ هذا ممكن ولا عجب فيه، فإِنّ أمثال هؤلاء إِذا أُثير غضبهم سعوا للإِنتقام والإِثارة بأي ثمن كان، حتى وإن كان ذلك بالإِساءة إِلى عقائد مشتركة يقول الآلوسي في «روح المعاني» إِنّ بعض العوام من الجهلة عندما سمع بعض الشيعة يسب الشّيخين أزعجه ذلك فراح يسب علياً(عليه السلام)، وإِذا سئل عمّا دعاه إِلى سب الإِمام علي(عليه السلام)الذي يحترمه، قال: كنت أُريد أن أنتقم من ذلك الشيعي، ولم أجد ما يغضبه ويثيره خيراً من هذا، فحملوه على أن يتوب عما فعل(3).

* * *

_____________________________

1 ـ في ثمانية مواضع من القرآن نسب تزيين الأعمال إِلى الشيطان، وفي عشرة مواضع جاء التعبير بصيغة المبني للمجهول «زُيّن»، وفي موضعين إثنين نسب إِلى الله، وممّا سبق أن قلناه يتضح معنى هذه الحالات الثلاث.

2 ـ نهج البلاغه، الكلام 206.

3 ـ الآلوسي، «تفسير روح المعاني»، ج 7، ص 218.

[425]

الآيتان

وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنِهِمْ لَئِنْ جَآءَتْهُم ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاَْيَـتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ(109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـنِهِمْ يَعْمَهُونَ(110)

سبب النّزول

قيل في نزول هذه الآية: إِنّ قريش قالت: يا محمّد تخبرنا أنّ موسى كانت معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه إِثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى وتخبرنا أنّ ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من الآيات كي نصدقك، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: اجعل لنا الصفا ذهباً، وابعث لنا بعض موتانا، حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، وأرنا الملائكة يشهدون لك، أو إِئتنا بالله والملائكة قبيلا!! فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «فإن فعلت بعض ما تقولون، أتصدقونني؟» قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين، وسأل المسلمون رسول الله أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا.

فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو الله تعالى أن يجعل الصفا ذهباً، فجاء جبرئيل(عليه السلام)

[426]

فقال له: إن شئت أصبح الصفا ذهباً، ولكن إِنّ لم يصدقوا عذبتهم، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «بل يتوب تائبهم» فأنزل الله تعالى الآيتين.

التّفسير

وردت في الآيات السابقة أدلة كثيرة كافية على التوحيد، وردّ الشرك وعبادة الأصنام، ومع ذلك فإِنّ فريقاً من المشركين المعاندين المتعصبين لم يرضخوا للحق، وراحوا يعترضون وينتقدون، من ذلك أنّهم أخذوا يطلبون من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)القيام بخوارق عجيبة وغريبة يستحيل بعضها أساساً (مثل طلب رؤية الله)، زاعمين كذباً أنّ هدفهم من رؤية تلك المعجزات هو الإِيمان، في الآية الأُولى يقول القرآن: (اقسموا بالله جهد إِيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها)(1).

وفي الردّ عليهم يشير القرآن إِلى حقيقتين: يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أوّلا أن يقول لهم: (قل إِنّما الآيات عند الله)، أي أن تحقيق المعجزة لا يكون وفق مشتهياتهم، بل إِنّها بيد الله وبأمره.

ثمّ يخاطب المسلمين البسطاء الذين تأثروا بإِيمان المشركين فيقول لهم: (وما يشعركم أنّها إِذا جاءت لا يؤمنون)(2) مؤكداً بذلك أنّ هؤلاء المشركين كاذبون في قسمهم.

كما أنّ مختلف المشاهد التي جرت بينهم وبين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكّد حقيقة

_____________________________

1 ـ «الجهد» بمعنى السعي وبذل الطاقة، والمقصود هنا الجهد في توكيد القسم.

2 ـ المفسّرون غير متفقين على «ما»، أهي إستفهامية أم نافية؟ وكذلك فيما يتعلق بتركيب الجملة، بعضهم يقول إِنّ «ما» إستفهامية إستنكارية، ولو كانت كذلك لكان معنى الآية: أنّى لكم أن تعلموا إنّهم لا يؤمنون إن رأوا معجزة، أي إِنّه قد يؤمنون، وهذا خلاف ما تريده الآية، لذلك إعتبر بعضهم «ما» نافية، وهو الأقرب إِلى الذهن، فيكون معنى الآية: أنتم لا تعلمون إِنّهم حتى إذا تحققت لهم المعجزات لا يؤمنون، وعلى ذلك يكون فاعل «يشعر» مقدر بمعنى «شيء» وللفعل «يشعر» مفعولان «كم» و(إنها ...) (تأمل بدقّة).

[427]

أنّهم لم يكونوا يبحثون عن الحق، بل كان هدفهم من كل ذلك أن يشغلوا الناس ويبذروا في نفوسهم الشك والتردد.

الآية التّالية تبيّن سبب عنادهم وتعصبهم، فتقول: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة) أي أنّهم بإِصرارهم على الإِنحراف والسير في طريق ملتو وتعصبهم الناشيء عن الجهل ورفض التسليم للحق، أضاعوا قدرتهم على الرؤية الصحيحة والإِدراك السليم، فراحوا يعيشون في متاهات الضلال والحيرة.

هنا أيضاً نسب هذا الفعل إِلى الله كما سبق من قبل، وهو في الواقع نتيجة أعمالهم وسوء فعالهم، وما نسبة ذلك إِلى الله إِلاّ لأنّه علّة العلل ومبدأ عالم الوجود، وكل خصيصة في أي شيء إِنّما هي بإِرادته، وبعبارة أُخرى: إِنّ الله جعل من النتائج الحتمية للعناد والتعصب الأعمى والإِنحراف أن يكون لها مثل هذا الأثر، وهو إِنحراف الإِنسان شيئاً فشيئاً في هذا الطريق، فلا يعود يدرك الأُمور إِدراكاً سليماً.

ثمّ تشير الآية في الخاتمة إِلى أنّ الله، يترك أمثال هؤلاء في حالتهم تلك لكي يشتد ضلالهم وتزداد حريتهم: (ونذرهم في طغيانهم يعمهون)(1).

نسأل الله أن يجنبنا الإِبتلاء بمثل هذا الضلال والحيرة الناتجة عن أعمالنا السيئة، وأن يمنحنا النظرة السليمة الكاملة لكي نرى الحقيقة ناصعة لا غبش عليها.

* * *

_____________________________

1 ـ «يعمهون» من «عمه» بمعنى الحيرة والشك.

[429]

 

الجزء الثامن مِنَ القُرآنٌ الكريم

[431]

 

الآية

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَـئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ(111)

التّفسير

لماذا لا يرعوي المعاندون؟

هذه الآية تتبع سابقاتها في تعقيب الحقيقة نفسها، وهدف هذه الآيات هو بيان كذب أُولئك الذين طلبوا تحقيق معجزات عجيبة وغريبة يستحيل تحقق بعضها كما مرّ (مثل رؤية الله جهرة).

فهم يظنون أنّهم بطلبهم تلك المعجزات العجيبة سوف يزعزعون أفكار المؤمنين ويزلزلون عقائد الباحثين عن الحق ويشغلونهم عن ذلك.

فيصرّح القرآن في الآية المذكورة قائلا: (ولو أنّنا نزلنا إِليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا)(1).

_____________________________

1 ـ (حشرنا عليهم كل شيء) تعني: حققنا لهم كل طلباتهم، فالحشر بمعنى الجمع، وقُبُلا بمعنى أمامهم وقبالتهم، وقد تكون «قُبُل» جمع «قبيل» بمعنى تجميع الملائكة والأموات أمامهم جماعات.

[432]

ثمّ يؤكّد ذلك أنّهم لا يمكن أن يؤمنوا إِلاّ في حالة واحدة وهي أن يجبرهم الله بإِرادته على الإِيمان: (إِلاّ أن يشاء الله) إِلاّ أنّ إِيماناً كهذا لا ينفع في تربيتهم ولا يؤثر في تكاملهم وفي النهاية يقول: (ولكنّ أكثرهم يجهلون).

هناك كلام مختلف بين المفسّرين عمّن يعود إِليهم الضمير «هم» في هذه العبارة، فقد يعود إِلى المؤمنين الذين أصروا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحقق للمشركين طلباتهم ويأتيهم بكل معجزة يريدونها.

وذلك لأنّ معظم هؤلاء المؤمنين كانوا يجهلون زيف الكفار في دعواهم، ولكنّ الله كان عالماً بأنّهم كاذبون، ولذلك لم يجبهم إِلى طلباتهم، إِلاّ أنّ دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن تخلو ـ طبعاً ـ من معجزة، فقد حقق الله في مواضع خاصّة معجزات مختلفة على يده.

والإِحتمال الآخر هو أنّ الضمير «هم» يعود إِلى الكفار أصحاب الطلبات أنفسهم، أي أنّ أكثرهم يجهل قدرة الله على تحقيق كل أمر خارق للعادة، ولعلهم يعتبرون قدرته محدودة لذلك كانوا يصفون معاجز الرّسول بالسحر، يقول سبحانه: (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلّوا فيه يعرجون لقالوا إِنّما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)(1) فهم قوم معاندون وجاهلون وينبغي أن لا يهتم أحد بكلامهم.

* * *

_____________________________

1 ـ الحجر، 14 و15.

[433]

الآيتان

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَـطِينَ الاِْنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ(113)

التّفسير

وساوس الشياطين:

تشير هذه الآية إِلى أنّ أمثال هؤلاء المعاندين اللجوجين المتعصبين الذين أشارت إِليهم الآيات السابقة، لم يقتصر وجودهم على عهد نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إِنّ الأنبياء السابقين وقف في وجوههم أعداؤهم من شياطين الإِنس والجن: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن)، لا عمل لهم سوى الكلام المنمق الخادع يستغفل به بعضهم بعضاً، يلقونه في غموض أو يهمس به بعض لبعض: (يوحي بعضهم إِلى بعض زخرف القول غروراً).

ولكن: لو أراد الله لمنع هؤلاء بالإِكراه عن ذلك ولحال دون وقوف هؤلاء الشياطين وأمثالهم بوجه الأنبياء: (ولو شاء ربّك ما فعلوه).

بيد أنّ الله لم يشأ ذلك، لأنّه أراد أن يكون الناس أحراراً، وليكون هناك مجال لإِختبارهم وتكاملهم وتربيتهم، إِنّ سلب الحرية والإِكراه لا يأتلف مع هذه

[434]

الأغراض، ثمّ إنّ وجود أمثال هؤلاء الأعداء المعاندين المتعصبين لا يضر المؤمنين الصادقين، شيئاً، بل يؤدي بشكل غير مباشر إِلى تكامل الجماعة المؤمنة، لأنّ التكامل يسير عبر التضاد، ووجود عدو قوي له تأثير على تعبئة الطاقات البشرية وتقوية الإِرادة.

لذلك يأمر الله نبيّه في آخر السورة أن لا يلقى بالا إِلى أمثال هذه الأعمال الشيطانية: (فذرهم وما يفترون).

ملاحظات

نسترعي الإِنتباه إِلى النقاط التّالية:

1 ـ في هذه الآية ينسب الله إِلى نفسه وجود شياطين الإِنس والجن في قبال الأنبياء بقوله: (وكذلك جعلنا ...) واختلف المفسّرون في معنى هذه العبارة، ولكن كما سبق أن شرحنا جميع أعمال الناس يمكن أن تنسب إِلى الله، لأنّ ما يملكه الناس انّما هو من الله، فقدرتهم منه، وكذلك حرية إِختيارهم وإِرادتهم، لذلك فان أمثال هذه التعبيرات لا يمكن أن تعني سلب حرية الإِنسان واختياره، ولا أنّ الله قد خلق بعض الناس ليتخذوا موقف العداء من الأنبياء، إِذ لو كان الأمر كذلك لما توجهت إِليهم أية مسؤولية بشأن عدائهم للأنبياء، لأنّ عملهم في هذه الحالة يعتبر تنفيذاً لرسالتهم، والأمر ليس كذلك ... بالطبع.

ولا يمكن إِنكار ما لوجود أمثال هؤلاء الأعداء ـ المختارين طبعاً ـ من أثر بنّاء غير مباشر في تكامل المؤمنين، وبتعبير آخر: يستطيع المؤمنون الصادقون أن ينتزعوا من وجود الأعداء أثراً إِيجابياً متخذين منه وسيلة لرفع مستواهم ووعيهم وإِعدادهم للمقاومة، لأنّ وجود العدو يحفز الإِنسان لاستجماع قواه.

2 ـ للشياطين (جمع شيطان) معنى واسع يشمل كل طاغ معاند مؤذ، لذلك يطلق القرآن على الوضيع الخبيث الطاغي من البشر اسم الشيطان، كما نلاحظ في هذه الآية حيث ذكر شياطين الإِنس وغير الإنس الذين لا نراهم، أمّا «إِبليس»

[435]

فهو اسم خاص للشيطان الذي وقف بوجه آدم(عليه السلام) وهو في الحقيقة رئيس جميع الشياطين، وعليه فالشيطان اسم جنس، وإِبليس اسم علم خاص(1).

3 ـ (زخرف القول) يعني الكلام المعسول الخادع الذي يعجبك ظاهره وهو في الباطن قبيح(2) و«الغرور» هو الغفلة في اليقظة.

4 ـ تعبير (يوحي بعضهم إِلى بعض) فيه إِشارة لطيفة إِلى أنّهم في أقوالهم وأفعالهم الشيطانية يرسمون خططاً غامضة يبتادلونها فيها بينهم سرّاً لئلا يعرف الناس شيئاً عن أعمالهم حتى ينفذوا خططهم كاملة، أنّ من معاني «الوحي» الهمس في الأذن.

الآية التّالية تشير إِلى نتيجة كلام الشياطين المزخرف الخادع فتقول: أخيراً سيستمع الذين لا إِيمان لهم ـ أي الذين لا يؤمنون بيوم القيامة ـ إِلى تلك الأقوال وتميل قلوبهم إِليها: (ولتصغي إِليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)(3).

«لتصغى» من «الصغو» وهو الميل إِلى شيء، ولكنّه في الأغلب ميل ناشيء عن طريق السمع، فإِذا استمع أحد إِلى كلام مع الموافقة، فهو «الصغو» و«الإِصغاء».

ثمّ يقول: إِنّ نهاية هذا الميل هو الرضا التام ـ بالمناهج الشيطانية (وليرضوه).

وختام كل ذلك كان إِرتكاب أنواع الذنوب والأعمال القبيحة: (وليقترفوا ما هم مقترفون).

* * *

_____________________________

1 ـ انظر المجلد الأوّل بهذا الشأن.

2 ـ «زخرف» تعني أصلا الزينة والذهب الذي يستخدم للزينة، ثمّ أُطلقت على الكلام ذي الظاهر الجميل المزين.

3 ـ يختلف المفسّرون في إعراب هذه الآية، وفي ما عطفت عليه جملة «ولتصغي» أمّا الأقرب إِلى مفهوم الآية فهو أن الجملة معطوفة على «يوحى» ولامها «لام العاقبة» أي إِنّ عاقبة أمر الشياطين ستكون أنّهم يوحي بعضهم إِلى بعض كلاماً خادعاً فيميل إليه الذين لا إيمان لهم، وقد تكون معطوفة على محل «غروراً» وهي مفعول لأجله (إذ أنّ الإِنسان ينخدع أوّلا ثمّ يميل إِلى ما انخدع به) فتأمل بدقّة.

[436]

الآيتان

أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَـبَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلا لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)

التّفسير

هذه الآية في الواقع هي نتيجة الآيات السابقة، إِذ تقول: بعد كل تلك الأدلة والآيات الواضحة التي تؤكّد التوحيد: (أفغير الله ابتغي حكماً)(1)؟ وهو الذي أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم الذي فيه كل إِحتياجات الإِنسان التربوية، وما يميز بين الحق والباطل والنّور والظلمة، والكفر والإِيمان: (وهو الذي أنزل إِليكم الكتاب مفصلا).

وليس الرّسول والمسلمون وحدهم يعلمون أنّ هذا الكتاب قد نزل من الله، بل إِنّ أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يعلمون ذلك أيضاً، لأنّ علائم هذا الكتاب

_____________________________

1 ـ «الحَكم» القاضي والحاكم، وبعضهم يراه مساوياً للحاكم من حيث المعنى، ولكن يرى بعضهم، ومنهم الشيخ الطوسي(رحمه الله)، أنّ الحكم من لا يحكم بغير الحق، أمّا الحاكم فقد يحكم بكليهما، ويرى آخرون، ومنهم صاحب المنار أنّ الحكم من يختاره الطرفان للحكم، وليس الحاكم كذلك.

[437]

السماوي قرؤوها في كتبهم ويعلمون أنّه نزل من الله بالحق: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربّك بالحق).

وعلى ذلك لم يبق مجال للشك فيه، وكذلك أنت أيّها النّبي لا تشك فيه أبداً، (فلا تكونن من الممترين).

هنا يبرز هذا السؤال: هل كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يداخله أدنى شك ليخاطب بمثل هذا القول؟

والجواب: هو ما سبق أن قلناه في مثل هذه الحالات، وهو أن المخاطب في الحقيقة هم الناس، وما مخاطبة النّبي مباشرة إِلاّ لتوكيد الموضوع وترسيخه، وليكون التحذير للناس أقوى وأبلغ.

الآية التّالية تقول: (وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم).

«الكلمة» بمعنى القول، وتطلق على كل جملة وكل كلام مطولا كان أم موجزاً، وقد تطلق على الوعد، كما في الآية: (وتمّت كلمة ربّك على بني إِسرائيل بما صبروا)(1)، لأنّ الشخص عندما يعد يتلفظ ببعض الكلمات المتضمنة لمفهوم الوعد.

وقد تأتي بمعنى الدين والحكم والأمر للسبب نفسه.

أمّا بالنسبة لإستعمالها في هذه الآية فقيل إِنّها تعني القرآن، وقيل إِنّها دين الله، وقيل: وعد النصر الذي وعد الله نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم). وليس بين هذه تعارض، فقد تكون الآية أرادت هذه المعاني جميعاً، ولأنّ الآيات السابقة كانت تشير إِلى القرآن، فتفسير الكلمة بالقرآن أقرب.

فيكون معنى الآية إِذن: إِنّ القرآن ليس موضع شك بأيّ شكل من الأشكال، فهو كامل من جميع الجهات ولا عيب فيه، وكل أخباره وما فيه من تواريخ صدق،

_____________________________

1 ـ الأعراف، 136.

[438]

وكل أحكامه وقوانينه عدل.

وربّما يكون معنى «كلمة» هنا هو الوعد الذي جاء في العبارة التّالية (لا مبدل لكلماته) إذ يتكرر هذا التعبير في القرآن الكريم كقوله تعالى: (وتمّت كلمة ربّك لأملأن جهنّم من الجنّة والناس أجمعين)(1) وقوله سبحانه (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنّهم لهم المنصورون)(2)، في أمثال هذه الآيات تكون الآية التّالية بياناً للوعد الذي ورد من قبل تحت لفظة «كلمة».

وعلى ذلك يكون معنى الآية: لقد تحقق وعدنا بالصدق وبالعدل، وهو أنّه ليس لأحد القدرة على تبديل أحكام الله.

وقد تتضمن الآية كل هذه المعاني.

وإِذا كانت الآية تعني القرآن، فذلك لا يتعارض مع كون القرآن لم يكن قد إِكتمل نزوله حينذاك، إِذ المقصود هو أن ما نزل منه كان متكاملا ولا عيب فيه.

ويستند بعض المفسّرين إِلى هذه الآية لاثبات عدم تحريف القرآن، لأنّ تعبير (لا مبدل لكلماته) تعني أنّ أحداً لا يستطيع أن يحدث في القرآن تبديلا أو تغييراً، لا في لفظه، ولا في إِخباره، ولا في أحكامه، وأنّ هذا الكتاب السماوي الذي يجب أن يبقى حتى نهاية العالم هادياً للناس سيبقى محفوظاً ومصوناً من أغراض الخائنين والمحرفين.

* * *

_____________________________

1 ـ هود، 119.

2 ـ الصافات، 171 و172.

[439]

الآيتان

وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاَْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ(116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(117)

التّفسير

نعلم أنّ آيات هذه السورة نزلت في مكّة، يوم كان المسلمون قلّة في العدد، ولعل قلّتهم هذه وكثرة المشركين وعبدة الأصنام كانت مدعاة لتوهم بعضهم أنّه إِذا كان دين أُولئك باطلا فلم كثر أتباعه؟! وإِذا كان دين الإِسلام حقّاً، فما سبب قلّة معتنقيه؟

ولدفع هذا التوهم يخاطب الله نبيّه بعد ذكر أحقّية القرآن في الآيات السابقة قائلا: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله).

وفي الجملة التّالية يبيّن سبب ذلك، وهو أنّهم لا يتبعون المنطق والتفكير السليم، بل هم يتبعون الظنون التي تخالطها الأهواء والأكاذيب ويمتزج بها الخداع والتخمين: (إِن يتبعون إِلاّ الظن وإِن هم إِلاّ يخرصون)(1).

_____________________________

1 ـ «الخرص» هو كل قول أُطلق عن ظن وتخمين، وأصله من تخمين كمية الثمر على الأشجار عند استئجار البستان، وأمثال ذلك، ثمّ أُطلق على كل ظن وتخمين قد يطابق الواقع وقد لا يطابقه، والكلمة تسعمل في الكذب أيضاً، وقد تكون في الآية بكلا المعنيين.

[440]

فيكون مفهوم الآية الشريفة أنّ الأكثرية لا يمكن أنّ تكون وحدها الدليل على طريق الحق، ومن هذا نستنتج أنّه يجب التوجه إِلى الله وحده لمعرفة طريق الحق، حتى لو كان السائرون في هذا الطريق قلّة في العدد.

والدليل على ذلك يرد في الآية التّالية التي تؤكّد على أنّ الله عليم بكل شيء ولا مكان للخطأ في علمه، فهو أعرف بطريق الهداية، كما هو أعرف بالضالين وبالسائرين على طريق الهداية: (إِنّ ربّك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)(1).

هنا يبرز سؤال: يفهم من الآية أنّ الله سبحانه أعلم بطريق الهداية، فهل هناك من يعلم طريق الهداية بدون هدى الله حتى كون الله هو الأعلم؟!

والجواب: إنّ الإِنسان قادر ـ بلا شك ـ أن يتوصل بعقله إِلى بعض الحقائق، ويدرك طريق الهداية والضلالة إِلى حد ما، غير أنّ مديّات ضوء العقل لها حدود، وقد يظل بعض الحقائق خارج نطاق تلك الحدود، ثمّ إِنّ معلومات الإِنسان قد يعتورها الخطأ، فيكون لذلك بحاجة إِلى مرشدين وهداة إِلهيين، لذلك فتعبير «الله أعلم» صحيح، وإِن يكن قياساً مع الفارق.

لا أهمية للكثرة العددية:

على العكس ممّا يظنّه بعضهم بأنّ الكثرة العددية توافق الصواب دائماً فإِنّ القرآن ينفي هذا في كثير من آياته، ولا يقيم للكثرة «العددية» أي وزن، بل يرى ـ في الحقيقة ـ إِنّ الكثرة «الكيفية» هي المقياس، لا الكثرة «الكمية» على الرغم من أنّ المجتمعات المعاصرة لم تجد لإِدارة الحياة الإِجتماعية طريقاً سوى

_____________________________

1 ـ صيغة التفضيل تتعدى عادة بالباء، فكان المفروض أن يقال «أعلم بمن يضل» ولكن الباء حذفت هنا و«من يضل» منصوبة بنزع الخافض.

[441]

الإِستناد إِلى الأكثرية، فلا ننس أنّ هذا ـ كما قلنا ـ نوع من الأِضطرار والوصول إِلى طريق مسدود، إِذ لا يمكن العثور في مجتمع مادي على وسيلة صحيحة وسليمة لإِتخاذ القرارات ولسن القوانين.

لذلك نجد الكثير من العلماء مضطرين إِلى القبول بفكرة الأكثرية، على الرغم من اعترافهم بأنّ هذه القاعدة كثيراً ما يصاحبها الخطأ، وذلك لأنّ عيوب الوسائل الأُخرى أكثر.

بيد أنّ مجتمعاً مؤمناً برسالة الأنبياء لا يجد نفسه مضطراً لإِتباع نظر الأكثرية في سن القوانين، لأنّ مناهج الأنبياء الصادقة وقوانينهم الإِلهية خالية من كل عيب ونقص، ولا يمكن مقارنتها بما تستصوبه الأكثرية المعرضة للخطأ.

لو ألقينا نظرة على وضع العالم اليوم وعلى الحكومات القائمة على أساس رأي الأكثرية، وعلى القوانين السقيمة التي تمليها الأهواء ثمّ تقرها الأكثرية، لرأينا أنّ الأكثرية العددية لم تداو جرحاً، بل إِنّ معظم الحروب وأكثر المفاسد أقرّتها الأكثرية.

الإِستعمار، والإِستغلال، والحروب، وإِراقة الدماء، وحرية تعاطي المسكرات، والقمار، والإِجهاض، والبغاء، وغير ذلك ممّا يندي له الجبين خجلا، قد أقرّتها الأكثرية في المجالس النيابية في كثير من البلدان التي تصف نفسها بأنّها متقدمة باعتبارها تعكس رغبة أكثرية عامّة الناس، وهذا دليل على حقيقة ما نقول.

ومن الناحية العلمية نتساءل هل أنّ أكثرية المجتمعات صادقة؟ هل الأكثرية أمينة؟ أتراها تمنع نفسها من الإِعتداء على حقوق الآخرين، إِذا استطاعت؟ هل تنظر الأكثرية إِلى منافعها ومنافع الآخرين بنظرة واحدة؟

الإِجابات ناطقة بلسان الحال لا المقال، لذلك لابدّ من الإِعتراف بأنّ إِستناد العالم المعاصر إِلى الأكثرية نوع من الإِكراه تفرضه الأوضاع القائمة، وانّه شر

[442]

مفروض على المجتمعات.

نعم، لو أنّ العقول المفكرة، مصلحي المجتمعات البشرية المخلصين، والعلماء الهادين ـ وهم أقلية دائماً ـ شنوا حملة شاملة لتنوير أفكار عامّة الناس بحيث تنال المجتمعات قسطاً من الوعي والرشد الفكري والإِجتماعي، لا قتربت وجهات نظر أكثرية كهذه إِلى الحقيقة إِقتراباً كبيراً، غير أنّ أكثرية غير راشدة وغير واعية، بل فاسدة ومنحرفة وضالة، لا تستطيع أن تقيل عثرة نفسها أو غيرها! لذلك فالأكثرية وحدها لا تكفي، وإِنّها الأكثرية المهتدية هي القادرة على حل مشاكل المجتمع إِلى الحد الذي يستطيعه بشر.

وإِذا كان القرآن في كثير من المواضع يذم الأكثرية، فالمقصود هو الأكثرية غير الرشيدة دون شك.

* * *

[443]

الآيات

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِأَيَـتِهِ مُؤْمِنينَ(118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَآئِهِم بِغَيْرِ عِلْم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ(119) وَذَرُواْ ظَـهِرَ الاِْثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الاِْثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ(120)

التّفسير

لابدّ من إَزالة آثار الشرك:

هذه الآيات في الحقيقة واحدة من نتائج البحوث التي سبقت في التوحيد والشرك، لذلك تبدأ الآية الأُولى بفاء التفريع التي يؤتى بعدها بالنتيجة.

الآيات السابقة تناولت بأساليب متنوعة حقيقة التوحيد وإِثبات بطلان الشرك وعبادة الأصنام.

ومن نتائج ذلك أنّ على المسلمين أن يمتنعوا عن أكل لحوم القرابين التي تذبح باسم الأصنام، بل عليهم أن يأكلوا من لحم ما ذكر اسم الله عليه، حيث كان

[444]

من عادة العرب أن يذبحوا القرابين لأصنامهم، ويأكلوا من لحومها للتبرك بها، وكان هذا جزءاً من عبادتهم الأصنام، لذلك يبدأ القرآن بالقول: (فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إِن كنتم بآياته مؤمنين).

أي أنّ الإِيمان ليس مجرّد قول وادعاء وعقيدة ونظرية، بل لابدّ أن يظهر على صعيد العمل أيضاً، فالذي يؤمن بالله يأكل من هذه اللحوم فقط.

بديهي أنّ الفعل «كلوا» لا يعني الوجوب، بل يعني إِباحة أكلها وحرمة أكل ما عداها.

ومن هذا يتبيّن أنّ حرمة الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها، ليست من وجهة النظر الصحية حتى يقال: ما الفائدة الصّحية من ذكر اسم الله على الذبيحة بل لها خلفية أخلاقية ومعنوية وتستهدف تثبيت قواعد التوحيد وعبودية الله الواحد الأحد.

الآية التّالية تورد هذا الموضوع نفسه بعبارة مغايرة مع مزيد من الاستدلال، فتقول: لم لا تأكلون من اللحوم التي ذكر اسم الله عليها، في الوقت الذي بيّن الله لكم ما حرم عليكم؟ (وما لكم ألا تأكلوا ممّا ذكر اسم اللّه عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم).

مرّة أُخرى نشير إِلى أنّ التوبيخ والتوكيد ليسا من أجل ترك أكل اللحم الحلال، بل الهدف هو أنّ هذه هي التي ينبغي أن تأكلوا منها، لا من غيرها، وبعبارة أُخرى: التوكيد يكون هنا على النقطة المقابلة لمفهوم العبارة، من هنا استدل على ذلك بالقول: (قد فصل لكم ما حرم عليكم).

أمّا موضع هذا التفصيل فقد يتصوّر البعض أنّه في سورة المائدة، أو في آيات من هذه السورة (الأنعام، 145).

ولما كانت هذه السورة قد نزلت في مكّة، وسورة المائدة نزلت بالمدينة، والآيات التّالية من هذه السورة لم تكن قد نزلت بعد فإنّ أيّاً من هذين

[445]

الإِحتمالين غير صحيح، فالموضوع إِمّا أن يكون الآية (115) من سورة النحل التي تذكر بعض اللحوم المحرم أكلها، وخاصّة التي لم يذكر عليها اسم الله، أو أن يكون المراد التعاليم التي كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بينها بشأن اللحوم، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يكن يتحدث إِلاّ بوحي.

ثمّ يستثني من ذلك حالة واحدة: (إِلاّ ما اضطررتم إِليه) سواء كان هذا الإِضطرار ناشئاً من وجود الإِنسان في البيداء وتحت ضغط الجوع الشديد، أو الوقوع تحت سيطرة المشركين الذين قد يجبرونه على أكل لحومهم.

ثمّ تشير الآية إِلى أنّ كثيراً من الناس يحاولون أن يضلوا الآخرين عن جهل أو عن إِتباع الهوى: (وإِنّ كثيراً ليضلّون بأهوائهم بغير علم).

وعلى الرغم من أنّ إِتباع الهوى مصحوب دائماً بالجهل، ولكنّه يكرر ذلك للتوكيد فيقول: (... بأهوائهم بغير علم).

يستفاد من هذا التعبير أيضاً انّ العلم الصحيح لا يقترن بإِتّباع الهوى والإِنسياق مع الخيال، وحيثما اقترن فهو الجهل لا العلم.

يلزم القول أنّ الجملة المذكورة ربّما تكون إِشارة إِلى ما كان سائداً بين المشركين العرب الذين كانوا يسوغون لأنفسهم أكل لحوم الحيوانات الميتة بالقول: أيجوز أن تعتبر لحوم الحيوانات التي نقتلها بأنفسنا حلالا، ولحوم الحيوانات التي يقتلها الله حراماً؟

بديهي أنّ هذا لم يكن سوى سفسطة فارغة، لأنّ الحيوان الميت ليس حيواناً ذبحه الله ليمكن مقارنته بالحيوانات المذبوحة، إِذ إِنّ الحيوان الميت بؤرة الأمراض ولحمه فاسد، ولهذا حرم الله أكله، وأخيراً يقول: (إِنّ ربّك هو أعلم بالمعتدين)الذين يحاولون بهذه الأدلة الواهية تنكّب طريق الحق، بل يسعون إِلى إِضلال الآخرين.

الآية الثّالثة تذكر قانوناً عاماً، لاحتمال أن يرتكب بعضهم هذا الإِثم في

[446]

الخفاء، وتقول: (وذروا ظاهر الإِثم وباطنه).

يقال إِنّهم في الجاهلية كانوا يعتقدون أن الزنا إِذا ارتكب في الخفاء فلا بأس به، أما إِذ ارتكب علناً فهو الإِثم! واليوم ـ أيضاً ـ نجد أُناساً يسيرون وفق هذا المنطق الجاهلي فيخشون إِرتكاب الإثم علانية، ولكنّهم يرتكبون في الخفاء ما يشاؤون من الآثام دون رادع من ضمير.

إِنّ هذه الآية لا تدين هذا المنطق فحسب، بل تحمل مفاهيم واسعة، فهي بالإِضافة إِلى ما قلناه آنفاً تتضمن الكثير من التفاسير التي وردت للإِثم الظاهر والباطن، من ذلك مثلا ـ قولهم: اِنّ الإِثم الظاهر هو ما يرتكب بوساطة أعضاء الجسم، والإِثم الباطن هو ما يرتكب في القلب وفي النيّة والعزم.

ثمّ من باب تهديد المذنبين بما ينتظرهم من مصير مشؤوم وتذكيرهم بذلك، تقول الآية: (إِن الذين يكسبون الإِثم سيجزون بما كانوا يقترفون).

عبارة (يكسبون الإِثم) تعبير رائع يشير إِلى أن الإِنسان في هذه الدنيا أشبه بأصحاب رؤوس الأموال الذين يدخلون سوقاً كبيرة، أنّ رؤوس أموالهم الذكاء والعقل والعمر والشباب والطاقات المختلفة التي هي مواهب الله، فالمسكين ذاك الذي «يكتسب» الإِثم بدل أن يكتسب السعادة والشخصية الإِنسانية والتقوى والقرب إِلى الله.

و«سيجزون» أي ينالون الجزاء في المستقبل القريب ... قد يشير إِلى يوم القيامة، وأنّه وإن بدا في نظر بعضهم بعيداً، فهو في الحقيقة قريب جداً، وإن هذا العالم سرعان ما تنطوي أيّامه ويحين المعاد.

وقد يكون إشارة إِلى أنّ أغلب أفراد البشر ينالون في هذه الدنيا بعض ما يستحقونه من نتائج أعمالهم السيئة بشكل ردود فعل فردية وإِجتماعية.

* * *

[447]

الآية

وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَـطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَـدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)

التّفسير

دار الكلام في الآيات السابقة حول الجانب الإِيجابي من مسألة اللحوم، أي أكل اللحوم الحلال، وفي هذه الآية تأكيد للجانب السلبي من المسألة:

(ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه) ثمّ في جملة واحدة يدين هذا العمل: (وإنّه لفسق) وإِثم وخروج عن طريق العبودية وإِطاعة الله.

ولكيلا يقع بعض البسطاء من المسلمين تحت تأثير وسوسة الشيطان، تخاطبهم الآية: إِنّ الشياطين يوسوسون في الخفاء لأتباعهم لكي يدخلوا معكم في جدل ونقاش: (وإِنّ الشياطين ليوحون إِلى أوليائهم ليجادلوكم) ولكن كونوا على حذر، ولا تطيعوهم: (وإِن أطعتموهم إِنّكم لمشركون).

لعل هذا الجدل والوسوسة إِشارة إِلى ما كان سائداً بين المشركين بشأن أكل الميتة (وذهب البعض إِلى أنّ العرب المشركين أخذوه من المجوس) وقولهم: إِنّنا نأكل الميتة لأنّ الله أماتها، وهي لذلك أفضل ممّا نقتله بأيدينا، معتقدين أن عدم

[448]

أكل الميتة نوع من الجفاء لعمل الله! غافلين أنّ الحيوان الميت موتاً طبيعاً، إِضافة إِلى مرضه غالباً، يضم بين لحمه دماً قذراً فاسداً يفسد معه اللحم، بسبب عدم إِنقطاع أوداجه، ولذلك أمر الله أن تؤكل ـ فقط ـ لحوم الحيوانات المذبوحة بطريقة خاصّة، والمراق دمها خارج بدنها.

ويستفاد من هذه الآية ـ ضمنياً ـ حرمة الذبيحة غير الإِسلامية، لأنّها إِضافة إِلى الجهات الأُخرى ـ لم يتقيد ذابحها بذكر اسم الله عليها.

* * *

[449]

الآيتان

أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَـهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَـتِ لَيْسَ بِخَارِج مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَـفِريِنَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ(122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَة أَكَـبِرَ مُجْرِمِيهَا لَِيمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(123)

سبب النّزول

قيل في نزول الآية الأُولى إِنّ أبا جهل الذي كان من ألد أعداء الإِسلام والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) آذى يوماً رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِيذاءً شديداً، وكان «حمزة» عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ ذاك الرجل الشجاع ـ لم يسلم بعد، بل كان ما يزال يقلب الأمر في ذهنه، وقد خرج في ذلك اليوم كعادته للصيد في الصحراء، وعند عودته سمع بما جرى بين أبي جهل وابن أخيه، فغضب غضباً شديداً وذهب إِلى أبي جهل وصفعه صفعة أسالت الدم من أنفه، وعلى الرغم من مكانة أبي جهل ونفوذه في عشيرته، فإِنّ لم يرد عليه لما يعرفه عن شجاعة حمزة.

وعاد حمزة إِلى الرّسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلن إِسلامه، ومنذ ذلك اليوم أصبح

[450]

جندياً من جنود الإِسلام، ودافع عنه حتى إِستشهد بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

هذه الآية نزلت بشأن هذه الحادثة وبيّنت إِسلام حمزة، وإِصرار أبي جهل على الكفر والفساد.

وتفيد بعض الرّوايات الأُخرى أنّ الآية نزلت بشأن إِسلام عمار بن ياسر وإِصرار أبي جهل على الكفر.

ومهما يكن، فإِنّ هذه الآية ـ مثل الآيات الأُخرى ـ لا تختص بواقعة نزولها، بل هي ذات مفهوم واسع يصدق على كل مؤمن صادق وكل معاند لجوج.

التّفسير

الإِيمان والرّؤية الواضحة:

ترتبط هذه الآية بالآيات السابقة من حيث كون الآيات السابقة أشارت إِلى طائفتين من الناس: المؤمنين المخلصين، والكافرين المعاندين الذين لا يكتفون بضلالهم، بل يسعون حثيثاً إِلى تضليل الآخرين، هنا أيضاً يتجسد وضع هاتين الطائفتين من خلال ضرب مثل واضح.

يشير المثال إِلى طائفة من الناس كانوا من الضّالين، ثمّ غيروا مسيرتهم باعتناق الإِسلام فهؤلاء أشبه بالميت الذي يحييه الله بإِرادته: (أو من كان ميتاً فأحييناه).

كثيراً ما يسعمل القرآن «الموت» و«الحياة» بالمدلول المعنوي لهما لتمثيل الكفر والإِيمان، وهذا يدل على أنّ الإِيمان ليس مجرّد معتقدات جافة وأوراد وطقوس، بل هو بمثابة الروح التي تحل في النفوس الميتة غير المؤمنة، فتؤثر عليها في جميع شؤونها، وتمنح العيون الرؤية، والآذان قدرة السمع، واللسان قوة البيان، والأطراف العزم على اداء النشاطات البناءة ... الإِيمان يغير الأفراد، ويشمل هذا التغيير كل جوانب الحياة، وتبدو آثاره في كل الحركات والسكنات.

[451]

وتفيد جملة (فأحييناه) أنّ الإِيمان ـ وإِن استلزم سعي الإِنسان لنيله ـ لا يتم إِلاّ بهداية من الله! ثمّ تقول الآية عن أمثال هؤلاء: (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس).

على الرغم من وجود الإِختلاف في تفسير هذا «النّور» فالظاهر أنّ المقصود ليس القرآن وتعاليم الشرع فحسب، بل أكثر من ذلك، حيث يمنح الإِيمان بالله الإِنسان رؤية وإِدراكاً جديدين ... يمنحه رؤية واضحة ويوسع من آفاق نظرته لتتجاوز إِطار حياته المادية وجدران عالم المادة الضيق إِلى عالم أرحب وأوسع.

ولما كان الإِيمان يدعو الإِنسان إِلى أن يبني نفسه، فانه يزيح عن عينيه أغشية الأنانية والتعصب والمعاندة والأهواء، ويريه حقائق ما كان قادراً على إِدراكها من قبل.

إِنّه في ضوء هذا النّور يستطيع أن يميز مسيرة حياته بين الناس، وأنّ يصون نفسه ويحافظ عليها ويحصنها ضد ما يقع فيه الآخرون من أخطار الطمع والجشع والأفكار المادية المحدودة، والوقوف بوجه أهوائه وكبح جماحها.

إِنّ ما نقرأه في الأحاديث الإِسلامية من أنّ «المؤمن ينظر بنور الله» إِشارة إِلى هذه الحقيقة، إِنّ مجرّد الوصف غير قادر على تبيان خصائص هذه الرؤية الإِيمانية التي يمنحها الله للإِنسان، بل ينبغي أن يذوق الإِنسان طعمها لكي يدرك بنفسه مغزى هذا القول ويحس به.

ثمّ تقارن الآية بين هذا الإِنسان الحي، الفعال، النير، والمؤثر، بالإِنسان العديم الإِيمان والمعاند، فتقول: (كمن مَثَله في الظّلمات ليس بخارج منها).

نلاحظ أنّ الآية لا تقول: «كمن في الظّلمات» بل تقول: (كمن مَثَله في الظّلمات) يقول بعضهم: إِنّ الهدف من هذا التعبير هو إِثبات أنّ هولاء الأفراد غارقون في الظّلمات والتعاسة إِلى الحد الذي جعلهم مثلا يعرفه المدركون.

[452]

وقد يكون ذلك إِشارة إِلى معنى أدق هو: أنّه لم يبق من وجود هؤلاء الأفراد سوى شبح، أو قالب، أو مثال أو تمثال، لهم هياكل خالية من الروح وأدمغة معطلة عن العمل.

لابدّ من القول ـ أيضاً ـ إِن «النّور» الذي يهدي المؤمنين جاء بصيغة المفرد، بينما «الظّلمات» التي يعيش فيها الكافرون جاءت بصيغة الجمع، وذلك لأنّ الإِيمان ليس سوى حقيقة واحدة، وهو يرمز إِلى الوحدة والتوحيد، بينما الكفر وعدم الإِيمان مدعاة للتشتت والتفرقة.

وفي الختام تشير الآية إِلى سبب مصير هؤلاء المشؤوم فتقول: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون).

سبق أن قلنا: إِنّ من خصائص تكرار العمل القبيح أنّ قبحه يتضاءل في عين الفاعل حتى يبدو له أخيراً وكأنّه عمل جميل، ويتحول إِلى مثل القيد يشد أطرافه، ويمنعه من الخروج من هذا الفخ، إِنّ مطالعة بسيطة لحال المجرمين تكشف لنا هذه الحقيقة بجلاء.

ولمّا كان بطل هذه المشاهد في جانبها السلبي هو «أبو جهل» الذي كان من كبار مشركي قريش ومكّة، فالآية الثّانية تشير إِلى حال هؤلاء الزعماء الضالين وقادة الكفر والفساد، فتقول: (وكذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها).

كررنا القول من قبل: أنّ سبب نسبة أمثال هذه الأفعال إِلى الله، لكونه تعالى هو علّة العلل ومسبب الأسباب ومصدر كل القدرات، والانسان يستخدم ما وهبه الله من إِمكانات طالحاً كان هذا الفعل أم صالحاً.

جملة «ليمكروا» تشير إِلى عاقبة أعمالهم، ولا تعني الهدف من خلقهم(1) أي أنّه عاقبة عصيانهم وكثرة ذنوبهم أدت بهم إِلى أن يصبحوا سداً على طريق الحق،

_____________________________

1 ـ «اللام» هنا هي لام «العاقبة» وليست اللام الغائية، وقد وردت في القرآن كثيراً.

[453]

وعاملا على جر الناس نحو الإِنحراف والإِبتعاد عن طريق الحق، فالمكر في الأصل هو اللف والدوران، ثمّ أطلق على كل عمل منحرف مقرون بالإِخفاء.

وفي الختام تقول الآية: (وما يمكرون إِلاّ بأنفسهم ومايشعرون).

وأي مكر وخديعة أعظم من أن يقوم هؤلاء باستخدام كل رؤوس أموال وجودهم، بما في ذلك فكرهم وذكاؤهم وإِبتكاراتهم وأعمارهم ووقتهم وأموالهم، في صفقة لا تعود عليهم بأي ربح، بل تثقل ظهورهم بأحمال الذنوب والآثام الثقيلة، ظانين أنّهم قد أحرزوا الربح والإِنتصار!

كما يستفاد من هذه الآية أنّ النكبات والتعاسة التي تصيب المجتمع إِنّما تنشأ من كباره وقادته، إِذ إِنّهم هم الذين يتوسلون بالمكر والحيلة لتغيير معالم الطريق إِلى الله، ويخفون وجه الحق عن الناس.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338736

  • التاريخ : 29/03/2024 - 11:32

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net