00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الانعام من آية 148 ـ آخر السورة من ( 501 ـ 550 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[501]

الآيات

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بِأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ(148) قُلْ فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَـلِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَكُمْ أَجْمَعِينَ(149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَتَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَيَـتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(150)

التّفسير

التملّص من المسؤولية بحجة «الجبر»:

عقيب الكلام المتقدم عن المشركين في الآيات السابقة، أشار في هذه الآيات إِلى طائفة من استدلالاتهم الواهية، مع ذكر الأجوبة عنها.

فيقول أوّلا: إِنّ المشركين سيقولون في معرض الإِجابة عن اعتراضاتك عليهم في مجال الإِشراك بالله، وتحريم الأطعمة الحلال: إِنّ الله لو أراد أن لا نكونُ

[502]

مشركين، وأن لا يكون آباؤنا وثنيين، وأن لا نحرّم ما حرّمنا لفعل: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمّنا من شيء).

ويلاحَظ نظيرُ هذه العبارة في آيتين أُخرَيين من الكتاب العزيز، في سورة النحل الآية 35: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه). وفي سورة الزخرف الآية (20): (وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم).

وهذه الآيات تفيد أن المشركين ـ مثل كثير من العصاة الذين يريدون التملص من مسؤولية العصيان تحت ستار الجبر ـ كانوا يعتقدون بالجبر، وكانوا يقولون: كلّ ما نفعله فإنّما هو بإِرادة الله ومشيئته وإلاّ لما صَدَرت منّا مثل هذه الأعمال.

وفي الحقيقة أرادوا تبرئة أنفسهم من جميع هذه المعاصي، وإِلاّ فإِنَّ ضمير كل إِنسان عاقل يشهد بأن الإِنسان حرٌّ في أفعاله وغير مجبور، ولهذا إِذا ظلمه أحدٌ انزعج منه، وأخذه ووّبخه، بل وعاقبه إِذا قدر.

وكل ردود الفعل هذه تفيد أنّه يرى المجرم حرّاً في عمله ومختار، فهو ليس على استعداد لأنّ يغض الطرف عن ردود الفعل هذه بحجّة أنّ الظلم الواقع عليه من قبل ذلك الشخص مطابق لإِرادة الله ومشيئته (تأمل بدقة).

نعم هناك احتمال في هذه الآية، وهو أنّهم كانوا يدَّعون أنّ سكوت الله على عبادتهم للأصنام وتحريمهم لطائفة من الحيوانات دليل على رضاه، لأنّه إِذا لم يكن راضياً بها وجب أن يمنعهم عنها بنحو من الأنحاء.

وكانوا يريدون ـ بذكر عبارة (ولا آباؤنا) ـ أن يسبغوا على عقائدهم الفارغة لون القدم والدوام، ويقولون: إِنّ هذه الأُمور ليست بجديدة ندعيها نحن بل كان ذلك دائماً.

ولكن القرآن تصدّى لجوابهم وناقشهم بشكل قاطع، فهو يقول أوّلا: ليس

[503]

هؤلاء وحدهم يفترون على الله مثل هذه الأكاذيب: (كذلك كذب الذين من قبلهم)(1) ولكنّهم ذاقوا جزاء افتراءاتهم: (حتى ذاقوا بأسنا).

فهؤلاء ـ في الحقيقة ـ كانوا يكذبون في كلامهم هذا، كما أنّهم يكذّبون الأنبياء، لأنّ الأنبياء الإِلهيين نهوا البشرية ـ بصراحة ـ عن الوثنية والشرك وتحريم ما أحلّه الله، فلا آباؤهم سمعوا ذلك ولا هؤلاء، مع ذلك كيف يمكن أن نعتبر الله راضياً بهذه الأعمال؟ ... ولو كان سبحانه راضياً بهذه الأُمور فكيف بعث أنبياءه للدعوة إِلى التوحيد؟!

إِنّ دعوة الأنبياء ـ في الأساس ـ أقوى دليل على حرية الإِرادة الإِنسانية، وإِختيار البشر.

ثمّ يقول سبحانه: قل لهم يا محمّد: هل لكم برهان قاطع ومسلّم على ما تدّعونه؟ هاتوه إِن كان (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا).

ثمّ يضيف في النهاية: إِنّكم ما تتبعونه ليس سوى أَوهام وخيالات فجة: (إِن تتبعون إِلاّ الظن وان أنتم إِلاّ تخرصون).

وفي الآية اللاحقة يذكر دليلا آخر لإِبطال ادعاء المشركين، ويقول: قل: إِنّ الله أقام براهين جلية ودلائل واضحة وصحيحة على وحدانيته، وهكذا أقام أحكام الحلال والحرام سواء بواسطة أنبيائه أو بواسطة العقل، بحيث لم يبق أي عذر لمعتذر: (قل فللَّه الحجة البالغة).

وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يدعي أحدٌ أبداً أنّ الله أمضى ـ بسكوته ـ عقائدهم وأعمالهم الباطلة، وكذلك يسعهم قط أن يدّعوا أنّهم كانوا مجبورين، لأنّهم لو كانوا مجبورين لكان إِقامة الدليل والبرهان، وإِرسال الأنبياء وتبليغهم ودعوتهم لغواً، إِنّ إِقامة الدليل دليل على حرية الإِرادة.

على أنّه يجب الإِنتباه إِلى أنّ «الحُجة» الذي هو من «حجّ» يعني القصد،

_____________________________

1 ـ «كذب» في اللغة تأتي بمعنيين تكذيب الغير، وكذلك فعل الكذب.

[504]

وتطلق «الحجة» على الطريق الذي يقصده الإِنسان، ويطلق على البرهان والدليل «الحُجة» أيضاً، لأنّ القائل يقصد إِثبات مدعاه للآخرين عن طريقه.

ومع ملاحظة لفظة «بالغة» يتّضح أنّ الأدلة التي أقامها الله للبشر عن طريق العقل والنقل وبواسطة العلم والفكر، وكذا عن طريق إِرسال الأنبياء واضحة لا لبس فيها من جميع الجهات، بحيث لا يبقى أي مجال للترديد والشك لأحد، ولهذا السبب نفسه عصم اللهُ سبحانه أنبياءه من كل خطأ ليبعدهم عن أي نوع من أنواع التردد والشك في الدعوة والإِبلاغ.

ثمّ يقول في ختام الآية: ولو شاء الله أن يهديكم جميعاً بالجبر لفعل: (فلو شاء الله لهداكم أجمعين).

وفي الحقيقة فإِنّ هذه الجملة إِشارة إِلى أنّ في مقدور الله تعالى أن يجبر جميع أبناء آدم على الهداية، بحيث لا يكون لأحد القدرة على مخالفته، ولكن في مثل هذه الصورة لم يكن لمثل هذا الإِيمان ولا للأعمال التي تصدر في ضوء هذا الإِيمان الجبري القسري أية قيمة، إِنّما فضيلة الإِنسان وتكامله في أن يسلك طريق الهداية والتقوى بقدميه وبإِرادته وإِختياره.

وعلى هذا الأساس لا منافاة أصلا بين هذه الجملة والآية السابقة التي ورد فيها نفي الجبر.

إِنّ هذه الجملة تقول: إِنّ إِجبار الناس الذي تدّعونه أمرٌ ممكن ومقدور لله تعالى، ولكنّه لن يفعله قط، لأنّه يخالف الحكمة وينافي المصلحة الإِنسانية.

وكان المشركون قد تذرّعوا بالقدرة والمشيئة الإِلهيتين لإِختيار مذهب الجبر، على حين أن القدرة والمشيئة الآِلهيتين حق لا شبهة فيهما، بيد أنّ نتيجتهما ليست هي الجبر والقسر، بل إِنّ الله تعالى أراد أن نكون أحراراً، وأن نسلك طريق الحق بإِختيارنا وبمحض إِرادتنا.

جاء في كتاب الكافي عن الإِمام الكاظم(عليه السلام) أنّه قال:

[505]

«إِنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسُل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول»(1).

وجاء في أمالي الصّدوق عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) لمّا سئِل عن تفسير قوله تعالى: (فللَّهِ الحجّة البالِغة) أنه قال:

«إِنّ الله تعالى يقولُ للعبد يومَ القيامة: عبدي أكنتَ عالماً، فإِن قال: نعم، قال له: أفلا عملتَ بما علمتَ؟ وإِن قال: كنتُ جاهلا، قال له: أفلا تعلَّمتَ حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة»(2).

إِنّ من البديهي أنّ المقصود من الحديث المذكور ليس هو أنّ الحجّة البالغة منحصرة في حوار الله تعالى مع عباده يوم القيامة، بل إِنّ لله حججاً بالغة عديدة من مصاديقها ما جاء في الحديث المذكور من الحوار بين الله وبين عباده، لأن نطاق الحجج الإِلهية البالغة واسع يشمل الدنيا والآخرة.

وفي الآية التّالية ـ ولكي يتضح بطلان أقوالهم، ومراعاةً لأُسس القضاء والحكم الصحيح ـ دعا المشركين ليأتوا بشهدائهم المعتبرين لو كان لهم، لكي يشهدوا لهم بأنّ الله هو الذي حرّم الحيوانات والزروع التي ادّعوا تحريمها، لِهذا يقول: (قل هلمّ شهداءكم الذين يشهَدون أنَّ الله حرّم هذا).

ثمّ يضيف قائلا: إِذا كانوا لا يملكون مثل هؤلاء الشهداء المعتبرين (ولا يملكون حتماً) بل يكتفون بشهادتهم وادّعائهم أنفسهم فقط، فلا تشهد معهم ولا تؤيدهم في دعاويهم: (فإِن شهدوا فلا تشهد معهم).

اتضح ممّا قيل إِنّه لا تناقض قطّ في الآية لو لوحظت مجموعةً، وأمّا مطالبتهم بالشاهد في البداية ثمّ أمره تعالى بعدم قبول شهداتهم، فلا يستتبع إِشكالا، لأنَّ المقصود هو الإِشعار بأنّهم عاجزون عن إِقامة الشهود المعتبرين

_____________________________

1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 774.

2 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 776.

[506]

على القطع واليقين، لأنّهم لا يمتلكون أيّ دليل من الأنبياء الإِلهيين والكتب السماوية يسند تحريم هذه الأُمور، ولهذا فإِنّهم وحدَهم الذين يَدَّعُون هذه الأُمور سيشهدون، ومن المعلوم أنّ مثل هذه الشهادة مرفوضة.

هذا مضافاً إِلى أنّ جميع القرائن تشهد بأنّ هذه الأحكام ما هي إِلاّ أحكام مصطنعة مختلقة نابعة عن محض الهوى والتقليد الأعمى، ولا اعتبار لها مطلقاً.

ولذلك قال في العبارة اللاحقة: (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم بربّهم يعدلون)(1).

يعني أنّ وثنيتهم، وإِنكارهم للقيامة والبعث، والخرافات، وإِتباعهم للهوى، شواهد حيّة على أنّ أحكامهم هذه مختلقة أيضاً، وأنّ إِدّعاهم في مسألة تحريم هذه الموضوعات من جانب الله لا قيمة له، ولا أساس له من الصحة.

* * *

_____________________________

1 ـ «يعدلون» مشتق من مادة «عدل» بمعنى الشريك والشبيه، وعلى هذا الأساس فإنّ مفهوم جملة «وهم بربّهم يعدلون» هو أنّهم كانوا يعتقدون بشريك وشبيه الله سبحانه.

[507]

الآيات

قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبالْوَلِدَيْنِ إِحْسَـناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلَـدَكُم مِّنْ إِمْلَـق نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَتَقْرَبُوا الْفَوَحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّـكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151) وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بالَّتِىَ هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَنُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّـكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152) وَأَنَّ هَـذَا صِرَطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّـكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)

التّفسير

الأوامر العشرة:

بعد نفي أحكام المشركين المختلقة التي مرّت في الآيات المتقدمة، أشارت

[508]

هذه الآيات الثلاثة إِلى أصول المحرمات في الإِسلام، وذكرت الذنوب الرئيسية الكبيرة في عشرة أقسام ببيان مقتضب، عميق وفريد، ودعت المشركين إِلى أن يحضروا عند النّبي ويستمعوا إِلى ما يتلى عليهم من المحرمات الإِلهية الواقعية، ويتركوا المحرمات المختلقة جانباً.

يقول أوّلا: (قل تعالَوا أَتلُ ما حرّم ربكم عليكم).

1 ـ (ألاّ تشركوا به شيئاً).

2 ـ (وبالوالدين إِحساناً).

3 ـ (ولا تقتلوا أولادكم مِن إِملاق) أي بسبب الفقر والحرمان لأنّنا (نحن نرزقكم وإِيّاهم).

4 ـ (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) أي لا تقربوها فضلا عن أن لا ترتكبوها.

5 ـ (ولا تقتلوا النفس التي حرم اللهُ إِلاّ بالحق) فلا تسفكوا الدّماء البريئة، ولا تقتلوا النفوس التي حرم الله قتلها إِلاّ ضمن قوانين العقوبات الإِلهية، فيجوز أن تقتلوا من أذِنَ الله لكم بقتله.

ثمّ إِنّه تعالى بعد ذكر هذه الأقسام الخمسة يقول لمزيد من التأكيد: (ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون) فلا ترتكبوها.

6 ـ (ولا تقربوا ما اليتيم إِلاّ التي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه) فلا تقربوا مال اليتيم إِلاّ بقصد الإِصلاح حتى يبلغ أشده ويستوي.

7 ـ (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) فلا تطففوا ولا تبخسوا.

وحيث أن الإِنسان ـ مهما دقق في الكيل والوزن ـ قد يزيد أو ينقص بما لا يمكن أن تضبطه الموازين والمكاييل المتعارفة لقلته وخفائه، لهذا عقب على ما قال بقوله: (لا نكلِّف نفساً إِلاّ وسعَها).

8 ـ (وإِذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) فلا تنحرفوا عن جادة الحق عند

[509]

الشهادة أو القضاء أو أمر آخر حتى ولو كان على القريب، فاشهدوا بالحق، واقضوا بالعدل.

9 ـ (وبعهد الله أوفوا) ولا تنقضوه.

وأمّا ما هو المراد من العهد الالهي المذكور في هذه الآية؟ فقد ذهب المفسّرون إِلى احتمالات عديدة فيه، ولكن مفهوم الآية يشمل جميع العهود الإِلهيّة «التكوينية» و«التشريعية» والتكاليف الإِلهية وكل عهد ونذر ويَمين.

ثمّ إِنّه سبحانه يقول في ختام هذه الأقسام الأربعة ـ للتأكيد ـ: (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكّرون).

10 ـ (وإِنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) إِن طريقي هذا هو طريق التوحيد، طريق الحق والعدل، طريق الطهر والتقوى فامشوا فيه، واتبعوه، واسلكوه ولا تسلكوا الطرق المنحرفة والمتفرقة، فتؤدي بكم إِلى الإِنحراف عن الله وإِلى الاختلاف، والتشرذم، والتفرق، وتزرع فيكم بذور الفرقة والنفاق.

ثمّ يختم جميع هذه الأقسام وللمرّة الثّالثة ـ لغرض التأكيد بقوله: (ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون).

بحوث

إِنّ ها هنا عدّة نقاط يجب أن نقف عندها، وهي:

1 ـ الشروع بالتوحيد والختم بنبذ الاختلاف

إِنّ الملاحَظ في هذه الآيات أنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة بدأت بتحريم الشرك الذي هو في الواقع المنشأ الأصلي لجميع المفاسد الإِجتماعية والمحرمات الإِلهية، وانتهت ـ أيضاً ـ بالدّعوة إِلى نبذ التفرق والاختلاف الذي

[510]

يُعدُّ هو الآخر نوعاً من الشرك العملي.

إِنّ هذا الموضوع يكشف عن أهمية مسألة التوحيد في جميع الأُصول والفروع الإِسلامية، وبالتالي يكشف عن أن التوحيد ليس مجرّد أصل عقائدي بحت، بل يمثّل روح التعاليم الإِسلامية برمتها.

2 ـ التأكيدات المتتابعة

لقد تكرِّرت عبارة (ذلكم وصاكم به) للتأكيد عند ختام كل آية من الآيات الثلاث، مع فوارق في الفواصل طبعاً، فقد ختمت العبارة في الآية الأُولى بجملة:: (لعلّكم تعقلون)، وفي الآية الثّانية بجملة: (لعلّكم تذكرون) وفي الآية الثّالثة بجملة: (لعلّكم تتقون).

ويبدو أنّ هذه التعابير المختلفة إِشارة إِلى النقطة التّالية وهي: أنّ المرحلة الأُولى عند تلقّي أيّ حكم من الأحكام هو مرحلة «التعقل» أي فهم ذلك الحكم وإِدراكه.

والمرحلة الثّانية هي: مرحلة «التذكر» وهضم ذلك الحكم وامتصاص مفاده واستيعاب محتواه.

والمرحلة الثّالثة هي: المرحلة النهائية، وهي مرحلة العمل والتطبيق، وقد أسماها القرآن بمرحلة «التقوى».

صحيح أنّ كل واحدة من هذه العبارات (والمراحل) جاءت بعد ذكر عدّة تعاليم من التعاليم العشرة، إِلاّ أنّه من الواضح أنّ هذه المراحل لا تختص بأحكام معيّنة، لأنّ كل حكم من الأحكام، وكل تعليم من التعاليم بحاجة إِلى «التعقل» و«التذكر» و«التقوى والعمل»، إِنّما هي رعاية جهات الفصاحة والبلاغة، التي اقتضت توزيع هذه التأكيدات (والمراحل) في أثناء تلك التعاليم العشرة.

[511]

3 ـ التعاليم والأوامر الخالدة

لعلّنا في غنىِّ عن التذكير بأنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة لا تختص بالدين الإِسلامي، بل كان نظيرها في جميع الشرائع المتقدمة عليه وإِن كانت قد حظيت في الإِسلام بعناية أكبر وأوسع.

وفي الحقيقة أنّ هذه التعاليم ممّا يدركه العقل السويّ والضمير السليم بوضوح وجلاء وبعبارة أُخرى: هي من «المستقلات العقلية» ولهذا فإِنّها كما ذكرت في القرآن الكريم، تلاحظ بشكل أو بآخر في شرائع الأنبياء الآخرين(1).

4 ـ أهمية الإِحسان إِلى الوالدين

إِنّ ذكر مسألة الإِحسان للوالدين ـ بعد مكافحة الشرك مباشرة، وقبل ذكر تعاليم مهمّة مثل حرمة قتل النفس والأمر بالعدل ـ يدلّ على الأهمية القصوى التي يحظى بها حق الوالدين في التعاليم الإِسلامية.

ويتّضح هذا الأمر أكثر عندما نرى أن القرآن الكريم ذكر بدل تحريم أذى الوالدين الذي يلائم سياق هذه الآية في استعراضها للمحرمات، مسألة الإِحسان إِليهما، يعني أنّه ليس إزعاج الوالدين وإِيذاؤهما محرّماً فقط، بل يجب الإِحسان إِليهما.

والأجمل من هذا كلّه أنّ كلمة «الإِحسان» عُدِّيت بحرف «الباء» فقال: (وبالوالدين إِحساناً) ونحن نعلم أن الإِحسان قد يعدّى بإِلى وقد يُعَدّى بالباء، فإِذا عُدِّ بإِلى كان معناه: الإِحسان إِلى الآخر سواء كان بصورة مباشرة، أو مع الواسطة. ولكنّه عندما يُعدّى بالباء يكون معناه: الإِحسان بصورة مباشرة ومن دون واسطة.

وعلى هذه الأساس فإِنّ هذه الآية تؤكّد أنّ موضوع الإِحسان إِلى الوالدين

_____________________________

1 ـ راجع الآية (13) من سورة الشورى.

[512]

من الأهمية البالغة بحيث يجب على الإِنسان أن يباشر الاحسان بنفسه إلى الوالدين(1).

5 ـ قتل الأولاد من الإِملاق والجوع

يستفاد من هذه الآيات أنّ العرب في العهد الجاهلي لم يقتصروا على قتل البنات ووأدهن بسبب بعض العصبيات الخاطئة فحسب، بل كانوا يقتلون أولادهم الذين كانوا يُعَدُّون ثروة كبرى في المجتمع يومذاك، وذلك بسبب الفقر وخشيتهم من الفاقة، أيضاً. والله تعالى يلفت نظرهم إِلى مائدة النعم الإِلهيّة الواسعة التي يستفيد منها حتى أضعف الموجودات، ونهاهم سبحانه عن ذلك.

ولكن هذا العمل الجاهلي ـ وللأسف البالغ ـ يتكّرر الآن في عصرنا في صورة أُخرى، إِذ نلاحظ كيف يعمد الناس إِلى قتل الأطفال الأبرياء وهم أجنّة عن طريق «الكورتاج» والإِجهاض بحجة النقصان الإِحتمالي في المواد الغذائية.

إِنّ إِسقاط الجنين وإِن كان يُبَرَّرُ الآن بأدلة وحجج أُخرى أيضاً، إِلاّ أنَّ مسألة الفقر ومسألة نقصان المواد الغذائية، هي من أدلتها الأصليّة.

هذه المسألة والمسائل المشابهة الأُخرى تشير إِلى أنّ العَهد الجاهلي يتكّرر في شكل آخر، وأنّ «جاهلية القرن العشرين» أكثر وحشية من جاهلية ما قبل الإِسلام.

6 ـ ما هو المقصود من الفواحش؟

«الفواحش» جمع «فاحشة» يعني ما عظم قبحه من الذنوب. وعلى هذا الأساس فإِنّ نقض العهد، والتطفيف والشرك وما شابه ذلك وإِن كانت من الذنوب

_____________________________

1 ـ تفسير المنار، ج 8، ص 185.

[513]

الكبار، إِلاّ أنّ ذكرها في مقابل الفواحش إِنّما هو لأجل التفاوت المفهومي بينها.

7 ـ لا تقربوا هذه الذّنوب

في الآيات الحاضرة ورد التعبير بجملة لا تقربوا في موضعين، وقد تكرر هذا الموضوع (وهذا النهي) في القرآن لبعض الذنوب الأُخر أيضاً، ويبدو أنَّ هذا التعبير قد ورد في مجالِ الذنوبِ المثيرة كالزنا، وأموال اليتامى وما شابهها، لهذا يحذّر الناس من الإِقتراب إِليها لكي لا يقعوا تحت إِثارتها.

8 ـ الذُّنوب الظاهرة والباطنة

لا شك في أنّ جملة (ما ظهر منها وما بطن) تشمل كل الذنوب القبيحة الظاهرة، والخفية، ولكن جاء في بعض الأحاديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) «ما ظهر هو الزنا وما بطن هو المخالّة» (أي اتخاذ الخليلات والصديقات سرّاً وخفيّةً) ولكنّه واضح أنّ ذكر هذه الموارد إِنّما هو بيان المصداق الواضح، لا أنّه يعني إِنحصارها فيها.

9 ـ الوصايا العشر عند اليهود

نلاحظ في التّوراة في الفصل 20 سفر الخروج أحكاماً عشرة تعرف عند اليهود بالوصايا، وهي تبدأ من الجملة الثانية وتنتهي عند السابعة عشرة من ذلك الفصل.

ولكن بالمقارنة بين الوصايا العشر، وبين ما جاء في الآيات الحاضرة يتضح أنّ فرقاً واسعاً وبوناً شاسعاً بين هذين البرنامجين، وعلى أنّه لا يمكن الإِطمئنان إِلى أنّ التّوراة الحاضرة لم تنحرف في هذا المجال، كما تعرضت للتحريف في الأقسام الأُخرى. ولكنّ ما هو مسلّم هو أنّ الوصايا العشر الموجودة في التّوراة

[514]

وإن كانت مشتملة على المسائل اللازمة، إِلاّ أنّها أقلُ مستوىً بكثير ـ من حيث السعة والأبعاد الأخلاقية، والإِجتماعية والعقيدية ـ من مفاد الآيات الحاضرة.

10 ـ كيف غَيَّرت هذه الآيات وجه المدينة المنورة؟

لقد وردت في بحار الأنوار، وكذا في كتاب أعلام الورى قصّة جميلة تحكي عن تأثير هذه الآيات البالغ في نفوس المستمعين، وها نحن ندرج هنا القصة المذكورة باختصار وفقاً لما جاء في بحار الأنوار برواية علي بن إِبراهيم.

قدم أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد قيس مكّة في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلا، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت الغلبة فيها للأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة يسألون الحلف على الأوس وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه، وقصّ عليه ما جاء من أجله فقال عتبة بن ربيعة في جواب أسعد: بُعدت دارنا من داركم، ولنا شغلٌ لا نتفرغ لشيء، قال أسعد: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال عتبة: خرج فينا رجُل يدّعي أنّه رسول الله، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبدالله بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً.

فلمّا سمع أسعد وذكوان ذلك، أخذا يفكّران فيه، ووقع في قلبهما ما كانا يسمعانه من اليهود، أنّ هذا أوانُ نبيٌ يخرج بمكّة يكون مهاجره بالمدينة.

فقال أسعد: أين هو؟

قال عتبة: جالس في الحجر (حجر إِسماعيل) وأنّهم (أي المسلمون) لا يخرجون من شعبهم إِلاّ في المواسم، فلا تسمع منه، ولا تكلّمه، فإِنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

[515]

فقال أسعد لعتبة: فكيف أصنع، وأنا محرم للعمرة لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟

قال: ضَع في أُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد، وقَد حشا أُذنيه بالقطن فطافَ بالبيت ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إِليه نظرة فجازه.

فلمّا كان في الشّوط الثّاني قال في نفسه: ما أجد أجهَلَ منّي. أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أتعرّفه حتى أرجع إِلى قومي فأُخبرهم؟ فأخذ القطَن من أُذنيه ورمى به، وقال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أنعِم صباحاً. فرفع رسولُ الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رأسَه إِليه، وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنّة، السلام عليكم.

فقال له أسعد: إِلى مَ تدعو يا محمّد؟

قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): إِلى شهادة أن لا إِله إِلاّ الله، وأنّي رسول الله، وأدعوكم إِلى ... (ثمّ تلا(صلى الله عليه وآله وسلم) الآيات الثلاثة المبحوثة هنا والتي تتضمن التعاليم العشرة).

فلمّا سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إِله إِلاّ الله، وأنّك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأُمي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين أُخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإِن وصَلَها الله بك، ولا أجدُ أعزّ منك، ومعي رجلٌ من قومي، فإِن دخَلَ في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرَنا فيك.

والله يارسولَ الله، لقد كنّا نسمع من اليهود خبَرك، ويبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارُنا دارَ هجرتك عندنا فقد أعلمنا اليهودُ ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إِليك، والله ما جئتُ إِلاّ لنطلب الحلفَ على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له.

ثمّ أسلم رفيقُ أسعد ـ ذكوان ـ أيضاً ـ ثمّ طلبا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث معهم رجلا يعلمهم القرآن، ويدعو الناس إِلى أمره، ويطفىء الحروب، فبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) معهما إِلى المدينة «مصعب بن عمير» ومنذئذ أُسست قواعد الإِسلام في المدينة وتغير وجه يثرب(1).

* * *

_____________________________

1 ـ بحار الأنوار، الطبعة الجديدة، ج 19، ص 8 و9 و10.

[516]

الآيات

ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ تَمَاماً عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْء وَهُدىً وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(154)وَهَـذَا كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(155) أن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَـبُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَـفِلِينَ(156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَـبُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بَأَيَـتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَـتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ(157)

التّفسير

ردٌ حاسمٌ على المتحججين والمتعلّلين:

في الآيات السابقة دار الحديث عن عشرة من أحكام الإِسلام الأساسية التي تشكِّل ـ في الحقيقة ـ أساساً وقاعدةً للكثير من الأحكام الإِسلامية،

[517]

ويستفاد من قوله تعالى: (إِنَّ هذا صِراطي مُستقيماً فاتَّبعُوهُ) ونظائره، أنّ هذه الأحكام لم تكن مختصّة بدين معنين أو شريعة خاصّة، خاصّة وأنّها من الأُصول والمبادىء التي يحكمُ بها العقلُ ويؤيَّدهامن دُون تلكؤ أو تأخير، وبهذا يكون مضمون الآيات السابقة هو بيانُ الأحكام التي لم تكن مختصّةً بالإِسلام، بل هي موجودة ومقررة في جميع الأديان.

ثمّ قال عقيب ذلك في هذه الآيات: (ثمّ آتَينا موسى الكتابَ تَماماً عَلى الّذي أحسن) فقد أتممنا نعمتنا على المحسنين والذين سلّموا لأمره واتبعوه.

وممّا قيل يتّضح معنى كلمة «ثُمّ» تُستعمل في اللغة العربية عادة في «العطف مع التراخي» ويكون معنى الآية هو: أنّنا آتَينا هذه التعاليم والوصايا العامّة للأنبياء السابقين أوّلا، ثمّ آتينا موسى كتاباً سماوياً وَبَيّنا فيه هذه التعاليم والبرامج وغيرها من التعاليم والبرامج اللازمة.

وبهذا لا حاجة إِلى ما ذهب إِليه بعض المفسّرين من التوجيهات المختلفة، والضعيفة أحياناً في هذا المجال.

كما تتّضح هذه النقطة أيضاً، وهي أنّ عبارة: (الذي أحسَنَ) إِشارة إِلى جميع المحسنين، والذين يستجيبون للحق، ويقبلون بالأوامر الإِلهية.

(وتفصيلا لكل شيء) فإِن فيه كلّ شيء ممّا يحتاج إِليه المجتمع، وممّا له أثرٌ في تكامل الإِنسان وترشيده.

(وَهُدىً ورحمة) أي أنّ في هذا الكتاب الذي نزل على موسى مضافاً إِلى ما سبق: هدىً ورحمةً.

إِنَّ جميع هذه البرامج ما هيَ إِلاّ لكي يؤمنوا بيوم القيامة، وبلقاء الله، ولكي يُطهِّروا عن طريق الإِيمان بالمعاد أفكارَهم، وأقوالَهم، وأعمالَهم ويزكوها: (لعلّهم بلقاء ربّهم يُؤمِنُون).

هذا، ويمكن أن يُقال: إِذا كانت شريعة موسى شريعةً كاملةً (كما يُستفاد من

[518]

كلمة «تماماً») فما الحاجة إِلى شريعة عيسى، وإِلى الشريعة الإِسلامية؟

ولكن يجب أن يُعْلَم أنَّ كلّ شريعة من الشرائع إِنّما تكون شريعة جامعة وكاملة بالنسبة لعصرها، ومن المستحيل أن تنزل شريعة ناقصة من جانب الله تعالى.

بيد أنّ هذه الشريعة التي تكون كاملةً بالنسبة إِلى عصر معيَّن يمكن أن تكون ناقصةً غير كاملة بالنسبة إِلى العصور اللاحقة، كما أنّ البرنامجَ الكاملَ الجامعَ المُعَدّ لمرحلة الدراسة الإِبتدائية، يكون برنامجاً ناقصاً بالنسبة إِلى مرحلة الدراسة المتوّسطة، وهذا هو السرّ في إِرسال الأنبياء المتعددين بالكتب السماويّة المختلفة المتنوعة حتى ينتهي الأمرُ إِلى آخر الأنبياء وآخر التعاليم.

نعم إِذ تَهيّأ البشر لتلقّي التعاليم النهائية، وصدرت إِليهم تلك التعاليم والأوامر، لم يبق حاجةٌ ـ بعد ذلك ـ إِلى دين جديد، وكان شأنهم حينئذ شأنَ المتخّرجين الذين يمكنهم بما عندهم من معلومات الحصول على نجاحات علمية عن طريق المطالعة والتأمل.

إِن أتباع مثل هذه الشريعة، ومثل هذا الدين (النهائي) لن يحتاجوا إِلى دين جديد، وإِنّما يكتسبون طاقة حركتهم وتقدمهم من نفس ذلك الدين الإِلهي.

كما أنّه يُستفاد من هذه الآية أيضاً أنّ القضايا المرتبطة بالقيامة قد وردت في التّوراة الأصلية بالقدر الكافي. وإِذا لم نلاحظ اشارة إِلى قضايا الحشر والمعاد في التّوراة الفعلية والكتب الحاضرة المرتبطة بها إِلاّ نادراً، فالظاهر أنّ ذلك بسبب تحريف اليهود وأصحاب الدنيا الذين كانوا يرغبون في قلّة التحدّث في القيامة وقلّة السماع عنها.

على أنّه قد وردت في التّوراة الفعلية مع ذلك إِشارات عابرة ومختصرة إِلى مسألة القيامة، ولكنّها قليلة إِلى درجة دفع بالبعض إِلى القول: إنّ اليهود لا يعتقدون بالمعاد والقيامة أساساً، ولكن هذا الكلام أشبه بالمبالغة من الواقع

[519]

والحقيقة.

كما أنّه يجب أيضاً أن نلفت نظر القارىء إِلى أنّ المراد من القاء الله الذي ورد في الآيات القرآنية ليس هو اللقاء الحسي والرؤية البصرية، بل المرادُ هو نوعٌ من الشهود الباطني، واللقاء الروحاني، الذي يتحقق في يوم القيامة على أثر التكامل الإِنساني الحاصل للأشخاص، أو المقصود منه هو: مشاهدة الثوابِ والعقابِ في العالم الآخرَ.

الآية اللاحقة تشير إِلى نزول القرآن وتعليماته القيمة، وبذلك أكملت البحث المطروح في الآية السابقة، يقول تعالى: (وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ) فهذا الكتاب الذي أنزلناه كتاب عظيم الفائدة، عظيم البركة، وهو المنبع لكلِّ أنواع الخير والبركة.

ولمّا كان الأمر كذلك وَجَبَ اتباعه بصورة كاملة، ووجب التزودُ بالتقوى، والتجنبُ عن مخالفته، لتشملَكم رحمة الله ولطفه (فَاتَّبعوهُ واتّقوا اللهَ لَعَلَّكُم تَرحَمونَ).

وفي الآية الثالثة أبطل سبحانه جميع المعاذير والتحججات وسدّ جميع طرق التَملُّص والفرار في وجه المشركين، فقال لهم أوّلا: لقد أنزلنا هذا الكتاب مع هذه المميزات لكي لا تقولوا: لقد نزلت الكتب السماوية على الطائفتين السابقتين (اليهود والنصارى) وكنّا عن دراستها غافلين، وليس تَمرّدنا على أوامر الله لكونها موجودة عند غيرنا من الاُمَم، ولم يبلغنا منها شيء: (أنّ تقولوا إِنّما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنّا عن دراستهم لغافلين)(1).

ثمّ إِنه سبحانه ينقل عنهم ـ في الآية اللاحقة ـ نفس ذلك التحجج ولكن بصورة أوسع، ومقروناً هذه المرّة بنوع أشدّ من الغرور والصَّلَف وهو: أنّ القرآن الكريم لو لم ينزل عليهم لكانَ من الممكن أن يدّعوا أنّهم كانوا أكثر إِستعداداً من

_____________________________

1 ـ «أن تقولوا» معناه «لئَلاّ تقولوا» ونظير ذلك كثير في لغة العرب.

[520]

أية أُمّة أُخرى لقبول الأمر الإِلهي:(أو تقولوا لو أنا أُنزل علينا الكتاب لكنّا أهدى منهم).

والآية المتقدّمة كانت تعكس ـ في الحقيقة ـ هذا التحجج وهو: أنّ عدم اهتدائنا إِنّما هو بسبب غفلتنا وجهلنا بالكتب السماوية، وهذه الغفلة وهذا الجهل ناشىء عن أنَّ هذه الكتب نزلت على الآخرين، ولم تنزل علينا.

أمّا هذه الآية فتعكس صفة الإِحساس بالتفوق والإِدّعاء الفارغ الذي كانوا يدّعونه عن تفوّق العنصر العربيّ على غيرهم.

وقد نُقِلَ نظيرُ هذا المعنى في سورة فاطر في الآية (42) عن مقالة المشركين في شكل مسألة قاطعة وليس من بابِ القضية الشرطية وذلك عندما يقول: (وأقسَموا بالله جَهدَ أيمانِهم لِئن جاءهم نذيرٌ ليكونَنَّ أهدىَ من إِحدى الأُمَم فلمّا جاءَهم نذيرٌ ما زادَهم إِلاّ نُفوراً).

وعلى أية حال فإنّ القرآن يقول في معرض الرّد على هذه الإِدعاءاتُ أن الله سبحانه سدّ عليكم كل سُبُل التملص والفرار، وأبطل جميع الذرائع والمعاذير، لأنّ الله آتاكم كلَ الآيات، وأقام كل الحجج المقرونة بالهداية الإِلهية وبالرحمة الربانية لكم: (فقد جاءَكم بينة من ربّكم وهدىً ورحمة).

والملفتُ للنظر أنّه استعمل لفظ «البينة» بدل الكتاب السماوي، وهو إِشارة إِلى أنّ هذا الكتاب السماوي واضح المعالم، بَيّن الحقائق من جميع الجهات، ومقرونٌ بالدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة اللامعة.

ومع ذلك (فمن أظلم ممّن كذّبَ بآيات الله وصَدَف عنها).

و«صَدَفَ» من «الصَدْف» ويعني الإِعراض الشديد ـ من دون تفكير ـ عن شيء، وهو إِشارة إِلى أنّهم لم يكونوا ليعرضوا عن آيات الله فحسب، بل كانوا يبتعدون عنها ـ أيضاً ـ من دون أن يفكروا فيها أدنى تفكير. ربّما استُعمِلت هذه اللفظة بمعنىً آخر وهو منع الآخرين أيضاً.

[521]

وفي خاتمة هذه الآية بيّن الله تعالى العقاب الأليم الذي أُعِدَّ لهؤلاء المخاصمين المعاندين الذين يرفضون الحقائق وينكرونها من دون أن يفكروا فيها ويدرسوها ولو قليلا، بل ولا يكتفون برفضها إِنما يعمدون إِلى صدّ الآخرين عنها، ويحولون بينهم وبين سماعها واستيعابها، بَيّن كلَ ذلك في قوله الموجز والبليغ: (سنجزي الذين يَصِدِفون عَن آياتِنا سوءَ العَذَابَ بما كانوا يصدِفون).

و«سوءُ العذاب» وإِن كان بمعنى العذابَ السيء، ولكن حيث أن العذابَ السيّء عقابٌ شديدٌ وموجع للغاية في حدّ نفسه، لذلك فسَّره بعض المفسّرين بالعقاب الشديد.

ثمّ إِنّ تكرارَ لفظة «يصدفون» عند بيان جزاء الصادفين عن آيات الله لأجل توضيح هذه الحقيقة، وهي أنَّ جميع البلايا والمحن التي تصيب هذا الفريق ناشئة من كونهم يعرضون عن الحقائق من دون أدنى تفكير ودراسة، ولو أنّهم سمحوا لأنفسهم بالتفكير والدراسة ـ كباحث عن الحقيقة وشاك يطلب اليقين ـ لَما أُصيبوا بِمثل هذه العواقب الأليمة والمصير المؤلم.

* * *

[522]

الآية

هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْيَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَـتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَـتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيَمَـنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـنِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)

التّفسير

توقعات باطلة ومطاليب مستحيلة:

في الآيات السابقة تبيّنت هذه الحقيقة وهي: أنّنا أتممنا الحجّة على المشركين، وآتيناهم الكتاب السماوي (أي القرآن) لهدايتهم جميعاً، لكي لا يبقى لديهم أي عذر يبرّرون به مخالفتهم للرسالة ومعارضتهم للدعوة.

وهذه الآية تقول: ولكن هؤلاء الأشخاص المخاصمين المعاندين بلغوا في لجاجهم وعنادهم حدّاً لا يؤثّر فيهم حتى هذا البرنامجُ الواضحُ البيّنُ، وكأنّهم يتوقعون وينتظرون هلاكهم، أو ذهاب آخر فرصة، أو ينتظرون أُموراً مستحيلة.

فيقول أولا: (هل يَنظرون إِلاّ أن تأتيهم الملائكة) لتقبض أرواحهم.

(أو يأتي ربّك) إِليهم فيرونه، حتى يؤمنوا به.

[523]

ويراد من هذا الكلام في الحقيقة أنّهم ينتظرون أُموراً مستحيلة، لا أنّ مجيء الله سبحانه وتعالى أو رؤيته أُمور ممكنة.

وهذا النوع من البيان والكلام أشبه ما يكون بمن يقول لشخص مجرم معاند، بعد أن يريه ما لديه من وثائق كافية دامغة وهو مع كل هذا ينكر جنايته: إِذا كنتَ لا تقبل بكل هذه الوثائق، فلعلك تنتظر أن يعود المقتول إِلى الحياة، ويحضر في المحكمة ليشهد عليك بأنّك الذي قتلَته؟

ثمّ يقول: أو أنّكم تنتطرون أن تتحقق بعض الآيات الإِلهية والعلامات الخاصّة بيوم القيامة ونهاية العالم يوم تنسدّ كلُ أبواب التوبة: (أو يأتي بعض آيات ربّك)؟

وعلى هذا الأساس فإِنَّ عبارة (آيات ربّك) وإن جاءت بصورة كليّة وعلى نحو الإِجمال، ولكنّها يمكن أن تكون بقرينة العبارات اللاحقة التي سيأتي تفسيرها، بمعنى علامات القيامة، مثل الزلازل المخيفة، وفقدان الشمس والقمر والكواكب لأنوارها وأضوائها، وما أشبه ذلك.

أو يكون المراد من ذلك المطاليب غير المعقولة التي يطلبونها من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن جملتها أنّهم لا يؤمنون به إِلاّ أن تمطر عليهم السماء حجارة، أو تمتليء صحاري الحجاز القفراء اليابسة بالينابيع والنخيل!!

ثمّ يضيف عقيب ذلك قائلا: (يومَ يأتي بعضُ آياتِ ربّك لا ينفَعُ نفساً إِيمانُها لم تكن آمَنتْ من قبلُ أو كسَبتْ في إِيمانِها خيراً) فأبواب التوبة حينذاك مغلقة في وجوه الذين لم يؤمنوا إِلى تلك الساعة، لأنّ التوبة ساعتئذ تكون ذات صبغة اضطرارية إِجبارية، وفاقدة لمعطيات الإِيمان الإِختياري وقيمة التوبة النصوح.

هذا، ويتضح ممّا قيل أن عبارة (أو كسَبت في إِيمانها خيراً) تعني أنّ الإِيمان وحده لا ينفع في ذلك اليوم، بل حتى أُولئك الذين آمنوا من قبل، ولكنّهم لم

[524]

يعملوا عملا صالحاً، لم ينفعهم في ذلك اليوم أن يعملوا عملا صالحاً، لأنّ أوضاعاً كتلك تسلبُ من الإِنسان القدرة على ارتكاب الذنب، وتقوده نحو العمل الصالح بصورة جبرية لا مفرّ منها، فلا يكون لمثل هذا العمل أية قيمة ذاتية.

ثمّ إِنّه في المقطع الأخير من الآية يوجه تهديداً شديداً إِلى هؤلاء الأشخاص المعاندين، إِذ يقول بنبرة شديدة: (قل انتظروا إِنّا منتظِرون).

لا فائدة للإِيمان بدون عمل:

إِنّ من النقاط الهامّة التي نستفيدها من الآية الحاضرة هو أنّ الآية تعتبر طريقَ النجاة منحصرة في الإِيمان، ذلك الإِيمان الذي يكتسب المرء فيه خيراً ويعمل في ظلّهِ عملا صالحاً.

ويمكن أن ينطرح هذا السؤال وهو: هل الإِيمان وحده غير كاف ولو خلّي من جميع الأعمال الصالحة؟

ونجيب: صحيح أنّ المؤمن يمكن أن يزلّ أحياناً ويرتكِبَ بعض الذنوب المعاصي ثمّ يندم على فعله ويعمد إِلى إِصلاح نفسه، ولكن مَن لم يعمل أيّ عمل صالح طوال حياته، ولم يستغل الفرص الكثيرة والكافية لذلك، بل على العكس من ذلك صدر منه كل قبيح ووقعت منه كل معصية، واقترفَ كل إِثم، فإِنّه يبدو من المستبعَد جداً أن يكون من أهل النجاة، ومن الذين ينفعهم إِيمانُهم، لأنّه لا يمكن أن نصدّق بأنّ شخصاً ينتمي إِلى دين من الأديان، ولكنّه لا يعمل بأي شيء من تعاليم ذلك الدين ولا مرّة واحدة في حياته، بل كان يرتكب خلافها دائماً، إذ إنّ حالتُه وموقفَه هذا دليلٌ قاطعٌ وبيّنٌ على عدم إيمانه، وعدم اعتقاده.

وعلى هذا الأساس يجب أن يقترن الإِيمان ولو بالحدّ الأدنى من العمل الصالح، ليدلّ ذلك على وجود الإِيمان.

* * *

[525]

الآيتان

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159) مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهِا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(160)

التّفسير

رفض المفرّقين للصّفوف ونفيهم:

تعقيباً على التعاليم والأوامر العشر التي مرّت في الآيات السابقة، والتي أُمِرَ في آخرها بإِتباع الصِراط الإِلهي المستقيم، وبمكافحة أي نوع من أنواع النفاق والتفرقة، جاءت هذه الآية تتضمن تأكِيداً على هذه الحقيقة، وتفسيراً وشرحاً لَها.

فيقول تعالى أوّلا: (إِنَّ الذينَ فَرَّقوا دينَهم وكانوا شِيعَاً لستَ منهم في شيء)(1) أي أنَّ الذين اختلفوا في الدين وتفرقوا فرقاً وطوائف لا يمتون إِليك

_____________________________

1 ـ «الشِيَع» من حيث اللغة تعني الفرق والطوائف المختلفة وأتباع الأشخاص المختلفين، وعلى هذا فإنّ مفرد كلمة يعني من يتبع مدرسة أو شخصاً معيناً، هذا هو المعنى اللغوي لكلمة الشيعة.

ولكن للفظة الشيعة معنى آخر في الإِصطلاح، فهو يُطلق على من يتبع أميرالمؤمنين علياً(عليه السلام) ويشايعه، ولا يصح أن نخلط بين المعنيين اللغوي والإِصطلاحي.

[526]

بصلة أبداً، كما لا يرتبطون بالدين أبداً، لأنّ دينك هو دين التوحيد، ودين الصِراط المستقيم، والصراطُ المستقيم ما هو إِلاّ واحد لا أكثر.

ثمّ قال تعالى ـ مُهدِّداً مُوبِّخاً أُولئك المفُرِّقين ـ: (إِنّما أمرُهم إِلى الله ثمّ ينبّئهم بما كانوا يَفعَلون) أي أنّ الله هو الذي سيؤاخذِهم بأعمالهم وهو عليم بها، لا يغيبُ شيء منها.

بحثان

وها هنا نقطتان يجب الإِلتفات إليهما:

1 ـ من همُ المقصودون في الآية؟

يعتقد جماعةٌ من المفسّرين أنَّ هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين اختلفوا وتفرّقوا إِلى فرق وطوائف مذهبية مختلفة، وتباغضوا وتشاحنوا وتنازعوا فيما بينهم.

ولكن يرى آخرون أنّ هذه الآية إِشارة إِلى الذين يفرّقون صفوف هذه الأُمّة (الإِسلامية) بدافع التعصب وحبّ الاستعلاء، وحب المنصب والجاه.

ولكن محتوى هذه الآية يمثل حكماً عاماً يشمل كل من يفرّق الصفوف، وكل من يبذر بذور النفاق والاختلاف بين عباد الله بابتداع البدَع، من دون فرق بين من كان يفعل هذا في الأُمم السابقة أو في هذه الأُمة.

وما نلاحظه من الرّوايات المنقولة عن أهل البيت(عليهم السلام) وهكذا روايات أهلُ السنّة التي تصرّح بأن هذه الآية إِشارة إِلى مفرّقي الصفوف وأهل البدع في هذه

[527]

الأُمّة، فهو من باب بيان المصداق(1)، لأنّه لو لم يُذكر هذا المصداق لظنَ البعض أنَّ المقصود بالآية هم الآخرون خاصّة، وأنّ الضمير عائد إِلى غيرهم فيبّرئوا بذلك ساحتهم.

ففي رواية منقولة عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في ذيل هذه الآية ـ على ما في تفسير علي بن إِبراهيم ـ قال في تفسيرها: «فارقوا أميرالمؤمنين(عليه السلام) وصاروا أحزاباً»(2).

وهناك أحاديث أُخر رويت عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حول افتراق هذه الأمّة وتشتتها وتشرذمها إِلى فرق ذكرها على سبيل التنبؤ، جميعها تؤيّد هذه الحقيقة أيضاً.

2 ـ بشاعة التفرقة وزرع الاختلاف

هذه الآية تكرّر مرّة أُخرى ـ وبمزيد من التأكيد ـ هذه الحقيقة، وهي أنّ الإِسلام دين الوحدة والإِتحاد، وأنّه يرفض كل لون من ألوان التفرقة وإِلقاء الإِختلاف في صفوف الأُمة، وتقول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّ عملك وبرنامجك لا يشابه عمل المفرقين للصفوف، ناشري الخلاف فيها مطلقاً، وانهم بالتالي لا يمتون إِليك ولا تمت إِليهم بصلة أبداً، وإِنّ الله المنتقم الجبار سوف ينتقم منهم، ويريهم عاقبة أعمالهم الشريرة.

إِنّ التوحيد الحقيقي ليس واحداً من أُصول الإِسلام وقواعده فحسب، بل إِنّ جميع أُصول الإِسلام وفروعه، وجميع برامجه المتنوعة، تدور حول محور التوحيد، وتنطلق منه وتنتهي إِليه التوحيد روح سارية في كيان التعاليم الإِسلامية برمتها، والتوحيد هو الاساس الحضاري الذي تقوم عليه مبادىء الإِسلام عامته.

ولكن هذا الدين الذي يتألف من أقصاه إِلى أقصاهُ من عنصر الوحدة

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، المجلد الاوّل، ص 783.

2 ـ نور الثقلين، المجلد الاوّل، ص 783.

[528]

والإِتحاد قد وقع اليومَ ـ مع شدة الأسف ـ فريسة بأيدي مفرّقي الصفوف، ومثيري الاختلاف بحيث فَقَدَ وجهه الحقيقي.

فبيّن يوم وآخر ينعق ناعق، ويثير نغمةً جديدة خبيثة، ويقوم معقّد أو معتوه أو غبيّ ويخالف حكماً من أحكام الإِسلام، وبرنامجاً من برامجه، فيلتف حوله فريق من الجهلة والبسطاء، فيفرز تمزقاً جديداً.

على أنّ للجهل الذي يعاني منه فريق من العامّة دوراً مؤثراً في هذه التفرقة والاختلافات، لا يقل عن تأثير ذكاء الأعداء وفطنتهم ويقظتهم في إذكاء التمزّق الداخلي.

فربّما طرح البعض أُموراً أكل عليه الدهر وشرب، من جديد، وأحدثوا حولها ضجّة غبيّة ليشغلوا بها بال الناس، ولكن الإِسلام ـ كما صرحت الآية غريب عن أعمالهم، وأعمالهم غريبة عن الإِسلام، وستفشل في المآل كل محاولات المفرقين للصفوف، تذهب أدراج الرياح، ولن يحصدوا منها سوى الخيبة والخسران.

حملات كاتب «المنار» الظالمة على الشّيعة:

يعاني كاتُب تفسير المنار من سوء ظن بالغ الشدّة بالنسبة إِلى الشيعة، وبنفس القدر يعاني من الجهل بعقائد الشيعة وتاريخهم.

ففي ذيل هذه الآية يعقد فصلا حول الشيعة تحت غطاء الدعوة إِلى الإِتحاد، ويصفهم بأنّهم يفرقون الصفوف ويخالفون الإِسلام، وأنهم ممن يعملون ضدّ الإِسلام ويقومون بنشاطات سياسية تخريبية تحت غطاء المذهب والعقيدة الدّينية، وكأنّ وجود كلمة «شيعاً» في الآية الحاضرة والتي ليس لها أي إِرتباط بقضية التشيع والشيعة ذكّره بهذه الأُمور التافهة، فاندفع يتّهم هذه الجماعة المؤمنة من دون تورّع.

[529]

إِنّ كتاباته أفضل جواب على أقواله، وخير شاهد على عدم معرفته بعقائد الشيعة، وتأريخهم، وذلك لأنّه:

1 ـ يربط بين الشّيعة و«عبد الله بن سبأ» اليهودي المشكوك في أصل وجوده من وجهة نظر التّأريخ، والذي ليس له ـ على فرض وجوده ـ أدنى دور في تاريخ التشيع والشيعة!

بينما نجده من جانب آخر يربط بين الشيعة و«الباطنية» بل حتى بين الشيعة والفرقة البهائية التي هي أعدى أعداء الشيعة. على حين تكشف أدنى معرفة بتاريخ الشيعة أنّ هذه الأحاديث والمزاعم ليست سوى مزاعم وأحاديث خيالية وهمية، بل محض افتراء وإِتهام واختلاق.

والأعجب من كل ذلك هو أنّ هذا الكاتب يربط بين جماعة «الغلاة» (وهم الذين يرفعون علياً(عليه السلام) إِلى درجة الأُلوهية غلوّاً) وبين الشيعة في حين أن الفقه الشيعي أفرز فصلا للغلاة تحت عنوان إِحدى الفرق والطوائف المقطوع بكفرها، ويتهم الشيعة بأنّهم يعبدون أهل البيت، وغير ذلك من النسب الباطلة الرخيصة.

إِن من المسلّم أن كاتب «المنار» لو لم يكن قد تأثر بالأحكام المتسرّعة والعصبيات العمياء وسمح لنفسه بأن يسمع عقائد الشيعة من أفواهم أنفسهم، ويأخذها منهم، ويستقرئها من كتبهم لا من كتب أعدائهم لعرف جيداً بأنّ ما نسبه إِلى الشيعة ليس مجرّد افتراءات وأكاذيب، بل هو مهازل مضحكة.

والأعجب من ذلك كلّه أنّه عزا نشأة التشيع إِلى الإِيرانيين، على أنّ التشيع كان فاشياً في العراق والحجاز ومصر قبل أن يتشيع الإِيرانيون بقرون مديدة، والوثائق التّأريخية شواهد حيّة على هذه الحقيقة.

2 ـ إِنّ ذَنْب الشيعة هو أنّهم عملوا بما صدر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قطعاً، والذي ورد ـ كذلك ـ في أوثق المصادر السنيّة وهو قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّي تارك فيكم الثقلين

[530]

ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي»(1).

إِنَّ ذَنْب الشيعة هو أنّهم يعتبرون أهل البيت النبوي أدرى وأعرف من غيرهم بدين النّبي ورسالته، فجعلوهم الملجأ والمرجَع في المشاكل الدينية، وأخذوا عنهم حقائق الإِسلام.

أنّ ذنب الشيعة هو أنّهم فتحوا باب «الإِجتهاد» أخذاً بحكم المنطق والعقل، والقرآن والسنة وبذلك منحوا الفقه الإِسلامي فاعلية متحركة، ولم يحصروه بـ «أربعة أشخاص» ويجبروا الناس على إِتباعهم.

أليست خطابات القرآن والسنة وموجّهة إِلى عموم المؤمنين في جميع الدهور والعصور؟

أم هل كان أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتّبعون في فهم الكتاب والسنة أشخاصاً معينين، فلماذا نحصر الإِسلام في حصار قديم من الجمود باسم «المذاهب الأربعة» الحنفي، الحنبلي، المالكي، الشّافعي؟!

إِن ذَنب الشيعة هو أنّهم يقولون: إِنّ صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مثل سائر المسلمين يجب أن يقيَّموا بمقياس إِيمانهم وفي ضوء أعمالهم، فمن وافق عمله الكتابَ والسنة كان صالحاً، ومن خالف عمله الكتاب والسنة ـ سواء أكان في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو جاء بعده ـ رُفِضَ وطُرِدَ، ولا تكفي مجرّد الصحبة ليتستر بها المجرمون والجناة، فلا يجوز أن يقدَّسَ ويُحتَرم رجال كمعاوية الذي داس كلَ القيم وتجاهل جميع الضوابط الإِسلامية، وخرج على إِمام زمانه الذي رضيت به الأُمّة الإِسلامية، وعلى الأقل في ذلك العصر (ونعني علياً(عليه السلام))، وأراق تلك الدّماء الكثيرة! ... لا يجوز تقديس هذا الشخص وأمثاله لمجرّد صحبته لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا بعض الصحابة المرتزقة ممن مالأه وسار في ركابه.

_____________________________

1 ـ راجع صحيح الترمذي مجلد 3 الصفحة 100، وسنن البيهقي المجلد الأوّل الصفحة 13 والمجلد الثّاني الصفحة: 431، وكنزالعمال المجلد الأوّل الصفحة 154 و159، والطبقات الكبرى لابن سعد المجلد الثاني، الصفحة 2 وكتباً أُخرى.

[531]

نعم هذه هي ذنوب الشيعة وهم يعترفون بها، ولكن هل وجدتم في عالمنا هذا من هو أشدّ مظلوميّةً من الشيعة، بحيث تُعتَبَر أَفضَل نقاط القوّة في تاريخها وعقائدها نقاط ضعف، ويكيلون لها سيلا من الإِتهامات والأكاذيب، بل ولا يسمحون لها بأن تنشر معتقداتها في أوساط المسلمين وتعرضها عليهم بحرية، كما يفعل غيرها من الطوائف، بل يأخذون عقائدها من غيرها.

ترى إِذا عملت جماعة بأمر نبيّهم في حين لا يعمل الآخرون به، فهل يعتبر عمل تلكم الجماعة تفريقاً للصفوف، وشقاً لعصى الأُمّة؟ وهل يجب صرفُ هذه الجماعة عن مسارها ليتحقق الإِتحاد، أو تقويم من يسلك غير سبيل المؤمنين؟

3 ـ إِنَّ تاريخ العلوم الإِسلاميَّة يشهد أنّ الشيعة كانوا السبّاقين في أكثر هذه العلوم والمعارف إِلى درجة أنه اعتبِرَ الشيعة، البناة المؤسسين لعلوم الإِسلام.(1)

إِنّ الكتب التي ألَّفها علماء الشيعة في مجال التّفسير والتّأريخ، والحديث والفقه، والأُصول، والرجال والفلسفة الإِسلامية، ليست أُموراً يمكن تجاهلها وإِنكارُها أو إِخفاؤها، فهي موجودة في جميع المكتبات (اللّهم إِلاّ اكثر مكتبات أهل السنة الذين لا يسمحون عادة بدخول هذه المؤلّفات والكتب إِلى مكتباتهم، في حين أننا نسمح بدخول مؤلفاتهم في مكتباتنا منذ قرون مديدة) وهذه الكتب شواهد حيّة على ما ذكرناه.

فهل هؤلاء الذين صنّفوا وألّفوا كلَ هذه الكتب حول الإِسلام وتعاليمه، في سبيل نشرها وبثّها وتعميقها، كانوا أعداءً للإِسلام؟

وهل عرفتم عدوّاً يحبّ الإِسلام بهذه الدرجة؟!

أم هل يستطيع أحدٌ أن يخدم الإِسلام الحنيف بمثل هذه الخدمةِ الكبيرةِ،إِذا كان محبّاً مخلِصاً، وعاشِقاً متيّماً؟!

هذا ونقول في ختام حديثنا: إِذا أردتم أن نزيل كل هذا الاختلاف والفرقة

_____________________________

1 ـ للوقوف على أدلة هذا الموضوع راجع كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإِسلام»، وكتاب «أصل الشيعة وأُصولها».

[532]

تعالوا نعمل شيئاً آخر بدل التراشق بالإِتهامات، وذلك أن يتعرف بعضَنا على بعض ويفهم بعضَنا بعضاً، لأنّ مثل هذه النسب والإِفتراءات الباطلة ليس من شأنها أن تحقق الوحدة الإِسلامية، بل توجه ضربة قاضية إِلى أُسس الوحدة الإِسلامية.

ثواب أكثر، عقاب أقلّ:

في الآية اللاحقة إِشارة إِلى الرحمة الإِلهية الواسعة، وإِلى الثواب الإِلهي الواسع الّذي ينتظر الأفراد الصالحين المحسنين، وقد كمّلت التهديدات المذكورة في الآية بهذه التشجيعات ويقول: (مَن جاء بالحَسَنة فله عَشرُ أمثالِها).

ثمّ قال: (ومن جاء بالسّيئة فلا يُجزى إِلاّ مثلها).

وللتأكيد يضيف هذه الجملة أيضاً فيقول: (وهم لا يُظلَمون) وإِنما يعاقبون بمقدار أعمالهم.

وأمّا ما هو المراد من «الحسنة» و«السّيئة» في الآية الحاضرة وهل هما خصوص «التوحيد» و«الشرك» أو معنىً أوسَع؟ فبين المفسّرين خلاف مذكور في محلّه، ولكن ظاهر الآية يشمل كل عمل صالح وفكر صالح وعقيدة صالحة أو سيئة، إِذ لا دليل على تحديد أو حصر الحسنة والسيئة.

بحوث

وها هنا نكاتُ يجب التَوجُّه إِليها والتوقف عندها:

1 ـ إِنّ المقصود من قوله: «جاء به» كما يستفاد من مفهوم الجملة هو أن يجيء بالعمل الصالح أو السيء معه، يعني إِذا مثل الإِنسان أَمامَ المحكمة الإِلهية العادلة يوم القيامة فإنّه لا يحضر بيد فارغة خالية من العقيدة والعمل الصالحين، أو عقيدة أو أعمال طالحة، بل هي معه دائماً، ولا تنفصل عنه أبداً، فهي قرينته في

[533]

الحياة الأبديّة وتحشر معه.

لقد استعمل مثل هذا التعبير في الآيات القرآنية الأُخرى بهذا المعنى أيضاً ... ففي الآية (33) من سورة (ق) نقرأ قوله تعالى: (من خشي الرَّحمان بالغيب وجاء بقلب منيب) إِنَّ الجنّة لمن آمن بالله عن طريق الإِيمان بالغيب، وخافه وأتى إِلى ساحة القيامة بقلب تائب مملوء بالإِحساس بالمسؤولية.

2 ـ أجر الحسنة، عشرة أضعاف

نقرأ في الآية الحاضرة أن الحسنة يُثابُ عليها بعشرة أضعافها، بينما يستفاد من بعض الآيات القرآنية أنه اقُتصِرَ على عبارة (أضعافاً كثيرة) من دون ذكر عدد الأضعاف (كما في الآية 245 من سورة البقرة) وفي بعض الآيات بلغ ثواب بعض الأعمال مثل الإِنفاق إِلى سبعمائة ضعف (كما في الآية 261 من سورة البقرة) بل ربّما إِلى أكثر من ذلك مثل قوله: (إِنّما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)(1).

إِنّ من الواضح أنه لا تناقض بين هذه الآيات أبداً، إِذ إِنّ أقل ما يعطى للمحسنين هو عشرة أضعاف الحسنة، وهكذا يتصاعد حجم الثواب مع تعاظم أهمية العمل والحسنة، ومع تعاظم درجة الإِخلاص، ومع ازدياد مقدار السعي والجهد والمبذول في سبيل العمل الصالح، حتى يصل الأمر إِلى أن تتحطم الحدود والمقادير، ولا يعلم حدّ الثواب ومقداره إِلاّ الله تعالى.

فمثلا الإِنفاق الذي يَحظى بأهمية بالغة في الإِسلام يتجاوز مقدار ثوابه الحدّ المتعارف للعمل الصالح الذي هو عشرة أضعاف الحسنة، ويصل إِلى «الأضعاف الكثيرة» أو «سبعمائة ضعف» وربّما أكثر من ذلك.

والاستقامة التي هي أساس جميع النجاحات والسعادات، ولا تبقى عقيدة

_____________________________

1 ـ الزمر، 10.

[534]

أو عمل صالح ولا يستمر بدونها قد ذكر القرآن لها ثواباً خارجاً عن حدّ الإِحصاء والحساب.

ومن هنا أيضاً يتضح عدم المنافاة بين هذه الآية وبين الرّوايات التي تذكر لبعض الأعمال الحسنة مثوبة أكثر من عشرة أضعاف.

كما أنّ ما نقرؤه في الآية (84) من سورة القصص في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خيرٌ منها) لا ينافي الآية الحاضرة حتى نحتاج إِلى القول بنسخ الآية، لأنّ للخير معنىً واسعاً يتلاءم مع عشرة أضعاف أيضأ.

3 ـ لماذا كفارة يوم واحد ستين يوماً؟

ربّما يتصور البعض: أنّ وجوب صوم «ستين يوماً» من باب الكفارة في مقابل إِفطار يوم من شهر رمضان، والعقوبات الأُخرى في الدنيا والآخرة من هذا القبيل، لا تتلاءم مع الآية الحاضرة التي تقول: السيئة تجازى بمثلها فقط.

ولكن مع الإِلتفات إِلى نقطة واحدة يتضح جواب هذا الإِعتراض أيضاً وهي أنّ المراد من المساواة بين «المعصية والعقوبة» ليس هو المساواة العددية، بل لابدّ من أخذ كيفية العمل أيضاً بنظر الاعتبار.

إِنّ إِفطار يوم واحد من أيّام شهر رمضان المبارك مع ماله من الأهمية، ليست عقوبته صوم يوم واحد بدله من باب الكفارة، بل عليه أن يصوم أيّاماً عديدة حتى تساوي مبلغ احترام ذلك اليوم من شهر رمضان المبارك، ولهذا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ عقوبة الذنوب في شهر رمضان أشد وأكبر من عقوبة الذنوب في الأيّام والأشهر الأُخرى. كما أنّ ثواب الأعمال الصالحة في تلك الأيام أكثر وأزيد، إِلى درجة أنّ ثواب ختمة واحدة للقرآن في هذا الشهر يعادل ثواب سبعين ختمة للقرآن في الأشهر الأُخرى.

[535]

4 ـ منتهى اللّطف الرّباني

إِنّ النقطة الأجمل في المقام هي أنّ الآية الحاضرة جسّدت منتهى اللطف والرحمة الإِلهية في حق الإِنسان.

فهل عرفت أحداً بيده كل أزمة الإِنسان وشؤونه، كما أنّه محيط بجميع أعماله وشؤونه، يبعث قادة ومرشدين معصومين لهدايته وإِرشاده، ليوفق إِلى الإِتيان بالعمل الصالح في هدي رُسُله، مستفيداً من الطاقة الإِلهية الممنوحة له، مع ذلك يثيبه على حسناته بعشر أمثالها، ولكنّه لا يجازيه على السيئة إِلاّ بمثلها، ثمّ يجعل باب التوبة ونيل العفو مفتوحاً في وجهه؟!

يقول أبوذر: قال الصادق المصدَّقَ [أي رسول الله[: «إِنّ الله قال الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفرُ، فالويل لمن غلبت آحادهُ أعشارَه»(1).

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد الرابع، ص 390.

[536]

الآيات

قُلْ إِنَّنِى هَدَنِى رَبِّى إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(161) قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للهِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ(162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163)

التّفسير

هذا هو طريقي المستقيم

هذه الآية والآيات الأُخر التي سنقرؤها فيما بعد والتي ختمت بها سورة الأنعام، تعتبر خلاصة الأبحاث المطروحة في هذه السورة التي بدأت وانتهت بمكافحة الشرك والوثنية، وتركزت أحاديثها على توضيح هذا الأمر. فقد بدأت هذه السورة بالدعوة إِلى التوحيد ومكافحة الشرك، وختمت بنفس ذلك البحث أيضاً.

ففي البداية أمرت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقول في مواجهة معتقدات المشركين والوثنيين ومزاعمهم الجوفاء والعارية عن المنطق السليم: (قل إِنّني هداني ربي إِلى صراط مستقيم) أي طريق التوحيد، ورفض كل أشكال الشرك والوثنية.

[537]

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية وطائفة كبيرة من الآيات السابقة واللاحقة لها تبدأ بجملة: «قُلْ» ولعلّه لا توجد في القرآن الكريم سورة كررت فيها هذه الجملة بهذا القدر مثل هذه السورة، وهذا يعكس في الواقع مدى شدّة المواجهة بين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبين منطق المشركين.

كما أنّه يسُدُّ كل أبواب العذر في وجوههم، لأنّ تكرار كلمة «قل» علامة على أنّ كل ما يقوله لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِنّما هو بأمر الله، بل هو عين كلام الله، لا أنّها آراء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأفكاره وقناعاته الشخصية.

ومن الواضح أن ذكر كلمة «قل» في هذه الآيات وأمثالها في نص القرآن، إِنّما هو لحفظ أصالة القرآن، وللدلالة على أن ما يأتي بعدها هو عين الكلمات التي أُوحيت إِلى رسول الله.

وبعبارة أُخرى: الهدف منها هو الدلالة على أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحدث فيها أيّ تغيير في الألفاظ التي أُوحيت إِليه، وحتى كلمة «قل» التي هي خطاب إِليه قد ذكرها عيناً.

ثمّ إِنّه تعالى يوضح «الصراط المستقيم» في هذه الآية والآيتين اللاحقتين.

فهو يقول أوّلا: إِنّه الدين المستقيم الذي هو في نهاية الصحة والاستقامة، وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لأُمور الدين والدنيا والجسد والروح: (ديناً قيماً)(1).

وحيث أنّ العرب كانوا يكنّون لإِبراهيم(عليه السلام) محبّة خاصّة، بل كانوا يصفون عقيدتهم ودينهم بأنّه دين إِبراهيم هو هذا الذي أدعو أنا إِليه لا ماتزعمونه: (ملة إِبراهيم).

إِبراهيم(عليه السلام) الذي أعرض عن العقائد الخرافية التي كانت سائدة في عصره وبيئته، وأقبل على التوحيد (حنيفاً).

_____________________________

1 ـ «قيماً» قد تأتي أيضاً بمعنى الاستقامة، وقد تأتي بمعنى الثبات والدوام وكذلك تأتي بمعنى القائم بامور الدين والدنيا.

[538]

و«الحنيف» يعني الشخص أو الشيء الذي يميل إِلى جهة ما، وأمّا في المصطلح القرآني فيطلق هذا الوصف على من يعرض عن عقيدة عصره الباطلة ويولي وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقّة.

وكأنّ هذا التعبير جواب وردّ على مقالة المشركين الذين كانوا يعيبون على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مخالفته للعقيدة الوثنية التي كانت دين أسلافهم من العرب، فقال النّبي في معرض الردّ على مقالتهم هذه، بأنّ نقض السنن الجاهلية والإِعراض عن العقائد الخرافية السائدة في البيئة ليس هو من فعلي فقط، بل كان إِبراهيم ـ الذي نحترمه جميعاً ـ كذلك أيضاً.

ثمّ يضيف للتأكيد قائلا: (وما كان من المشركين)، بل هو بطل الكفاح ضد الوثنية، وحامل الحرب ضد الشرك، الذي لم يفتأ لحظةً واحدة عن محاربته وكفاحه.

إِنّ تكرار جملة (حنيفاً وما كان من المشركين) في عدّة موارد من آيات القرآن الكريم مع قوله: «مسلماً» أو بدونها، إِنّما هو للتأكيد على هذه المسألة وهي أنّ إِبراهيم الذي يفتخر به العرب الجاهليون مبرّأ ومنزه عن كل هذه العقائد والأعمال الخاطئة(1).

الآية اللاحقة تشير إِلى أنّه على النّبي أن يقول: إِنّي لست موحداً من حيث العقيدة فحسب، بل إِني أعمل كل عمل صالح: (قل إِنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)، فأنا أحيى لله، وله أموت، وأفدي بكل شيء لأجله، وكل هدفي وكل حبّي بل كل وجودي له.

و«النُسُك» يعني في الأصل العبادة، ولذا يقال: للعابد: ناسك، ولكن هذه الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال: مناسك الحج.

وقد احتمل البعض أن يكون الموارد من «النُسُك» هنا هو «الأُضحيّة»،

_____________________________

1 ـ البقرة، 135، آل عمران، 47 و95.

[539]

ولكن الظاهر أنّه يشمل كل عبادة، وهو إِشارة أوّلا إِلى الصّلاة كأهم عبادة، ثمّ إِلى سائر العبادات بشكل كلّي، يعني صلاتي وكل عباداتي، بل وحتى موتي وحياتي كلها له تعالى.

ثمّ في الآية الثالثة يضيف للتأكيد، وإِبطالا لأي نوع من أنواع الشرك والوثنية قائلا: (لا شريك له).

ثمّ يقول في ختام الآية: (وبذلك أُمرتُ وأنا أوّل المسلمين).

كيف كان النّبيُّ أوّل مسلم؟

في الآية الحاضرة وُصِف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه أوّلُ المسلمين.

وقد وقع بين المفسّرين كلام حول هذه المسألة، لأنّنا نعلم أنّه إِذا كان المقصود من «الإِسلام» هو المعنى الواسع لهذه الكلمة فإِنه يشمل جميع الأديان السماويّة، ولهذا يُطلَق وصف المسلم على الأنبياء الآخرين أيضاً، فاننا نقرأ حول نوح(عليه السلام): (وأُمِرتُ أن أكون من المسلمين)(1).

ونقرأ حول إِبراهيم الخليل(عليه السلام) وإبنه إِسماعيل أيضاً: (ربّنا واجعلنا مسلِمين لك)(2).

وجاء في شأن يوسف(عليه السلام): (توفّني مسلماً)(3).

على أن «المسلم» يعني الذي يسلّم ويخضع أمام أمر الله، وهذا المعنى يصدق على جميع الأنبياء الإِلهيين وأُممهم المؤمنة، ومع ذلك فإِن كونَ رسولِ الإِسلام أوّلَ المسلمين، إِمّا من جهة كيفية إِسلامه وأهميته، لأنّ درجة إِسلامه وتسليمه أعلى وأفضل من الجميع، وإِمّا لأنّه كان أوّل فرد من هذه الأُمّة التي

_____________________________

1 ـ يونس، 72.

2 ـ البقرة، 128.

3 ـ يوسف، 101.

[540]

قبلت بالإِسلام والقرآن.

وقد ورد في بعض الرّوايات ـ أيضاً ـ أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أوّل من أجاب في الميثاق في عالم الذّر، فإِسلامه متقدم على إِسلام الخلائق أجمعين(1).

وعلى أي حال فإنّ الآيات الحاضرة توضح روح الإِسلام، وتعكس حقيقة التعاليم القرآنية وهي: الدعوة إِلى الصراط المستقيم، والدعوة إِلى دين محطم الأصنام إِبراهيم الخالص، والدعوة إِلى رفض أي نوع من أنواع الشّرك والثنوية... هذا من جهة العقيدة والإِيمان.

وأمّا من جهة العمل: الدّعوة إِلى الإِخلاص، وإِلى تصفية النيّة، والإِتيان بكل شيء لله تعالى، الحياة لأجله، والموت في سبيله، وطلب كل شيء منه، ومحبّته، والإِنقطاع إِليه، وعن غيره، والتولي له، والتبرؤ من غيره.

فما أكبر الفرق بين ما جاء في الدعوة الإِسلامية الواضحة، وبين أعمال بعض المتظاهرين بالإِسلام الذين لا يفهمون من الإِسلام سوى التظاهر بالدين، ولا يفكرون في جميع الموارد إِلاّ في الظاهر، ولا يعتنون بالباطن والحقيقة، ولهذا فليس حياتهم ومماتهم وإِجتماعهم ومفاخرهم وحريتهم سوى قشور خاوية لا غير.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير الصافي، ذيل هذه الآية.

[541]

الآية

قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْء وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْس إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164)

التّفسير

إِنّ التأكيدات المتتابعةُ المتوالية والاستدلالُ المتنوع في هذه السورة في صعيد التوحيد ومكافحة الشرك تنبىء عن أهمية كبرى للموضوع.

وهذه الآية شجبت منطق المشركين من طريق آخر، حيث قال سبحانه لنبيّه: قل لهم واسألهم: هل من الصحيح أن أطلب ربّاً غير الله الواحد في حين أنّه هو المالك والمربّي، وهو رب كل شيء وبيده أزمة جميع الكائنات، وحكمه جار في جميع ذرّات الوجود بلا استثناء: (قُلْ أغيرَ الله أبغي وهو ربُّ كل شيء).

ثمّ إِنّه يردّ على جماعة من المشركين المتحجرين ممن قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): اتَّبِعْنا وعَلينا وِزرَكَ إِن كان خطأً، قائلا: (ولا تكسب كلُ نفس إِلاّ عليها، ولا تزر وازرة وزر أُخرى) فلا يعمل أحد إِلاّ لنفسه، ولا يحمل أحد وزر أحد.

(ثمّ إِلى ربّكم مرجعُكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلِفُون) فمآلكم إِليه وهو يخبركم عن جميع ما اختلفتم فيه.

[542]

بحثان

إِنّ ها هنا نقطتين يجب أن نقف عندهما ونلتفت إِليهما:

1 ـ ربّما حملنا وزر غيرنا

قد يتوهمّ أنّ الآية الحاضرة التي تبيّن أصلين من الأُصول المنطقية المسلّمة لدى جميع الأديان والشرائع (أي مبدأ: لا يعمل أحد إِلاّ لنفسه، ولا يعاقب أحد بذنب غيره) تتنافى مع الآيات القرآنية الأُخرى، كما لا توافق جملة من الرّوايات في هذه المجال، لأنّ الله تعالى يقول في سورة النحل الآية 25: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلّونهم بغير علم).

فإِذا لم يحمل أحدٌ وزر أحد فكيف يحمل هؤلاء المضلِّون وزر الضالّين أيضاً.

كما أنّ الأحاديث المرتبطة بـ«السُنّة الحَسنة» و«السنّة السيئة» المروية بطرق الشيعة والسنّة. تتنافى مع مفهوم الآية الحاضرة كقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «من سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كان لَهُ أجر من عَمِلَ بَها من غير أن ينقصَ من أُجورهم شيء، ومن سَنَّ سَنّةً سيئة كان عليه وزرُ مَن عمل بها من غير أن ينقصَ من أوزارِهم شيءٌ».

ولكن الإِجابة على هذا السؤال واضحة، فإِنّ الآية المبحوثة هنا تقول: إِنّه لا يحمل أحد وزر أحد من دون سبب، ولكنَ الآيات والرّوايات المشار إِليها سلفاً تقول: إِذا كان الإِنسان مؤسِّساً لعمل صالح أو سيءّ يعمل وفقه الآخرون، أي كان له «التسبيب» والدلالة في قيام الآخرين بعمل معيّن، وكانت له بالتالي دخالة في وقوعه، فإِنّه ـ ولا شك ـ يشترك معهم في نتائجه وعواقبه، لأنّه يعتبر ـ في الحقيقة ـ عمله وفعله، فلا مناص من أن يتحمل تبعاته إِنّ خيراً فخير، وإِن شراً فشرّ، لأنّه هو الذي وضع بيده أساسه الذي قام عليه صرح العمل، وارتفع بنيانه.

[543]

2 ـ هل أن أعمال الآخرين الصالحة تنفعنا؟

إِنّ التوَّهُم الآخر الذي يمكن أن يخالج الأذهان حول هذه الآية هو: أنّ الآية تقول: إِن عَمَلَ كل إِنسان لا ينفع إِلاّ نفسه، وعلى هذا فإِن الأعمال الصالحة التي تهدى إِلى الأموات، بل وحتى الأحياء أحياناً، لا يمكن أن تنفعهم، في حين نقرأ في روايات كثيرة مروية عن طريق الشيعة والسنة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) أن مثل هذه الأعمال قد تنفع الآخرين، وإِن هذا ينطبق على الجميع، فلا ينحصر بعمل الولد لوالديه، بل يشمل كل من يعمل عملا ويهدي ثوابه للآخرين.

هنا مضافاً إِلى أنّنا نعلم أن الثواب يرتبط بتأثير العمل الصالح المأتي به على روح الإِنسان ودوره في تكامل الإِنسان ورقيّه، ولكنّ الذي لم يعمل عملا صالحاً قط، بل ولم يكن له أية دخالة في مقدماته كذلك، فكيف يمكن أن ينشأ منه أثر روحي ومعنوي؟؟

ولقد واصل البعض طرح هذا الإِشكال بصورة مسهبَة، ولم يكن الأفراد العاديون وحدهم هم الذين طرحوه، بل تأثر به بعض المفسّرين والكتاب، مثل كاتب «المنار» إِلى درجة أنّهم تناسوا كثيراً من الأحاديث والرّوايات المسلّمة، ولكن مع الإِلتفات إِلى نقطتين يتضِح الجواب على هذا الإِشكال.

1 ـ صحيح أن عمل كل إِنسان سبب لتكامله بالخصوص، وأنّ نتائج الأعمال الصالحة وآثارها الواقعية عائدة إِلى القائم بالعمل الصالح، تماماً كما تكون «الرّياضة»، و«التّعليم والتّربية» من كل أحد سبباً لتقوية جسم فاعلها وروحه ونفسه، وتكاملهما.

ولكن عندما يَعمل أحدٌ عَمَلا صالحاً لشخص آخر، فإِنّه إِنّما يفعله حتماً لأجل أن ذلك الشخص يمتلك إِمتيازاً على غيره وصفةً حسنةً، أو لأنّه كان مربيّاً صالحاً، أو تلميذاً صالحاً، أو صديقاً طيباً أو جاراً وفياً له، أو كان عالماً خدوماً

[544]

للمجتمع، أو مؤمناً مخلصاً، أو يمتلك أدنى حد من الصلاح في حياته، يوجب جلب أنظار الآخرين، ويسبب في أن يعملوا أعمالا صالحة ويهدونها إِليه.

وعلى هذا فذلك العمل ـ في الحقيقة ـ إِنّما يكون نتيجة لذلك الإِمتياز، ونتيجة للصفة الحسنة المذكورة، وللنقطة المضيئة في شخصيته وحياته، ولهذا يكون قيام الآخرين بالأعمال الصالحة له إِنما هو أشعة من ضوء علمه الطيب أو نيتّه الصالحة، ونتيجة لتلك الخصلة الحسنة التي يتّصف بها.

2 ـ المثوبات التي يعطيها الله تعالى للإشخاص على نوعين: مثوبات تتناسب مع وضع تكاملهم الروحي وصلاحيتهم، يعني أن أرواحهم ونفوسهم قد تسمو بسبب قيامهم بالأعمال الصالحة سمواً كبيراً، وترتقي في سلّم الكمال رقياً عظيماً إِلى درجة يصلحون للعيش في عوالم أعلى وأفضل، ويرتفعون بما صنعوه على أجنحة العقيدة والعَمَل الصالح.

ولكن حيث أنّ أيَّ عمل صالح هو إِطاعةٌ لأمر الله سبحانه، ويستحق المطيع لإِطاعته أجراً ومثوبة، فإِنّه يمكنه أن يهدي ذلك الثوابُ والأجر إِلى غيره بإِرادته ورغبته، تماماً، مثل أستاذ متخصّص في شعبة مهمّة من العلوم يدرّس في جامعة من الجامعات، فإِنّه لا ريب في أنّه يصل بتدريسه إِلى نتيجتين:

فهو من جهة يصل - في ضوء تدريسه ـ إِلى درجات علمية أكمل وأقوى، وهو في نفس الوقت يحصل على أموال لقاء خدمته، ولا ريب في أنّه لا يستطيع أن يهدي النتيجة الأُولى لأحد لأنّها خاصّة به، ولكنّه يمكنه أن يقدم (أو يهدي) النتيجة الثانية إِلى من يرغب ويحب.

إِنَّ إِهداء (ثواب) الأعمال الصالحة من جانب العاملين بها إِلى الأموات، بل وإِلى الأحياء أحياناً، إِنّما هو من هذا النمط ومن هذا القبيل.

وبهذا يرتفع وينتفي أيُ إِبهام يحوم حول هذه الأحاديث.

ولكن يجب أن نعلم بأنّ المثوبات التي تصل إِلى الآخرين عن هذا الطريق لا

[545]

يمكن أن تضمن سعادتهم، بل تُصيبهم منها آثارٌ قليلة والأصل والأساس في نجاتهم إِنّما هو إِيمانهم وعملهم أنفسهم.

* * *

[546]

الآية

وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـئِفَ الاَْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَـت لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(165)

التّفسير

في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إِشارة إِلى أهمية مقام الإِنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية دعائم التوحيد، ومكافحة الشرك، يعني أن يعرف الإِنسان قيمةَ نفسه، كأرقى وأفضل كائن في عالم الخلق، ولا يسجد للخشب والحجر، ولا يركع أمام الأصنام المختلفة الأُخرى، ولا يقع في أسرها، بل يكون أميراً وحاكماً عليها بدل أن يكون أسيراً ومحكوماً لها.

لهذا قال تعالى في مطلع كلامه: (هو الذي جعلكم خلائف الأرض)(1).

إِن الإِنسان الذي هو خليفة الله في أرضه، والذي سُخِرت له كل منابع هذا

_____________________________

1 ـ «الخلائف» كما في المفردات للراغب ـ جمع خليفة «وخلفاء» جمع «خليف» وهما بمعني من يقوم مقام أحد بعده، والتاء المضافة إِلى الكلمة تفيد المبالغة، وقال جمع آخر من أهل اللغة: الخلائف جمع خليف وخليفة.

[547]

العالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب الله تعالى، لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إِلى درجة السجود للجمادات.

ثمّ أشار سبحانه إِلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية والروحية لدى البشر، والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت، فيقول: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) من المواهب المتنوعة والمتفاوتة ويختبركم بها.

ثمّ تشير في خاتمة الآية الحاضرة إِلى حرية الإِنسان في إِختيار طريق السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الإِختبارات والإِبتلاءات، إِذ يقول: (إِن ربّك سريع العقاب وإِنّه لغفور رحيم)، فإِنّ ربّك سريع العقاب مع الذين يفشلون في هذا الإِختبار، وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإِصلاح أخطائهم.

التفاوت بين أفراد البشر ومبدأ العدالة:

لا شك أنَّ بين أفراد البشر طائفة من الاختلافات والفوارق المصطنعة، التي هي نتيجة المظالم التي يمارسها بعض أفراد البشر ضد الآخرين، فهناك مثلا جماعة يمتلكون ثروات هائلة، وجماعات أُخرى تعاني من الفقر المدقع، جماعة يعانون من الجهل والأُمية بسبب عدم توفّر مستلزمات الدراسة، وجماعة أُخرى تبلغ المراتب العليا في الثقافة والعلم بسبب توفّر كلِّ الوسائل اللازمة للتحصيل والدراسة.

جماعةٌ يعانون من المَرضَ والعِلّة بسبب سوء التغذية وندرة الوسائل الصحيّة، في حين يحظى أفراد معدودون بقدر كبير من السلامة والعافية، بسبب توفر جميع الإِمكانيات.

إِنّ مثل هذه الفوارق والاختلافات: الثروة والفقر، والعلم والجهل، والسلامة المرض، هي في الأغلب وليدة الاستعمار والاستثمار، وهي مظاهر مختلفة

[548]

للعبودية والمظالم الظاهرة والخفية.

إِنَّ من المسلَّم أنه لا يُمكن أن تعتبر هذه الأُمور من فعل المشيئة الإِلهية، وليس من الصحيح مطلقاً الدفاع عن مثل هذه الاختلافات غير المبرَّرة أساساً.

ولكن في نفس الوقت لا يمكن إِنكار أنّه حتى لو روعيت جميع أُصول العدالة في المجتمع الإِنساني ـ أيضاً ـ فإِنّه لا يتساوى الناس جميعاً من حيث القابليات ومن حيث الفكر، والذوق، وفي الذكاء، والسليقة وحتى من جهة التركيب البدنيّ.

ولكن هل وجودُ هذه الاختلافات والفوارق مخالفٌ لمبدأ العدالة، أو أنّه على العكس يكون هو العدل بمعناه الواقعي، يعني أنّ مبدأ وضع كل شيء في محلّه يوجب أن يكون الأفراد غير متساوين.

إِذا كان جميع الأفراد في المجتمع الإِسلامي متساوين ومتشابهين في المواهب والقابليات كالقماش أو الأواني التي تخرج من مصنع واحد، كان المجتمع الإِنساني ـ حينئذ ـ مجتمعاً ميتاً ساكناً جامداً عارياً عن التحرك والتكامل.

اُنظروا إِلى نبتة الورد، فهناك جذور قوية متينة، وسوق رقيقة، ولكنّها متينة نوعاً مّا، وفروع ألطف، ثمّ أوراق وأوراد بعضها ألطف من بعض، وهذه المجموعة المتنوعة في تراكيبها والمختلفة في متانتها ولطافتها تشكل نبتة وردة جميلة تختلف فيها الخلايا بحسب اختلافها في وظائفها، وتختلف فيها القابليات والاستعدادات بحسب اختلافها ووظائفها.

إِن نفس هذا الموضوع يلحظ في العالم البشري، فأفراد البشر يشكلون من حيث المجموع شجرةً كبيرةً واحدةً يقوم كل فرد برسالة خاصّة في هذا الصرح العظيم، وله بنيان مخصوص يتلاءم مع وظائفه.

ولهذا يقول القرآن الكريم: إِنّ هذه الفوارق وهذا التفاوت وسيلة لاختباركم

[549]

وامتحانكم، لإن الإِختبار والامتحان الإِلهي ـ كما قلنا سابقاً ـ يعني «التربية».

وبهذا يُجاب على كل اعتراض وإِشكال يورَد في المقام على أثر الفهم الخاطيء لمفهوم الآية.

خلافة الإِنسان في الأرض:

إِنّ النقطة الأُخرى الجديرة بالاهتمام، هي أن القرآن الكريم وصف الإِنسان مراراً بالخلافة، وأنّه خليفة الله في أرضه، أن هذا الوصف، وهذا التعبير ضمن بيانه لمكانة الإِنسان يبين هذه الحقيقة أيضاً، وهي: أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي والحقيقي للأموال والثروات والقابليات، وجميع المواهب الإِلهية الممنوحة للإِنسان، وما الإِنسان ـ في الحقيقة ـ إِلاّ خليفة الله وكيلٌ من جانبه، ومأذون من قبله.

ومن البديهي أن الوكيل ـ مهما كان ـ فهو غير مستقل في تصرفاته، بل يجب أن تخضع تصرفانه لإِذن صاحبها الأصلي، وتقع ضمن إِجازته.

ومن هنا يتضح أن الإِسلام ـ مثلا ـ يختلف عن النظام الشيوعي، وكذا عن النظام الرأسمالي في مسألة المالكية، لأنَّ الفريق الأوّل يخصّص الملكية بالجماعة، والفريق الثاني يخصِصُها بالفرد، بينما يقولُ الإِسلامُ: الملكية لا هي للفرد ولا هي للمجتمع، بل هي في الحقيقة لله تعالى، والناس وكلاء الله، وخلفاؤه.

وبهذا الدليل نفسِه يراقب الإِسلامُ طريقة تصرّف الأفراد في الأموال كسباً وصرفاً، ويضع لكل ذلك قيوداً وشروطاً تجعل الاقتصاد الإِسلامي نظاماً متميّزاً في مقابل الأنظمة الأُخرى.

«ختام سورة الانعام»




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21403594

  • التاريخ : 20/04/2024 - 00:00

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net