00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة هود من آية 23 ـ 44 من (ص 504 ـ 546 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[504]

الآيتان

إِنَّ الَّذِينَ ءاَمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا  أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ(24)

التّفسير

تعقيباً على الآيات المتقدمة التي أوضحت حال منكري الوحي، تأتي الآيتان هنا لتوضحا من في قبالهم، وهم المؤمنون حقّاً.

فالآية الأُولى تقول: (إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إِلى ربّهم)أي: استسلموا وأنقادوا خاضعين لأمر الله ووعده الحق، (أُولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون).

* * *

ملاحظتان

1 ـ بيان هذه الأوصاف الثلاثة وهي «الإِيمان» و«العمل الصالح» و«التسليم

[505]

والخضوع والإِخبات إِلى دعوة الحق» إِنّما هو بيان أُمور واقعية ترتبط بعضها ببعض، لأنّ العمل الصالح ثمرة من شجرة الإِيمان، فالإِيمان الذي ليس فيه مثل هذه الثمرة إِيمان ضعيف ولا قيمة له ولا يحسب له حساب، وكذلك التسليم والإِنقياد والخضوع والإِطمئنان لما وعد الله سبحانه، كل ذلك من آثار الإِيمان والعمل الصالح .. لأنّ الإِعتقاد الصحيح والعمل النقي أساس وجود هذه الصفات والملكات العالية في المحتوى الداخلي للإنسان.

2 ـ كلمة «أخبتوا» مشتقة من «الإِخبات» وجذرها اللغوي «خَبتَ» على وزن «ثبتَ» ومعناها الأصلي الأرض المنبسطة الواسعة التي يمكن للإِنسان أن يخطو عليها باطمئنان وارتياح، فلذلك استعملت هذه المادة «الخبت والإِخبات» في الإِطمئنان أيضاً .. كما استعملت في الخصوع والتسليم، لأنّ الأرض التي تبعث على الاطمئنان في السير هي خاضعة ومستسلمة للسائرين، فعلى هذا يمكن أن يكون معنى الإِخبات واحداً من المعاني الثلاثة الآتية، كما ويحتمل شموله لجميع هذه المعاني، إِذ لا منافاة بينها:

1 ـ إِنّ المؤمنين حقاً خاضعون لله.

2 ـ إِنّهم مسلّمون لأمر الله.

3 ـ إِنّهم مطمئنون بوعود الله.

وفي كل صورة إِشارة إِلى واحدة من أعلى الصفات الإِنسانية في المؤمنين التي ينعكس أثرها على كامل حياتهم!..

الطريف هنا أنّنا نقرأ في حديث عن أبي أسامة قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إِنّ عندنا رجلا يسمّى «كليباً» لا يجيء عنكم شيء إلاّ قال: أنا أُسلّم، فسمّيناه: كليب تسليم، قال: فترحم عليه ثمّ قال «أتدرون ما التسليم»؟ فسكتنا فقال: هو والله الإِخبات، قول الله: (إِنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات واخبتوا إِلى ربّهم)(1).

____________________________

(1) تفسير البرهان، ج 2، الصفحة 216.

[506]

وفي الآية الأُخرى بيان لحالة هذين الفريقين في مثال حيّ وواضح .. حال الأعمى والأصم، وحال السميع والبصير، فتقول الآية: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا) ثمّ تعقب الآية (أفلا تذكرون)؟!

وكما هو معلوم في علم (المعاني والبيان)، فإِنّه من أجل تجسيم الحقائق العقلية وتوضيحها وتبييّنها لعامّة الناس تشبه المعقولات بالمحسوسات دائماً.

والقرآن الكريم اتبع هذه الطريقة بكثرة، وبيّن كثيراً من المسائل الدقيقة وذات الأهمية البالغة بأمثلة جليّة وأخّاذة، وبيّن حقائقها في أحسن صورة!

البيان السابق من هذا القبيل، لأنّ أحسن الوسائل التي لها أثرها في معرفة الحقائق الحسية في عالم الطبيعة هي «العين والأذن» ولذلك لايمكن أن يُتصور أن أفراداً يُولدون صمّاً وعمياناً يستطيعون أدراك مواضيع هذا العالم بصورة صحيحة، فهم يعيشون في عالم غامض ومجهول.

كذلك حال منكري الوحي، فبسبب لجاجتهم وعدائهم للحق ووقوعهم أسرى بمخالب التعصب والأنانية وعبادة الذات، فقدوا بصرهم وسمعهم للحقيقة البيّنة، فلا يستطيعون ادراك الحقائق المرتبطة بعالم الغيب، وتأثير الإِيمان، والتلذذ بعبادة الله، وعظمة التسليم لأمره.

هؤلاء الأفراد يعيشون أبداً عمياناً صمّاً في ظلام مطبق وسكوت مميت .. في حين أنّ المؤمنين الصادقين يرون كل حركة بأعين بصيرة، ويسمعون كل صوت بآذان سميعة، وبالتوجه إِلى طريقهم يكون مصيرهم «السعادة».

* * *

[507]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(25) أن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يُوْم أَلِيم(25) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل بَلْ نَظُنُّكُمْ كَذِبِينَ(27) قَالَ يَاقُوْم أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَأَتَنِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَرِهُونَ(28)

التّفسير

قصّة نوح المثيرة مع قومه:

تقدم أنّ هذه السورة تحمل بين ثناياها قصص الأنبياء السابقين وتأريخهم، وذلك لإِيقاظ أفكار المنحرفين والإِلتفات إِلى الحقائق وبيان العواقب الوخيمة للمفسدين الفجار. وأخيراً بيان طريق النصر والموفقية.

في البداية تذكر قصّة نوح(عليه السلام)، وهو أحد الأنبياء أولي العزم، وضمن (26) آية

[508]

تُرسم النقاط الأساسية لتأريخه المثير ..

ولا شك أنّ قصّة جهاد نوح(عليه السلام) المتواصل للمستكبرين في عصره، وعاقبتهم الوخيمة، واحدة من العبر العظيمة في تاريخ البشرية، والتي تتضمن دروساً هامّة في كل واقعة منها..

والآيات المتقدمة تبيّن بدايه هذه الدعوة العظيمة فتقول: (ولقد أرسلنا نوحاً إِلى قومه إِنّي لكم نذير مبين).

التأكيد على مسألة الإِنذار، مع أنّ الأنبياء كانوا منذرين ومبشرين في الوقت ذاته لأنّ الثورة ينبغي أن تبداً ضرباتها بالإِنذار وإِعلام الخطر، لأنّه أشدّ تأثيراً في إيقاظ النائمين والغافلين من البشارة.

والإِنسان عادةً إِذا لم يشعر بالخطر المحدق به فإِنّه يفضل السكون على الحركة وتغيير المواقع. ولذلك فقد كان إِنذار الأنبياء وتحذيرهم بمثابة السياط على افكار الضاليّن ونفوسهم، فتؤثر فيمن له القابلية والاستعداد للهداية على التحرك والاتجاه الى الحق.

ولهذا السبب ورد الإِعتماد على الإِنذار في آيات كثيرة من القرآن، كما في الآية (49) من سورة الحج، والآية (115) من سورة الشعراء، والآية (50) من سورة العنكبوت، والآية (42) من سورة فاطر، والآية (70) من سورة ص ، والآية (9) من سورة الأحقاف، والآية (50) من سورة الذاريات، وآيات أُخرى كلها تعتمد على كلمة «نذير» في بيان دعوة الأنبياء لأُممِهم.

وفي الآية الأُخرى يُلخّص محتوى رسالته في جملة واحدة ويقول: رسالتي هي (أَلاّ تعبدوا إِلاّ الله) ثمّ يعقب دون فاصلة بالإِنذار والتحذير مرّة أُخرى (إِنّي أخاف عليكم عذاب يوم أليم)(1).

____________________________

(1) مع أنّ الأليم صفة للعذاب عادة، ولكن في الآية السابقة وقع صفةً لـ «يوم»، وهذا نوع من الإِسناد المجازي اللطيف الذي نجده في مختلف اللغات في أدبياتها.

[509]

في الحقيقة أن مسألة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد هي أساس دعوة الانبياء جميعاً. فنحن نقراً في الآية الثّانية من هذه السورة، والآية (40) من سورة يوسف(عليه السلام)، الآية (23) من سورة الإِسراء... نقرأ في هذه الآيات وأمثالها في الحديث عن الأنبياء أن دعوتهم جميعاً تتلخص في توحيد الله سبحانه.

فإِذا كان جميع أفراد المجتمع موحدّون ولايعبدون إلاّ الله، ولا ينقادون للأوثان الوهمية الخارجية منها والداخلية من قبيل الأنانية والهوى والشهوات والمقام والجاه والنساء والبنين فلا يبقى أثر للسلبيات والخباثب في المجتمع البشري.

فإِذا لم يصنع الشخص الضعيف من ضعفه هذا صنماً ليسجد له ويتبع أمره، فلا استكبار حينئذ ولا استعمار، ولا آثارهما الوخيمة من قبيل الذل والأسر والتبعية والميول المنحرفة وأنواع الشقاء بين أفراد المجتمع، لأنّ كل هذه الأُمور وليدة الإِنحراف عن عبادة الله والتوجه نحو الأصنام والطواغيت.. فلننظر الآن أوّل ردّ فعل من قبل الطواغيت واتباع الهوى والمترفين وامثالهم إِزاء إِنذار الأنبياء، كيف كان وماذا كان؟!

لاشك أنّه لم يكن سوى حفنةً من الأعذار الواهية والحجج الباطلة والأدلة الزائفة التي تعتبر ديدن جميع الجبابرة في كل عصر وزمان، فقد أجاب أُولئك دعوة نوح بثلاثة إِشكالات:

الأوّل: إِنّ الإِشراف والمترفين من قوم نوح(عليه السلام) قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا وبينك: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلاّ بشراً مثلنا) زعماً منهم أن الرسالة الإِلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إِلى البشر لا أن البشر يحملها إِلى البشر! وظنّاً منهم أنّ مقام الإِنسان أدنى من مقام الملائكة، أو أنّ الملائكة تعرف حاجات الإِنسان أكثر منه.

نلاحظ هنا كلمة «الملأ» التي تشير إِلى أصحاب الثروة والقوة الذين يملأ العين

[510]

ظاهرهم، في حين أن الواقع أجوف. ويشكلون أصل الفساد والإِنحراف في كل مجتمع، ويرفعون راية العناد والمواجهة أمام دعوة الأنبياء(عليهم السلام).

والإِشكال الثّاني: إِنّهم قالوا: يانوح; لا نرى متبعيك ومن حولك إلاّ حفنةً من الأراذل وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة (وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي).

و«الأراذل» جمع لـ «أرذل» وتأتي أيضاً جمع لـ «رذل» التي تعني الموجود الحقير، سواء كان إِنساناً أم شيئاً آخر غيره.

وبالطبع فإِنّ الملتفين حول نوح(عليه السلام) والمؤمنين به لم يكونوا أراذل ولا حقراء، ولكن بما أنّ الأنبياء ينهضون للدفاع عن المستضعفين قبل كل شيءً، فأوّل جماعة يستجيبون لهم ويلبّون دعوتهم هم الجماعة المحرومة والفقيرة، ولكن هؤلاء في نظر المستكبرين الذين يعدّون معيار الشخصيّة القوة والثروة فحسب يحسبونهم أراذل وحقراء..

وإِنّما سمّوهم بـ «بادي الرأي» أي الذين يعتمدون على الظواهر من دون مطالعة ويعشقون الشيء بنظرة واحدة، ففي الحقيقة كان ذلك بسبب أنّ اللجاجة والتعصب لم يكن لها طريق الى قلوب هؤلاء الذين التفوا حول نوح(عليه السلام) لأنّ معظمهم من الشباب المطهرة قلوبهم الذين يحسون بضياء الحقيقة في قلوبهم، ويدركون بعقولهم الباحثة عن الحق دلائل الصدق في أقوال الأنبياء(عليهم السلام) وأعمالهم.

الإِشكال الثّالث: الذي أوردوه على نوح(عليه السلام) أنهم قالوا: بالاضافة الى أنّك إِنسان ولست ملكاً، وأن الذين آمنوا بك والتفوا حولك هم من الأراذل، فإنّنا لا نرى لكم علينا فضلا (وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين).

والآيات التي تعقبها تبيّن رد نوح(عليه السلام) وإِجاباته المنطقية على هؤلاء حيث تقول: (قال يا قوم أرأيتم إِن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم).

[511]

وقد اختلف المفسّرون في جواب نوح(عليه السلام) هذا لأي من الإِشكالات الثّلاثة هو؟ ولهم في ذلك أقوال.. ولكن مع التدبر في الآية يتّضح أنّ هذا الجواب يمكن أن يكون جواباً للإِشكالات الثلاثة بأسرها.

لأنّ أوّل إِشكال أوردوه على نوح هو: لِمَ كنت إِنساناً مثلنا ولم تكن ملكاً؟ فكان جوابه لهم: صحيح أنني بشر مثلكم، ولكن الله آتاني رحمة وبيّنة ودليلا واضحاً من عنده، فلا تمنع بشريتي هذه من اداء هذه الرسالة العظيمة، ولا ضرورة لأن أكون ملكاً.

والإِشكال الثّاني هو: إِنّ أتباع نوح مخدوعون بالظواهر. فيردّهم بالقول: إنّكم أحق بهذا الإِتهام، لأنّكم أنكرتم هذه الحقيقة المشرقة، وعندي أدلّة كافية ومقنعة لكلّ من يطلب الحقيقة، إلاّ أنّها خفيت عليكم لغروركم وتكبركم وأنانيتكم!

وإِشكال الثّالث: أنّهم قالوا: (وما نرى لكم علينا من فضل) فكان جواب نوح(عليه السلام): أي فضل أعظم من أن يشملني الله برحمته، وأن يجعل الدلائل الواضحة بين يدي، فعلى هذا لا دليل لكم على اتهامي بالكذب، فدلائل الصدق عندي واضحة وجليّة! ..

وفي ختام الآية يقول النّبي نوح(عليه السلام) لهم: هل أستطيع أن ألزمكم الإِستجابة لدعوتي وأنتم غير مستعدّين لها وكارهون لها (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون).

* * *

[512]

الآيات

وَيَقَوْمِ لآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ أَمَنُواْ إِنَّهُم مُّلَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَكنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ(29) وَيَقُوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ  أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ(30) وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلِّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذاً لَّمِنَ الظَّلِمِينَ(31)

التّفسير

ما أنا بطارد الذين آمنوا:

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ قوم نوح «الأنانيين» كانوا يحتالون بالحجج الواهية والاشكالات غير المنطقية على نوح وأجابهم ببيان جليّ واضح

والآيات محل البحث تتابع ما ردّ به نوح(عليه السلام) على قومه المنكرين. فالآية الأُولى التي تحمل واحداً من دلائل نبوة نوح، ومن أجل أن تنير القلوب المظلمة من قومه

[513]

تقول على لسان نوح: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا) فأنا لا أطلب لقاء دعوتي مالا أو ثروة منكم، وإِنّما جزائي وثوابي على الله سبحانه الذي بعثني بالنّبوة وأمرني بدعوة خلقه إِليه (إِن أجري إلاّ على الله).

وهذا يوضح بصورة جيدة وبجلاء أنّني لا أبتغي هدفاً مادياً من منهجي هذا، ولا أفكر بغير الأجر المعنوي من الله سبحانه، ولا يستطيع مُدّع كاذب أن يتحمل الآلام والمخاطر دون أن يفكر بالربح والنفع.

وهذا معيارٌ وميزان لمعرفة القادة الصادقين من غيرهم الذين يتحينون الفرص ويهدفون الى تأمين المنافع المادية في كل خطوة يخطونها سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويعقب نوح(عليه السلام) بعد ذلك في ردّه على مقولة طرد المؤمنين به من الفقراء والشباب فيقول بصورة قاطعة: (وما أنا بطارد الذين آمنوا) لأنّهم سيلاقون ربّهم ويخاصمونني في الدار الآخرة (إنّهم ملاقو ربّهم)(1).

ثمّ تُختتم الآية ببيان نوح لقومه بأنّكم جاهلون (ولكنّي أراكم قوماً تجهلون)وأي جهل وعدم معرفة أعظم من أن تضيعوا مقياس الفضيلة وتبحثون عنها في الثروة والمال الكثير والجاه والمقام الظاهري،وتزعمون أنّ هؤلاء المؤمنين العُفاة الحفاة بعيدون عن الله وساحة قدسه!

هذا خطؤكم الكبير وعدم معرفتكم ودليل جهلكم.

ثمّ أنتم تتصورون ـ بجهلكم ـ أن يكون النّبي من الملائكة، في حين ينبغي أن يكون قائد الناس من جنسهم ليحسّ بحاجاتهم ويعرف مشاكلهم وآلامهم.

وفي الآية التي بعدها يقول لهم موضحاً: إِنّني لو طردت من حولي فمن ينصرني من عدل الله يوم القيامة وحتى في هذه الدنيا (ويا قوم من ينصرني من الله إِن

____________________________

(1) وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة، وهو أنّ مراد نوح(عليه السلام): إنّ الذين آمنوا بي إذا كانوا كاذبين في الباطن فإنّهم سيلاقون ربّهم يوم القيامة وهو يحاسبهم، ولكن الإحتمال المذكور أقرب للصحة.

[514]

طردتهم).

فطرد المؤمنين الصالحين ليس بالأمر الهيّن، إِذ سيكونون خصومي يوم القيامة بطردي لهم، ولا أحدَ هناك يستطيع أن يدافع عنّي ويخلصني من عدل الله، ولربّما أصابتني عقوبة الله في هذه الدنيا، أم أنّكم لا تفكرون في أن ما أقوله هو الحقيقة عينها (أفلا تذكّرون).

والفرق بين «التفكر» و«التذكّر» هو أنّ التفكر في حقيقته إِنّما يكون لمعرفة شيء لم تكن لنا فيه خبرة من قبل، وأمّا التذكر فيقال في مورد يكون معروفاً للإنسان قبل ذلك، كما في المعارف الفطريّة.

والمسائل التي كانت بين نوح(عليه السلام) وقومه هي أيضاً من هذا القبيل، مسائل يعرفها الإِنسان ويدركها بفطرته وتدبّره، ولكن تعصب قومه وغرورهم وغفلتهم وأنانيتهم ألقت عليها حجاباً وغشاءً فكأنّهم عموا عنها.

وآخر ما يجيب به نوح قومه ويرِدّ على إِشكالاتهم الواهية .. إِنّكم إِذا كنتم تتصورون أن لي امتيازاً آخر غير الإِعجاز الذي لديّ عن طريق الوحي فذلك خطأ، وأقول لكم بصراحة: (لا أقول لكم عندي خزائن الله) ولا أستطيع أن أحقق كل شيء أريده وكل عمل أطلبه، حيث تحكي الآية عن لسانه (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) ولا أقول لكم إِنّني مطلع على الغيب (ولا أعلم الغيب) ولا أدعي أنّني غيركم كأنْ أكون من الملائكة مثلا (ولا أقول إِنّي ملك) فهذه الإِدّعاءات الفارغة والكاذبة يتذرع بها المدّعون الكذَبَة، وهيهات أن يتذرع بها الأنبياء الصادقون، لأنّ خزائن الله وعلم الغيب من خصوصيات ذات الله القُدسيّة وحدها، ولا ينسجم المَلَك مع هذه الأحاسيس البشرية أيضاً ..

فكل من يدعي واحداً من هذه الأُمور الثلاثة المتقدمة ـ أو جميعها ـ فهو كاذب.

ومثل هذا التعبير ورد في نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً كما نلاحظ ذلك في الآية

[515]

(50) من سورة الأنعام حيث تقول الآية مخاطبة النّبي أن يبلغ قومه بذلك (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنّي مَلَك إن اتّبع إلاّ ما يوحى إِلىّ) فانحصَار امتياز نبي الإِسلام في مسألة «الوحي» ونفي الأُمور الثلاثة الأُخرى يدل على أنّ الآيات التي تحدثت عن نوح كانت تستبطن هذا المعنى أيضاً وإِن لم تصرّح بذلك بمثل هذا التصريح!.

وفي ذيل الآية يكرر التأكيد على المؤمنين المستضعفين بالقول: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً ..) بل على العكس تماماً، فخير هذه الدنيا وخير الآخرة لهم وإِن كانوا عُفاة لخلّو أيديهم من المال والثروة .. فأنتم الذين تحسبون الخير منحصراً في المال والمقام والسن وتجهلون الحقيقة ومعناها تماماً.

وعلى فرض صحة مُدّعاكم أراذل و«أوباش» فـ (الله أعلم بما في أنفسهم).

أنا الذي لا أرى منهم شيئاً سوى الصدق والإِيمان يجب علىَّ قبولهم، لأنّي مأمور بالظاهر، والعارف باسرار العباد هو الله سبحانه، فإِن عملت غير عملي هذا كنت آثماً (إِنّي إِذاً لمن الظالمين).

ويرد هذا الإِحتمال أيضاً في تفسير الجملة الأخيرة لأنّها مرتبطة بجميع محتوى الآية، أي إِذا كنت أدعي علم الغيب أو أنّي ملك أو أن عندي خزائن الله أو أن اطرد المؤمنين، فسأكون عند الله وعند الوجدان في صفوف الظالمين.

* * *

ملاحظات

1 ـ أولياء اللّه ومعرفة الغيب

الإِطلاع على الغيب مطلقاً ـ كما أشرنا إِليه مراراً ـ وبدون أي قيد وشرط هو من خصوصيّات الله سبحانه، ولكنّه يُطلع أنبياءَه وأولياءه على الغيْب بقدر ما يراه

[516]

مصلحة كما نرى الإِشارة إِليه في الآيتين (26 و 27) من سورة الجن (عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً، إلاّ من ارتضى من رسول فإِنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً).

فعلى هذا لا منافاة ولا تضادّ بين هذه الآيات ـ محل البحث ـ التي تنفي أن يعلم الأنبياء الغيب، وبين الآيات أو الرّوايات التي تنسب إِلى الأنبياء أو الأئمّة العلم ببعض الغيب.

فمعرفة أسرار الغيب والإِطلاع عليها من خصوصيّات الله بالذات، وما عند الآخرين فبالعَرَض و«بالتعليم الإِلهي»، ولذلك فإِنّ علم الغيب عند غير الله محدود بالحدود التي يريدها الله سبحانه(1).

2 ـ مقياس معرفة الفضيلة:

مرّة أُخرى نواجه الواقعية في هذه الآيات، وهي أن أصحاب الثروة والقوة وعبيد الدنيا المادييّن يرون جميع الأشياء من خلال نافذتهم المادية .. فهم يتصورون أنّ الإِحترام والشخصيّة هما ثمرة وجود الثروة والمقام والحيثيات فحسب، فلا ينبغي التعجب من أن يكون المؤمنون الصادقون الذين خلت أيديهم من المال والثروة في قاموسهم «أراذل» وينظرون إِليهم بعين الإِحتقار والإِزدراء.

ولم تكن هذه المسألة منحصرة في نوح وقومه، إِذ كانوا يصفون المؤمنين المستضعفين حوله ـ ولا سيما الشباب الوعي منهم ـ بأنّ عقولهم خالية وأفكارهم قاصرة، وكأنّهم لا قيمة لهم. فالتاريخ يكشف أن هذا المنطق كان موجوداً في عصر الأنبياء الآخرين وعلى الأخصّ في زمن نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الأوائل.

كما نرى الآن مثل هذا المنطق في عصرنا وزماننا، فالمستكبرون الذين يمثلون فراعنة العصر ـ إِعتماداً على سلطانهم وقدراتهم وقواهم الشيطانية ـ يتهمون

____________________________

(1) لمزيد من الإيضاح يراجع ذيل الآية (50) من سورة الأنعام وذيل الآية (188) من سورة الأعراف.

[517]

«المؤمنين» بمثل هذا الإِتهام .. فكأنّما يعيد التاريخ نفسه وصوره على أيدي هؤلاء ومخالفيهم..

ولكن حين يتطهر المحيط الفاسد بثورة إِلهية .. فهذه المعايير التي تقاس بها الشخصيّة والعناوين الموهومة الأُخرى تُلقى في مزابل التاريخ، وتحل محلّها المعايير الإِنسانية الأصيلة .. المعايير المتولدة من صميم حياة الإِنسان والتي تكون لبنات تحتية للبناء الفوقاني للمجتمع السليم الحرّ، حيث يستلهم منها قِيَمهُ، كالإِيمان والعلم الإِيثار والمعرفة والعفو والتسامح والتقوى والشهامة والشجاعة والتجربة والذكاء والإِدارة والنظم وما أشبهها ..

3 ـ معنى علم الغيب في القرآن

هناك بعض المفسّرين كصاحب «المنار» حين يصل إِلى هذه الآية يقول لمن يدعي أن علم الغيب لا يختصّ بالله، أو يطلب حلّ المشاكل من سواه، يقول في جملة قصيرة: إِنّ هذين الأمرين ـ علم الغيب وخزائن الله ـ قد نفاهما القرآن عن الأنبياء، لكن أصحاب البدع من المسلمين وأهل الكتاب يثبتونهما للأولياء والقديسين(1).

إِذا كان مقصودُه نفي علم الغيب عنهم مطلقاً ولو بتعليم الله، فهذا مخالف لنصوص القرآن المجيد الصريحة، وإِذا كان مقصوده نفي التوسّل بأنبياء الله وأوليائه بالصورة التي نطلب من الله بشفاعتهم أن يحلّ مشاكلنا، فهذا الكلام مخالف للقرآن والأحاديث القطعيّة المسلّم بها عن طرق الشيعة وأهل السنّة أيضاً.

لمزيد من الإِيضاح في هذا المجال يراجع ذيل الآية (34) من سورة المائدة.

* * *

____________________________

(1) المنار، ج12، ص 67.

[518]

الآيات

قَالُواْ يَنُوحُ قُدْ جَادَلْتَنَا فَأكْثَرْتَ جِدَلَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ(32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(33) وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُريدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ(34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ(35)

التّفسير

كفانا الكلام فأينَ ما تعدنا به؟!

الآية الأُولى من الآيات اعلاه تتحدث عن قوم نوح(عليه السلام) أنّهم: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) فأين ما تعدنا به من عذاب الله (فأتنا بما تعدنا إِن كنت من الصادقين) وهذا الأمر يشبه تماماً عندما ندخل في جدال مع شخص أو أشخاص ونسمع منهم تهديداً ضمنياً حين المجادلة فنقول: كفى هذا الكلام الكثير!! إِذهبوا وافعلوا ما شئتم ولا تتأخروا، فمثل هذا الكلام يشير إِلى أنّنا لا نكترث بكلامهم ولا نخاف من تهديدهم، ولسنا مستعدين أن نسمع منهم كلاماً أكثر.

[519]

فاختيار هذه الطريقة إِزاء كل ذلك اللطف وتلك المحبّة من قبل أنبياء الله ونصائحهم التي تجري كالماء الزلال على القلوب، إنّما تحكي عن مدى اللجاجة والتعصب الأعمى لدى تلك الأقوام.

في الوقت ذاته يشعرنا كلام نوح(عليه السلام) بأنّه سعى مدّة طويلة لهداية قومه، ولم يترك فرصةً للوصول إِلى الهدف إلاّ انتهزها لإِرشادهم، ولكن قومه الضالين أظهروا جزعهم من أقواله وإِرشاداته. وهذه المعادلة تتجلى جيداً في سائر الآيات التي تتحدث عن نوح(عليه السلام) وقومه في القرآن، ففي سورة نوح(عليه السلام) بيان لهذه الظاهرة بشكل واف ـ أيضاً ـ فلنلاحظ الآيات التي تبداً من الآية «5» وتنتهي بالآية (13) من سورة نوح حيث نقرأ فيها: (قال ربّ إنّي دعوت قومي ليلا ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراً وإِنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ثمّ إِنّي دعوتهم جهاراً ثمّ إنّي أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً).

في الآية ـ محل البحث ـ وردت جملة «جادلتنا» من مادة «المجادلة» وأصلها مشتق من «الجَدَل» التي تعني فتل الحبل وإِبرامه، ولذلك يطلق على البازي «أجدل» لأنّه أشد فتلا من جميع الطيور، ثمّ توسعوا في اللغة فصارت تطلق على الإِلتواء في الكلام وما أشبه.

مع أنّ «الجدال» و«المراء» و«الحجاج» على وزن «اللجاج» متقاربة المعاني ومتشابهة فيما بينها، لكن بعض المحققين يرى أنّ «المراء» فيه نوع من المذمّة، لأنّه يستعمل أحياناً في الإِستدلال في المسائل الباطلة، ولكن ذلك المفهوم لا يدخل في كلمتي «الجدال والمجادلة»، والفرق بين الجدال والحجاج، أن الجدال يستعمل ليلفت الطرف المقابل ويبعده عن عقيدته، أمّا الحجاج فعلى العكس من ذلك بأن يُدعى الشخص إِلى العقيدة الفلانية بالإِستدلال والبرهان.

لقد أجاب نوح(عليه السلام) بجملة قصيرة على هذه اللجاجة والحماقة وعدم الإِعتناء

[520]

بقوله: (إنّما يأتيكم به الله إن شاء) فذلك خارج من يدي على كل حال وليس باختياري، إِنّما أنا رسوله ومطيع لأمره، فلا تطلبوا منّي العذاب والعقاب! .. ولكن حين يحل عذابه فاعلموا أنّكم لا تقدرون أن تفرّوا من يد قدرته أو تلجأوا إِلى مأمن آخر (وما أنتم بمعجزين).

و «المعجز» مشتق من مادة «الإِعجاز» وهي بمعنى سلب القدرة من الغير، وتستعمل هذه الكلمة أحياناً في موارد يكون الإِنسان مانعاً لعمل الآخر أو لصده عن سبيله فيُعجزه عن القيام بأي عمل، وأحياناً تستعمل في فرار الإِنسان من يد الآخر وخروجه من هيمنته فلا يقدر عليه، وأحياناً تستعمل في تكبيل الآخر بالوثاق، أو بجعله مصوناً .. الخ.

فكل هذه المعاني من أوجه الإِعجاز وسلب القدرة من الطرف الآخر.

الآية الآنفة الذكر تحتمل جميع هذه المعاني، لأنّه لا منافاة بين جميع هذه المعاني، فكلها تعني أنّ لا حيلة تخلصكم وتجعلكم في أمان من عذابه.

ثمّ يضيف: وإِذا كان الله يريد أن يضلكم ويغويكم ـ لما أنتم عليه من الذنوب والتلوّث الفكري والجسدي ـ فلا فائدة من نصحي لكم إِذاً (ولا ينفعكم نصحي إِن أردت أن أنصح لكم إِن كان الله يريد أن يغويكم) فهو وليكم وأنتم في قبضته (هو ربّكم وإِليه ترجعون).

سؤال: مع مطالعة هذه الآية يثور هذا السؤال فوراً ـ كما أن كثيراً من المفسّرين أشاروا إِليه أيضاً ـ وهو: هل يمكن أن يريد الله الغواية والضلال لعباده؟ ثمّ أليس هذا دليلا على الجبر؟ وهل يتوافق هذا المعنى مع أصل حرية الإِرادة والإِختيار للانسان؟

والجواب: كما اتّضح من ثنايا البحث المتقدم ـ وما أشرنا إِليه مرات عديدة ـ أنّه قد تصدر من الإِنسان ـ أحياناً ـ سلسلة من الأعمال التي تكون نتيجتها الغواية والإِنحراف الدائمي وعدم العودة إِلى الحق، اللجاجة المستمرة والإِصرار على

[521]

الذنوب والعداء الدائم لطلاب الحق والقادة الصادقين.. كل هذه الأُمور تلقي على فكر الإِنسان حجاباً يفقده القدرة على رؤية أقل شعاع لشمس الحقيقة والحق، ولأنّ هذه الحالة من نتائج الأعمال التي يقوم بها الإِنسان، فلا تكون دليلا على الجبر، بل هي عين الإِختيار، والذي يتعلق بالله تعالى أنّه جعل في مثل هذه الأعمال أثراً.

هناك آيات عديدة في القرآن تشير إِلى هذه الحقيقة، وقد أشرنا الى ذلك في ذيل الآية (7) من سورة البقرة وآيات أُخرى يمكن مراجعتها ..

وفي آخر الآية ـ محل البحث ورد كلام بمثابة الجملة المعترضة ليؤكّد المواضيع التي بحثت قصّة نوح في الآيات السابقة واللاحقة، فتبيّن الآية أن الأعداء يقولون: إِنّ هذا الموضوع صاغه «محمّد» من قبل نفسه ونسبه إلى الله (أم يقولون افتراه).

ففي جواب ذلك قُلْ يا رسول الله: إِن كان ذلك من عندي ونسبته إِلى الله فذنبه عليّ (قل إِن افتريته فعلي أجرامي) ولكني بريء من ذنوبكم (وأنا بريءٌ ممّا تجرمون).

* * *

ملاحظات

1 ـ «الإِجرام» مأخوذ من مادة «جرم» على وزن «جهل» وكما أشرنا إِلى ذلك ـ سابقاً ـ فإِنّ معناه قطف الثمرة غير الناضجة، ثمّ أُطلقت على كل ما يحدث من عمل سيء، وتطلق على من يحث الآخر على الذنب أنّه أجرم، وحيث أن الإِنسان له إرتباط في ذاته وفطرته مع العفاف والنقاء، فإِنّ الإِقدام على الذنوب يفصل هذا الإِرتباط الإِلهي منه.

2 ـ إحتمل بعض المفسّرين أنّ الآية الأخيرة ليست ناظرة الى نبي الإِسلام، بل ترتبط بنوح(عليه السلام) نفسه، لأنّ جميع هذه الآيات تتحدث عن نوح(عليه السلام)، والآيات

[522]

المقبلة تتحدث عنه أيضاً، فمن الأنسب أن تكون هذه الآية في نوح(عليه السلام)، والجملة الإِعتراضية خلاف الظاهر، ولكن مع ملاحظة مايلي:

أّولا: إِنّ شبيه هذا التعبير وارد في سورة الأحقاف الآية (8) في نبي الإِسلام.

ثانياً: جميع ما جاء في نوح(عليه السلام) في هذه الآيات كان بصيغة الغائب، ولكن الآية ـ محل البحث ـ جاءت بصيغة المخاطب، ومسألة الإِلتفات ـ أي الإِنتقال من ضمير الغيبة إِلى المخاطب ـ خلاف الظاهر، وإِذا أردنا أن تكون الآية في نوح(عليه السلام)فإِنّ جملة «يقولون» بصيغة المضارع، وجملة «قل» بصيغة الأمر، يحتاجان كليهما إِلى التقدير!

ثالثاً: هناك حديث في تفسير البرهان في ذيل هذه الآية عن الإِمامين الصادقين الباقر والصادق(عليهما السلام) يبيّن أنّ الآية المتقدمة نزلت في كفار مكّة.

من مجموع هذه الدلائل نرى أن الآية تتعلق بنبي الإِسلام، والتهم التي وجهت إِليه كان من قبل كفار مكّة، وجوابه عليهم.

وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الجملة الإِعتراضية ليست كلاماً لا علاقة له بأصل القول، بل غالباً ما تأتي الجمل الإِعتراضية لتوكّد بمحتواها مفاد الكلام وتؤيده، وإِنما ينقطع إِرتباط الكلام أحياناً لتخف على المخاطب رتابة الإِيقاع وليبعث الجدة واللطافة في روح الكلام، وبالطبع فإِنّ الجملة الإِعتراضية لايمكن أن تكون أجنبية عن الكلام بتمام المعنى، وإلاّ فتكون على خلاف البلاغة والفصاحة، في حين أنّنا نجد دائماً في الكلمات البليغة والفصيحة جملا إِعتراضية.

3 ـ من الممكن أن يرد هذا الإِشكال عند مطالعة الاية الأخيرة، وهو قول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو نوح(عليه السلام) للكفار: إن يكن هذا الكلام افتراء فإثمه علي. ترى هل يعني قبول مسؤولية الإِثم «الإِفتراء» أنّ كلام الكفار حقاً ومطابقاً للواقع، وعلى الناس أن يتابعوه ويطيعوه!؟

ولكن مع تدقيق النظر في الآيات السابقة نحصل على جواب هذا الإِشكال،

[523]

وهو أنّ الأنبياء في الحقيقة أرادوا القول: إِنّ كلامنا يقوم على الإِستدلالات العقلية، فعلى فرض المحال أنّنا لم نكن مبعوثين من قبل الله فإِثم ذلك على أنفسنا، وهذا بغض النظر عن الإِستدلالات العقلية، ولكنّكم أيّها الكفار ستبقون بمخالفتكم صرعى الإِثم دائماً، الإِثم المستمر والباقي «لاحظ كلمة تجرمون التي جاءت بصيغة المضارع والتي تدل على الإِستمرار «فتأمل جيداً».

* * *

[524]

الآيات

وَأُوحِىَ إِلَى نُوح أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءاَمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ(36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأعْيُنِنا وَوَحْيِنا  وَلاَ تُخَطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(37) ويَصْنَعِ الفُلْكَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلاٌَ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ(39)

التفسير

بداية النّهاية:

إِنّ قصّة نوح عليه السلام الواردة في آيات هذه السورة، بُيّنت بعدّة عبارات وجمل، كل جملة مرتبطة بالأُخرى، وكل منها يمثل سلسلة من مواجهة نوح(عليه السلام)في قبال المستكبرين، ففي الآيات السابقة بيان لمرحلة دعوة نوح(عليه السلام) المستمرة والتي كانت في غاية الجدية، وبالإِستعانة بجميع الوسائل المتاحة حيث استمرت سنوات طوالا ـ آمنت به جماعة قليلة .. قليلة من حيث العدد وكثيرة من حيث الكيفية والإِستقامة.

[525]

وفي الآيات محل البحث إِشارة إِلى المرحلة الثّالثة من هذه المواجهة، وهي مرحلة انتهاء دورة التبليغ والتهيؤ للتصفية الإِلهية.

ففي الآية الأُولى نقرأ ما معناه: يا نوح، إنّك لن تجد من يستجيب لدعوتك ويؤمن بالله غير هؤلاء: (وأوحي إِلى نوح أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن).

وهي إِشارة إِلى أنّ الصفوف قد أمتازت بشكل تام، والدعوة للإِيمان والإِصلاح غير مجدية، فلابدّ إِذاً من الإِستعداد لتصفية والتحول النهائي.

وفي نهاية الآية تسلية لقلب نوح(عليه السلام) أن لا تحزن على قومك حين تجدهم يصنعون مثل هذه الأعمال (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) ونستفيد من هذه الآية ـ ضمناً ـ أنّ الله يطلع نبيّه نوحاً على قسم من أسرار الغيب بمقدار ما ينبغي، كما نجد أنّ الله تعالى يخبره بأنّه لَنْ يؤمن بدعوته في المستقبل غير أُولئك الذين آمنوا به من قبل، وعلى كل حال لابدّ من انزال العقاب بهؤلاء العصاة اللجوجين ليطهر العالم من التلوّث بوجودهم، وليكون المؤمنون في منأى عن مخالبهم، وهكذا صدر الامر بإغراقهم، ولكن لابدّ لكل شيء من سبب، فعلى نوح أن يصنع السفينة المناسبة لنجاة المؤمنين الصادقين لينشط المؤمنون في مسيرهم أكثر فأكثر، ولتتم الحجّة على غيرهم بالمقدار الكافي أيضاً.

وجاء الأمر لنوح أن (... اصنع الفلك بأعيننا ووحينا).

إِنّ المقصود من كلمة «أعيننا» إِشارة إِلى أن جميع ما كنت تعمله وتسعى بجد من أجله في هذا المجال هو في مرآى ومسمع منّا، فواصل عملك مطمئن البال.

وطبيعي أنّ هذا الإِحساس بأنّ الله حاضر وناظر ومراقب ومحافظ يعطي الإِنسان قوة وطاقة، كما أنّه يحسّ بتحمل المسؤولية أكثر.

كما يستفاد من كلمة «وحينا» أيضاً أن صنع السفينة كان بتعليم الله، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ نوحاً(عليه السلام) لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه، وإِنّما هو وحي الله الذي يعينه في

[526]

انتخاب أحسن الكيفيات.

وفي نهاية الآية ينذر الله نوحاً أن لا يشفع في قومه الظالمين، لأنّهم محكوم عليهم بالعذاب وإِن الغرق قد كتب عليهم حتماً (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون).

هذه الجملة تبين بوضوح أنّ الشفاعة لا تتيسر لكل شخص، بل للشفاعة شروطها، فإِذا لم تتوفر في أحد الاشخاص فلا يحق للنّبي أن يشفع له ويطلب من الله العفو لأجله (راجع المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية 48 من سورة البقرة).

أمّا عن قوم نوح فكان عليهم أن يفكروا بجد ـ ولو لحظة واحدة ـ في دعوة النّبي نوح(عليه السلام) ويحتملوا على الأقل أن هذا الإِصرار وهذه الدعوات المكررة كلها من «وحي الله» فتكون مسأله العذاب والطوفان حتمية !! إلاّ أنّهم واصلوا استهزاءهم وسخريتهم مرّة أُخرى وهي عادة الأفراد المستكبرين والمغرورين (ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إِن تسخروا منّا فإنا نسخر منكم كما تسخرون).

«الملأ» والأشراف الراضون عن أنفسهم يسخرون من المستضعفين في كل مكان، ويعدونهم أذلاء وحقراء لأنّهم لا قوّة لهم ولا ثروة!! ومضافاً بل حتى أفكارهم وإِن كانت سامية، ومذهبهم وإن كان ثابتاً وراسخاً، وأعمالهم وإِن كانت عظيمة وجليلة .. كل ذلك في حساب «الملأ» حقير تافه..! ولذلك لم ينفعهم الإِنذار والنصيحة. فلابدّ أن تنهال أسواط العذاب الأليم على ظهورهم

يقال أن الملأ من قوم نوح والأشراف كانوا جماعات، وكل جماعة تختار نوعاً من السخرية والإِستهزاء بنوح ليضحكوا ويفرحوا بذلك الإِستهزاء!

فمنهم من يقول: يا نوح، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجاراً آخر الأمر!

[527]

ومنهم من يقول: حسناً تصنع السفينة، فينبغي أن تصنع لها بحراً، أرأيت إِنساناً عاقلا يصنع السفينة على اليابسة. ومنهم من يقول: واهاً لهذه السفينة العظيمة، كان بإِمكانك أن تصنع أصغر منها ليمكنك سحبها إِلى البحر.

كانوا يقولون مثل ذلك ويقهقهون عالياً، وكان هذا الموضوع مثار حديثهم وبحثهم في البيوت وأماكن عملهم، حيث يتحدثون عن نوح واصحابه وقلّة عقلهم: تأملوا الرجل العجوز وتفرّجوا عليه كيف انتهى به الأمر، الآن ندرك أن الحق معنا حيث لم نؤمن بِكلامه، فهو لا يملك عقلا صحيحاً!!

ولكن نوحاً كان يواصل عمله بجدية فائقة وأناة واستقامة منقطعة النظير لأنّها وليدة الإِيمان، وكان لا يكترث بكلمات هؤلاء الذين رضوا عن أنفسهم وعميت قلوبهم، وإِنّما يواصل عمله ليكمله بسرعة. ويوماً بعد يوم كان هيكل السفينة يتكامل ويتهياً لذلك اليوم العظيم، وكان نوح(عليه السلام) أحياناً يرفع رأسه ويقول لقومه الذين يسخرون منه هذه الجملة القصيرة (قال إِن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون).

ذلك اليوم الذي يطغى فيه الطوفان فلا تعرفون ماتصنعون، ولا ملجأ لكم، وتصرخون معولين بين الأمواج تطلبون النجاة.. ذلك اليوم يسخر منكم المؤمنين ومن غفلتكم وجهلكم وعدم معرفتكم ويضحكون عليكم.

(فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) إِشارة إِلى أنّه بالرغم من أنّ مضايقاتكم لنا مؤلمة، ولكننا نتحمل هذه الشدائد ونفتخر بذلك أوّلا، كما أنّ ذلك مهما يكن فهو منقض وزائل، أمّا عذابكم المخزي فهو باق ودائم ثانياً، وهذان الأمران معاً لا يقبلان القياس.

* * *

[528]

ملاحظات

1 ـ التصفية لا الإِنتقام

يستفاد من الآيات المتقدمة أنّ عذاب الله يفتقد جنبة الإنتقام، لأنّه عبارة عن تصفية نوع من البشر وزوالهم لعدم جدارتهم بالحياة، وليبقى الصالحون من بعدهم.. إِنّ مثل هؤلاء المستكبرين الفاسدين والمفسدين لا أمل بإِيمانهم، ولا حق لهم في الحياة في نظر نظام الخلق، وهكذا كان قوم نوح لأنّ الآيات السابقة تبيّن له أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن، فلا أمل بإيمانهم فتهيأ لصنع «الفلك» (ولا تخاطبني في الذين ظلموا).

وهذا الموضوع يبدو جلياً في دعاء هذا النّبي على قومه، فنحن نقرأ في سورة نوح(عليه السلام) (قال ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنّك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفاراً).

وأساساً فإِنّ لكل موجود هدفاً في نظام الخلقة، وحين ينحرف هذا الموجود عن هدفه ويغلق على نفسه جميع طرق الإِصلاح، يكون وجوده وبقاؤه بلا معنى، ولا بد من أن يزول شاء أم أبى، وكا يقول الشاعر:

لا نضرةٌ عندي ولا ورق ولا وردٌ ولا ثمرٌ ففيم بقائي

2 ـ علائم المستكبرين:

إِنّ المستكبرين الأنانيين يحولون المسائل الجدية التي لا تنسجم مع رغابتهم وميولهم ومنافعهم إِلى لعب واستهزاء. ولهذا السبب فإِنّ الإِستهزاء بالحقائق ـ ولا سيما فيما يتعلق بحياة المستضعفين ـ يشكل جزءاً من حياتهم .. فكثيراً ما نجدهم من أجل أن يعطوا لجلساتهم المليئة بآثامهم رونقاً وجمالا يبحثون عن مؤمن خالي اليد ليسخروا منه ويستهزئوا به.

وإذا اتفق أنّ أحد المؤمنين لم يكن في مجلسهم فسوف يذكرون واحداً من

[529]

المؤمنين في غيابه ويسخرون منه ويضحكون!.. إِنّهم يتصورون أنفسهم بأنّهم العقل المطلق، ويظنون أنّ الثروة العظيمة ـ والتي هي من الحرام ـ دليل على شخصيتهم وعظمتهم وقيمتهم! وأنّ الآخرين فاقدو الشخصية ولا قيمة لهم وغير لائقين!

ولكن القرآن المجيد يوجه أشدّ هجومه على مثل هؤلاء الأفراد المغرورين المتكبرين، ولا سيما استهزاؤهم المحكوم عليه بغضب الله وسخطه!

نقرأ في التاريخ الإِسلامي ـ على سبيل المثال ـ أن «أبا عقيل الأنصاري» هذا العامل الفقير والمؤمن كان يسهر الليل في حمل الماء من آبار «المدينة» إِلى البيوت ويستوفي أجره بتميرات، ثمّ يأتي بهذه التُميرات إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في عزوة «تبوك» على أنّها مساعدة لجيش الإِسلام، فيلتفت المنافقون المستكبرون ويسخرون منه، فتنزل آيات من القرآن لها وقع الصاعقة عليهم (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلاّ جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم).

3 ـ سفينة نُوح:

لا شكّ أنّ سفينة نوح لَم تكنْ سفينة عاديَّة ولم تنتهِ بسهولة مع وسائل ذلك الزمان آلاته، إِذْ كانت سفينة كبيرة تحمل بالإِضافة إِلى المؤمنين الصادقين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات، وتحمل متاعاً وطعاماً كثيراً يكفي للمدّة التي يعيشها المؤمنون والحيوانات في السفينة حال الطوفان، ومثل هذه السفينة بهذا الججم وقدرة الاستيعاب لم يسبق لها مثيل في ذلك الزمان. فهذه السفينة ستجري في بحر بسعة العالم، وينبغي أن تمرَّ سالمةً عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها.

[530]

لذلك تقول بعض روايات المفسّرين: إِنّ طول السفينة كان ألفاً ومئتي ذراع، وعرضها كان ستمائة ذراع «كل ذراع يعادل نصف متر تقريباً».

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ النساء ابتلين قبل الطوفان بأربعين عامّاً بالعقم وعدم الإِنجاب، وكان ذلك مقدمةً لعذابهم وعقابهم.

* * *

[531]

الآيات

حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنَّورُ قَلْنَا احْمِلَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ أَمَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ(40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْراهَا وَمُرْسَهَآ إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(41) وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْج كَالْجِبَالِ وَنَادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِل يَبُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَفِرِينَ(42) قَالَ سَأَوِى إِلَى جَبَل يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ قَالَ  لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43)

التّفسير

شروع الطّوفان:

رأينا في الآيات المتقدمة كيف صنع نوح(عليه السلام) وجماعته المؤمنون سفينة النجاة بصدق. وواجهوا جميع المشاكل واستهزاء الأكثرية من غير المؤمنين، وهيأوا أنفسهم للطوفان، ذلك الطوفان الذي طهّر سطح الأرض من لوث المستكبرين

[532]

الكفرة.

والآيات ـ محل البحث ـ تتعرض لموضوع ثالث، وهو كيف كانت النهاية؟

وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين، فتبيّنه بهذا التعبير (حتى إِذا جاء أمرنا وفار التنّور)

التَنّوُر: بتشديد النون، هو المكان الذي ينضج الخبز فيه بعد أن كان عجيناً.

لكن ما مناسبة فوران الماء في التنور واقتراب الطوفان؟

إختلف المفسّرون فكانت لهم أقوال كثيرة في ذلك..

قال بعضهم: كان العلامة بين نوح وربّه لحلول الطوفان أن يفور التنّور، ليلتفت نوح وأصحابه إِلى ذلك فيركبوا في السفينة مع وسائلهم وأسبابهم.

وقال جماعة آخرون: إِنّ كلمة «التنور» استعملت هنا مجازاً وكنايةً عن غضب الله، ويعني أن غضب الله اشتدّت شعلته وفار، فهو إشارة الى اقتراب حلول العذاب المدمّر، وهذا التعبير مطرّد حيث يشبّهون شدّة الغضب بالفورة والإِشتعال!

ولكن يبدو أنّ احتمال أن يكون التنور قد استعمل بمعناه الحقيقي المعروف أقوى، والمراد بالتنّور ليس تنّوراً خاصّاً، بل المقصود بيان هذه المسألة الدقيقة، وهي أن حين فار التنّور بالماء ـ وهو محل النّار عادةً ـ التفت نوح(عليه السلام) وأصحابه إِلى أن الأوضاع بدأت تتبدل بسرعة وأنّه حدثت المفاجأة، فأين «الماء من النّار»؟!

وبتعبير آخر: حين رأوا أنّ سطح الماء ارتفع من تحت الأرض وأخذ يفور من داخل التنور الذي يُصنع في مكان يابس ومحفوظ، من الرطوبة علموا أن أمراً مهمّاً قد حدث وأنّه قد ظهر في التكوين أمر خطير، وكان ذلك علامة لنوح(عليه السلام)وأصحابه أن ينهضوا ويتهيأوا.

ولَعَلّ قوم نوح الغافلين رأوا هذه الآية. وهي فوران التنور بالماء في بيوتهم ولكن غضوا أجفانهم وصمّوا آذانهم كعادتهم عند مثل العلائم الكبيرة حتى أنّهم لم

[533]

يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر وأن إِنذارات نوح حقيقية.

في هذه الحالة بلغ الأمر الإِلهي نوحاً (وقلنا أحمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ومن آمن).

لكنْ كم هم الذين آمنوا معه؟ (وما آمن معه إلاّ قليل).

هذه الآية تشير من جهة إِلى امرأة نوح وابنه كنعان ـ اللذين ستأتي قصتهما في الآيات المقبلة ـ وقد قطعا علاقتهما بنوح على أثر انحرافهما وتآمرهما مع المجرمين، فلم يكن لهما حق في ركوب السفينة ليكونا من الناجين، لأنّ الشرط الأوّل للركوب كان هو الإِيمان.

وتشير الآية من جهة أُخرى إِلى أنّ ثمرة جهاد نوح(عليه السلام) بعد هذه السنين الطوال والسعي الحثيث المتواصل في التبليغ لدعوته، لم يكن سوى هذا النفر المؤمن القليل!

بعض الرّوايات تقول أنّه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصاً فقط، وتشير بعض الرّوايات الأُخرى إِلى عدد أقل من ذلك، وهذا الأمر يدل على ما كان عليه هذا النّبي العظيم نوح(عليه السلام) من الصبر والإِستقامة «في درجة قصوى بحيث كان معدل مايبذله من جهد لهداية شخص واحد عشر سنوات تقريباً، هذا التعب الذي لا يبذله الناس حتى لأولادهم!.

جمع نوح(عليه السلام) ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة، وحين أزف الوعد واقترب الطوفان وأوشك أن يحل عذاب الله أمرهم أن يركبوا في السفينة (وقال اركبوا فيه بسم الله مجراها ومرساها)(1).

لماذا؟! لكي يعلمهم أنّه ينبغي أن تكونوا في جميع الحالات في ذكر الله تعالى وتستمدوا العون من اسمه وذكره (إِنّ ربّي غفور رحيم).

فبمقتضى رحمته جعل هذه السفينة تحت تصرفكم واختياركم لتنجيكم من

____________________________

(1) المجرى والمرسى: اسما زمان، ويعني الأوّل وقت التحرك، والثّاني وقت التوقف.

[534]

الغرق وبمقتضى عفوه وغفرانه يتجاوز عن أخطائكم.

وأخيراً حانت اللحظة الحاسمة، إِذ صدر الأمر الإِلهي فتلبدت السماء بالغيوم كأنّها قطع الليل المظلم، وتراكم بعضها على بعض بشكل لم يسبق له مثيل، وتتابعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها تخبر عن حادثة «مهولة ومرعبة جدّاً».

شرعَ المطر وتوالى مسرعاً منهمراً أكثر فأكثر، وكما يصفه القرآن في سورة القمر (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرضَ عيوناً فالتقى الماءُ على أمر قد قدر).

ومن جهة أُخرى إرتفعت المياه الجوفية بصورة رهيبة بحيث تفجرت عيون الماء من كل مكان.

وهكذا إتصلت مياه الأرض بمياه السماء، فلم يبق جبل ولا واد ولا تلعة ولا نجد إلاّ استوعبه الماء وصار بحراً محيطاً خضمّاً .. أمّا الأمواج فكانت على أثر الرياح الشديدة تتلاطم وتغدو كالجبال. وسفينة نوح ومن معه تمضي في هذا البحر (وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) فإنّ مصيرك الى الفناء إِذا لم تركب معنا.

لم يكن نوح هذا النّبي العظيم أباً فحسب، بل كان مربيّاً لا يعرف التعب والنصب، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب، فناداه عسى أن يستجيب له، ولكن ـ للأسف ـ كان أثر المحيط السيء عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرّق عليه.

لذلك فإِنّ هذا الولد اللجوج الاحمق، وظنّاً منه أن ينجو من غضب الله أجاب والده نوحاً و(قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ولكنّ نوحاً لم ييأس مرّة أُخرى فنصحه أن يترك غروره ويركب معه و(قال لا عاصم اليوم من أمر الله) ولا ينجو من هذا الغرق إلاّ من شمله لطف الله (إلاّ من رحم).

[535]

الجبل أمره سهل وهين، وكرة الأرض أمرها هين كذلك .. الشمس والمجموعة الشمسية بما فيها من عظمة مذهلة لا تعدل ذرّة إِزاء قدرة الله الأزليّة.

أليس أعلى الجبال بالنسبة لكرة الأرض بمثابة نتوءات صغيرة على سطح برتقالة؟! أليست هذه الأرض التي ينبغي أن يتضاعف حجمها إِلى مليون ومئتي ألف مرّة حتى تبلغ حجم الشمس، وهذه الشمس التي تعدّ نجماً متوسطاً في السماء من بين ملايين الملايين من النجوم في متسع عالم الخلق، فأيّ خيال ساذج وفكر بليد يتوقع من الجبل أن يصنع شيئاً؟

وفي هذه الحالة التي كان ينادي نوح إبنه ولا يستجيب الابن له ارتفعت موجة عظيمة والتهمت كنعان بن نوح وفصل الموج بين نوح وولده (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين).

* * *

بحوث

1 ـ هل كان طوفان نوح مستوعباً للعالم؟!

من خلال ظاهر الآيات يبدو لنا أنّ الطوفان لم يكن لمنطقة من الأرض دون أُخرى، بل غطى كل سطح الأرض ، لأنّ كلمة «الأرض» ذكرت بصورة مطلقة، كما في الآية (26) من سورة نوح (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً) كما في الآية (44) المقبلة من سورة هود (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي)وهكذا ذكر كثير من المؤرخين ـ أيضاً ـ أنّ طوفان نوح كان عالمياً، ولذلك يرجع نسل جميع البشر اليوم إِلى واحد من أبناء نوح الثلاثة «حام وسام ويافث» الذين بقوا بعده مدةً!

وفي التاريخ الطبيعي نعثر على فترة تدعى فترة الأمطار ذات السيول، فلو لم تكن هذه الفترة الزمنية قبل تولّد الحيوانات، فهي تنطبق على طوفان نوح.

[536]

وهذه النظرية موجودة أيضاً التاريخ الطبيعي للأرض، وهي أن محور الكرة الأرضية يتغير تدريجاً، بحيث يكون القطبان الشمالي والجنوبي مكان خط الإِستواء ، ويحلّ خط الإِستواء محلّهما، وواضح أنّ الحرارة التي تكون في أعلى درجاتها تذيب الثلوج القطبية فترتفع مياه البحار حتى تستوعب كثيراً من اليابسة، ومع النفوذ في ثنايا الأرض وطياتها تحدث العيون المتفجرة، وكل ذلك يبعث على كثرة السحب و الأمطار.

كما أنّ مسألة اختيار نوح(عليه السلام) من كل نوع من الحيوانات زوجين وحملها معه على السفينه يؤيد كون الطوفان عالميّاً أيضاً، وإِذا عرفنا أنّ نوحاً كان يسكن الكوفة ـ كما تقول الرّوايات ـ وأن طرف الطوفان وحافته ـ طبقاً للرّوايات الأُخرى ـ كان في مكّة وبيت الله الحرام، فهذا نفسه أيضاً مؤيد «لعالميّة الطوفان».

ولكن مع هذه الحال، فلا يبعد أن يكون الطوفان في منطقة معينة من الأرض، لأنّ إِطلاق الأرض على المنطقة الواسعة من العالم تكرر في عدد من آيات القرآن، كما نقرأ في قصّة بني إِسرائيل (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها)(1).

وحمل الحيوانات في السفينة ربّما كان لئلا ينقطع نسلها في ذلك القسم من الأرض، خصوصاً أن نقل الحيوانات وانتقالها في ذلك اليوم لم يكن أمراً هيّناً «فتدبر»!

وهناك قرائن أُخرى تقدم ذكرها يمكن أن يستفاد منها أنّ الطوفان لم يستوعب الكرة الأرضية كلّها.

وهناك مسألة تسترعي الإِنتباه ـ أيضاً ـ وهي أنّ طوفان نوح كان بمثابة العقاب لقومه، وليس لنا دليل على أن دعوة نوح شملت الأرض كلها، وعادةً فإنّ وصول دعوة نوح في مثل زمانه إِلى جميع نقاط الأرض أمر بعيد .. ولكن على كل حال

____________________________

(1) الأعراف، 127.

[537]

فالهدف القرآني من بيان هذه القصّة للعبرة وبيان المسائل التي تربي الآخرين، سواءً كان الطوفان عالمياً أو غير عالمي.

2 ـ هل تُقبل التوبة بعد نزول العذاب؟!

يستفاد من الآيات المتقدمة أنّ نوحاً(عليه السلام) استمر يدعو ولده حتى بعد شروع الطوفان، وهذا دليل على أنّه لو آمن ابنه «كنعان» لقُبل إِيمانه.

ويرد هنا سؤال وهو أنّه بالنظر إلى آيات القرآن الأُخرى والتي مرّت «نماذج» منها، تنصُّ على أنّ أبواب التوبة تغلق بعد نزول العذاب .. لأنّ المجرمين في هذه الحالة إِذ يرون العذاب محدقاً بهم فالغالبية منهم يتوبون عن اكراه واضطرار لرؤية العذاب بأعينهم، فعندئذ تكون توبتهم بلا محتوى وفاقدة للاعتبار.

ولكن بالتدقيق في الآيات السابقة يمكن الجواب على هذا السؤال، هو أنّ شروع الطوفان وما جرى في بداية الأمر، لم يكن علامة واضحة للعذاب، بل كان يُتصور أنّه مطر شديد لا مثيل له .. وعلى هذا فإِنّ ابن نوح حين قال لأبيه (سآوي إِلى جبل يعصمني من الماء) ظنّاً منه أنّ الطوفان والمطر كانا طبيعيين. ففي هذه الحالة لا يبعد أن تكون أبواب التوبة ما تزال مفتوحة،

ويمكن أن يرد سؤال آخر في شأن ابن نوح، وهو أنّه لِمَ نادى نوح ابنه دون سائر الناس في هذه اللحظة الحرجة؟!

ويمكن أن يكون الجواب أنّ نوحاً أدّى وظيفته في الدعوة العامّة للآخرين وبضمنها دعوته لولده، إلاّ أنّه كان يتحمل وظيفةً أصعب بالنسبة لولده، وهي وظيفة «الاُبوّة» إِلى جانب وظيفة «النّبوة» فلهذا السبب كان يؤكّد على أداء وظيفته بالنسبة لولده إِلى آخر لحظة.

والإِحتمال الآخر وكما يقول المفسّرون أنّ ابن نوح لم يكن في صفّ الكفار ولا في صف المؤمنين، بل كما يقول القرآن: (كان في معزل) فلأنّه لم يكن مع

[538]

المؤمنين فإنّه كان يستحق العقاب، ولأنّه لم يكن مع الكافرين فإِنّه كان يستحق أن يتوجه إِليه التبليغ واللطف والمحبّة بصورة أكثر.. أضف إِلى ذلك أن ابتعاده عن الكفار وكونه في معزل، كان يقوي أمل نوح في أن يندم ولده على الإِبتعاد عنه.

وهناك احتمال آخر، وهو أنّ ابن نوح لم يكن يخالف أباه بصراحة، بل كان منافقاً وكان يوافق أباه في الظاهر أحياناً، فلذلك طلب نوح من ربّه له النجاة.

وعلى كل حال فإِنّ الآية السابقة لا تنافي مضامين الآيات الأُخرى التي تشير إِلى انسداد أبواب التوبة حال نزول العذاب.

3 ـ دروس تربوية من طوفان نوح:

إِنّ هدف القرآن الأصلي من ذكر قصص الماضين بيان دروس وعبر ومسائل تربوية، وفي هذا القسم من قصّة نوح مسائل مهمّة جدّاً نشير إِلى قسم منها:

أ ـ تطهير وجه الأرض:

صحيح أنّ الله رحيم ودود، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّه حكيم أيضاً، فبمقتضى حكمته أنّه عندما لا تؤثر دعوة الناصحين والمربيّن الإِلهيين في قوم فاسدين، فلا حق لهم بعد ذلك في الحياة وسينتهون نتيجة للثورات الإِجتماعية أو الطبيعية وتحت وطأة التنظيم الحياتي.

وهذا الأمر غير منحصر في قوم نوح ولا بزمان معين، إِنما هو سنة الله في خلقه وعبادة في جميع العصور والأزمان حتى في عصرنا الحاضر، وأي إشكال في أن تكون كلٌ من الحرب العالمية الأُولى والحرب العالمية الثّانية صورة من صُور «تطهير الأرض».

[539]

ب ـ لم كان العقاب أو الطوفان؟!

صحيح أن قوماً أو أُمّة كانوا فاسدين وينبغي زوالهم ومهما تكن وسائل إِزالتهم فالنتيجة واحدة، ولكن بالتدقيق في الآيات المتقدمة نستفيد أنّ هناك تناسباً بين الذنوب وعقاب الله دائماً وأبداً.«فتدبر جيداً»

كان فرعون يرى قدرته وعظمته تتجلى في «نهر النيل» ومياهه كثير البركات، لكن الطريف أنّ هلاك فرعون ونهايته كان في النيل.

وكان نمرود يعتمد على «جيشه» العظيم، لكننا نعلم أنّ جيشاً ـ لا يعتد به ـ من الحشرات هزمه وجنوده أجمعين.

وكان قوم نوح أهل زراعة «وأنعام» وكانوا يجدون كل خيراتهم في «حبات المطر» لكن نهايتهم كانت بالمطر أيضاً ..

ومن هنا يتّضح جلياً أنّ حساب الله في غاية الدقّة، ولو لاحظنا الطغاة العتاة في عصرنا وفي الحرب العالمية الأُولى والثّانية كيف أُبيدوا بأسلحتهم الحديثة والمتطورة لاتضح المعنى اكثر.

فلا ينبغي أن نعجب أنّ هذه الصناعات المتقدمة التي اعتمدوا عليها في استعمار الشعوب واستثمار خيراتهم واستضعافهم .. أدت إِلى زوالهم.

ج ـ اسم الله على كل حال وفي كل مكان

قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ نوحاً(عليه السلام) يوصي أصحابه أن لا ينسوا ذكر اسم الله في بداية حركة السفينة وعند توقفها، فكل شيء يتقوم باسمه وبذكره، وينبغي أن نستمد العون من ذاته القدسيّة، كل حركة وكل توقف، حال الهدوء وحال الإِعصار والطوفان، كل هذه الحالات ينبغي أن تبدأ باسمه، لأنّ كل عمل يبدأ دون ذكر اسمه فهو «أبتر ومقطوع»، وكما ورد عن نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الشريف

[540]

«كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر»(1) وليس ذكر الله من باب التشريف، بل هو هدف وغاية، فكل عمل ليس فيه هدف إِلهي فهو أبتر، لأنّ الأهداف المادية تتلاشى وتنتهي إلاّ الأهداف الإِلهية فهي غير قابلة للفناء، وحين تبلغ الأهداف المادية الذروة تنطفىء وتزول، إلاّ أنّ الأهداف الإِلهية خالدة وباقية كذاته المقدسة.

د ـ المرتكزات الجوفاء:

من الطبيعي أنّ كل أحد يعتمد في التغلّب على الصعاب ومواجهة المشاكل في حياته إِلى أمر ما، فجماعة يعتمدون على الثروة والمال، وجماعة على المقام والمنصب، وجماعة يلجأون إِلى القدرة الجسمية، وآخرون إِلى أفكارهم.. ولكن ـ كما تخبرنا الآيات المتقدمة ويرينا التاريخ ـ لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يقاوم أدنى مقاومة أمام أمر الله وقدرته، حيث يكون مثله كمثل خيط العنكبوت يتلاشى أمام هبوب الرياح الشديدة.

فابن نوح(عليه السلام) لغروره وغفلته كان غارقاً في مثل هذا الوهم، وظن أنّ الجبل سيعصمه من طوفان غضب الله ويحميه ولكن موجة واحدة من ذلك الطوفان المتلاطم كشفت سراب ظنّه وأنهت حياته.

من هنا نقرأ في بعض الأدعية «إِنّي هارب منك إِليك»(2) أي: لو كان هناك ملجأ أمام طوفان غضبك ياربّ، فهذا الملجأ هو ذاتك المقدسة والعودة إِليك لا إِلى سواك.

____________________________

(1) سفينة البحار ص 663 الجزء الأول.

(2) دعاء أبي حمزة الثمالي.

[541]

هـ ـ سفينة النجاة:

لا يمكن الخلاص من أي طوفان دون سفينة النجاة، وليس شرطاً أن تكون هذه السفينة من الخشب والحديد، بل ما أحسن أن تكون هذه السفينة ديناً يقوّم السلوك ويهب الحياة الطيبة ويقاوم أمام أمواج طوفان الإِنحراف الفكري، ويوصل أتباعه إِلى ساحل النجاة.

وعلى هذا الأساس وردت روايات كثيرة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مصارد الشيعة والسنة تعبر عن أهل بيته ـ وهم الأئمّة الطاهرون وحملة الإِسلام ـ بأنّهم «سفينة النجاة».

يقول حنش بن المغيرة وأبوذرٍّ آخذُ بحلقة باب الكعبة وهو يقول: أنا أبوذر الغفاري، من لم يعرفني فأنا جُندب صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا»(1).

وفي بعض الرّوايات أضيف إليها هذا النص «ومن تخلف عنها غرق»(2) أو «من تخلف عنها هلك»(3).

هذا الحديث الشريف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يبيّن بصراحة أنّه حين يطغى الطوفان الفكري والعقائدي والإِجتماعي في المجتمع الإِسلامي، فإِنّ طريق النجاة الوحيد هو الإِلتجاء إِلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) دون المذهب التي اصطنعتها السلطات السابقة والتي لا علاقة لها بأهل البيت(عليهم السلام).

* * *

____________________________

(1) عيون الأخبار، ج 1، ص 211.

(2) المعجم الكبير بخط الحافظ الطبراني، صفحة 30 مخطوط.

(3) المصدر نفسه عن جماعة من أهل السنة كابن المغازلي والخوارزمي، الجزء التاسع من أحقاف الحق، ص280 لمزيد الإِيضاح جديدة.

[542]

الآية

وَقِيلَ يَأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَيَاسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِىَ االأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّلِمِينَ(44)

التّفسير

نهاية الحادث:

قرأنا في الآيات السابقة ـ إِجمالا ـ أنّ الأمواج المتلاطمة الصاخبة من الماء أغرقت كل مكان حيث تصاعد منسوب الماء تدريجاً، أمّا المجرمون الجهلة فظناً منهم أنّه طوفان عادي فصعدوا إِلى أعالي القمم والمرتفعات، لكن الماء تجاوز تلك المرتفعات أيضاً وخفي تحت الماء كل شيء، وأخذت تلوح للعيون أجساد الطغاة الموتى وما بقي من البيوت ووسائل المعاش في ثنايا الأمواج على سطح الماء.

وكان نوح(عليه السلام) قد أودع زمام السفينة بيد الله سبحانه، وكانت الأمواج تتقاذف السفينة في كل صوب، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماماً (من بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة) وعلى رواية (من عاشر شهر رجب

[543]

حتى عاشر محرم) وطافت السفينة نقاطاً متعددة من الأرض، وطبقاً لما جاء في بعض الرّوايات أنّها سارت على أرض مكّة وحول الكعبة.

وأخيراً صدر الأمر الإِلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إِلى حالتها الطبيعية، والآية ـ محل البحث ـ تبيّن هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات وجيزة جدّاً، وفي الوقت ذاته بليغة وأخّاذة، وقد جاءت الآية في جمل ست:

1 ـ (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء.

2 ـ (ويا سماء اقلعي) وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري.

3 ـ (وغيض الماء) ونزل الماء في جوف الأرض.

4 ـ (وقضي الأمر) انتهى حكم الله.

5 ـ (واستوت على الجودي) واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي.

6 ـ (وقيل بعداً للقوم الظالمين) عندئذ لُعن المجرمون بالدعاء عليهم أن يبتعدوا من رحمة الله.

كم هي رائعة هذه التعابير التي وردت في الآية المتقدمة، وهي في الوقت ذاته وجيزة وتفور بالحياة والجمال الاخّاذ بحيث قال فيها طائفة من علماء العرب: إِن هذه الآية تعدُّ أفصح آيات القرآن وأبلغها وإِن كانت آياته جميعاً في غاية البلاغة والفصاحة.

الشاهد على هذا الكلام هو أنّنا نقراً في روايات التاريخ الإِسلامي أنّ جماعة من كفار قريش نهضوا لمواجهة القرآن وليأتوا بمثل آياته، فهيأ مريدوهم الطعام والشراب لهم لفترة أربعين يوماً، مثل لب الحنطة الخالص والخمر المعتق ولحم الغنم ـ لينسجوا براحة البال على منوال آيات القرآن شبيهاً لها، ولكنّهم حين بلغوا هذه الآية ـ محل البعث ـ هزتهم بحيث نظر بعضهم إِلى بعض وقال كل للآخر: هذا كلام لا يشبهه كلام آخر، وهو أساساً لا يشبه كلام المخلوقين، قالوا ذلك وانصرفوا

[544]

عمّا اجتمعوا له من محاكاة القرآن آيسين(1).

أين يقع الجودي؟

ذهب كثير من المفسّرين أنّ الجودي الذي استقرت عليه السفينة ـ كما مرّ ذكره في الآية ـ جبل معروف قرب الموصل(2) وقال آخرون: هو جبل في حدود الشام أو شمال العراق أو قرب «آمد»

وفي كتاب الراغب الأصفهاني (المفردات) أنّه جبل بين الموصل والجزيرة، وهي (جزيرة ابن عمر في شمال الموصل).

ولا يبعد أن تكون جميعها بمعنى واحد، «فالموصل» و«الجزيرة» و«آمد» جميعها في الجزء الشمالي من العراق وقرب الشام.

وقال آخرون: يحتمل أن يكون المقصود من الجودي كل جبل صلب أو أرض صلبة وقوية، ومَعنى الآية حسب هذا التّفسير أن السفينة استقرت على أرض صلبة غير رخوة لينزل ركابها على الأرض، ولكن المشهور والمعروف هو المعنى الأوّل.

وفي كتاب «أعلام القرآن» تحقيق وتتبع حول جبل الجودي نورده بما يلي:

«الجودي» اسم جبل استقرت سفينة نوح واستوت على قمته، وقد ورد اسمه في الآية (44) في سورة هود وهو قريب من المضمون الوارد في التوراة مع ما يتعلق به من أُمور أُخرى، وهناك ثلاثة أقوال بالنسبة إلى محل جبل الجودي:

1 ـ بناءً على قول «الاصفهاني» فإنّ جبل الجودي في الجزيرة العربية، وهو واحد من جبلين واقعين في منطقة نفوذ قبيلة (طيء).

2 ـ إِنّ الجودي هو سلسلة جبال «كاردين» الواقعة شمال شرقي جزيرة (ابن عمر) في شرق دجلة قرب الموصل؟ ويسمّيها الأكراد (كاردو) بلهجتهم، ويسميها

____________________________

(1) راجع مجمع البيان، ح 5، ص 165، وروح المعاني، ج 12، صفحة 57.

(2) راجع مجمع البيان، وروح المعاني، والقرطبي، ذيل الآية محل البحث.

[545]

اليونانيون (جوردي) ويسمّيها العرب «الجودي».

في «الترگوم» وهي الترجمة الكلدانية لـ «التوراة» وكذلك الترجمة السريانية  لـ «التوراة»: إِنّ المكان الذي استقرت عليه سفينة نوح هو قلعة جبل الأكراد، أي «كاردين».

والجغرافيون العرب يطبقون الجودي المذكور في القرآن على هذه المنطقة ـ المشار إِليها آنفاً ـ ويقولون إِنّ قطع السفينة كان موجودة على قمة هذا الجبل حتى زمان بني العباس وكان المشركون يزورونها..

وفي القصص البابلية قصّة شبيهة بطوفان نوح(عليه السلام) (ملحمة گيلگامش) ويمكن ـ إضافة إلى ذلك ـ احتمال طغيان دجلة في تلك الفترة، وسكنة تلك المنطقة هم المبتلون بالطوفان.

وفي جبل الجودي كتيبة آشورية موسومة بكتيبة «ميسر» وقد لوحظ في هذه الكتيبة اسم «آرارتو».

3 ـ وفي الترجمة الحالية لـ «التوراة»: إِن محل استقرار سفينة نوح في جبال «آرارات» وهو جبل «ماسيس» الواقع في «أرمنستان» وقد ضبط صاحب قاموس الكتاب المقدّس معناه الأولي، فكان المعنى «ملعون» وقال: بناءً على ما جاء في الرّوايات فإِنّ سفينة نوح استقرّت على قمة هذا الجبل، ويسميّه العرب  بـ «الجودي» ويسمّيه الإِيرانيون بـ «جبل نوح» ويسميه الأتراك بـ «كرداغ» بمعنى الجبل المنحدر، وهو واقع قرب «أرس».

وحتى القرن الخامس لم يعرف الأرامنة جبلا في أرمنستان باسم جبل «الجودي» ولكن منذ ذلك الوقت تسرب هذا المفهوم الى علماء الأرمن وقد يكون السبب هو اشتباه المترجمين للتوراة الذين ترجموا جبل «الأكراد» إلى «أرارات»..

ولعل ممّا سوّغ هذا التصوّر أنّ الآشوريين أطلقوا على الجبال الواقعة شمال

[546]

بحيرة «وان» وجنوبها اسم «آرارات» أو «آراتو».

يقال أنّ النّبي نوحاً بنى مسجداً على قمة جبل الجودي بعد ما غاض الطوفان، ويقول الأرامنة: إِنّ في سفح جبل الجادي «الجودي» قرية تدعى ثمانين أو ثمان، وهي أوّل محلِ نزل فيه أصحاب نوح(عليه السلام)(1).

* * *

____________________________

(1) أعلام القرآن للغزائلي، ص 281.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21401790

  • التاريخ : 19/04/2024 - 09:39

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net