00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة هود من آية 45 ـ 69 من ( 547 ـ آخر الجزء السادس )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[547]

الآيات

وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلىِ وَاءِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمْ الْحَكِمِينَ(45) قَالَ يَنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَلِح فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ(46) قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَسِرِينَ(47)

التّفسير

حادثة ابن نوح المؤلمة:

قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ ابن نوح لم يسمع نصيحة والده وموعظته، ولم يترك لجاجته وحماقته حتى النفس الأخير، فكانت نهايته الغرق في أمواج الطوفان.

وهذه الآيات ـ محل البحث ـ تتحدث عن قسم آخر من هذه القصّة، وهو أنّه حين رأى نوح إبنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوّة وتذكر وعد الله في نجاة أهله فالتفت إِلى ساحة الله منادياً (فقال ربّ إِنّ ابني من أهلي وإِنّ وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين).

[548]

وهذا الوعد هو ما أشارت إِليه الآية (40) من هذه السورة حيث يقول سبحانه: (قلنا احمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول).

فكان أن تصوّر نوح أن قوله تعالى: (إلاّ من سبق عليه القول) خاص بزوجته المشركة التي لم تؤمن به دون ابنه كنعان، ولذلك خاطب نوح ربّ العزّة بهذا الكلام.

ولكنّه سمع الجواب مباشرة .. جواب يهزّ هزاً كما أنّه يكشف عن حقيقة كبيرة .. حقيقة أنّ الرّباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة .. (قال يا نوح إنّه ليس من أهلك أنّه عملٌ غير صالح).

فهو فرد غير لائق، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين. (فلا تسألن ما ليس لك به علم إِنّي أعظك أن تكون من الجاهلين).

فأحسّ نوح أنّ طلبه هذا من ساحة رحمة الله لم يكن صحيحاً، ولا ينبغي أن يتصور نجاة ولده ممّا وَعَد الله به في نجاة أهله، لذلك توجه إِلى الله معتذراً مستغفراً و(قال ربّ إنّيَ أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاّ تغفر لي وترحمني أكُنْ من الخاسرين).

* * *

بحوث

1 ـ لم كان ابن نوح «عَمَلا غير صالح»؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ في الآية إِيجاز حذف، وأصل الآية هكذا «إنّه ذو عمل غير صالح».

ولكن مع ملاحظة أنّ الإِنسان قد يذوب في عمله إِلى درجة كأنّه يصير بنفسه العمل ذاته، وفي اللغات المختلفة يأتي مثل هذا التعبير على نحو المبالغة كأن يقال: إِنّ فلاناً هو كل العدل والسخاء، أو إِنّ فلاناً هو السرقة والفساد فكأنّه غاص في

[549]

العمل حتى صار هو العمل بذاته.

فابن نوح كان كذلك، فقد جالس رفقاء السوء وغاص في أعمالهم السيئة وأفكارهم المنحرفة، بحيث كأنّ وجوده تبدل إِلى عمل غير صالح!..

فعلى هذا.. وإِن كان التعبير المقدم موجزاً ومختصراً جداً، إلاّ أنّه يعبّر عن حقيقة مهمّة في ابن نوح!.

أي لو كان هذا الظلم والإِنحراف والفساد في وجود ابن نوح سطحيّاً لكانت الشفاعة في حقّه ممكنة، ولكنّه أصبح غارقاً في الفساد والإِنحراف، فليس للشفاعة هنا محلّ، فدع الكلام فيه يانوح!..

وما يراه بعض المفسّرين من أن كنعان لم يكن ابن نوح حقيقةً، أو أنّه كان إِبناً غير شرعي، أو أنّه ابن شرعي من زوجته عن رجل آخر، بعيد عن الصواب لأنّ قوله: (إنّه عمل غير صالح) في الواقع علة لقوله: (إنّه ليس من أهلك) أي إِنّما نقول لك إِنّه ليس من أهلك فلأنّه انفصل عنك بعمله وإِن كان الرباط النسبي لا يزال قائماً ..

2 ـ دائرة الوعد الإلهي

مع ملاحظة ما ورد في الآيات المتقدمة من خطاب نوح لربّه وما أجابه الله به، ينقدح هذا السؤال وهو: كيف لم يلتفت نوح إِلى أنّ ابنه كنعان كان خارج دائرة الوعد الالهي؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال ـ كما أشرنا آنفاً ـ أنّ هذا الابن لم تكن له طريقة واحدة معروفة، فتارةً تراه مع المؤمنين وأُخرى مع الكفار، ممّا يوهم أنّه مؤمن. بالإِضافة إِلى الإِحساس بالمسؤولية الكبرى التي كان نوح يجدها في نفسه بالنسبة إِلى ولده، كذلك المحبّة والعلاقة الطبيعية التي يجدها كل أب بالنسبة لابنه، والأنبياء غير مستثنين من هذا القانون، كل ذلك كان سبباً في أن يطلب نوح من

[550]

ربّه هذا الطلب..

ولكن بمجرّد أن اطّلع على واقع الأمر، أسِفَ على طلبه فوراً واعتذر إِلى الله راجياً عفوه ـ وإِن لم يكن صدر منه ذنب ـ لأنّ موقع النّبي يقتضي منه أن يراقب كلامه وتصرفاته ، فكان الأولى عليه الترك ، ومن هنا فقد سأل الله العفو والمغفرة ..

ومن هنا يتّضح الجواب على سؤال : هل يذنب الأنبياء حتى يطلبوا العفو والمغفرة ؟ ..

3 ـ هناك حيث تنقطع العلائق

تعكس الآيات الآنفة درساً من أنجع الدروس الإنسانية والتربوية ضمن بيان قصّة نوح .. درساً لا مفهوم له في المذاهب المادية لكنّه أصل أساس في المذهب الإلهي والمعنوي .

فالعلائق المادية «النسب ، القرابة ، الصداقة ، المرافقة» تخضع دائماً في المذاهب السماوية إلى العلائق المعنوية .

وفي المذاهب السماوي لا مفهوم للعلاقة النسبية والقرابة مقابل الرابطة المذهبية .

هناك حيث تتحقق العلاقة الدينية ، كسلمان الفارسي الذي لا هو من أهل بيت النّبي ولا من قريش ولا من أهل مكّة ، بل لم يكن اساساً من العرب ، ولكنّه طبقاً لما ورد في الحديث الشريف المعروف «سلمان منّا أهل البيت» كان يُعدّ من أسرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

إلاّ أنّ الابن الواقعي والمباشر للنّبي ـ كابن نوح ـ يُطرد على أثر قطع علاقته الدينية ، ويقال في شأنه لأبيه نوح : (إنّه ليس من أهلك) .

قد تكون هذه المسألة المهمّة عسيرة الفهم لمن يعيش في دائرة التفكير المادي لكنّها حقيقة من صميم الأديان السماوية جميعاً .

[551]

وعلى هذا الأساس نجد أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) تتحدث عن بعض الشيعة الذين يحملون اسم التشيّع إلاّ أنّه لا يوجد فيهم علائم من تعليمات أهل البيت(عليهم السلام)بنفس الطريقة التي تقدمت في الآيات الآنفة في القرآن الكريم حيث نقل عن علي بن موسى (عليه السلام) أنّه سأل بعض أصحابه يوماً : كيف يفسر الناس هذه الآية (إنّه عمل غير صالح) .. فأجابه أحد الحاضرين : إنّهم يعتقدون أن كنعان لم يكن الابن الحقيقي لنوح ، فقال الإمام : «كلاّ لقد كان ابنه ، ولكن لمّا عصى الله نفاه عن أبيه ، كذا من كان منّا لم يطع الله فليس منّا»(1) .

4 ـ المسلمون المطرودون

ومن المناسب أن نستلهم من الآية فنشير إلى قسم من الأحاديث الإسلامية التي ترى طوائف كثيرة من المسلمين ، أو أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في الظاهر مطرودين وخارجين عن صف المؤمنين والشيعة :

1 ـ فقد ورد عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «من غش مسلماً فليس منّا»(2) .

2 ـ كما روي عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه قال : «ليس بولي لي من أكل مال مؤمن حرام»(3) .

3 ـ ويقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «ألا ومن أكرمه النّاس اتقاء شره فليس منّي» .

4 ـ وروي عن الإمام علي أنّه قال : «ليس من شيعتنا من يظلم الناس» .

5 ـ وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : «ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل يوم»(4) .

6 ـ ويقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من سمع رجلاً يناديى يا للمسلمين فلم يجبه فليس

____________________________

(1) تفسير الصافي ذيل الآية المتقدمة .

(2) سفينة البحار، ج2، ص318 .

(3) وسائل الشيعة، ج12، ص53.

(4) بحار الأنوار، الطبعة القديمة ج15 قسم الأخلاق .

[552]

بمسلم»(1) .

7 ـ وقال الإمام الباقر (عليه السلام) لأحد أصحابه وكان يدعى «جابراً» : «واعلم يا جابر بأنك لا تكون لنا وليّاً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا : إنّك رجل سوء ، لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنّك رجل صالح ، لم يسرك ذلك ، ولكن أعرض نفسك على كتاب الله»(2).

هذه الأحاديث تضع علامة «البطلان» على تصورات من يقنع بالإسم فحسب ولكنّهم لا يعيرون أهمية للعمل بالتكليف ، أو للروابط الايمانية ، وتثبت بوضوح أنّ الأصل في مذهب القادة الرّبانيين والأساس هو الإيمان بالعقيدة والعمل بمناهجهم ، وينبغي أن يقاس كل شخص بهذا المقياس .

* * *

____________________________

(1) أصول الكافي، ج2، ص164.

(2) سفية البحار، ج2، ص691.

[553]

الآيتان

قِيلَ يَنُوحُ اهْبِطْ بِسَلَم مِنَّا وَبَرَكَت عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَم مِّمَّن مَّعَكَ وَاُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(48) تِلْكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيَهآ اِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِر إنَّ الْعَقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(49)

التّفسير

هبوط نوح بسلام:

هاتان الآيتان هما نهاية الآيات التي تتحدث عمّا جاء في نوح وقصّته المليئة بالدروس والعبر في سورة هود ، وفيهما إشارة إلى هبوط نوح(عليه السلام) من سفينته وعودة الحياة والعيش الطبيعي على الأرض .

يقول القرآن في الآية الأُولى من هاتين الآيتين : (قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أُمم ممن معك) .

لا شك أنّ الطوفان كان قد دمر كل آثار الحياة .. فالأراضي العامرة والمراتع الخُضر والغابات النضرة كلّها أُبيدت ، فالحالة كانت تنذر بأزمة خانقة لنوح وأصحابه بالنسبة للمعاش والغذاء ، لكن الله سبحانه طمأن هذه الجماعة المؤمنة

[554]

إزاء البركات الإلهية والسلامة وأن كل ذلك سيكون مهيّأً وموفّراً لهم فلا ينبغي الحزن على شيء ..

مضافاً إلى ذلك فقد يأتي الحزن والخوف من شيء آخر وهو الخوف على السلامة والصحة بسبب المستنقعات والمياه الآسنة الباقية من آثار الطوفان التي تهدد حياتهم بالخطر ، فالله سبحانه يطمئن نوحاً وأصحابه أيضاً أنّه لا خطر يهددهم ، وأن الذي أرسل الطوفان لهلاك الطغاة قادر على أن يوفر محيطاً سالماً مليئاً بالخيرات والبركات للمؤمنين كذلك .

هذه الجملة القصيرة تشعرنا وتفهمنا أن القرآن يهتم بالمسائل الدقيقة للغاية ، ويعكسها في عبارات مضغوطة شائقة وأخّاذة ! .

كلمة «أُمم» هي جمع «أمة» وهذا التعبير يدل على أن مع نوح طوائف من عباد الله وخلقه ، كما يدل هذا التعبير على أنّ الأفراد الذين هم مع نوح كل منهم سيكون سبباً لوجود قبيلة وأُمّة كبيرة ، أو أنّه فِعْلاً كان مع نوح أفراد من قبائل وأُمم متعددة فيشكل مجموعهم أُمماً أيضاً ..

ويرد هذا الإحتمال أيضاً ، وهو أن الأُمم التي كانت مع نوح تشمل مجموعة الحيوانات المتعددة ، لأنّ القرآن أطلق لفظ الأُمّة عليها أيضاً في مكان آخر من آياته ، فنحن نقرأ في سورة الأنعام الآية (38) (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ أُمم أمثالكم) .

فيتّضح بهذا أنّ نوحاً وأصحابه هبطوا إلى الأرض بسلام ليجدوا بركات الله وليطمئنوا بالحياة الهانئة ، كذلك الحال بالنسبة إلى الحيوانات التي كانت معهم في السفينة وهبطت إلى الأرض ، فإنّ لطف الله شملها جميعاً كذلك.

ثمّ يضيف القرآن مخاطباً نوحاً أنّه ستعقب الأُمم التي معك أُمم من نسلها ، ولكن هذه الأُمم ستغتر وتغفل عن نعم الله فتنال جزاءها من الله (وأُمم سنمتعهم ثمّ يمسّهم منّا عذاب أليم) .

[555]

فعلى هذا ليس انتخاب الأصلح من الناس أو إصلاح الناس عن طريق الطوفان هو آخر الإنتخاب وآخر الإصلاح ، بل ستبلغ مرحلة جديدة من بني آدم أيضاً يصلون بها الذروة من الرُشد والتكامل ، ولكن الناس قد يسيئون الإستفادة من حرية الإرادة ويستخدمونها في طريق الشرّ والفساد ، فينالون جزاءهم في هذه الدنيا كما ينالون العذاب في الأُخرى.

الطريف في الآية أنّها تقول (سنمتعهم) ثمّ تتحدث عن العذاب مباشرة. وفي ذلك إِشارة إِلى أن الإِستمتاع ينبغي أن يكون مدعاة للشكر والثناء على نعم الله وطاعته، ولكن غالباً ما يزيد المتنعمين طغياناً وكفراً ويقطعون العلاقة بينهم وبين الله.

وينقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية أنّ بعض المفسّرين يقول في قوله: «نمتعهم» الخ: هلك المستمتعون في الدنيا لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكرون إلاّ في الدنيا وعمارتها وملذاتها.

هذا الواقع يُرى جيداً في الدول المتنعمة والمتموّلة في هذا العالم، حيث يغوص أهلوها بالفساد فلا يفكرون في المستضعفين ـ فحسب ـ، بل نراهم يوماً بعد آخر يحاولون الكيد بهم وإِراقة دمائهم أكثر فأكثر، لذلك كثيراً ما يتفق أن ينزل الله عليهم الحروب والحوادث الأليمة التي تسلب النعم مؤقتاً لعلهم يفيقون من غفلتهم.

وفي آخر آية تختم بها قصّة نوح ـ في هذه السورة ـ إِشارة كلية عامّة إِلى ما حدث في عهد نوح فتقول: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إِليك ماكنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا).

فالخطاب هنا للنّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد عليه أن يصبر ويستقيم كما صبر واستقام نوح(عليه السلام) عندما واجه المشاكل، وهكذا تكون عاقبة الصبر النصر (فاصبر إِنّ العاقبة للمتقين).

[556]

الآية اللأخيرة تشير إِلى عدّة مسائل:

1 ـ إِنّ بيان قصص الأنبياء(عليهم السلام) ـ بالصورة الواقعية والخالية من أي نوع من أنواع التحريف الخرافة ـ ممكن عن طريق الوحي السماوي فحسب، وإلاّ فإِنّ كتب تاريخ الماضين مليئة بالأساطير والقصص الخياليّة التي بلغت درجة  لا يمكن معها معرفة الحق من الباطل، وكلما عدنا إِلى الوراء أكثر وجدنا الخلط والتزييف أكثر.

فعلى هذا، يعتبر بيان حال الانبياء الماضين والاقوام السالفة بصورة سليمة وخالية من الخرافات والخزعبلات دليلا على حقانية القرآن والاسلام والنّبي الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

2 ـ يستفاد من هذه الآية ـ خلافاً لما يتصوره البعض ـ أنّ الأنبياء كانوا يعلمون الغيب عن طريق تعليم الله وبالمقدار الذي كان يريده الله لهم، لا أنّهم يعلمون الغيب من أنفسهم، وإِذا وجدنا في بعض الآيات ما ينفي العلم الغيبي عنهم، فهو إِشارة إِلى أنّ علمهم ليس ذاتياً، بل هو من الله.

3 ـ وهذه الآية توضح حقيقة أُخرى، وهي أنّ بيان قصص الأنبياء والأقوام الماضين في القرآن ليس درساً للمسلمين فحسب، بل هو إِضافة إِلى ذلك تسلية لخاطر النّبي وطمأنة لقلبه، لأنّه بشر أيضاً، وينبغي أن يتلقى الدروس من الأديان الالهية و يتهيأ لمواجهة الطاغوت في عصره، وأن لا يكترث بهموم المشاكل في طريقه.

أي كما واجه نوح المشاكل بصبر واستقامة لسنين طوال ليهدي قومه إِلى الإِيمان، فعليك يا نبي الإِسلام أن لا تدع الصبر والإِستقامة على كل حال!

والآن نودع قصّة نوح بكل ما تحمل من عبر وأعاجيب، ونتوجه إِلى نبي عظيم آخر وهو هود الذي سُمّيت هذه السورة باسمه.

* * *

[557]

الآيات

وَإِلَى عَاد أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَقَومِ اعْبُدُواْ اللهَ مَالَكُم مِّنْ إِله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مَفْتَرُونَ(50) يَقَوْمِ لآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(51) وَيَقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ(52)

التّفسير

محطّم الأصنام الشّجاع:

كما أشرنا آنفاً، فإِنّ قصص خمسة أنبياء عظام وما واجههوه من شدائد وصعاب في دعواتهم والنتائج المترتبة عليها مبين في هذه السورة. وفي الآيات السابقة كان الكلام حول نوح(عليه السلام) وأمّا الآن فالحديث عن هود(عليه السلام).

جميع هؤلاء الأنبياء جمعهم هدف واحد ومنطق واحد، وجميعهم نهضوا لإِنقاذ البشرية من كل أنواع الأسر، ولدعوتهم إِلى التوحيد بجميع أبعاده.

وكان شعارهم جميعاً الإِيمان والإِخلاص والجد والمثابرة والإِستقامة في سبيل الله، وكان رد الفعل من أقوامهم الخشونة والارهاب والضغوط..

[558]

يقول سبحانه في الآية الأُولى من هذه القصّة.. (وإِلى عاد أخاهم هوداً)ونلاحظ في الآية أنّها وصفت هوداً بكونه «أخاهم».

وهذا التعبير جار في لغة العرب. حيث يطلقون كلمة أخ على جميع أفراد القبيلة لانتسابهم إِلى أصل واحد..

فمثلا يقولون في الأسدي «أخو أسد» وفي الرجل من قبيلة مذحج «أخو مذحج».

أو أنّ هذا التعبير يشير إِلى أنّ معاملة هود لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبيّاً، وهذه الحالة هي صفة الأنبياء جميعاً، فهم لا يعاملون الناس من منطق الزعامة والقيادة أو معاملة أب لأبنائه، بل من منطلق أنّهم إِخوة لهم..

معاملة خالية من أية شائبة واي امتياز أو استعلاء.

كان أوّل دعوة هود ـ كما هو الحال في دعوة الأنبياء جميعاً ـ توحيد الله ونفي الشرك عنه (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إِن أنتم إلاّ مفترون).

فهذه الأصنام ليست شركاءه، ولا منشأ الخير أو الشرّ، ولا يصدر منها أي عمل، وأي افتراء أعظم وأكبر من نسبتكم كل هذا المقام والتقدير لهذه الموجودات «الأصنام» التي لا قيمة لها إِطلاقاً.

ثمّ يضيف هود قائلا لقومه: لا تتصوروا أن دعوتي لكم من أجل المادة، فأنا لا أُريد منكم أي أجر (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً) فأجري وحده على من فطرني ووهبني الروح وأنا مدين له بكل شيء، فهو الخالق والرازق (إِن أجري إلاّ على الله).

وأساساً فإنّي في كل خطوة أخطوها لسعادتكم، إِنّما أفعل ذلك طاعةً لأمره، ولذلك ينبغي طلب الأجر منه وحده لا منكم، وإِضافة إِلى ذلك فهل لديكم شيء من عندكم، فكل ما هو لديكم منه سبحانه (أفلا تعقلون).

ثمّ شرع هود ببيان الأجر المادي للإيمان لغرض التشويق والإِستفادة من

[559]

جميع الوسائل الممكنة لإِيقاظ روح الحق في قومه الظالين فبيّن أن هذا الأجر المادي مشروط بالايمان فيقول: (ويا قوم استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إِليه) فإِذا فعلتم ذلك فإِنّه (يرسل السماء عليكم مدراراً)(1) لئلا تصاب مزارعكم بقلة الماء أو القحط، بل تظل خضراء مثمرة دائماً، وزيادة على ذلك فإنّ الله بسبب تقواكم وابتعادكم عن الذنوب والتوجه إِليه يرعاكم (ويزدكم قوّة إِلى قوتكم).

فلا تتصوروا أنّ الإِيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبداً، بل إنّ قواكم الجسميّة ستزداد بالإِستفادة من القوّة المعنوية .. وبهذا الدعم المهم ستقدرون على عمارة المجتمع وبناء حضارة كبيرة وأُمّة مقتدرة تتمتع باقتصاد قوي وشعب حر مستقل، فعلى هذا إيّاكم والإِبتعاد عن طريق الحق (ولا تتولوا مجرمين).

* * *

بحوث

1 ـ التوحيدُ أساس دعوة الأنبياء:

يبين تاريخ الانبياء أنّهم بدأوا دعوتهم جميعاً من التوحيد ونفي الشرك ونفي عبادة الأصنام أيّاً كانت، والواقع فإِنّ أي إِصلاح في المجتمعات الإِنسانية لا يتيسر بغير هذه الدعوة، لأنّ وحدة المجتمع والتعاون والإِيثار كلها أُمور تسترفد من منبع واحد وهو توحيد المعبود.

وأمّا الشرك فهو أساس كل فرقة وتعارض وتضاد وأنانية .. وما إِلى ذلك .. وارتباط هذه المفاهيم بالشرك وعبادة الأصنام بالمفهوم الواسع غير خاف على

____________________________

(1) «المدرار» كما وضحنا سابقاً مشتق من «درّ» وهو انصباب حليب الأثداء، ثمّ استعمل في انصباب المطر، والطريق في الآية أنّها لا تعبر بـ «ينزل المطر من السماء» بل قالت: (يرسل السماء عليكم مدراراً) بمعنى أنّ المطر يهطل إِلى درجة غزيرة حتى كأنّ السماء تهطل، وملاحظة أنّ مدراراً صيغة مبالغة أيضاً فيستفاد غاية التوكيد من هذه الجملة.

[560]

أحد!

الشخص الذي يدور حول نفسه ـ أو يجرّ النّار إلى قرصه ـ يرى نفسه فحسب، ولهذا فهو مشرك، لأنّ التوحيد يذيب «الانا» والذات الفردية في محيط إِجتماعي واسع عريض، والموحّد لا يرى شيئاً سوى واحد كبير، أي أن جميع المجتمع الإِنساني عباد الله!

والاشخاص الذين يطلبون الإِستعلاء مشركون من نوع آخر، فهم في صراع مع أبناء جلدتهم ويرون منافعهم منفصِلة عن منافع الآخرين، فهذا التجزيء أو «هذه الإِزدواجية» ليس إلاّ شركاً في أوجه مختلفة.

من هنا بدأ الأنبياء في سبيل اصلاح المجتمع بالدعوة الى توحيد المعبود «الله»، ثمّ توحيد الكلمة، وتوحيد العمل، وتوحيد المجتمع.

2 ـ قادة الحق لا يطلبون أجراً من أتباعهم.

إِنّ الزعيم الواقعي يمكنه أن يكون في مأمن من أي اتهام ويواصل طريقه في غاية الحرية في صورة ما لو لم تكن له حاجة مادّية، فبذلك يستطيع أن يصحح كل انحراف في أتباعه، وإلاّ فإِنّ الحاجة الماديّة بالنسبة لهذا المصلح ستكون غلاَّ تصفَّدُ به يداه ورجلاه وقفلا على لسانه وفكره.

ومن هذا الطريق .. طريق الحاجة الماديّة يدخل المنحرفون لممارسة ضغوطهم عليه عن طريق قطع المساعدات المادية أو عن طريق الإِغراء بزيادة المساعدات، ومهما يكن الزعيم والقائد نقياً صافياً ومخلصاً فهو انسان ـ أيضاً ـ ومن الممكن أن تزل قدماه ولهذا السبب نقرأ في الآيات الآنفة ـ وآيات أُخرى من القرآن ـ أنّ الأنبياء يعلنون بصراحة في بداية دعوتهم أنّه ليست لهم حاجة مادية ولا ينتظرون من أتباعهم الأجر.

وهذا دستور لجميع القادة ولا سيما القادة الروحانيين ورجال الدين، غاية ما

[561]

في الأمر لما كان هؤلاء المصلحون ورجال الدين يقضون أوقاتهم في خدمة الإِسلام والمسلمين، فينبغي أن تؤمن حاجاتهم المادية بطريق صحيح، وأن يقوم صندوق الإِعانة وبيت مال المسلمين بتكَفّل هذه الجماعة، فإِنّ واحداً من أغراض إِنشاء بيت المال في الاسلام هو هذا الغرض، أي ليصرف على رجال الدين المنشغلين بالإِصلاح والتبليغ.

3 ـ الذنب وهلاك المجتمعات

كما نرى أيضاً ـ في الآيات المتقدمة ـ أنّ القرآن يقيم رابطة بين المسائل المعنوية والماديّة، فيعدّ الإِستغفار من الذنب والتوبة إِلى الله أساس العمران والخصب والخضرة والنضرة وزيادة في القوة والاقتدار.

هذه الحقيقة نلمسها في كثير من آيات القرآن الكريم، من هذه الآيات ما ورد في سورة نوح على لسان هذا النّبي العظيم لقومه، حيث تقول الآيات (فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)(1).

الطريف هنا أنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الربيع بن صبيح: قال: كنت عند الحسن بن علي(عليهما السلام) فجاءه رجل وشكا له من الجدب والقحط، فقال له الحسن(عليه السلام): استغفر اللّه، فجاءه آخر فشكا له من الفقر، فقال: استغفر اللّه، فجاءه ثالث وقال له: ادع لي أن يرزقني اللّه ولداً، فقال الحسن(عليه السلام): استغفر اللّه، يقول الربيع بن صبيح: فتعجبت وقلت له: ما من أحد يأتيك ويشكو إليك أمره ويطلب النعمة إلاّ أمرته بالإستغفار والتوبة إلى اللّه..

فأجابه: «إنّ ما قلته لم يكن من نفسي، وإنّما استفدت ذلك من كلام اللّه الذي يحكيه

____________________________

(1) سورة نوح، الآيات 9 ـ 12.

[562]

عن لسان نبيّه نوح»، ثمّ تلا الآيات المتقدمة.(1)

بعض الاشخاص أعتادوا على المرور بهذه المسائل مرور الكرام بأن يقيمون ارتباطاً معنوياً وعلاقة «غير معروفة» بين هذه الأُمور ويُريحون أنفسهم من كل تحليل. ولكن إِذا دققنا النظر أكثر نجد بين هذه الأُمور علائق متقاربة تشد المسائل المادية بالمعنوية في المجتمع كالخيط الذي يربط بين قطع القماش مثلا.

فأيّ مجتمع يكون ملوّثاً بالذنب والخيانة والنفاق والسرقة والظلم والكسل وأمثال ذلك، ثمّ يكون هذا المجتمع عامراً كثير البركات!؟

وأي مجتمع ينزع عنه روح التعاون ويلجأ إِلى الحرب والنزاع وسفك الدماء، ثمّ تكون أرضه خصبة خضراء، ويكون مرفهاً في وضعه الاقتصادي أيضاً؟!

وأي مجتمع يغرق أفراده في دوامة الهوى والميول النفسيّة، ثمّ في الوقت ذاته يكون قويّاً راسخ القدم ويثبت أمام عدوّه؟!

ينبغي القول بصراحة أنّه ما من مسألة أخلاقية إلاّ ولها أثر مفيد ونافع في حياة الناس المادّية، ولا يوجد اعتقاد وإِيمان صحيح إلاّ وكان لهما نصيب في بناء مجتمع عامر حرّ مستقلّ وقوي..

الافراد الذين يفصلون المسائل الأخلاقية والإِيمان بالدين والتوحيد عن المسائل الماديّة لا يعرفون المسائل المعنوية حقّاً ولا المسائل الماديّة.

وإِذا كان الدين عبارة عن سلسلة من التشريعات والآداب الظاهرية والخالية من المحتوى بين الناس، فمن البديهي أن لا يكون له تأثير في النظام المادي.

ولكن حين تكون الإِعتقادات المعنوية والروحانيّة نافذة في روح الإِنسان إِلى درجة تظهر آثارها على يده ورجله ولسانه وأذنه وعينه وجميع ذرات وجوده، فإِنّ الآثار البنّاءة لهذه الإِعتقادات في المجتمع لا تخفى على أحد.

وقد لا نستطيع إِدراك علاقة الإِستغفار بنزول البركات المادية جيداً، ولكن

____________________________

(1) مجمع البيان، ج1، ص361.

[563]

دون شك فإِنّ قسماً كبيراً منها يمكن أن ندركه!

لقد شاهدنا في مواجهات المسلمين الثائرين مع الكفار في هذا العصر والزمن ـ جيداً ـ أنّ الإِعتقادات الإِسلامية والقوى الأخلاقية والمعنوية استطاعت أن تنتصر على أحدث الأسلحة المعاصرة وأقوى الجيوش والقدرات الإِستعمارية، وإِن دلّ ذلك على شيء فإِنّما يدل على أثر العقائد الدينية الإِيجابية والمعنوية إِلى أقصى حدّ في المسائل الإِجتماعيّه والسياسيّة.

4 ـ ما المراد من قوله تعالى: (ويزدكم قوةً إلى قوتكم).

إِنّ الظاهر من هذه الآية أنّ الله سبحانه يزيدكم من خلال الإِستغفار قوةً بالإِضافة إِلى قوتكم، يشير بعض المفسّرين إِليه أنّ المراد من هذه القوّة هي القوّة الإِنسَانيّة كما مرّ ذلك في سورة نوح: (ويمددكم بأموال وبنين) ومنهم من قال: إِنّها القوى المادية تضاف إِلى القوّة المعنويّة. ولكنّ تعبير الآية مطلق وهو يشمل أي زيادة في القوى المادية والمعنويّة، ولا يعارض أيّاً من التفاسير، بل يحتضنها جميعاً..

* * *

[564]

الآيات

قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَة وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى أَلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(53) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعضُ أَلِهَتِنَا بِسُوء قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ ممّا تُشْرِكُونَ(54)مِن دُونِهِ فَكِيدُونىِ جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ(55)إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّة إِلاَّ هُوَ ءَاخِذُ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم(56) فَإِن تَوَلَّواْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْء حَفِيظٌ(57)

التّفسير

قوّة المنطق:

والآن لننظر ماذا كان ردّ فعل القوم المعاندين والمغرورين ـ قوم عاد ـ مقابل نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إِليهم: (قالوا يا هودُ ما جئتنا ببيّنة) أي لم تأتِنا بدليل مقنع لنا (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) الذي تدعونا به إِلى عبادة الله

[565]

وترك الأوثان (وما نحن لك بمؤمنين).

وأضافوا إلى هذه الجمل الثّلاث غير المنطقية، أنّك يا هودُ مجنون و(إِن نقول إلاّ اعتراك بعض الهتنا بسوء) ولا شكّ أنّ هوداً ـ كأي نبي من الأنبياء ـ أدّى دوره ووظيفته وأظهر المعجز أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته، ولكنّهم لغرورهم ـ مثل سائر الأقوام ـ أنكروا معاجره وعدوّها سحراً وعبارة عن سلسلة من المصادفات والحوادث الإِتفاقية التي لايمكن أن تكون دليلا على المطلوب.

وأساساً، فإِنّ نفي عبادة الأوثان لا يحتاج إِلى دليل، ومن يكن له أقل شعور وعقل ـ ويترك المخاصمة ـ يدرك هذا الأمر جيداً، ولو فرضنا أنّ ذلك يحتاج إِلى دليل، فهل يحتاج إِلى معجزة بعد الدلائل العقلية والمنطقية ..؟!

وبتعبير آخر فإِنّ ما جاء في دعوة هود ـ في الآيات المتقدمة ـ هو الدعوة إِلى الله الواحد الأحد، والتوبة إِليه والإِستغفار من الذنوب، ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان، كل هذه المسائل يمكن اثباتها بالدليل العقلي.

فعلى هذا، إِنّ كان المقصود من قولهم: (ما جئتنا ببيّنة) هو نفي الدليل العقلي، فكلامهم هذا غير صحيح قطعاً. وإِذا كان المقصود هو نفي المعجزة، فإِنّ هذا الإدعاء لايحتاج إِلى معجزة. وعلى كل حال فإِنّ قولهم: (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) دليل على لجاجتهم، لأنّ الإِنسان العاقل والباحث عن الحقيقة يتقبل الكلام الحق من أيّ كان.

وخصوصاً هذه الجملة (إِنّ نقولُ إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء) فإِنّهم يتهمونه بالجنون على أثر غضب آلهتهم! فإِنّ هذا الكلام منهم دليل على خرافة منطقهم، وخرافة عبادة الأصنام!

فالحجارة والأخشاب التي ليس فيها روح ولا شعور والتي تحتاج إِلى حماية من الانسان نفسه، كيف تستطيع أن تسلب العقل والشعور من الإِنسان العاقل؟!

أضف إِلى ذلك، ما دليلهم على جنون هود إلاّ أنّه كسر طوق «السنة المتبعة

[566]

عندهم» وكان معارضاً للسنن والآداب الخرافية في محيطه، فإِذا كان هذا هو الجنون فينبغي أن نعدّ جميع المصلحين والثائرين على الأساليب الخاطئة مجانين.

وليس هذا جديداً، فالتاريخ السالف والمعاصر مليءٌ بنسبة الجنون إِلى الاشخاص الثائرين على الخرافات والعادات السيئة والمواجهين للإِستعمار، والنافضين أثواب الأسر.

على كل حال، فإِنّ على هود أن يردّ على هؤلاء الضالّين اللجوجين رداً مقروناً بالمنطق، من منطلق القوّة أيضاً .. يقول القرآن في جواب هود لهم (قال إِنّي أشهد الله واشهدوا أنّي بريءٌ ممّا تشركون).

يشير بذلك إِلى أنّ الأصنام إِذا كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي لمحاربتي لها علناً فعلام تسكت هذه الأصنام؟ وماذا تنتظر بي؟

ثمّ يضيف أنّه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شيء، فأنتم مع هذا العدد الهائل لا تقدرون على شيء، فإِذا كنتم قادرين (فكيدوني جميعاً ثمّ لا تُنظرون).

فأنا لا تردعني كثرتكم ولا أعدها شيئاً، ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبداً، وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات، إلاّ أنني واثق بقدرة فوق كل القدرات، و (أِنّي توكلت على الله ربّي وربّكم).

وهذا دليل على أنّني لا أقول إلاّ الحق والصدق، وأن قلبي مرتبط بعالم آخر، فلو فكرتم جيداً لكان هذا وحده معجزاً حيث ينهض إِنسان مفرد وحيد بوجه الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب، لكنّه في الوقت ذاته لا يشعر في نفسه بالخوف منهم، ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه! ثمّ يضيف: لستم وحدكم في قبضة الله، فإِنّه (ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها)، فما لم يأذن به الله، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً.

ولكن اعلموا أيضاً أنّ ربّي القدير ليس كالاشخاص المقتدرين الذين يستخدمون قدرتهم للهوي واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق، بل هو الله

[567]

الذي لا يفعل إلاّ الحكمة والعدل (إِنّ ربّي على صراط مستقيم).

* * *

ملاحظتان

الأُولى: إِنّ «الناصية» في اللغة معناها الشعر المسترسل على الجبهة، وهي مشتقة من «نصا» ومعناها الإِتصال والإِرتباط، وأخذ بناصية فلان «كناية عن القهر والتسلط عليه» فما ورد في الجملة السابقة من الآية من قول الحق سبحانه: (مامن دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها) إِشاره إِلى قدرته القاهرة على جميع الأشياء بحيث لا شيء في الوجود له طاقة المقاومة قبال هذه القدرة، لأنّ من أحكم الإِمساك على شعر مقدم الرأس من الإِنسان أو أي حيوان آخر، فإِنّه يُسلب منه القدرة على المقاومة عادة.

والغرض من هذه العبارة أنّ المستكبرين المغترين وعبدة الأوثان والظالمين الباحثين عن السلطة لايتصوروا أنّه إذا أخلي لهم الميدان لعدّة أيّام فذلك دليل على قدرتهم على المقاومة أمام قدرة الله، فعليهم أن يلتفتوا إِلى هذه الحقيقة وأن ينزلوا من مركب غرورهم.

الثّانية: إِنّ جملة (ربّي على صراط مستقيم) من أروع التعابير في الحكاية عن قدرة الله المقترنة بعدله، لأنّ المقتدرين في الغالب ظالمون ومتجاوزون للحدود، ولكن الله سبحانه مع قدرته التي لا نهاية لهم فهو دائماً على صراط مستقيم، وجادة صافية ونظم وحساب ودقة!.

كما ينبغي الانتباه الى هذه المسأله الدقيقة، وهي أنّ كلام هود(عليه السلام) للمشركين كان يبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ الأعداء مهما لجوا في عنادهم وزادوا من لجاجتهم فإِنّ القائد الحق ينبغي أن يزيد من استقامته! فكما أن قوم هود خوّفوه بشدّة من آلهتهم و «أوثانهم»، فإِنّ هوداً في المقابل أنذرهم بنحو أشدّ من قدرة الله

[568]

القاهرة!

ثمّ أنّ هود قال لقومه في آخر كلامه معهم كما تحكيه الآية (فإِنّ تولّوا فقد بلغتكم ما أُرسلت به إِليكم).

إِشارة إِلى أن لايتصوروا أنّ هوداً سيتراجع إِن لم يستجيبوا لدعوته، فإِنّه أدى واجبه ووظيفته، وأداء الواجب انتصار بحدّ ذاته حتى لو لم تقبل دعوته، وهذا درس لجميع القادة الحقيقيين وأئمة طريق الحق ألاّ يحسّوا أبداً بالتعب والقلق من أعمالهم، وإِن لم يقبل الناس دعوتهم.

وكما هدد القوم هوداً، فإنّه هددهم بأشد من تهديدهم، وقال: إِن لم تستجيبوا لدعوتي فإِنّ الله سيبيدكم في القريب العاجل (ويستخلف ربّي قوماً غيركم).

هذه سنة الله في خلقه وقانونه العام، إِنّه متى كان قوم غير لائقين لاستجابة الدّعوة والهدايه والنعم الأُخرى التي أنعمها عليهم فإِنّه سيبعدهم ويستخلف قوماً لائقين بمكانهم (إِنّ ربّي على كل شيء حفيظ).

فلا تفوته الفرصة، ولا يهمل أنبياءه ومحبيه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من حساب الآخرين بل هو عالم بكل شيء وقادر على كل شيء.

* * *

[569]

الآيات

وَلَمَّا جَآِ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَاب غَلِيظ(58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِأَيَتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّار عَنِيد(59) وَأُتْبِعُواْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَومَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَاد قَوْمِ هُود(60)

التّفسير

اللعن الأبدي على القوم الظّالمين:

في آخر الآيات التي تتحدث عن قصّة قوم عاد ونبيّهم هود إِشارة إِلى العقاب الأليم للمعاندين، فتقول الآيات: (ولما جاء أمرنا نجّينا هوداً والذين آمنوا معه)وتوكّد أيضاً نجاة المؤمنين (ونجّيناهم من عذاب غليظ).

الطريف هنا أنّ الآيات قبل أن تذكر عقاب الظلمة والكافرين ومجازاتهم، بيّنت نجاة المؤمنين وخلاصهم، لئلا يُتصور أنّ العذاب الإِلهي إِذا نزل يحرق الأخضر واليابس معاً لأنّ الله عادل وحكيم وحاشاه أن يعذب ولو رجلاً مؤمناً بين جماعة كفرة يستحقون العذاب والعقاب.

لكن رحمة الله تنقل هؤلاء الأشخاص قبل نزول العذاب إِلى محل آمن كما

[570]

رأينا من قبل في قصّة نوح أنّه قبل شروع الطوفان كانت سفينة النجاة قد أُعدّت للمؤمنين، وقبل أن ينزل العذاب على قوم لوط ويدمر مدنهم خرج لوط وعدد معدود من أصحابه من المدينة ليلا بأمر الله.

وفي قوله تعالى: (نجّينا) وتكرار هذه الكلمة في الآية مرّتين أقوال مختلفة للمفسّرين، فـ «نجينا» الأولى تعني خلاصهم من عذاب الدنيا و «نجّينا» الثّانية تعني نجاتهم في المرحلة المقبلة من عذاب الآخرة، وينسجم هذا التعبير مع وصف العذاب بالغلظة أيضاً.

ويشير بعض المفسرين إِلى مسألة لطيفة هنا، وهي أنّ الكلام لما كان على رحمة الله فمن غير المناسب أن تتكرر كلمة العذاب مباشرة، فأين الرحمة من العذاب؟ لذلك تكررت كلمة «نجينا» لتفصل بين الرحمة والعذاب دون أن ينقص شيء من التأكيد على العذاب.

كما ينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة الدقيقة أيضاً، وهي أنّ آيات القرآن وصفت العذاب بالغليظ في أربعة موارد(1).

وبملاحظة تلك الآية بدقّة نستنتج أنّ العذاب الغليظ مرتبط بالدار الآخرى، وخصوصاً الآيات التي جاءت في سورة ابراهيم وذكر فيها العذاب الغليظ، فإنّها تصف بصراحة حال أهل جهنّم وأهوالها، وهكذا أن يكون، وذلك لأنّ عذاب الدنيا مهما كان شديداً فإنّه أخفّ من عذاب الآخرة!

وهناك تناسب ينبغي ملاحظته أيضاً، وهو أن قوم عاد ـ كما سيأتي بيان حالهم إن شاء الله ـ ورد ذكرهم في سورة القمر. والحاقة، وكانوا قوماً ذوي أبدان طوال خشنين، فشبّهت أجسامهم بالنخل، ولهذا السبب كانت لديهم عمارات عالية عظيمة، بحيث نقراً في تاريخ ما قبل الإِسلام أن العرب كانوا يَنسبون البناءات الضخمة والعالية إِلى عاد ويقولون مثلا: «هذا البناء عاديٌ» لذلك كان عذابهم

____________________________

(1) وهي في السور التالية: 1 ـ ابراهيم، الآية 7; 2 ـ لقمان، الآية 34; 3 ـ فصلت، الآية 50; 4 ـ هود، الآية 56.

[571]

مناسباً لهم لا في العالم الآخر بل في هذه الدنيا كان عذابهم خشناً وعقابهم صارماً، كما مرّ في تفسير السور الآنفة الذكر.

ثمّ تلخّص الآيات ذنوب قوم عاد في ثلاثة مواضيع:

الأوّل : بإِنكارهم لآيات الله وعنادهم أيضاً لم يتركوا دليلا واضحاً وسنداً بيّناً على صدق نبوة نبيّهم إلاّ جحدوه (وتلك عاد جحدوا بآيات ربّهم).

والثّاني: إِنّهم من الناحية العملية لم يتّبعوا أنبياء الله (وعصوا رسله) وإِنّما جاءت الرسل بصيغة الجمع، إِمّا لأن جميع دعوات الأنبياء هي نحو حقيقة واحدة وهي «التوحيد: وفروعه» فإِنكار دعوة نبي واحد يُعدّ إِنكاراً لجميع الأنبياء، أو أن هوداً دعاهم للإِيمان بنبوة الأنبياء السابقين أيضاً،؟ وكانوا ينكرون ذلك.

والثّالث من الذنوب: إِنهم تركوا طاعة الله ومالوا لكل جبار عنيد (واتبعوا كل جبار عنيد).

فأيّ ذنب أعظم من هذه الذنوب: ترك الإِيمان، ومخالفة الأنبياء، والخضوع لطاعة كل جبار عنيد.

و«الجبار» يطلق على من يضرب ويقتل ويدمر من منطلق الغضب ولا يتبع أمر العقل، وبتعبير آخر هو من يُجبر سواه على أتباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء العظمة والتكبر الظاهري.

و «العنيد» هو من يخالف الحق والحقيقة أكثر ممّا ينبغي، ولا يرضخ للحق أبداً.

هاتان الصفتان تتجلّيان في الطواغيت والمستكبرين في كل عصر وزمان، الذين لا يستمعون لكلام الحق أبداً ويعمدون الى من يخالفهم بانزال أشد انواع العقاب به بلا رحمة.

هنا يَرِدُ سؤال: إِذا كان الجبار يعطي هذا المعنى فلماذا ذُكرت هذه الصفة لله، كما في سورة الحشر الآية (23) وسائر المصادر الإِسلامية.

والجواب هو أنّ «الجبار» ـ كما أشرنا آنفاً ـ مشتق إمّا من «الجبر» بمعنى القوّة

[572]

والقهر والغلبة، أومن مادة «الجبران» ومعناه: إِزالة النقص من شيء.

ولكن «الجبار» سواء كان بالمعني الأوّل أو الثّاني فهو يستعمل بشكليه، وقد يراد به الذم إِذا حاول الإِنسان تجاوز النقص الذي فيه باستعلائه على الغير وتكبره وبالإِدعاءات الخاطئة، أو أنّه يحاول أن يجبر غيره على أن يكون تحت طاعته ورغبته، فيكون الأخير ذليلا لأمره.

هذا المعنى ورد في كثير من آيات القرآن الكريم، وأحياناً تقترن معه صفات ذميمة أُخرى، كالآية المتقدمة التي اقترنت مع كلمة «عنيد» وفي الآية (32) من سورة مريم نقرأ على لسان عيسى بن مريم رسول الله (ولم يجعلني جباراً شقياً)كما نقرأ على لسان بني إِسرائيل في خطابهم لموسى(عليه السلام) في من سكن بيت المقدس من الظالمين حيث ورد في الآية (22) من سورة المائدة (قالوا إِن فيها قوماً جبارين).

ولكن قد تأتي كلمة «الجبار» من هذين الجذرين «الجبر» و«الجبران» وهي بمعنى المدح، وتطلق على من يسدّ حاجات الناس ويرفع نقصانهم ويربط العظام المتكسرة، أو أن تكون له قدرة وافرة بحيث يكون الغير خاضعاً لقدرته، دون أن يظلم أحداً أو يستغل قدرته ليسيء الإِستفادة منها، ولذلك حين تكون كلمة الجبار بهذا المعنى فقد تقترن بصفات مدح أُخرى، كما نقرأ في سورة الحشر الآية (23) (الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) وواضح أن صفات كالقدوس والسلام والمؤمن لا تنسجم مع «الجبار» بمعنى الظالم أو «المتكبر» بمعنى من يرى نفسه أكبر من غيره، وهذا التعبير يدل على أنّ المراد هنا من «الجبار» هو المعنى الثّاني.

ولكن حيث أنّ البعض فسّروا «الجبار» ببعض معانيه دون الإلتفات إلى معانيه المتعددة في اللغة، تصوّروا أنّ استعمال هذا اللفظ غير صحيح في شأن الله، وكذلك في ما يخصّ لفظ «المتكبر» ولكن بالرجوع إلى جذورهما اللغوية الأصيلة يرتفع

[573]

الإشكال(1).

وفي الآية الأخيرة التي تنتهي بها قصّة «هود» و قومه «عاد» بيان لنتيجة أعمالهم السيئة والباطلة حيث تقول الآية : (واتبعوا في هذه الدنيا لعنة) وبعد الموت لايبقى إلاّ خزيهم والصيت السيء (ويوم القيامة) يقال لهم (ألا إن عاداً كفروا ربّهم ألا بعداً لعاد قوم هود) .

وكان يكفي تعريف هذه الجماعة بلفظ «عاد» ولكن بعد ذكر عاد جاء لفظ «قوم هود» أيضاً لتوكّد عليهم أوّلا ، ولتشير الى أنّهم القوم الذين آذوا نبيهم الناصح لهم ثانياً ، ولذلك فقد أبعدهم الله عن رحمته .

* * *

بحثان

1 ـ قوم عاد من منظار التاريخ

بالرغم من أنّ بعض المؤرّخين الغربيين كــ «أسبرينكل» أرادوا أن ينكروا قصّة «عاد» من الناحية التاريخية ، وربّما كان ذلك بسبب عدم توفر ذكر لهم في غير الآثار الإسلامية، ولم يجدوها في كتب العهد القديم «التوراة» ولكن هناك وثائق ـ تشير إلى قصّة عاد ـ مشهورة إجمالا بين العرب في زمن الجاهلية ، وقد ذكرهم شعراء العرب قبل الإسلام ، وحتى في العصر الجاهلي كانوا يطلقون لفظ «العاديّ» على البناء العالي والقوي نسبة إلى عاد .

ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ لفظ «عاد» يُطلق على قبيلتين:

احداهما : قبيلة كانت تقطن الحجاز قبل التاريخ ثمّ زالت وزالت آثارها أيضاً ،

____________________________

(1) يراجع في هذا الصدد تاج العروس للزبيدي والمفردات للراغب مادة (جبر) و (كبر) ومجمع البيان وتفسير البيان ذيل الآية محل البحث وآيات سورة الحشر الأخيرة .

[574]

ولم ينقل التاريخ البشري عنها إلاّ أساطير لا يُطمأنّ إلى صحتها . والتعبير الوارد في القرآن «عاداً الأُولى» إشارة إلى هذه القبيلة .

ولكن في زمن التاريخ ـ ومن المحتمل أن يكون في حدود 700 سنة قبل ميلاد المسيح ـ وُجد قوم آخرون باسم «عاد» قطنوا الأحقاف أو اليمن أيضاً . وكان أُولئك طوالا جساماً أقوياء مقتدرين، ولذلك كانوا يعدون من مثيري الحروب .

كما أنّهم كانوا من الناحية الحضارية متمدنين ، إذ كانت لهم مدن عامرة وأراضي خصبة خضراء وغابات نضرة ، كما وصفوا في القرآن (... التي لم يخلق مثلها في البلاد) .

ولذلك يقول بعض المؤرّخين «المستشرقين» : إنّ «عاداً» كانت تقطن في حدود «برهوت» إحدى نواحي حضر موت اليمن، وعلى أثر البراكين وجبال النّار التي حولها دمرت الكثير من قراهم ومدنهم وتفرقت بقاياهم .

على كل حال فإنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في نعم وترف ، ولكن كما هي طريقة أغلب المتنعمين الغافلين والسكارى من أثر النعمة استغلّوا قدرتهم لظلم الآخرين واستثمارهم واستعمارهم .. واتبعوا أمر كل جبار عنيد ، وأقروا عبادة الأوثان .

وحين دعاهم نبيّهم هود(عليه السلام) بكلّ ما أوتي من جهد وجدّ ليضيء أفكارهم بنصحه ومواعظه ، ويتمّ الحجّة عليهم ، لم يكتفوا باهمال هذه الدعوة فحسب ، بل نهضوا لإسكات هذا الصوت النيّر لهذا النّبي العظيم فمرّة نسبوه إلى السفاهة والجنون ، ومرّة هددوه بغضب آلهتهم ، ولكنّه وقف صامداً أمامهم كالجبل لا يخشى غضب هؤلاء القوم المغرورين الأقوياء ، حتى استطاع أن يكتسب منهم جماعة تقدّر بأربعة آلاف وطهّر قلوبهم ودعاهم إلى منهاجه وعقيدته ، لكن بقي الآخرون مصرّين على عنادهم ولجاجتهم .

[575]

وأخيراً ـ كما سيأتي في سورة الذاريات والحاقة والقمر ـ غمرهم إعصار شديد لمدّة سبعة ليال وستة أيّام جسوماً فأتى على قصورهم فدمّرها وعلى أجسادهم فجعلها كأوراق الخريف وفرقها تفريقاً ، ولكن هود كان قد أبعد المؤمنين عن هؤلاء ونجّاهم من العذاب ، وأصبحت حياة أُولئك القوم ومصيرهم درساً كبيراً وعبرة لكل الجبابرة والأنانيين(1) .

2 ـ اللعن الدائم الأبدي على «عاد» :

هذا التعبير وما شابهه ورد في آيات متعددة من القرآن الكريم في شأن أُمم مختلفة ، حيث يقول الله سبحانه بعد ذكر أحوالهم ، كما في سورة هود الآية 68 : (ألا بعداً لثمود) وفي آية أُخرى (89) هود (الا بعداً لمدين كما بعدت ثمود) وفي سورة المؤمنون، الآية (41)(فبعداً للقوم الظالمين) وفي آية أُخرى (44) المؤمنون(فبعداً لقوم لا يؤمنون) وكما قرأنا في قصّة نوح من قبل في هود  الآية (44) (وقيل بعداً للقوم الظالمين).

ففي جميع هذه الآيات جاء اللعن شعاراً لمن أذنبوا ذنباً عظيماً ، ويدور هذا اللعن مدار بعدهم عن رحمة الله .

وغالباً ما يطلق اليوم مثل هذا الشعار على المستعمرين والمستكبرين والظالمين ، غاية ما في الأمر أن هذا الشعار القرآني آخّاذ وطريف إلى درجة أنّه غير ناظر إلى بعد واحد فحسب . لأنّنا حين نقول مثلاً : (بعداً للقوم الظالمين)فإنّ هذا التعبير يشمل الإبتعاد عن رحمة الله ، والإبتعاد عن السعادة ، وعن كل خير وبركة ونعمة ، وعن كونهم عباداً لله ، طبعاً ابتعادهم عن الخير والسعادة هو انعكاس

____________________________

(1) راجع تفسير الميزان ، تفسير مجمع البيان ، وكتاب أعلام القرآن .

[576]

لإبتعادهم في نفوسهم وأرواحهم ومحيط عملهم عن الله وخلق الله ، لأنّ كل فكرة وعمل له أثر في الدار الآخرة يشابه ذلك العمل تماماً ولذلك فإنّ ابتعادهم هذا في هذه الدنيا أساس ابتعادهم في الآخرة عن رحمة الله وعفوه ومواهبه السنيّة(1) .

* * *

____________________________

(1) إنّ كلمة «بُعداً» من الناحية النحوية مفعول مطلق للجملة المقدّرة (المحذوفة) «أبعدهم الله» وعلى القاعدة ينبغي أن يكون هذا المفعول المطلق للجملة المقدرة (إبعاداً ، لا بُعداً) لأنّه مصدر «أبعد» لكن قد يأتي المصدر الثّلاثي مكان الرباعي كما في قوله تعالى : (والله أنبتكم من الأرض نباتاً) .

[577]

الآية

وَإِلَى ثَمُودَ اَخَاهُم صَلِحاً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَه غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْةِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61)

التّفسير

قصّة ثمود :

انتهت قصّة «عاد قوم هود» بجميع دروسها بشكل مضغوط ، وجاء الدور الآن لثمود «قوم صالح» وهم الذين عاشوا في وادي القرى بين المدينة والشام ، حسب ما تنقله التواريخ عنهم .

ونرى هنا أيضاً أنّ القرآن حين يتحدث عن نبيهم «صالح» يذكره على أنّه أخوهم ، وأي تعبير أروع وأجمل منه حيث بيّنا قسماً من محتواه في الآيات المتقدمة ، أخ محترق القلب ودود مشفق ليس له هدف إلاّ الخير لجماعته (وإلى ثمود أخاهم صالحاً) .

ونجد أيضاً أنّ منهج الأنبياء جميعاً يبدأ بمنهج التوحيد ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان التي هي أساس جميع المتاعب (قال يا قوم اعبدوا الله ما

[578]

لكم من إله غيره) .

ولكي يحرك إحساسهم بمعرفة الحق أشار إلى عدد من نعم الله المهمّة التي استوعبت جميع وجودهم فقال : (هو انشأكم من الأرض) .

فأين هذه الأرض والتراب الذي لا قيمة له ، وأين هذا الوجود العالي والخلقة البديعة ؟ ترى هل يجيز العقل أن يترك الإنسان خالقه العظيم الذي لديه هذه القدرة العظيمة وهو واهب هذه النعم ، ثمّ يمضي إلى عبادة الأوثان التي تثير السخرية .

ثمّ يُذكّر هؤلاء المعاندين بعد أن أشار إلى نعمة الخلقة بنعم أُخرى موجودة في الأرض حيث قال : (واستعمركم فيها) .

وأصل «الإستعمار» و «الإعمار» في اللغة يعني تفويض عمارة الأرض لأي كان، وطبيعي أنّ لازم ذلك يجعل الوسائل والأسباب في اختيار من يفوّض إليه ذلك تحت تصرفه!

هذا ما قاله أرباب اللغة ، كالراغب في المفردات ، وكثير من المفسّرين في تفسير الآية المتقدمة .

ويَرِدُ احتمال آخر ، وهو أنّ الله منحكم عمراً طويلاً في هذه الأرض ، وبديهي أنّ المعنى الأوّل وبملاحظة مصادر اللغة هو الأقرب والأصح كما يبدو .

وعلى كل حال فهذا الموضوع يصدق بمعنييه في ثمود ، حيث كانت لديهم أراض خصبة وخضراء ومزارع كثيرة الخيرات والبركات ، وكانوا يبذلون في الزراعة ابتكارات وقدرات واسعة ، وإلى ذلك كله كانت أعمارهم مديدة وأجسامهم قويّة وكانوا متطورين في بناء المساكن والبيوت ، كما يقول القرآن الكريم : (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين)(1).

الطريف هنا أنّ القرآن لم يقل : إنّ الله عمر الأرض وجعلها تحت تصرفكم،

____________________________

(1) سورة الحجر، 82.

[579]

وإنّما قال : وفوّض إليكم إعمار الأرض (واستعمركم فيها) وهي إشارة إلى أنّ الوسائل معدّة فيها لكل شيء وعليكم إعمارها بالعمل والسعي المتواصل والسيطرة على مصادر الخيرات فيها . وبدون ذلك لا حظّ لكم في الحياة الكريمة.

كما يستفاد ضمناً أنّه ينبغي من أجل الإعمار أن يعطي المجال لأُمّة معينة في العمل، وتجعل الأسباب والوسائل اللازمة تحت تصرفها وفي اختيارها .

فإذا كان الأمر كذلك (فاستغفروه ثمّ توبوا إليه إن ربّي قريب مجيب) لدعواتكم.

الإستعمار في القرآن وفي عصرنا الحاضر:

لاحظنا في الآيات المتقدمة أنّ نبي الله «صالحاً» من أجل هداية وتربية قومه الضالين «ثمود» ذكرهم بعظيم خلق الله لهم من التراب .. وتفويض إعمار الأرض إليهم إذ قال : (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ...) .

لكن هذه الكلمة مع جمالها الخاص وجذابيتها التي تعني العمران وتفويض الإختيارات وإعداد الوسائل اللازمة وتهيأتها ، تبدّلت هذه الكلمة في عصرنا إلى درجة أنّها مُسخت وأصبحت تعطي معنىً معاكساً لمفهوم القرآن تماماً .

وليست كلمة الإستعمار وحدها انتهت إلى هذا المصير المشؤوم ، فهناك كلمات كثيرة في العربية وفي لغات أُخرى مسخت وحُرّفت وتبدّلت وانقلبت رأساً على عقب ، مثل كلمات «الحضارة» و«الثقافة» و «الحرية» وفي ظلال هذه التحريفات تأخذ هذه الكلمات وأمثالها طريقها إلى التغرّب والبعد عن معناها ، وتتحول لعبادة المادة وأسر الناس وإنكار الحقائق والتوغل في كل أنواع الفساد وما إلى ذلك .

وعلى كل حال ، فإنّ معنى «الإستعمار» في عصرنا ومفهومه الواقعي هو «استيلاء الدول العظمى السياسية والصناعية على الأمم المستضعفة قليلة القدرة ، بحيث تكون نتيجة هذا «الإستيلاء» وهذه «الغارة» امتصاص دمائهم وسلب

[580]

خيراتهم ومصادرة حياتهم .

هذا الإستعمار الذي له أوجه شؤم مختلفة ، يتجسم مرّة بشكل «ثقافي» وأُخرى بوجه «فكري» وثالثة بوجه «إقتصادي» ورابعة بوجه «سياسي» وقد يبدو بوجه «عسكري» أيضاً ، وهو الذي بدل دنيانا وجعلها سوداء مظلمة ، فالأقلية في هذه الدنيا لديهم كل شيء ، والأكثرية العظمى فاقدة لكل شيء هذا الإستعمار هو السبب في الحروب والدمار والإنحرافات والفساد والتسابق التسليحي الذي يقصم الظهر .

القرآن استعمل لهذا المفهوم مفردة «الإستضعاف» التي تنطبق تماماً على هذا المعنى أي «جعل الشيء ضعيفاً» بالمعنى الواسع والشامل للكلمة ، جعل الفكر ضعيفاً ، وجعل الإقتصاد ضعيفاً ، وجعل السياسة ضعيفة .. الخ ..

وقد اتسع مجال الإستعمار إلى درجة بحيث أصبحت كلمة الإستعمار «إستعمارية» أيضاً ، وذلك لأنّ مفهومها اللغوي قد انقلب رأساً على عقب تماماً.

وعلى كل حال ، فإن الإستعمار من القَصَصِ الطويلة المثيرة للحزن والألم ، بحيث يمكن أن يقال أنّه يستوعب تاريخ البشرية أجمع وإن تغيّر وجهه دائماً ، ولكن من غير المعلوم أنّه متى يزول من المجتمعات الإنسانية ، وتقوم حياة البشر على أساس التعاون والإحترام المتبادل بين الناس والمساعدة ليتقدم الواحد بعد الآخر في جميع المجالات ... ؟!

* * *

[581]

الآيات

قَالُوا يَصَلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَآ أَتَنْهَنَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمِّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيب(62) قَالَ يَقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَءَاتَنِى مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللهِ إنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِير(63)وَيَقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ(64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَثَةً أَيَّام ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب(65)

التّفسير

والآن لنلاحظ ما الذي كان جواب المخالفين لنبيّ الله «صالح(عليه السلام)» إزاء منطقه الحي الداعي إلى الحق .

لقد استفادوا من عامل نفسي للتأثير على النّبي «صالح» أو على الأقل للمحاولة في عدم تأثير كلامه على المستمعين له من جمهور الناس ، وبالتعبير العاميّ الدارج : أرادوا أن يضعوا البطيخ تحت إبطه ، فقالوا : (يا صالح قد كنت فينا

[582]

مرجوّاً قبل هذا) وكنّا نتوجه إليك لحل مشاكلنا ونستشيرك في أُمورنا ونعتقد بعقلك وذكائك ودرايتك ، ولم نشك في إشفاقك واهتمامك بنا ، لكن رجاءنا فيك ذهب ادراج الرياح ، حيث خالفت ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان وهو منهج اسلافنا ومفخرة قومنا ، فأبديت عدم احترامك للأوثان وللكبار وسخرت من عقولنا (اتنهانا عمّا كان يعبد آباؤنا) والحقيقة أننا نشكُّ في دعوتك للواحد الأحد (وإننا لفي شك ممّا تدعونا إليه مريب) .

نجد هنا أن القوم الضّالين يلتجؤون تحت غطاء الاسلاف والآباء الذين تحيط بهم هالة من القدسية لتوجيه أخطائهم وأعمالهم وأفكارهم غير الصحيحة ، وهو ذلك المنطق القديم الذي كان يتذرع به المنحرفون وما زالوا يتذرعون به في عصر الذّرة والفضاء أيضاً .

لكن هذا النّبي الكبير لم ييأس من هدايتهم ولم تؤثر كلماتهم المخادعة في روحه الكبيرة فأجابهم قائلاً : (يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني منه رحمة) أفأسكت عن دعوتي ولا أبلغ رسالة الله ولا أواجه المنحرفين (فمن ينصرني من الله إن عصيته) .. ولكن اعلموا أن كلامكم هذا واحتجاجكم بمنهج السلف والآباء لا يزيدني إلاّ إيماناً بضلالتكم وخسرانكم : (فما تزيدونني غير تخسير ..) .

وبعد هذا كلّه ومن أجل البرهان على صدق دعوته ، وبيان المعاجز الإلهية التي دونها قدرة الإنسان جاءهم بالناقة التي هي آية من آيات الله وقال : (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية) فاتركوها وذروها تأكل في أرض الله (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) .

ناقة صالح :

«النّاقة» في اللغة هي اُنثى الجمل ، وهي الآية الآنفة في آيات أُخرى أُضيفت

[583]

إلى لفظ الجلالة «الله»(1) وهذه الإضافة تدل على أنّ هذه الناقة لها خصائص معينة، ومع الإلتفات إلى ما عبّر عنها في الآية المتقدمة بأنّها «آية» وعلامة إلهية ودليل على الحقانيّة ، يتّضح أنّها لم تكن ناقة عادية ، بل كانت خارقة للعادة من جهة أو جهات متعددة ! .

ولكن لم ترد في القرآن خصائص هذه الناقة بشكل مفصّل ، غاية ما في الأمر أننا نعرف بأنّها لم تكن ناقة عادية كالنوق الأُخريات ، والشيء الوحيد المذكور عنها في القرآن ـ وفي موردين فحسب ـ أن صالحاً أخبر قومه أن يتقاسموا ماءهم سهمين : سهم لهم وسهم للناقة ، فلهم شرب يوم منه ولها شرب يوم آخر (قال هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم)(2) كما جاء في سورة القمر أيضاً (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر)(3).

وفي سورة الشمس إشارة مختصرة إليها أيضاً ، حيث يقول سبحانه : (فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها)(4).

ولكن لم يتّضح كيف كان تقسيم الماء خارقاً للعادة ؟

هناك احتمالان :

الأوّل : إنّ الناقة كانت تشرب ماءً كثيراً بحيث تأتي على ماء «النبع» كله .

والثاني: إنّه حين كانت ترد الماء لا تجرؤ الحيوانات الأُخرى على الورود إلى الماء معها .

أمّا كيف كانت هذه الناقة تستفيد من جميع الماء؟ فيوجه هذا الإحتمال بأنّ ماء

____________________________

(1) مثل هذه الإضافة يقال لها في المصطلح الأدبي إضافة تشريفية . بمعنى أنّها إضافة تدل على شرف الشيء وأهميته ، وفي الآية المتقدمة يلاحظ نموذجان من هذا النوع 1 ـ ناقة الله . 2 ـ أرض الله . وقد ورد في موارد أُخرى غير هذه الكلمات .

(2) الشعراء، 155.

(3) القمر، 28.

(4) الشمس، 13.

[584]

القرية كان قليلاً كماء القرى التي ليس فيها أكثر من عين ماء واحدة ، وأهل القرية مجبورون على أن يدخروا الماء تمام اليوم في حفرة خاصّة ليجتمع الماء في العين مرّة أُخرى .

ولكن في جزء آخر من سورة الشعراء يتجلّى لنا أنّ ثمود لم يعيشوا في منطقة قليلة الماء ، بل كانت لهم غابات وعيون ونخيل ومزارع حيث تقول الآيات : (أتتركون في ما ههنا آمنين، في جنات وعيون، وزروع ونخل طلعها هضيم).(1)

وعلى كل حال فإنّ القرآن ذكر قصّة ناقة صالح بشكل مجمل غير أنّنا نقرأ في روايات كثيرة عن مصادر الشيعة وأهل السنة أيضاً ، أنّ هذه الناقة خرجت من قلب الجبل ، ولها خصائص أُخرى ليس هنا مجال سردها .

وعلى كل حال . فمع جميع ما أكّده نبيّهم العظيم «صالح» في شأن الناقة ، فقد صمّموا أخيراً على القضاء عليها ، لأنّ وجودها مع مافيها من خوارق مدعاة لتيقظ الناس والتفافهم حول النّبي صالح ، لذلك فإنّ جماعة من المعاندين لصالح من قومه الذين كانوا يجدون في دعوة صالح خطراً على مصالحهم ، ولا يرغبون أن يستفيق الناس من غفلتهم فتتعرض دعائم استعمارهم للتقويض والانهيار ، فتآمروا للقضاء على الناقة وهيأوا جماعة لهذا الغرض ، وأخيراً أقدم أحدهم على مهاجمتها وضربها بالسكين فهوت إلى الأرض (فعقروها) .

«عقروها» مشتقة من مادة «العُقر» على وزن «الظلم» ومعناه : أصل الشيء وأساسه وجذره ، و«عقرت البعير» معناه نحرته واحتززت رأسه ، لأنّ نحر البعير يستلزم زوال وجوده من الأصل ، وأحياناً تستعمل هذه الكلمة لطعن الناقة في بطنها . أو لتقطيع أطراف الناقة بدل النحر وكل ذلك في الواقع يرجع إلى معنى واحد «فتأمل» !...» .

____________________________

(1) الشعراء، الآية 146 ـ 148.

[585]

العلاقة الدّينية :

الطريف أنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الذي عقر الناقة لم يكن إلاّ واحداً ، لكن القرآن ينسب هذا العمل إلى جميع المخالفين من قوم صالح «ثمود» ويقول بصيغة الجمع : (فعقروها) وذلك لأنّ الإسلام يعدّ الرضا الباطني في أمر ما والإرتباط معه ارتباطاً عاطفياً بمنزلة الإشتراك فيه ، وفي الواقع فإنّ التآمر على هذا العمل لم يكن له جانب فردي ، وحتى ذلك الذي أقدم على عمله لم يكن معتمداً على قوته الشخصيّة فجميعهم كانوا مرتاحين لعمله وكانوا يسندونه ، ومن المسلّم أنّه لا يمكن أن يعدّ هذا العمل عملاً فردياً . بل يعد عملاً جماعياً . يقول الإمام علي(عليه السلام) : «وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا»(1) .

وهناك روايات متعددة في المضمون ذاته نقلت عن نبي الإسلام وأهل بيته الكرام ، وهي تكشف غاية الإهتمام من قبل هؤلاء السادة العظام بالعلاقة العاطفية والمناهج الفكرية المشتركة بجلاء ، ونورد هنا على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ عدداً منها .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «من شهد أمراً فَكرِهه كمن غاب عنه ومن غاب عن أمر فرضيه كمن شهده»(2) .

ويقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) «لو أنّ رجلاً قُتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله عزَّوجلَّ شريك القاتل»(3).

ونقل عن الإمام علي (عليه السلام) أيضاً أنّه قال : «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه

____________________________

(1) نهج البلاغة ، ومن كلام له ، رقم 201 .

(2) وسائل الشيعة، ج11، ص 409 .

(3) وسائل الشيعة، ج11، ص 410 .

[586]

وعلى كل داخل في باطل إثمان إثم العمل به وإثم الرضا به»(1).

ومن أجل أن نعرف عمق العلاقة الفكرية والعاطفية في الإسلام وسعتها بحيث لا يُعرف لها حد من جهة الزمان والمكان ، فيكفي أن نذكر هذا الكلام للإمام علي(عليه السلام) من نهج البلاغة لنلفت إليه الأنظار : «حين انتصر الإمام علي في حرب الجمل على المتمردين ومثيري الفتنة وفرح أصحاب علي بهذا الإنتصار الذي يُعدّ انتصاراً للإسلام على الشرك والجاهلية ، قال له أحد أصحابه : «وودت لو أنّ أخي شهدنا هنا في الميدان ليرى انتصارك على عدوك» .

فالتفت الإمام (عليه السلام) إليه قائلاً : «أهوى أخيك معنا» فقال : «نعم» فقال الإمام (عليه السلام) : «شَهِدنَا» ثمّ قال : «ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان»(2) .

ولا شك أنّ أُولئك الذين يساهمون في منهج ما ويشتركون فيه ويتحملون كل مشاكله وأتعابه ، لهم امتياز خاص ، ولكن هذا لا يعني أن الآخرين لم يشتركوا في ذلك أبداً ، بل سواءً كانوا في عصرهم أو العصور والقرون المقبلة ولهم ارتباط عاطفي وفكري بهم فهم مشتركون معهم بنحو من الانحاء .

هذه المسألة التي قد لا نجد لها نظيراً في أي مذهب من مذاهب العالم ، قائمة على أساس من حقيقة اجتماعية هامة ، وهي أن المنسجمون فكرياً وعقائدياً حتى لو لم يشتركوا في منهج معيّن ، إلاّ أنّهم سيدخلون قطعاً في مناهج مشابهة له في محيطهم وزمانهم ، لأنّ أعمال الناس منعكسة عن أفكارهم ، ولا يمكن أن يرتبط الإنسان بمذهب معين ولا يظهر أثره في عمله .

والإسلام منذ الخطوة الأُولى يهتم بايجاد اصلاحات في روح الإنسان ونفسه لإصلاح عمله تلقائياً وعلى ضوء الرّوايات المتقدمة فإنّ أي مسلم يبلغه أنّ فلاناً

____________________________

(1) وسائل الشيعة، ج11، ص411 .

(2) نهج البلاغة، الكلام رقم 12 .

[587]

عمل عملاً صالحاً ـ أو سيئاً ـ ينبغي أن يتخذ الموقف الصحيح من ذلك العمل فوراً ويجعل قلبه وروحه منسجمين مع «الصالحات» وأن ينفر من «السيئات» فهذا السعي و«الجد» الداخلي لا شك سيكون له أثر في أعماله ، وسيتعمق الترابط بين الفكر والعمل .

وفي نهاية الآية نقرأ أنّ النّبي «صالحاً» بعد أن رأى تمرّد قومه وعقرهم الناقة أنذرهم (فقال تمتعوا في دارك ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب) فهو وعد الله الذي لا يتغير وما أنا من الكاذبين .

* * *

[588]

الآيات

فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَلِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَة مِّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذ إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ(66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فى دِيَرِهِمْ جَثِمِنَ(67) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ أَلاَ إنَّ ثَمُودَاً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَـمُودَ(68)

التّفسير

نهاية ثمود «قوم صالح»:

في هذه الآيات يتبيّن كيف نزل العذاب على قوم صالح المعاندين بعد أن أمهلهم وقال لهم : (تمتعوا في داركم ثلاثة أيّام) فتقول الآيات : (فلما جاء أمرنا نجّينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منّا) لا من العذاب الجسماني والمادي فحسب ، بل (ومن خزي يومئذ)(1) .

لأنّ الله قوي وقادر على كل شيء ، وله السلطة على كل أمر ، ولا يصعب عليه أي شيء ولا قدرة فوق قدرته (إنّ ربّك هو القوي العزيز ) .

وعلى هذا فإنّ نجاة جماعة من المؤمنين من بين جماعة كثيرة تبتلى بعذاب

____________________________

(1) الخزي في اللغة الإنكسار الذي يصيب الإنسان سواءً من نفسه أو من سواه ، ويشمل كل أنواع الذل أيضاً .

[589]

الله ليس بالأمر المشكل بالنسبة لقدرة الله تعالى .

إنّ رحمة الله تستوجب ألاّ يحترق الأبرياء بنار الأشقياء المذنبين ، وألاّ يؤاخذ المؤمنون بجريرة غير المؤمنين (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) وهكذا هلكوا وصاروا «شذر مذر» ومضت آثارهم مع الريح (كأن لم يغنوا فيها إلاّ أن ثمود كفروا بربّهم ألا بعداً لثمود) عن لطف الله ورحمته .

* * *

ملاحظات

1 ـ نجد في هذه الآيات أن رحمة الله بالنسبة للمؤمنين واسعة وشاملة ، بحيث تنقلهم جميعاً إلى مكان آمن ، ولا تحرق الأخضر واليابس بالعذاب .

ومن الممكن أن تحدث حوادث مؤلمة كالسيول والأوبئة والزلازل التي قد تأتي على الصغير والكبير ، وليست هذه الحوادث ترجمة لعذاب الله ، وإلاّ فإنّه محال على الله في منطق عدله أن يعذب حتى واحداً بريئاً بجرم ملايين المذنبين .

طبعاً يمكن أن يوجد أناس ساكتون بين جماعة مذنبين فيؤخذوا بوزرهم ، لأنّهم لا يردعونهم عن الظلم والفساد ، فمصيرهم ـ إذاً ـ سيكون كمصير المجرمين. ولكنّهم إذا عملوا بواجبهم فمحال أن تنزل عليهم حادثة أو يحيق بهم العذاب «فصّلنا هذا الموضوع في الأبحاث المرتبطة بمعرفة الله ونزول البلاء والحوادث في كتب معرفة الله»(1) .

2 ـ ويظهرُ جيداً من الآيات المتقدمة أنّ عقاب المعاندين والطغاة لا يختصّ بالجانب المادي فحسب ، بل يشمل الجانب المعنوي ، لأنّ نتيجة أعمالهم ومصيرهم المخزي وحياتهم الملوّثة تسجل فصولها في التاريخ بما يكون عاراً عليهم ، في حين يكتب التاريخ حياة المؤمنين بسطور من ذهب وصحائف من

____________________________

(1) في المجلد الخامس من التّفسير الأمثل وردت توضيحات مفيدة لفهم هذا المقصود .

[590]

نور .

3 ـ ما المراد من الصيحة ؟

الصيحة في اللغة معناها الصوت العظيم الذي يصدر من فم الإنسان أو الحيوان عادة .. ولكن لا تختصّ بهذا المعنى ، بل تشمل كل صوت عظيم .. نقرأ في القرآن الكريم أن عدّة أقوام آثمين أخذتهم الصيحة من السماء عقاباً لهم على ذنوبهم ، «ثمود» الذين نتحدث عنهم «وقوم لوط» كما نقرأ في سورة الحجر الآية (73) «قوم شعيب» كما ذُكروا في سورة هود الآية (94) .

ويستفاد من بعض الآيات الأُخرى من القرآن أنّ قوم صالح «ثموداً» عوقبوا بالصاعقة (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود)(1) ومن هنا يتبيّن أنّ المراد من الصيحة هو صوت الصاعقة الموحش!

سؤال : هل يستطيع صوت الصاعقة الموحش أن يبيد قوماً أو جماعة بأسرهم؟! والجواب : نعم ، حتماً ! .. لأنّنا نعرف أن الأمواج الصوتية إذا تجاوزت حدّاً معيناً تستطيع أن تكسّر الزجاج ، وقد تتهدم على أثرها عمارات ، وقد تشل أعضاء البدن الداخلية .

الطائرات حين تخترق الجدار الصوتي وتكون سرعتها أكثر من سرعة أمواج الصوت يسقط بعض الأفراد فاقدو الوعي ، أو تُسقط الحامل جنينها بسبب ذلك وقد يتكسر جميع الزّجاج في عمارات المنطقة التي تمرّ عليها هذه الطائرات .

وطبيعي أنّه إذا كانت شدّة الأمواج الصوتية أكثر ممّا ذكرنا ، فمن السهولة أن تحدث اختلالاً قاتلاً في شبكات الاعصاب الدماغ وحركات القلب وتسبب موت الإنسان! :

ومن الثابت ـ طبقاً لما في آيات القرآن ـ أنّ نهاية هذا العالم تكون بصيحة

____________________________

(1) فصلت، الآية 13.

[591]

عامّة أيضاً .. (ما ينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصّمون)(1)، كما أنّ يوم القيامة يبدأ بصيحة موقظة أيضاً (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) .

4 ـ «الجاثم» من مادة «جثم» ومعناه المصدري الجلوس على الركب ، كما يأتي بمعنى السقوط للوجه (ولزيادة التوضيح في هذا المجال يراجع في التّفسير الأمثل ذيل الآية 79 من سورة الأعراف) .

ويستفاد طبعاً من التعبير بـ «جاثمين» أنّ الصيحة من السماء كانت السبب في موتهم ، إلاّ أنّ أجسادهم كانت ملقاةً على الأرض ، لكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ الصاعقة احرقتهم بنارها ، ولا منافاة بين الأمرين ، لأنّ أثر الصوت الموحش للصاعقة يتّضح فوراً ، وأمّا آثار حرقها ـ وخاصّة لمن هم داخل  البيوت ـ فيظهر بعدئذ .

5 ـ لفظ «لم يغنوا» مشتق من مادة «غني» ومعناه الإقامة في المكان ، ولا يبعد أن يكون مأخوذاً من المفهوم الأصلي وهو «الغنى» ومعناه عدم الحاجة ، لأنّ الغني غير المحتاج له بيت مهيّأ ومعدّ وليس مجبوراً أن ينتقل كل زمان من منزل إلى آخر ـ والتعبير بجملة (كأن لم يغنوا فيها) وارد في ثمود ، كما هو وارد في قوم شعيب ، ومفهوم هذا التعبير أنّ طومار حياتهم قد طُوي حتى تظن أنّهم لم يكونوا من سكنة هذه الأرض.

* * *

نهاية المجلد السّادس

____________________________

(1) سورة يس، 49.

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404091

  • التاريخ : 20/04/2024 - 04:48

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net