00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الفرقان من آية 56 ـ آخر السورة من ( ص 290 ـ 330 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الحادي عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[290]

 الآيات

 وَ مَآ أَرْسَلنَـكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً(56) قُلْ مَآ أَسْئَلُكُم عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا(57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58)الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الَّرحْمَـنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً(59)

التّفسير

أَجري هو هدايتكم:

كان الكلام في الآيات السابقة حول إصرار الوثنيين على عبادتهم الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع، وفي الآية الحالية الأُولى يشير القرآن إلى مهمّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قبالة هؤلاء المتعصبين المعاندين، فيقول تعالى: (وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً).(1)

_____________________________

 

1 ـ «نذير»

في اعتقاد البعض صيغة مبالغة، في حين أنّ «مبشر»

اسم فاعل فقط، هذا التفاوت التعبيري يمكن أن يكون بسبب أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

كان في مواجهة فئة بلا إيمان وكان لها إصرار بالغ على انحرافها، فلا بد أن يبالغ في إنذارها. (روح المعاني ذيل الآية مورد البحث).

[291]

إذا لم يتقبل هؤلاء دعوتك، فلا جناح عليك، فقد أديت مهمتك في البشارة والإِنذار، ودعوت القلوب المستعدة إلى الله.

هذا الخطاب، كما يشخص مهمّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كذلك يسلّيه، وفيه نوع من التهديد لهذه الفئة الضالة، وعدم المبالاة بهم.

ثمّ يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهم أنني لا اريد منكم في مقابل هذا القرآن وابلاغكم رسالة السماء أي أجر وعوض: (قل ما أسألكم عليه من أجر)ثمّ يضيف: إن الأجر الوحيد الذي أطلبه أن يهتدي الناس إلى طريق الله (إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا).

يعني أجري وجزائي هو هدايتكم فقط، وبكامل الإرادة والإختيار أيضاً، فلا إكراه ولا إجبار فيه، وكم هو جميل هذا التعبير الكاشف عن غاية لطف ومحبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأتباعه، ذلك لأنّه عدَّ(1) أجره وجزاءَه سعادتهم.

بديهي أنّ للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أجراً معنوياً عظيماً على هداية الأمة، ذلك لأن «الدال على الخير كفاعله».

و ذكر المفسّرون احتمالات أُخرى أيضاً في تفسير هذه الآية من جملتها:

يرى جماعة من المفسّرين أنّ معنى هذه الآية هكذا «أنا لا أريد منكم أي جزاء إلاّ ما أردتم من إنفاق الأموال على المحتاجين في سبيل الله، وذلك مرتبط برغبتكم».(2)

لكنّ التّفسير الأ.ّل .قرب إلى معنى الآية.

اتّضح ممّا قلناه أعلاه، أنّ الضمير في «عليه» يرجع إلى القرآن وتبليغ دين الإِسلام، لأن الكلام كان في عدم المطالبة بالأجر والجزاء في مقابل هذه الدعوة.

هذه الجملة بالإِضافة إلى أنّها تقطع حجج المشركين، فهي توضح أن قبول

_____________________________

 

1 ـ بناء على هذا فالإستثناء في الآية أعلاه «استثناء متصل» وإنْ بدا منقطاً لأول وهلة.

2 ـ الإستثناء في هذه الحالة «استثناء منقطع».

[292]

هذه الدعوة الإِلهية سهل ويسير جدّاً لكل أحد، بلا مشقّة ولا خسارة.

وهذا بنفسه شاهد على صدق دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ونقاء فكره ومنهجه، وذلك لأنّ الأدعياء الكاذبين لابدّ أن يُدخلوا في هذا العمل رغبتهم في الأجر والجزاء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

و تبيّن الآية التي بعدها المعتمد الأساس للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وتوكل على الحي الذي لا يموت).

فمع هذا المعتمد والملجأ والمولى الذي ما زال ولن يزال حياً دائماً،  فلا حاجة لك بأجر وجزاء هؤلاء، ولا خوف عليك من ضررهم ومؤامراتهم.

والآن حيث الأمر على هذه الصورة فسبح الله تنزيهاً له من كل نقص، وأحمده إزاء كل هذه الكمالات (وسبح بحمده).

من الممكن اعتبار هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة، لأنّ تعالى هو المنزّه من كل عيب ونقص، وأهلٌ لكل كمال وجمال، وحقيق بالتوكل عليه.

ثمّ يضيف القرآن الكريم: لا تقلق من بهتان ومؤامرات الأعداء، لأنّ الله مطلع على ذنوب عباده وسيحاسبهم: (وكفى به بذنوب عباده خبيراً).

الآية التالية بيان لقدرة الخالق في ساحة عالم الوجود، ووصف آخر لهذا الملاذ الأمين، يقول تعالى: (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيّام). ثمّ (استوى على العرش) فأخذ بتدبير العالم.

إنّ من له هذه القدرة الواسعة يستطيع أن يحفظ المتوكلين عليه من كل خطر وحادثة، فكما أنّ خلق العالم كان بواسطة قدرته، كذلك فإنّ إدارة وقيادة وتدبير ذلك العالم بأمر ذاته المقدسة.

ضمناً، فإنّ خلق العالم بشكل تدريجي إشارة إلى أنّ الله لا يعجل في أي عمل، فإذا لم يجاز أعداءك سريعاً، فلأجل أن يمنحهم الفسحة والفرصة حتى يأخذوا بإصلاح أنفسهم، فضلا عن أن من يعجل هو من يخاف الفوت، وهذا غير

[293]

متصور بالنسبة إلى الله القادر المتعال.

في مسألة خلق عالم الوجود في ستة أيّام، فإنّ «اليوم» في مثل هذه الموارد بمعنى «المرحلة»، أو الفترة الزمنية وهذه الفترة من الممكن أن تستغرق ملايين أو مليارات من السنين، وشواهد هذا المعنى في الأدب العربي وغيره كثيرة، بحثناه بشكل مفصل في تفسير الآية (54) من سورة الأعراف، وشرحنا هناك هذه المراحل الست.

و أيضاً فإنّ معنى «العرش» وجملة (استوى على العرش) وردت هناك أيضاً.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: (الرحمن): من شملت رحمته العامّة جميع الموجودات، فالمطيع والعاصي والمؤمن والكافر يغترفون من خوان نعمته التي لا انقطاع فيها.

والآن، حيث ربّك الرحمن القادر المقتدر، فإذا أردت شيئاً فاطلب منه فإنّه المطلع على احتياجات جميع عباده: (فاسأل به خبيراً).

هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ نتيجة لمجموع البحوث السابقة. يأمر الله النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): أعلِنْ لهم أنّني لا أريد منكم أجراً، وتوكل على الله الجامع لكل الصفات، القادر، والرحمن، والخبير، والمطلع، وأطلب منه أي شيء تريده.

للمفسّرين أقوال أُخرى في تفسير هذه الجملة، فقد جعلوا السؤال هنا بمعنى الإستفهام (لا الطلب)، وقالوا: إن مفهوم الجملة هو: إذا أردت أن تسأل في موضوع خلق الوجود وقدرة الخالق، فاسأله هو، فهو العالم بكل شيء.

بعض آخر، بالإضافة إلى أنّهم فسروا «السؤال» بـ «الإستفهام» قالوا: إن المقصود بـ «الخبير» جبرئيل، أو النّبي، يعني: إسألهما عن صفات الله.

التّفسير الأخير بعيد جدّاً بالتأكيد، وما قبله أيضاً غير متناسب كثيراً مع الآيات السابقة، والأقرب هو ما قلناه في معنى الآية من أن المقصود من السؤال

[294]

هو الطلب من الله.(1)

* * *

 

مسألتان

1 ـ أجر الرسالة

نقرأ في كثير من آيات القرآن أنّ أنبياء الله كانوا يبيّنون هذه الحقيقة بصراحة: إنّنا لا نسأل أي أجر من أي أحد، بل إنّ أجرنا على الله العظيم فقط.

الآيات 109 و127 و145 و164 و180 سورة الشعراء، وكذلك الآيات 29 و 51 سورة هود، والآية 72 سورة يونس و47 سورة سبأ، تدل على هذا المعنى.

لا شك أن عدم المطالبة بالأجر هذه، تدفع كل اتهام عن الأنبياء، فضلا عن أنّهم يستطيعون أن يواصلوا عملهم بحرية تامة، وترتفع الموانع والحواجز التي قد تحدد من حرية ألسنتهم بسبب العلاقة المادية.

أمّا الملفت للإنتباه فإنّه تلاحَظ ثلاثة تعابير مختلفة فيما يخص الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).

1 ـ التعبير الذي ورد في الآيات أعلاه (قل ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا) هذا التعبير الفذ البليغ الرائع.

2 ـ التعبير الوارد في الآية (23) من سورة الشورى (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى).

3 ـ التعبير الوارد في الآية (47) من سورة سبأ (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن أجري إلاّ على الله).

من أنضمام هذه التعابير الثلاثة إلى بعضها، تتحصل النتيجة التالية: فيما يخص

_____________________________

 

1 ـ طبقاً لهذا التّفسير فـ «الباء» في «به» زائدة، أمّا طبقاً للتفاسير الأُخرى، فإن «الباء» بمعنى «عن».

]295]

الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، إذا عُدَّت المودة في القربى أجر رسالته، فهذه المودة ـ من جانب ـ في نفع المؤمنين أنفسهم لا بنفع النّبي. ومن جانب آخر فإن هذه المودة وسيلة حصول الهداية على طريق الله تبارك وتعالى.

بناء على هذا، فإنّ مجموع هذه الآيات يشير إلى أن المودة في قربى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هي استمرار منهج رسالة وقيادة ذلك النّبي، وبعبارة أخرى: لمواصلة طريق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهدايته وقيادته يجب الإرتباط بذوي قرباه، والإعتماد على قيادتهم، هذا هو الأمر الذي يدافع عنه اتباع أهل البيت في مسألة الإمامة، فإنّهم يعتقدون أن امتداد القيادة بعد النّبي سيستمر إلى الأبد، لا في شكل النبوّة، بل في شكل الإمامة.

و من اللازم الإلتفات إلى هذه النكتة أيضاً، وهي أن المحبة عامل مؤثر في الأتباع، كما نقرأ في الآية (31) من سورة آل عمران: (قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني...) ذلك لأنّي المبلغ بأمره.

ورابطة الحب من حيث الأصل، تأخذ الإنسان باتجاه المحبوب وإراداته، وكلما كانت رابطة الحب أكثر قوّة، كانت هذه الجاذبية قوية أكثر. خصوصاً المحبّة التي يكون دافعها كمال «المحبوب»، ويكون الإحساس بهذا الكمال سبباً في أن يسعى الإنسان ليتقرب إلى مبدأ الكمال وإلى تنفيذ إراداته.(1)

 

2 ـ على من يجب التوكل؟

في الآيات أعلاه، يأمر الله تبارك وتعالى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالتوكل، وأن يصرف النظر عن جميع المخلوقات، وينظر إلى الله عزَّوجلّ فقط.

ولذلك يعدد صفات لهذه الذات المقدسة، هي في الحقيقة شرائط أساسية

_____________________________

 

1 ـ من أجل توضيح أكثر في هذا الصدد، راجع التّفسير الأمثل (ذيل الآية 31 سورة آل عمران).

[296]

فيمن يستطيع أن يكون ملاذاً واقعياً وآمناً للناس.

الأُولى: هي أن يكون حياً، وذلك أنّ موجوداً ميتاً فاقداً لخصائص الحياة ـ مثل الأصنام ـ لا يمكنه أبداً أن يكون معتمداً.

الثّانية: هي أن تكون حياته خالدة، بالشكل الذي لا يحدث احتمال موته تزلزلا في فكر المتوكلين.

الثّالثة: هي أن يحيط بكل شيء علماً، فيكون مطلعاً على احتياجات المتوكلين، وعلى خطط ومؤامرات الأعداء أيضاً.

الرّابعة: هي أن يكون على كل شيء قديراً، حيث لا وجود فيه لأي شكل من العجز وعدم الإستطاعة الموجبين لضعف هذا الملجأ.

الخامسة: هي أن تكون الحاكمية له على جميع الأُمور، وإدارتها بيده المقتدرة.

ونحن نعلم أن هذه الصفات ليست إلاّ لله تبارك وتعالى، ولهذا فهو وحده الملجأ الباعث على الإطمئنان الذي لا يتزلزل أمام كل الحوادث.

* * *

[297]

 

 

الآيات

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَـنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً(60) تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِرجاً وَقَمَراً مُّنِيراً(61) وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أرَادَ شُكُوراً(62)

 

التّفسير

البروج السماوية:

كان الكلام في الآيات الماضية عن عظمة وقدرة الله، وعن رحمته أيضاً، ويضيف الله تعالى في الآية الأُولى هنا: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن).

نحن لا نعرف «الرحمن» أصلا، وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا، (أنسجد لما تأمُرنا) نحن لا نخضع لأي أحد، وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك (وزادهم نفوراً) اي أنّهم يتكلمون بهذا الكلام ويزدادون ابتعاداً ونفوراً عن الحقّ.

لا شكّ أنّ أنسب اسم من أسماء الله للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه،

[298]

هو ذلك الاسم الممتلىء جاذبية «الرحمن» مع مفهوم رحمته العامّة الواسعة، لكن أولئك بسبب عمى قلوبهم ولجاجتهم، لم يظهروا تأثراً حيال هذه الدعوة، بل تلقوها بالسخرية والإستهزاء، وقالوا على سبيل التحقير: (وما الرحمن) كما قال فرعون حيال دعوة موسى(عليه السلام): (وما رب العالمين).(1) فهؤلاء لم يكونوا على استعداد حتى ليقولوا: «ومن الرحمن» أو «من ربّ العالمين».

ورغم أن بعض المفسّرين يرى أن اسم «الرحمن» لم يكن مأنوساً بين عرب الجاهلية، وحينما سمعوا هذا الوصف من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) طرحوا هذا السؤال على سبيل التعجب واقعاً، حتى كان يقول البعض منهم: «ما نعرف الرحمن إلاّ رجلا باليمامة» (يعنون به مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوّة كذباً، وعرفه وقومه بهذا الاسم «الرحمن»).

لكن هذا القول بعيد جدّاً، لأنّ مادة هذا الاسم وصيغته كلاهما عربيان، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو ـ دائماً ـ في بداية السور القرآنية، الآية (بسم الله الرحمن الرحيم)وعلى هذا فلم يكن هدف أُولئك إلاّ التحجج والسخرية، والعبارة التالية شاهد على هذه الحقيقة أيضاً لأنهم يقولون: (أنسجد لما تأمرنا).

وبما أن تعاليم القادة الإلهيين تؤثر في القلوب المؤهلة فقط، فإنّ عمي القلوب من المعاندين مضافاً الى عدم انتفاعهم بها، فإنّها تزيدهم نفوراً لأنّ آيات القرآن كقطرات المطر الباعثة على الحياة تنمي الورد والخضرة في البستان، والشوك في الأرض السبخة، ولذا لا مجال للتعجب حيث يقول: (وزادهم نفوراً).(2)

_____________________________

 

1 ـ سورة الشعراء، الآية 23.

2 ـ على هذا فإنّ فاعل (زاد)

هو ذلك الأمر بالسجود الذي ترك أثراً معكوساً في أولئك المرضى قلوبهم، وإن نقل بعض المفسّرين أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

سجد بعد هذا الكلام وسجد المؤمنون أيضاً، فسبّب هذا ابتعاد أُولئك أكثر، بناء على هذا ففاعل (زاد)

السجدة، لكن المعنى الأوّل أكثر صحّة.

[299]

الآية التالية إجابة على سؤالهم حيث كانوا يقولون: «وما الرحمن»، وإن كانوا يقولون هذا على سبيل السخرية، لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة، يقول تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً).

«البروج» جمع «برج» في الأصل بمعنى «الظهور» ولذا يسمون ذلك القسم الأعلى والأظهر من جدار أطراف المدينة أو محل تجمع الفرقة العسكرية «برج»، ولهذا أيضاً يقال حينما تظهر المرأة زينتها «تبرجت المرأة»، وهذه الكلمة تطلق أيضاً على القصور العالية.

على أية حال، فالبروج السماوية، إشارة إلى الصور الفلكية الخاصّة حيث تستقر الشمس والقمر في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها، يقولون مثلا: استقرت الشمس في برج «الحمل» يعني أنّها تكون بمحاذاة «الصورة الفلكية»، «الحمل»، أو القمر في «العقرب» يعني وقفت كرة القمر أمام الصورة الفلكية «العقرب» (تطلق الصورة الفلكية على مجموعة من النجوم لها شكل خاص في نظر المشاهد).

بهذا الترتيب، أشارت الآية إلى منازل الشمس والقمر السماوية، وتضيف على أثر ذلك: (وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً)(1).

تبيّن هذه الآية النظم الدقيق لسير الشمس والقمر في السماء (و بديهي أن هذه التغييرات في الحقيقة ترتبط بدوران الأرض حول الشمس دائماً). والنظام الفذ الدقيق الذي يحكمهما ملايين السنين بلا زيادة أو نقصان، بالشكل الذي يستطيع الفلكيون ـ أحياناً ـ أن يتنبؤا. قبل مئات السنين بوضع حركة الشمس والقمر في يوم معين وساعة معينة بالنسبة إلى مئات السنين الآتية، هذا النظام الحاكم على هذه الأفلاك السماوية العظيمة شاهد ناطق على وجود الخالق المدبر

_____________________________

 

1 ـ طبقاً للتفسير أعلاه، فإنّ ضمير «فيها»

يرجع إلى البروج، وينبغي أن يكون هكذا، ذلك لأنّ الموضوع المهم هو دوران الشمس والقمر ضمن نظام خاص في البروج: وليس وجود البروج في السماء فقط.

[300]

والمدير لعالم الوجود الكبير.

مع هذه الدلائل الواضحة، ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر، فهل مازلتم تجهلونه وتقولون: «وما الرحمن»!؟

أمّا لماذا سميت الشمس، «سراجاً»، وقُرِنَ القمر بصفة «منير»؟ فمن الممكن أن يكون دليله أن «السراج» بمعنى المنبع الضوئي الذي نوره مستمدٌ من ذاته وهذا ينطبق على حال الشمس، حيث أنّ من المسلمات العلمية طبقاً للتحقيقات أن نورها من نفسها. بخلاف القمر الذي نوره من ضياء الشمس، ولذا وصفه بـ «المنير» الذي يستمد نوره من غيره دائماً، (في التّفسير الأمثل، أوردنا القول مفصلا في هذا الصدد، ذيل الآية 5 و 6 سورة يونس).

في الآية الأخيرة، يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه، ويتحدث مرّة أُخرى في قسم آخر من نظام الوجود، فيقول تعالى: (و هو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً).

هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار، حيث يعقب أحدهما الآخر متناوبين متواصلين على هذا النظم ملايين السنين... النظم الذي لولاه لإنعدمت حياة الإنسان نتيجةً لشدة النور والحرارة أو الظلمة والعتمة، وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفوا الله عزَّوجلّ

ومن المعلوم أن نشوء نظام «الليل» و «النهار» نتيجة لدوران الأرض حول الشمس، وأن تغيراتهما التدريجية والمنظمة، حيث ينقص من أحدهما ويزاد في الآخر دائماً بسبب ميل محور الأرض عن مدارها ممّا يؤدي لوجود الفصول الأربعة.

فإذا دارت كرتنا الأرضية في حركتها الدورانية أسرع أو أبطأ من دورانها الفعلي ففي احدى الصور تطول الليالي الى درجة أنّها تجمد كل شيء، ويطول النهار الى درجة أنّ الشمس تحرق كل شيء ... وفي صورة اخرى فإنّ الفاصلة

]301]

القصيرة بين الليل والنهار كانت ستبطل تأثيرهما وفائدتهما. فضلا عن أنّ القوّة المركزية الطاردة كانت سترتفع بحيث ستقذف جميع الموجودات الأرضية بعيداً عن الكرة الأرضية.

والخلاصة أنّ التأمل في هذا النظام يوقظ فطرة معرفة الله في الإنسان من جهة (ولعل التعبير بالتذكر والتذكير إشارة إلى هذه الحقيقة)، ومن جهة أُخرى يُحي روح الشكر فيه، وقد أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: (أو أراد شكوراً).

الجدير بالذكر أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات التي نقلت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمّة المعصومين في تفسير الآية، أن تعاقب الليل والنهار من أجل أن الإنسان إذا أهمل اداء واجب من واجباته تجاه الله سبحانه وتعالى فإنّه بإمكانه جبرانه أو قضاءه في الوقت الآخر منهما. هذا المعنى من الممكن أن يكون تفسيراً ثانياً للآية، وممّا سبق من كون الآيات القرآنية ذات بطون، فلا منافاة بين هذا المعنى والمعنى الأوّل أيضاً.

وفي ذلك ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «كلّ ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار، قال الله تبارك وتعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً) يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار، وما فاته بالنهار بالليل».(1)

نفس هذا المعنى نقله «الفخر الرازي» عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

* * *

_____________________________

 

1 ـ من لا يحضره الفقيه، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4 ذيل الآية.

[302]

 

 

الآيات

 

وَعِبَادُ الرَّحْمَـنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـهِلُونَ قَالُواْ سَلَـماً(63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيماً(64) وَالَّذِينَ يَقوُلُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً(65) إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً(66) وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً(67)

 

التّفسير

الصفات الخاصّة لعباد الرحمن:

هذه الآيات ـ فما بعد ـ تستعرض بحثاً جامعاً فذاً حول الصفات الخاصّة لعباد الرحمن، إكمالا للآيات الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم الله «الرحمن» يقولون وملء رؤوسهم استهزاء وغرور «وما الرحمن»؟ ورأينا أن القرآن يعرّف لهم «الرحمن» ضمن آيتين، وجاء الدور الآن ليعرّف «عباد الرحمن».

تبيّن هذه الآيات اثنتي عشرة صفة من صفاتهم الخاصّة، حيث يرتبط بعضها بالجوانب الإعتقادية، وبعض منها أخلاقي، ومنها ما هو إجتماعي، بعض منها

[303]

يتعلق بالفرد، وبعض آخر بالجماعة، وهي أوّلا وآخراً مجموعة من أعلى القيم الإنسانية.

يقول تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً).(1)

إن أول صفة لـ: «عباد الرحمن» هو نفي الكبر والغرور والتعالي، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي، لأنّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث أن من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه ـ بدقّة ـ من أسلوب مشيته.

نعم، إنّهم متواضعون، والتواضع مفتاح الإيمان، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.

لقد رأينا بأُم أعيننا في الحياة اليومية، وقرأنا مراراً في آيات القرآن أيضاً، أن المتكبرين المغرورين لم يكونوا مستعدين حتى ليصغوا إلى كلام القادة الإلهيين، كانوا يتلقون الحقائق بالسخرية، ولم تكن رؤيتهم أبعد من أطراف أُنوفهم، تُرى أيمكن أن يجتمع الإيمان في هذه الحال مع الكبر؟!

نعم، هؤلاء المؤمنون، عباد ربهم الرحمن، والعلامة الأُولى لعبوديتهم هو التواضع... التواضع الذي نفذ في جميع ذرات وجودهم، فهو ظاهر حتى في مشيتهم.

فإذا رأينا أنّ إحدى أهم القواعد التي يأمر الله بها نبيّه هي (ولا تمش في الأرض مرحاً، إنّك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)(2) فلنفس هذا السبب أيضاً، وهو أن التواضع روح الإيمان.

حقّاً إذا كان للإنسان أدنى معرفة بنفسه وبعالم الوجود، فسيعلم كم هو ضئيل

_____________________________

 

1 ـ «هون»

مصدر، وهو بمعنى الناعم والهادي المتواضع، واستعمال المصدر في معنى اسم الفاعل هنا للتوكيد، يعني أنّهم في ما هم عليه كأنّهم عين الهدوء والتواضع.

2 ـ سورة الإسراء، الآية 37.

[304]

حيال هذا العالم الكبير، حتى وإن كانت رقبته كالجبال، فإن أعلى جبال الأرض أمام عظمة الأرض أقل من تعرجات قشر (النارنج) بالنسبة إليها، تلكم الأرض التي هي نفسها لا شيء بالنسبة الى الأفلاك العظيمة.

ترى أليست هذه الحالة من الكبر والغرور، دليلا على الجهل المطلق!؟

نقرأ في حديث رائع عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه كان يعبر أحد الأزقة يوماً ما، فرأى جماعة من الناس مجتمعين، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: مجنون شغل الناس بأعمال جنونية مضحكة، فقال: رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أتريدون أن أخبركم من هو المجنون حقاً، فسكتوا وأنصتوا بكل وجودهم فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه، الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه، فذلك المجنون، وهذا مبتلى!».

الصفة الثّانية لـ «عباد الرحمن» الحلم والصبر، كما يقول القرآن في مواصلته هذه الآية (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).

السلام الذي هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة، وليس الناشيء عن الضعف.

السلام دليل عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة الحمقى، سلام الوداع لأقوالهم غير المتروية، ليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة.

والخلاصة، أنه السلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة.

نعم، المظهر الآخر من مظاهر عظمتهم الروحية، هو التحمل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف لا يطوي أي إنسان طريق «العبودية لله» الصعب الممتلىء بالعقبات، خصوصاً في المجتمعات التي يكثر فيها الفاسدون و«مفسدون» وجهلة.

وتتناول الآية الثّانية، خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة لله، فيقول تعالى: (والذين يبيتون لربّهم سجداً وقياماً).

في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء،

]305]

حرّموا على أنفسهم لذة النوم، ونهضوا إلى ما هو ألذّ من ذلك، حيث ذكرُ الله والقيام والسجود بين يدي عظمته عزَّوجلّ، فيقضون شطراً من الليل في مناجاة المحبوب، فينورون قلوبهم وأرواحهم بذكره وباسمه.

ورغم أن جملة «يبيتون» دليل على أنّهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح، لكن المعلوم أنّ المقصود هو شطر كبير من الليل، وإن كان المقصود هو كل الليل فإنّ ذلك يكون في بعض الموارد.

كما أن تقديم «السجود» على «القيام» بسبب أهميته، وإن كان القيام مقدّم على السجود عملياً في حال الصلاة.(1)

الصفة الرّابعة لهم هي الخوف من العذاب الإلهي (والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنم إنّ عذابها كان غراماً). أي شديداً ومستديماً. (إنّها ساءت مستقراً ومقاماً).

و مع أنّهم مشتغلون بذكر الله وعبادته في الليالي، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم، فإنَّ قلوبهم أيضاً مملوءة بالخوف من المسؤوليات، ذلك الخوف الباعث على القوّة في الحركة أكثر وأفضل باتجاه أداء التكاليف، ذلك الخوف الذي يوجه الإنسان من داخله كشرطي قوي، فينجز تكاليفه على النحو الأحسن دون أن يكون له آمر ورقيب، في ذات الوقت الذي يرى نفسه مقصراً أمام الله.

كلمة «غرام» في الأصل بمعنى المصيبة، والألم الشديد الذي لا يفارق الانسان. ويطلق «الغريم»(2) على الشخص الدائن، لأنّه يلازم الإنسان دائماً من أجل أخذ حقّه.

ويطلق «الغرام» أيضاً على العشق والعلاقة المتوقدة التي تدفع الإنسان بإصرار باتجاه عمل أو شيء آخر، وتطلق هذه الكلمة على «جهنم» لأنّ عذابها

_____________________________

 

1 ـ ينبغي الإنتباه إلى أنّ «سجداً»

جمع «ساجد»، «وقياماً»

جمع «قائم».

2 ـ تطلق «الغريم» على «الدائن» و«المدين» أيضاً. (لسان العرب مادة غرم).

[306]

شديد ودائم لا يزول.

ولعل الفرق بين «مستقراً» و«مقاماً» أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم «مقام»، ومكان مؤقت للمؤمنين، أي «مستقر»، وبهذا الترتيب يكون قد أُشير إلى كلا الفريقين الذين يردان جهنم.

ومن الواضح أن جهنم محل إقامة ومستقر سيء، وشتان بين الراحة والنعيم وبين النيران الحارقة.

ومن المحتمل أيضاً أن تكون «مستقراً» و«مقاماً» كلاهما لمعنىً واحد، وتأكيد على دوام عقوبات جهنم، وهو صحيح في مقابل الجنّة، حيث نقرأ عنها في آخر هذه الآيات نفسها (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً).(1)

في الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة لـ «عباد الرحمن» التي هي الإعتدال والإبتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال، خصوصاً في مسألة الإِنفاق، فيقول تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً).

الملفت للإنتباه أنه يعتبر أصل الإنفاق أمراً مسلماً لا يحتاج إلى ذكر، ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان، لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إن إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعاً، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم.

في تفسير «الإسراف» و «الإقتار» كنقطتين متقابلتين، للمفسّرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد، وهو أنّ «الإسراف» هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، و«الإِقتار» هو أن ينفق أقل من الواجب.

_____________________________

 

1 ـ سورة الفرقان، الآية 76.

[307]

في إحدى الروايات الإِسلامية، ورد تشبيه رائع للإِسراف والإِقتار وحد الإِعتدال، تقول الرّواية: تلا أبو عبد الله(عليه السلام) هذه الآية: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً). قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال: هذا الإِقتار الذي ذكره الله عزَّوجلّ في كتابه، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى كفَّه كلَّها، ثمّ قال: هذا الإِسراف، ثمّ أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال: هذا القوام».(1)

كلمة «قوام» (على وزن عوام) لغة بمعنى العدل والإِستقامة والحد والوسط بين شيئين، و«قُوام» (على وزن كتاب): الشيء الذي يكون أساس القيام والإستقرار.

* * *

 

مسألتان

1 ـ طريقة مشي المؤمنين

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ التواضع أحد علائم «عباد الرحمن»، التواضع الذي يهيمن على أرواحهم بحيث يظهر حتى في مشيتهم، التواضع الذي يدفعهم إلى التسليم أمام الحق. لكن من الممكن أحياناً أن يتوهم البعض في التواضع ضعفاً وعجزاً وخوراً وكسلا، وهذا النمط من التفكير خطير جدّاً.

التواضع في المشي ليس هو الضعف والخطوة الخائرة، بل إنّ الخطوات المحكمة التي تحكي عن الجدية والقدرة هي من صميم التواضع.

نقرأ في سيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن أحد أصحابه يقول: «مارأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، كأنّما الأرض تطوى له، وإنّا لنجهد أنفسنا وإنّه لغير

_____________________________

 

1 ـ الكافي: طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 29.

[308]

مكترث».(1)

ونقرأ في حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في تفسير الآية (الذين يمشون على الأرض) أنّه قال: «والرجل يمشي بسجيته التي جُبل عليها لا يتكلف  ولا يتبختر».(2)

وورد في حديث آخر، في حالات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «قد كان يتكفأ في مشيه كإنّما يمشي في صبب».(3)

يعني حينما كان الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يمشي فإنّه يخطو خطوات سريعة دونما استعجال، كأنّما يمشي في منحدر.

على أية حال فإنّ طريقة المشي ليست مقصودة بذاتها، بل هي نافذة إلى معرفة الحالة الروحية للإنسان، والآية في الحقيقة تشير إلى نفوذ روح التواضع والخشوع في أرواح وقلوب «عباد الرحمن».

 

2 ـ البخل والإسراف

لا شك أنّ «الإِسراف» واحد من الأعمال الذميمة بنظر القرآن والإِسلام، وورد ذم كثير له في الآيات والرّوايات، فالإسراف كان نهجاً فرعونياً: (وإنّ فرعون لعال في الأرض وأنّه لمن المسرفين).(4)

والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم (وإن المسرفين هم أصحاب النار).(5)

ومع الإلتفات إلى أنّه أصبح ثابتاً اليوم أن منابع الثروات الأرضية ليست

_____________________________

 

1 ـ في ظلال القرآن، ذيل الآية مورد البحث، وفي تفسير القرطبي ينقل رواية أُخرى في هذا الصدد أيضاً لها شبه كبير بما قلناه أعلاه.

2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

3 ـ تفسير روح المعاني، ذيل الآية مورد البحث.

4 ـ سورة يونس، الآية 83.

5 ـ سورة غافر، الآية 43.

[309]

كثيرة جداً نسبة إلى زيادة الكثافة السكانية للبشرية حتى يمكن للإنسان أن يسرف، وكل إسراف سيكون سبباً في حرمان أُناس لا ذنب لهم، فضلا عن أن الإسراف عادة قرين التكبر والغرور والبعد عن خلق الله.

في تفس الوقت فإنّ التقتير والبخل أيضاً، ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة، فالأصل على أساس النظرة التوحيدية، أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي، ونحن جميعاً مستخلفون من قبله، وكلّ نوع من التصرف دون إجازته ورضاه فهو قبيح وغير مقبول، ونحن نعلم أن الله لم يأذن بالإِسراف ولم يأذن بالبخل.

 

* * *

[310]

 

 

الآيات

 

وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلـقَ أَثَاماً (68)يُضَـعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً(69) إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَـلِحاً فَأُوْلَـئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَـت وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً(70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَلِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً(71)

 

التّفسير

بحث آخر في صفات عباد الرحمن:

ميزة «عباد الرحمن» السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي بيعدهم عن كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة، فيقول تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر).

فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والإجتماعية، وانقشعت عن سماء أفكارهم وأرواحهم ظلمات الشرك.

]311]

الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق).(1)

ويستفاد جيداً من الآية أعلاه أن جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل، ومحرم إراقة دمائها إلاّ إذا تحققت أسباب ترفع هذا الإِحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم.

صفتهم الثّامنة هي أن عفافهم لا يتلوث أبداً: (ولا يزنون).

إنّهم على مفترق طريقين: الكفر والإيمان، فينتخبون الإيمان، وعلى مفترق طريقين الأمان واللاأمان في الأرواح، فهم يتخيرون الأمان، وعلى مفترق طريقين: الطهر والتلوث: فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل انواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث، بجدهم واجتهادهم.

وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر: (ومن يفعل ذلك يلق أثاماً).

«الإثم» و «آثام» في الأصل بمعنى الأعمال التي تمنع من وصول الإنسان إلى المثوبة، ثمّ أطلقت على كل ذنب، لكنّها هنا بمعنى جزاء الذنب.

قال بعضهم أيضاً: إن «إثم» بمعنى الذنب و «آثام» بمعنى عقوبة الذنب(2) فإذا رأينا أن بعض المفسّرين ذكروها بمعنى صحراء أو جبل أو بئر في جهنم فهو في الواقع من قبيل بيان المصداق.

و حول فلسفة تحريم الزنا، قدمنا بحثاً مفصلا في ذيل الآية (33) سورة الإسراء.

ومن الملفت للنظر في الآية أعلاه، أنها بحثت أولا في مسألة الشرك، ثمّ قتل

_____________________________

 

1 ـ الإستثناء في الجملة أعلاه «استثناء مفرغ»

اصطلاحاً، وكان في التقدير هكذا «لا يقتلون النفس التي حرم الله بسبب من الأسباب إلاّ بالحق».

2 ـ تفسير الفخر الرازي.

[312]

النفس، ثمّ الزنا، ويستفاد من بعض الرّوايات أن هذه الذنوب الثلاثة تكون من حيث الأهمية بحسب الترتيب الذي أوردته الآية.

ينقل ابن مسعود عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» قال: قلت: ثمّ أَيُّ؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: قلت: ثمّ أيُّ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها.(1)

وبالرغم من أن الكلام في هذا الحديث، ورد عن نوع خاص من القتل والزنا، لكن مع الإنتباه إلى إطلاق مفهوم الآية يتجلى أنّ هذا الحكم يشمل جميع أنواع القتل والزنا، وما في الرّواية مصداق أوضحٌ لهما.

تتكيء الآية التالية أيضاً على ما سبق، من أن لهذه الذنوب الثّلاثة أهمية قصوى، فيقول تعالى: (يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً).

و يتجسد هنا سؤالان:

الأوّل: لماذا يتضاعف عذاب هذا النوع من الأشخاص؟ ولماذا لا يجازون على قدر ذنوبهم؟ وهل ينسجم هذا مع أصول العدالة!؟

الثّاني: إنّ الكلام هنا عن الخلود في العذاب، في حين أنّ الخلود هنا مرتبط بالكفار فقط. والذنب الأوّل من هذه الذنوب الثلاثة التي ذكرت في الآية يكون كفراً، فقط، وأمّا قتل النفس والزنا فليسا سبباً للخلود في العذاب.

بحث المفسّرون كثيراً في الإجابة على السؤال الأول، وأصح ما أوردوه هو أن المقصود من مضاعفة العذاب أن كل ذنب من هذه الذنوب الثلاثة المذكورة في هذه الآية سيكون له عقاب منفصل، فتكون العقوبات بمجموعها عذاباً مضاعفاً.

_____________________________

 

1 ـ صحيح «البخاري» و «مسلم» طبقاً لنقل مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

]313]

فضلا عن أنّ ذنباً ما يكون أحياناً مصدر الذنوب الأُخرى، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب الإلهي.

لهذا اتّخذ بعض المفسّرين هذه الآية دليلا على هذا الأصل المعروف أن: «الكفار مكلفون بالفروع كما أنّهم مكلفون بالأصول».

وأمّا في الإجابة على السؤال الثّاني: فيمكن القول أن بعض الذنوب عظيم إلى درجة يكون عندها سبباً في الخروج من هذه الدنيا بلا إيمان، كما قلنا في مسألة قتل النفس في ذيل الآية (93) سورة النساء.(1)

ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك في مورد الزنا أيضاً، خاصّة إذا كان الزنا بمحصنة.

ومن المحتمل أيضاً أن «الخلود» في الآية أعلاه يقصد به من يرتكب هذه الذنوب الثلاثة معاً، الشرك وقتل النفس والزنا، والشاهد على هذا المعنى: الآية التالية حيث تقول: (إلاّ من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً).

واعتبر بعض المفسّرين ـ أيضاً ـ أن «الخلود» هنا بمعنى المدة الطويلة  لا الخالدة، لكن التّفسير الأوّل والثّاني أصح.

ومن الملفت للنظر هنا ـ فضلا عن مسألة العقوبات العادية ـ عقوبة أُخرى ذكرت أيضاً هي التحقير والمهانة، أي البعد النفسي من العذاب، وقد تكون بذاتها تفسيراً لمسألة مضاعفة العذاب، ذلك لأنّهم يعذبون عذاباً جسدياً وعذاباً روحياً.

لكن القرآن المجيد كما مرِّ سابقاً، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي، الآية التالية يقول تعالى هكذا: (إلاّ من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً فأُولئك يبدل الله

_____________________________

 

1 ـ التّفسير الأمثل، الجزء الثّالث.

]314]

سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً).

كما مرّ بنا في الآية الماضية، ففي الوقت الذي ذكرت ثلاثة ذنوب هي من أعظم الذنوب، تركت الآية باب التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء الأشخاص، وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة إلى الله، بشرط أن تكون توبته حقيقية، وعلامتها ذلك العمل الصالح (المُعَوِّض) الذي ورد في الآية، وإلاّ فإن مجرّد الإستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب لا يكون دليلا على التوبة أبداً.

المسألة المهمّة فيما يتعلق بالآية أعلاه هي: كيف يبدل الله «سيئات» أولئك «حسنات»؟

* * *

 

تبديل السيئات حسنات:

هنا عدّة تفاسير، يمكن القبول بها جميعاً:

1 ـ حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله، تتحقّق تحولات عميقة في جميع وجوده، وبسبب هذا التحول والإنقلاب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات، فإذا كان قاتلا للنفس المحترمة في الماضى، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين. وإذا كان زانياً، فإنّه يكون بعدها عفيفاً وطاهراً، وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.

2 ـ أن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة، ويضع مكانها حسنات، نقرأ في رواية عن أبي ذر: قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغار ذنوبه، وتخبأ كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وهو يقرّ ليس بمنكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فإذا أراد الله خيراً قال: اعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا ربّ لي ذنوب ما رأيتها ها هنا؟» قال: ورأيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضحك حتى بدت نواجذه،

[315]

ثمّ تلا: (فأُولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات).(1)

3 ـ التّفسير الثّالت هو أن المقصود من السيئات ليس نفس الأعمال التي يقوم بها الإنسان، بل آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه، وتبدل بآثار الخير، وهذا هو معنى تبديل السيئات حسنات.

ولا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة قطعاً، ومن الممكن أن تجتمع كل هذه التفاسير الثلاثة في مفهوم الآية.

الآية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة، فيقول تعالى: (ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً).(2)

يعني أن التوبة وترك الذنب ينبغي ألا تكون بسبب قبح الذنب، بل ينبغي ـ إضافة إلى ذلك ـ أن يكون الدافع إليها خلوص النية، والعودة إلى الله تبارك وتعالى.

لهذا فإنّ ترك شرب الخمر أو الكذب بسبب إضرارهما مثلا، وإن كان حسناً، لكنّ القيمة الأسس لهذا الفعل لا تتحقق إلاّ إذا استمدَّ من الدافع الربّاني.

بعض المفسّرين ذكروا تفسيراً آخر لهذه الآية، وهو أن هذه الجملة جواب على التعجب الذي قد تسببه الآية السابقة أحياناً في بعض الأذهان، وهو: كيف يمكن أن يبدل الله السيئات حسنات؟!، فتجيب هذه الآية: حينما يؤوب الإنسان إلى ربه العظيم، فلا عجب في هذا الأمر.

تفسير ثالث ذكر لهذه الآية، وهو أن كلَّ من تاب من ذنبه فإنّه يعود إلى الله، ومثوبته بلا حساب.

_____________________________

 

1 ـ عوالي اللئالي، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4، ص 33.

2 ـ «متاب»

مصدر ميمي بمعنى التوبة، ولأنّه مفعول مطلق هنا، فهو للتوكيد.

[316]

وبالرغم من عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة، لكن التّفسير الأوّل أقرب، خاصّة وأنّه يتفق مع الرّواية المنقولة في تفسير علي بن إبراهيم القمي في ذيل هذه الآية.

 

* * *

[317]

 

 

الآيات

 

وَ الَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِااللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَاماً (72)وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِأَيَـتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً(73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَجِنَا وَذُرِّيَّـتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً(74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَروُاْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـماً(75) خَـلِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً(76)

 

التّفسير

جزاء «عباد الرحمن»:

في متابعة للآيات الماضية التي كررت القول في خصائص «عباد الرحمن»، تشرح هذه الآيات بقية هذه الصفات:

الصفة الرفيعة التاسعة لهم، هي احترام وحفظ حقوق الآخرين: إنّ هؤلاء  لا يشهدون بالباطل مطلقاً: (والذين لا يشهدون الزور).

المفسّرون الكبار فسّروا هذه الآية على نحوين:

]318]

اعتبر بعضهم «الزور» بمعنى «الشهادة بالباطل» كما قلنا أعلاه، لأنّ «الزور» لغة بمعنى التمايل والإنحراف، وحيث أن الكذب والباطل والظلم من الإنحرافات، فإن «الزور» يطلق عليها.

هذه العبارة (شهادة الزور) في كتاب الشهادات في فقهنا، موجودة بنفس هذا العنوان، وقد نُهي عنها في روايات متعددة، وإن لم نرفي تلك الرّوايات استدلالا بالآية أعلاه.

التّفسير الآخر: هو أنّ المقصود من «الشهود» هو «الحضور» يعني أن عباد الرحمن لا يتواجدون في مجالس الباطل.

وفي بعض الرّوايات التي وردت عن طرق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، فسّرت بـ «الغناء» أي تلك المجالس التي يتمّ فيها إنشاد اللهو مصحوباً بأنغام الآلات الموسيقية أو بدونها.

لا شك أنّ مراد هذا النوع من الرّوايات ليس هو تحديد مفهوم «الزور» الواسع بـ «الغناء»، فالغناء واحد من مصاديقه البارزة إنه يشمل سائر مجالس اللهو واللعب وشرب الخمر والكذب والغيبة وأمثال ذلك.

ولا يستبعد أيضاً أن يجتمع كلا التّفسيرين في معنى الآية، وعلى هذا فعباد الرحمن لا يؤدون الشهادة الكاذبة، ولا يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة، ذلك لأنّ الحضور في هذه المجالس ـ فضلا عن ارتكاب الذنب ـ فإنه مقدمة لتلوث القلب والروح.

ثمّ يشير تعالى في آخر الآية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة، وهي امتلاك الهدف الإيجابي في الحياة، فيقول: (وإذا مروا باللغو مروا كراماً).

إنّهم لا يحضرون مجالس الباطل، ولا يتلوثون باللغو والبطلان. ومع الإلتفات إلى أن «اللغو» يشمل كل عمل لا ينطوي على هدف عقلائي، فإن ذلك يدل على أن «عباد الرحمن» يتحرون دائماً الهدف المعقول والمفيد والبناء، وينفرون من

[319]

اللاهدفية والأعمال الباطلة، فإذا اعترضهم هذا النوع من الأعمال في مسير حياتهم، مروا بمحاذاتها مرور اللامبالي، ولا مبالاتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه الأعمال، فهم عظماء بحيث لا تؤثر عليهم الأجواء الفاسدة ولا تغيرهم.

ولا شك أنّ عدم اعتنائهم بهذه الاُمور من جهة أنّهم لا طريق لهم إلى مواجهة الفساد والنهي عن المنكر، وإلاّ فلا شكّ أنّهم سوف يقفون ويؤدون تكاليفهم حتى المرحلة الأخيرة.

الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلاك العين الباصرة والأذن السامعة حين مواجهتهم لآيات الخالق، فيقول تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربّهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً).

من المسلّم أنّ المقصود ليس الإشارة إلى عمل الكفار، ذلك لأنّهم لا اعتناء لهم بآيات الله أصلا، بل إن المقصود: فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر، الذين يقعون على آيات الله بأعين وآذان موصدة، دون أن يتدبروا حقائقها ويسبروا غورها، فيعرفوا ما يريده الله ويتفكروا فيه، ويستهدوه في أعمالهم.

ولا يمكن طي طريق الله بعين وأذن موصدتين، فالأذن السامعة والعين الباصرة لازمتان لطي هذا الطريق، العين الناظرة في الباطن، المتعمقة في الأشياء، والأذن المرهفة العارفة بلطائف الحكمة.

ولو تأملنا جيداً لأدركنا أن ضرر هذه الفئة ذات الأعين والآذان الموصدة وفي ظنها أنّها تتبع الآيات الإلهية، ليس أقلّ من ضرر الأعداء الذين يطعنون بأصل شريعة الحق عن وعي وسبق اصرار، بل أن ضررهم أكثر بمراتب أحياناً.

التلقي الواعي عن الدين هو المعين الأساس للمقاومة والثبات والصمود، لأنْ من اليسير خداع من يقتصر على ظواهر الدين، وبتحريفه يتم الإنحراف عن الخط الأصيل، فيهوي بهم ذلك إلى وادي الكفر والضلالة وعدم الإيمان.

]320]

هذا النوع من الأفراد أداة بيد الأعداء، ولقمة سائغة للشياطين، المؤمنون وحدهم هم المتدبرون المبصرون السامعون كمثل الجبل الراسخ، فلا يكونون لعبة بيد هذا أو ذاك.

نقرأ في حديث عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن قول الله عزَّوجلّ: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً)، قال: «مستبصرين ليسوا بشكاك».(1)

الصفة الثّانية عشر الخاصّة لهؤلاء المؤمنين الحقيقيين، هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلاء (والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين).

بديهي أن معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء، بل إن الدعاء دليل شوقهم وعشقهم الداخلي لهذا الأمر، ورمز جدهم واجتهادهم.

من المسلَّم أنّ أفراداً كهؤلاء لا يقصرون في بذل مالديهم من طاقة وقدرة في تربية أبنائهم وأزواجهم، وتعريفهم بأصول وفروع الإسلام، وسبل الحق والعدالة وفي ما لا تصل إليه قدرتهم وطاقتهم، فإنّهم يدعون الله، يسألونه التوفيق بلطفه.

فالدعاء الصحيح من حيث الأصل، ينبغي أن يكون هكذا: السعي بمقدار الإستطاعة، والدعاء خارج حدّ الإستطاعة.

«قرّة العين» كناية عمّن يُسرَّ به، هذا التعبير أُخذ في الأصل من كلمة «قر» التي بمعنى البرد، وكما هو معروف (وقد صرح به كثير من المفسّرين) أن دمعة الشوق والسرور باردة، ودموع الحزن والغم حارة حارقة، لذا فـ «قرّة عين» بمعنى الشيء الذي يسبب برودة عين الإنسان، يعني أن دمعة الشوق تنسكب من عينيه، وهذه كناية جميلة عن السرور والفرح.(2)

_____________________________

 

1 ـ نور الثقلين، ج4، ص 43 .

2 ـ الشاهد على هذا القول، الشعر الذي نقله القرطبي في تفسيره عن أحد الشعراء العرب.

فكم سخنت بالأمسِ عينٌ قريرة وقرتْ عيون دمعها اليوم ساكب

[321]

مسألة تربية الأبناء وإرشاد الزوجات، ومسؤولية الآباء والأمهات إزاء أطفالهم من أهم المسائل التي أكد عليها القرآن، وسنفصل القول فيها إن شاء الله في ذيل الآية (6) من سورة التحريم.

وأخيراً فالصفة الرفيعة الثّالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة: هي أنّهم لا يقنعون أبداً أنّهم على طريق الحق، بل أن همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضاً.

إنّهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا، وليس همّهم انقاذ أنفسهم من الغرق، بل إن سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى.

لذا يقول في آخر الآية، إنّهم الذين يقولون: (واجعلنا للمتقين إماماً).

ينبغي الإلتفات إلى هذه النكتة أيضاً، إنّهم لا يدعون ليكونوا في موقع العظماء جزافاً، بل إنّهم يهيئون أسباب العظمة والإمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات اللائقة بالقدوة الحقيقية، وهذا عمل عسير جداً، وله شرائط صعبة وثقيلة.

ولا ننس أنّ القرآن لا يذكر في هذه الآيات صفات جميع المؤمنين، بل أوصاف نخبة ممتازة من المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان «عباد الرحمن». نعم، إنّهم عباد الرحمن، وكما أن رحمة الله العامّة تشمل الجميع فإنّ رحمة الله بهؤلاء العباد عامّة أيضاً من أكثر من جهة، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق الله.

أُولئك نماذج وأُسوات المجتمع الإنساني.

أُولئك قدوات المتقين.

إنّهم أنوار الهداية في البحار والصحاري. ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق في الدوامة، ومن السقوط في المزالق.

[322]

نقرأ في روايات متعددة أنّ هذه الآية نزلت في علي(عليه السلام) وائمّة أهل البيت(عليهم السلام).

ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إيانا عنى».(1)

ولا شك أن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) من أوضح مصاديق هذه الآية، لكن هذا لا يمنع من اتساع مفهوم الآية، فالمؤمنون الآخرون أيضاً يكون كل منهم إماماً وقدوة للآخرين بمستويات متفاوتة.

واستنتج بعض المفسّرين من هذه الآية أن طلب الرئاسة المعنوية والروحانية ليس غير مذموم فقط، بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضاً.(2)

وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة «إمام» وإن كانت للمفرد، إلاّ أنّها تأتي بمعنى الجمع، وهكذا هي في الآية.

بعد إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء مع جميع هذه الخصائص، وفي صورة الكوكبة الصغيرة، فيبيّن جزاءهم الإلهي (أُولئك يجزون الغرفة بما صبروا).

«غرفة» من مادة «غرف» (على وزن حرف): بمعنى رفع الشيء وتناوله، ويقال لما يغترف ويتناول «غرفة» (كاغتراف الإنسان الماء من العين بيده للشرب) ثمّ أُطلقت على الأقسام العليا من البناء، ومنازل الطبقات العليا، وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجنّة.

لذلك فإنّ «عباد الرحمن» بامتلاكهم هذه الصفات، يكونون في الصف الأوّل من المؤمنين، وينبغي أن تكون درجتهم في الجنّة أعلى درجة أيضاً.

المهم أنّه يقول: إن هذا المقام العالي قد أُعطي لهم بسبب ما قدموا من ضريبة الصبر والإستقامة في طريق الله، ومن الممكن أن يتصور أن هذا وصف آخر من

_____________________________

 

1 ـ أورد هذه الروايات في تفسير آخر هذه الآية «علي بن إبراهيم»، ومؤلف كتاب نور الثقلين في تفسيريهما.

2 ـ يراجع تفسير «القرطبي» وتفسير «الفخر الرازي».

[323]

أوصافهم، لكن هذا في الحقيقة ليس وصفاً جديداً، بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة، وإلاّ فهل يمكن أن نتصور عبادة الخالق، ومواجهة الطغيان والشهوات، وترك شهادة الزور، والتواضع والخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة.

هذا البيان يُذكّر الإنسان بالحديث المعروف عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام)حيث يقول: «والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد» فبقاء الجسد من بقاء الرأس، ذلك لأن قيادة جميع أعضاء البدن تستقر في دماغ الإنسان.

وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق الحق، والجهاد والمواجهة ضد العصاة، والوقوف أمام دواعي الذنوب، تجتمع كلها في ذلك المفهوم، وإذا فسر في بعض الرّوايات بالصبر على الفقر والحرمان المالي، فمن المسلم أن ذلك من قبيل بيان المصداق.

ثمّ يضيف تعالى: (ويلقّون فيها تحية وسلاماً).

أهل الجنّة يحي بعضهم بعضاً، وتسلم الملائكة عليهم، وأعلى من كل ذلك أن الله يحييهم ويُسلم عليهم، كما نقرأ في الآية (58) من سورة يس (سلام من ربّ رحيم)، ونقرأ في الآية (23 و24) من سورة يونس (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم...).

تُرى هل لـ «التحية» و«السلام» هنا معنيان، أم معنى واحد!؟ ثمّة أقوال بين المفسّرين، لكن مع الإلتفات إلى أن «التحية» في الأصل بمعنى الدعاء لحياة الغير، و«سلام» من مادة السلامة، وبمعنى الدعاء للغير.

على هذا نستنتج: أن الكلمة الأُولى بعنوان طلب الحياة، للمخاطب والكلمة الثّانية طلب اقتران هذه الحياة مع السلامة، ولو أن هاتين الكلمتين تأتيان بمعنى واحد أحياناً.

]324]

«التحية» في العرف لها معنى أوسع، فهي كل ما يقولونه في بيان اللقاء مع الآخرين، فيكون سبباً في سرورهم واحترامهم وإظهار المحبّة لهم.

ثمّ يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر: (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً).

 

* * *

]325]

 

 

الآية

 

قُلْ مَا يَعْبَؤُاْبِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا(77)

 

التّفسير

لولا دعاؤكم، لما كانت لكم قيمة:

هذه الآية التي هي الآية الأخيرة في سورة الفرقان، جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة، وللأبحاث التي بصدد صفات «عباد الرحمن» في الآيات السابقة، فيقول تبارك وتعالى مخاطباً النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (قل ما يعبؤبكم ربّي لو لا دعاؤكم).

«يعبؤ» من مادة «عبء» بمعنى «الثقل»، وعلى هذا فجملة لا يعبأ يعني لايزن، وبعبارة أُخرى لا يعتني.

ولو أن احتمالات كثيرة ذكرت هنا في مسألة معنى الدعاء، لكن أساس جميعها يعود إلى أصل واحد.

فذهب البعض: إن الدعاء هو نفس ذلك المعنى المعروف للدعاء.

بعض آخر فسّره بمعنى الإيمان.

وبعض بمعنى العبادة والتوحيد.

وآخر، بمعنى الشكر.

]326]

وبعض: بمعنى التضرع إلى الله في المحن والشدائد.

لكنّ أساس جميعها هو الإيمان والتوجه إلى الله.

وبناء على هذا، يكون مفهوم الآية هكذا: إن ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند الله هو الإِيمان بالله والتوجه إليه، والعبودية له.

ثمّ يضيف تعالى: (فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً).

من الممكن التصور أن تضاداً بين بداية الآية ونهايتها، أو أنّه لا يبدو على الأقل الإرتباط والإنسجام اللازم بينهما، ولكن إذا دققنا قليلا يتّضح أنّ المقصود أساساً هو: أنّكم قد كذبتم فيما مضى بآيات الله وبأنبيائه، فإذا لم تتوجهوا إلى الله، ولم نسلكوا طريق الإيمان به والعبودية له، فلن تكون لكم أية قيمة أو مقام عنده، وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم.(1)

ومن جملة الشواهد الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير، الحديث المنقول عن الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه سُئِلَ: «كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء»؟ فقال(عليه السلام): «كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه الآية».(2)

* * *

 

_____________________________

 

1 ـ الآية أعلاه من الآيات التي هي مورد مناقشات كثيرة بين المفسّرين، وما قلناه في تفسيرها هو أوضح تفسير، لكن جماعة من المفسّرين المعروفين ذكروا لها تفسير آخر خلاصته هكذا.

لا اعتناء لله بكم، ذلك لأنّكم كذبتم بآياته، إلاّ أن الله يدعوكم إلى الإيمان (طبقاً لهذها التّفسير: «دعاؤكم» من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول، وفاعله ضمير يعود إلى «ربّي».

لكن طبقاً للتفسير الذي اخترناه فإن «دعاؤكم» من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، وظاهر إضافة المصدر إلى الضمير هي أن تكون الإضافة إلى الفاعل، إلاّ أن تظهر قرينة على خلافه).

ثمّة تفسير ثالث لهذه الآية وهو أنّ الهدف بيان: إنّكم أيّها البشر، غالباً ما سلكتم طريق التكذيب، فلا وزن ولا قدر لكم عند الله، إلاّ لأجل تلك الأقلية مثل «عباد الرحمن» الذين يتوجهون إلى الله ويدعونه بإخلاص (هذا التّفسير وإن كان صحيحاً من ناحية المعنى والمضمون، لكنّه لا يوافق ظاهر الآية كثيراً، ذلك لأنّ الضمير في «دعاؤكم» و«كذبتم» يعود ظاهراً إلى فئة واحدة لا فئتين (فتأمل!).

2 ـ تفسير الصافي، ذيل هذه الآية ـ نقلوا لهذه الرّواية أيضاً تفاسير أُخرى يتفاوت يسير، نقلت أيضاً روايات أُخرى شاهدة على التّفسير أعلاه، بعضها عن أمالي الشيخ الطوسي، وبعضها عن تفسير علي بن إبراهيم ذيل هذه الآية.

[327]

بحث

الدعاء طريق إصلاح النفس ومعرفة الله:

معلوم أن مسألة الدعاء أعطيت أهمية كبيرة في آيات القرآن والرّوايات الإسلامية، حيث كانت الآية أعلاه أنموذجاً منها، غير أن قد يكون القبول بهذا الأمر ابتداءً صعباً على البعض، كأنّه يقال: الدعاء عمل سهل جدّاً، ويمكن أن يؤديه الجميع أو يتوسعون أكثر فيقولون: الدعاء عمل المغلوبين على أمرهم، الأمر الذي لا أهمية له.

لكن الإشتباه هنا ينشأ من أنّهم ينظرون إلى الدعاء الخالي من شرائطه، في حين إذا أخذت الشرائط الخاصّة للدعاء بنظر الإعتبار، فإن هذه الحقيقة تثبت بوضوح. وهي أن الدعاء وسيلة مؤثرة في إصلاح النفس، والإرتباط القريب بين الله والإنسان.

أوّل شرائط الدعاء، معرفة المدعو.

الشرط الثاني: تخلية القلب وإعداد الروح لدعائه تبارك وتعالى، ذلك لأن الإنسان حينما يذهب باتجاه أحد، ينبغي أن يملك الإستعداد للقائه.

الشرط الثّالث للدعاء: هو جلب رضاه من يدعوه الإنسان، ذلك لأنّه لا يحتمل التأثير بدون ذلك الأنادراً.

وأخيراً فالشرط الرّابع لاستجابة الدعاء: هو أن يستخدم الإنسان كلّ قدرته، وقوته واستطاعته في عمله، ويؤديه بأعلى درجة من الجدّ والإجتهاد، ثمّ يرفع يديه ويوجه قلبه إلى بارئه بالدعاء في ماوراء ذلك.

 

ذلك لأنّه ورد صريحاً في الرّوايات الإسلامية، أن الإنسان إذا قصّر في العمل الذي يستطيع أن يؤديه بنفسه، ثمّ يتوسل بالدعاء فلن يستجاب دعاؤه.

من هنا، فإنّ الدعاء وسيلة لمعرفة الخالق ومعرفة صفاته الجمالية والجلالية،

[328]

ووسيلة أيضاً للتوبة من الذنب، ولتطهير الروح، وسبب أيضاً لأداء الحسنات للجهاد والجدّ والاجتهاد إلى منتهى الإستطاعة.

لهذا نجد عبارات مهمّة حول الدعاء لا يمكن فهمها إلاّ على ضوء ما قلناه، مثلا:

نقرأ في رواية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض».(1)

ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي».(2)

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): «الدعاء أنفذ من السنان».(3)

فضلا عن كل ذلك، فإن من الطبيعي أن حوادث تقع في حياة الإنسان، فتغرقه في اليأس من حيث الأسباب الظاهرية، فالدعاء يمكنه أن يكون شرفة على أمل الفوز، ووسيلة مؤثرة في مواجهة اليأس والقنوط.

لهذا فالدعاء إزاء الحوادث الصعبة المرهقة، يمنح الإنسان قدرة وقوة وأملا وطمأنينة، وأثراً لا يمكن إنكاره من الناحية النفسية.

وقدّمنا بحثاً مفصلا بصدد مسألة الدعاء، وفلسفته، وشرائطه، ونتائجه، في التّفسير الأمثل ذيل الآية (186) من سورة البقرة، فتفضل بمراجعته هناك من أجل التوضيح أكثر.

اللّهمّ، أجعلنا من خاصّة عبادك، وترحم علينا بتوفيق اكتساب خصائص وصفات «عباد الرحمن».

_____________________________

 

1 ـ اُصول الكافي، الجزء الثّاني، أبواب الدعاء باب أن الدعاء سلاح المؤمن.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.

[329]

ربّنا، افتح لنا أبواب الدعاء واجعل ذلك سبباً لتثمين وجودنا بين يديك.

اللّهمّ، تفضل علينا بتوفيقات الدعاء المطلوبة بين يديك، ولا تحرمنا من الإستجابة.

إنّك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

 

* * *

نهاية سورة الفرقان

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21398661

  • التاريخ : 18/04/2024 - 05:54

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net